2 ⇦ محمد جابر الانصاري
【في تنبؤاته المستقبلية!】
【من الليبرالية الى الأصولية!】
في كتابة المثير للجدل «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930 ــ 1970» حاول د. محمد جابر الأنصاري ــ بدون جدوى ــ ان يبرهن على فشل كافة النزعات التنويرية والتحررية في المنطقة العربية ابتداء من الاسلام المستنير لدى محمد عبده الى ليبرالية سعد زغلول وقومية ميشيل عفلق وتحررية جمال عبدالناصر، لكن قوة فكرتة واحدة لم يتحدث عن فشلها، أو توفيقيتها حسب وعيه، كما انها تتطابق مع الجوهر العربي، تلك هي «الأصولية»!
وانتقال الكاتب الليبرالي من تحرريته الى النزعة الأصولية، ليس ظاهرة غريبة بعد الامكانيات المادية والمعنوية التي اكتسبتها تلك الأصولية، لكنها خسارة فادحة للفكر التنويري في المنطقة حيث يشكل الفكر الأصولي تهديدا جديدا وتقسيما للحياة العربية الممزقة أصلا.
وحتى لا نستبق النتائج سنحاول المسير في كتابه الثاني «العالم والعرب سنة 2000»، لنتعرف على الوعي الأصولي، وهو يناقش المستقبل هذه المرة، لا الماضي، كما في الكتاب السابق.
فإذا كان التصور الأصولي في الكتاب السابق قد اتجه لتفنيد الحركات الليبرالية والاسلامية المستنيرة والقومية والاشتراكية في العالم العربي، عبر كشف ما يسميه بـ«التوفيقية» في مبادئها، بمعنى أنها تخلت عن «الأصول»، عبر الجوهر الخاص بنا، وحاولت أن توفق بينه وبين الوافد، الفكر الغربي الديمقراطي والمستنير، دون أن تملك الحق في التوفيق، إذا كان هذا التصور الأصولي هناك قد بين عدم «أصولية» تلك الحركات وغربتها عن «الجسم» العربي، الخاص بنا.
فإن التصور الأصولي هنا، في هذا الكتاب «العالم والعرب»، سوف يوضح الطريق الذي يجب أن يسلكه هذا الجسم العربي الى المستقبل. واذا كان «توضيح» ان كل تلك الحركات هي ضد «جوهرنا»، أو أصولنا، فأين سيتجه جوهرنا هذا؟
ما هي قدراته على تحديد مشكلات العرب وانقاذهم بعد أن أباد معرفيا جميع الحركات النهضوية والفاعلة على الساحة العربية من الشرق الى الغرب؟
ما هي الامكانيات العلمية والثقافية لهذا التصور ليكتشف العالم القادم، وليحلل القرن الحادي والعشرين ويمتلك المصير العربي؟!
لعل هذا التصور لديه شيء هام يستبصر به المستقبل، ويمتلك «وصفة» للجسد الذي أعيته العلل وأعجز «الأطباء»!
لهذا لا بد من المرافقة والتأني في الكشف عن هذا البرنامج لإصلاح ما «عجزت» عنه، حسب المصدر السابق، كل تيارات العرب الساعية الى النهضة والتقدم. لعلنا نجد كلمة مضيئة في هذا الليل المعتم!
والكاتب، خلافا لما يفعل الأصوليون الواضحون الصريحون، يعبر عن أصوليته بطريقة غير مباشرة، التفافية، فيدع تصوره مطاطيا قابلا لإيحاءات متعددة، فهذا أصولي غير متجهم الوجه، ولكننا سوف ندقق في كشف هذه الأصولية غير الصريحة، ونبين التناقضات التي تحتدم في وعيها.
والكتاب الحالي، خلافا للكتاب السابق ذي الوحدة الموضوعية، هو عبارة عن مجموعة من المقالات، اختصت فيها الظاهرة اليابانية ــ الصفراء ــ بالثقل الكمي والنوعي. من هنا جاءت المقدمة كأنها تلخيص واعطاء نظرة عامة على الكتاب ككل، لكنها في الحقيقة لم تكن تلخيصا محضا، فقد أضافت شيئا جديدا، وحاولت أن تخفف من انطباع يتولد لدى قارئ الكتاب بعد أن ينهيه.
لا بد من مطالعة هذه الفكرة المهيمنة، ولماذا تم التخفيف منها؟ وهل يمكن ذلك حقا؟
يقول في المقدمة عن موضوعات الكتاب:
«ثم اختص «الفصل الثاني» من الكتاب بظاهرة عميقة متجددة من ظواهر التحول في عصرنا، وهي ظاهرة الإحياء الروحي والانبعاث الإيماني والتحرر من النظرة المادية الضيقة التي خنقت الروح في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين». ص 7 .
ثم يضيف بعد ذلك:
«وظاهرة الاحياء الايماني في الغرب ــ إذا وازيناها بظاهرة الصحوة الاسلامية في عالمنا العربي وبظاهرة «لاهوت التحرير» في بلدان امريكا اللاتينية ــ تشير الى ان العالم، وهو يقترب من القرن المقبل ويستعد لخوض غماره، قد أوشك أن يسترجع قيمة أساسية جدا من قيم الوجود». ص 7 .
وعلى الرغم هنا من اتجاهه للغرب، أي صار الجوهر الغربي مقبولا في جانب، وهو المرفوض كلية كما رأينا سابقا، وكما سنرى لاحقا، فان ذلك ليس هو بيت القصيد.
فالملاحظة الأساسية هنا ان الكاتب يستخدم كلمة «الصحوة الاسلامية». وتعبير الصحوة يختلف عن تعبير «الإيمان». فكلمة الصحوة تشير في الحقيقة الى بروز تيارات سياسية تستخدم الاسلام سياسيا، في حين ان الايمان هو تعبير آخر يقصد به إيمان البشر بالأديان والخلق.
فقد تشمل هذه الصحوة بضع مئات أو آلاف من المسلمين، غير ان الايمان يشمل معظم المسلمين، فكأن التعبير وظلاله تقول ان المسلمين لم يكونوا مؤمنين قبل الصحوة، فلما جاءت آمنوا.
أو قل بأن المسلمين لم يكونوا مسلمين قبل «الصحوة» فلما جاءت بدأ انتشار الاسلام، أو أن ظهور تيارات «الأصوليين» المتعددة هي التي في سبيلها لجعل المسلمين يعودون مسلمين أو مؤمنين. فالأصوليون هم سبب عودة «الإيمان».
إن كلمة «صحوة» توحي بوجود موت قبلها، أو نوم، أو كفر. وهذا ما حدث لأروبا التي عاد اليها بعض الإيمان وكأمريكا اللاتينية التي انبعث فيها لاهوت التحرير، حيث كانت خارج اللاهوت.
من هنا فسوف تنقسم ديار الاسلام، حسب هذا الطرح، اضافة الى ما تنقسم اليه، الى معسكرين متعاديين متحاربين، المعسكر الذي يضم بشر ما قبل الصحوة، الميتين النائمين، الكفار، والمعسكر الثاني: بشر الصحوة، المؤمنون الحقيقيون.
ومن هنا سينفتح الباب! لتظهر المعسكرات داخل المعسكرات . . وتنفتح دهاليز لا تغلق أبدا.
ولكون هذه التعبيرات التي استخدمها الكاتب تفتح الباب لكل تلك المشكلات، وتوحي بتأييد المتطرفين الدينيين الذين أقاموا [صحوتهم] عبر الأطلال والحرائق، فقد كتب بعدئذ مهدئا من ظلال الكلمة وآثارها، بعد أن ظهرت نتائج منطق «الصحوة» في المنطقة العربية، يقول في ذات المقدمة:
«ثم يبقى أمر ترشيد هذه الصحوة الروحية بحيث تأخذ مسارها السليم تجديدا لقيم الايمان الأصيل والخلق القويم، والتسامح بين الناس، والاعتدال في القصد، بعيدا عن نزعات التعصب التي ينهى عنها الدين الحق وقيمة الجوهرية السامية». ص 7 .
ورغم صحة ما يطرحه هنا ونبل مقصده، الا أن هذه الفقرة تثبت أكثر من غيرها خطورة المنطق السابق.
فالصحوة، أو الأصولية، ستجعل الإيمان «الأصيل» مقصورا على نفر من المسلمين، أو ستجعله المعيار الفاصل لتحديد انسانية البشر، وهذا ما يفتح الباب لتعبيرات «الحكومات الكافرة» أو «الكفار» و«التكفير» و«الهجرة من مدن الضلال والكفر»، وسيتم تصنيف البشر على أساس «الإيمان» أو «الكفر».
أي انك اذا اعتبرت المسلمين منذ البدء غير مؤمنين، وجعلت من نفسك رقيبا وحسيبا على ايمانهم، ووصيا على حسن اسلامهم، فقد جعلت من نفسك قوة فوق البشر، لينفتح الباب بعدئذ لسفك دمهم أو الهجرة من ديارهم أو تكميم أفواههم أو شن الحروب عليهم الخ . . .!
من هنا تغدو خطورة استخدام تعبيرات مثل «الصحوة» التي هي تعبير عن اتجاه سياسي، يستعيد الدين وقاموسه لغايات دنيوية محددة، بهدف أضفاء مسحة قدسية على عمله السياسي البشري المحدد والقابل للخطأ والصواب.
ولهذا فإن الكاتب في العبارة الاستدراكية يحاول ان يخفف من وطأة التعبير وظلاله المهلكة. انها عبارات جميلة ولكنها لا تعني شيئا: «ثم يبقى أمر ترشيد هذه الصحوة الروحية» فمن هو الذي سيقومك بترشيدها ومن هو المرشد لها؟ وكيف سيقوم بذلك بعد غلوها وهل سيستطيع؟ واذا لم يستطع واندفع (منطق الصحوة) الى غاياته وتطرفه المطلق . . .؟! وصار العلم العربي كلبنان وكيف سنغدو حينئذ؟؟!
إذن المنطق ذاته منطق خاطئ خطر.
لقد قام د. الانصاري بإلغاء منجزات وابداعات التيارات الفكرية التنويرية والديمقراطية العربية ووجد نفسه في طريق مسدود، هو طريق الأصولية التي تحتاج الى «الترشيد» ايضا!!
【هل تستطيع النخبة وحدها احداث النهضة؟!】
هناك فكرة أساسية وملحة لدي الدكتور الانصاري. وهو يتقدم للتنبؤ بمصائر العالم والكون في القرن الحادي والعشرين. وهي ان قوة عالمية جديدة تنمو الآن، وسوف تحتل المركز القيادي في القرن القادم. فلأول مرة بعد قرون طويلة تزاح القوة البيضاء. «الغرب» لتحل القوة الصفراء «اليابان ودول شرق وجنوب آسيا»، وعلى العرب الإنحياز الى هذه القوة، أو التعاون معها بشكل اكثر دقة، والابتعاد كلية عن عالم الغرب بشقيه الرأسمالي والاشتراكي.
وسيكون القرن القادم هو أيضا قرن المحيط «الباسفيكي ــ الهادئ ــ فللحضارة البشرية دائما مركز مياهي خاص، فالحضارة الوسيطة كان لها البحر المتوسط ميدانا رئيسيا لاتصال أقطابها، والحضارة الغربية الحديثة كان لها المحيط الاطلسي ميدانا اساسيا لنشاطها، اما الحضارة القادمة ذات الاقطار المتعددة وأبرزها القطب الأصغر فسيكون ميدان تنافسها الملتهب هو المحيط الهادئ».
وثمة في هذه الافكار نقاط حقيقية، كالقول بتنافس القوى الدولية في عالم اليوم، وتحول المحيط الهادئ الى مركز حضاري هام وكبير، وبروز مراكز حضارية جديدة على شواطئه الواسعة كاليابان والصين وفيتنام وسيبيريا الخ . .
ولكن الكاتب يوغل بعيدا في استنتاجاته، ونحن لا نريد ان نخطئ أو نصوب هذه الاستنتاجات بقدر ما نريد دراسة اليه تشكلها، فلماذا تأخذ هذا المنحى دون غيرة؟ لماذا تحاول أن تؤكد احتمالا واحدا مع وجود كثرة من الاحتمالات؟ وما هي علاقة التركيز على هذا الاحتمال بالنظرة التي يمتلكها الكاتب؟
إننا نريد ان ندرس آلية ظهور هذه النظرة وتناقضاتها المختلفة. سنأخذ مقالا واحدا بتركيز خاص. وعموما فمقالات الكتاب المنفصلة تحتوي ذات الفكرة الرئيسية المتمددة في كل الكتاب، وبنفس خطوطها العريضة.
المقال هو ذلك الجزء من الفصل الثالث النظري العام المعنون بـــ«القوة الصاعدة . . والعرب ــ نظرة شمولية». فهذه النظرة الشمولية هي التي تحتاج الى فحص .
في البدء يقول:
انشغل الفكر العربي كثيرا بالتجارب الحضارية الأوربية والغربية بصفة عامة رغم أنها تمت في اقليم حضاري مختلف تماماً عن الاقليم العربي، وفي ظروف تاريخية اجتماعية تختلف هي الأخرى كثيرا عن الظروف العربية ص 64.
وكالعادة يجري تعميم وإطلاق الوعي العربي بتياراته المتعددة في كلمة «الفكر العربي» فلا يغدو قوى متعددة واجتهادات متباينة بل جوهراً ذا وحدة واحدة، يصير عدسة وحيدة تنشغل بعالم آخر مسيطر على وضعها فتنبهر به وتريد أن تحتذيه لتكون في مستواه.
إن العدسة العربية تنشغل «بالتجارب الحضارية الأوربية»، «بسبب التفوق الأوربي في المائتي سنة الأخيرة، والسيطرة الأوربية على معظم بقاع الأرض بما في ذلك الاقليم العربي» .
إن العدسة تحاول نقل الموديل الغربي الرأسمالي الى عالمها الخاص رغم أن الحضارة الغربية تمت في «إقليم حضاري مختلف تماما»، وفي ظروف تاريخية مغايرة. وهنا يجب أن ننتبه الى كلمة الاقليم المختلف بمعنى أنها لو تمت في اقليم مشابه، شرقي، مقارب في عاداته ومؤسساته، لتمت عملية الاحتذاء، وحدث الإنصهار بين التابع والمتبوع، فعملية تقليد الموديل الغربي تمت في شروط غير مناسبة، بمعنى أن تقاليد العرب وأوضاعهم الاجتماعية كانت مغايرة، للنموذج المراد تباعه، ولو جاء نموذج أو موديل مناسب، قريب منا جغرافيا واجتماعيا لتمت عملية الإحتذاء.
ويواصل الكاتب بناء فكرته:
غير أن استيعاب سر القوة الحضارية المعاصرة لدى الغرب شيء، واحتذاء نماذجه الحضارية بكاملها ومحاولة اقتباسها بشكل تفصيلي شيء آخر، وهذا فارق لم ينتبه اليه ذلك الجيل من المفكرين الذي دعا الى اقتباس الحضارة الأوربية خيرها وشرها حلوها ومرها على حد تعبير طه حسين . . ص 65.
لقد أراد ذلك الجيل من المثقفين العرب نقل النموذج الغربي بكليته الى الواقع العربي (هل حدث ذلك حقا؟!) ونسى أهمية استيعاب سر القوة في ذلك النموذج، فاستيعاب «سر» النموذج هو مفتاح الحل.
فلو أن الوعي أدرك سر تفوق الموديل الغربي، وما هي خصائص تفوقه، وعمم هذه الخصائص أو نشرها أو طبقها، لكان بالإمكان احداث نقلة حضارية! ولربما حدث التطابق بين التابع والمتبوع، ولكنه، للأسف، انشغل باحتذاء النموذج بالكامل.
هل هناك فرق بين احتذاء النموذج وادراك سر قوته؟!!
لقد أراد العقل العربي أن يصبح غريبا، وأراد للمجتمع الأصيل ان يتغرب عن ذاته، أن يفارق جوهره، ويلتحق بجوهر خاص ذي خصائص مختلفة كليا.
أي أن التطابق الحضاري، بين المختلف والمتقدم، بين التابع والمتبوع، رهن بشروط الوعي والفكر، فلو تحقق «ادراك معين» تمت عملية المصاهرة، وزال الفارق.
إن النقلة الحضارية المنتظرة تتحقق باستبدال عبارة «إحتذاء نماذجه» بعبارة «اسيعاب سر القوة!!» فلو أن المفكرين العرب انتبهوا الى ذلك في بداية التصادم الحضاري بين العرب والغرب وانشغلوا باستيعاب أسرار قوة الحضارة الجديدة وراحوا يفككون آلتها ويعيدون تركيبها، لأمكن حدوث التقدم الحضاري المطلوب.
وكان بإمكان «العقل» العربي حينذاك أن يرى ايضا الموديل الجديد ويدرك أسراره. فقد صعدت اليابان حينذاك، وأستقبل المثقفون العرب بحماس بالغ الانتصار الياباني على روسيا القيصرية، ورأوا فيه أول هزيمة لأوربا.
«لكن الفكر العربي اكتفى بالترحيب والتفاؤل ولم يدرس ويتعمق أبعاد التجربة اليابانية الجديدة كاملة وهي التي بدأت قبل ثلث قرن فقط من انتصار اليابان على روسيا. هذا مع العلم أن اليابان في بداية عصر نهضتها المعروف بعصر ‹‹الميجي›› والذي يؤرخ لبدايته بعام 1868. قد أرسلت وفدا الى مصر للتعرف على اسباب نهضتها الباكرة بين عهد محمد علي وعهد الخديوي اسماعيل ص 65.
إن الفكر. في نظرة الكاتب، يغدو هو الصانع المطلق للتاريخ بدون شروط موضوعية، خارج البنية الاقتصادية ــ الاجتماعية التي تكون فيها، وهو يستطيع بمفرده، لو أنه تعمق الأشياء لأمكن إعادة خلق التاريخ في منحى اخر.
فشروط النهضة وتفجيرها موجود لدى النخبة، وهم القوة الحاملة للفكر، وبإمكان هذه النخبة مستقلة من شروط تكونها ان تخلق ما عجزت عنه. إن الفكر هنا قوة حرة مطلقة، ليست ابنة ظروف تاريخية بالغة التعقيد، فقد كان بإمكانها أن تصير ولم تصر.
«هكذا لم يحول الفكر العربي ذلك الحدث في مطلع القرن العشرين إلى منعطف في انفتاحه على تجارب العالم الجديدة الأخرى، ونسى التجربة اليابانية بعد سنوات قليلة وواصل تطلعه غربا عبر المتوسط الى التجارب الحضارية الأوربية وحدها . . .». ص 65.
إن عدسة «العقل العربي»، ركزت على جهة واحدة من العالم ولو انها التفتت الى جهة أخرى وليدة بازغة، لتغير مصير العرب في هذا القرن.
إن الفكر يغدو، كما كان في كتاب «تحولات الفكر والسياسة . .» ظاهرة فوق الواقع، مجردة، وقادرة على تحويله بقدرتها الذاتية الخارقة، فليس هذا الفكر هو نتاج الواقع العربي المعقد المتباين، نتاج الأنظمة الاجتماعية المتخلفة التابعة، إلى مراكز متباينة في العالم الغربي، ليس هو ممارسات تتخلق عبر تحويل المجتمعات العربية المتعددة، ليس هو مجموعة من المثقفين المتناثرين المنتمين الى تيارات صغيرة داخل التكوينات «الحديثة» الوليدة حينذاك، وفي محيط من الأمية والتخلف وتأخر الصناعة الخ . . ليس هو التيارات الليبرالية المتعددة التي تحاول احتذاء، دول متباينة، وليس هو الاسلاميون المتنورون القليلون الذين يحاولون الاستفادة من ثقافة الغرب لتطوير الحياة العربية الخ . .
لا، ليس الفكر كذلك. بل هو قوة مجردة مطلقة قادرة على تحويل مسارات الحياة بمجرد اكتشاف موديل آخر.
إن «الفكر» بهذا التجريد الذي يتصوره الكاتب لم يكن موجودا حينذاك، وليس موجودا الآن كذلك. بمعنى أن للتاريخ قوانينه الموضوعية لا بد من اكتشافها حتى يتم تحويل الواقع، فهو لا يتغير بمجرد التغيير في فكر النخبة.
إن انشداد الوعي العربي بتياراته المتعددة الى «الغرب» هو ظاهرة موضوعية، تأسست فوق عالم كامل من التبعية، تكون عبر قرون عديدة منذ نمو الرأسمالية في غرب أوربا وحدوث الثورة الصناعية فيها والاكتشافات الجغرافية ونمو الأساطيل والاستيلاء على العالم عبر الشركات التجارية الخ . .الخ.
لقد تم تمزيق الوطن العربي، كالعديد من البلدان، وربط بتلك المراكز الرأسمالية المتعددة. وهذا الربط منحوت عبر ظروف اقتصادية مادية عميقة، كما هو أيضا منحوت عبر شروط فكرية ثقافية.
من هنا كان لا بد من التطلع الى الغرب واحتذاء نموذجه وفهم سر قوته، فذلك هو طريق التحرر الشاق، الذي لن يتشكل عبر الضغط على مجموعة من الأزرار.
وقد حاولت قوى اجتماعية عديدة، كما أشرنا سابقا، أن تحطم التبعية للغرب، وقد كان هذا نفسه انعكاسا للتطور الموضوعي ذاته. وقد تشكلت عدة حلقات بدأها الاسلاميون المتنورون كالأفغاني وتلاها الليبراليون الوطنيون كسعد زغلول ثم توجت بحلقة القوميين التحرريين كجمال عبدالناصر وغيره. وفي كل حلقة من هذه الحلقات كانت مسافة الحرية تتسع، وتآكل بنية التبعية يشتد.
ولو أن المنورين العرب في بدايات النهضة اهتموا بالتجربة اليابانية وحاولوا إدراك أسرارها لما نجم عن ذلك انفجار، بل تحول الى معرفة نهضوية مثل كافة اشكال الأدلجة الخاصة التي قامت بها البرجوازية العربية.
إن التاريخ لا ينمو الا بإمكانياته الحقيقية، وتظل المعرفة تلعب دورها الهام ضمن علاقتها بالطبقات المختلفة.
إذن الكاتب يقوم هنا بعملية تجريد واسعة، ويجعل من الفكر المجرد قوة خيالية قادرة وحدها على احداث التحول، خارج الظروف الملموسة للتطورات الاجتماعية.
فهل تتم النهضات الكبرى والتحولات التاريخية بفعل الارادوية المحضة ونشاط النخبة؟
هل ذلك ما حدث في التجربة اليابانية؟!
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
【من الليبرالية الى الأصولية!】
في كتابة المثير للجدل «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930 ــ 1970» حاول د. محمد جابر الأنصاري ــ بدون جدوى ــ ان يبرهن على فشل كافة النزعات التنويرية والتحررية في المنطقة العربية ابتداء من الاسلام المستنير لدى محمد عبده الى ليبرالية سعد زغلول وقومية ميشيل عفلق وتحررية جمال عبدالناصر، لكن قوة فكرتة واحدة لم يتحدث عن فشلها، أو توفيقيتها حسب وعيه، كما انها تتطابق مع الجوهر العربي، تلك هي «الأصولية»!
وانتقال الكاتب الليبرالي من تحرريته الى النزعة الأصولية، ليس ظاهرة غريبة بعد الامكانيات المادية والمعنوية التي اكتسبتها تلك الأصولية، لكنها خسارة فادحة للفكر التنويري في المنطقة حيث يشكل الفكر الأصولي تهديدا جديدا وتقسيما للحياة العربية الممزقة أصلا.
وحتى لا نستبق النتائج سنحاول المسير في كتابه الثاني «العالم والعرب سنة 2000»، لنتعرف على الوعي الأصولي، وهو يناقش المستقبل هذه المرة، لا الماضي، كما في الكتاب السابق.
فإذا كان التصور الأصولي في الكتاب السابق قد اتجه لتفنيد الحركات الليبرالية والاسلامية المستنيرة والقومية والاشتراكية في العالم العربي، عبر كشف ما يسميه بـ«التوفيقية» في مبادئها، بمعنى أنها تخلت عن «الأصول»، عبر الجوهر الخاص بنا، وحاولت أن توفق بينه وبين الوافد، الفكر الغربي الديمقراطي والمستنير، دون أن تملك الحق في التوفيق، إذا كان هذا التصور الأصولي هناك قد بين عدم «أصولية» تلك الحركات وغربتها عن «الجسم» العربي، الخاص بنا.
فإن التصور الأصولي هنا، في هذا الكتاب «العالم والعرب»، سوف يوضح الطريق الذي يجب أن يسلكه هذا الجسم العربي الى المستقبل. واذا كان «توضيح» ان كل تلك الحركات هي ضد «جوهرنا»، أو أصولنا، فأين سيتجه جوهرنا هذا؟
ما هي قدراته على تحديد مشكلات العرب وانقاذهم بعد أن أباد معرفيا جميع الحركات النهضوية والفاعلة على الساحة العربية من الشرق الى الغرب؟
ما هي الامكانيات العلمية والثقافية لهذا التصور ليكتشف العالم القادم، وليحلل القرن الحادي والعشرين ويمتلك المصير العربي؟!
لعل هذا التصور لديه شيء هام يستبصر به المستقبل، ويمتلك «وصفة» للجسد الذي أعيته العلل وأعجز «الأطباء»!
لهذا لا بد من المرافقة والتأني في الكشف عن هذا البرنامج لإصلاح ما «عجزت» عنه، حسب المصدر السابق، كل تيارات العرب الساعية الى النهضة والتقدم. لعلنا نجد كلمة مضيئة في هذا الليل المعتم!
والكاتب، خلافا لما يفعل الأصوليون الواضحون الصريحون، يعبر عن أصوليته بطريقة غير مباشرة، التفافية، فيدع تصوره مطاطيا قابلا لإيحاءات متعددة، فهذا أصولي غير متجهم الوجه، ولكننا سوف ندقق في كشف هذه الأصولية غير الصريحة، ونبين التناقضات التي تحتدم في وعيها.
والكتاب الحالي، خلافا للكتاب السابق ذي الوحدة الموضوعية، هو عبارة عن مجموعة من المقالات، اختصت فيها الظاهرة اليابانية ــ الصفراء ــ بالثقل الكمي والنوعي. من هنا جاءت المقدمة كأنها تلخيص واعطاء نظرة عامة على الكتاب ككل، لكنها في الحقيقة لم تكن تلخيصا محضا، فقد أضافت شيئا جديدا، وحاولت أن تخفف من انطباع يتولد لدى قارئ الكتاب بعد أن ينهيه.
لا بد من مطالعة هذه الفكرة المهيمنة، ولماذا تم التخفيف منها؟ وهل يمكن ذلك حقا؟
يقول في المقدمة عن موضوعات الكتاب:
«ثم اختص «الفصل الثاني» من الكتاب بظاهرة عميقة متجددة من ظواهر التحول في عصرنا، وهي ظاهرة الإحياء الروحي والانبعاث الإيماني والتحرر من النظرة المادية الضيقة التي خنقت الروح في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين». ص 7 .
ثم يضيف بعد ذلك:
«وظاهرة الاحياء الايماني في الغرب ــ إذا وازيناها بظاهرة الصحوة الاسلامية في عالمنا العربي وبظاهرة «لاهوت التحرير» في بلدان امريكا اللاتينية ــ تشير الى ان العالم، وهو يقترب من القرن المقبل ويستعد لخوض غماره، قد أوشك أن يسترجع قيمة أساسية جدا من قيم الوجود». ص 7 .
وعلى الرغم هنا من اتجاهه للغرب، أي صار الجوهر الغربي مقبولا في جانب، وهو المرفوض كلية كما رأينا سابقا، وكما سنرى لاحقا، فان ذلك ليس هو بيت القصيد.
فالملاحظة الأساسية هنا ان الكاتب يستخدم كلمة «الصحوة الاسلامية». وتعبير الصحوة يختلف عن تعبير «الإيمان». فكلمة الصحوة تشير في الحقيقة الى بروز تيارات سياسية تستخدم الاسلام سياسيا، في حين ان الايمان هو تعبير آخر يقصد به إيمان البشر بالأديان والخلق.
فقد تشمل هذه الصحوة بضع مئات أو آلاف من المسلمين، غير ان الايمان يشمل معظم المسلمين، فكأن التعبير وظلاله تقول ان المسلمين لم يكونوا مؤمنين قبل الصحوة، فلما جاءت آمنوا.
أو قل بأن المسلمين لم يكونوا مسلمين قبل «الصحوة» فلما جاءت بدأ انتشار الاسلام، أو أن ظهور تيارات «الأصوليين» المتعددة هي التي في سبيلها لجعل المسلمين يعودون مسلمين أو مؤمنين. فالأصوليون هم سبب عودة «الإيمان».
إن كلمة «صحوة» توحي بوجود موت قبلها، أو نوم، أو كفر. وهذا ما حدث لأروبا التي عاد اليها بعض الإيمان وكأمريكا اللاتينية التي انبعث فيها لاهوت التحرير، حيث كانت خارج اللاهوت.
من هنا فسوف تنقسم ديار الاسلام، حسب هذا الطرح، اضافة الى ما تنقسم اليه، الى معسكرين متعاديين متحاربين، المعسكر الذي يضم بشر ما قبل الصحوة، الميتين النائمين، الكفار، والمعسكر الثاني: بشر الصحوة، المؤمنون الحقيقيون.
ومن هنا سينفتح الباب! لتظهر المعسكرات داخل المعسكرات . . وتنفتح دهاليز لا تغلق أبدا.
ولكون هذه التعبيرات التي استخدمها الكاتب تفتح الباب لكل تلك المشكلات، وتوحي بتأييد المتطرفين الدينيين الذين أقاموا [صحوتهم] عبر الأطلال والحرائق، فقد كتب بعدئذ مهدئا من ظلال الكلمة وآثارها، بعد أن ظهرت نتائج منطق «الصحوة» في المنطقة العربية، يقول في ذات المقدمة:
«ثم يبقى أمر ترشيد هذه الصحوة الروحية بحيث تأخذ مسارها السليم تجديدا لقيم الايمان الأصيل والخلق القويم، والتسامح بين الناس، والاعتدال في القصد، بعيدا عن نزعات التعصب التي ينهى عنها الدين الحق وقيمة الجوهرية السامية». ص 7 .
ورغم صحة ما يطرحه هنا ونبل مقصده، الا أن هذه الفقرة تثبت أكثر من غيرها خطورة المنطق السابق.
فالصحوة، أو الأصولية، ستجعل الإيمان «الأصيل» مقصورا على نفر من المسلمين، أو ستجعله المعيار الفاصل لتحديد انسانية البشر، وهذا ما يفتح الباب لتعبيرات «الحكومات الكافرة» أو «الكفار» و«التكفير» و«الهجرة من مدن الضلال والكفر»، وسيتم تصنيف البشر على أساس «الإيمان» أو «الكفر».
أي انك اذا اعتبرت المسلمين منذ البدء غير مؤمنين، وجعلت من نفسك رقيبا وحسيبا على ايمانهم، ووصيا على حسن اسلامهم، فقد جعلت من نفسك قوة فوق البشر، لينفتح الباب بعدئذ لسفك دمهم أو الهجرة من ديارهم أو تكميم أفواههم أو شن الحروب عليهم الخ . . .!
من هنا تغدو خطورة استخدام تعبيرات مثل «الصحوة» التي هي تعبير عن اتجاه سياسي، يستعيد الدين وقاموسه لغايات دنيوية محددة، بهدف أضفاء مسحة قدسية على عمله السياسي البشري المحدد والقابل للخطأ والصواب.
ولهذا فإن الكاتب في العبارة الاستدراكية يحاول ان يخفف من وطأة التعبير وظلاله المهلكة. انها عبارات جميلة ولكنها لا تعني شيئا: «ثم يبقى أمر ترشيد هذه الصحوة الروحية» فمن هو الذي سيقومك بترشيدها ومن هو المرشد لها؟ وكيف سيقوم بذلك بعد غلوها وهل سيستطيع؟ واذا لم يستطع واندفع (منطق الصحوة) الى غاياته وتطرفه المطلق . . .؟! وصار العلم العربي كلبنان وكيف سنغدو حينئذ؟؟!
إذن المنطق ذاته منطق خاطئ خطر.
لقد قام د. الانصاري بإلغاء منجزات وابداعات التيارات الفكرية التنويرية والديمقراطية العربية ووجد نفسه في طريق مسدود، هو طريق الأصولية التي تحتاج الى «الترشيد» ايضا!!
【هل تستطيع النخبة وحدها احداث النهضة؟!】
هناك فكرة أساسية وملحة لدي الدكتور الانصاري. وهو يتقدم للتنبؤ بمصائر العالم والكون في القرن الحادي والعشرين. وهي ان قوة عالمية جديدة تنمو الآن، وسوف تحتل المركز القيادي في القرن القادم. فلأول مرة بعد قرون طويلة تزاح القوة البيضاء. «الغرب» لتحل القوة الصفراء «اليابان ودول شرق وجنوب آسيا»، وعلى العرب الإنحياز الى هذه القوة، أو التعاون معها بشكل اكثر دقة، والابتعاد كلية عن عالم الغرب بشقيه الرأسمالي والاشتراكي.
وسيكون القرن القادم هو أيضا قرن المحيط «الباسفيكي ــ الهادئ ــ فللحضارة البشرية دائما مركز مياهي خاص، فالحضارة الوسيطة كان لها البحر المتوسط ميدانا رئيسيا لاتصال أقطابها، والحضارة الغربية الحديثة كان لها المحيط الاطلسي ميدانا اساسيا لنشاطها، اما الحضارة القادمة ذات الاقطار المتعددة وأبرزها القطب الأصغر فسيكون ميدان تنافسها الملتهب هو المحيط الهادئ».
وثمة في هذه الافكار نقاط حقيقية، كالقول بتنافس القوى الدولية في عالم اليوم، وتحول المحيط الهادئ الى مركز حضاري هام وكبير، وبروز مراكز حضارية جديدة على شواطئه الواسعة كاليابان والصين وفيتنام وسيبيريا الخ . .
ولكن الكاتب يوغل بعيدا في استنتاجاته، ونحن لا نريد ان نخطئ أو نصوب هذه الاستنتاجات بقدر ما نريد دراسة اليه تشكلها، فلماذا تأخذ هذا المنحى دون غيرة؟ لماذا تحاول أن تؤكد احتمالا واحدا مع وجود كثرة من الاحتمالات؟ وما هي علاقة التركيز على هذا الاحتمال بالنظرة التي يمتلكها الكاتب؟
إننا نريد ان ندرس آلية ظهور هذه النظرة وتناقضاتها المختلفة. سنأخذ مقالا واحدا بتركيز خاص. وعموما فمقالات الكتاب المنفصلة تحتوي ذات الفكرة الرئيسية المتمددة في كل الكتاب، وبنفس خطوطها العريضة.
المقال هو ذلك الجزء من الفصل الثالث النظري العام المعنون بـــ«القوة الصاعدة . . والعرب ــ نظرة شمولية». فهذه النظرة الشمولية هي التي تحتاج الى فحص .
في البدء يقول:
انشغل الفكر العربي كثيرا بالتجارب الحضارية الأوربية والغربية بصفة عامة رغم أنها تمت في اقليم حضاري مختلف تماماً عن الاقليم العربي، وفي ظروف تاريخية اجتماعية تختلف هي الأخرى كثيرا عن الظروف العربية ص 64.
وكالعادة يجري تعميم وإطلاق الوعي العربي بتياراته المتعددة في كلمة «الفكر العربي» فلا يغدو قوى متعددة واجتهادات متباينة بل جوهراً ذا وحدة واحدة، يصير عدسة وحيدة تنشغل بعالم آخر مسيطر على وضعها فتنبهر به وتريد أن تحتذيه لتكون في مستواه.
إن العدسة العربية تنشغل «بالتجارب الحضارية الأوربية»، «بسبب التفوق الأوربي في المائتي سنة الأخيرة، والسيطرة الأوربية على معظم بقاع الأرض بما في ذلك الاقليم العربي» .
إن العدسة تحاول نقل الموديل الغربي الرأسمالي الى عالمها الخاص رغم أن الحضارة الغربية تمت في «إقليم حضاري مختلف تماما»، وفي ظروف تاريخية مغايرة. وهنا يجب أن ننتبه الى كلمة الاقليم المختلف بمعنى أنها لو تمت في اقليم مشابه، شرقي، مقارب في عاداته ومؤسساته، لتمت عملية الاحتذاء، وحدث الإنصهار بين التابع والمتبوع، فعملية تقليد الموديل الغربي تمت في شروط غير مناسبة، بمعنى أن تقاليد العرب وأوضاعهم الاجتماعية كانت مغايرة، للنموذج المراد تباعه، ولو جاء نموذج أو موديل مناسب، قريب منا جغرافيا واجتماعيا لتمت عملية الإحتذاء.
ويواصل الكاتب بناء فكرته:
غير أن استيعاب سر القوة الحضارية المعاصرة لدى الغرب شيء، واحتذاء نماذجه الحضارية بكاملها ومحاولة اقتباسها بشكل تفصيلي شيء آخر، وهذا فارق لم ينتبه اليه ذلك الجيل من المفكرين الذي دعا الى اقتباس الحضارة الأوربية خيرها وشرها حلوها ومرها على حد تعبير طه حسين . . ص 65.
لقد أراد ذلك الجيل من المثقفين العرب نقل النموذج الغربي بكليته الى الواقع العربي (هل حدث ذلك حقا؟!) ونسى أهمية استيعاب سر القوة في ذلك النموذج، فاستيعاب «سر» النموذج هو مفتاح الحل.
فلو أن الوعي أدرك سر تفوق الموديل الغربي، وما هي خصائص تفوقه، وعمم هذه الخصائص أو نشرها أو طبقها، لكان بالإمكان احداث نقلة حضارية! ولربما حدث التطابق بين التابع والمتبوع، ولكنه، للأسف، انشغل باحتذاء النموذج بالكامل.
هل هناك فرق بين احتذاء النموذج وادراك سر قوته؟!!
لقد أراد العقل العربي أن يصبح غريبا، وأراد للمجتمع الأصيل ان يتغرب عن ذاته، أن يفارق جوهره، ويلتحق بجوهر خاص ذي خصائص مختلفة كليا.
أي أن التطابق الحضاري، بين المختلف والمتقدم، بين التابع والمتبوع، رهن بشروط الوعي والفكر، فلو تحقق «ادراك معين» تمت عملية المصاهرة، وزال الفارق.
إن النقلة الحضارية المنتظرة تتحقق باستبدال عبارة «إحتذاء نماذجه» بعبارة «اسيعاب سر القوة!!» فلو أن المفكرين العرب انتبهوا الى ذلك في بداية التصادم الحضاري بين العرب والغرب وانشغلوا باستيعاب أسرار قوة الحضارة الجديدة وراحوا يفككون آلتها ويعيدون تركيبها، لأمكن حدوث التقدم الحضاري المطلوب.
وكان بإمكان «العقل» العربي حينذاك أن يرى ايضا الموديل الجديد ويدرك أسراره. فقد صعدت اليابان حينذاك، وأستقبل المثقفون العرب بحماس بالغ الانتصار الياباني على روسيا القيصرية، ورأوا فيه أول هزيمة لأوربا.
«لكن الفكر العربي اكتفى بالترحيب والتفاؤل ولم يدرس ويتعمق أبعاد التجربة اليابانية الجديدة كاملة وهي التي بدأت قبل ثلث قرن فقط من انتصار اليابان على روسيا. هذا مع العلم أن اليابان في بداية عصر نهضتها المعروف بعصر ‹‹الميجي›› والذي يؤرخ لبدايته بعام 1868. قد أرسلت وفدا الى مصر للتعرف على اسباب نهضتها الباكرة بين عهد محمد علي وعهد الخديوي اسماعيل ص 65.
إن الفكر. في نظرة الكاتب، يغدو هو الصانع المطلق للتاريخ بدون شروط موضوعية، خارج البنية الاقتصادية ــ الاجتماعية التي تكون فيها، وهو يستطيع بمفرده، لو أنه تعمق الأشياء لأمكن إعادة خلق التاريخ في منحى اخر.
فشروط النهضة وتفجيرها موجود لدى النخبة، وهم القوة الحاملة للفكر، وبإمكان هذه النخبة مستقلة من شروط تكونها ان تخلق ما عجزت عنه. إن الفكر هنا قوة حرة مطلقة، ليست ابنة ظروف تاريخية بالغة التعقيد، فقد كان بإمكانها أن تصير ولم تصر.
«هكذا لم يحول الفكر العربي ذلك الحدث في مطلع القرن العشرين إلى منعطف في انفتاحه على تجارب العالم الجديدة الأخرى، ونسى التجربة اليابانية بعد سنوات قليلة وواصل تطلعه غربا عبر المتوسط الى التجارب الحضارية الأوربية وحدها . . .». ص 65.
إن عدسة «العقل العربي»، ركزت على جهة واحدة من العالم ولو انها التفتت الى جهة أخرى وليدة بازغة، لتغير مصير العرب في هذا القرن.
إن الفكر يغدو، كما كان في كتاب «تحولات الفكر والسياسة . .» ظاهرة فوق الواقع، مجردة، وقادرة على تحويله بقدرتها الذاتية الخارقة، فليس هذا الفكر هو نتاج الواقع العربي المعقد المتباين، نتاج الأنظمة الاجتماعية المتخلفة التابعة، إلى مراكز متباينة في العالم الغربي، ليس هو ممارسات تتخلق عبر تحويل المجتمعات العربية المتعددة، ليس هو مجموعة من المثقفين المتناثرين المنتمين الى تيارات صغيرة داخل التكوينات «الحديثة» الوليدة حينذاك، وفي محيط من الأمية والتخلف وتأخر الصناعة الخ . . ليس هو التيارات الليبرالية المتعددة التي تحاول احتذاء، دول متباينة، وليس هو الاسلاميون المتنورون القليلون الذين يحاولون الاستفادة من ثقافة الغرب لتطوير الحياة العربية الخ . .
لا، ليس الفكر كذلك. بل هو قوة مجردة مطلقة قادرة على تحويل مسارات الحياة بمجرد اكتشاف موديل آخر.
إن «الفكر» بهذا التجريد الذي يتصوره الكاتب لم يكن موجودا حينذاك، وليس موجودا الآن كذلك. بمعنى أن للتاريخ قوانينه الموضوعية لا بد من اكتشافها حتى يتم تحويل الواقع، فهو لا يتغير بمجرد التغيير في فكر النخبة.
إن انشداد الوعي العربي بتياراته المتعددة الى «الغرب» هو ظاهرة موضوعية، تأسست فوق عالم كامل من التبعية، تكون عبر قرون عديدة منذ نمو الرأسمالية في غرب أوربا وحدوث الثورة الصناعية فيها والاكتشافات الجغرافية ونمو الأساطيل والاستيلاء على العالم عبر الشركات التجارية الخ . .الخ.
لقد تم تمزيق الوطن العربي، كالعديد من البلدان، وربط بتلك المراكز الرأسمالية المتعددة. وهذا الربط منحوت عبر ظروف اقتصادية مادية عميقة، كما هو أيضا منحوت عبر شروط فكرية ثقافية.
من هنا كان لا بد من التطلع الى الغرب واحتذاء نموذجه وفهم سر قوته، فذلك هو طريق التحرر الشاق، الذي لن يتشكل عبر الضغط على مجموعة من الأزرار.
وقد حاولت قوى اجتماعية عديدة، كما أشرنا سابقا، أن تحطم التبعية للغرب، وقد كان هذا نفسه انعكاسا للتطور الموضوعي ذاته. وقد تشكلت عدة حلقات بدأها الاسلاميون المتنورون كالأفغاني وتلاها الليبراليون الوطنيون كسعد زغلول ثم توجت بحلقة القوميين التحرريين كجمال عبدالناصر وغيره. وفي كل حلقة من هذه الحلقات كانت مسافة الحرية تتسع، وتآكل بنية التبعية يشتد.
ولو أن المنورين العرب في بدايات النهضة اهتموا بالتجربة اليابانية وحاولوا إدراك أسرارها لما نجم عن ذلك انفجار، بل تحول الى معرفة نهضوية مثل كافة اشكال الأدلجة الخاصة التي قامت بها البرجوازية العربية.
إن التاريخ لا ينمو الا بإمكانياته الحقيقية، وتظل المعرفة تلعب دورها الهام ضمن علاقتها بالطبقات المختلفة.
إذن الكاتب يقوم هنا بعملية تجريد واسعة، ويجعل من الفكر المجرد قوة خيالية قادرة وحدها على احداث التحول، خارج الظروف الملموسة للتطورات الاجتماعية.
فهل تتم النهضات الكبرى والتحولات التاريخية بفعل الارادوية المحضة ونشاط النخبة؟
هل ذلك ما حدث في التجربة اليابانية؟!
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
Published on September 23, 2019 07:53
•
Tags:
2-محمد-جابر-الانصاري
No comments have been added yet.


