عبـــــــدالله خلــــــــيفة: صاحب مغني الماء والنار

[image error]


صدر أول أعمال الكاتب البحريني ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة في عام 1975 تحت عنوان «لحن الشتاء» ، وهكذا، فهو يدخل الآن عقده الثالث على ذمة الكتابة، رواية وقصة قصيرة.. ثلاثون عاماً من المكابدة والصبر والاسترسال في تأليف الحياة دائماً من جديد، يتميز بجلد (فتح الجيم واللام) مكين على مواصلة مشروعه الابداعي الغني بالصفاء والأمين لروح المكان.
يخبىء ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة تحت ثيابه شاعراً هو بالنسبة إليه «قرين» ، ولكنه لا يستسلم لإملاءات هذا القرين، فالقص والاستطراد في الحكي والسرد والوصف وربما «الغناء» هو مبتدأ ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة وخبره.. فلا جمل اعتراضية ولا تيه ولا «غياب لغوي» يمكنه أن يكسر قاعدته الفنية ليشكل بذلك صورة مكتملة لكاتب مستقل بكل معنى الكلمة، والاستقلالية هنا، تأتي بمعنى إلحاح ‏خلــــــــيفة على تكوينات روائية وقصصية نابعة أولاً وأخيراً من ذاته ومن أدواته الخصوصية جداً، وكأنه بذلك، يستغني عن أية مؤثرات أو أية مرجعيات تحيله إلى سوى سخصيته الروائية أو القصصية.
زوج ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة القصة القصيرة للرواية، وزوج الرواية للقصة، وحافظ على هذين الخطين على نحو متواز، فلم تغب الرواية في مشروعه الأدبي كما لم تغب القصة، وأقول ذلك، لأن الكثير من الروائيين العرب بدأوا قاصين، وعندما تمكنوا من الرواية أو تمكنت منهم الرواية تخلوا شيئاً فشيئاً عن البذرة الأولى.. القصة القصيرة وهجروها هجرة بلا رجعة.
ولا أخفي أمراً هنا، إذ أقرأ ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة بصعوبة في بعض الأحيان، وهو كما انه يكتب بنوع من الصبر المتعب، يحتاج في المقابل إلى قارىء صبور يتحمل صعوبته وشخصيته، وهي ليست صعوبة «جيمس جويس» أو صعوبة «فرانز كافكا» على سبيل المثال، وانما هي صعوبة كاتب شديد الاعتداد بالأشياء والخصوصيات التي هي من شأنه هو، وليست تابعة إلى أرشيف أي أحد من الكتاب، وان كان هو ككاتب يبني دوماً علاقة «ارتباط» بالكاتب الآخر، ولكنها علاقة من بعيد. الاستقلالية عنوانها الدائم.
على نحو شخصي كثيراً ما التقيته في الإمارات، وفي مكتبتي غالبية أعماله الروائية والقصصية، وأكثر من ذلك، أحن إليه، فكلما التقيته كأنما ألتقي البحرين كلها، هذا البلد الكثير والكبير بشعرائه وروائييه وقصاصيه الذين يشتغلون في الكتابة من باب المسؤولية قبل وبعد كل شيء.
المرأة حاضرة في معظم أعمال ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة بما هي عليه من كائن إنساني، ويمكن أن يكون هذا الكائن ملاكاً أو شيطاناً، نجساً أو طاهراً، جميلاً أو قبيحاً، وهذه سنة من سنن الحياة والوجود، والمرأة لديه هي النسخة الثانية من الحياة في شبابها وشيخوختها، وفي الحالين تظل حالة انسانية ليست قابلة للإلغاء:
[image error]
في روايته «نشيد البحر» تقرأ: {.. وترى مثلما يرى النائم المرأة الشقراء تناديك، غرفة العرس الواسعة والياسمين والمرايا تدجن خوفك واغترابك، وتمتصك المرأة الشقراء، العجوز، التي تنتزع باروكتها الذهبية، وتعطيك جلدها المتغضن، فتحس بالأفاعي..}.
وفي مجموعته القصصية «سهرة» تعاودنا صورة المرأة العجوز مرة ثانية، فإذا كانت هذه العجوز في رواية «نشيد البحر» ذات باروكة ذهبية فإنها في قصة «سهرة» ذات أسنان ذهبية وجسد هرته الشيخوخة، وبالمناسبة، فإن صورة المرأة العجوز تتكرر كثيراً في قصص ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة، وربما كنت موفقاً، إذا اعتبرت هذه المرأة لدى الكاتب رمزاً للحياة التي تعجزها الأيام.
[image error]في قصة «سهرة» يقع بطل القصة المفلس والعاطل في براثن هذه العجوز التي تستدرجه إلى ما يشبه «الموت».
ذكرت قبل قليل ان ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة له «قرين شاعر» يميل عليه إذا اقتضى الأمر على نحو شعائري هذه المرة في رواية «نشيد البحر».. أحد أبطال هذه الرواية هنا يخاطب البحر:
{.. أيها المجد المائي، يا سليل ملوك التحول، أيها الأزل، والأمل، خذني إلى ذاكرتك، ودهشتك، اصهرني، لأكن سمكة في لونك، وعشقاً أبدياً في خمرك، لا أريد أن أكون وتداً في الأرض، أو لافتة صدئة تشير إلى طريق، لأكن ذراتك، نداءك، صوتك الهادر في سكون الأشياء..}.
مناخ البحر هذا ومناجاته الصافية الشعائرية هذه لا نجدها في رواية «أغنية الماء والنار».. ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة في هذه الرواية يتخلى عن قرينه الشاعر الذي تظهر صورته في قصة «سهرة»، وهو في رواية «أغنية الماء والنار»، التي صدرت عام 1988 عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق كما جاء في التعريف النقدي بالرواية:{.. تصوير معبر للصراع الاجتماعي على أطراف مدينة في بيئة شعبية}.
«جابر» في هذه الرواية مطارد بالخيبة والحزن، وذلك مثال فقط من مناخ الرواية، إلى جانب شخصيات أخرى «راشد» سقاء الماء، و«غلوم» رجل زجاجات الليل، إضافة إلى نساء الرواية «زهرة» وسواها، من نماذج تدنو إلى حياة كريمة ونبذ التسلط.
في رواية «أغنية الماء والنار»، يحضر البحر أيضاً، ولكن هذه المرة من دون «نجوى شعرية»، إذ ان «قوام» الرواية هو قوام أشخاص فقراء إذا غنوا فإن أغنيتهم هي أغنية الماء والنار بكل واقعية الفقر وبساطة الروح الانسانية.
يلح ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة في معظم قصصه ورواياته على ما يسمى «المونولوج» أي الصوت الداخلي لأشخاص القصة أو الرواية، الأمر الذي يدفع به إلى اقتراح كتابة «جريانية» إن جازت العبارة.. إخاله في مثل هذه الحالة يكتب سريعاً، الصور متدفقة، والجمل قصيرة ومتلاحقة، التداعيات تستولد تداعيات أخرى، ومع كل ذلك، فإن قارئاً متمرساً لن يلمح أي لهاث في الكتابة، لأن لهاث الكاتب يفضحه القارىء، فإن كانت القراءة لاهثة فإن الكاتب كان يلهث لحظة الكتابة. هذه النقطة لم أجدها عند ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة الذي يحرص دوماً على نصوص متماسكة، قوية البناء مشدودة إلى علاقات سردية يكمل بعضها بعضاً.[image error]
في روايته «الضباب» نأخذ على ذلك تمثيلاً هذا الأنموذج:
{.. يغفو، يرى نفسه في ممر طويل، وثمة منصة بعيدة متوارية وراء دخان بركاني شفاف، يحس بأسواط تلسعه، وهو يجري بسرعة. وأنفاسه تشتعل، ويبحث عن فتحة في الممر، والممر طويل، ومغلق، ويركض، ثمة تماثيل رومانية كثيرة تحدق فيه بأجسادها الفارهة..}.
لى أن أشير إلى أن ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة يمتلك من الذكاء الفني بحيث انه يحرص على أن يكون مختلفاً في حالة النصين.. نص التداعيات والاستطراد والاسترسال، ونص «الشعائرية»، أو «الشعرية» وهو ان جنح إلى الاستعانة بروح الشاعر «قرينه» أو «ايقونته» فهو يستعين بالقليل من ملح الشاعر، ليعود بعد ذلك إلى ذاته الروائية أو القصصية.
شخصيات ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة تراوح بين نماذج محبطة متعبة كما في بعض قصص مجموعته «سهرة»، وبعضها نماذج تعاني الفقر بالقرب من بحر فقير أيضاً كما في روايته «أغنية الماء والنار»، وإن لم أكن مخطئاً فإن شخصية الضباب شخصية مثقفة، وفي رواية «نشيد البحر»، يلمح إلى انقراض انموذج «المناضل».
ومثالاً على هذا التلميح تقرأ هذا الحوار المقتضب في رواية «نشيد البحر»:
{ــ كم ضيعنا من أوقات جميلة، وتركنا تلك الفتيات الجميلات بخدودهن الوردية، يفلتن من أيادينا، تصوفنا ولبسنا الخيش وأدمنا العرق والروائح الكريهة وأطلقنا اللحى.. فيا لها من أوقات عصيبة.
ــ إذن لا تلم أخي.
ــ لكنه حيوان انقرضت فصيلته.}.
يكتب ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة بالكثير من الاطمئنان إلى نفسه وإلى شخوصه، ويخيل إلي أنه يعرف شخوص أعماله معرفة جيدة قبل الشروع في الكتابة، وان كان لا يعرفهم فهو يصنعهم من تراب الواقع، وحتى لو كانوا مصنوعين أو مولودين من «رحم المخيلة» ، فهم أيضاً مبعث اطمئنان بالنسبة إليه.. إن مثل هذه الطمأنينة تؤدي بالضرورة إلى ثقة الكاتب بنفسه، والأهم من ذلك ثقته بهذه «النفوس» الحائرة والمتعبة.. ثقته بالناس فقط الناس.. فهم الماء والنار، وهم الضباب، وهم النشيد وهم اللآلىء والرمل والياسمين، وهي ذاتها العناوين التي اقترحها ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة لقصصه ورواياته.
عالم ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة عالم متنوع وواسع، ويصعب اختزاله في قراءة انطباعية لا تزعم النقد على الاطلاق، فهو غزير الكتابة، ضد الانقطاع والغياب، أحسه مسكوناً دوماً بشخصية روائية أو بمكان روائي مرشح في أية لحظة لأن يصاغ أو يكتب في كتاب. إ ن هذه الكتابة الاستعادية عن خلــــــــيفة تريد خلاصة واحدة.. وهي ذلك الأمل الذي يمكن أن يعول عليه من «النظام النقدي الأدبي أو الثقافي» إن كان هناك وجود لمثل هذا النظام، وضرورة استعادته هو.. استعادة نقدية مسؤولة ومتخصصة لأعمال شعرية وروائية وقصصية في منطقة الخليج العربي، وتجربة‏‏ عبـــــــدالله خلــــــــيفة مثال واضح وممكن لحقل النقد.
❖ يوسف أبولوز
شاعر فلسطيني
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: صاحب مغني الماء والنار
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 24, 2019 15:10
No comments have been added yet.