عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 64

June 12, 2022

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الأفكار والتقدم

إن السببيات شاملةٌ واحدةٌ لكلِ فكرةٍ كبيرة؛ للأديان والمذاهب والمدارس الفكرية، وتتلخصُ في مدى قدرة الفكرة في نموها الايجابي على أن تكون مرشدةً للتقدم الإنساني، وفي جانبها السلبي حين تعوق هذا التقدم وتكرسُ نفسَها لوقفه والأسوأ لمحاربته.
في صدام الأماميات والحنبلية في بغداد أواخر العصر العباسي الثاني، يتشكل قوسا القوميتين المحافظتين الفارسية والعربية البدوية الصحراوية.
الأولى تستعين بثقافة اللاعقل، بهيمنة النجوم والكواكب المتحدة بالأرواح وقوى البشرية المفارقة التي غدت مهيمنة من السماء، وبطقوس الزراعة القديمة، عبر ثقافة الندب وتعذيب الذات، والثانية تستعينُ بحرفية النصوص المقدسة الكلية، حيث كل حرفٍ حتى لو إمتلأ بالخرافة يغدو حقيقة.
كانت الثقافة الإسلامية أمام منحيين كبيرين متضادين.
لم تستطع ثقافة العقل والعلوم والنقد أن تخترق الحجب المعتمة، وثمة مستويان إجتماعيان يصطدمان:
الملاكُ الكبارُ في فارس يستعيدون السيطرةَ على الأراضي، ويتغلغلون في الخلافة العربية: بني بويه المؤثرون هم رموزُ هذه المرحلة.
البدو والأعراب الذين ملأوا المدينة العاصمة يجدون أنفسهم امام سيطرات غير عربية: فارسية وتركية، وخاصة الفرس الذين يصارعونهم كثيراً على حدود الأرض وهم أصحاب السلطان.
تنفجر الحنبليةُ بكراهية شديدة للعقلانية وللتحليل والفلسفة، ويصرخ قائلهم:(من تنمطق فقد تزندق!). والمفكرون الفرس يوغلون في الماورائيات، ويعودون لتقاليد الشعوب القديمة في كسر الجدران بين الحس والغيب. وتتدفق الصوفياتُ كشكلٍ بارزٍ للاعقلانية وتحلُ الأرواح الغيبية في الأجسام البشرية المحدودة وتصعد نحو السماء للذوبان في المطلق!
في المدارس اللاعقلانية وقتذاك هجومٌ سياسي على العروبة وجسدِها الاجتماعي الملموس وهو هؤلاء البدو الذين لم يستطيعوا أن يتطوروا ولم يستوعبوا الفلسفة العربية في جنونها المتصاعد.
ولهذا هم يستعيدون الأحكامَ المبسطة للشريعة؛ إستخدام الحدود وتطبيقها الصارم والعودة للتقاليد البدوية، وعدم الاجتهاد والتحليل، ومقاومة الغزاة المختلفين مع الملة، وضد أي أناس يدخلون الأفكار (المنحلة) و(الفاسدة).
هنا يحدث الافتراقُ بين الجزيرة العربية وفارس. بين الحنابلةِ والشيعة.
ولكنهم جميعاً يتفقون على الأحكام الحرفية الحدودية فيما يتعلق بقطع إيدي اللصوص البسطاء وترك الحرامية الكبار الذين يملكون الإقطاعيات الواسعة ويشنون الحروب.
كلُ فكرة تتجمدُ عن خلقِ التقدم تركزُ على الأشكال، والكلية الصارمة، وأن لا ثمة تناقض وتعدد في مبناها، وأنها كانت ولا تزال هي نفسها منذ أن ظهرتْ حتى يوم القيامة، وتجعلُ أتباعَها يعيشون في أشكالِها العبادية بصرامة، وترفضُ الاجتهادَ والممكنَ والاحتمالات والسيرورة والتغير، أي تخاف أن يتوجه أتباعها للتحللِ من قيودها الصارمة، والاجتهاد في تفسيراتها، وتبصر التقدمَ الذي يجيءُ من جهات أخرى، ودرسه ورؤية مدى الاستفادة منه.
الفكرةُ في طورِها الأولِ حين تكون مناضلةً لتغيير أحوال الناس لا تكون مثل هذا، لا بد لها من قيود ما، وضبط للاتباع بأشكال، لكنها تكون متفائلة، فرحة، منفتحة، لأن الانتصارات والممكنات القادمة التحولية تجعلها ثوريةً فاعلة في عالمها وتقدم لجماعتها عيشاً جديداً متطوراً، فترفض التطرفَ وتحب الحلول الوسط والاجتهادات التي توسعُ ذلك التقدم.
الفكرة حين تصبح زنزانةً تجعل مبادئها شكلية، تناور عن المضمون والاحتمال والممكن والاجتهاد والانفتاح على الآخرين والاستفادة من إيجابياتهم، تخافُ من التقدم، وتغذي التعصب، والعداوة.
الفكرة حين تصبح إمتيازات للبعض، وإستغلالاً وطنياً أو عالمياً تبتعد عن كشف الحقائق، ودرس الظروف العامة بموضوعية، وتنزلق نحو دهاليز غريبة، فتضخم جزئيات لدرجة تحويلها لجبال، وتنفخُ من شخصيات مريضة لأنها تغذيها بالوجود، وسواء كانت الفكرة هي الوجودية أو الماركسية أو المذهبية الدينية أو الليبرالية، وتغدو قوى المصلحة القديمة دائماً معرقلة لتطور ذات الفكرة.
الليبرالية تغدو دعوة للحرية في المشروع الخاص، لكن مع خنق المشروع الخاص العالمي الغربي لتطور الكرة الأرضية المتنوع تغدو الليبرالية فكرة واحدة ومشروعاً خاصاً فوضوياً مسيطراً رافضاً للمشروع العام التخطيطي المنسجم مع التقدم.
الماركسية تغدو أداة للحرية وحقوق العاملين ثم تغدو زنزانة لهم حين تصيرُ بيروقراطية إستغلالية.
الفكرة تغدو متطورة حين تكون على علاقة وثيقة ديمقراطية بالناس، تتغذى من أسئلتهم ونقدهم، وتوسع من فهمها لتكتشف جوانب جديدة من التقدم الذي لا يتوقف.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 12, 2022 14:00

June 10, 2022

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : لماذا يموتُ الشعرُ؟!

عبـــــــدالله خلــــــــيفة :  لماذا يموتُ الشعرُ؟!

حين تكف النساءُ عن ولادةِ الأبطال، ويتشاجر الرعيانُ الرواةُ على أثمانِ الأحمال فوق ظهورِهم، ويتوارى منشدو العرضاتِ والأغنياتِ والقصائد وراء مساومات وبنادق وبضائع رخيصة في جبال القرى والأرياف والبوادي، تعقرُّ النسوةُ عن الخصب والحناجرُ عن صوغِ الملاحم!
يعسسُّ الشاعرُ في الظلماتِ مستأجراً قارباً من بَحارٍ فقير يحملٌ آلةً طابعةً كتبتْ منشورات وطنية وأعمالاً أدبية، وكلما أوغلَّ البحارُ في التيه البحري طالب الشاعر الشاب المتدفق بالعواطف الفياضة بالمزيد، حتى أستوى البحرُ تلالاً وهضاباً، ولم يعد ثمة نسمة، أو بصيص من عود كبريت مشتعل، حينئذٍ أنزلَ الشاعرُ الآلةَ الطابعةَ في جوف المياه، والبحارُ يقول له: أليس من الأفضل أن أحتفظ بها في بيتي حتى تكتب عليها أعمالك العظيمة أو يوصل المناضلون الكلمةَ بها للشعب؟ فيرد لا!
حين تتحول الآلةُ الكاتبة وهي المشتراة براتب موظف فقير في أزمنة الشظف في السبعينيات إلى سمٍّ للسمك، يتحول الشاعر لمخربٍ للبيئة، وللشجاعة في الحي الشعبي الذي عبدَ بطولات المبدعين الخياليين.
ذهب الشاعر للسجن بعد صرخة أطلقها في الشارع وقد إنتفخ إنتفاخاً عظيماً، وحصل على بضعة أكف بين الجدران فتاب، وزاد وزنه الكثير من الأرطال، ثم خرج وقد أمحت من ذاكرته صور ما قبل السجن ولكنه لم يترك الشعر الذي صارت فيه الكلمات مثل النمل، الصغير، الدقيق، المنفصل عن البشر والحرائق الاجتماعية.
(غنمي غنمي ما أجملها في موكبِها نحو المسلخ!).
ملأ الشاعرُ السجنَ ضجيجاً، وحولَّ الأعشابَ لسجائر، وقراطيسَ السجائر لنصوص تمتدُّ من السقف للأرض، وبدا أنه عملاق يصلُ للجبال وهو يمشي على السطح البشري المثقوب، لكنه حمل الزنزانةَ داخله، فلا يظهر فيها ثائر ولا رغيف محروق، ولا زقاق بائس.
حين يُضربُ الشاعرُ على رأسه الطفولي ويفقدُ شبابَه الثقافي وتعليمه الروحي ويجثمُّ في الزنزانة مثل الصخور، ولا يبكي، ولا يفجع، ولا ينقد، ولا يَدخلُ أعماقَه ليقرأ روحَه ويمزق وينشر خيباته ويجسدُ ضياع َزوجته وأطفاله ورفاقه ويرفع أصابعه بعلامة التغيير والصمود البلاستيكية الدائمة، يتحول الشعرُ لرماد مستمر تذروه الرياح.
حين يصير الشاعرُ مطرقةً تردد الهتافات في المناسبات فلا تظهر زوجة جريحة له، ولا ابنة ثائرة، ولا رفاق خونة، تتساقط المرئياتُ والملصقاتُ من على جدار البطولة الزائف.
الشعرُ ذروة البلاغة السحرية المتغلغلة في عظام الناس، والتحليل الضوئي للشر والخير، للبطولة والهزيمة، هو مرايا الضؤ وهي تكشفُ جراح البشر، يدٌ رفيقة تنتشل ضحايا الغواصين من بين الأجداث والزجاجات الفارغة للسفن وعلب المراكب الأجنبية التي تسكر فوق الموج والزيت والدم والأشرعة ومن بين المجاديف التي قاومت قنابل الاحتلال، فيعثر على خيط من المقاومة عبر الجثث المتحللة.
الشاعر الكبير يُلقى في الزنزانة سنيناً ويقوم السجانون بمحو ذاكرته والصور من عينيه وروحه، ويُغرق في براميل من المرتجعات والمخلفات البشرية والقيء لكن صور الناس وتجارب البشر تزدهرُ في أعماقه وتزهو عبر السنين وتتطور في خروجه وبكشفه ونقده لما يحيطُ به وتتجسد في عروض مسرحية وملاحم مكثفة. وتصبح علاقته بزوجته مرئية بتفاصيلها ونضبها ثم ببرودها، فلا يخشى الشاعر من عرض عواطفه المتبدلة، وعرض البلد التي إستضافته مُنتقَّدة، ناقصة. فلماذا بقي الشاعرُ التركي الأسطورة يفيضُّ من مادة النور والنار؟
الشاعر الصغير يتحلل، ويتحول لفسيفساء من أشياء، لا رابط لها في معاناة، الأفكارُ الكبرى تصيرُ حشراتٍ زاحفةً في تضاريس يومية مقطوعة الصلات والحياة بالنار الاجتماعية التي تسري لدى البنائين.
كثير ما يموت الشعر العربي لأنه شعر حضري سريع التكون، معانيه مرتبطة بمعاناة سريعة قليلة ضحلة، لا تصل لفلسفة، ويبقى على سطح عاطفة يومية، يصعب عليه أن يقيم علاقات مع رموز تراثية وصراعات إجتماعية، ويغدو فردياً محضاً بلا إشتغالات الفرد العميقة من وجود ومجتمع وكفاح.
حين تتجمد يد الطليعة الشاعر عن الاتصال بالألم البشري ينطفئ ذلك التنور مصدر العلاقة بالانتاج الخصب.
حين يقطع الشعرُ علاقاته بالتناقض الاجتماعي الروحي الفلسفي يلغي القطبيةَ الكهربائية مشعلة الصور ويصير فحماً لكنه لا يصلح لبرد الشتاء ولا حر الصيف.
يعيشُ الشعر على الخصال العالية، على التضحيات الجسام، على البطولات الملحمية، وحين نفتقده نتأسى على حال الأمة.
(نثرٌ يعوي في وادينا أسرعْ أسرعْ يا راعينا)!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 10, 2022 07:20

June 4, 2022

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : شجرة العوسج _ قصة

العوسج
قصة قصيرة


سأموتُ هنا ، قاتلاً ومقتولاً وغريباً . بعيدٌ ذاك الظل والماء المتدفق في عروق الأرض ، وضحكات الجيران والغرفة الأثيرة والموسيقى والزجاجات . تدفقْ أيها الدمُ وذكرني بكل الألم . أخرجْ مني ، ولوني بصفرة التراب . ليتني شيءٌ من العذاب الرقيق وبعضٌ من الموسيقى الخافتة ، وتثاؤب السحاب في المساءِ الباردة ، ليتني لم أغادرْ بيتي ! ليتني صعلوكٌ متشردٌ ، وليت الأماني الساحرة الضابية لم تسكن منزلي . ليت الأيامَ الخوالي ترجعُ لي ، سأقياضها بكل ما أمتلك . جاءت الرصاصة واستقرتْ في صدري . تركوني ومضوا يفحصصون التلال ، كان كلُ شيءٍ هادئاً في البرية ، لم يكن ثمة أشرار أو لصوص أو صعاليك . تطاير الحصى من تحت سنابك الخيل وانتشرت الضحكاتُ والزهرات البرية والقبراتُ ونتفُ الغيومِ الربيعية ، وغدتْ الأرضُ المترامية في قبضة البصر ، وكأن كلَ البشر تحت رحمة بنادقنا . . وفجأة بانت شجرة العوسج الكئيبة كبصقة الشيطان ، وأحاطتنا التلالُ كعصابةٍ من العمالقة . أنشق الهدوءُ في لحظةٍ ، ودوى صوتٌ مألوفٌ وانفجر الألمُ في روحي . نصلٌ حادٌ مسمومٌ يتحسسُ جلدي ، أشربُ برودته ومرارته . وأحسُ به يتوغلُ في عروقي ، كبرقٍ يشعلُ أوردتي الجافة ، ويوقدني . . من سيدثرني هنا ؟ الريحُ خافة ، والرملُ باردٌ كأيامي الناضبة ، والشمسُ طفلة مريضة بين الحياة والموت ، والتلالُ شواهدٌ لقبرٍ هائل ، والسماءُ الزرقاءُ وجهٌ غريب ينتظر موتي ليضحك بملْ القلب . . وشجرة العوسجِ كغدر الزمان ، سأضحكُ وأضحك وأنسى شجرة الرمان ، بعيداً عن الحارة العتيقة ، بعيداً . . اطاردُ أصدقاءها وأعدائي ، ليس ثم أمل لهم الآن . لأنسَ الألمَ لحظة . ترنحَ الهدوءُ وترنحتُ ، وطالعوني وطالعني بأسى . هذا الوجهُ الصديقُ تحولَ في وقت الأفتراق . كأنه أدرك أن لا لقاء بعد الصوت البغيض الذي انفجرَ بيننا . أفي هذه الساعة تتركني ؟ حسناً ، إنني لن أبكي ، لن أمدَ يدي . أتقبل هذا المصير البشع وأموتُ هنا هادئاً ، جافاً ، يابساً .
في تلك الليلةِ الرديئة . . كنتُ قد اختنقتُ . أحاطتْ بي الخطوبُ وتشعبت الدروبُ وانهرتُ في الظلام . وبحثتُ في جيوبي عن قطعة نقدٍ فلم أجد . يا للبرد ! وسرتُ في الطرق وأبصرتُ البيوتَ الكبيرة المتألقة ، وسمعتُ الموسيقى الخافتة ، ودندنة الكؤوسِ وسألتُ نفسي : لم هذه الوريقات التي أحملها ؟ ما فائدة الكلمات لحياتي ولتلك الفتاة ولفقري وجوعي ؟ ودندنتْ الموسيقى وتخيلتُ الغرفَ الواسعة المريحة وخزائنَ الخمر والسيارات الدافئة والمقاعد الوثيرة والحدائق وسمعتُ النساءَ يضحكن فتذكرتُ فراشي العابس . لم ألقيتُ بنفسي في هذا الطريق ؟ إنهم يبحثون عنهم بدأب ، لعلهم ذابوا في الأرض . يبحثون ولا أحد ، ولكن الرصاصة اتخذت مسكنها في جسدي . كم تحمل هذا الجسد منهم ! ورحتُ أزحفُ . أريد الوصولَ إلى الشجرة . سأضع رأسي على جذعها ، واتأملُ الطريقَ والتلالَ والمدينة البعيدة والذكريات السعيدة الأليمة وأحفرُ قبراً للآمال وأحفر قبراً لجسدي وأحفر قبراً . . الأحجار والأشواك تعوقني ، أسمعُ الصيحات وإطلاق النار ، لا أقدرُ على رفع رأسي ، فمي على التراب ، وها قد انهرتُ واسمعُ فورانَ الدم في أعضائي . ها قد سقطتُ والآمالُ حجرٌ وعشبٌ ورمل . سأموتُ هنا غريباً كئيباً قاتلاً ومقتولاً ومقصدي شجرة عوسج ضامرة في البرية كضحكة ساخرة . ترنحتُ هنا وترنح عالمي ، وترابي دامٍ ، والآخرون تركوني لمصيري . . وحدي . . وحدي . . ادخلوا الرصاصة في أحشائي . دخلتُ بكلي في التنور ، سأنصهر وأموتُ . وانقلبتُ ورأيتُ وجه السماء . . كم أنت بعيدٌ أيها البساط الأزرق !
في تلك الليلة الأليمة خرجتُ متشككاً في كلِ شيء . كانوا قد اجتمعوا تحت شجرة الرمان ، دائرة من الضوء والبهجة . سمعتُ صوتَها الجميل في المطبخ وحين سمعتْ صوتي قذفت بنفسها بلا حساب . أرأيتِ لعبة الأقدار ؟ عيناها في قلبي ، ووجهها القمحي يبذرني ويحصدني . أنت لي ! ولكنني فقير وطريقي محفوفٌ بالصعاب . والشكُ تسلل إلى جذوري اليابسة . أتريدين أن تعيشي في غرفةٍ وحيدة قذرة ؟ لا أملك رصيداً في بنك ، وليس لي إلا غارات وهمية في ممالك الأغنياء . وجلستُ بينهم وأخذتُ مقعدي وأخذتُ حصتي من النقد وامطروني بالأسئلة . ماذا فعلت يا مالك في الصباح ؟ اقرأُ . مذا فعلتْ في الليل ؟ سكرتُ قليلاً في أحد الفنادق ثم تشاجرتُ مع أحد المتسكعين . أين كلماتك ؟ لم أستطع أن أكتبَ شيئاً . نمتُ طوال النهار . ألم تجدْ عملاً بعد ؟ ذهبتُ إلى المصنع وانتظرتُ ساعات طويلة . كنا جمعاً غفيراً ينتظرُ ويستعرُ . ليس ثمة عمل هناك إلا لثلة قليلة . لم هذا التسكع المستمر ؟ إنني لا أمتلك الإجابة . وتدلتْ أغصانُ شجرة الرمان قرب رأسي . ورأيتُ ثمرة ناضجة تزهو بلونها القاني . هذا الدم يغلي بيني وبين الأرض . وهذا الأحمرُ لوني فكيف أنسل مني ؟ !
سأزحفُ ، سأزحفُ نحو الجذع . سأضعُ رأسي بعيداً عن التراب والتقطُ نظرة من الطريق والمدينة . هو أملٌ يسيرٌ فأمهلني أيها المصير . لم تعد القصورُ مطمحي ، نظرة تكفي وحفرة صغيرة . لم هذا التسكع ؟ ! صدقوني إنني لا أعرفُ . في الحارة أحاورُ الناسَ وأكلم الجدران ، وأخلق من غرفتي ملتقى للعابرين الملثمين وأوقدُ النارَ في الليل وأهيم بوجهها ، بسحرها ، وأحسُ أن شيئاً من دمي لم يشتعل . وهذه النقود المضيئة سآخذ شيئاً منها . لا أحد يدري . وفي الغد سأشتغلُ وأردُ الدينَ فمن يدري ؟
هؤلاء الأصدقاء غابوا خلف التلال ، ومزقوا الصمتَ والهدوءَ . حتى هو تركني وذهب ، القى نظرة كالفجيعة وانطلق . لا أثر حتى للخيول . وهذا صوتٌ يستعيرُ حنجرة العاصفة . لم يتلاشوا رغم كل الطعنات والقتلى والموتى . في النظرة الأخيرة رأيتُ النهاية والبداية التي حفرتْ لي قبراً . .
رأى الطلقة تسكنُ الصدرَ ، وأيقن إنني غدوتُ كالحجر والرمل والأعشاب . آه ، دعوني أهجرُ هذا القبرَ وأبني بيتاً فوق السحاب . ليس ثمة أملٌ لي في الوصولِ حتى إلى هذه الشجرة الشوكية . هذه اللعنة المزروعة كالنصل . تقطعني هذه الآلامُ ، تبذرني . . غير إنني لا أصلح للحصاد .
تلك الثمرة المتألقة قطفتها بين دهشة الجميع ، وضعتها على الطاولة وفلقتها فتناثرَ حبُها وبلل دمعها القاني بعض الوريقات ونظروا إليّ بدهشة . ما هذا العمل الطفولي ؟ أعذرو إنني أحبُ الأنسَ في غمرة الفعل . وضحكوا . رأيتُ الثمرة تبكي فذكرتني بالزقاق المظلم ورائحة الدم والجوع والزنازين وغرفتي الضيقة وآمالي الواسعة ، وذهلتُ وتساءلتُ : كيف عشتُ العمر لا أملك شيئاً ؟ جميعهم يملكون وأنا أشحذُ لقمتي من الجيران ! لقد كفرتُ بالجوع ! . . رأيتُ الستائرَ تــُزاح والرجالُ يراقصون النساءَ ودندنت الموسيقى وتعالت الوشوشاتُ وتسربت العطورُ إليَّ وأبصرتُ الحديقة الواسعة والكراسي الوثيرة وتعالى نداءٌ من أجلي ، فحدقت في أطماري الرثة وتحسستُ جيوبي الحالية إلا من ورقات محرمة فتسربتُ إلى الظلام مفزوعاً .
لن أبلغ هذه الشجرة أبداً . ورأيتها تودعني وتبتسم . أنتِ لستِ لي ، أعرفُ هذا . كيف أحببنا بعضنا . إنني مذهولٌ من دئساس الأيام . مرة نلتقي وأخرى ، كلُ مرةٍ أصادف وجهك يفتحُ لي الباب . كل مرة أرى ابتسامتك تحضنني . فصرتُ في حيرةٍ من أمري ، أأنا قادمٌ من أجلك أم من أجل القضية ؟ وألقيتُ برأسي على فراشي ، وقيدني الظلامُ وافترستني الأوهام . لا شيء لدي يا صغيرتي ، لا شيء . . وبكيتُ من همي . هذه الغرفة الضيقة تنهارُ فوقي . وهذه أصابعُ الريبة تبحثُ عن عنقي . كيف سأزيحُ الداء من الأرض وهو كامنٌ في أعماقي ؟ كذبٌ ، كذبٌ ما ادعي . وانهمر العرقُ من جسدي وودتُ لو آكلُ وجهي . ورحتُ أبكي بشدة وأحسستُ بأني اقتربُ من اللحظة التي سأقفزُ فيها . أراها أمامي قاتمة كاللوحة المطفأة . بيني وبين الهوة . . خطوة . لن أدعَ هذا الموتَ يفترسني . سأفترسُ الأشياء .
ها نذا اقتربُ من الجذع ، لدي قوة كافية تمكنني من إلقاء نظرة ورؤية الأرض في امتدادها تحت البصر ، والسماء في انحنائها فوق التلال والمدينة ، ثمة خط أحمر ورائي ، لقد زحفتُ بجنون لكنني لم أصل بعد . آه ، لأتوقف قليلاً وأعب من الهواء وأتلمسُ الأشياء الهاربة من يدي . أين أصدقائي وأ‘دائي ؟ لعلهم ابتعدوا تماماً عن هذه البقعة . يإلهي ، إن هذا الكونَ قبرٌ كبير وأنا جثة وحيدة ! باردٌ هذا التراب . باردٌ هذا المكان . ي لهول الفقد ! لقد تركني ومضى ، اعتصرني ثم نبذني هنا ، وتلك النظرة المتألمة قناعٌ باردٌ وضعه فوق وجهه . ها هم يسيرون بعيداً عني ، توغلوا في الصحراء وتركوني ! إنني ميتٌ لا محالة ، لا جدوى من الرمل والحجر ، لا جدوى من الأعشاب والزهرات البرية والضحكات العميقة والأصوات النارية . تعالوا إليّ أيها الأصدقاء وضعوا رأسي تحت الشجرة . سألقي نظرة ثم أدفنُ نفسي في الظلام . غابت الحارة وجدرانُ البيوت العتيقة . تلك التي طالما سرتُ فيها . كيف هي الآن ؟
في تلك الليلة الكئيبة ، في ذاك الزقاق ، في الظلام ، ظهرَ شبحٌ . رأيتُ وجهه . إنني أعرفه جيداً . لم يزل يدغدغ شيئاً في نفسي . حين أراهُ ينفجرُ باطني فجأة ، وسرتُ وسرت . وظلت خطواتهُ ورائي ، فكأنه انبثق مني . . وقيدني . وتسربت عفونة كلبٍ ميتٍ ، وحدقتُ بي الأزقة وأحسستُ بالتعب والألم . وطافت ببالي أوراقُ النقدِ الملونة والرحلات المريحة والمراقص والأصفر مالك الأشياء . . وتراخت خطواتي وشعرتُ بالتعب يملأ نفسي ويقفني ، وأمسكَ يدي

لا تخفْ يامالك .ماذا تريد ؟أريدك أنت . لم أحضر كي أتتبع خطواتك بل جئتُ من أجلك . جئتُ لأنقاذك . جئتُ لأنر لك الطريق وأحل لاوحل إلى زهر ، لا تجادلني فأنا ألمس يدك الباردة وأصل إلى داخلك .. . .لا تضعْ الوقت . كل أصدقائك سينتهون في هجمة من هجماتنا . أنت ، أنت وحدك الذي أعطيناك الفرصة فلا تضع الوقت .إنني . .إنني أنتظرك غداً في منزلي . في المساء . ألبسْ الظلام وتعالْ . .
المساء ! يا سيدي القمر ابتعد عن ساحة السماء . إنني خائفٌ من نفسي ، مشى العرقُ في طرقاتي ، وخيلَّ إليَّ إنني في حفرة ، أحفرُ وأحفرُ وأهيلُ الترابَ ثم أنهار فيها . . التفتتُ إلى النوافذ والمصابيح . ما الذي يدفعني إلى هذا الدرب ؟ هي كلماتٌ أنثرها وأملأ يدي . . من سيرى ؟ لا أحد يدري ! وأمضي ، أمضي إليه . رجاءاً أيها القمر لا تفضحني . وأنت أيها المصباح الأصفر لا تنظر إليّ بهذه العين المستطلعةها قد جئتَ . .
لو أن أحداً يأتي ، لو أن عصفورة تغرد ، لو أن الأيامَ الغابرة تعودُ ثانية وأنهضُ نحو الحارة ، وأدخلُ بوجهٍ آخر . لن ألبس قناعاً ، بل سأكشف صدري . أفتحه للضوء وأطرد . . لو أن الأشجار تحبو إليّ ، لو أن المنزلَ القديمَ يفتحُ بابَهُ ويدعوني تحت شجرة الرمان . لو أن أهل الحارة . .
وأوصدتِ البابَ في وجهي . وتراءى لي أن وجهكِ الرائع مشوبٌ بالغضب . وأنتِ التي . . في الوقت الذي ملكتُ الأشياء فيه . . أبتعدتِ . ولكن كيف هذا ؟ افتحي البابَ ، أفتحي الباب . . إنني ميتٌ خلفه . أفتحيه وخذيني ، موحل اليدينِ ، بارد الشفتين . لم أحضر لكي أقبض على أحد . بل جئتُ إليك . . أفتحي الباب .
وحدي في الطريق . إنني فارغ اليدين ، أمتلكُ رملاً وأحجاراً وأعشاباً . ها قد وصلتُ إلى الجذع ، وها قد استقرت الأرضُ تحتي ، بلا سلاح ، بلا أفراح ، والسماءُ انحنت فوقي ، كالجراح ، والتدفق الأحمر نضب .
لو كان الرملُ رماناً . . ! الأغصانُ لعناتٌ محدقة ، والأشواكُ كالحراب . . آه ، كيف جئتُ إلى هنا ؟من مجموعة(الرمل والياسمن)سجن سافرة١٩٧٨مالك بن الريب التميمي يرثي نفسه https://youtu.be/cZwFQKKcAUE
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 04, 2022 18:51

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : رجب وأمينة _ قصة

على الرابط أدناه :

https://drive.google.com/file/d/14FQl5xkn1LbdN3miq2zChFBr6KZ8XJu1/view

جنون النخيل »قصص«، دار شرقيات، القاهرة 1998.
❖ القصص: بعد الانفجار – الموت لأكثر من مرة واحدة! – الأخوان – شهوة الدم – ياقوت – جنون
النخيل – النوارس تغادر المدينة – رجب وأمينة – عند التلال – الأم والموت – النفق – ميلاد.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 04, 2022 18:30

June 2, 2022

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الأصنـــــــــــــــــــــــــــام

دهشة الساحر : الأصنـــــــــــــــــــــــــــام

اصطدمت جبهة الحاج مهدي وهو يصلي بشيء صلب .
كان حقلهُ الصغير قد توارى بزحف الظلام ، ولم تظهر في السماء حتى شرايين أخيرة للشمس ، ولجأت الطيور إلى البيات ، ولم يرتعش في الحقل سوى قنديل في عريش مفتوح لكل الجهات .
تغلغلت يده في التراب . ثمة شيء ثقيل يرفض دغدغة الأصابع .
تسلط ضؤ القنديل على الحفرة ، فتدفقت أحجارٌ غريبةٌ ؛ أطباقٌ وجرات وبشر مشوهون حولهم حيات وأغصان.
فكر: إنها أشياءٌ واضحة ومخيفة، إنها أصنامٌ!
روعته الأحجار والثيران التي تبول على يده . تجمد على حائط شجرة، والقمر المكتمل المشتعل بدماء القرابين يصعد من الشرق ، متعالياً فوق الحقول وهوائيات البيوت .
نظر إلى الحقل الميت في العتمة .
لماذا لم يعطه بكل روحه ، لماذا عجز عن إنقاذ ولديه وألقاه كوخاً هزيلاً في أقصى القرية ، صديقاً لمقبرة ؟ لماذا تكسر فأسه وعمره فوق برسيمه المنتشر الرخيص وطماطمه المتكاثرة البائرة فجأة ؟
قرأ الآيات وعلق الاحجبة وبكي للحسين ووزع بقايا الأرغفة على العصافير غير أنه بقى ذلك السطر الموحش بين البرسيم والتراب . الآن انكشف السر، وفاحت أعماق الأرض بمكنوناتها الخبيثة .
طالما حذره أبوه من جوف التربة وطوابقها الداخلية قائلاً : لا تضرب الفأس بحدة. باسم الله الرحمن الرحيم . علق الأشرطة الخضراء على الأشجار . لا تعمل في الليل والوفيات وأعط السادة حقوقهم !
بعد كل هذا ، بعد ثلاثين سنة من دوران الثور حول الساقية ، تظهرُ الشياطينُ من الأعماق ساخرة ، مقدمة أغصانها وملابسها ، مطلقة القهقهات في العتمة !
أطفأ النارجيلة بيده شعاع القمر ليسير به في جنبات الحقول والبساتين النائمة، حيث لا توجد سوى الجنادب تصرصر في كل مكان ، مؤنسة وحشته الضارية.
تقلب على فراشه ، وتخشب وسط ضجة البيت وبين روائح بيضه وشايه وحقائب الأولاد ، وتعكز على ما بقي من قلب ليقلب التربة ، ويطارد الأبالسة في عقر دارهم .
لكن السطر الأخضر الترابي لم يعدله . كان مدججاً بالسلاح والوجوه والملابس الغريبة . أناسٌ يحيطون بالأرض وآخرون تغلغلوا فيها ، وآخرون يسيجون الحقل بأسلاك شائكة .
لم يفهم أحدٌ لغته، وتركوه خارج البرسيم والحمام ملقىً قرب نخلة عجفاء .
نقلوا الجرات والأصنام والكؤوس والسهام . تشوهت التربة وانهار عريشه المفتوح على الجهات ، ورُميت النارجيلة ، واختفت الفأس ، وصمت البئر والعصافير، وتساقطت اللافتات الخضراء ، وكادت أسنان الأسلاك الشائكة أن تأكل لحمه وهو يحضنها ليطالع فعل الشياطين في روحه .
مرميٌ وراء الحقل، يرى خضرواته تصّفر ، ووجه جديدٌ ينقبُ بهدوء في أحشاء التراب .
لمسةُ سكينه هادئة ، كأنه يوشوش الأرض ، يناغيها بود ، ويحفر تحت الشمس الساخنة، وفي هوجة الريح والغبار ، وفي اقتراب المساء البارد .
أيامٌ وذنيك الجسدان يتواجهان بين ضفتي السور.
كان الأثريُ يرى مهدياً كإحدى المأثورات التي قذفتها التربةُ .
والفلاحُ يشاهد الرجل كحشرة دائبة التنقيب في جلده .
يتصور مهدي إن كل ذلك المهرجان قد تم لإنقاذ أرضه ، واستخراج الأرواح الشريرة من باطنها ، وجعل النخلات مزهرة ، وإطلاق سراح الينابيع الصافية ، وإلقاء الأصنام في محرقة .
وأخذ ينتظر .
كان الأثريُ يتطلع إلى الرجل الجالس تحت النخلة ، فيراه كجذع لها ، ويراها كقمة له.
اعتاد أن تشق المعاولُ أجساد الحقول ، وأن تنثر أمعاءها وأيديها عبر الفراغ الشاحب للزمن ، وأن تحمل صناديق خاصة تلك الكنوز إلى ما وراء المدن والبحر ، صانعة جنات ورافة لمن يحملونها ويبيعونها بعيداً وسراً .
اعتاد على ركض الرجال القرويين وتفتت أقدامهم قرب تلاله الدموية ، وكم من مرة نزف وكتب ورقة ليستبدل أحدهم أرضه بقطعة ترابية ضائعة وسط البرية ، أو ليحصل على ثمن لكفنه وجنازته .
ويبدو الشبحُ الجاثم أمامه كشكل مروِّع للصدمة والغياب .
جلس معه . أعطاه بقايا الأرض التي لم تدهسها أنصال المعاول ، وأسند عريشه معه ، وجثما تحت الظل وقرب النارجيلة الفائرة بالحرارة والألم ، يتحدثان .
كان مهدي لا يكاد يفهمُ ما يقوله الرجل . إنه يزعم إن هذه البقايا الآثمة المروعة تــُُـنظفُ وتبجلُ وتــُوضع في علب زجاجية مضاءة ، وإن قوماً غرباء يأتون وينحنون لها، يدفعون أموالاً ويقعدون قربها مأخوذين خائفين !
أرتعد ، والأثري يصور أدغالها تحت الأرض ، حيث تمتد إلى ما وراء سوره، وسوف تقلع بئره ، وتمضي شرقاً ناثرة شظايا الحقول والأكواخ والصدور .
ضرب على رأسه وصاح [ يا ويلي ! ]
لم تبق أية مدخرات في صرة زوجته ، والأكل سينفد كله بعد أيام ، والرسالة التي حملها دائراً بها على الوزارات والأقسام، تذوبُ من العرق والأختام ، وهو حائر ، متخثر الأعصاب ، زائغ النظرات ، في شوارع المدينة ، يحضنه مصران قهوة ويلفظه باصٌ مع الغازات والدخان .
تتآكل قدماه قرب حقله المهدم السور الآن ، الذي تعالت فوقه تلالٌ وتغلغلت فيه وديان ، وتكومت نخيله وأشجاره وعصافيره وأخيلة مآتاته فوق بعضها منتظرة شاحنة .
يعزمهُ الأثري على غداء . يقوده في سيارته بعيداً عن الكآبة. يعطيه معولاً وأجراً لنشر كومات التراب والأحجار والرموز.
يزيح الرمل ويرى بقايا جذور نخله ، وأبنية تتفتح عن معبد وجماجم وخواتم .
يتجول بين شواهد حريق ، وأيد مرفوعة للقمر ، وألسنة نارية مهولة تأتي من الفضاء وتنصب فوق الرؤوس ، وتتعالى الصرخات وتتصادم الأجساد ، وكرات الحمم تنقضُ فوق اللحم ويتصاعد البخور البشر .
الثيران تسير نحو بقعة ضؤ ضائعة في السماء ، والأبدانُ تنحلُ محروقة الجلد والروح ، تصرخُ عبر الزمان، وصياحها يتخثر في الفخار .
مهدي يحملق في الأثري وهو ينزل به إلى جوف المحرقة ، وكأن الصياح يتعالى والجمهور يرفع أيديه ، ثم يزول ولا تبقى سوى كومة العظام المتفحمة تضع إشارات أخيرة على الجدار .
من قلب القمر ، ومن الضوء الساطع على قرن ثور يكدح في الأرض ، ويصير شعاعاً معلقاً وآهة ؛ يرى قريته بسنابلها وأيديها المرفوعة إلى السماء ، علّ رحمة تنقض، ولا شيء سوى الرماد والخطوط السهام المتوغلة في الجلود، والبشر سمادٌ مغذيٌ للحياة.
في حلمهما المشترك، مد الأثريُ جرةً ثقيلة عليها نقوش وعلامات تجارية حديثة . طل فيها وكانت كالبئر الواسعة ، رأى قطعاً ذهبية على شكل حيات.
لم يعد ثمة موطئ قدم لبرسيمه، وعريشه المفتوح صار جريداً ملقىً . وأبناؤه سحبهم من المدارس وغلغلهم في الأسواق والمحاجر والطقوس .
وبدأ يهوم على أسنة الشمس المسنونة في المدينة .

الأصنـــــــــــــــــــــــــــــــــام
قصة قصيرة من مجموعة دهشة الساحر

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 02, 2022 09:23

June 1, 2022

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : قراءة نقدية فى ” سهرة “

الأنطولوجياد . محمد عبدالحليم غنيم

عبد الله خليفة كاتب بحريني بارز تجاوزت تجربته القصصية دائرة القطرية , ليصبح صوتا مسموعا ومميزا بين كتاب القصة العربية ، فرصيده الأدبي تجاوز العشرة كتب بين قصص قصيرة وروايات طويلة ، وتقف هذه الدراسة عند مجموعته القصصية “سهرة” لعلها تلقي بعض الضوء أو تفتح نفقا نلج منه إلى عالمه القصصي بما يتسم من فرادة التجربة وإحكام البناء السردي وشعريته .

تضم مجموعة “سهرة” عشرة قصص هي على التوالي : السفر ـ سهرة ـ قبضة تربـ الطوفان ـ الأضواء ـ ليلة رأس السنة ـ خميس هذا الجسد لك ـ هذا الجسد لي ـ أنا وأمي ـ الرمل والحجر .

وإذا كانت القصة والمسرحية تقدمان الرجال والنساء فى مواجهة بعضهم البعض بصورة تبدو شديدة القرب مما هي عليه الحياة الفعلية ، وتلك هي الميزة الكبرى للأدب على سائر فروع المعرفة الأخرى ، فإن عبدالله خليفة فى هذه القصص لا يجعلنا نقترب من شخوصه فحسب ، بل إنه يسمو بهذا الواقع ليصل إلى مرحلة الأسطورة ، وهذا راجع إلى قوة الخيال لديه من ناحية ، وإلى الاعتماد على رؤية سردية ـ سواء كانت ذاتية أو موضوعية ـ تتلاءم وبناء الأحداث والشخوص القائمة بها ، ففى قصة “السفر” يتخذ الراوي العليم رؤية سردية خارجية ، تجعله يتحكم فى بناء الأحداث وتحريك الشخوص والاقتراب من دواخلها مع استخدام لغة تلتقط ألفاظها من تخوم الشعر والتراث السردي ، ويتضافر كل ذلك لتقترب الأحداث من الأسطورة أو الحكاية الرمزية ، فثمة رجل بعد خمسة عشر عاما قضاها فى السجن ثمنا لكنز سرقه وخبأه فى أحد البيوت ، يخرج باحثا عن هذا الكنز ، فيكتشف أن بيته الذي يضم الكنز يضم أيضا امرأة جميلة وولدين ، فيحاول التودد إلى أهل البيت ، وينجح فى ذلك ويذوق رحيق المرأة ، وكأنها الكنز البديل ، ويتزوجها ولكنه أبدا لا ينسى كنزه القديم ، وذات ليلة بعد أن مل البحث عن الكنز يرى صورة الزوج السابق ملقاة على البساط قربه ، ولأول مرة يرى شكله واضحا ، إنه يبتسم وكأنه يهنئه بامتطاء فرسه ، صعد ذلك السؤال الغريب المفاجئ النائم تحت قمامة أيامه كيف لم يسألها أبدا عن ذلك الأب الغائب المسافر الذي لا يرجع .

ضمته إليها وقالت : لا أعرف ماذا حدث ؟ ذات يوم رأيته يعثر علي شئ في الجدار المتساقط صمت يوما كاملا , ثم زعم أنه سوف يسافر لزيارة قريب له , بعد أن أغلق الباب لم أره بعد ذلك أبدا. سمعت مرارا عنه , قيل أنه مرة في الشرق ومرة في الغرب ن لا أدري ماذا جرى له .. لماذا تسأل ؟ ” ص 10 .

وهكذا يقترب الواقع من الأسطورة ، فكم من رجل عاش حياة بديلة ومغايرة لم يحلم بها ، لكن ترى هل يرضى البطل بهذا الكنز / المرأة ، أظنه قد رضي ، لأنه سفر من نوع آخر وليسعد الزوج برحلاته شرقا وغربا .

وإذا كانت الرؤية السردية الموضوعية قد أتت ثمارها بالكشف عن فحوى السفر فى القصة السابقة فإن لجوء الكاتب إلى الرؤية السردية الذاتية فى قصة “سهرة” مكنه أيضا من تحقيق أهدافه وبناء قصصه ، وتعد “سهرة” من أجمل قصص المجموعة وأقواها من الناحية الفنية ، لغة وبناء ، حيث يمتزج صوت الراوي المخاطب بصوت الراوي العليم بالمونولوج الداخلي ، إننا أمام تقنية مركبة ومعقدة ، بيد أنها فى النهاية تبقى معادلا فنيا أو شكليا لمضمون القصة السياسي ، فالقصة تدور حول شخصية رئيسية لشاب عاطل عن العمل يعيش فى وسط اجتماعي فقير بين أم و أب عجوزين ، والأب شبه عاطل ، فيذهب إلى البار ويشرب يائسا ، لذلك فهو متأكد من أن نهايته ستكون فى قاع أحد السجون ، لكن الأمر يتخذ منحى آخر عندما تطل عليه عجوز متصابية وتجلس بجواره فتدفع له ثمن الخمر والطعام ثم تأخذه إلى بيتها ليقضي ليلة فى سريرها ، وفى اليوم التالي تعطيه ثلاثين دينارا وتطلب منه المجيء ليلا ، أما الآن فعليه أن يخرج لأن زوجها قد حضر ، وعندما يسمع كلمة الزوج يخيل إليه أن السجن أفضل من الموت ، ولكن المفاجأة أن الزوج مثل زوجته العجوز ” اقتربت السيارة منه ، توقف له . رأى العجوز يبتسم ويغمز بعينه أيضا ، بصق عليه واندفع يجري إلى بيته ” ص 20 .

وفى البيت يتناول حبلا ويبدأ فى شنق نفسه ، إلا أنه يسمع فى اللحظة الأخيرة صوت أمه وخطواتها القريبة :

” ـ أين أنت ؟ ألا يجب أن تذهب لتهنئة صديقك الملعون بسلامة الوصول ” ص 20 .

وما الصديق الملعون سوى الشاعر الذي كان يستحضره الراوي / البطل أثناء الأحداث سواء وهو فى البار يشرب أم مع المرأة فى سريرها . إن عودة الشاعر المطارد من السلطة والمغضوب عليه سالما ، لها دلالتها الواضحة ، إن السلامة هنا دليل الخيانة ومؤشر إلى تخليه عن مبادئه وقيمه التي عاش يناضل من أجلها ، تماما مثلما فعل الراوي وذهب مع العجوز وعاد بثلاثين دينار .

لعلنا أطلنا الوقوف عند هاتين القصتين ، والواقع أنهما تستحقان أكثر من ذلك ولا يعني هذا أن باقي القصص تقل عنهما أهمية ، أو أقل منهما من الناحية الفنية ، فقصص المجموعة عامة متقاربة من حيث المستوى الفني ودرجة النضج ، ونتوقف الآن عند أبرز السمات الفنية والتقنيات التي تميزت بها قصص المجموعة .
1 ـ توظيف العنوان :

يوفق عبد الله خليفة فى استخدام العنوان المناسب لقصصه ، عندما يستطيع هذا العنوان أن يلخص المضمون أو يؤشر على مغزى القصة ، كما هو الحال فى قصص : الطوفان ـ قبضة من تراب ـ الأضواء ـ الرمل والحجر ، ونقف عند العنوان الأخير ، فنجده يؤطر المضمون والشخصيات والأحداث ، فأحداث القصة تدور بين الرمال والحجارة والشخصيتان الرئيسيتان كأنما خلقا من رمل وحجارة ، فمظفر البدوي يعيش حياته وسط رمال الصحراء مهشما وطريدا من قبل السلطة ، وهو فى النهاية ليس سوى حبة رمل فى عزلته ووحدته ، أما الشخصية الثانية ، عالم الآثار المهتم بالحجارة والمدينة الحجرية المدفونة تحت الأرض ، يتمسك بالحجر رغم العاصفة و التراب ، ثم أنه فى النهاية لن يكون سوى حجر بالقياس إلى مظفر ذرة الرمل ، وهكذا يقترب العنوان فى هذه القصة من بلورة الرمز التي توحي وتومئ إلى المضمون ، هذا إلى جانب قيمة الرمز الإيحائية المولدة للمعاني وهذا لا يمنع من الإشارة إلى أن المؤلف لم يكن موفقا فى اختيار “السفر” عنوانا للقصة الأولى وكذلك “سهرة” للقصة الثانية ، أجمل قصص المجموعة كما أشرنا سابقا .
2 ـ هاجس المجاز وشعرية القص :

حين تقترض لغة النثر بعضا من اللغة الشعرية فإنها لا تفعل ذلك بطريقة مرضية تفضي بها إلى التماثل أو المطابقة ، بل تحاول أن تتحرك بهاجس داخلي شعري رؤيوي يكسر الكثير من عادات النثر وثوابته ، ويلعب المجاز دورا حاسما فى خلق هذا المناخ الشعري فى قصص عبد الله خليفة ، وهو هنا لا يوقف حركة السرد بقدر ما يساعد على الدخول إلى حنايا الشخوص والأحداث ، بل يسمو ـ كما أشرنا ـ إلى مرحلة الخيال الأسطوري . ولنقرأ هذه الفقرة من قصة “السفر” :

” وتدعوه المرأة الشهية ، ويدهش لهذا التجدد فى النار ، وتحول الكثبان إلى رمان ، وهو يسبح فى حياة رقراقة ، تشتعل حينا وتتجمد حينا ، ويرى البراري والجبال والتماثيل والكركدن يتقافز فى فضاء من القمح المشتعل ” ص9 .

هذه اللغة المشحونة بالمجازات المتنوعة وإن أبطأت من حركة السرد فإنها تلج بنا إلى أعماق الشخصية لتصورها لنا من الداخل وفى ذات الوقت ، تحدد لنا خط سيرها فى الأحداث فنستطيع أن نتوقع ماذا ستفعل بعد ذلك . ولهذا لا يمكن حذفها ، فهي عنصر بناء القص والواقع أن عنصر المجاز قيمة سائدة فى جميع قصص المجموعة ، بيد أنه يوظف بدرجات متفاوتة ، وهو يستحق مقالة كاملة واحدة .


3 ـ شخصيات خارجة على القانون :

يقول فرانك أوكنر “يوجد فى القصة القصيرة دائما ذلك الإحساس بالشخصيات الخارجة على القانون التي تهيم على حواف المجتمع ، والتي ترمز في بعض الأحيان إلى شخصيات من أمثال عيسى وسقراط وموسى حيث تكون كاريكاتيرا وصدى لها ” (1) . وهذا ما نجده فى معظم شخصيات المؤلف ، فثمة الخارج من السجن فى قصة “السفر” والعاطل عن العمل فى “سهرة” وأيضا فى القصة ذاتها الشاعر المطارد والهارب من السلطة هائما فى الصحراء فى قصة “الرمل والحجر” وغيرها ، وكلها شخصيات تؤكد مقولة أوكنر أنه للقصة شيء لا نجده فى الرواية ، إنه الوعي الحاد باستيحاش الإنسان “(2) . وهي فى الواقع شخصيات مرسومة بعناية بحيث تبدو فى المشهد القصصي مؤثرة وذات استقلال ، مما يجعلها حية فى الذاكرة وإن لم يسمها الكاتب ، وهذا ـ فى رأيي ـ يرجع إلى اتكائه على رؤية سردية خارجية تمتزج غالبا برؤية سردية داخلية .
4 ـ بناء القصة القصيرة والحبكة التقليدية :

إذا كان هناك من يدافع عن القصة القصيرة الحديثة بأن لها حق الادعاء بامتلاك البناء القصصي المستمد من الحبكة ، وأن بناءها لا يختلف كثيرا عن بناء القصة القديمة والنمط التقليدي ، لكن أسلوبها الفني مختلف ، وهذا الاختلاف فى الأسلوب غالبا ما يدعو القراء والنقاد إلى الوقوع فى خطأ كزنها خالية من البناء . إذا كان ذلك كذلك فإن الكاتب لا يجعلنا أبدا نقع فى هذا الخطأ ، لأن قصصه فى هذه المجموعة تتميز بإحكام البناء ، ولا نقصد البناء التقليدي ، ولكن دائما ثمة بناء محكم ، يمتلك حبكة قائمة على صراع ومؤدية إلى فعل ، وان هذا الفعل متسلسل ومتعاقب ، فهناك شيء ما يتكشف ويتنامى عن طريق سلسلة من التعقيدات بغية الاستثارة ، وينتهي هذا الفعل بحسم الصراع وبذلك تكتسب القصة وجهة نظر ولعل حسم الصراع بهذه الصورة هو العامل الرئيسي وراء استخدام الكاتب خاتمة تأتي دائما متسقة مع بناء القصة ومضمونها .

ولنأخذ قصة “الأضواء” نموذجا فنجدها تدور حول شخصين حسن ومرتضى اللذين يحلمان بالسفر إلى دول الخليج ، لم يقل الكاتب من أي بلد هما ، ولكنه حصر الحدث الرئيسي فى صراعهما مع الطبيعة الممثلة فى مد البحر وصخوره الجارحة ، فالشخصيتان استطاعتا أن تركبا مع الأغنام فى قاع سفينة شحن وذلك بالاتفاق مع ربان السفينة ، وفى الطريق بالقرب من المدينة ذات الأضواء المبهرة ينزلهما الربان ويكون عليهما أن يخوضا المياه الضحلة حتى يصلا إلى المدينة بعيدا عن دوريات الشرطة ، ولكن القدر كعنصر خارجي من عناصر الصراع يجعلهما يغفوان قليلا ، وعندما يصحوان يأتي مد البحر بمياهه وهكذا يقاومان الموج حتى الموت ، “والأضواء البعيدة تنتح جسرا مد أصابعه ، مد ذراعه وأمسك الهواء وسقط فى المياه الغامرة ” ص45 . وهكذا يحسم الصراع بين الماء وكان مرتضى قد سقط قبله بدقائق .

إن عبد الله خليفة فى هذه القصة يسمو بالطبيعة بوصفها طرفا فى الصراع الدرامي إلى درجة الرمز ، فلا يتوقف صراع (حسن ومرتضى) مع الطبيعة فحسب ، بل إنه فى الواقع صراع مع الأضواء رمز الحلم والثراء والخداع أيضا .

الهوامش :

1 ـ فرانك أوكنر : الصوت المنفرد ، ترجمة محمود الربيعي ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ، القاهرة 1969 ، ص 14 .

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 01, 2022 19:28

May 28, 2022

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : جريدة النور

على الرابط أدناه …..

https://alnnour.com/?p=50050

على الرابط أدناه …..

http://www.alraafed.com/2017/08/17/11679/

  كتب  الرفيق : حسن جاسم رضي

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 28, 2022 19:06

عبـــــــدالله خلــــــــيفة؛ نفعية في الكتابة


يقولُ بأنه توقف عن الكتابة الأدبية التي بدأ بها، وكانت هي فرحة عمره، وتفجر روحه!
ثم صارت الكتابة سلماً للحصول على المنافع، ويقول بأنه نجحَ في حياته العملية، فقد أنشأ بيتاً بفضل تلك الكتابات التي يغلبُ عليها التصبيغ، وصارت لديه حياة منزلية محترمة!
بين أن يكون الإنسان واعداً في الكتابة والخلق الإبداعي، ثم يتحول إلى سمسار كلمات، هوة كبيرة، بسبب أن كتابة الإبداع احتاجت منه أن ينغمر في حياة الناس وآلامهم، وأن يكتوي بمعاناة جعلته يقدر أخلاقياً قيمة الكلمة، وأن لا تهمه المنافع المادية إلا بقدرِ أن تغدو معاشاً يجدد خلاياه على المقاومة والبحث والقراءة!
لكن حين صارت الكتابة سلقاً، وتحبيراً لأوراق المدائح المستمرة، فصار المبدعُ خادماً، وغدا المناضل سمساراً، وأصبح التفكير في المردود المادي مهيمناً، فلم تعد المشكلات والقضايا والبشر لها أهمية بقدر ما تملأ جيبه وتكون له سلالم للصعود!
ولهذا لم تعد القصة التي كان يتحرق إلى صناعتها مهمة، وصار يقول (الناس لا تقرأ ، الكتب كاسدة ، لماذا نضحي من أجل أناسٍ لا يفهون . يا أخي البشر حيوانات كلُ يعمل من أجل جلده ورزقه فدع عنك المثاليات!).
وكل ما نجح وأزداد ثراءً أنحط أكثر، صار مثل الطبل الأجوف، كلماته هي نفسها، غير قادر على صناعة أي جديد، لا يعبأ بقراءة، ولا يهتم بأحداث حارقة..
بل صار المهم لديه الاهتمام بأخبار الفنانين والفنانات، باعتبارها ذروة اهتمام المجتمع، ومحل القضايا الساخنة فيه!
فأين ذهب كتاب المساكين لدستويفسكي أو الحرب والسلام وعناقيد الغضب، كلها بيعت في السوق ، ولعجبه فقد اشتراها الناس بأغلفتها الممزقة!
صارت شعاراته مثيرة للقرف:
أكذب، أكذب حتى يحبك الناس! طبلْ لأصحاب النفوذ وكنْ تحت أجنحتهم الوارفة بالخير حتى تتساقط عليك أوراق الملكية والثلاجات والغسالات!
ماذا أفادنا الكادحين والمناضلين، لكن الذهب عند ملكات الجمال، والتذاكر المجانية لدى المقاولين الذين لا يصنعون بيوتاً مطابقة للمواصفات، ولدى مدراء البنوك الذين حين تمدحهم يقدمون لك قروضاً بلا ضمانات!
وسعْ نشاطك في هذه الأوراق الصحفية، وقابل المتنفذين والمدراء وأصنع إعلانات تحريرية، وأخباراً نجومية، وأحط نفسك بهالة إعلامية وباقة من الورد الجورية، فيزدهرُ دربُك بالمعاشات التقاعدية المبكرة وتتجاوز صفوف المنتظرين في الطوابير الإسكانية!
إذا أردت أن تكون رقماً كما يضيف قولاً فأركض إلى أي دعوة، وأصنع اهتماماً بكل رغوة، وأصنع قلماً مثل جذع نخلة وأكتب به مدحاً وإذا كانت لديك موهبة الشعر فأكتب قصائد فهي التي تفتح الدروب للموائد!
والعجيب أن المتحدث رغم كل ما حباه إياه الوضع فهو حين يكتب أحدهم قصة يُصاب بغصة، ويروح ينشر كلاماً قديماً وبأغلفة مثيرة، ويجلس مع المؤلفين ويناقش بحرارة مسائل الروح العليا والأخلاق الكبرى، فهو يحس بأن الصدق أهم، وأن عظمة الماضي أهم من انحطاط الحاضر، وأن كل الأبهة لا تساوي كلمة صادقة من قارئ!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 28, 2022 17:48

May 27, 2022

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : بووجهين يحمل الدكتوراة وخبرة 40 سنة وهو يلعب على الحبلين … هيلا هوب !

المخادعون

في مصر يُسمى الفهلوي في الجزيرة العربية يُسمى العيار. يمكن أن نصادفه في الحياة الشعبية كإنسانٍ عامي له قدرة على التلون والخداع الساذجين البسيطين، لكن في الحياة الفكرية والسياسية فإنه يضعُ طبقاتٍ مركبةً من المظاهر لكنها لا تستطيع أن تموه شخصَه لأن الانتهازي واضح الملامح غير متجذرٍ في الناس والمبادئ.
انتصار هذه الشخصية العامة في الحياة العربية يعبرُ عن غياب مواقف الطبقاتِ الكبرى الصانعة للتقدم، فلم تستطع القوى التحويلية أن تصنعَ حفرياتٍ أخلاقيةً وفكرية وسياسية صلبة، ولهذا فإن قادةً سرعان ما يتحولون من يسار متطرف إلى يمين متطرف. من تكريس مبادئ الحداثة والعلمنة والديمقراطية إلى تكريس التقليدية والطائفية والاستبداد، أو دحر مبادئ الليبرالية والاستقلال إلى السير مع القوى السائدة.
هذه الهشاشة في المواقف والشخوص تستدعي الحفر المعرفي في طبيعة هذا النموذج ولماذا يستطيع أن يستمر في التقلب واستغلال اللحظات السياسية والأجهزة والتيارات وأن يحيط نفسه بمجموعةٍ أو مجموعات حسب المواقع والظروف.
المبادئ الفكرية الكبيرة كالمادية والمثالية، والماركسية والليبرالية، والوطنية والقومية، لا وجودَ لها في هذه الكائنات التي تعيش على سطوح الوزارات والسفارات والتقلبات والقوى المؤثرة المفيدة ذاتياً، التي تستغلُ عطايا وفوائدَ مرحلية لا تتجذر في تجربةِ شعب من أجل الحرية، أو تجربة حزب من أجل صناعة فكر ومواقف، ولكن بقاء هؤلاء في مجموعات يشير إلى تأصل الفساد الفكري الأخلاقي.
والشعوب العربية تعيش في مفارق طرق حادة مخيفة وأية شعرة فكرية سياسية تدفعها لمواقف خطرة، فتريد حسماً في الانتماء للتغيير والتقدم فكيف حين تتلاعب هذه الشخوص الفقاقيع في مصير تيار سياسي أو شعب أو دولة؟
كيف يمكن التقلب بين الوطنية إلى المحافظة الطائفية وإستغلال دين جماعة للصعود الذاتي؟
إنه تاريخٌ متجذر من (العيارة)، كان العيارون في الزمن العباسي شطاراً ومدافعين عن الكرامة والناس، كانوا ينفصلون عن الغَمر العادي ويؤكدون ذواتاً مستقلة وشخصيات رفيعة، في حين أن معاصريهم إندسوا في التيارات المضيئة من أجل علاقات بسفارات وعطايا دول وخربوا الأزهار النضالية التي تتعب الشعوبُ في إنتاجها من أراضي السبخ والصبار.
إن الانقلابات الحادة من اليسار إلى الطائفية لا معقولة، مثلما تحول الليبرالي إلى تأييد الاستبداد ومسايرة المناقصات المفيدة في الصعود التجاري السياسي كارثة، واستمرار الديني في خداع الناس باسم الإسلام لكي يصعد تجارياً وسياسياً بدلاً أن يحارب أخلاقياً الشرورَ كارثةً وخيمة.
هنا الكتابة وتسجيل المواقف العميقة معيارا، فالجمل المائعة تاريخياً وعدم كتابة البحوث الكاشف لمختلف الظروف تلاعباً.
التدمير في المبادئ والحياة الفكرية والأخلاقية له عواقب أكبر من الأزمات الاقتصادية وخسائر الطوفان، هو هدم للحياة الاجتماعية والسياسية، وتقطيع لشرايين الجماعات.
الشبكة الجماهيرية الشعبية هي المسؤولة عن استمرار هذه النماذج، هي تشاطرها في بعض جوانبها، وتصمت عن أخطائها، أو تعيش لامبالاة تجاه قضايا الوطن والشعب دون أن ترفع صوتها وتوقف السلبيات بشراً وظاهرات.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 27, 2022 18:47