عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 45
April 7, 2023
العقل والحريــــــــــــة
كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
العقل هو الثمار الفكرية الصائبة التي تنتجها القوى الجماعية والأفراد خلال الفترات والحقب والتي تستفيد منها الأجيال، وتوظفها للمزيد من التطور والحرية.
وقد وقع العقل في الجزيرة العربية أسير التكوين الطبيعي القاسي وأسير البنية الاجتماعية التي تكونت في قيود هذه الطبيعة.
ولم تستطع الحضارات القديمة في ما قبل الإسلام أن تنتج نهضة جزيرية عربية مترابطة متكاملة، في حين إستطاع الإسلام ذلك لقيادة مدنه الحجازية إستيعاب العناصر النهضوية للشمال العربي في مبنى تحويلي عربي عالمي.
فيما بعد مكة والمدينة لن تظهر مثل هذه المدن التحويلية النهضوية الشاملة. وعادت الجزيرة العربية لإمكانياتها الرعوية والمدنية المحدودة.
إن العناصرَ الجوهريةَ في العقلانية الإسلامية هي قيام العقل النقدي بقيادة طليعة الجمهور في أعمال نضالية متدرجة وإشراك الجمهور في المنافع الاقتصادية والتطور الثقافي، بالمواد الفكرية والاجتماعية السائدة وقتذاك.
الإسلام كثورة أقام سلطة ليس ثمة بينها وبين الناس حواجز، قام بتوزيع أملاك الغزوات لمنع تركيز المُلكية، أي قدم جملة مفاتيح لدولة غير إستبدادية، وهذا الوضع تغير بعد الفتوحات والإنتقال للشمال العربي.
عنصر التجار الأحرار المتحالف مع الفقراء، شكَّلَ تلك النهضة، ولكنها إنساحت خارج الجزيرة العربية أكثر مما تكرست داخلها.
ولهذا فإن التراكمية العقلانية لن تكون من نصيب الجزيرة العربية، بل سوف تظهر في المدن الجديدة كالبصرة وبغداد والقاهرة.
في الجزيرة العربية فضاء جغرافي واسع، لكن الحرية صعبة، لأن تاريخَ البداوةِ المديد خلق سيطرات كثيفة: فحتى المركزية التي شكلها الإسلام لم تستمر وظلت العاصمة الدينية للمسلمين رمزاً غير محمي في كثير من الأحيان.
إن العقل كأرث فكري وقوانين ومؤسسات سياسية مدنية يحتاج إلى مدنٍ وإلى مدينة مركزية على الأقل، لكن هذا لم يتوفر للجزيرة العربية بعد قرن من الفتوح. فمع تراكم الثروة في بلدان الشمال العربي تفاقم الفقرُ في الجزيرة وخاصة في نجد والبحرين وعمان واليمن. فهل ظهرت إمكانيات للحرية؟
2 –
كان إنتاجُ الجزيرةِ العربية الفقيرة عبر تلك الإقاليم(اليمن والبحرين ونجد وعُمان) هو خلق التمردات والثورات المنقطعة عن خلق التراكمات الحضارية.
لماذا كانت الثورة منقطعة عن العقل؟ لماذا لم تشكل تجارب تراكمية باقية ومفيدة للقرون؟
لقد إعتمدت التراكمية النقدية النهضوية في قلب المدن العربية الإسلامية وفي عالم الخلافة على فئات وسطى من التجار والمتعلمين والحرفيين، وهي القوى التي شكلتْ المدارسَ والتيارات الفقهية والمنطقية والثقافية والفلسفية، وهي التوجهات التي وقفتْ وسطاً بين النظام الإقطاعي الحاكم بخلفائهِ وأمرائهِ وجواريه وبذخه وتمزقاته الكثيرة فيما بعد، وبين القوى الخارجة على القانون الداعية لإنشاء أنظمة خلافة بديلة، وشكلتها في الصحارى، وهي لم تبدلْ نظامَ الخلافةِ الإقطاعي بل جعلتْ من أمرائِها خلفاءَ تفتيتٍ وفقر مدقع.
من هنا كانت الصحارى في الجزيرة العربية هي الملاذُ لهؤلاء وهو أمرٌ كرّسَ الوضعَ المتصحر للعقل في هذه المنطقة الخليجية، وأغلب تلك الفرق قامت على النصوصية الشديدة.
في المجتعات خارج الجزيرة العربية حدثت تطورات خارج القبلية، وحدث تفكك لهذه المباني الاجتماعية، ولكن في الجزيرة العربية بقيت هذه القبلية، ولم تؤدِ تياراتُ التمرد من خوارج وقرامطة وزيدية إلى بلورةٍ مدنية إلا حين إنهارتْ هذه الفرق أو تحولت إلى إجتهادات أخرى.
إضافة إلى عدم التحول هذا تكرست المحافظة الاجتماعية عبر تهميش النساء وهيمنة الأبوية، وسيطرة النصوصية الشديدة.
وجاء تطور المذاهب الإمامية متدرجاً عبر قرون، وبعد فشل الزيدية ثم القرامطة فإن الإثناعشرية قامت بالتطور المديد والتغلغل الاجتماعي في بيئة الفلاحين من جنوب العراق حتى البحرين.
وجاءت المذاهب السنية المعتدلة كومضاتٍ في هذه الأثناء وتزايدت منذ القرن الثامن عشر الميلادي وبأشكالٍ قبليةٍ عسكرية قفزتْ نحو السيطرة على المواقع التجارية والمرافئ.
وضع المذهبُ الجعفري أسسَ نمو الحياة الريفية في المدن الساحلية الشرقية البحرينية بالمعنى القديم، ولكن في هذه الأثناء جاء المذهب الحنبلي بتطوراتهِ ومخضاته من الشمال العربي عبر السلفية الجهادية وتغلغل في الجزيرة العربية وفي نجد خاصة أي في الأقاليم الصحراوية وشكل مناخاً دينياً شديد المحافظة، وبهذا حدث تناقض بين مستويين إجتماعيين وفقهيين مختلفين كثيراً.
علينا أن نقول بإن الإثناعشر تمثل في بعض ما تمثله تقاليد الفلاحين الإحيائية الضاربة بجذروها عبر آلاف السنين، الممتدة من التموزيين مروراً بالمسيحين حتى المسلمين، وهي إعطاء قيم الأرض والتضحية حالات إحتفالية فلاحية قوية، وفي المذاهب السنية الأقرب للبدو والتجار ثمة إنفصال عن هذا الموروث، والاعتماد على النصوصية العقلية مثل الشيعة في هذا المجال كذلك.
يمكن أن نرى في قبيلة عبدالقيس المسيحية قبل الإسلام المسلمة بعده هذا التضفير بين الجذور الإحيائية ومصالح الفلاحين وإحتفالية الأرض المتخلصة من الوثنية كذلك والمتمايزة عن الارستقراطية الحاكمة البدوية.
لكن كان الصراع الاجتماعي السياسي هو الأساس، ومثلت أملاك الفلاحين وأهل المدن مطمعاً للبدو وهي حالة عيش ضارية طالما اعتمدتها القبائلُ البدوية الغازية في معيشتها، ولكنها هنا اتخذت أشكالاً دينية. وهذه أدت لمفارقات وسجون إجتماعية تاريخية للغالبية من المنتجين الشعبيين.
وعوضاً عن أن تنتشر في الجزيرة العربية ثمار الشمال النهضوية جاءتها الإشكاليات الفكرية له، وثمار هزيمة التطورات العقلانية الفقهية.
3 ــ
إنني أقدمُ هذا التحقيبَ الاجتماعي التاريخي بغرضِ التمييزِ هنا بين الإسلام كثورةٍ فتحتْ الآفاقَ النهضوية للعرب وللمسلمين وبين الإسلام كعقيدةٍ قامتْ من تشكلِ أبعادٍ غيبيةٍ ميتافيزيقية وتجسيدات تاريخية سياسية وعبادات ومعاملات بناء على ذلك المنظور الغيبي، فكافةُ حركاتِ الإسلام تبدو نتاجاً للغيب، فيما هي كذلك ثورةٌ إجتماعية بظروفِ البداوة العربية في الجزيرة وقتذاك.
ولكن هذا الفصلَ بين المنظورين لم يكن متيسراً عبر العصور، ولهذا فإن الحركات التمردية كانت محافظة، ولم تقم تمرداتها بشيءٍ عميق يمكثُ في الأرض، بل على العكس أحدثت القلاقل، نظراً لأنها لم تأخذ العناصر النهضوية في الإسلام وتشتغل عليها، وهو الأمر الذي قامت به الحركات الفكرية في المدن الإسلامية دون أن تطوره ليكون حركة تغييرية شعبية.
وعمليات الخلخلة التي قامت بها للعناصر المحافظة في الإسلام لم تُحدث نقلات، فحدث فشل كبير لها، قامت على أثره المذاهب وخاصة المذهب الشيعي والمذهب السني في شرق الجزيرة العربية ، بملء الفراغ المترتب على ذلك الزوال لحركات التمرد.
هذا لا يعني عدم وجودهما من قبل لكن نقصد هنا الانتشار والاكتساح.
اعتمد المذهبان على المبادئ العامة المحافظة عامة، أي لم يطرحا مسائل الثورة وتبديل حال العامة الفقيرة، ركزا على الشعائر والعبادات والفقه الخاص بكل منهما. وخلقا في ذلك تطوراً إجتماعياً مديداً رغم الغزوات والصراعات.
4 ــ
أدت التطورات السياسية في العصر الحديث إلى إنتصار الحنبلية السياسي والاجتماعي في أغلبية الجزيرة العربية، وتحولت لغة التمرد للفرق السابقة المهتمة بالغزو وثماره الاقتصادية إلى هذه الفرقة الحنبلية وشكلت جموداً إجتماعياً كبيراً لأغلبية الجزيرة العربية، فيما حُبست مدن الشيعة في مناطق معزولة أو متقطعة أو متنابذة، حاولت على مدى عقود أن تنفتح على الخارج.
كما قلنا ذلك تشكل من خلال قفزات القبائل البدوية ذات الطابع العسكري، فيما كانت المناطق الريفية ذات إستقرار طويل الأمد. ولهذا حدثت قفزات القبائل البدوية نحو المناطق الساحلية بسرعة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين.
يمكن ضرب المثل بقبائل آل ثاني وآل خليفة وآل صباح، وتتعدد طبيعة هذه القبائل المهاجرة حيث يغلب على بعضها الطابع التجاري المدني كآلخليفة وآل صباح بينما آل ثاني يغلب عليهم الطابع البدوي.
ـــــــــــ
مصادر
ولقد كان طبيعياً أن تتأثر قطر بهذا المذهب نظراً للصلة المستمرة التي تجسدت في كون قطر ذات حدود برية مع الدولة السعودية التي انطلقت منها هذه الدعوة، ولا يزال القطريون يكنون احتراماً بالغاً للمملكة العربية السعودية باعتبارها موطن الإمام محمد عبد الوهاب مؤسس الوهابية، ولا غرو، فإن قاسم بن محمد آل ثاني مؤسس دولة قطر نفسه كان سلفياً وهابياً، وكان الشيخ رشيد رضا يعلم السلفية لأهالي قطر، كما قام بنفس المهمة أناس آخرون في كل من البحرين والهند، وذلك في محاولة للتصدي لموجة التبشير التي أطلق عنانها في البحرين بأيدي مبشرين من الأمريكيين والإنجليز على حد سواء.
المسالم والأناني
ثمة فرقٌ كبيرٌ بين رجل الدين البوذي ورجل الدين الإستغلالي المدعي بالإسلام، ذاك يعيشُ في غابةٍ أو عزلة، وهذا يعيشُ في العاصمة بين الحكام والعبيد والجواري!
هذا البوذي يكتفي بطبقِ أرزٍ صغيرٍ أو بمعوناتٍ محدودة من المؤمنين، وهذا يعيشُ في فيلا أو منزل كبير، بين الخدم والحشم!
ذاك البوذي عاش بين جمهوريات كبرى يدعو للحكمة والتخلي عن الأموال والجواري والضياع وعدم قتل الحيوانات والبعد عن السياسة، وهذا مؤيدٌ لسفكِ الدماء وللتدخلِ في كل ساعة في شؤون السياسة ويطمح أخيراً في جعل إتباعه حكاماً وسلاطين وقتلةً في الشوارع ومتدخلين في الضمائر وحفارين عن الإيمان والكفر!
وفي حين تركَ البوذي الديني السياسيين يشكلون نهضاتٍ كبرى هائلةً في الشرق، حققَ هذا المتاجرُ بالإسلام الكوارثَ والتمزقات لبلدان المسلمين وحروبَ العصابات وتخريب المدن وتضييع الميزانيات وحروب البلدان وحرق الإطارات في الشوراع لينشرَ السرطان والأوبئة بين المسلمين والسكان؟!
انظروا لحالِ الصين التي يعيشُ فيها مليار وثلاث مائة إنسان وحققتْ نهضةً كبرى وصناعات متقدمة، وتغزو الغرب ببضائع القماش والدمى والسيارات، وهذا الذي يغزو الغربَ بالطائرات التي تضربُ الأبراجَ الإقتصادية ويفخخُ نفسه ويقتلُ الأبرياءَ ويضعُ المتفجرات في المطارات والطائرات ويصنع القنابلَ الذرية لكي يدمرَ بلدان المسلمين ويسحب الدم الأخير من فقرائه!
جاء هؤلاء بجراثيهم ينشرونها في الجو ويبشرون المساكين بالحلول النهائية لمشكلات الفقر والبطالة والفساد والكفر وجنوح النساء للرذيلة ولمشكلات الرقص والغناء واللعب على السواحل وشرب البيرة والغناء وغياب الحجاب وكثرة الإختلاط وغير هذا من مشكلات يبتكرونها نظراً لرعبِهم من الحداثة وعجزهم عن التطور الإنساني، وخوفهم الأسطوري من النساء.
رجلُ الدين البوذي لا يخافُ من النساء ولا من الجوع ولا من البطالة ولا من الحكومات، ويمشي بسيطاً في شوراع المدن، ليرفعَ طبقَهُ من أجلِ كميةٍ بسيطةٍ من الأرز، وهو مستعدٌ أن يحرقَ نفسه إذا أعتدت الحكومات الأجنبية على شعبه المسالم، وهي تضحية رهيبة لا تصيب الآخرين بسؤ!
وهي أعمالٌ نادرةٌ قاسية رهيبة أتخذها الرهبانُ البوذيون في حربِ فيتنام وقنابل الأمريكان تنهمرُ على المدن! وأي إحتجاج كبير كان بالنفس؟!
أنظرْ إلى رجل الدين البوذي هذا لا يَصعقُ الناسَ بأصواتهِ الحادة المزعجة، ولا يستخدم الآلات للبطش بالبشر وفرض كلامه، ولا يتصور أن الناس سوف تنحرف عن الدين في كل لحظة ولا يضربهم بسوطه، في حين أنظرْ إلى هذا المتاجر بدينك العظيم السمح كيف حولهُ إلى زنزانةٍ يسجنُ فيها العبادَ والبلاد؟!
ذلك لا يتاجرُ بالدين فأزدهرتْ بلادهُ، وتعاظمتْ خيراتهُ، وتعملقتْ شعوبهُ، وهو لا يملكُ لا نفطاً ولا ذهباً، حررَ النساءَ والشبابَ من سلاسله، وشعوبهُ بمئات الملايين، وهذا لديهِ النفطُ والذهبُ وقلة من السكان في بلدان واسعة ملآى بالأنهار والغابات والبحار، ولكنه عاشَ في خرابٍ دائم، وحروب لا تتوقف، وكوارث كلما أنقضتْ قال هل من مزيد؟!
لا يفكر البوذي بمشكلاتٍ إنقضت عليها عشرة أعوام، لأنه حرر نفسه من التحكم في البشر وعلاقاتهم وجذورهم وتطورهم، ترك لهم الحرية فيما يفعلون، داعياً إلى التخفف من الأملاك وأكل اللحوم والزهد في الماديات، مشكلاً علامةً بشريةً مجسدة على التضحية، في حين أن الزاعم بالدين لدينا هو المتدخل الأكبر في حياة الشعوب، والمتوجه للغنائم والحكم والفاشل في تحقيق التطور، والذي يُعيّش الناسَ في الماضي وأحقادهِ وذكرياتهِ السيئة فارضاً عليهم رزنامة الماضي كل يوم بيومه ومفتتاً الصفوف وناثراً خرائط البلدان!
إنه يعجزُ عن تشكيل عالم سعيد مستقبلي، خال من تلك الذكريات والأيام السوداء والحمراء لأنه دكتاتور أناني يريد أن يلتهم الأملاك والغنائم البشرية!
April 3, 2023
الوعي والتغيير
تنامت العناصر الديمقراطية في الدولة الإسلامية على مستويي السياسة والوعي بدءًا من العصر الأموي، حيث نفى العديد من المثقفين أفكار الشمولية في الوضع الاجتماعي السياسي والفكر، سواءً بالمطالبة بعودة (الفيء) للناس، أو إزالة هيمنة الخلافة الفردية، وتأكيد حرية الإنسان وتقليص صور الألوهية القدرية على الإرادة العامة، لكن وعي بعض الأفراد من الفئات الوسطى اتجه نحو عروض غيبية للقضايا المطروحة، وعدم الربط بين قضايا المال العام والاستبداد السياسي والمسائل الدينية والفقهية. ولم تتشكل حركات تجمع بين هذه المسائل الفكرية والسياسية المنفصلة لكونها فئات ولم تتشكل كطبقة على أساس صناعي، ويعبر ذلك عن تفكك إرادة الفئات الوسطى والعامة المقامة على إنتاج زراعي يتعرض للتآكل وحِرفي يعيش على بذخ الأغنياء.
لم يكن بإمكان الوعي الديني المثالي التنويري خاصة في علم الكلام المعتزلي أن يشكل تحليلاً لتطور الصراع الاجتماعي، وإستراتيجية موحّدة للفئات الوسطى المنقسمة بين فئاتها وتياراتها، وأن يقرأ الوضع المادي للمجتمع.
إن حركة الأفراد من الفئات الوسطى والشعبية لا تكوّن حركة سياسية اجتماعية عامة، بل تتفكك وتضطرب وتغدو مجردةً، ثم تتشكل عبر فئات دينية مدنية منقسمة ذات مناهج متضادة.
فتسيطر مسائلُ الفقه على المساحة الكبرى من الوعي، فالفقه هو مؤسسُ العبادات والعلاقات المادية والروحية، ضمن مواد الماضي والأحكام الشرعية وتطوراتها المختلفة، حيث يسيطر توجهان، الحكم عبر الرأي والحكم عبر النص السابق.
هو وجود لتيارين مختلفي النمو خاصة حين تزدهر الفئات الوسطى مع تنامي التجارة والأحوال المادية، فيما مدرسة الحديث تعبر عن انكفاء ذلك التطور.
هذا الشكل الأولي من الوعي الذي يكوّن الخريطة الاجتماعية اليومية، والملامح الأولية للأمم الإسلامية في عالمها الأسري والمادي وعلاقاتها السياسية، يعكس مدى التطور الذي تحقق خلال القرنين الهجريين الأولين لكن هذا التطور تلكأ وتوقف ثم حدث تراجع، ولهذا فنصيبُ مدرسة الرأي يتقلص لحساب مدرسة الحديث، كما أن عالم الحرية والقضاء على الاستبداد وإنتاج حياة الرفاهية لا يتحقق، فيظهر شكلٌ آخر من الوعي هو علم الكلام ليقرأ المشكلة.
إن علم الكلام يتشكل من أجل تحليل تلك المواد الأولية من الفقه والتاريخ الإسلامي، ويحدث فيه نفس الانقسام بين وعي يتوجه للتحليل النقدي المطور وتحليل يؤكد المسلمات السائدة.
إن علم الكلام المعتزلي الرائد يرتبط بمقولات الدين ويطرح أفكاراً جزئية فلسفية، تحلل قضايا مثل القدر والحرية والجبر والذرة والإله وصفاته والقرآن وتكوينه، وغيرها من المسائل التي ارتبطت بالوعي المثالي الجزئي، وقد تباين علم الكلام عن الفقه وبدأ في التحليق فوق التحليل المادي للتاريخ، عبر ذبذبة الفئات الوسطى بين النقد الاجتماعي للسلطات السياسية والدينية وبين مسايرتها. تعبر ذروة وأزمة علم الكلام المعتزلي في مسألة خلق القرآن المتأثرة بالطرحين اليهودي والمسيحي عن طفولية الوعي ومثاليته المغامرة وعدم قدرته المفترضة على قراءة القرآن ككتاب نهضوي تحويلي وبالتالي قراءة تطورات الصراعات الاجتماعية العربية، فبدأ هذا العلم مناضلاً وانتهى ذيلياً لقوى النظام المناهضة للحرية والتعددية.
وقد حاولت الفلسفة العربية أن تقرأ الإشكالية ذاتها بأدوات أكثر تطوراً وبغنى فكري أوسع، لكن الفلسفة هي الأخرى ظلت مثالية دينية لا تقرأ سببيات الحياة الاجتماعية والتاريخ لكنها قاربت بعض ذلك لدى ابن رشد وابن خلدون. الأشكال الفكرية من فقه وعلم كلام وفلسفة عبرت عن تكريس الوعي للمحافظة الاجتماعية والانقسامات المذهبية وضعف تنويره وتثويره.
هذا كان مظهراً لعجز الفئات الوسطى والشعبية عن التغيير من داخل المدن، والتغيير كان يحدث دائماً عبر القبائل المسلحة حتى العصر الحديث التي تركز القوة بين يديها، ولهذا ظهرت الثورة العباسية بقيادة الأشراف وقد تغلغلت وسط الجمهور الخراساني الشعبي، وهو الأمر الذي مثّل لحظة تطور مفصلية وأحدث الفترة التحولية الثانية في حياة المسلمين. ثم جاءت التغييرات التفكيكية عبر القبائل المسلحة ولكن للوراء والمؤدية لتدهور أشكال الوعي حتى تسلمت الجيوش الوطنية عمليات التغيير الحديثة في ظل إشكاليات مماثلة وإنجازات متذبذبة أو متدهورة.
تحولاتُ الوعي النهضوي المبكر
لم يستطع الوعي النهضوي العربي المبكر أن يغدو ثقافةَ فئات وسطى غالبة شاملة، فالتكوين التقليدي (الإقطاعي) كان سائداً في الممالك الكبيرة والإمبراطورية العثمانية وسيظل محيطاً بها في أنظمتها غير الصناعية.
ولهذا فإن حركات الوهابية والسنوسية والمهدية كانت إعادة إنتاج للأنظمة التقليدية السابقة بأشكال مذهبية محافظة، كانت إعادة أخرى للعصر التقليدي. ولهذا فإن الجسمَ الواسع من الأمم العربية والإسلامية كان تقليدياُ مسيطراً، ولهذا لم يكن بإمكان التكوينات النهضوية الطالعة سوى أن تتذيل بأشكال متعددة لهذا السائد أو تكون محاصرة ومنهكة.
التكويناتُ التحديثية الصاعدة في المدن الكبيرة كالقاهرة ودمشق وبيروت وإسطنبول وطهران تقوم بنقلِ حداثةٍ محدودة مجلوبة أو منتجة، لفئات وسطى صغيرة محاصرة واكبتها مؤسسات تجارية وحِرفية جعلتها متذبذبة بين الماضي التقليدي والحداثة، بين الإقطاع والرأسمالية، ولهذا أنتجت أشكالاً من المغامرات الفكرية والسياسية غير المرتبطة بجمهور واسع تحديثي صناعي قادر على الانعطاف بها نحو بُنى حداثية متكاملة.
هنا تغدو الحداثة على شكل مغامرات فكرية وسياسية ودعوات خطابية وكتابات مثقفين تفتقد للحاضن الشعبي الفاعل، وتتذبذب بين الطبقات الحاكمة والمحكومة، وبين الاستعمار والشعوب، بين السلطنة والرعية، على طريقة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
النقلةُ التاليةُ تجيءُ بعد هيمنة الاستعمار وتغير البُنى الاجتماعية ودخول صناعات جديدة ووسائل إتصال ونشر وتحجيم بعض المظاهر المتطرفة للإقطاع، وحدوث توسع للفئات الوسطى وظهور أوسع للعمال المشتغلين بأجر، فوجدت النخبُ والمثقفون البارزون بعض الحواضن المدنية لها القادرة على حمل الأفكار الجديدة، التي أصبحت أكثر تجذراً في الحداثة.
الكمالية التركية، والوفدية المصرية، والثورة المشروطية الإيرانية، والثورات العراقية والسورية، كانت تجليات لفاعلية الفئات الوسطى الصاعدة المتلاحمة مع الجمهور، لتوسيع حضور العلاقات الرأسمالية الحديثة لكنها لم تصل للقطع مع الأنظمة التقليدية، وسواء كان ذلك لتردد الفئات الوسطى وعدم رسوخها الصناعي العلمي، أو لهجوم القوى التقليدية، ودعم الاستعمار لها وتثبيته للأبنية التقليدية، فإن الوعي التحديثي ظل جزئياً وبجهود فردية ونخبوية، عاجزاً عن قراءةِ البنية التقليدية السابقة المسيطرة وعجزِ العلاقات الجديدة عن حسم التطور.
جهود لطفي السيد ومحد حسين هيكل وطه حسين وغيرهم وهو الاتجاه الليبرالي الديني، تتداخل وجهود شبلي شميل وسلامة موسى وفرح أنطون وإسماعيل مظهر التحديثية العلمانية، مشكلةً انفصاماً في العقلانية التحديثية حيث لا يكتمل تحليل البنية الإقطاعية الدينية السابقة ولا تُفهم العلاقات الرأسمالية الجديدة، وتستوردُ مناهجٌ ومعارفٌ غربية تريدُ جلبَ بنية رأسمالية كاملة من الخارج.
عجزُ الفئاتِ الوسطى الجديدة هو عجزٌ معرفي ذو جذور مادية اقتصادية محدودة في التصنيع والعلوم.
لهذا تحدث انتصارات للقوى التقليدية الحاكمة عبر إبقاء البنى القديمة وتطعيمها بشيء من التحديث غير الجذري سواء في انتصار الشاه في إيران على قوى الثورة المشروطية وقوى الحداثة أو في صعود المَلكيات الفردية أو بقاء الأنظمة التقليدية في دول الحركات السلفية وتغلغل الاستعمار ودعمه للهياكل الإقطاعية شبه الرأسمالية.
في التحولات الجديدة تواجه المجتمعات أزمات اقتصادية ومعيشية ولا يؤدي الارتباط بالدول الغربية المسيطرة إلى تحول نهضوي عميق وتغيير معيشي كبير كما تقول اللافتات المرفوعة من قبل الدول الغربية، وتضطرب الأحوال وتريد الجماهير أنظمة جديدة، خاصة بعد أزمات الغرب الاقتصادية وتصدع الغرب عبر ظهور(الشيوعية) الروسية، وهنا تتجمد فاعليات الفئات الوسطى ثم تتكسر، وتظهر فاعلياتُ البرجوازيات الصغيرة في حركات الإخوان والقوميين والبعثيين والشيوعيين، طارحة هدم الأنظمة السائدة وظهور أنظمة شمولية تحولية كاسحة.
وتسّرع الحربُ العالمية الثانية بهذا التحول وفيما تظل الفئات الوسطى تنتج ثقافاتها الليبرالية منعطفة أكثر صوب الدين، تعبيراً عن تنامي محافظتها وخفوتها الصدامي وتكسر أدواتُ تحليلها المعرفية، تلجأ البرجوازياتُ الصغيرة إلى التنظيمات السرية ورفع شعارات الاشتراكية المتعددة الألوان وتبدأ قوى الجيوش للتأهب للدخول في حومة السياسة والصراع الاجتماعي، حيث تعجز البرجوازيات الصغيرة عن تحريك الشوارع وخلق ثقافات ديمقراطية تحولية نظراً لعدم إرتباطها بالطبقتين المنتجتين البرجوازية الصناعية والعمال.
ويصبح مفكرو التنوير والحداثة والديمقراطية محدودي العدد، وتضعف ريادة الغرب الديمقراطي للإنسانية خاصة مع إنقساماته وحروبه وضعف قواه الديمقراطية والعمالية، وتضخ الأريافُ والبوادي المأزومة فيض السكان في المدن العربية الإسلامية، ويغدو الرجوع للماضي شكلاً من أشكال هزيمة نموذج التقدم الوحيد الممكن الصعب الرؤية، ولهذا تغدو الانقلابات العسكرية تعبيراً عن عجز ثقافة التحديث في التغلغل للجموع، وفشل الفئات الوسطى لمهمات التصنيع وتغيير الأرياف بأشكال إصلاحية تحولية، وتفقد الأنظمةُ قواعدَها التي تشكلت في نمو المَلكية الديمقراطية والليبرالية، وتؤيد الجماهير الانقلابات العاصفة التي تمثل عواصف سياسية وإجتماعية خطيرة على المدى البعيد تغير سطوح الأنظمة وتعيدها للوراء سياسياً وفكرياً.
وتغدو مشروعات المفكرين للعلمانية والتحديث الديمقراطي أكثر نأياً وتُحضر الأرضية للعودة للعصر الوسيط بصراعاته الدينية والمذهبية.
الوعي الطائفي الوعي الطبقي
هل يشكل الفكر الطائفي وعياً؟ أليس هو ضد (الوعي)؟ إن المقصود هنا بـ(الوعي) هو أشكال المعرفة التي تظهر وتنمو في الذهن الإنساني باختلاف هذه الأشكال، فنقول الوعي الاسطوري، والوعي الديني، والوعي العلمي، والوعي القومي وغيرها من أشكال تعبر عن بنى فكرية ذهنية تتشكل في حقب التاريخ المختلفة، وفي المجتمعات المتنوعة.
إن كل بنية لها تاريخها والعناصر التي تتألف منها، وقد تعبر التاريخ طويلا بتلك العناصر، وقد تتفكك وتظهر أشكال جديدة تكونت في ظروف مختلفة وبعناصر معرفية جديدة.
وحين ظهر المسلمون لم يكن ثمة ما يسمى الوعي الطائفي، وكانت كلمة (طائفة) تشير إلى جماعة من الناس ليس لها طابع فكري مميز عن غيرها من الجماعات.
كما جاء في القرآن «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلِحُوا بينهما، فإن بغتْ إحداهُما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلِحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المُقسِطين»، سورة (الحجرات/ 9).
كان هناك إذًا الوعي الديني بشكليه الوثني والإسلامي، ولم يكن بإمكان الوعي الإسلامي أن يتجلى بشكل طبقي رغم كونه كذلك من حيث الجوهر الاجتماعي الذي يحمله، باعتباره وعي الجماعات الشعبية الثائرة، بخلاف الوعي الوثني في مكة المعبر عن ملأ قريش الارستقراطي، وبالتالي بقي الوعي الإسلامي مجرداً غير محدد بخصائصه الطبقية، باعتباره وعي الجماعات الشعبية المتكونة من التجار من جهة والفقراء والعبيد من جهة أخرى، وهاتان الجماعتان اللتان تعاونتا معا لتغيير الحال الطبقي السياسي حين شكلتا الدولة انصهرتا سياسيا، رغم أنهما لم تنصهرا طبقيا.
صحيح أن بعض الفقراء أَثروا كثيرا بفضل التحولات السياسية الاجتماعية، إلا أن التمايز الطبقي بقي بينهما، ثم تلاشى مع الفتوح الكبيرة وتبدل الدولة.
هذه اللحظة التوحيدية بين أغنياء وفقراء يسعون إلى نهضة تحولية مشتركة ستكون لحظة مفصلية في التاريخ، ويندر تكرارها، فإذا تكررت فسوف تحدث نهضة ما، حسب الجذور التي نشأت الجماعتان منها في كل مرحلة، فالجذور تتعدد سواء كانت في زمن امبراطورية إسلامية أو في دول دينية منفصلة، أو دولٍ حديثة مستقلة.
طابع الملكية وقوى العمل، وطبيعة التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية التي تشير لإمكانيات العصر، ومستويات الثقافة، كل هذه ستدخل عضويا في أشكال الوعي التوحيدي المغير.
من هنا كان الوعي الديني المؤسس للدولة الإسلامية ذا عناصر مقدسة غيبية يؤمن بها ويعتبرها صانعة التاريخ والأفكار، وموجهة لتدمير كيان وثني متفتت، وبالتالي فإن الجماعة المؤمنة توحيدية مطلقة، فأسس رؤيته على التضاد المطلق بين التوحيد والتفكيك، بين المؤمنين والكفار، وكان جوهره الشعبي العام يراه مطابقا للتوحيد والجذور الإلهية، خاصة مع إلغائه للارستقراطية والملأ والتعالي الطبقي. وبالتالي فإن موقفه الطبقي الديمقراطي توارى وراء شعارية التوحيد، ولم يصنفهُ سياسيا اجتماعيا بحكم وعي المرحلة، لكن تبنيه للأغلبية الشعبية وتوزيعه للخيرات للعامة حسب سورة الحشر الختام التحليلي الاجتماعي للتاريخ الديني المدني، تصوره مطلقا في بقائه التاريخي. فلن تستطيع قوى الأقلية أن تعود مجدداً للحكم، وأن قوى الأغلبية الممسكة بالدولة والواقع ستظل مستمرة، وهذا ما لم يحدث بحكم تفكك الوحدة النضالية تلك، فحين تفككت القوى الشعبية وتصارعت، عادت الارستقراطية من جديد للحكم بشكل إسلامي.
وهو ما لم يفسر اجتماعيا بل فسر بالقدر مجددا حسب الوعي الديني الذي صار رسميا، فيما راحت الأغلبية تبحث عبر مواد وعيها المختلفة، عن تفاسير جديدة غيرِ رسمية وتعكس مصالح الأغلبية.
كان الشكل الاقتصادي غير السائد وهو الغزو قد حل محل الأشكال الانتاجية ومحل التجارة، وفرض نفسه كقوة أساسية وأحدث الفتوحات وراكم الثروات في طبقة وجلب العبيد والجواري، فنشأت طبقتان متضادتان كليا في الغنى أو الفقر، فيما تضاءلت الفئة الوسطى، وبرزت قليلا في الدولة الأموية واتسعت في المركز بعض الشيء في الدولة العباسية غير أنها لم تقم تحالفا متينا على أساس فكري عميق بسبب ارتباطها المصلحي بدولة الخلافة وما تعطيه لها من فتات. ولم تعد تجربة الثورة التأسيسية الإسلامية لأنها لم تقرأ الجذور والبنى الاجتماعية، وتاهت في الأشكال الفكرية المنفصلة عن الواقع التي غدت آراء فكرية ومذاهب وفرقا.
كان الوعي التوحيدي هو أساس النهضة وضم القبائل وتجسد دينيا في كل جماعة مذهبية منقسمة تصورت أنها هي كل المسلمين، فلم تتصور أي جماعة أنها مفككة للوحدة حين تعتبر نفسها كل المؤمنين، وأن تكونها ليس هو جوهرُ الأمة وأساسها، فيما الأخريات من المذاهب غير هذا.
وكان الأساس الفكري هو تصور العقيدة بأنها شيء غيبي خالص، وليست فكرة اجتماعية كذلك، وأنها ضمت في فترة تاريخية انقساما اجتماعيا بين الأغنياء والفقراء لأسباب سياسية اجتماعية مرحلية وكان توحيديا مؤقتا لا يلغي التمايز بين الأغنياء والفقراء، وأن الصراع على السلطة هو صراع اجتماعي وليس دينيا، وأن المتصارعين على السلطة يجب أن يضعوهُ فيما هو اجتماعي وليس فيما هو ديني، فوقع الوعي الإسلامي في اشكاليات راح يتلمس الخروج منها عبر قرون.
لم يستطعْ الوعي الديني الإسلامي التالي لمرحلةِ التأسيسِ إلا أن يكونَ طائفيا.
فقد تشكلتْ الطوائفُ عبر ظهورِ تفاسير متعددةٍ للقرآن والحديث والتاريخ عكستْ صراعاتٍ ومواقفَ سياسيةً تجاه المسألةِ المحوريةِ غيرِ المحلولةِ بشكلٍ ديمقراطي وهي (الصراعُ على السلطة).
وكلُ رؤيةٍ لهذه الصراعاتِ كانت تنسخُ الجوهريَّ المطلقَ غيرَ الاجتماعي من الرؤية العامة الدينية، أي لم تكن تأخذ الرؤيةَ النهضويةَ التي تشكلتْ في الثورة الإسلامية التأسيسية، بل تأخذُ هيكلَها المجردَ وتحيلهُ لجوهرٍ مطلقٍ خارج التحليلِ الاجتماعي السياسي، فلم تكن تر كيف كان التحالفُ الطبقي وكيف أسس التكونَ الديمقراطي الاجتماعي الذي لم يحلهُ إلى تحالف ديمقراطي سياسي، أي لم تنشأ تنظيماتٌ مختلفةٌ تعبرُ عن القسمين الاجتماعيين المختلفين طبقيا، المتحدين سياسيا، بل كانا في كيان واحد، رفض حتى الشكل السياسي المحدد.
ولهذا لم يكن الصحابةُ حزبيين، ولم يوجدْ تنظيمٌ حزبي، وكان هذا الرفضُ الباترُ لفكرةِ الحزبيةِ خوفاً على الكيانِ التوحيدي الهش في ذلك الزمان، الذي كانت خلفهُ كياناتٌ ضخمةٌ من الهياكل القبلية والآراء الوثنية المتجذرة والآراء الدينية المختلفة المناوئة.
وهكذا فإن البناءَ الشمولي تغلغل في التجربة الديمقراطية الاجتماعية بشكلٍ تاريخي مستترٍ متصاعد، وحين عادتْ الارستقراطيةُ للحكم ناقضةً البناءَ الاجتماعي المُقنن دينيا محافظةً على شكلهِ السياسي الشمولي، حدث تصدعٌ هائلٌ في الذهنيةِ المشتركةِ والروحية الجماعية التعاضديةِ بين المسلمين فكأن زلزالا اجتماعيا قد حدث، ولم تسمحْ أدواتُ الوعي المتوافرةِ لمثقفي المسلمين حينذاك أن يفهموا الانقلابَ الاجتماعي السياسي، الذي حاربوه ولكنه سيطر عليهم.
لقد صارعوه من خلال العناصر الفكرية المتاحة لزمنهم، كفكرةِ القدر ونقضها، لكن الانقلابَ الاجتماعي انتصر وساد التاريخ.
إن قوة فكرة التوحيد، والأشكال العبادية والتنظيمات الدينية المصاحبة لها، وأدوات القسر الحكومية، قد جعلت هذه القبائل والأقوام والأمم تتحد وتعيش في كيان سياسي واحد هائل.
إن قوة التوحيد لم يدخل فيها التنوعُ الديمقراطي، وقوى القسر والاستغلال هيمنت بقوة على هذا التوحد السياسي، وعلينا أن نرى أن القرون الثلاثة الأولى من الإسلام ظهرت فيها قوى الصراع الطبقي بقوى هائلة، لكن لم تنعكس على الكيانات التوحيدية، فلم تظهر المذاهب – الطوائف إلا كعناصر فكرية مستقلة، ولم تتحول الأفكارُ إلى طوائفَ مغلقةٍ بعد، والسبب أن فكرة التوحيد كانت جبارة مسيطرة، وبدايات المذاهب كانت فيها تعددية وقبول بالآخر المخلتف، واعتبرتْ أقوال الأئمة الفقهاء كآراء غيرِ ملزمةٍ واجتهادات قابلة للأخذ والرد، فكان الشكلُ السياسي الإمبراطوري صامداً للزمن.
كانت عواملُ التحلل تشتغل بقوة هي الأخرى، فالوعي الديني لم يزلْ متجوهراً على ذاته، والتراكمات تتجه لبلورة كيانات مغلقة شمولية داخلها، فالاجتهاد يقللا مع الزمن، وفصل الوعي الديني عن الفلسفة وعن التاريخ الاجتماعي يجري ويغدو الوعي الديني جوهراً لا تاريخيا إلا في نصوصه المغلقة، والسلطات تحيلُ الأفكارَ الدينيةَ والمحاكمَ إلى قوى ملحقة بها.
من هنا مع الانهيارِ المتدرجِ للشكل السياسي الإمبراطوري وعبر النخر العميق فيه، أخذت المذاهبُ صيغها المغلقة، التي يعبرُ كل واحدٍ منها عن كونهِ الإسلام مطلقاً، فتكونتْ تدريجيا الطوائف.
كانت طائفة مثل الخوارج تعد نفسها كياناً أصيلاً معبراً عن جوهر الخلافة الأولى، لكنها تحللتْ منها عبر شموليتها الحادة ورفضها أي تنوع أو مرونة سياسية، وغدت كيانات صحراوية باترةً للاختلاف والبشر.
وفعلت المذاهبُ ذاتَ الأمر في الكيانات المدنية بشكل أطول وأقل حدة لكن عكست النتيجة نفسها، ففقدتْ الاختلافَ الداخلي الديمقراطي، وفي نهاية المطاف غدت تلوكُ أفكارَها السطحيةَ المتيبسة بفعل فقدان مياه التفكير المتعدد ونسق الحياة المختلف الذي يجري كل يوم.
إن مصالحَ القبائل والأقوامِ والأمم والطبقات في الشكل الإمبراطوري لم تُؤخذ بعين الاعتبار من قبل مراكز الحكم، وكانت الدوائر الفكرية الدينية قد تكلست وتقوقعت، ولم تعد قادرة على إنتاج الجديد، نظراً لأن المقومات المنهجية التي اعتمدت عليها هي منهجيات قطع عن الأبنية الاجتماعية وعن تحليلها ومتابعة تحولاتها، فامتنعت قدرتها على التغيير، وانعكس ذلك على الأبنية السياسية فمن إمبراطورية واحدة ظهرت عشرات الممالك والأقاليم والمناطق المستقلة.
حدث التكلس الكلي، ولم يعد الجديد ممكناً من الداخل، لكن الجديد ظهر في مناطق بشرية أخرى، وجاء وضرب الكيانات العديدة المتجوهرة حول ذواتها، وقيل انها صدمة الحضارة الجديدة، ولكن هل نفذت إلى الداخل؟
المسألة صعبة وطويل
شكلتْ صدمة الحضارةِ الحديثة دوائرَ تحولية صغيرة تجاه الأجسام الاجتماعية المحافظة المهيمنة.
فكانت التياراتُ الجديدةُ المستوحاةُ هي أبنيةٌ صغيرةٌ على ضفافِ تلك الأجسام، التي تكونتْ قرونا وكانت هي ذاتها من أثرِ قرونٍ سابقة.
إذًا سادت أفكارُ الوعي الطائفي خلال القرن العشرين بأكمله، حيث المذهبيةُ كيان اجتماعي سياسي قائم على سيطرات اجتماعية تقليدية في الإنتاج ونظُم الحكم، وتغدو الأفكارُ الداعيةُ للتغييرِ القادمةُ من الغرب مجردَ ذراتٍ أمامَ بحرٍ مالح هائل، وحين تدخلُ فيه تتحولُ مثله.
الأفكارُ التحديثيةُ في الفترة النهضوية الأولى كالوفدية المصرية القائلة إنها ليبرالية، نجدُهَا تقولُ بالتعبير عن (الأمة) المصرية ولا تقولُ إنها برجوازية تعبرُ عن طبقةٍ، فغدتْ بنيةً مغلقةً كلية كالمذهبيات، ونجدها اذ تعترفُ بالعمال تقومُ بإلحاق نقاباتهم بسيطرتها، فيما تقمع الحزب الاشتراكي المصري، وفي النهاية تغدو حزباً للمالكين الكبار من أصحاب الأملاك الزراعية وأصحاب الملايين.
فهيمنتُها على السلطةِ المنتخبةِ نفسِها تحولُها إلى دكتاتورية، بدلاً من نشر الديمقراطية في البناء الاجتماعي، ومع هذا كان الوفدُ أفضلَ من غيره، وغدت النسخُ تكررُ ذاتها.
وبهذا قامت الأحزابُ الكليةُ من مواقع شتى، من موقعِ الشعب أو الأمة، حيث الحزب هو التعبير عن الأمة، أو معبر عن البروليتاريا وتؤسسهُ البرجوازيةُ الصغيرةُ لتقيمَ دكتاتوريةً كلية. والقوميةُ تعبيرٌ كلي آخر عن الأمة وتقيم ذات الدكتاتورية فلا تجعل الشعبَ يتطور ديمقراطيا، وبهذا كله فإن هذه الكليات المتأثرة بالغرب الديمقراطي، لم تستطع أن تكون لا من الغرب ولا من الشرق. هذه الهجانةُ مؤسسة ظلتْ على هامش التكوينات الدينية المحافظة المسيطرة على المجتمعات الإسلامية. وبعد أن اهترأت من القمع والسيطرة على الحكم ومن الحروب لم تعدْ قادرةً على فعلِ شيءٍ رغم سيول التحولات والأحداث.
واستعادتْ الجماعاتُ الدينية الكلية في عالم ديمقراطي مكانتها بعد هذا الانكماش التحديثي والهزيمة لليسار والبرجوازية التحديثية غير المتعاونين اللذين خسرا مكانتيهما بسبب هذا الإلغاء المتبادل بينهما.
علينا هنا أن نتذكر هزيمة التحالف الطبقي بين الأغنياء المتوسطين والفقراء والعبيد بعد الثورة الإسلامية التأسيسية، وكيف خسر الجانبان، بسبب غياب التنظيمات الديمقراطية المتنوعة المتعاونة بينهما.
وكيف استعاد البناءُ الاجتماعي العتيقُ المحافظ الموروث من الجاهلية وما قبلها سيادته على العرب والمسلمين باسم الإسلام.
علينا أن نقرأ التعاقب الدوري كذلك بعد هزيمة القرامطة والخوارج والإسماعيلية بعد الخطابات الحادة لهذه الفرق وعدم إنجازها أي تحول في حياة العاملين والنساء والثقافة العلمية وعودة المحافظين مرةً أخرى ليبقوا قروناً طويلة ويسلموا المسلمين مادةَ نهب للاستعمار الحديث.
إنها تعاقبيةٌ مستمرةٌ بسبب عدم قيام القوى المحوّلة للواقع باستخدام المفاهيم الديمقراطية والعقلانية، والخروج من عالم الطوائف إلى وعي الطبقات، وبقاء تحولاتها قشورية على السطح والسماح بعودة المفاهيم العشائرية القبلية الطائفية نفسها وإلباسها لأجسادٍ ديكوريةٍ (تحديثية).
الآن لدينا القوى الطائفية تقول إنها ديمقراطية وحديثة، تريد أن تخدعنا بعد أكثر من ألف سنة، وتريد المحافظة على ركائز الإقطاع الاجتماعي المذهبي: تخلف النساء وعدم مساواتهن بالرجال، وقمع العقول، وغياب المساواة أمام القانون، ورفض فصل الدين عن السياسة.
في هذا الزمان الراهن حدث تكرار لبعض مظاهر الماضي، وصعدت شموليات عتيقة باطنية ورفضت الديمقراطية داخل البيوت ومع النساء والثقافة والأطفال والعقول والدين والسياسة، لكي تقتنص الحكم والمكاسب من خلال البرلمانات.
يحدث الآن الاختطاف السياسي المتسرع بدون تأثيث ديمقراطي عميق، بدون أن تكون قوى الطبقات والفئات كالعمال والنساء والمثقفين والبرجوازية الوطنية قد أسست نقاباتها ومصالحها ومعارفها وجذورها في الواقع، وتلعب قوى التطرف من اليسار أو اليمين كأدوات للاختطافات المتعددة، وعبر مصالح دول شمولية مهيمنة كذلك، ولهذا فإن البناء الديمقراطي الجديد ينبغي أن يرى كل لوحات التاريخ العربي الإسلامي السابقة، وأهمية تفكيك الشموليات الاجتماعية الراسخة من أجل أن تأتي البرلمانات ثماراً تتوج دور القواعد الشعبية العميق في مختلف البنى العربية والإسلامية، وألا تكرر الحقبةُ الراهنةُ دوراتَ التاريخ المغلقة.
زئبقية الوعي
الفئات الوسطى الصغيرة ذات وعي زئبقي مترجرج متذبذب بين الطبقات المالكة والعاملة.
في زمنية الأزمة تقارب الوعي الوطني واليسار وتزايد عليهما، لهذا كانت أشكال الوعي والأدب والفن مصبوغة بمزايدات دفاعاً عن الكادحين ومقاربة العلمانية ونقد الوعي الميتافيزيقي بلغات متطرفة حماسية زائفة، وحينئذ لم تكن تصنع مقاربة عقلانية من الواقع، وترفض المؤسسات السياسية والدينية بجرة قلم!
كان انحدارها لصفوف العاملين وفقدانها مدخراتها يجعلها تشتط وترفع السلاح الوهمي وتفجر بالونات الهواء ويغدو الشعراء أفواهاً صاخبة تلقي الجمر في الشوارع!
تتغير هذه اللغة مع تصاعد أسعار النفط، وظهور السيارات الخاصة بوفرة، ونمو المنازل الغامضة في البرية، والذي كان يكتب قصصاً عن الولادات العسيرة لنساء الأزقة الفقيرة ويصف العاملين في كوابيس المصانع ويضع أيدي الضحايا في لوحاته يقدم برامج مسلية رخيصة في التلفزيون، ويكتب أناشيد صوفية مدائحية، ولا يرى في الواقع أية أخطاء جسيمة والذي يحشد فئات الفقراء في فصوله الروائية الواعدة ينسحب نحو قواقع الذات والتهويمات الصوفية ويؤيد طوابير المتسولين السياسيين. والذي يؤد نزول الطبقة العاملة الشارع ينزوي في المؤسسة البنكية لا يتنفس خارجها.
ليس ثمة مقاربة عقلانية بأن يطور لغته الصاخبة للزمن الماضي في حفر نقدي عقلاني للواقع، وأن لا يصطخب هذا الصخب كله لليمين ويترنح فوق حبال السياسية والكتل أو يغلق فمه عن أي نقد ويرى الواقع جميلاً كله ويهرب لقضايا السياسة في المنطقة ويطرحها بأشكال أقرب لأدعية الشحاذين، والذي لم يكن يصلي يخرج لصلاة الفجر.
الفئات البرجوازية الصغيرة هي منتجة أشكال الوعي، منها يظهر المتعلمون وقلة منهم عمال، وعليها معتمد صناعة العلوم والثقافة ولكن مع ضياع معايير النقد والعلم تنتشر الأحكام الجائرة، ومن يرفض الزواج بامرأة ثانية نراه متعدد الزوجات كثير الرحلات!
قدرات هذه الفئات أنها توحد الطبقات في مواقف وطنية عقلانية وتجمع بينها وتخفف من تضاداتها، وتخلق جسوراً بين اليمين واليسار، لكن مع ترنحها لمواقف يمينية متطرفة وتركيزها على مصالحها الشخصية وتسلقها في كل مكان ونشرها هذه المعايير في الوعي والصحافة فإن فوضى فكرية سياسية تحدث، وتخرج أفاع التخلف وترتد التيارات للوراء وتضيع ساحات الوطن.
الرواية الواقعية تغدو خرافة والحفر في الواقع يصير انتهازية باحثة عن نقاط الضوء المسرحية والتلاعب بالكلام، والمسرح يغلق أفواهه النقدية وتُعرض المدائح السلطانية في الخطب ولا يعد ثمة موقف نقدي من قضايا الفكر والهجوم عليه، وهذه الفجائع المتطرفة لا تحصل على درس ونقد متبصر من أجل رصانة وأمانة!
الوعي التحديثي وتجاوز التقليدية
الوعي الديني نشأ كوعي تحديثي يحاول التغلب على تخلف الواقع ومصاعب العيش ولكنه لم يتحلل من كل تخلفه، فحمل عناصر التقدم والتخلف معاً، عناصر المادية والمثالية معاً.
رفع حال العاملين والنساء والتجار الصغار تشابك مع إقامة دولة كان لا بد أن تكون عناصرها الشعبية الديمقراطية أقوى من عناصرها الاستغلالية الارستقراطية، أي إلى أي مدى تكون العناصر المناضلة الشعبية قادرةً على الحكم وتوجيه الأحداث، إلى أن تقوى عناصرها الارستقراطية القبلية وتضعف الأخرى وتفقد وحدتها وتماسكها وتضيع بين الأحداث والرموز!
وفيما تستند العناصر الديمقراطية إلى تراث نضالي عربي قديم، متجذر في الجاهلية في القواعد الشعبية، ترتكز العناصر الارستقراطية على هيئات القبائل وقواها العليا وأملاكها وتراثها السائد.
لكن القوى الشعبية تُهزم عامة لكنها لا تهزم كلية، كما أن الأخرى لا تنتصر تماماً لكنها تسود، ويبقى تاريخ الإنسان متعلقاً بظروفه الموضوعية ومستوى فهم قياداته ومدى تراكم العناصر المادية في تراثه الفكري. كانت العناصر النضالية التي ظهرت في الزمن الإسلامي الأول قد ساعدت في ظهور الأمم الإسلامية من بين الأمم الوثنية، وكرست وعيها وتقدمها ووضعت الأسس لسيادة الأرستقراطيات وحضور الطبقات الشعبية حسب فسيفساء هذه الأمم ومدى حضور قواها الفاعلة.
لكن مواقع هذه العناصر الفكرية والاجتماعية والسياسية يتبدل مع تغير التاريخ، وتبدل التشكيلات الانتاجية، فقد غدا التكوين التقليدي لمختلف الطبقات غير قادر على إحداث التقدم المطلوب، وصارت عناصر السيادة الفوقية والانتاج الحرفي الزراعي البيروقراطي غير قادرة على مسايرة التطور العالمي في مؤسساته الاقتصادية والسياسية والفكرية.
لهذا فإن العناصر المادية الجنينية في النشأة الدينية الأولى بحاجة لأن تكون سائدة، فمسائل السلام وحريات النساء والمساواة والديمقراطية بين الأجناس والطبقات ضرورة لوجود الأمم الإسلامية، في حين أن مسائل الغيبيات المتطرفة تغدو الحاجة للتخفيف من هيمنتها وحدتها.
ولهذا يغدو وعي الشباب متلبساً غير مدرك للمراحل التاريخية التي قطعتها الأديان، والتناقضات التي سادت في مسيراتها التاريخية، وكيفية التعامل مع عناصرها المختلفة في الزمن الراهن، بين فصل عناصر مضرة وتصعيد عناصر مفيدة مضيئة.
إنهم يأتون إليها كمادة خام لا يفرقون بين المضيء والمعتم، بين المادي والمثالي، بين الفلسفي العام المغير والميتافيزيقي الجامد المتخلف، بين الديمقراطي والشمولي، بين ما هو منفتح قومياً وما هو متعصب عنصرياً.
بين إرادة الجمع الديمقراطي وإرادة الفرد الجامح الشمولي.
إن الحماس يأخذهم للمغامرات والذوبان في القوى المحافظة، التي تكرس سيادتها الارستقراطية أكثر مما تشكل بيئة ديمقراطية تعاونية.
لهذا فإن الشباب لا يحتاج لكثرة الثرثارات السياسية وتضييع زمنه عبر المقاهي، بقدر ما يحتاج للإنتاج الفكري السياسي، للدرس، وتوسيع وتوزيع قدراته على البحث والفنون والآداب والصناعات، وأن يظهر منه مثقفون كبار وموسوعيون بدلاً أن يتكاثر فيه مشاغبو الشوارع وفوضويوه والفاشلون في التطور السياسي العلمي.
علاقاتُ الوعيين القومي والديني
كوعيين يقومان على هيمنة النخب لا يستثمران العلاقات الواقعية الموضوعية في الحياة، معتمدين على الأبطال المهيمنين والخارقين ومختلطين بأشكال الوعي غير العقلانية، ولهذا فإن الأشكال الديمقراطية وهيمنة القواعد تغدو ضعيفة إن لم تكن معدومة.
لقد اعتمدت الثقافة القومية في الخليج على الإرث الديني العادي بدون قراءات معمقة، فلقد جاورت القوى المحافظة بدون أن تحلل وعيها، ووجدت في بعض الحركات كالقرامطة أو الزنج أشكالاً (ثوريةً) جاهزة تبتعد أو تنفي من خلالها الثقافة الدينية التقليدية والأوضاع الجامدة غير المحللة.
كانت حركات القرامطة والزنج والخوارج نتاج اضطهادات حادة وفوضى اجتماعية وسياسية، واعتمدت على المغامرات العسكرية في ردود أفعالها ولم تؤسس نهضات مستقرة بديلة.
كانت دولة القرامطة محاولةً تعاونية في بدء عملها حيث جعلت بعض وسائل الانتاج ملكيةً عامة ولكن هذه الوسائل تحولت لسيطرةٍ قبلية عليا، ولم يكن ثمة سبيل لتطور ديمقراطي واقتصاد مختلف في ذلك الزمان، وكان شكل الوعي خرافيا كما يظهر ذلك لدى أحد أهم كتاب القرامطة وهو عبدان.
لهذا كان العنف والهجوم على الدول والحجاج ومكة والدخول في تحالف مع الدولة العباسية مدمراً لتطور هذا الوعي القرمطي الواعد.
في حين كان الزنج غير قادرين سوى على تحويل مضطهديهم إلى عبيد.
في العديد من نشرات القوى السياسية المعاصرة في الخليج ثمة استشهادات بتلك القوى وهو أمر يعكس عدم درس التاريخ الإسلامي، فيما بقي الدينيون المحافظون يكررون التاريخ الجامد النصوصي بدون دراسات وحفريات معرفية.
ووجد هؤلاء المعاصرون في حركات فوضوية مثل اقتحام الحرم المكي عملاً نضالياً وهو العمل المغامر الفوضوي ويوضح طبيعة الامتدادات الفكرية المحدودة خلال قرون، كما يعبر عن مستوى القراءات السطحية لدى(الثوريين) المعاصرين.
كان من الاستحالة لأشكال الوعي المباشرة السطحية أن تخترق التاريخ وتفهم سببيات انتصار أسر الأشراف والدول الارستقراطية على العامة والصحابة وسببيات غياب التحالفات ودور الفئات الوسطى وسببيات إخفاقات النهضة، وكون المغامرات شكلاً ماضوياً خطيراً وتكراره في الزمن المعاصر دليل على عدم التطور والدرس، خاصة مع تدهور وعي الجماعات المتعدية على الحرم والمقدسات وفتحها طرق العنف الحادة لقوى عامية شديدة الخطورة.
ولهذا فإن ابتعاد القوى الحديثة عن التغيير وتجاورها مع الجماعات الدينية المحافظة يبين مستوى هذا الوعي الذي جثم بدون تحليلات واعتمد على المواد الجاهزة سواء كانت مغامرة ماضوية أو معاصرة.
ويطرح تطور دول الخليج العربية الإسلامية إشكاليات معقدة تحولية وإنسانية، وتغدو ضرورة الارتكاز على وعي عربي إسلامي تحديثي إنساني، يعالج عمليات التطور عبر التحديث والاستناد على عناصر النهضة والتقدم في ذلك الإرث، فمن عزلة شديدة إلى عولمة حادة، ومن نمو رعوي إلى حداثة مظهرية واستهلاكية شديدة، تحتاج التطورات إلى مواقف وطنية قومية إنسانية غنية الأبعاد وتغدو أشكال التعصب الدينية والقومية انتحاراً.
شكالُ الوعي التي تتردى
في بكارة المدينة العربية المعاصرة والقرية تناءٍ كبير. المدينة بسيطة لا تعرف أشكال الحداثة الأخيرة والقرية تعيش في الماضي.
أشكالُ الوعي التي تظهر في مقالة الجريدة وخطبة النادي وقصيدة الشاعر تقوم بالمقاربة بين المدينة والقرية، لانبثاقها من رؤية الشعب، حيث إن الاستعمار يوحد الناس، يتصادم مع جذورهم التاريخية والواقعية الراهنة، كما أنه يدع السوق مفتوحة للنشاط الخاص وإن كان يجعل قوى العشائر والطوائف مسيطرة على الأوضاع العامة لمساندته.
فئات المثقفين بأشكالها الأدبية والفنية تجعلُ النخبَ الشعبية المدنية والريفية تتقارب، تثير العواطف عن التاريخ والتراث الموحد، تدعو للنهوض، تحمس التجار للعطاء والمشاركة في الانتاجين الثقافي والاقتصادي، ولهذا فإن مصطلحات التوحيد والتنوير شائعة: الوحدة، والنهضة، والنور، والاستقلال، والعروبة.
على الرغم من التخلف في وسائل المواصلات وبساطة المؤسسات وشظف العيش إلا أن تلك الأجيال قدرت على تحريك الكتل السكانية المنقسمة في طوائفها، حيث لم تكن الدول العربية الإسلامية قادرة على التدخلات في شؤون بعضها بعضا، والمؤسسات المذهبية ليست لديها شهية السلطة وفيها متعلمون وطنيون نادرون ولكنهم مؤثرون ولا ينعدم فيها كذلك محافظون يحشدون للطوائف.
أشكال الوعي لم تكن متطورة، فكتابُ الفلسفة على عدد الأصابع، ويحضّرون مواد من عوالم النهضة الغربية، وأشكال الأدب والفن تتطور بسرعة وتبثُ النقدَ تجاه قضايا الحياة والصحافة محدودة وإن كانت الدول الكبيرة تتوسع بها، وعبرها وبنشر الكتب وعبر الإذاعات تغدو المطبوعات مركزاً مهماً للوعي، تنقل الشعارات السياسية للنخب والجمهور بأشكال من التبسيط والانفعال.
المصالح الوطنية المشتركة للشعوب وتركيز الاستعمار على استثمار المواد الخام لأجل مصانعه، والأسواق المحلية لبضائعه، تخلق تناقضات غير قابلة للحل، في مجمل العالم الثالث، الذي يتفجر في معارك التحرر الوطني.
لكن مرحلة الاستقلال تخلق التفكك والصدامات الداخلية، فمهمات التصنيع وتغيير البُنى التقليدية المتخلفة لا تُواجه، والرساميل الناهضة التي تريد إدارة الأسواق لا تُعطى الفرص، والقوى العشائرية والدينية تستلم إدارات الدول.
الرأسماليات الخاصة لم تُشجع من قبل الدول الغربية، وقد عملتْ على بعث الهياكل الإدارية القديمة، حيث تبقي نفس القنوات الاقتصادية السابقة من حيث فتح الأسواق الخارجية وإضعاف التصنيع في الدول المستقلة.
كما أن القوى العشائرية والدينية المتمركزة في البوادي والأرياف المدعمة من قبل الاستعمار اعتمدت على ثقافات قديمة.
وكانت تجارب الدول الشرقية (الاشتراكية) تشجع نفس المسارات ضيقة الأفق، وخلقت أسواقاً مغلقة، ورأسماليات حكومية، مما أضعف التطورات السياسية والاقتصادية الحرة في العالم الثالث، ولم تحللْ تجربةُ دول عدم الانحياز هذا الوضع وتاهت بين اتجاهات تجريبية ورأسماليات حكومية.
هذا ما أدى لتفاقم التناقضات في هذه الدول المستقلة، فالحكومات هيمنت على الاقتصاديات، وتوجهت لصناعات المواد الخام المُصدّرة للدول الغربية، فيما وُجهت القطاعات الخاصة لعروض المواد المستوردة، وهكذا فإن الدولَ الغربية تمكنت من رسم مصائر دول العالم الثالث من خلال بُعد نظر استغلالي.
تفككت أوضاعُ الدول الشرقية فالقياداتُ العائدة للعصر ما قبل الرأسمالي كرست الرأسماليات الحكومية التي تناقضت مع الديمقراطية، وتحول الاقتصاد إلى قطاعات عامة فاشلة وقطاعات خاصة تجارية استهلاكية ناجحة، وهذا أدى لتدهور أشكال الوعي وتفاقم التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في هذه الدول.
وجدت أشكالُ الوعي العائدة لما قبل الرأسمالية والحداثة فرصها في النمو وخلق الاختلالات في البُنى السياسية والاجتماعية، فرؤى الخرافة والأشكال الأدبية العتيقة المتكلسة عادت للظهور، وعادت الأفكار السياسية للطوائف ممزقة الشعوب والدول الإسلامية.
وهذا كله جعل الدول الغربية الكبرى ممسكة بقيادة التحول مستنزفة المواد الخام شبه المصنعة وبائعة السلاح للدول والقوى المتحاربة.
وغدت العودة للمسارات التصنيعية الكبيرة والتحولات العقلانية في السياسة صعبة، لكنها ليست مستحيلة.
انفصال القوميين العرب سنة 1968 بين جناحين (تقليدي) و(جديد) عبر عن أسلوبين لمعالجات التطور السياسي الاجتماعي، بين أسلوب التطور التدريجي ومسايرة الفئات الوسطى الإصلاحية وبين أسلوب القفزات والمغامرة والمعبر عن الجيل الجديد الجامعي في تلك الفترة، والمتأثر بهزيمة يونيو 1967 وبضرورة تجاوزها وبطرح الكفاح المسلح وإقصاء القيادة القومية عن مركزها من قبل الجماعات القومية الجديدة، لكن القيادة التاريخية بقيت في مكانها وتحسست التحولات بصورة أكثر واقعية.
واستطاعت حركة القوميين العرب في الكويت أن تصمد وتتطور معبرةً عن استثمار العناصر الديمقراطية المتراكمة خلال تجارب الكويت عبر محطات مهمة في القرن العشرين.
في عقد الستينيات وما تلاه ركزت الحركة على مسايرة ونقد وتطوير التجربة الديمقراطية الجنينية في الكويت مستثمرة البرلمان ومجلة الطليعة وأدوات العمل الفكرية والسياسية المختلفة.
كان التلاقح مع الفئات الوسطى وعملها السلمي التحويلي المتدرج معمقاً للبرامج السياسية وتحليل جوانب المجتمع المختلفة، من حيث الدفاع عن مصالح الناس في حقول النفط ودعم شركة النفط الوطنية والشركات العامة وطرح برامج لتوجيه الفوائض نحو التصنيع وإنشاء معامل تعتمد على المواد النفطية، وتغيير الحياة الاقتصادية والثقافية للمواطنين وإشاعة الحريات العامة.
لكن مع تصاعد رأسمالية الدولة وتوقف تحولات الرأسمالية الحرة على الصعيد الاقتصادي السياسي تصارعت قوتا الإقطاع السياسي مع تلك الفئات الرأسمالية الصغيرة الداعية للتحولات التحديثية الديمقراطية.
ولهذا جاء تجميد دور مجلس الأمة لفترات عدة إعاقة لهذه التطورات، وكما حدث في بلدان عربية عدة من دور مطلق لرأسمالية الدولة وتصعيد للقوى العشائرية والمذهبية فقد حدث تراجع لتطور التحولات الديمقراطية وحداثة المجتمع، حيث برزت الجوانب الاستهلاكية والبذخية، مما انعكس على تراجع دور القوى القومية والديمقراطية عامة وبروز قوى البداوة وتغلغلها في الحياة السياسية بقوة والعودة بالتطور الاجتماعي السياسي للوراء، وخطورة ذلك تفكك المجتمعات العربية إلى هوياتها الطائفية كما يحدث في سوريا والعراق وغيرهما.
كان هذا يتضافر مع تراجع القوى التحديثية في الدول المجاورة وانفجار الحرب العراقية الإيرانية وغزو الكويت نفسها من قبل النظام العراقي، ورغم الأطروحات المعتدلة للقوى القومية لكن فوضى المنطقة وترجيح نمو القوى الطائفية والعشائرية خلال العقود السابقة جعلها محدودة التأثير في السنوات الأخيرة.
لم تتوقف القوة القومية في الكويت عن لعب دور بناء والدفاع عن مجمل قضايا التنمية والتطور والمشاركة في مختلف انتخابات مجلس الأمة وطرحها الدعوات لتطوير مسيرته عبر منح السلطة التشريعية صلاحيات تشريعية واسعة والحفاظ على الوحدة الوطنية ونبذ استخدام الدعوات الطائفية في العمل السياسي لكن مجمل التراكمات المحافظة التي خُلقت عبر عقود منعت من هذا التحول.
إن غياب البنية الانتاجية الصناعية الواسعة والاعتماد على العمالة الأجنبية والاقتصاديات الاستهلاكية والبذخية وقطع دور الثقافة التنويرية الديمقراطية التي تصاعدت في عقود سابقة، وعدم تغيير بنية رأسمالية الدولة نحو بنية رأسمالية وطنية حرة وتغيير الحياة السياسية تبعاً لذلك جعلت من الكويت مثيلاً لبلدان عربية أخرى رغم بداياتها الديمقراطية المهمة، التي لعبت فيها القوى القومية والديمقراطية دوراً بارزاً في تنميتها.
إن توجيه توظيفات مناسبة للصناعات المناسبة والقوى العمالية التقنية المتطورة ولجم الاستهلاك الواسع التبذيري في ظل ديمقراطية تعددية مدنية كان يمكن أن يمثل إستراتيجية مناسبة للقوى القومية والديمقراطية.
تطورٌ واقعي حذر
في نشأة التيارات الفكرية السياسية عناصرُ أولى أساسية تبدأ معها وتستمر وتُعرف بها، وقدرة أعضائها وكوادرها هي في تنمية هذه العناصر وتطويرها وعزل العناصر السلبية فيها وترسيخ الايجابيات فيها.
وقد كان الاتجاهان الماركسي والقومي في البحرين مصطدمين مختلفين بقوة لكون البلد كان ولا زال بوابة مفتوحة لأهل المنطقة وتجري فيه اللقاءات الخصبة (والسلبية كذلك) بين تيارات المنطقة والعالم.
إصطدام التيارين المذكورين بحدة على مستوى الشارع والحياة اليومية ربما كان أقل حدة مما جرى في بلدان عربية أخرى عرفت الصراعات الدامية ولكنه حمل تأثيراتها وأنفاس ضراوتها.
شكلُ ظهور التيار الماركسي كان ملغماً بالنسبة للتيار القومي الذي رأى فيه انحرافاً، فقد عبر ذلك التيار الإنساني عن انفتاحه على المكونات البشرية والدينية المختلفة، سواء كانوا قادمين من الساحل الإيراني أو من الساحل العماني.
فقد تداخل أولئك المهاجرون بالمواطنين، وصاروا نسيجاً في أحيائها، ولهذا فإذا حملوا أفكاراً وسربوها في المجتمع فإنها تكون خاضعة للنسيج المحلي وللتطور الاجتماعي السياسي الوطني.
وقد كانت الأفكار القومية والماركسية والدينية أفكاراً شائعة تغلغلت وإنتشرت ولكن الأهم هل كانت تعبر عن موديل مستورد جاهز أم شعارات بشرية خاضعة للبنى الوطنية ولمراحل نضال كل شعب؟
لكن الوعي القومي ببكارته في تلك المرحلة كان منزعجاً من الوجود غير العربي الصرف ويعتبره غزواً وتسريباً لنموذج أجنبي خطر.
في حين كان الوعي الآخر يرى بحرنة متنامية لعناصر لم تعد دخيلة، وما كان محورياً هو دور الأفكار الديمقراطية الجديدة في تغيير الحياة الاجتماعية والسياسية.
الوعي القومي كان ينطلق بخلاف ذلك على موديل مستورد فوحدة العرب كان ينقلها بأشكال عاطفية حادة، ويحولها لبرنامج سياسي راهن، ولهذا فهو يرى وحدة البلد أمراً جاهزاً، ومن الضروري الانتقال لوحدة الخليج بل والجزيرة العربية وتغيير أنظمتها وطرد الاستعمار من جميع أقطارها حتى تتحقق الوحدة العربية.
كان يند
ألمانيا والعرب المعاصرون
لم تُكتشفْ العلةُ الرئيسيةُ في مجرى التاريخ الألماني في القرن التاسع عشر، فيُقال بأن ثمة بقايا إقطاعية هيمنتْ على ألمانيا وهي تتطورُ باتجاهِ رأسماليةٍ واسعة.
أكبرُ منظرٍ لهذا التاريخ كارل ماركس، وهو مؤسسُ ما يُعرف بالماركسية التي طرحتْ البرنامجَ الإشتراكيَّ الفوري للتغلبِ على التناقضات في سيرورةِ المجتمعات الاستغلالية، والحلُ الفوري رافقَ تجربة الشباب الفكرية السياسية عنده، وإستمر حتى مرحلة النضج بأشكالٍ متواريةٍ ثم أدركَ فشلَ الحل الفوري هذا دون أن يعالجه نقدياً بشكلٍ موسع فتركَ ثغرةً كبيرةً في فكره إستغلها لنين فيما بعد بإنشاءِ دكتاتوريتهِ النهضوية الرأسمالية الحكومية الشاملة.
لكن نحن الآن في قراءةِ تلك العلة المركزية لأزمةِ ألمانيا لا أزمة روسيا، وومن خلال علاقة الأزمة الألمانية بالأزمة العربية، يقولُ باحثٌ مصري:
(تنتشر أفكار ماركس حول ألمانيا عبر جميع مؤلفاته ابتداء من مخطوطات فترة الشباب مثل “مساهمة في نقد فلسفة الحق لهيجل” ومروراً “ببؤس الفلسفة” و”الأيديولوجيا الألمانية” وحتى “رأس المال”. وفي كل هذه المؤلفات يتناول ماركس ألمانيا باعتبارها مجتمعاً لم يلحق بعد بالتقدم الرأسمالي المتحقق في إنجلترا وفرنسا، وأنها سوف تواجه حتماً التناقضات التي يواجهها المجتمع الإنجليزي والفرنسي. وتتضمن تحليلات ماركس توقعاً بأن الثورة التي ستحدث في ألمانيا سوف تكون ثورة اشتراكية لا بورجوازية)، أشرف منصور، نظرية الارتكاس الثقافي، الحوار المتمدن.
هنا نجدُ أن ماركس نفسه لم يُطبقْ فكرةَ التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية التي إبتكرُها هو نفسه، فنحن لا نعرفُ بالضبط هل ألمانيا مجتمعٌ إقطاعي أم رأسمالي؟ هل حدثتْ عمليةُ القطعِ البنيويةِ لتغدوَ ألمانيا رأسماليةً وتعبرُ التشكيلةَ الإقطاعية؟
(والمشكلة التي تواجه ألمانيا مزدوجة، فهي لا تعاني من تطور الإنتاج الرأسمالي وحسب، بل من تأخر هذا التطور في نفس الوقت، أي من بقايا الإقطاع والأعباء الأرستقراطية الموروثة، وسلسلة طويلة من الأمراض الوراثية” الناشئة عن التفسخ المتصل لأساليب الإنتاج المتخلفة”. والحقيقة أن الثورة الاشتراكية هي حل ماركس لتناقضات أسلوب الإنتاج الرأسمالي في المناطق المتقدمة والمناطق المتخلفة على السواء، أي في المركز والأطراف معاً.)، المصدر السابق.
ضاعتْ عمليةُ التحديدِ البنيوية هنا بمفردات مثل (تعاني من بقايا الإقطاع والأعباء الارستقراطية الموروثة)، لكن سلطة بسمارك لم تكن من بقايا الإقطاع، لقد كانتْ سلطةً إقطاعيةً عسكريةً سياسية مهيمنة جبارة، وفي ذات الوقت تقوم بتحويل ألمانيا للرأسمالية، عبر تملك الإقطاعيين للإنتاج الحديث ورسملة الريف.
إن عمليةَ التغيير من الإقطاعِ لسيطرةِ الرأسماليةِ الكلية لم تحدثْ إلا عبر عقود طويلة، خاصة بعد الهزيمة الكلية للهتلرية، ففي الوقت الذي ترسملتْ الحياةُ الاقتصاديةُ بقيتْ الأشكالُ الإقطاعية الإيديولوجية والسياسية في البناء الفوقي قوية؛ إنه تناقضٌ بنيوي حادٌ أدى لكوارث.
إن التشكيلةَ الإقطاعيةَ لا تنهارُ كليةً، والتشكيلةُ الرأسماليةُ لا تظهرُ دفعةً واحدة، وإذا كانت قد إستغرقتْ في البلدِ المؤسسِ للرأسمالية وهو إنجلترا عدةَ قرون، فإن التسارعَ في الدولِ الأخرى المقاربةِ للإنتاجِ الرأسمالي الحديث كان مصيرياً لها، ذلك بفعلِ الصراعات والتأثيراتِ المشتركةِ وكون هذه البلدان في منظومةٍ مسيحية تاريخية واحدة مشتركة منذ عهد (الإصلاح).
ومن هنا فإن إنهيارَ الإقطاعِ بثقافتهِ وأسسهِ السياسية إحتاجَ لعقودٍ فيما كانت القاعدةُ الإنتاجيةُ تنمو بسرعةٍ أكبر، وهذه العمليةُ المركبةُ إحتاجتْ إلى فوائضٍ ماليةٍ كبيرة لم تكن متأتيةً بوفرةٍ لدى ألمانيا المفككة ثم الموَّحدة وغير الحاصلة على مستعمرات، فكان لجؤها للحروبِ من أجلِ إعادةِ تقسيمِ المستعمرات وتسريع التطور الرأسمالي الداخلي لتكونَ في مستوى إنجلترا وفرنسا المتقدمتين عنها بمراحل.
كانت الحربُ العالميةُ الأولى وألمانيا أقربُ بقوةٍ للإقطاع لكن هذه الحرب نفسها زادتها تأزماً وتقطيعاً وإحتلالاً في جسدِها الجغرافي الوطني نفسه، فكانت القفزةُ في الصناعةِ وفي الانضباط العسكري العمالي والتطور في العلوم التقنية ردة فعل كبرى.
كانت الهتلريةُ تتويجاً لهذه التناقضات الرهيبة. فالرأسماليةُ الألمانيةُ تزدادُ تطوراً وبها رغبةٌ عارمةٌ دراكولية في إبتلاع المستعمرات وهي تضعُ المعاطفَ الفكريةَ المحافظة على جسمها، فكانت الشهيةُ للأسواق وعسكرة البرجوازية الحاكمة المتحولة من إرثٍ إقطاعي متجذر بها، تقذفُ بها بعيداً عن الديمقراطية والأنسنة الفكرية، فكان الصليبُ المعقوفُ بديلاً عن الرحمة.
وهنا نستطيع أن نضعَ المدارسَ الفلسفية الألمانية في مناخها التطوري الاجتماعي الواضح، كنتاجاتٍ متأثرةٍ بهاتين القدمين الموزعتين بين الإقطاع والرأسمالية، بين الفكر الديني المحافظ، والحداثة المهَّشمة، بين القوميةِ الدموية وضحالة التنوير الديمقراطي العلماني الألماني.
فليست فلسفةُ شوبنهاور التشاؤمية وأفكارُ نيتشه الفاشية وذورةُ الانهيار العقلي في تصوراتِ العنصرية الآرية الهتلرية، إلا حلقات التأزم الفكري والتوغل في الرجعية الفكرية والتصادم مع تيارات الأنسنة، أي التخلي عن أفكار البرجوازية الديمقراطية العلمانية وهي أفكارٌ لم تستطعْ ألمانيا إنتاجَها في ظلِ هذا التطورِ المتسارعِ والمزاحمة مع الرأسماليتين الكبيرتين البريطانية والفرنسية اللتين أحتلتا أغلبَ العالم ثم تبعتهما الرأسماليةُ الأمريكيةُ فيما الإقطاع الروسي مهيمنٌ على ثلثِ الكرة الأرضية وهو ما أدى إلى تشكيل تجربةٌ رأسماليةٌ مغايرة شرقية إستندتْ على تناقضاتِ ماركس الشاب وإلى عدمِ تحديدهِ الصارمِ في كهولته لخطِ التطورِ الراهن وقتذاك للبشرية الغربية.
ليست المشابهة بين ألمانيا والعالم العربي المفتت دولاً وشعوباً سوى مشابهات محدودة، فرغم أن ألمانيا كانت مفتتة في أوائل القرن التاسع عشر، إلا أنها كانت ضمن سيرورة الدول المسيحية الغربية التي كونت إيديولوجيات الإصلاح البروتستنانتي، كبريطانيا وهولندا الرائدتين في النمو الرأسمالي، كذلك كان تسارع الصناعة الخاصة فيها كبيراً بخلاف العالم العربي، وهو ما أهل ألمانيا أن تَكونَ قوةً صناعيةً كبرى، لكن الغلافَ الإقطاعي السياسي – الإيديولوجي عرقلَ ذلك لفترة سابقة طويلة نسبياً، حتى إذا هيمنَّ على ألمانيا الموحَّدةِ عبر جيوش بسمارك سرّعَ بالتطور الرأسمالي الاقتصادي الخاص عبر أملاك النبلاء!
إنها تجربةٌ خاصةٌ بالشعب الألماني لا يمكن نسخها، بسبب ظروفها الموضوعية الاقتصادية المتقدمة قياساً للشعوب العربية، فإذا حاولت قوى سياسية وإجتماعية عربية تقليدها فهي تنتزعُ بعضَ الجوانب من خيوط الإيديولوجيات القومية الفاشية، وتغدو (الأمة العربية فوق الجميع) مهزلةً فيما كانت لدى الألمان مأساةً.
وقامت التجاربُ العربيةُ الشمولية العسكرية القومية والدينية المذهبية على إستيرادات جزئية متضاربة، لفقدان طبقة توحيدية قومية صارمة كنبلاء بسمارك، خلقت الوحدة القومية والعسكرية ولكنها جذرت البرجوازية الخاصة، صحيح إن هذه البرجوازية ظهرتْ من ضلوع هؤلاء النبلاء الشموليين لكنها أسست صناعة متقدمة.
فيما تعددتْ مساراتُ الفئاتِ الحاكمة العسكرية بين إشتراكية حكومية يرثها الضباطُ غير الأحرار من ذوي الثقافة المتخلفة قياساً حتى بالمعايير الألمانية، إلى إبقاء التخلف الريفي وسيطرة الإقطاع الزراعي، وتجميد حريات النساء وإبقاء النصوصية الدينية الصفراء.
فلا يمكن مقارنة البرجوازية النبيلة الألمانية أو النبلاء المتبرجزين الألمان، بفئاتٍ ريفية عسكرية عربية متخلفة ظلت إقطاعية مذهبية دينية لم تطرح حتى شكلاً توحيدياً إسلامياً بمجاراة البروتستانت، وهي لم تؤسسْ نهضةً كاسحةً تشمل كافة القطاعات وتكون رأسمالية بحتة فلم يوجدْ بسمارك عربي أبداً حتى هذه اللحظة.
كما أن الأمة العربية من جهةٍ أخرى غير الأمة الألمانية، فهي شعوب دينية قاربتْ الحداثة قبل الألمان، لكن قضايا التصنيع والعلوم لم تُنجزْ لديها، وفي عهد التبعية للاستعمار الغربي مُنعت من التنصيع، والأنظمة التي نشأت فيها لم تقارب لا البسماركية الرأسمالية الخاصة العسكرية ولا التنمية الرأسمالية الغربية الحرة أو الهندية واليابانية، ولا التنمية الحكومية الرأسمالية الشاملة على طريقة روسيا والصين.
فهي أمةُ التفتت والضياع البرامجي، وما الإشارات في تجربتها لألمانيا فهي مثل إشاراتها الكثيرة لروسيا السوفيتية والصين الماوية، وأمريكا البرجماتية، تأخذُ من كل تجربة شعرة على كثرة دولها وجماعاتها ومذاهبها، دون أن تحول هذه الشعرة إلى نظام.
فلم توجد وتتكرس تجارب تتجذر في أرض الحداثة والحرية والتصنيع وتلقي بالتخلف للوراء.
وما نشؤ طالبان والقاعدة وغيرهما سوى علامات واضحة على العجز البرامجي.
ألمانيا كانت صغيرة قياساً للعالم العربي، وذات مقدمات نهوضية أكبر، وحولها بسمارك لمدارس ومصانع عسكرية، فيما العالم العربية يحتاج لأنظمةٍ ديمقراطية ليبرالية تنمو بأشكالٍ متعددة متعاضدة، وتنشرُ العلاقات الرأسمالية الصناعية التحولية في الأرياف، وتجذبُ النساءَ للصناعة، والرأسمالية التجارية والمالية للإنتاج المتطور.
وفيما يتعلق بالأشكال الثقافية فإن العرب لهم تاريخ زاخر في الثقافة الإنسانية والعقلانية، كما أن الأشكال العنفية المتعصبة تنعزلُ يوماً بعد يوم.
إن للأمةِ العربيةِ تطورٌ خاص فريد في البشرية، وهي لن تنسخ تجارب الأمم الأخرى بل ستولدُ نموذجَها الإبداعي التاريخي الخاص، بنشاط مناضليها وشعوبها.
فمع تولد دول ديمقراطية رأسمالية عامة وخاصة بشكلٍ تدريجي وحسب مصالح شعوبها وطبقاتها ستلتئم أجزاؤها وتطور تبادلاتها وإنتاجها وتوسع صلاتها السياسية التوحيدية.
تحقيبٌ إجتماعي لفلسفةِ ألمانيا
خروجُ الفلسفةِ الألمانية من الشكلِ الديني لم يتم كالفلسفاتِ الأوربية في البلدان المتطورة رأسمالياً في القرن التاسع عشر، فلسلسلةُ فلسفاتِ كانط وفيخه وهيجل وشوبنهور وغيرهم حتى القرن العشرين لم تكن سوى فكرة الدين السماوية المطلقة مهيمنةً على هذه الفلسفاتِ الأرضية الذليلة أمام الأكليروس، الشكلُ فكرةٌ فوقيةٌ تهيمنُّ على البشرِ والأرض وسيرورة الأفكار.
الفكرةُ المطلقةُ الهيجلية السرمديةُ المتحولة في الوجود البشري المتنوعِ التاريخي التي تنمو جدلياً أوضحُ شكلٍ فلسفي للدين، وللمثالية، في زمنِ الحداثةِ الرأسمالية التي كانت تُعبدُ الدروبَ للحرية الاجتماعية والسياسية في غرب أوربا للحريات.
الإقطاعُ المهيمن بصورةٍ طويلة مطلقة، ومكّون الإمارات الألمانية الكثيرة، الموّحدةِ عبر دولة كبيرة متخلفة عن جيرانها، والمتجسدُ في الدين، والمعرقل لوجود وتطور البرجوازية في القرن التاسع الألماني، هو مشكل هذه الفلسفات.
قيمةُ الفردِ ودوره المستقل هو بؤرةُ هذا العصر الأوربي لكنه معرقلٌ في ألمانيا، ويتجسدُ ذلك في الفلسفات التي هي ذورةُ فهم البشر للعصر والمجتمع، وقد كان الفيلسوفُ عمانويل كانط هو مفتتحُ هذه الفلسفات التي هزّتْ البشريةَ بإتساعِها وديمومتها ومغامراتها الخطيرة كذلك، لكن الذات عند كانط نجدها ذاتاً فردية محصورة، غيرَ محلِّلةٍ للمكان والزمان الموضوعين، المجردين، والمجسدين في جسم ألمانيا الإقطاعي، وتغدو معرفتها جزئيةً، مُركزةً على ظاهر الشيء، على ظاهر ألمانيا، ويفلتُ الشيءُ في ذاته من المعرفة، وتغدو ألمانيا ذاتاً فردية شاحبةً مقزمة، مجهولة السيرورة التاريخية والتشكل الاجتماعي، والدولةُ الإمبراطورية تفردُ عليها أجنحةَ النسور.
وفيخته الفيلسوف التالي يجعل الفردَ محارةً لا تستقبلُ حتى ذرات الرمل، فلا تخصبُ لؤلؤاً ولا كسراً لبرجزية ذاتية متوقعة في نفسها، غير قادرة على العبور للآخر، وللتغيير الاجتماعي السياسي. وقد صرخَ به طالبٌ حين رمى حجراً على نافذته بإن القوقعة إخُترقت وأن الذات مفتوحة على العالم الخارجي!
هيغل أراد أن يعممَ العمليات التاريخيةَ الكلية في الوجود والمجتمع، عبر حركاتٍ جدلية مُسبقة الصنع من ذاته، ومن خلال عباءة الفكرة المطلقة، حيث تغدو هذه الفكرة هي الدين والدولة وقد تجسدتْ في صناعِها من الإقطاعيين البروسيين هؤلاء الطغاةُ الذين يُختتم بهم هتلر ومحارقُهُ عالمَ ألمانيا القديم.
البرجوازي الصغير المجسدُ في هيغل وهم دائماً صناع الأفكار المتذبذبة، ليس منتمياً لبرجوازية صناعيةٍ محولةٍ للمجتمع الإقطاعي، فهو يعطي مكونات الدين والدولة الإقطاعيين الحركة وسيطرةَ الأعالي والرتب العليا، ويعطي التطورَ الاجتماعي الموضوعي مساراته المختلفة بدون لبهِ من الصراع الاجتماعي.
قدمٌ في اليمين وقدمٌ في اليسار، ولهذا كان ظهورُ اليساريين الهيجليين إنشقاقاً بين البرجوازية غير الناضجة إقتصادياً وسياسياً وبين العامةِ غير المتبلورةِ في طبقةٍ عاملةٍ مستقلة.
ولهذا كانت ثورة 1848 بلا طبقة حقيقية قائدة، كانت الطبقاتُ البرجوازية قد إنتصرتْ في البلدان الرأسمالية المتقدمة، ولكنها عاجزة في ألمانيا حيث تلحفت البرجوازية أرديةَ الإقطاع الثقيلة وهيّمن عليها الضباطُ البروسيين الكبار ورجال الدين المحافظين الذين قادوا توحيدَ ألمانيا بعد ذلك، ليفرض الإقطاعُ سيطرتَه حتى يأتي هتلر فينفجر هذا التحالفُ وتُدمر ألمانيا.
تأخر البرجوازية الألمانية في توحيدِ البلد وتثويره إقتصادياً صناعياً وإجتماعياً فكرياً وغياب تعاونها مع العمال سياسياً وإقتصادياً، أدى إلى هذا الهجين الاجتماعي السياسي المضطرب، وإلى هذه الفلسفات المركزة على الشكل، وعلى القوى العليا المهيمنة، وعلى الأنا المعزولة عن شلالات التحولات الاجتماعية، وعلى تصاعد الأشكال الدينية الشاحبة فكرياً، وأدوات التحليل الظاهرية غير الغائصة في الأعماق ومضامين الظاهرات، والمركزة على السطوح، والتي تغدو الثورات فيها بعد ذلك مغامرات وفوضى، وإنقلابات فاشية قاتلة مدمرة.
يشابهُ التطورُ الألماني التطورَ في بعض الدول العربية والإسلامية حيث التطور الرأسمالي المُعرقل بالإقطاع، والذي يتأزم شيئاً فشيئاً حتى يغدو إنفجارات ويتوجه للانتحار عبر الحروب، عاجزاً عن تطوير بناه الاقتصادية عبر الحداثة والتصنيع الواسع ونشر التنوير والديمقراطية والسلام الاجتماعي.
March 29, 2023
الطبقة العاملة الهندية في البحرين
الرفيق عبدالله خليفة كتب: عبـــــــدالله خلــــــــيفة
يزيد عدد أفراد الطبقة العاملة الهندية في البحرين على ثلاثمائة ألف، فيُعتبرون أكبر قوة سكانية منتجة.
وقد ذكرتْ وزيرة الشؤون الاجتماعية البحرينية أنه على (الرغم من مساحة البحرين التي تبلغ 740 كيلومترا مربعا فإن العمالة التعاقدية التي تردُ البحرينَ من آسيا وخاصة الهند تمثلُ خمسين بالمائة من عدد السكان، البالغ مليون نسمة، كما تشكلُ العمالةُ التعاقدية من النساء 31 في المائة من عدد العمالة الأجنبية)، الوسط، 3 ديسمبر، .2009
وتقول وكالة فرانس برس:(ووفق أرقام رسمية فان عدد العمال الاجانب في البحرين يصل الى 270 الفاً غالبيتهم الساحقة من الهنود وهم يعتبرون عمالاً غير مهرة).
تعبرُ هذه الأرقامُ المتضاربة المتنوعة بين المسئولين والمستثمرين والصحافة، كما سنرى بشكل أوضح لاحقاً، عن عدم الدقة في تسجيل هذه الظاهرة الاجتماعية (المائعة)، وهي الدجاجة الكبيرة التي تفقسُ البيضَ الذهبي لقوى الاستثمار المتنوع، ونحن هنا في بداية المشكلة حيث لا تمتلكُ الأجهزة المختصة سجلاً دقيقاً كاملاً عن هؤلاء البشر، من هم؟ وما هي أسماؤهم الحقيقية غير المزورة بشتى طرق التحايل، ومدى صحة البيانات التي يقدمونها؟ وأين سيعملون؟ وماذا سيكون دخلهم الفعلي؟ ومن هو رب العمل الثابت؟ وما هي شروط السكن؟ وغير هذا من جوانب تعبر عن الوجود الغامض الكبير لهذه الظاهرة البشرية.
إن وجود الإحصائيات الدقيقة والدراسات عنها في جوانب هذه الظاهرة كافة، هي التي سوف تعطينا إمكانية فهمها أولاً والسيطرة عليها ثانياً، من قبل مختلف الفرقاء الوطنيين والإنسانيين كذلك.
تقدم جمعية المقاولين البحرينية أرقاماً أخرى ولكنها مهمة لمقاربة أعداد العمالة الأجنبية وتوزيعاتها الاقتصادية الهيكلية العامة:
(حسب الإحصائيات المتوافرة لدى جمعية المقاولين البحرينية فإن إجمالي العمالة الأجنبية في مملكة البحرين يصل إلى 500 ألف عامل موزعين على 270 ألف عامل من الهنود الذين يعمل منهم 200 ألف في قطاع المقاولات والإنشاءات و70 ألفا في مختلف القطاعات الأخرى، و230 ألف عامل ما بين العمالة الباكستانية والبنغالية الذين يعملون في قطاع المقاولات والإنشاءات.
عموماً يبلغُ العددُ الأجمالي للطبقة العاملة الهندية في الخليج 12 مليون فرد، ويحولون مالياً ما قيمتهُ 26 مليار دولار سنوياً ويعتبر هذا الدخل مهماً بشكل كبير للاقتصاد الهندي حسبما ذكره الخبير الاقتصادي حسين المهدي، لكنه يمثل نزيفاً اقتصادياً حسبما يفترضه كاتب هذه السطور.
من الواضح ان ثمة ضخامة (غريبة) في أعداد العمال الأجانب في قطاع الإنشاءات، فهم يشكلون أغلبية العمال الأجانب عامة، وهذا تعبيرٌ كذلك عن البُنى التحتية التي لا تتوقف ولا تصلُ إلى أن تكون بُنى تحتية راسخة ودائمة فهي تتغيرُ وتصيرُ غير أساسية بعد بضع سنوات أو حتى بضعة شهور، وهي موقعُ العمال الأجانب الرئيسي ومنبع التداخل بين الرأسمال الحكومي والرأسمال الخاص، ومن المؤكد انها كذلك تمثل البقعة الاقتصادية التي لا تتمتع بشفافية كافية.
من خلال الرصد الاجتماعي الأولي نجد ان ثمة أربع شرائح أساسية من العمال الهنود في البحرين، الأولى هي الشريحة التي تعمل بلا أجر محدد، وهي فئة سائبة، غير معروفة أحوالها في الدخول إلى البلد، وأغلبها من النساء اللواتي يعملن في المنازل و الفنادق والخدمة، ويستقدمهن أزواج أو اخوة ويتركونهن يعملن في تلك البيوت والمؤسسات، ويحصلن على أجور أو إكراميات من الزبائن، وليست لهن أي حقوق، ويعشن مع أهلهن في بيوت جماعية.
أما الشريحة الثانية فهي البروليتاريا المعدمة وأجورها لا تزيد على خمسين ديناراً، وتأتي للعمل في أشغال متدنية، بأشكالٍ كثيرةٍ متعددة، ولدى الرساميل الصغيرة المتنوعة كذلك.
والشريحة الثالثة وهي العمال الأفضل أجوراً والأقرب لأن يكونوا فنيين وتقنيين، وهم يقتربون من أجر يبلغ مائتي دينار، لكن الإيجار والطعام يقتطعان جزءاً كبيراً من تلك الأجور.
والشريحة الرابعة هم الإداريون والفنيون المتعاقدون من شركات وبنوك، وأجورهم أعلى، وذوو عيش أفضل.
أكبر الشرائح عدداً هي الثلاثُ الأوَل، وهو أمرٌ يعبرُ عن الطابع (المتدني) لمهنية هذه العمالة.
إضافة لهذه الفئات الثابتة من العمال الهنود سنجدُ العمالَ غير الثابتين وهم عمال المقاولات والمشروعات الإنشائية المؤقتة الذين يعملون في ظروف عمل سيئة وقاسية، وهم أغلبية العمال الأجانب عامة والهنود خاصة، وهذه الفئة المتجمعة في أماكنِ عملٍ وإنتاج كبيرة، والمرتبطة بعقود، مغايرة للعمال الهنود المتناثرين كعمال خدمة وعمال أجانب في محيط بحريني، ولهذا استطاع أولئك العمال تغيير أجورهم وظروفهم بسرعة أكبر، وقاموا بإضرابات مؤثرة في أرباب العمل سواء كانوا شركات خاصة أو قوى أرباب عمل مرتبطة بالوزارات.
إن تشكل الطبقة العاملة الهندية في البحرين له تاريخ طويل، فقد تشكلت علاقات اقتصادية وسياسية مع الولايات المصدرة للطاقة البشرية المنتجة الهندية منذ عقود طويلة، خاصة ولاية كيرالا، التي قدمت عمالاً ذوي مستوى سياسي أكثر تطوراً من بقية العمال الأجانب.
ثم توسعت العلاقات مع العمال الأجانب وتدفقت بصور كبيرة، وشكلت البُنى التحتية المتغيرة دائماً، والإنجازات الكبرى في البنايات والمعمار العمراني، ووصلت كذلك إلى الفوضوية والاستغلال الكبير وإلى عدم التخطيط، وسنرى صوراً من ذلك لاحقاً.
إذا كانت الأرقامُ بشأنِ أعداد العمال وأجورهم تسبحُ في غموضٍ كبير، فإن الأرباح الناتجة عن أعمالهم تقع في الجانب المعتم من القمر.
وقد حاولتْ العمالةُ الهندية تغيير أجورها المتدنية للوصول إلى مبلغ مائة دينار كحد أدنى للرواتب خاصة في قطاع الإنشاءات والمقاولات، وهو الجسم العمالي المنهك في عمل صعب وخطر.
في إحدى المواجهات الاجتماعية بين المقاولين وعمال بناء الجزر والإنشاءات السياحية الخرافية، طالب العمالُ بتغييرِ رواتبهم إلى مائة دينار شهرياً فقط ولا غير.
يقولُ أحدُ المقاولين إن عدد العمال الذين يعملون في شركته من الهنود يبلغ 800 عامل ومعهم 300 عامل بحريني، وان توقف العمال يوما واحدا يؤدي إلى خسائر تبلغ 150 ألف دينار، ويذكر أن أغلب أعماله(مشاريع عامة للحكومة).
ضخامةُ أموالٍ تُستثمر في مثل هذه القطاعات البنائية الدائمة والمتبدلة التي لا تنتهي فهي (الحلابة الكبيرة للميزانية)، وأجور هزيلة للعمال ومخاطر العمل لا تتوقف، فلماذا التناقض الحاد؟
ولعل مقاربة السفير الهندي لأوضاع العمال الهنود تعطينا صورة تقريبية لأوضاعهم:
(أشار السفير إلى أن “حصة الهند من العمالة الأجنبية في منطقة الخليج هي الأكبر مقارنة ببقية الجنسيات، إلا أنها تعتبر الأقل في البحرين، حيث لا يتعدى حجمها 350 ألف مواطن هندي، 280 ألفا منهم عمال، فيما تقدر العمالة في السعودية بـ 15 مليون شخص.
واعتبر ان ما نسبته 90% من العمالة التي تصل إلى البحرين غير مؤهلة وتعمل في القطاعات التي ليست بحاجة إلى مؤهلات ومهارات عالية)، (جريدة الوقت).
هذه إحصائيات أخرى وأرقام مختلفة، فكل جهة لديها أرقامها بشأن هذه الظاهرة العائمة، وعلينا هنا أن نرى كيفية تجريد ظاهرة العمال من طبيعتهم الإنسانية، فهم مجردُ قوى ومواد خام تُنقل من بلدٍ إلى آخر، فلا نعرفُ الجهات التي تقومُ بعملية النقل المتدنية هذه، وكيف تستفيد من مثل هذا الشحن العائم، وكيف لا يتم تحديد أجورهم من البداية، أي قبل شحنهم، وكيف يُسمح بذلك؟!
(وقدّر السفير جوزيف عدد الشكاوى العمالية التي تلقتها الوزارة في السنوات الثلاث الماضية بـ “10 آلاف و500 شكوى”، مستدركاً “إلا أننا سعينا إلى حل ما يقارب الـ90% منها، فيما تبقى النسبة المتبقية في أروقة المحاكم ونعتقد أنها في طريقها للحل”.
وأشار إلى أن “أغلب الشكاوى تتركز في قطاع الإنشاءات، وهي عدم دفع الأجور بانتظام أو عدم دفعها مطلقاً، أما في بقية القطاعات فهناك شكاوى ولكن أقل حجماً”، المصدر السابق.
فليس ان تلك السلع لا ترفعُ أجورها لدى القوى الإنشائية والمقاولاتية المتنفذة بل ان هذه الأجور لا تدفع في كثير من الأحيان!
وتضيع أوقات العمال بين أروقة المحاكم والبحث عن أجورهم وبين العمل المنهك.
و يضيف سعادة السفير الهندي:
“هناك جهود تبذلها الحكومة الهندية لتوعية العمال قبل وصولهم إلى الدول المستقبلة للعمالة، عبر النشرات الإعلانية في التلفزيون والإذاعة التي تؤكد لهم بضرورة الذهاب إلى المحاكم من أجل تحصيل حقوقهم في حالة انتهاكها والتنسيق مع السفارة، إلا أن الهند تبقى بلداً كبيراً ومساحاته شاسعة، فضلاً عن وجود ما يقارب 280 لغة ولهجة رسمية، وبالتالي من الصعوبة تغطية جميع هذه الفئات”.
أي أن تحصيل حقوقهم ومعيشتهم تبقى صعبة على ضفتي البلدين المصدر والمستقبل، وأغلب الروايات تعيدُ ذلك للقوى المتنفذة في هذه المجتمعات التي لديها قدرة على جلب العمالة عبر التأشيرات الحرة، واستغلالها في الأسواق بشتى الطرق، وهذا جانب لم يتم توضيحه من خلال الصحافة والبرلمان والبلديات حتى الآن.
ولا تعتمد هذه القوى المتنفذة على معايير محددة إلا معيار المنفعة وتحصيل الأرباح.
في حين ان تعامل الشركات الكبيرة خاصة مع هؤلاء العمال يتم من خلال العقود، وتحديد الحقوق، وينطبق هذا بشكل خاص على العمالة الماهرة والموظفين الإداريين، وتظهر المناطق المعتمة في حياة البروليتاريا، هذه الفئات المحدودة الأجور والحقوق، وتتحجم حقوقهم في الشركات الصغيرة، وتضيع أو تصغر في عالم التأشيرات الحرة ولدى أرباب العمل الأفراد والصغار ولدى أصحاب العمل في الزراعة وفي البيوت.
أما في الجوانب النقابية والسياسية فهي تعكس حالة القوى الاجتماعية البحرينية، وتبدو نظرة الخوف من وجود هؤلاء العمال الأجانب، بدوافع دينية وقومية، فتتصور جماعاتٌ معينة ان هؤلاء العمال الأجانب يمثلون خطراً على الوجود القومي أو على الوضع الديني، وهو أمرٌ فيه بعض الصواب مع غياب الاستراتيجية السياسية في التعامل مع هؤلاء البشر المستخدمين بأشكال استغلالية فظة، وذوي تضارب مع السكان في العقيدة والعادات والتقاليد ومستويات العيش، فهم يسعون للتجذر في هذه المجتمعات والوصول إلى حياة أفضل، وهذه أمور يترتب عليها نمو لغاتهم وحقوقهم وحصولهم على مواقع عيش وسكن وحقوق نقابية وسياسية، فتحدث صراعات بين الأهالي وهؤلاء العمال على مواد العيش، وعلى الحقوق.
لكن في المجال النقابي وفي الرؤية السياسية تغدو هذه نظرات ضيقة، لكون الدفاع النقابي عن حقوق هؤلاء العمال، وتحسين مساكنهم وأجورهم، يؤدي إلى تطور أوضاعهم المادية والاجتماعية، ويؤدي إلى تقلص وجودهم الكثيف وحضورهم غير المنظم والفوضوي. وبدلاً من أن يجري الصراع بين العمال أنفسهم ينبغي أن توضع الكرة في ملاعب الوزارات والشركات وأرباب العمل المسؤولين عن استيراد هؤلاء العمال وتكديس الأرباح من عملهم.
إن غياب درس حياة هؤلاء العمال يقود إلى مواقف سياسية محدودة كما نرى في البرلمان ووزارة العمل والنقابات
March 28, 2023
هتلر يحكم إسرائيل
≣ كان يُفترض أن تشكل الإبادة التي قام بها أدولف هتلر زعيم النازية في ألمانيا ضد اليهود حافزاً كبيراً لإنتاج وعي إنساني وديمقراطي لدى اليهود، ولكن ما حدث هو العكس فقد تبنت إسرائيل أيديولوجية هتلر وجعلته معبودها السياسي الذي يرتقي فوق (يهوه)، أو أنه يجسده على الأرض!
إن لهذه المفارقة الرهيبة والمأساوية أسباباً عميقة.
فقد قامت جذور الطوائف اليهودية على استغلال الشعوب الأخرى عبر العمليات المالية القاسية، ومثلت هذه الطوائف صناديق الربا والفوائد التي تجمعت بفضل عَصْر الأجساد البشرية الأخرى، فكانت الحصالة الثقافية هي التعصب والكراهية للأمم، فلم تتشكل أفكارٌ إنسانية، وكان الانعزال اليهودي تجسيداً لحجم الكراهية للأمم، وكان (الغيتو) اليهودي في الأحياء الأوروبية ولادةٍ مبكرة لإسرائيل.
وهكذا راحت الجالياتُ اليهودية الغنية تتزحلق فوق رافعة النهب الرأسمالي للشغيلة والأمم، وتتوجه بفضل ذهب الاستغلال الهائل إلى بؤر الرأسمالية الكبرى؛ روسيا وأوروبا الشرقية، فإنجلترا، ثم تتويج الرأسمالية العالمية: أمريكا.
لقد وجد كبارُ الأغنياء اليهود في الرأسمالية ثم في الاستعمار فضاءهم المالي والسياسي المفقود والرحب. ولهذا كانت النازية عدوة لدودة لأنها رفضت هذا التشكل الرأسمالي المميز داخل مجتمعها الجرماني، فليس ثم لديها حاكم سوى الاحتكارات الألمانية وذبحت اليهود وشجعت الصهيونية، والجانبان متوافقان رغم تعارضهما الظاهر.
وقد وجدت الاحتكاراتُ اليهودية صيغةٍ مقبولة مع الاحتكارات البريطانية والأمريكية، وهو تشكيل وطن قومي لليهود، فلا هو ينافس هذه الاحتكارات على أرضها القومية ويتداخل معها، كما أنه يمنع اليهود من الذوبان في الأمم الغربية، كذلك فإنه يسمح للأساطير اليهودية بالبقاء!
وقد قامت الصهيونية على خداع العمال اليهود، بأن أوهمتهم بأنها حركة قومية اشتراكية، وكان دليلها هو صنع المعسكرات (الكيبوتزات) في إسرائيل، حيث تغدو الأرض مشتركة، ولكن الأرض رخيصة في حين أن المصانع والشركات الكبرى في المدن هي للعمالقة من الماليين اليهود وهم الذين حكموا، ولهذا كان حزب العمل الخادع للعمال هو الشريك الصغير فى قبضة أحزاب مثل الليكود ونسخه الأخرى، من القوى الفاشية، التي عبدت هتلر سراً وكرهته نفاقاً.
ولهذا لم تتأسس ثقافةٌ إنسانية ديمقراطية عميقة وواسعة الانتشار بين اليهود، لأن المعدل الزمني في إقامة دولة رأسمالية متطورة في قلب الشرق، استغرقت أقل معدل تاريخي، فالرأسمالية اليابانية أخذت أكثر من قرن، ومع هذا فلم تتشكل ثقافة ديمقراطية كبيرة وإنسانية في اليابان، وغدت أول فاشية شرقية، فتغدو إسرائيل ثاني فاشية آسيوية، بمعدل أضخم وأوسع وأخطر.
إن الرأسمالية كمجتمع إنساني بحاجة إلى عدة قرون، فلا بد أن يتجلى فيه نضال طبقاته الشعبية، وهو النضال الذي يؤنسن أي مجتمع، ومن دونه يتوحش، لكن إسرائيل هي أسرع مجتمع بشري قفز إلى الرأسمالية الحديثة في التاريخ البشري، لكن على رافعات الاحتكارات اليهودية المصنوعة في الغرب، ففقدت أي نضال عمالي إنساني مؤثر، وقامت على اجتثاث مجتمع فلسطيني فلاحي، وسحق الجيران العرب.
ومن هنا ليس غريباً ملاحقة النازيين الألمان من قبل الدولة العبرية، الدينية مضموناً والعلمانية شكلاً، في حين كانت تستورد التراث النازي، وتجعله أساس الدولة.
إن كل حيثيات العقاب الجماعي النازي، بضرب المدن وقتل الجماعات تتجلى في عمليات ضرب لبنان، يدفعها كذلك الحقد على أي تطور عربي، والسيطرة الكاملة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وتفجير التناقضات الداخلية داخل لبنان والأمة العربية.
صراع الطوائف والطبقات في إسرائيل
≣ يعبر قيامُ إسرائيل عن مجموعة كبيرة من التناقضات السياسية والثقافية، فقد أُقيم المشروعُ من قبل الحركة الصهيونية، التي ظهرتْ في الغرب، ومثلتْ مستوىً دينياً واجتماعياً مغايراً لبقية اليهود في العالم، وخاصة اليهود الشرقيين، فسيطر ما يُسمى (الإشكناز) على مقاليد السلطة وغدوا طبقة مميزة تناهض أي قوة اجتماعية تحاول الصعود.
منذ البداية كان مشروع إسرائيل متضاداً فقد أقامه اليهود العلمانيون المفترضون، فهو مشروع ديني بقيادة رأسمالية غربية يهودية، علمانية، فظهرت دولة حديثة دينية معاً، فهي لا تنتمي للعلمانية ولا للدين، وهي خليط غريب بينهما.
إن النسيج الديني نفسه لا يقوم على دولة متوارثة ذات تقاليد متنامية، فلم تكن ثمة دولة، ولا تراكم تجربة سياسية حكومية، بل قامت على أحلام وذكريات امتدت لقرون مديدة، فكيف يتحقق نسيج ديني موحد بناء على تاريخ الشتات الطويل؟!
لو أن اليهود الشرقيين قادوا بناء الدولة لجاءت الدولة دولة شرقية متخلفة، لكن اليهود الغربيين قاموا بهذه العملية ونقلوا المشروعات الغربية إلى إسرائيل، وهذا كفل لهم كذلك ليس القيادة الروحية فحسب بل القيادتين الاقتصادية والسياسية.
ومع هذا فإن اليهود الغربيين العلمانيين والتحديثيين قليلو الارتباط بالتقاليد الدينية اليهودية الصارمة، مما خلق تضاداً عميقاً بينهم وبين اليهود الشرقيين المُبعدين عن السلطة والامتيازات الاقتصادية، فقام هؤلاء باستثارة التقاليد الدينية وتجذيرها في الدولة العلمانية المفترضة.
إن هذا الصراع الاجتماعي بين يهود الغرب ويهود الشرق ينعكسُ دينياً، بين شكلين من تبني اليهودية، أي بين يهودية تحديثية وبين يهودية تقليدية.
تناقضات العلمانية واليهودية عميقة، فقد تأسس النظام على أساس سلطة الحاخامات في تحديد من هو اليهودي، واشترطوا شروطاً صعبة ومن أهمها أن يكون اليهودي من أسرة يهودية، وعن طريق أم يهودية، وهو أمرٌ من الصعوبة تحقيقه، خاصة لليهود الشرقيين الذين كان الكثير منهم مسيحيين.
تحديد السكان وأصولهم، وجعل هذه الأصول هي المسيطرة سياسياً، يجعل الدولة دينية غير علمانية، في حين ان ماكينة عمل الدولة تعتمد على الانتخابات الحرة والأحزاب المتصارعة، وهي آلية غربية ديمقراطية.
إن هذه الشروط وطرق العمل السياسي الأساسية تجعل أحزاب الأشكيناز هي المسيطرة، لكنها تؤدي كذلك إلى ردود فعل الأحزاب الدينية الشرقية وتصاعد دورها، فظهر بين اليهود الشرقيين حزب (شاس) المؤثر الذي يمنع الأحزاب العلمانية من التفرد بالسلطة.
فلا يُعرف حقيقة هل إسرائيل دولة علمانية أم دينية، أهي شرقية أم غربية؟
لكن الثروة توحد القوى الرأسمالية فيها سواء أكانت تنتحب كثيراً عند جدار المبكى أم كانت لا تراه إلا في الصور.
ومع تجذرها الرأسمالي الكبير، وقد كان اليهود منذ زمن الكنعانيين رأسماليين في الشرق ثم في الغرب، فإن الصراع لا يدور عن توزيع الثروة فقط، بل أيضاً حول أنصبة الطوائف في حصص الحكم، والأمران يتداخلان ويعينان بعضهما بعضا، الثروة تقود للحكم والحكم يقوي الثروة.
هل تؤدي التقاليد الدينية القوية في الدولة إلى الرجوع للبنى الإقطاعية الشرقية؟
هذا غير ممكن، سواء بجذور اليهود التاريخية التجارية، أو بسبب تعاظم الدور الرأسمالي في دولة أقيمت على أساس صناعي غربي متطور، ولكن مع هذا فإن التقاليد الدينية وتدني مستويات اليهود القادمين من الشرق، تجعل الميراث المحافظ موجوداً بقوة، ويؤججه الصراعُ مع العرب خاصة.
إذاً فإن التناقض الأساسي في الدولة الإسرائيلية هو تناقض ديني بين اليهود الغربيين (الإشكيناز) واليهود الشرقيين (الإسفارديم).
ولماذا لا يحدث التناقض الطبقي هنا ويغدو هو محرك الحياة السياسية؟
هذا يعود إلى ان قيادتي الطائفتين قيادات في الطبقة الرأسمالية الحاكمة نفسها، لكن عبر مستويات اقتصادية واجتماعية متباينة، وبتقاليد مختلفة، تمثل المكونين الأساسيين للسكان، القادمين من الغرب، وللسكان القادمين من الشرق، وهما ذوا مستويين مختلفين رأسماليين، أي أن تطور الرأسمالية اليهودية في الغرب متطور عن مستوى الرأسمالية في الشرق.
ومع هذا فإن المستويين المختلفين اجتماعياً بدرجات معينة يشكلان اختلافات سياسية قوية، فتدخل في الصراع عوامل أخرى كاستثمار العمال في الانتخابات والاستفادة من التقاليد الدينية من أجل الوصول للكراسي على طريقة الجماعات الطائفية في العالم الإسلامي تماماً.
ومن هنا فإن العلمانية تتدمر مرة أخرى فتغدو الدولة دينية ليس على مستوى القمة الحاخامية فقط بل على مستوى القواعد السياسية، في حين ان الدولة صناعية.
وهذا أمرٌ يعود لطبيعة تشكيل الدولة القصير نسبياً، وزراعتها داخل غابة تراثية أسطورية، وعودتها للشرق جسماً وبقسمٍ كبيرٍ من السكان، فالقمة الصناعية رأسمالية متطورة والقاعدة شرقية تقليدية.
بل ان الأمر لا يقتصر على هذا، فوجودُ دولةٍ متغربة عن منطقتها وغازية على جسم سياسي لا يعود إليها، ويقوم هذا الغازي نفسه بغزو آخر يحتل فيه أراضي عربية جديدة، إن ذلك كله يعيده إلى تاريخ الاستعمار الغربي وطريقة الاحتلالات القديمة وهو ما يظهر في حركة الاستيطان.
(فيما تلعب حركة غوش أمونيم المتطرفة التي تعتبر أحد امتدادات الحاخام المتطرف مئير كهانا دورا عنصريا مميزا، وهي التي جندت الدين في خدمة الاستيطان، ولهذا فهي في صراع مع جميع الحكومات من أجل الحصول على امتيازاتها الخاصة في دعم المستوطنات والوجود الاستيطاني في الضفة والقطاع والقدس الشرقية.)، (من كتاب الهامشيون في إسرائيل، د. أسعد غانم).
وتمثل حركة الاستيطان استغلال الدين لغايات اقتصادية وسياسية واضحة، فالحركات الشرقية الدينية تقوم بإلهاب المشاعر الدينية من أجل أغراضها.
إن صراع العلمانية والحركة الدينية قديم في النشاط السياسي لليهود، ففي العصر الحديث وخاصة في أوروبا الغربية ومع هزيمة الأنظمة الإقطاعية الدينية المسيحية أخذت الطائفة اليهودية تطرحُ بقوةٍ على نفسها مسألة الهوية الدينية في عصر علماني غربي هائل؛ فإلى أين تتجه وماذا تكون في عصر الحداثة والاستعمار؟ وهو سؤالٌ مصيري تم طرحه في عقر دار الغرب المتوجه للسيطرة على العالم وحوز كنوزه، وكانت نتائج السؤال خطيرة جداً على وضع اليهود وعلى أمم أخرى لم يكن لها علاقة بذلك السؤال وذلك اللعاب السائل على الثروات، خاصة على اليهودي الشيلوكي الذي يتحين الفرصة للهبر من اللحم. ظهرَ إتجاهٌ علماني قوي في الجماعات اليهودية يطرح حلاً فردياً على كل يهودي؛ (كن يهودياً في بيتك وحداثياً علمانياً في العالم الخارجي).
وهو اتجاهٌ تنويري بين اليهود المثقفين، لكن لا يتطابق مع أوضاع اليهود عامة، فهناك ملايين من اليهود خارج هذه الأسئلة وتعيش عالماً تقليدياً سواء في الشرق أم الغرب. وهكذا فإن حركة علمانية تولدت عبر الثقافة الديمقراطية الغربية السائدة، راحت تدعو إلى العيش التحديثي في الغرب نفسه، وعدم الذوبان كذلك في علمانيته. وكان لها مرادفٌ ديني عند اليهود المتدينين الرافضين للدخول في السياسة والزج باليهود في مشروعات الاستعمار. لكن قوى أخرى تمثل اتجاهات متطرفة رأت ضرورة استمرار الحي اليهودي المنفصل (الجيتو) عن المدنية الغربية الرأسمالية المتطورة التي راحت تزيلُ الأحياءَ الدينية والمذهبية الخاصة، في كلٍ اجتماعي لا يعرف الهوية الدينية بل يعرف الهوية المواطنية، لكن الرأسماليات الغربية كذلك لم تـُزلْ جذورَ حكوماتها المسيحية بطبيعة الحال، وبهذا فإن مشروعات الغزو الاستعماري الغربية قوت الدينية التبشيرية والساحقة لشعوب العالم الثالث (الوثنية)! فكانت تلك العلمانية الغربية – اليهودية مبتورة وزائفة. كان هناك لقاءٌ غيرُ مقدسٍ بين ديانتين سماويتين وصارتا استعماريتين! وبهذا فإن الاتجاهات اليهودية المتطرفة وجدت في نمو الاستعمار قوة جديدة لتصاعد دورها، وخاصة أن بعض اليهود أسسوا شركات كبيرة، بحاجة للتوسع والمواد الخام والمستعمرات! هكذا التحمت حركة (التنوير) اليهودية بالحركة الصهيونية وشكلتا الجسمَ السياسي للأشكناز الذين يديرون الدولة العبرية، فلم يُعدْ اليهودي يهودياً فقط في بيته بل في شارعه ومستعمراته وأراضيه! إن قيادة هذه (الطائفة) بالمعنى السياسي للدولة كما تم توضيحه سابقاً، نقلت اليهودَ إلى مغامرةٍ سياسية عالمية محفوفة بالكثير من المخاطر على الشعوب وعلى اليهود أنفسهم، ولم تستطع أن تكون إسرائيل (جيتو) مناطقيا، منفصلا عن محيطها، ولم يستطع اليهود الغربيون أن يكونوا هم كل سكانها، فحدثت تلك التناقضات السكانية والسياسية المتعددة. فانتقلت السياسة اليهودية من محدودية الجيتو السياسية إلى الذيلية للسياسة الغربية (المسيحية)! وكلتا السياستين التوسعيتين قطعتا جذورهما بالديانتين كديانتين إنسانيتين مازال لهما هذا الطابع عند اتباعهما الذين لم يتلوثوا بجراثيم التوسع، وحتى في إسرائيل ظهر أناسٌ لم يشاركوا في صياغة وتنفيذ هذه السياسات، لكن أدخلوا في جوها وغـُسلت أدمغتهم بفعل عوامل كثيرة. فغدت حركة التنوير اليهودية ظلاماً يرفض أن يتغلغل لتحليل الدين وجذوره، ويكتشف في اليهود بشراً مثل غيرهم، فأحاطت بهم الأسلاك الشائكة الثقافية، وتفجرت حروبُ الاقتحام والاستعمار والاستغلال فعجزوا عن التنور والتماهي مع بقية البشر المسالمين حتى ظهرت حركة سلام إسرائيلية تعارض ذلك التاريخ الدامي. كذلك فإن اليهود الشرقيين الذين تعكزوا عليهم من أجل تضخيم العدد السكاني، جعلوهم في المرتبة السكانية الثانية، فالثالثة يحتلها العرب. ففيما يقيم رأسماليو الإشكناز في إسرائيل في المدن المتطورة ويحصلون على ظروف عيش باذخة، يعيشُ الكثيرُ من اليهود الشرقيين في ظروف الفقر والتمييز. (ويتعرض اليهود الشرقيون إلى محنة واضحة على الصعيد الاجتماعي أيضا، فهم معزولون في أحياء قذرة وفقيرة في إسرائيل، إذ يسكن الكثير منهم في مساكن العرب القديمة التي تم هجرها بسبب النكبة، في الوقت الذي يسكن فيه اليهود الأشكناز في أحياء جديدة راقية بعيدة عن أماكن القاذورات والمناطق الصناعية وفضلاتها، إضافة إلى فوارق في التعليم أيضا.)، (المصدر؛ الهامشيون في دولة إسرائيل). وعبر هذا الفقر والمحدودية الثقافية تستثمر قوى التطرف السياسي الإسرائيلي مثل هذه الأوضاع لخلق حركات يمينية متطرفة، كما ظهر حزب (ليكود) الذي هيمن على السياسة الإسرائيلية خلال سنوات عديدة، وهو أمرٌ يشاركهم فيه جيرانهم العرب كذلك. لقد تنامت الانقساماتُ العميقة في المجتمع الإسرائيلي بفضل سياسة السلام العربية واليهودية، والصراعات الداخلية بين القوى السياسية والدينية: (وهكذا عكست الخريطة السياسية والبرلمانية لأول مرة وبشكل جلي التعددية الإثنية والثقافية في المجتمع الإسرائيلي التي كبتتها الصهيونية لعقود طويلة، وحصرتها في ثلاثة اتجاهات رئيسية هي الصهيونية العمالية ويمثلها حزب العمل، والصهيونية المراجعة ويمثلها حزب الليكود، والصهيونية الدينية ويمثلها حزب المفدال. وكان سلوك هذه الأحزاب الإثنية قطاعيا لدرجة كبيرة، خاصة في أمور مثل اقتسام موازنة الدولة، والصراع على وزارة التعليم بين المتدينين والعلمانيين، والصراع على وزارة الداخلية بين «الروس» – كمهاجرين جدد يريدون تأكيد حقهم في المواطنة على أساس المشاركة في المصير- والمتدينين الأرثوذكس الذين يريدون تحديد هوية المواطن بناء على يهوديته التي يفتقر إليها «الروس».. وهو ما جعل قضايا الصراع الداخلي تحتدم بشدة حول أولويات اجتماعية وثقافية بدت للمحلل بصورة لم تكن بهذا الجلاء في وقت من الأوقات.) موقع إسلام أون لاين. وكما هيمن الاتجاهُ الغربي الإشكنازي السابق الذكر على ميلاد إسرائيل الصهيونية خلال نصف قرن فإن الاتجاهات غير الصهيونية أخذت تتصاعد بقوة لتبدأ تاريخ إسرائيل غير الصهيونية، فمنذ القديم كان هناك قسم من اليهود غير موافق على تشكيل دولة خاصة باليهود، ويعتبرها محرقة تقوم بجمع اليهود لإبادتهم، وهذا الخوف أو الوعي الإنساني، جعل هذا القسم يتعاون مع الحضور العربي الفلسطيني. وقد تكون هذه المخاوف نبوءة ما تجعل قسماً كبيراً من اليهود يتوجهون لسياسة السلام التي بدأت تؤتي ثمارها لولا التطرف المذهبي. كذلك كان اليهود الروس غير المعترف بديانتهم يتطرفون بالدفاع عن هذه اليهودية ولكنهم في عملهم السياسي ينسفون الصهيونية، بقيامهم بخلق مجتمع الإثنيات ذات المصالح المشتركة ويرفضون سيطرة يهود الغرب وعبرهم تم إلغاء تحكم حزبي العمل والليكود في إسرائيل لتظهر خريطة سياسة مختلفة تماماً. وعلى عكس الشائع المتصور فقد لعبتْ السياساتُ العربية القومية والدينية المتطرفة دورها في تقوية المجتمع الإسرائيلي وسياسة حكوماته التوسعية، فمنذ حرب التحرير البائسة سنة 1948حتى آخر الحروب كانت الكوارث تتالى على المجتمعات العربية، وكانت إسرائيل تمتن علاقاتها مع الغرب وتستجلب مساعداته وتعتبر نفسها أداته الحربية، لكن سياسة السلام العربية قلصت هامش المناورة هذا، وجعلت القوى الإسرائيلية تتصارع بقوة، وأوجدت جنين دولة فلسطينية لولا عودة سياسة التطرف الدينية مرة أخرى .
هناك صعوباتٌ شديدة في تشكل مواقف مشتركة للطبقات العاملة في كل من إسرائيل وفلسطين المتداخلتين، فالطبقة الحاكمة في إسرائيل تستغلُ كلاً من البلدين وجمهورهما العامل بضراوة. وفي إسرائيل فإن الطبقة الحاكمة المكونة من سياسيين من قوى علمانية ودينية ثرية تركز في سياسة السيطرة على الضفة وغزة وعدم استقلال فلسطين إلا بشروط مجحفة، فيما تستغل القوى العاملة في إسرائيل المكونة من يهود وعرب.
في حوار أجراه اليساريون العرب المغاربة مع عضو حزب شيوعي إسرائيلي من النمط التروتسكي، يقول: (لقد تغير المجتمع الإسرائيلي كثيرا جدا خلال السنوات الأخيرة. لقد مر وقتٌ كانت فيه إسرائيل قادرة على ضمان التشغيل الكامل وتحسين شروط عيش الشعب الساكن فيها. أما الآن فالبطالة تجاوزت نسبة 10%. الحكومة تعمل دائما على الاقتطاع من النفقات الاجتماعية. هاجمت أنظمة التقاعد، التعليم، الصحة وغيرها. وقد صرنا الآن نرى المتسولين في شوارع إسرائيل! والهوة بين الغني والفقير تتصاعد. إن إسرائيل مجتمع طبقي، مثلها مثل أي بلد آخر. توجد فيه طبقة عاملة، مكونة من اليهود ومن العرب. وتوجد فيه أيضا طبقة سائدة. وهناك صراع طبقي كما يظهر من خلال العديد من الإضرابات)، (حيفا، 18 يوليو 2006).
تحول الحكوماتُ الإسرائيلية المتعاقبة الوضع الفلسطيني وخاصة التطرف فيه لأداة سيطرة عسكرية واستغلال، وعبر الادعاء بكون الفلسطينيين يشكلون خطراً وجودياً على إسرائيل فقد تفاقمت النفقات العسكرية بشكل هائل واقتطعت من عيش الناس، وبهذا فقد غدا حل القضية الفلسطينية ومشاكلها لدى الجمهور الإسرائيلي قضية محورية في حياته وأيدت السياسة السلمية وضغطت في اتجاهها لكن ظهرت جهاتٌ عربية أخرى تواصل تبرير الميزانية العسكرية الخيالية باستمرار المواجهة العنيفة. يقول السياسي اليساري الإسرائيلي: ( إن المسألة القومية تعقد بشكل هائل مهمتنا هنا. فبينما الطبقة العاملة في إسرائيل طبقة مضطهدة من طرف طبقتها السائدة نفسها، فإن إسرائيل كدولة تضطهد شعباً بأسره، أي الشعب الفلسطيني. وطالما بقي الشعب الفلسطيني مضطهداً فإنه لن تكون هناك أي حرية حقيقية للعمال الإسرائيليين. إن النضال من أجل حقوق الشعب الفلسطيني هو جزء لا يتجزأ من نضال العمال الإسرائيليين من أجل تحررهم الخاص).
إن الأوضاع متداخلة بقوة بين فلسطين وإسرائيل، وأي نمو لنضال القوى العاملة في إسرائيل يتطلب التوحد مع نضال الشعب الفلسطيني، والخروج من دوامة الوعي الديني العنصري، في كلا الجانبين، ونجد أن قوى عديدة في الجانبين بدأت تتخذ مواقف عقلانية ومتقاربة، لكن القوى القومية والدينية المتطرفة لا تزال كذلك ذات حضور قوي وتمنع فريقي السلام من العمل المشترك. وإذا قامت القوى الديمقراطية في فلسطين بتطوير وعيها السلمي منذ الرئيس السابق ياسر عرفات ومواصلة أبومازن هذا الخط، فإن هناك ضعفاً كبيراً في الجانب الإسرائيلي لهذا التوجه بسبب ما قلناه من الإرث الشمولي الغائر في الحركة الصهيونية، وبسبب استغلال الجمهور العامل الإسرائيلي والفلسطيني، وخاصة في الجانب العربي لما يتم دفعه من أجور رخيصة لهؤلاء العمال قياساً حتى بالعمال الإسرائيليين، كذلك فإن بقاء التوتر بين الجانبين يجعل القوى المسيطرة العسكرية – الصناعية في قمة المجتمع متحالفة مع الحاخامات! لقد كان التصور الأساسي للمجتمع الإسرائيلي بأن يكون قاعدة سكانية عسكرية في حالة طوارئ مستمرة وعمالاً مفرغين من وعيهم العمالي الإنساني وخاضعين للحركة الصهيونية، وهذا يتطلب سياسة مواجهة دائمة، وإذا لم يوجد طرف يواجه إسرائيل فلا بد من خلقه وتوتيره حتى يندفع للمواجهة! كانت سياسة السلام مؤثرة ومزعجة للأوساط الإسرائيلية الحاكمة، ولهذا تكرست بقوة في سنوات المواجهة، والآن تقوم بمساعدتها القوى والأوساط الدينية والقومية العربية والإسلامية المتطرفة، وتعطيها المبررات لزيادة الإنفاق العسكري وطلب المساعدات وتصوير إسرائيل المحاصرة المخنوقة! ومن هنا فإسرائيل الحاكمة تعمل على بقاء الحد الأدنى من سياسة المواجهة المتوترة كذلك تقوم بالابتزاز في مفاوضات السلام، بحيث تكسب من الجانبين.
وهنا فكلما زادت الأطراف العربية في سياسة السلام ورفضت التنازلات المصيرية، وتوقفت عن سياسة العنف وحركت قوى السلام واليسار الإسرائيليتين فقدت تلك القوى الحاكمة الإسرائيلية أوراقها. خاصة ان هذه السياسة العدوانية الاستعمارية العتيقة تواجه برفض جمهور متسع من الأقليات اليهودية المضطهدة التي تريد العيش وزيادة دخولها بدلاً من أن تموت في حروب مستمرة لهذه الدولة – القاعدة العسكرية. فتبدل الطابع الصهيوني للدولة العنصرية وضخامة الوجود العربي فيها الذي يبلغ 16% من مجموع السكان داخل إسرائيل، أي حوالي مليون عربي، وتمرد اليهود الشرقيين واتساع رقعة اليسار الانتخابات وفي الوجود السياسي عامة. لقد كانت الأحزاب المعارضة في القسم العربي قليلة ولكن مع تزايد تأثير القوى المتشددة فقد ظهر الكثير من الأحزاب وقسمت الأصوات العربية.
المترحلون في الحداثة
عربٌ وعبريون، ساميون غامضون، جاءوا لمنطقةِ الشرقِ الأوسط في قديم الزمان، العرب نزلوا للبوادي الشاسعة وضاعوا فيها قروناً.
والعبريون توجهوا للحضارات الكبرى بين النيل والفرات، وصاروا سجناء الحضارتين، وكتبوا حلماً أن يملكوا من النيل إلى الفرات؛ حضارةٌ طردتهم وحضارة حبستهم.
العابرون المترحلون، البدو في عرقهم العميق، في هدمِ دولتِهم العابرة كتبوا كتاباً باقياً في الزمان على مرِ العصور، هو جوهرُ الحضارةِ الذي لم يصنعوه في العمارةِ والجند، نسجوا خيوطاً من قصصِ وسحرِ وأساطير وتقدم الحضارتين جعلتهم سادةً خرافيين على مدى الزمن، وكان الكتابُ مستعاراً.
لكن الذي أسسَّ التوراةَ هو الذهب، فهذه قبائلٌ توحدتْ برأسِ المال وهو طفلٌ جنينٌ في بطن أمه الرأسمالية الشرقية، في التشرد والضياع وإستغلال الشعوب وأسواطها التي تنزلُ على ظهر هذه القبائل المتمدنة، كان الذهب قوة ًوسيفاً بتاراً، ووراء الذهب كان العمل البشري المُستغَّل، لهذه الشعوب والأمم التي تعملُ وتنتجُ وتكتشف وتتصارع، مضيعةً ثرواتها في غمضة عين.
الملوك والأمراء والرؤساء يتلاعبون بالثروات، ويبعثرونها على القصور والمحظيات وسماع المديح، واليهود يعيشون في أزقة نائية عن الصراعات البذخية الضارية، والجميع يحتاج إلى صبرهم وعملهم وخزنهم للمال. كانوا هم الملوكُ المتوارون وراء السراب السياسي للشعوب.
لم يشكلوا إمبراطوريات تحول جبالَ الذهب إلى ديون، بل حولوا الديونَ لجبالٍ من الذهب.
فيما كان أشقائهم العرب ينحدرون للبداوةِ ويعيشون فيها مخلدين. وفي ومضةِ الإسلامِ والنهضةِ طار العربُ بعضَ السنين فوق الصحارى، واستأجروا الشعوبَ لكي تعملَ عنهم، وشكلوا لحظات معرفية عظيمة منفصلة عن الصحراء ثم ما لبثوا أن صحروا المدن.
وكان الذهبُ يتسربُ لليهود المتوارين عن ظهور الخيل والعاملين في النقش وحك المعدنين الثمين والرخيص، والسير وراء الحرف والحريات الاقتصادية.
في العصر الحديث تواجه العربُ والعبرانيون بعدَ طول إفتراق، عدةُ آلافٍ من السنين لأبناءِ العم لم تُغيرْ لغتيهما الصارمتين الأسطوريتين المتقاربتين الموجودتين في الكتب المقدسة.
ولكن شتان بين حالٍ وحال.
حشودٌ هائلةٌ بين المشرقِ والمغرب، شعوبٌ كبيرة تواجه العبرانيين وقد تركوا الترحال وتخندقوا في دولة، ولم يتفقوا على عيشٍ مشترك، العبرانيون جاءوا فوق بوارج وطائرات وبنوك الأمم المتقدمة. إن أممَ الذهبِ إستوتْ أنظمةً وهيمنةً على الشعوب، والعربُ بقوا في صحاريهم وخنادقهم، وإنتُزعتْ أراضيهم وثرواتهم الشحيحة.
العبرانيون تجسدَّ فيهم تاريخُ العمل والعربُ تجسد فيهم تاريخُ الكسل.
رغم إحتفاظ العبراني بقداسةِ الإله والصلوات والأعياد المعقدة التركيب والمغرقة في الفذلكةِ العبادية، فقد كان شديد العملية، وقد عبرتْ أممُ الرأسماليةِ الغربية في عبادتِها الجامحةِ للنقود والإنتاج والهيمنة عن مكنونِ ذاتهِ العميقة الخالدة،
فيما العربي ضائعٌ، كسولٌ، خريجُ المقاهي والغرزات، يجمعُ شيئاً من المال ليبعثره على ملذاته أو يقدم الإحسانَ الوفير للأمم التي تنهبه، لا يزال مترحلاً غير مستقر، وطنه خيمة، وصندوق نقوده غيمة،
وجد العبراني دولةً يُظهرُ فيها عقدَهُ التاريخية، تاريخُ الذل الطويل يتحولُ إلى إذلال لأي شعبٍ يقعُ تحت قبضته، كما واصل الإنحناء لإله الرعود الباطش، وإستطاع بنفعية جبارة أن ينتزع الأرباح من ظهور الشعوب طوال أيام الأسبوع ويخصص السبت فقط لربه.
إنه شعب الكيف ذي النوعية المتقدمة.
وهناك شعوب الكم الهائلة ولكن ذات النوعية المحدودة.
بلد صغير في مواجهة بلدان عدة غير قادرة على وقف رعونته.
وعي العربي السائد لا يُفكك، ينتظرُ الغيبَ يشتغلُ عنه، ولهذا يكثرُ من القراءات الدينية، والبدوي الكامن في روحه ينتظر الحديقة المليئة بالجواري والغذاء والمياه المتنوعة، وحوّلَ برميل النفط لبركة سباحة ورقد تحت الشجرة يعيد مواويل الرعاة.
إعتبر النفط غيباً، ونشر ديكورات وأكسسورات التدين، فإنتشرت دكاكينُ اللحى والبساط السحري والتمائم والجوامع، ورغم كل هذه الجهود الجبارة لم يستطع أن يلاحق العبراني الذي ليس لديه آبار نفط ولا مناجم حديد.
March 24, 2023
الثورة المحمدية
مؤسسُ ديانةٍ، وقائدُ ثورة
تكرُ العصورُ وأسمكَ نورٌ يغمرُ البشر، وليس ثمة نبيٌ ولا وصيٌ ولا ولي ضحى كما ضحيت، وعانى كما عانيت، وأبلى كما أبليت، ونقل أمته من الحضيض إلى شاهق القمم!
من استطاع أن يفعل مثلك، في ربع قرن حولت هؤلاء الفقراء الضائعين في بيداء التاريخ إلى حكماء وفلاسفة، وهادمو عروش راسخة على القهر، فبنوا حضارةً تمتدُ من الصحراء إلى القارات المسكونة وكادوا أن يمسكوا القمر ؟
من تحمل كل هذا الألم ؟ من خاض كل هذه الحروب وصاغ البيان وعلم الإنسان وإذا ارتجف الناس في حضرته قال إن أمه كانت امرأة عادية تأكل القديد ؟
من استطاع أن يقود مساكين الصحارى ليتملكوا الجنان، ويأخذهم إلى جهات العلوم، وينثر في أيديهم الفضة كما ينثر الحكمة، ويبقى هو في بيته البسيط وحتى همسه يغدو مسموعاً في الشارع ؟
ليس اللباس ولا الشعر ولا الصولجان من أخدته إلى العلى بل هذه الروح المتوثبة المشتعلة لهدم الاصنام ورموز العبادة البشرية الوضيعة ولهذه التجارة بالضلوع البشرية، وقدته لهذه الينابيع المتدفقة من التضحية والشجاعة التي تنتقل إلى الملايين كالكهرباء فتفجرُ طاقاتها وتوزع محطات نورها عبر العصور!
وهذه الثقافة العميقة العريقة وهذا التجميع المدهش لقوى البشر المتضادة الممزقة، وتحويلها إلى سيل بناءٍ، وهذا الصدر المفتوح لكل نأمة بشرية، ولكل خلجةٍ إنسانية ولكل وجعٍ فلا يضيق ولا يهدأ..
وامتد عذابك إلي أسرتك، وراح لصوص التراث والحكم، يسرقون ثمار ثورتك، ويحملوننا وزر عذاب أهلك، فامتد حيطُ الدم إلى نحورنا وعروقنا وضمائرنا، وليس لنا إلا أن نناضل ضد رموز الشر والاستغلال لنسترد كرامة النبوة والأسرة النبيلة!
فى عظمتك الباقية عبر العصور نستلهمُ حرفاً أو كلمة، لعلنا نضيءٌ كهفاً، وقد أطبقت علينا الظلماتُ، وصرنا أسرى لأناس سرقوا تراثك، وأناس كرهوا سيرتك، أولئك حبسوا ماضينا، وهؤلاء اعتقلوا حاضرنا، وليس لنا سوى المستقبل نوحدُ فيه صفوفنا علنا نتحرر ونفجر نهضة عظمي كما فعلت..
سُرقت كنوزنا حتى اصحبنا عرايا بين الأمم، وتماثيلنا ونفطنا وأرضنا مباعة بأرخص الأثمان، يأكلون من أكتافنا ويضحكون على تراثنا، وهذه الملايين قادرة أن تصنع شيئاً جديداً للإنسانية رغم أن عرافى الكذب اجتمعوا على نفى خصوبتها ودورها التاريخي..
وليس بيننا رجلٌ أو امرأة يرتفعُ إلى ظلٍ من قامتك فيوحدُ الملايين الجاهزة لكل تضحية، والرموز الشاحبة انحشرت في ثقوب الحصالات والتبعية والطوائف رافضةٍ التوحيد الذي أعلنته مبدأُ، وكرسوا التفريقَ وباعوا كل شيء من أجل فللهم وقصورهم وخزائن طوائفهم ووضعوا ملياراتنا المسروقة في شركات الإغارة على مخيماتنا وارواحنا وأكواخنا..
لكن الملايين تصعد للمعرفة والاكتشاف، وتنخرط في المصهر الثوري المحمدي الإنساني الكوني، تكتشف علاقاتها بالجمهور الفقير المستعبد، أصل الطاقة المولدة لكل ثورة، وتحول خموله ومعاناته إلى نشاط وعلم وفلسفة، مثلما حولت عظمتك عماراً وبلالاً قادةٍ كباراً..
نمضى على حبك، ونستلهم سيرتك، ونمشي على خطى ثورتك، ونفصل مؤقتاً الديانة عن الثورة، لنوحدهما في تكوبنٍ جديد، يكرس الديانة كحياة اجتماعية، ويعمق الثورة كنظامٍ سياسي ليصهر مجموعات المسلمين والعرب في تكوين حديث يقفز إلى ذرى الحداثة والعلوم والنهضة كما فعلت وفجرت طاقة هذه الأمم وعبرت بالإنسانية صحارى كبرى!
الثورة المحمدية والإقطاع الدينى
تشكلت الثورة المحمدية على أرضية شعبية بدوية لا تعرف مؤسسات الكهنوت، ولم يسبق للعرب أن شكلوا مؤسسات دينية متوحدة مع قوى القهر والاستغلال، إلا بشكل هلامي وضبابي عبر دور مكة المقدس، والتى كانت تحتفي بأصنام القبائل العربية، وبدأ كهنوتٌ غامض يظهر في بني هاشم ماعتبارهم أهل الرفادة وسقاية الحجيج والاعتناء بالكعبة.
ولكن هذه المؤسسة الدينية لم تتبلور في شكل سياسى متوحد مع الدولة حدث لم يكن ثمة دولة، ولا مؤسساتها المنظمة من جيش وشرطة، إلا إذا كان الأحابيش وهم قوة عسكرية صغيرة لدى ملأ قريش يمثلون أهمية وسط القبائل المسلحة.
ولهذا حين ظهر الإسلام تخوف من تحول بعض المؤمنين إلى رجال دين، يتحولون إلى مؤسسة دينية على طريقة اليهود والمسيحيين، ومن هنا كان شعار «لا كهنوت فى الإسلام» واضحاً قوياً حتى أن عهد الخلفاء الراشدين وعصر السلف كلاهما مرا ولم تتشكل فيهما مؤسسة دينية، وحتى التعليم الديني والفتاوى والأحكام والقضاء كانت تُجرى دون أن تكون ضمن مؤسسة دينية، ودون مقابل مادى، ورفض السلف تسميات رجال دين أو فقهاء.
بطبيعة الحال غمر العربُ والمسلمون الصحابةَ والسلف في الأمصار بالهدايا، والحب، وهناك من القلة من استغل هذا العطف والاهتمام إلى إثراء، وأخذ جانب من الدينيين يحولُ المعرفةَ الإسلامية إلى رأس مال، وتداخل هذا الاتجاه المصلحى مع نمو أجهزة الدولتين الأموية ثم العباسية، وأخذ الفقه المعارض المرتكز على بحث المال العام وحرية المسلمين والعدالة يتحول إلى فقهٍ موال يتجنب القضايا الكبرى.
ورغم القمع الفظيع والمجازر فإن المجاهدين لأجل توزيع المال العام على الناس، لم ينقطعوا، وتحولت دعواتهم إلى فرق فكرية سياسية، مما جعل الدول توسع دوائر مشاركة رجال الدين في غنائم الاستغلال، وتطارد من يفتى ضدها. لكن حتى هذه الفرق الفكرية السياسية لم تنجُ من الاضطهاد والشراء لضعاف النفوس من داخلها، فأخذت تتحول إلى فرق تنوير فكرية خالية من النضال السياسي الجماهيري، وعجزت عن تطوير أدواتها الفكرية لكشف أوضاع الإمبراطورية القائمة على استغلال الفلاحين والعبيد والناس عامة.
وقد سيطرت الأشكال الدينية المفرغة من المضامين النضالية و المساواتية للفترة الأولى على المناخ الفكري الديني، وغدت أسر الأشراف تحول هذه المادة الدينية إلى وسائل للوثوب إلى السلطة، والنزاع مع القوى السياسية الأخرى.
تحولت أشكال الفقه السياسي للقوى المسيطرة إلى مذاهب كبرى، وقامت بتفتيت المسلمين إلى قوى متنابذة، كما تحولت هذه المذاهب إلى أشكال لصراع الأمم البازغة فى المناخ الديني العام، مثلما كان الصراع بين الأتراك والفرس في إيران على الحكم خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين، لكنه تجسد من خلال صراع المذاهب السنية والإمامية المختلفة.
هكذا دخلت هذه الأشكال الدينية إلى حيز الوجود الاجتماعي اليومي للمسلمين متحولة إلى مؤسسات مهيمنة، تفرض حضورها المطلق على قضايا الحياة الاجتماعية، أي في ميادين العلاقات الأسرية خاصة وطرق التفكير والأحوال الشخصية، حيث أن الدول لم تسمح لها بالوثوب إلى السلطة، وكان هناك تداخل بين المسيطرين على الثروة العامة من حكام ورجال دين.
لم تستطع هذه المؤسسات التي تمازجت والقوى التقليدية المالية والعقارية أن ترى الإسلام التأسيسي كثورة نهضوية وذات قوانين تحالفية مع الفقراء لتشكيل عالم حر، أي قامت بنزع المضمون، وغيبت المسار التاريخي، والدلالات الاجتماعية والسياسية في سبيل الهيمنة.
الثورة المحمدية والديمقراطية المعاصرة
اعتبرت التحولات العربية الإسلامية في القرن الأول الهجري باعتبارها إما نموذجاً سياسياً مطلقاً، وإما أنها لا تصلح كنموذج للتطور السياسي الراهن، والذين يأخذونها كنموذج مطلق لا يعنون أنها ثورة نهضوية، بل يأخذونها كرسالة دينية غيبية مطلقة، وبالتالي يقومون بتجاوز مضمونها السياسي والاجتماعي التحويلي لمجتمع
التخلف والتفكك السابق .
وهذا يعود لانبثاق منطلقاتهم الايديولوجية عن عصر تال على هذه الثورة، وليس بسبب قراءة الظروف السياسية، التي شكلت ديمقراطية مباشرة بين القيادة النهضوية والجمهور الشعبي، حيث لم تكن هناك فترة كافية لترسيخ الدولة، وكذلك بسبب تمازج مهماتها التحويلية للجزيرة العربية بالتصدي للهيمنة الأجنبية على المشرق.
وكان النموذج السياسي القوي في التجربة العربية لا يرتفع عن دور دار الندوة، أو عن الرياسة القرشية التي توجهت للاستبداد، وعن المشيخة القبائلية التي كانت تتخلى تدريجياً عن ديمقراطيتها المباشرة، والذي تمظهر ذلك في ظهور الملوك في بعض القبائل العربية الكبيرة كقبيلة كندة، والتي كان التحالف مع الأجنبي متضمناً في غور تجربتها السياسية كما فعل أمرؤ القيس حين استعان بالروم بعد الثورة ضد طغيان أبيه.
وقد اعتمد الإسلام في تجربته الاجتماعية على التراث العربي السابق، في مجالات كثيرة، ولأن هذا التراث لم يفرز حكماً شعبياً، يمكن أن يرفد المرحلة النبوية النهضوية التحولية، في مخاضها الشعبي والحربي في تغيير الكيان التقليدي المفكك والدموي السابق، فلم تظهر تجربة سياسية انتخابية.
ولكن نستطيع أن نرى بعض البذور الديمقراطية الشعبية في هذه التجربة، عبر عدم تشكل جهاز قمع عسكري موجه ضد الناس، حيث كانت القبائل المنضمة للإسلام هي التي تكون هذا الجهاز.
ومن هنا كان إنشاء الأجهزة المحلية في حكم المناطق، لم يحدث عبر صدامات حادة، بل كان أهالي المنطقة العرب ينضمون للوالي الإسلامي، ويشكلون إدارة محلية، صارت بعد بضع سنوات قليلة قواعد لحرب الفتوح.
وكذلك كان عام الفتوح بلقاءاته المباشرة ومكاشفاته يعبر عن هذه البساطة في تكون السلطة، التي جاءت كتتويج للتقاليد الديمقراطية القبلية الغائرة، والتي إزاحتها الأرستقراطية القبلية المتنامية في الحياة الاجتماعية السابقة.
ولكن من جهة أخرى فإن هذه التقاليد الديمقراطية، التي تركزت على العلاقة المنفتحة والودية والمباشر؛ بين القائد والجمهور، لم تتشكل في مؤسسات، ولم يحولها الخلفاءُ فيما بعد إلى مجلس عام للقبائل؛ لكون عملية الانتخاب غير مقرة لديهم، فالانتخاب عملية مضادة للطابع القبلي، فالقبائل عادةً يمثلها شيوخها، ولا يمكن أن تجري فيها عملية تفكك اجتماعي وسياسي.
ومن هنا نقول بأن تجربة المدينتين النهضويتين اللتين قادتا الثورة، جرتا عبر إلحاق هذه القبائل، عمق الامتداد الشعبي للمدن، بجسم الأحداث المتصاعدة وبالتحويلات الاجتماعية، ولم تكن لديهما فرصة طويلة لتشكيل مدن كاملة الحداثة.
وسرعان ما انقطع التطور بالاندفاع نحو الفتوحات، التي قوت زعماء القبائل والفئات الميسورة بشكل أكبر من القوى الفقيرة، والتي لم يكن لديها مؤسسات.
وإذا كانت الفئات التجارية المكية القرشية التي قادت هذه الثورة، تعتمد أساساً على رأس المال التجاري، فإن هذا الرأس المال قد تكون بفائض هذه القبائل الفقيرة الرعوية، ومناطق الإنتاج الحرفية المحدودة، ومن خلال السوق الكبرى في الشام وفارس، التي تحكمت فيها الدول العظمى في ذلك الوقت .
ولهذا من المستحيل أن يتشكل رأس مال صناعي في ذلك الزمن، رغم أن الإقطاع لم يظهر بعد، ولا تزال الفئات الوسطى هي المسيطرة على الأفق التاريخي.
إن الثورة الاجتماعية الإسلامية إذن تمت بقيادة فئات تجارية طليعية وعبر مدنية حديثة بالنسبة للقبائل والرعاة، وهذا هو المناخ الاجتماعي التاريخي الذي سمح بحدوث عمليات ديمقراطية سياسية واجتماعية كبيرة، لكنها لم تتبلور بهياكل سياسية منتخبة.
وحين تم الانتقال إلى الأقطار الشمالية ذات الإرث العبودي المُعمّم، القائمة على الأنظمة الاستبدادية العريقة، فإن التراث الديمقراطي الشعبي سيبقى لفترة وجيزة، وبعدئذ سنرى المعارك الكبيرة لانتقال السلطة إلى الأشراف، إلى الأرستقراطية، التي كانت مضطرة للحفاظ على الإرث المحمدي شكلاً وتغييبه مضمونياً، عوضاً عن تطوير آلياته الشعبية الجنينية. أما الفرق المعارضة فستناضل للإبقاء على ذلك الإرث، ولكن مع القمع المتواصل وتشكيل الفضاء السياسي والثقافي من خلال وعي الأشراف، فإن القوى المعارضة ذاتها ستلتحق بعالم الأشراف الفكري، والسياسي، وستعجز عن العودة إلى تقاليد الثورة الشعبية السابقة والمتكونة في عالم اجتماعي وتاريخي مغاير.
وتعطي التطورات الاجتماعية والسياسية المعاصرة بعثاً لتلك التقاليد المضمرة دائماً في اللاوعي السياسي العربي، والتي يشوشها الإرسالُ الأرستقراطي، فتغدو تقاليد التجار الأحرار القرشيين مضمرة في تقاليد الديمقراطية الغربية المعاصرة، باعتبارها التتويج الذي حصل على امتداده التاريخي، ولكن في حاضنة غير عربية، وهي حاضنة الصناعة والتقنية والعلوم التي طورت رأس المال ليزيل العوائق الإقطاعية والتقليدية.
ومن هنا تغدو هذه الثمار الغربية، أدوات عربية إسلامية، لتجلية ذلك المضمون الشعبي الديمقراطي العربي القديم، والذي تكدس فوقه تراب القوى اللاديمقراطية على مر العصور السابقة، ولكن هذا التراب هو المؤثر الأساسي، في تشكيل وعي الجمهور العربي، وبناء التقاليد الاجتماعية الراهنة.
وهنا تحدث العملية المعاكسة لفعل القوى المحافظة على مر التاريخ السابق، عبر كشف تغييبها للتقاليد الديمقراطية الشعبية، واستغلالها للثروتين المادية والدينية من أجل خلق عوالم شمولية أبدية، جعلت الفرد العربي والمسلم خارج الفعل التاريخي.
إن الفقه السياسي الديمقراطي لا بد أن يعاضده فقهٌ ديمقراطي اجتماعي، يربط العلاقات بين الجانبين، ويبحث في مدى مشروعية الفقه التقليدي، ومن أين تشكلت أصوله الحقيقية، ودور الحواضن الشمولية في إنتاج وعي معاد لتطور الأمة.
فظهور الديمقراطيات السياسية العامة من برلمان وانتخاب ليس هو إلا الإطار للتغيرات العميقة التي تحفر في بنى العائلة والقبيلة والدولة والجماعات المختلفة، وما دامت هذه البنى الاجتماعية ذات أسس شمولية فلن يكون للتغيرات السياسية العامة تأثيرات بعيدة المدى. حيث هيمنت تقاليد الأشراف التقليدين لا تقاليد التجار المكيين النهضويين.
إن التغيرات التي جرت في الثورة الإسلامية التأسيسية ستجد الآن بعضاً من فضائها المفقود في التاريخ السابق، فالملكية العامة التي وُضعت من أجل (الأمة) ستعاد الآن، والملكية الخاصة الإنتاجية الموزعة والمنتشرة يكثر نموها، ومن هذين الجانبين تجري خلخلة لتقاليد الهيمنة الشمولية على كافة المستويات، وهذا ما يسمح بتطور فقه ديمقراطي تجديدي حديث، يجمع بين الجوانب المشرقة والإيجابية في الإرث السابق، وإنجازات الحداثة التي لا تمسخ شخصية الأفراد وتطورهم الفكري المستقل.


