عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 49

February 20, 2023

كيف تلاشتْ النصوصُ الحكيمة؟

عبـــــــدالله خلــــــــيفة كيف تلاشتْ النصوصُ الحكيمة؟

فرضت الثقافةُ العربيةُ الدينية التقليدية نفسَها على واقع الشعوب والأمم الإسلامية في العصر الحديث. ولم تستطعْ أن تقيمَ ثقافةً ديمقراطية عقلانية إنسانية بسببِ هيمنةِ الشمولية والذاتية المتطرفة فيها.
القيمُ النضاليةُ للجماعةِ المتساوية الحقوق، المُعليةُ للموضوعية أُزيحت جانباً، وتصاعدَ التكريسُ للأفراد الخارقين المرتفعين فوق الجماعة.
وإذا بدا إن ثمة تقديساً للكائنات النجومية ولرموزِ الحجر والقوى المفارقة اللاطبيعية واللاإنسانية فهو وعي شمولي، يلغي الذاتَ الجماعيةَ الديمقراطية الحرة لزمنِ التأسيس في مقابلِ الخضوعِ للكياناتِ السياسية الاستغلالية البيروقراطية المتحكمة في مصائر الناس.
الذاتيةُ المتطرفةُ وليست الذاتية العقلانية المنتجة المبدعة في ظل العلاقة الديمقراطية بالجماعةِ هي التي فرضتْ نفسَها، ولهذا هي تقزمُ الذواتَ الأخرى، وإذا تمردوا سحقتهم، وإذا أبدعوا قصتْ أجنحةَ الإبداعِ عن الطيران الخلاق وجعلتْ الكائنَ السامي يزحفُ على الأرض من أجل الدراهم.
تقود هذه الذاتية للاعقلانية، إلى عدم سيرِ السياسة بشكلٍ حكيم، يراعي التطور، ويقرأ المشكلات، وإلى إستنزافِ المواردِ حيث تحيطُ الخزانةُ بشخصِ الآمرِ المسيطر على الموارد، بهذه الذاتِ التي تجعل الوجودَ خاضعاً لها، وليس أن تكون هي خاضعةٌ للقانون وعقلانية توزيع الفوائض، ولهذا فإن النصوصَ الحكيمة تتلاشى فعلياً من التداول العقلي، وتسود النصوصُ التي تقضي على العقلانية، ومن هنا تظهرُ عبادةُ النجوم، حيث تُلحقُ مصائرُ البشرِ بكائناتٍ طبيعيةٍ لا علاقة لها بالمصير البشري، أو لسيادةِ القبور والأشباح والأرواح.
أو بنصوصٍ تفقدُ القدرةَ على النطقِ المباشر، وتُؤدلجُ وتنتشرُ مجلداتٌ لفحصِ جزئياتٍ هامشيةٍ فيها ويُترك الجوهرُ وهو العلاقاتُ الموضوعيةُ الحرة التي شكلها الناسُ المكافحون في الزمن الديمقراطي السابق.
تضخمُ الذات المهيمنة في الواقع العربي المسيطرة على الموارد يقود إلى(تشبيح) المواطنين العرب على مر التاريخ. وإلى إنتشارِ الثقافة الانتهازية، ثقافة النظرة الجزئية المقطوعة السياق عن الكل، حيث يغدو الجزءُ منفصلاً عن كل القضية والمشكلة وتصوير الشخصية، وتقطع السيرورة التاريخية الاجتماعية للقضية والمشاهد والشخوص عن جذورِها ونتائجها، فتتضاءل الذواتُ الحقيقية، أي البشر العاديين المنتجين لتظهر الشخوصُ اللامنتجة سائدةً، ولتنتشر ثقافة القطع والقطيع والتعليق في الفضاء الخارجي حيث تُربط هذه الشخوص الفارغة بالنجوم والكواكب والأرواح الخالدة.
كلما ذُبلَّ النصُ إرتفع صاحبهُ، وكلما خبتْ القصيدةُ إرتفع الممدوح والمادح في هذا الفراغ الاجتماعي المتحلل النازف للثروة، ولكن كما إنتشرت ثقافة الزيف والنفاق فإن كتاباً موضوعين وجدوا وعاشوا قرب التراب والترابيين، وهم ندرة لكن يجمعون الكلمة بالحقيقة، ويرون ما وراء الظواهر، والأشباح، ويحللون المشاهدَ المرئية، ويكشفون العلاقات الحقيقية، ويرون الصلات بين إنتفاخ البالونات وتدهور الاقتصاد، وجفاف الأرض وكثرة الخراج وإنتشار التفاهة في الشخوص والذل والعجز عن الانتاج والخوف وتدمير القوى الداخلية الخلاقة عند الشخوص، فيدرسون العمران الثقافي الحقيقي الذي يضمر لحساب العمران المادي البذخي للأقليات.
وجاء العربُ في العصر الحديث بنفس سمات الماضي، وخلال قرن كامل كانت الثوراتُ من أجل أفراد كبار يتحولون إلى نجوم أخرى معلقة في الترميز المقدس، ويقومون بعرقلة التجديد الذي أدعوا قيادته، ولم يرفعوا الذل عن أعناق الجماهير، بل تركوهم يتسولون ويعيشون بلا ثقافة إنسانية، معلية للذوات، فجاء العسكر والشموليات تتويجاً للنجوم وصارت على الأكتاف وتثقب العقول، وبهذه الثقافة الساحقة للتميز المعلية للذوات الكبرى خاضوا الثورات، فظهرت أعماق الجماهير خالية من الذوات القيادية المبدعة، وإنكشف تاريخ من الانسحاق وحاول الفيضان الجماهيري الذائب الملامح المعدوم البصيرة العقلانية الحديثة أن يتلمس طريقه في الظلام ويصعد أقرب الجلادين إلى أجساده، وينتخب أكثر الحرامية دهاءً، فانتقل من عبادة الشخوص إلى عبادة النصوص، وما زال يتخبط، وهو يحتاج لعقود طويلة لكي يرى والخارج من الكهوف يحتاج إلى تبصر الكهوف التي خرج منها ودخل إليها.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 20, 2023 12:39

February 18, 2023

#عبدالله_خليفة #أفق #مقالات_على_اخبار_الحليج

مأساةُ الشعبِ السوري بين القوميات – (1 أغسطس 2012)
قام السياسيون في سوريا خلال عقود بغرس تيار القومية العربية، ولم يشكلوها من خلال قراءة البنى الاجتماعية وتحليلها، بل كشعارٍ للفئات الوسطى الصغيرة غير القادرة … [المزيد] تحديدُ (عصرنا) – (31 يوليو 2012)
من الصعوبةِ بمكان تحديد مواقعنا الموضوعية على خريطة الزمن، فالبشريةُ الغربية في زمنيتِها الخاصة العالمية ويدخلُ فيها من يدخلُ في التصنيع والتحديث والديمقراطية، … [المزيد] الثورة السورية.. تفتيتُ صخرةِ الجيش – (30 يوليو 2012)
تفجرتْ أحداثُ الثورة السورية بشكلٍ عاصف خلال الأسابيع الأخيرة، فقد أخذ الجيشُ السوري الحر زمامَ المبادرة وقام بعمليات هجومية واسعة. والملاحظُ ان الحدود … [المزيد] الإخوانُ المصريون من الأيديولوجيا إلى الحكم (2-2) – (29 يوليو 2012)
تتحكم البُنيةُ الاجتماعيةُ في أي خطاب سياسي، وما حمله الإخوان من أفكارٍ وشعارات على مدى عقود يخضعُ الآن لقانونية البنية الاجتماعية المتحكمة في النصوص … [المزيد] الإخوانُ المصريون من الآيديولوجيا للحكم (1-2) – (28 يوليو 2012)
الفئاتُ الوسطى الصغيرة كالأطباء والمهندسين التي مثلتْ لعقودٍ بُنية الإخوان المسلمين التنظيمية تحركتْ من آيديولوجيا استعادة الخلافة الإسلامية، وتطبيق الشريعة، … [المزيد] تراجعُ الخيالِ الاشتراكي (2-2) – (27 يوليو 2012)
عبرت السياسةُ الاقتصاديةُ الجديدة في روسيا في سنواتِ العشرينيات من القرن العشرين عن تحول الدولة الثورية ذات الحلم الاشتراكي بزوالِ الطبقاتِ وإزالة البرجوازية … [المزيد] تراجعُ الخيالِ الاشتراكي(1-2) – (26 يوليو 2012)
بعد سنواتٍ حارقة من تطبيق ما سُمي بمرحلة الاقتصاد الشيوعي (١٩١٧-١٩٢٠) الذي كان هيمنةً حكومية واسعة على الفائض الاقتصادي في الريف والمدينة، والذي أدى لعسكرةِ الدولة … [المزيد] الثنائيةُ الحادةُ – (25 يوليو 2012)
مع خروجِ العربِ من العصور الوسطى الذي يجري حالياً والذي يكلفُ حروباً اجتماعية هي حروبٌ دينيةٌ في شكلها، وثوراتٌ ضد رأسماليات الدول الشمولية في جوهرها، تظهرُ … [المزيد] تحديثٌ عربيٌّ جديدٌ – (24 يوليو 2012)
فشلَ التحديثُ العباسي بسببِ هدر الأموال العامة على الشؤون الخاصة. الأمةُ العربيةُ المقسمة الدولِ؛ ذات المستويات المختلفة والهموم المشتركة والمسار التاريخي … [المزيد] نقدُ المغامرةِ التاريخية (2-2) – (23 يوليو 2012)
تصوير لينين الثورةَ الديمقراطيةَ القومية الروسية بأنها ثورةٌ اشتراكية هي جزءٌ من المتخيّل الحزبي، بسببِ الخلط بين بعض المهمات الديمقراطية الضرورية لتطور … [المزيد] نقدُ المغامرةِ التاريخية (1-2) – (22 يوليو 2012)
يعومُ لينين مصطلحات السياسةِ بشكلٍ غير تاريخي، ويلغي طابعَها الطبقي، وفي كتابه(مرض الطفولة اليساري) يقوم بتقييمِ تجربةِ حزب البلاشفة باعتبارها نموذجاً … [المزيد] بدأَ بالصراخ وانتهى بالصمت – (21 يوليو 2012)
منظوماتُ التحولاتِ القومية الاجتماعية العالمية بدأت كلها بالصراخ، وعبرَ شعاراتٍ حادة صاخبة، وتم الترويج لها عربياً، وقد شكلتْ نهضاتٌ قومية حكومية داستْ … [المزيد] الحريقُ – (20 يوليو 2012)
كانت سحابةً سوداء هائلة في سماء المنامة، الوقت قبيل العصر، وهو موعدٌ ترفيهي خاص لحارقي العجلات في الشوارع، لكن السحابة تظهر من بعيد عملاقةً ضخمة، متجهة … [المزيد]الإخوان المنشأ والتطور – (19 يوليو 2012)
تقلبتْ الأحوالُ والأهوالُ بهذه الحركةِ الطالعةِ من القفار ، وحين كان البدو يظهرون على مسرح القتال في صحارى التاريخ ، فكيف يتم جعلهم بناةَ حضارةٍ حديثة؟في … [المزيد] صعوباتُ التراكمِ في الخليج بالقرن الـ 19 – (18 يوليو 2012)
في منتصف القرن التاسع عشر بعد دخول قبائل العتوب شواطئ الخليج لعدة عقودٍ مضتْ ظهرت قوةٌ اقتصادية أساسها استخراج اللؤلؤ.جَرت العلاقاتُ المالية جنباً إلى جنب … [المزيد] صراعُ المحورين والثقافة الديمقراطية – (17 يوليو 2012)
صراع محور الدول العربية ومحور إيران سوريا دخل لحظات حاسمة في بؤرة مركزية له، وغدت المذبحة في سوريا تعرية رهيبة لثقافة فاشية ليست لديها أي رحمة بالإنسانية.الدول … [المزيد] المقارباتُ الديمقراطيةُ مطلوبةٌ – (16 يوليو 2012)
يعبرُ المذهبيون السياسيون المؤدلجونَ للإسلامِ عن مواقف الارتباط بالدول رغم أنهم ينتمون إلى فئاتٍ اجتماعية صغيرة وإلى طبقات عاملة شعبية.لم يستطع هؤلاء خلال … [المزيد]بين قطبينِ اجتماعيين مختلفين – (15 يوليو 2012)
تعبرُ حالات تفتت صفوفِ البرجوازياتِ الصغيرة بين الاقطاعين السياسي والديني عن الموروثِ الشمولي في الاتجاهات السياسية العربية وعدم قدرتها على إيجادِ ثقافةٍ تنويريةٍ … [المزيد] الدينُ والاشتراكية (2-2) – (14 يوليو 2012)
مع تطور الاشتراكية من نزعةٍ شمولية إلى توجهات ديمقراطية متعددة، ظهرت دراساتٌ واتجاهات مختلفة فيها، لقراءة الظاهرة الدينية المعقدة.تم تجاوز النظرة الهيجلية … [المزيد] الدينُ والاشتراكية (1-2) – (13 يوليو 2012)
الدينُ هو سياسة عليا مقدسة، فرموزهُ تعبرُ عن وجود سياسة مطلقة لشعب من الشعوب تتجسد عبر تلك الرموز، المشحونة بالدلالة والآمال وتكوين عالم سعيد غير منظور ومنظور … [المزيد]ديمقراطيةٌ من دون برجوازية – (12 يوليو 2012)
يستمر العربُ في التجريبِ السياسي مهدرين السنوات والجهود.وتعطينا الانتخابات التي جرت في عدد من الدول العربية هذه الذبذبات المتعددة بين العودة للوراء والقفز … [المزيد] الطريقُ الجنوني للديمقراطية – (11 يوليو 2012)
الصعود الديمقراطي للدينيين إلى السلطات والسيطرة على مقاليد الدول بطرائق عنيفة يعبر عن نصف قرن أو أكثر من التدهور الاجتماعي السياسي.لم يظهر هذا الصعود بلا … [المزيد] التنويرُ الاجتماعي – (10 يوليو 2012)
انتصرتْ التشكيلةُ الرأسمالية رغم كل الأحلام والوعود والخروج إلى الماضي والقفز على الحاضر نحو مستقبل موهوم.انتصر الغربُ على الشرق، انتصرتْ الرأسمالية على … [المزيد] مشكلاتُ الفوائضِ الاقتصادية في الدول الخليجية – (9 يوليو 2012)
يعطي حراكُ الموادِ الخام المختلفة تكريراً وصناعاتٍ جانبي الأرباح والأجور، وبشكلٍ أساسيٍّ من خلالِ عمليات إدارية سياسية وتجارية.الفوائضُ الاقتصادية بجانبها … [المزيد]تداخلُ الاشتراكياتِ الخيالية – (8 يوليو 2012)
لم توجد فواصلٌ بين التصورات الاشتراكية المختلفة، فالتقسيم بين الاشتراكية الخيالية والاشتراكية العلمية تهاوى، لأن الاشتراكية كنظام اجتماعي غير قابل للوجود … [المزيد]التثقيفُ الذاتي والحقيقة – (7 يوليو 2012)
كما توحدت أفكارُ القرامطة والفرق الدينية المختلفة في أثناء التطبيقات التاريخية، وتحولت ليمين حاكم تقليدي، وزالت التفاصيلُ بينها، ولم يعد ثمة فرقٌ بين من يسرق … [المزيد] تفكيكُ وحدةِ العمال – (6 يوليو 2012)
لوحظ لسنوات سابقة نهج مختلف في نقابة عمال ألبا عن نهج قيادة نقابات العمال البحرينية، التي تمثل أغلبية النقابات والحراك العمالي البحريني منذ سنوات التحول السياسي.وهذا … [المزيد] تدويرُ رأسِ المال الوطني – (5 يوليو 2012)
تعطينا مصر نموذجاً لبدايةِ الصراع على تدويرِ رأس المال الوطني بين الفرقاء الاجتماعيين المختلفين، فالجيشُ كمؤسسةٍ اقتصادية سياسية عسكرية يمتلكُ جانباً كبيراً … [المزيد]اشتراكيةُ الفقرِ واشتراكيةُ الغنى – (4 يوليو 2012)
كل الحركاتِ الاجتماعية الدينية وغير الدينية عرفت تحالفات الفقراء والأغنياء المؤقتة لتشكيل عوالم وأنظمة جديدة: اليهود في زحفهم المشترك نحو فلسطين أقاموا تعاوناً … [المزيد] التحركات الاجتماعية والاقتصاد – (3 يوليو 2012)
تفاقمت الظروف الاقتصادية سوءاً في الكثير من بلدان العالم وخاصة البلدان العربية الفقيرة، لقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة Ù¨% خلال السنوات القليلة الماضية … [المزيد] الثورةُ السوريةُ.. بطولةُ شعبٍ – (2 يوليو 2012)
تتناثر النداءاتُ وصرخاتُ الاحتجاج وإستعراضاتُ القوةِ والتهديداتُ للنظام السوري في الهواء، وبقيتْ رأسمالياتُ الدولِ الدكتاتورية العسكرية في روسيا وإيران والصين … [المزيد] تحولاتُ العاملين بأجرٍ في الخليج (3-3) – (1 يوليو 2012)
أقيمتْ التحولاتُ الاقتصادية الاجتماعية على استخراجِ النفط وتشغيلهِ وتغدو تحولات المجتمعات وتطورها وحياتها مرتبطة بهذا الاستخراج وتوسيعه وربطه بموادٍ أخرى، … [المزيد] تحولاتُ العاملين بأجر في الخليج (2 – 3) – (30 يونيو 2012)
تطورات المواد الخام إذ تعتمد على تطورات الصناعة العالمية فإنها كذلك تعتمد على فائض القيمة الناتج من الصناعة ومدى قدرته على إعادة الإنتاج العادية والموسعة.فإذا … [المزيد]تحولاتُ العاملين بأجرٍ في الخليج (1) – (29 يونيو 2012)
بين عقدي الستينيات والسبعينيات في الخليج ثمة منعطفٌ كبير، فقد كان بيعُ النفط يتملا بأسعارٍ متدنية، في حين حدثتْ الانعطافةُ بين هذين العقدين.النفطُ بمشتقاتهِ … [المزيد] القرنُ السادس عشر والسابعُ عشر العربيان – (28 يونيو 2012)
لم يستطع العربُ دخولَ عصر الثورة الصناعية، إنهم يعيشون فيما قبل ذلك، لكن بشكلٍ مختلف عن الغرب، بدرجةٍ أرقى من جانب البنية التحتية وأكثر تخلفاً في جانب البنية … [المزيد]انتقالُ الصراعِ المصري داخل الدولة – (27 يونيو 2012)
عبرت نماذجُ الدول العربية في مرحلة الانتقال من الشمولية إلى الديمقراطية، من سيطرةِ طبقةٍ على المُلكية العامة إلى تعددِ هذه السيطرة بتوزعها على النخب الغنية، … [المزيد] النشأة المبكرة للتحديث – (26 يونيو 2012)
خلال قرنين اضطربتْ التطوراتُ في الأمم الإسلامية والشرقية عامة للخروج من التخلف والاستبداد، وانتصرتْ فيها مشروعاتُ التسريع الشمولية ثم أعادتها لنقط البدايات … [المزيد]الدولةُ والدكتاتوريةُ الروسية( 2-2) – (25 يونيو 2012)
في محاولتهِ لإقامةِ دكتاتوريته يتلاعبُ لينين بالنصوصِ الماركسية والحيثيات التاريخية، فالدولةُ كقوةٍ تمثل الطبقة السائدة هذا معنى معروف وشائع، ولكن القوى السياسية … [المزيد] الدولةُ والدكتاتوريةُ الروسية (1-2) – (24 يونيو 2012)
يضعُ لينين تعريفَ المفكر فريديريك أنجلز بدايةً لكتابهِ(الدولة والثورة)، الذي يُعرفُ الدولةَ في كتابهِ (الملكية الخاصة والعائلة والدولة) بأنها تنشأ: (لكيلا تقوم … [المزيد] الصراعُ بين التقليديين في ذروتهِ بمصر – (23 يونيو 2012)
الصراع بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين يتكرر مرة أخرى بعد أزمة مارس سنة ١٩٥٤، كأن البلد لم يتطور وكأن التقاليدَ الديمقراطية لم تَسُدْ بين الجانبين.هو عقابُ … [المزيد]تطور مشترك للديمقراطية في المنطقة – (22 يونيو 2012)
إن تطور الديمقراطية الواعد مشترك بين شعوب الجزيرة العربية والعراق وإيران، فلقد تشكلتْ رأسماليات الدولِ بأشكال متسارعة، وغدتْ هي المهيمنة على الثروات النفطية … [المزيد]مناضلون بلا قواعد – (21 يونيو 2012)
تتشكل الجماعاتُ الديمقراطيةُ والماركسية فوق الحماسة واللغة الاستيرادية الفكرية القادمة من مناطق متطورة إلى مناطق أقل تطوراً. مثلما غذت توده اليسارَ البحريني … [المزيد]الزلزالُ السوفيتي والانهيارُ العربي – (20 يونيو 2012)
حين انهار الاتحاد السوفيتي قال لي رفيقي عن اليسار (أنا لم أعدْ سوى شيعي). وقال لي رفيقي عن اليمين (انتهى كل شيء، أنا لستُ سوى سني).سنواتٌ كثيرةٌ مرت وأدواتُ التحليلِ … [المزيد]الاشتراكيةُ من حلمٍ إلى كابوس (2-2) – (19 يونيو 2012) Ø¥
ن لينين عبر طرحه لخطه في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي كان يريد القضاء على البرجوازية والرأسمالية عبر التحالفات الاجتماعية والسياسية في حدود سنوات قصيرة، … [المزيد]الاشتراكية من حلم إلى كابوس (1- 2) – (18 يونيو 2012)
تبرزُ دكتاتوريةُ لينين بشكل أكثر وضوحا في الطرح السياسي، حيث تكمنُ البؤرةُ الرئيسية لعمله الفكري عامة، فرغم انه ينطلق في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر … [المزيد] مصر والعجزُ عن تشكيلِ طبقةٍ وسطى حرة – (17 يونيو 2012)
عجزت النخبُ السياسيةُ والعسكرية والفكرية المصرية عن الانتقال لمرحلةٍ ديمقراطية حقيقية، وتواجه في خلال ذلك جناحي الطبقةِ الوسطى المتمثلين في المجلس العسكري … [المزيد]من رأسماليةِ الدولةِ إلى الرأسماليةِ الحرةِ – (16 يوليو 2012)
على مدى عقود ثرثر وخربَ البرجوازيون الصغار مسارات التطور العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحاولوا ابتكار أنظمةً والقفز على المسارات الموضوعية للتطور، … [المزيد] الماديةُ والعلوم (2-2) – (15 يونيو 2012)
يولي لينين أهميةً كبيرة لرجل الدين باركلي باعتباره مشابهاً بشكل كلي للعلماء الفيزيائيين والمنظرين النقديين التجريبيين، أصحاب هذه الفلسفة الجديدة التي قام لينين … [المزيد]الماديةُ والعلوم (1) – (14 يونيو 2012)
في إنتاجِ دكتاتوريته الفردية يصعدُ لينين صراعَهُ ضد التعددية في الحزب، فيقسمهُ، ويصعدُ صراعَه ضد التنوع الديمقراطي في الغرب فيغدو الغرب برجوازياً لابد له من … [المزيد]إلتقاءُ الطائفيين بـ (اليساريين) – (13 يونيو 2012)
تدهور وعي المجموعات المعارضة يعودُ إلى تدهور حركاتها السياسية على مدى نصف قرن.لقد كانت الماركسية أداةً تحليلية نقدية موضوعية ديمقراطية معبرة عن مصالح القوى … [المزيد] رأسمالياتُ الدول العالمية – (12 يونيو 2012)
تطورت رأسمالياتُ الدول في العالم بشكلٍ عاصف خلال القرن العشرين، ووجدناها في دول أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا،(أغلب أعضاء مجلس الأمن الذين … [المزيد] الاستعمارُ والديمقراطيةُ (2-2) – (11 يونيو 2012)
يقدم لنا عنوانُ كتابِ (الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية) نهايةً تامةً راهنة للرأسمالية، فالاستعمارُ يمثلُ تفسخ الرأسمالية على المستويين الغربي والشرقي، في الأول … [المزيد] الاستعمارُ والديمقراطية (1-2) – (10 يونيو 2012)
لابد من فهمِ أعمق للأفكارِ الاشتراكية في مرحلتيها السابقة الشمولية والراهنة الديمقراطية الجنينية المتصاعدة، فنشوء الرأسمالية له مراحل، وقد حددَ لينين في كتابه … [المزيد] التحديثُ من قلبِ المدن – (9 يونيو 2012)
إذا كانت المدنُ العربية الإسلامية قد عجزتْ عن تشكيلِ الحداثة فهذا بسببِ عجزها عن تأسيس أسلوبِ إنتاجٍ جديد. إنتاجُ الغربِ للحداثةِ تأسس من خلالِ ظهورِ مدنٍ … [المزيد] هل هي ثوراتٌ أم غزوات؟ – (8 يونيو 2012)
لم يستطع العربُ إنتاجَ ثورةٍ تجديديةٍ في علاقاتِ الانتاج غير الثورة الإسلامية التأسيسية، لكونها صنعتْ برنامجاً تحويلياً في علاقات الانتاج، وعبرَ العامةِ والتجار … [المزيد] العوامُ الخطرون – (7 يونيو 2012)
صحيح إن الشعبَ هو الذي يصنعُ التاريخَ، لكنهُ يصنعهُ من مواد معينة وفي ظروفٍ خاصة، وفي صناعة تاريخ الشرق الحديث واجهنا دائماً ثوريين عاصفين يقفزون المراحل ولا … [المزيد] فئاتٌ صغيرة تابعة – (6 يونيو 2012)
في البلدان المنقسمة طائفياً وقومياً كالعراق والبحرين ولبنان لعبت الفئات البرجوازية الصغيرة في الحراك السياسي مفجرة الألفاظ الثورية الهائلة لكن دون قدرة على … [المزيد] الناصريون والساداتيون – (5 يونيو 2012)
عبر الانقسام في قادة انقلاب يوليو ٥٢ عن مسائل اجتماعية وشخصية متداخلة. الهيمنةُ الفرديةُ للرئيس جمال عبدالناصر عبرت عن حس وطني تقدمي بلا وعي ديمقراطي عميق، وتشكلت … [المزيد] قفزتان ونموذجٌ يحترق – (4 يونيو 2012)
في مشهد ذبح الشعب السوري يتماثل موقفا روسيا وإيران، في مفارقةٍ تاريخية ظاهرية لكنها تعبر عن حقيقة موضوعية.رأسماليتا دولة استغلاليتان شموليتان عنيفتان كل … [المزيد] الرأسماليةُ العربية وقضايا الديمقراطية (2 -2) – (3 يونيو 2012)
تتبلور يوماً بعد يوم طرق التطور الديمقراطية وتشق طرقها في الكثبان المحافظة، وغدت مسألة توجيه الدخل الوطني العام نحو التحولات الديمقراطية مسألةً محورية.فإما … [المزيد الرأسمالية العربية وقضايا الديمقراطية (1-2) – (2 يونيو 2012)
يمكن القول: إننا انتقلنا عبر الثورات العربية إلى إمكانياتِ الرأسمالية العربية الحرة كنظامٍ سياسي – اقتصادي، ولكن هذا لا ينطبقُ على الجميع وبالتالي فإن أغلبيةَ … [المزيد] أسبابُ عجزِ القوميةِ الفارسية عن التطور الديمقراطي – (1 يونيو 2012)
تشبه القومية الفارسية في لحظتها التاريخية الراهنة العصبية القومية العربية في زمن الخمسينيات. حيث المركز العسكري الشمولي في هياجه السياسي، يحركُ صخبَ الجماهير … [المزيد] أحمد شفيق طيارُ التحول الاجتماعي – (31 مايو 2012)
عبرَ مرشحو رئاسة الجمهورية المصرية عن عدم قدرة الطبقة المتوسطة على تشكيل تيار سياسي فكري عام، وتناثرتْ أجنحتُها في كل اتجاه. توزعها الأساسي بين قطاع عامٍ خرب … [المزيد]رياضُ الترك رمزاً (2-2) – (30 مايو 2012)
يترك رياض الترك بعد خروجه الثاني من السجن الشعارات واللافتات المعلبة ولا يدلي بتصريحاتٍ حادةٍ كما فعل بعد خروجه الأول واصطياد النظام له، بل دخلَ في العمل السري … [المزيد]
رياضُ الترك رمزا – (29 مايو 2012)
المناضلُ رياض الترك من أهم رموز الثورة السورية، في سيرتهِ وجذورهِ وأفكارهِ المتنامية وعيا، نموذجٌ تألقَّ داخله الشعبُ وتكوّن.وضعهُ النظامُ الدكتاتوري عقدين … [المزيد] مع الرأسماليةِ الحرة يمينٌ ويسارٌ جديدان – (28 مايو 2012)
مع تكون البُنى الرأسماليةِ الحرة تتشكل طبقاتٌ مختلفة عن بُنى رأسمالياتِ الدول الشمولية.إن تكوين رأسمالية الدولة بالتأميمات أو تقزيمها بالخصخصة، ليسا سوى … [المزيد] الشيوعيون العربُ والثورة السورية (2-2) – (27 مايو 2012)
هناك عيناتٌ من مواقف لأحزابٍ شيوعية رفضت الهجمة الفاشية على الشعب السوري، وأغلبها فصائلٌ راحتْ تنشقُ عن المستنقع الطائفي الذي يصورُ نفسه تقدميا. يقول تنظيمٌ … [المزيد] الشيوعيون العربُ والثورة السورية (1-2) – (26 مايو 2012)
صارت الثورة السورية مفصلا تاريخيا لتحديد تطور الاتجاهات الرأسمالية الحكومية المستوردة من الخارج أو الطالعة حديثا.الأحزابُ الشيوعية العربية لم تستطع تطويرَ … [المزيد] فصل المذاهب عن السياسة الحديثة – (25 مايو 2012)
مثلما تواجه الثقافة السياسية الدينية مشكلات التطور الاجتماعية والاقتصادية بعد الثورات العربية كذلك عاشت إيران تواجه المعضلات نفسها واختارت الدكتاتورية طريقاً.ليس … [المزيد] الإخوانُ المسلمون في سوريا (2-2) – (24 مايو 2012)
تأتي جماعةُ الإخوان المسلمين في سوريا كغيرِها من المسلمين السنة فتعيشُ على ما هو سائدٌ في التاريخ، فضخامةُ عدد السنة في سوريا والمحيط العربي تجعل من التطور التاريخي … [المزيد]

اقرأ المزيد ومقالات أخرى… عدد الصفحات: ٢١١٢٣٤٥٦٧٨٩١٠١١١٢١٣١٤١٥١٦١٧١٨١٩٢٠٢١

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 18, 2023 17:22

February 16, 2023

تآكل التحديثيين ونتائجه

كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة

#المنبر_التقدمي

ما الذي جعل دعاة النضال والنور ينطفئون؟ لماذا خرست ألسنتُهم وانطفأت مصابيحُهم وشحبت كلماتُهم أو غرقت في الظلام؟
وإذا نظروا نظروا إلى جهة واحدة كأن عيونهم ازورت وبصائرهم احولت؟
ما الذي جعل أصحاب الفولاذ سقيناه والحرس الفتي ورجل في أمة والشرارات و٥ مارس وأمة تُبعث مجدداً ينطفئون وكأن الزحف العظيم الهادر بالقضاء على الفقر والظلم والاستغلال تبخر في الهواء وكأنه لم يكن بل تحول إلى كوابيس؟
لماذا جعلوا لوحاتهم ملأى بالألوان الرخيصة تندلق عليها براميل من المطر المعتم وقصصهم لا أبطال فيها ثم تموت في الأدراج التاريخية المقطوعة الألسنة؟ أين الهتاف بشعب واحد، وأمة واحدة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر؟
ليس هو عمى الألوان بل هو غياب الفهم، والمراهنة على البيروقراطية كي تحل كل مشكلات العاملين والحالمين، البيروقراطية الحمراء أو السوداء أو الخضراء، ورؤية أن من هو قرب البيروقراطية سيكون من الفائزين الغانمين، لكنه في الخلايا الفقيرة في الحارات والقرى سيتعرض للمعاناة والتجارب المريرة وسيظل يحلم بانتصار البيروقراطية، وأن من الساحات الحمراء والخضراء والسوداء سوف يأتي النصر.
لكن البيروقراطية في كل مكان تتخلى عن العاملين والتجار الصناعيين، والبيروقراطية تعرف لوائحها وموظفيها وغنائمها وغنهما، ولكنها لا تعرف سكان الحارات البسطاء الذين يكدحون من أجل لقمة العيش، وتنظيف الطرق من القمامات الكثيفة والدخان والأمراض وضحايا التعطل.
يقولون علينا بالتغلغل في البيروقراطية وتغيير الأنظمة من فوق، لكنهم مع السنين هم الذين تغيروا والبيروقراطية لم تتغير، بل اتسعت أملاكها، وهم الذين اندثرت أحلامُهم وتقلصت رؤاهم وصدأت سيوفُهم وتبخرت كلماتُهم (وتشخبت) لوحاتهم وبارت مسرحياتُهم، واختفت أشعارهم ونسخت بياناتُهم حتى غدت معروفة قبل أن تُذكر وتطبع ثم تلقى في سلال المهملات التاريخية.
ويفاجأون ويصدمون عبر هذه الذاكرات التي لا تحفظ شيئاً ولا تحفر في شيء، ويذهلون كيف أن الموظف الثائر تحول إلى لص؟! وكيف أن الساحة الخضراء حيث الجماهير موعودة بالجنان والسلطة الأبدية الحرة تغدو مكان اعدام المناضلين، ومركز شواء البشر والمدن والقرى؟
ومنذ زمن بعيد والموظف يسرق حبات القمح ويبيعها في السوق السوداء، ويبني الفلل ويبيعها ويحول الجزر إلى مدن لهو ويؤجر الغابات على الشركات، حتى إذا أعلن انتماءه للبيروقراطية المالية صعقوا وأصيبوا بالسكتات اللسانية الدماغية، وهم الذين أخذوا حبيبات من الذهب وخيوطا من الدم الشعبي في جيوبهم السرية.
عاشوا على المعلبات الفاسدة، من هذه الدكاكين التي تتاجر بالجمل الثورية، ولا تهمهم طبيعة هذه المعلبات ومن أين تأتي طالما أنها معلبات فاسدة، ومنتهية الصلاحية النضالية، وتسمم الحارات الشعبية، بل تحولها إلى حرائق وحروب ودمار.
المطالعات لجهة واحدة، ورؤية ابليس الملعون فيها دائماً، كأن رؤوسهم شُدت بجنازير، وكأن العين الثانية زجاجية أو موقوفة عن الرؤية، ووراءها شحنة من العاطفة الهائجة، والأقدام مُسمَّرة على الكراسي البيروقراطية، سواء أكانت حمراء أم سوداء أم خضراء، والدفع عبر العلاقات والتداخلات والمسامرات والحفلات وتحت الطاولات، فإذا موظف البيروقرطية هو مالك المتجر الجديد ورئيس تحرير جريدة الإعلانات المثقلة، وصاحب الشركة ومالك أرض في قرية المعدمين، وعضو البرلمان الراقد سياسياً وحزبياً، فيُصرخُ في وجهه: أين النضال والجمل النارية؟ فيقول يا عم دعنا نأكل عيشاً!
موظفُ البيروقراطية الحمراء والسوداء والخضراء وكل الألوان وكل المستويات والجهات التي تتجدد على ظهور العاملين متاجرة بعضلاتهم وحناجرهم وأدمغتهم، تتركهم في التاريخ وفي السجون وفي مراحل الجزر وفي الانعطافات المذهلة في الأحداث معلقين على حبال أو متساقطين في قعر المستنقعات الاجتماعية والسياسية، وفي العوز الروحي الثقافي العميق والعوز المادي.
وفي كل حين لابد أن يظهر مغفلو العمال والفلاحين هذه المادة الأزلية في التجارة الثورية، حيث لم يسهر عليهم آباء وأمهات متعلمون، وتركوهم في دجى الصراع الطبقي بلا مصابيح وبلا كتب، تركوهم لاستغلال أولاد الذوات وأصحاب العيارة النضالية من سيكونون موظفين في البيروقراطية الحمراء والسوداء والخضراء، ومن سيتعاركون على مقاعدها ويتبادلون أدوار سحل الشعوب فيها، وخدمة بيروقراطيات الدفع السريع أو المؤجل حسب الميزان التجاري لكل مرحلة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 16, 2023 20:17

تآكل التحديثيين ونتائجه

كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة

#المنبر_التقدمي

ما الذي جعل دعاة النضال والنور ينطفئون؟ لماذا خرست ألسنتُهم وانطفأت مصابيحُهم وشحبت كلماتُهم أو غرقت في الظلام؟
وإذا نظروا نظروا إلى جهة واحدة كأن عيونهم ازورت وبصائرهم احولت؟
ما الذي جعل أصحاب الفولاذ سقيناه والحرس الفتي ورجل في أمة والشرارات و٥ مارس وأمة تُبعث مجدداً ينطفئون وكأن الزحف العظيم الهادر بالقضاء على الفقر والظلم والاستغلال تبخر في الهواء وكأنه لم يكن بل تحول إلى كوابيس؟
لماذا جعلوا لوحاتهم ملأى بالألوان الرخيصة تندلق عليها براميل من المطر المعتم وقصصهم لا أبطال فيها ثم تموت في الأدراج التاريخية المقطوعة الألسنة؟ أين الهتاف بشعب واحد، وأمة واحدة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر؟
ليس هو عمى الألوان بل هو غياب الفهم، والمراهنة على البيروقراطية كي تحل كل مشكلات العاملين والحالمين، البيروقراطية الحمراء أو السوداء أو الخضراء، ورؤية أن من هو قرب البيروقراطية سيكون من الفائزين الغانمين، لكنه في الخلايا الفقيرة في الحارات والقرى سيتعرض للمعاناة والتجارب المريرة وسيظل يحلم بانتصار البيروقراطية، وأن من الساحات الحمراء والخضراء والسوداء سوف يأتي النصر.
لكن البيروقراطية في كل مكان تتخلى عن العاملين والتجار الصناعيين، والبيروقراطية تعرف لوائحها وموظفيها وغنائمها وغنهما، ولكنها لا تعرف سكان الحارات البسطاء الذين يكدحون من أجل لقمة العيش، وتنظيف الطرق من القمامات الكثيفة والدخان والأمراض وضحايا التعطل.
يقولون علينا بالتغلغل في البيروقراطية وتغيير الأنظمة من فوق، لكنهم مع السنين هم الذين تغيروا والبيروقراطية لم تتغير، بل اتسعت أملاكها، وهم الذين اندثرت أحلامُهم وتقلصت رؤاهم وصدأت سيوفُهم وتبخرت كلماتُهم (وتشخبت) لوحاتهم وبارت مسرحياتُهم، واختفت أشعارهم ونسخت بياناتُهم حتى غدت معروفة قبل أن تُذكر وتطبع ثم تلقى في سلال المهملات التاريخية.
ويفاجأون ويصدمون عبر هذه الذاكرات التي لا تحفظ شيئاً ولا تحفر في شيء، ويذهلون كيف أن الموظف الثائر تحول إلى لص؟! وكيف أن الساحة الخضراء حيث الجماهير موعودة بالجنان والسلطة الأبدية الحرة تغدو مكان اعدام المناضلين، ومركز شواء البشر والمدن والقرى؟
ومنذ زمن بعيد والموظف يسرق حبات القمح ويبيعها في السوق السوداء، ويبني الفلل ويبيعها ويحول الجزر إلى مدن لهو ويؤجر الغابات على الشركات، حتى إذا أعلن انتماءه للبيروقراطية المالية صعقوا وأصيبوا بالسكتات اللسانية الدماغية، وهم الذين أخذوا حبيبات من الذهب وخيوطا من الدم الشعبي في جيوبهم السرية.
عاشوا على المعلبات الفاسدة، من هذه الدكاكين التي تتاجر بالجمل الثورية، ولا تهمهم طبيعة هذه المعلبات ومن أين تأتي طالما أنها معلبات فاسدة، ومنتهية الصلاحية النضالية، وتسمم الحارات الشعبية، بل تحولها إلى حرائق وحروب ودمار.
المطالعات لجهة واحدة، ورؤية ابليس الملعون فيها دائماً، كأن رؤوسهم شُدت بجنازير، وكأن العين الثانية زجاجية أو موقوفة عن الرؤية، ووراءها شحنة من العاطفة الهائجة، والأقدام مُسمَّرة على الكراسي البيروقراطية، سواء أكانت حمراء أم سوداء أم خضراء، والدفع عبر العلاقات والتداخلات والمسامرات والحفلات وتحت الطاولات، فإذا موظف البيروقرطية هو مالك المتجر الجديد ورئيس تحرير جريدة الإعلانات المثقلة، وصاحب الشركة ومالك أرض في قرية المعدمين، وعضو البرلمان الراقد سياسياً وحزبياً، فيُصرخُ في وجهه: أين النضال والجمل النارية؟ فيقول يا عم دعنا نأكل عيشاً!
موظفُ البيروقراطية الحمراء والسوداء والخضراء وكل الألوان وكل المستويات والجهات التي تتجدد على ظهور العاملين متاجرة بعضلاتهم وحناجرهم وأدمغتهم، تتركهم في التاريخ وفي السجون وفي مراحل الجزر وفي الانعطافات المذهلة في الأحداث معلقين على حبال أو متساقطين في قعر المستنقعات الاجتماعية والسياسية، وفي العوز الروحي الثقافي العميق والعوز المادي.
وفي كل حين لابد أن يظهر مغفلو العمال والفلاحين هذه المادة الأزلية في التجارة الثورية، حيث لم يسهر عليهم آباء وأمهات متعلمون، وتركوهم في دجى الصراع الطبقي بلا مصابيح وبلا كتب، تركوهم لاستغلال أولاد الذوات وأصحاب العيارة النضالية من سيكونون موظفين في البيروقراطية الحمراء والسوداء والخضراء، ومن سيتعاركون على مقاعدها ويتبادلون أدوار سحل الشعوب فيها، وخدمة بيروقراطيات الدفع السريع أو المؤجل حسب الميزان التجاري لكل مرحلة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 16, 2023 20:17

February 14, 2023

【مفهوم الحرية في رواية الينابيع للكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة】

= د. انتصار البناء مقدمةيعّد عبـــــــدالله خلــــــــيفة أحد أهم كتاب الرواية في البحرين. شغلته الإيديولوجيا وطموح الحرية والتقدم في كتاباته النقدية والأدبية والفكرية. وليست رواية «الينابيع» إلا قطعة فنية تعبر عن رؤاه الفكرية في قالب أدبي مكتنز بالمضامين والدلالات.في رواية «الينابيع» يقف القارئ أمام أسئلة تسكنه بعد أن يغادر الصفحات الأخيرة من الرواية. إنها مقاصد الكاتب المهجوس بهموم الإنسان والمجتمع، التي يورط بها القارئ معه، ويستحثه على خلق أجوبه لأسئلة لا يبين لها حل في واقع ملتبس، أبدا، بالتناقضات والانقلابات والمفاجآت. العمل الأدبي، والرواية تحديدا، ليست فسحة ومتعة فحسب. إنها انشغال واشتغال بالأفكار الإنسانية، والأسئلة المصيرية.يطرح الكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة إشكالات الفكر التقدمي الجوهرية، وهي أسئلة تمتد في فكرنا العربي منذ زمن النهضة. أسئلة الانتصار والهزيمة… النجاح والفشل.. أسئلة الإرادة والتغيير: من هو الإنسان الذي يملك حريته؟  وكيف نترجم عن حريتنا بما يخلق إمكانات التغيير في المجتمع ؟  لماذا تتعثر المشاريع الوطنية في أوجها ؟ لماذا يتحقق التغيير من خلال الشخصيات غير التقدمية؟تلك الأسئلة نهضت بها بنية روائية تناسبت مع انفتاح الأسئلة على مضامين اجتماعية غارت في ردهات المجتمع غير المطروقة، وفي تجاويف النفس غير المالوفة. وكانت اللغة هي الجناح الذي طاف بعناصر السرد المختلفة في ثم التحم بها صيغة فنية تستحق دراستها من زوايا متعددة. أولا : الينابيع والتاريخ:ليست ثلاثية «الينابيع» رواية تاريخية، ولكنها تسير على حافة التاريخ. فهي تطوي في فضائها الزمني مرحلة تاريخية في البحرين تمتد من العشرينيات حتى السنوات الأولى من الألفية الثانية. وهذه المدة الزمنية قسمها الكاتب في روايته مراحل ثلاثا نهضت بها أجزاء الرواية. فالجزء الأول «الصوت» تدور أحداثه زمن الغوص، والجزء الثاني «الماء الأسود» تدور أحداثه زمن التنقيب عن النفط وسنوات اكتشافه الأولى، والجزء الثالث «الفيضان» تدور أحداثه عصر ما يسميه عبـــــــدالله خلــــــــيفة في بعض كتاباته زمن اقتصاد النفط .ولم. تتغّى رواية الينابيع من استدعاء التاريخ توثيق سيرة بحرينية شأنها في ذلك شأن كل عمل فني، بل تغيت طرح رؤية إبداعية للتاريخ، تعيد سرد الأحداث من منظور أدبي وفق رؤية الكاتب. ذلك أن الرواية الأدبية للتاريخ هي سرد لحقيقة أخرى تضمنها التاريخ غير الحقيقة التوثيقية التي تسردها كتب التاريخ «فلا مناص للرواية إذا اختارت الفضاء التاريخي المرجعي مجالا لها من أن تقول التاريخ. ولكنها تقوله على طريقتها، أي أنها لا تكرره وإنما تحينه»(1) ، وتعيد تفسيره بناء على خلق مقاربة بين التاريخ والواقع.وفي رواية الينابيع نكون بصدد رواية تصدر عن منظور واقعي اشتراكي يعبر عن المدرسة التي انتمى إليها الكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة وبقي وفيا لها حتى نهاية حياته. فالرواية تقرأ التاريخ البحريني بحثا عن حقيقة خارج الصيغة الجامدة والثابتة، الرواية تقرأ التاريخ باعتباره صيغة متحركة ومتغيرة وليس باعتباره قانونا جامدا يكرر معطياته في كل مرحلة، وفي ظل هذا المفهوم يقول لوكاتش (إن مواضيع التاريخ تبدو مواضيع قوانين طبيعية ثابتة وأبدية. إن التاريخ يتجمد في شكلية لا تتمكن من تفسير الصيغ التاريخية الاجتماعية في جوهرها الحقيقي كصيغ متبادلة بين الناس، إن هذه الصيغ تطرح بعيدا عن هذا المنهل الأكثر صحة لاستيعاب التاريخ) (2) ، وفي مجال الفن فإن السرد هو من أفضل الأعمال التي تفسر التاريخ وتكشف عن الحقيقة الأدبية التي تعبر عن الطابع الحيوي والديموي الذي يجعله حيا فينا.والصيغة التي تمثلتها الرواية في طرح رؤيتها للتاريخ البحريني في تلك المرحلة الزمنية، هي صيغة أوردت الأحداث التاريخية على تواليها الزمني مستعينة بشخصيات مقاربة لشخصيات تاريخية عاشت تلك المرحلة التاريخية. وهي صيغة تخلق تجربة قراءة فريدة عند القارئ (فإذا اعتقدنا عن وعي أو عن غير وعي أن القصة قد تكون حدثت فعلا، فإننا نستغرق فيها بطريقة خاصة) (3) بسبب التأثير الذي يخلقه حضور الواقع في المتخيل السردي. والرواية بدأت بثورة الغواصين على الطواويش ضد عملية الديون التي لا تنتهي، ثم انتقلت في تسلسلها التاريخي إلى التحول الاقتصادي الحاد الذي مرت به البحرين بانتهاء عصر الغوص وتحول الغواصين إلى عمال ينقبون عن النفط في الجبل، ثم دخول البحرين مرحلة التيارات الإيديولوجية المختلفة. وتخلل كل هذه المراحل سرد لمقاومة الاحتلال الإنجليزي وتشكل الحركات الوطنية وتطورها وتداعيها أمام كل حدث مفصلي في تاريخ البحرين المعاصر.وأمام هذا الحضور الطاغي للواقع الذي تخلقه (المماثلة) التاريخية؛ فإن الرواية استخدمت أدواتها الخاصة في المباعدة بين الحدث التاريخي بشخوصه وبين المتخيل السردي بدلالاته، فـــ( يضطلع السرد في هذا المقام بدور التمثيل الذي لا يحاكي، لأنه ينشئ المفارقة من رحم المماثلة، ويضطلع بالتبعيد في اللحظة التي يقنع فيها بالتقريب والمماثلة والمماهاة) (4). وتلك هي إحدى السمات الجمالية في الرواية التي جعلت منها قطعة فنية تتوارب بين التاريخية والخيالية.إن الصيغة السابقة هي التي جعلت مضمون الرواية نقطة ارتكاز تحليلها. فالكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة كان معنيا بمغامرة المعنى أكثر من خوض مغامرة المبنى. وكان معنيا بتجلية مضمون الرواية ومقاصدها ورؤاها أكثر من اعتنائه بسبك شكلها وتفجير لغتها وتركيباتها. لذلك عُنيت في هذه الدراسة بالغور في أحد المضامين الذي كان التاريخ أحد البوابات المفضية إلى سرادقه في الرواية. وهو مفهوم الحرية الذي كان هاجس الرواية وهاجس شخصياتها في المراحل التاريخية المختلفة التي سردتها الرواية. ثانيا : الرؤية والبناء في رواية الينابيع:الحديث عن الرؤية والتشكل هو حديث الرواية اللامنتهي، من حيث إنه حديث عن إبداع الرواية التي تأبى أن تقف عند تشكلات محددة أو رؤى محدودة. وهذه الدراسة تنحو إلى اعتبار قراءة الرواية وتحليلها يقومان على تكامل النظر في المكونات الروائية بما فيها البنية والرؤية.إذ يصعب فصلهما أو التمييز بينهما تمييزا كليا. وما دراسة المكونات الروائية إلا عملية تحليل وتعمق في بعض المكونات؛ يتعين إتمامها بتتبع الآليات التي تندغم بها المكونات بعضها ببعض مشكلة الحكائية حسب تعبير الناقد إبراهيم عبدالله الذي يعرف المادة الحكائية بأنها. (متن مصوغ صوغا سرديا، وهذا المتن إنما هو خلاصة تماهي العناصر الفنية الأساسية وهي الحدث والشخصية والخلفية الزمانية ــ المكانية. بالوسائل السردية التي نهضت بمهمة نسجها وصياغتها)(5).ففي سياق الحديث عن بنية رواية «الينابيع»، نتبيّن أن النظام الذي شُيدت عليه بنية الرواية هو نظام يقوم على مكون (شخصيات). وهو نظام يشد إليه باقي مكونات السرد المكانية والزمانية والوصفية ليشكل النسيج الكلي للرواية. فإذا رصدنا الجملة الأولى من كل جزء في الرواية سوف نجدها جملاً ترتكز على «شخصية» يحدد السرد تموضعها في الحدث وفي الفضاء المكاني والزماني عبر التحديد الزمني الماضي.ففي الجزء الأول «الصوت» تطالعنا الرواية بجملة (كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن). وفي الجزء الثاني «الماء الأسود» يبدأ السرد بجملة (كان الشاطئ مسرحاً لمعركة عليّ). وفي الجزء الثالث «الفيضان» يبدأ السرد بجملة (كان علي يسأل الليل والمطر وأنصال البرق). فالشخصيات في الرواية هي التي تضيء باقي مكونات السرد وتشدها إلى بعضها عن طريق توغل السرد في الشخصيات وتعمقه فيها وفي حركتها في الرواية وتطورها أو تجمدها. وفي الرواية نماذج كثيرة يمكن الاستدلال بها على ذلك. فعبر شخصية «محمد العواد» تكشف الرواية الموقف الاجتماعي من الفن والمرأة والقبيلة. وتكشف أثر المكان في احتواء تلك الأفكار وتناميها، حين انتقل من المحرق إلى المنامة حيث الفارق في التأثير الإيديولوجي الديني بين المدينتين، ثمحين سافر إلى الهند لإصدار اسطوانته وعاش جزءا من الحياة الحرة التي تمناها.. وعبر شخصية «إبراهيم زويد» تكشف الرواية عن حدة التحول الزمني من عصر اعتمد اقتصاده على الغوص وتجارة اللؤلؤ إلى آخر يحفر طريقه نحو تجارة النفط. وكيف صاحب ذلك تحول آخر في القيم أثر في العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة قبلا.كما أن سرد الرواية الذي قام على عرض عدد كبير من الشخصيات والتعمق في تركيباتها الشخصية وخلق تواصل اجتماعي مكثف فيما بينها جعل وظيفة بعض الشخصيات التي يمكن وصفها بأنها نمطية وتسير وفق إيقاع ثابت في الرواية؛ تسليط الضوء على قضية القيم في الرواية وكشف نسبية القيم عند بعض الشخصيات دون أن تنجرف الرواية نحو الخطابية والإنشائية. ويمكن اعتبار شخصية «فيّ» التي ظهرت شخصية نمطية في الرواية لم تتطور تركيبتها النفسية أو الاجتماعية ولم يتنالمَ دورها أو وظيفتها في السرد، يمكن اعتبارها، أداة فنية كشفت بها الرواية الفارق القيمي بين شخصية «محمد العواد» الذي استغل حبها له ثم تخلى عنها في أقسى ظرف اجتماعي يمكن أن تواجهه. وشخصية سعيد المناعي الذي أخرجها من محنتها الاجتماعية وتقبلها زوجة تنجب على فراشه ابنا ليس له. ومن خلال شخصيتي «محمد العواد» و«سعيد المناعي» تطرح الرواية الفارق بين الحرية غير الملتزمة التي يطمح إليها العواد، والحرية الملتزمة التي تمثلها شخصية المناعي.إن الاعتناء ببناء الشخصيات وتوصيف واقعها الاجتماعي هو في حقيقة الأمر أحد مقومات الاتجاه الواقعي الاشتراكي في الأدب الذي تنتمي إليه الرواية، إذ يتعذر دراسة مضمون الرواية دون التطرق إلى السمات الواقعية التي اختصت بها. ومن أهم تلك السمات دراسة الشخصيات، إذ «لا غنى لكل عمل أدبي كبير عن عرض أشخاصه في تضافر شامل لعلاقاتهم بعضهم مع بعض ومع وجودهم الاجتماعي ومع معضلات هذا الوجود. وكلما كان إدراك هذه العلاقات أعمق، وكان الجهد في إخراج خيوط هذه الوشائج أخصب، كان العمل الأدبي أكبر قيمة»(6) من المنظور الجمالي الاشتراكي في الأدب.واستنادا إلى ما سبق يمكن النظر إلى بنية الرواية على أنها بنية (عنقودية) تقوم على تفريع شخصيات النص، ومحيطها الاجتماعي الذي تنتمي إليه تأثيرات كل من الزمان والمكان، من مسارين تاريخيين واجتماعيين، تمثلهما شخصيتين رئيسيتين. المسار الأول : مسار شخصية «محمد العواد» وهو مسار مجتمع ما قبل النفط، بعلاقاته المتشابكة وبمحيطه الاجتماعي الخاص بالغواصين والفقراء والعبيد والمشايخ. وكان الاتجاه الإيديولوجي المهيمن على النص هو الاتجاه الديني الذي يُثبت العبودية، ويحرم الفن، ويُضيق على المرأة. ويعطي صلاحيات واسعة لرجال الدين، الذين هم جزء من السلطة. المسار الثاني : هو مسار شخصية بدر الوزان، وهو مسار عصر النفط في البحرين، وله شخصياته المرتبطة بسياقه التاريخي والاجتماعي. والاتجاه الإيديولوجي المهيمن على النص في تلك المرحلة هو الاتجاه اليساري، الذي تذبذب بين القومية والاشتراكية.ويلتقي المساران في شخصية عليّ، الذي هو ابن غير شرعي «لمحمد العواد» وتلميذ «بدر الوزان» الذي تمرد عليه. وتعد شخصية عليّ نتاج المسارين فعلا، فهو نتاج رحلة العبيد الذين تدرجوا، تاريخيا، بسبل شتى كي يتحرروا من قيود اللون والنسب والأعرف، وهو نتاج التحولات الفكرية التي شهدتها مسيرة المفكرين والمناضلين في البحرين في تلك المرحلة التاريخية.ولا تخرج رؤية الرواية عن التركيبة المتشابكة مع بنيتها القائمة على «نظام الشخصيات»، التي تتكامل معها في إنتاج الصيغة الإبداعية للرواية. وحيث إن الرؤية هي «الطريقة التي اعتبر بها الراوي الأحداث عند تقديمها».(7) وحيث إن الرواية اتخذت لنفسها نمط الراوي من الخارج الذي يعلم بكافة مقتضيات الأحداث، فإنها تكون بذلك قد منحت شخصياتها فرصة وافية للتعبير عن نفسها وعن رؤيتها الاجتماعية بصيغ لغوية متعددة كان للضمائر دور بارز فيها.إن التعبير عن الرؤية الذاتية للعالم هو، كذلك، أحد مقومات المدرسة الواقعية الذي تضطلع الشخصيات فيها بالنهوض بهذه المهمة. فــ«مقدرة الشخصيات الأدبية على التعبير عن نظرتها إلى العالم فكرياً تؤلف جزءاً مكوناً ضرورياً هاماً من الترجمة الفنية للواقع ».(8) لذلك استدعت هذه الدراسة استقصاء رؤى بعض الشخصيات للآخر والمجتمع والكون. فكان أهم ما يشغل معظم شخصيات الرواية تطلعها إلى الحرية وفق رؤيتها ومنظورها الخاص للحرية. وانطلقت كافة الرؤى (التحررية) من موقف كل شخصية من جذورها ومن أزمة هوية تعاني منها العديد من شخصيات الرواية. وهو ما يفسر عنوان الرواية «الينابيع». فليست الينابيع إلا تمثلا آخر لمفهوم الجذور. ولذلك نجد أن قضية معظم الشخصيات في الرواية هي التمرد على ينابيعها/ جذورها.والرواية في صياغتها لرؤيتها تطرح الأسئلة التاريخية الكبيرة في حياة الشعوب النضالية: فمعظم الشخصيات لم تتمكن من تحقيق أهدافها التي تكللها الأهداف النبيلة والقيم السامية. فها هو السبب؟؛ وباقي الشخصيات التى طرحتها الرواية في إطار انتهازي كانت هي الأقدر على الوصول إلى مبتغاها. فما هو السبب أيضا؟ الذين صنعوا التاريخ والمجد والذين أداروا حركة التغيير لم يكونوا أصحاب القيم التحررية. الذين تزعموا حركة التغيير ونادوا بالقيم التحررية أصبحوا تابعين، في نهاية الأمر، لمن كانوا يختلفون معهم ويناقضونهم في القيم !!. هل ثمة مشكلة في الأهداف أم في الأدوات، أم في كليهما؟إنّ السرد الذي أخضع الكم الكبير من الشخصيات في متواليات تاريخية (طويلة نسبيا في حياة الفرد / قصيرة نسبيا في حياة الشعوب) يحاول البحث في الأسئلة السابقة من منظور فني دون تقديم إجابات حاسمة عليها، بل بطرح رؤى متعددة واتجاهات مختلفة تفسر بواعث سلوك الشخصيات وتبريرها لمساراتها واختياراتها. ثالثا : التمرد على الينابيع:بدت أغلب شخصيات الرواية مأزومة بينابيعها… مهجوسة بجذورها، وبدت الينابيع/ الجذور هي العائق المانع أمام الشخصيات من العيش بحرية، وهذا ما جعل الرواية تصوغ للنضال من أجل الحرية طابع الصراع الطبقي بمستويات مختلفة. وعند تحليل رؤية كل شخصية لمفهوم الحرية ولكيفية الوصول إليها، وبقراءة وظيفة المكونات السردية في تعميق تلك الرؤى؛ يمكننا الوصول إلى الرؤية الكلية للرواية والمقصد الفني للكاتب الذي يصعب إغفال النظر فيه عند دراسة العمل الروائي الواقعي إذ «يحمل كل نص حقيقة ينبغي إبرازها، ولكن يجب التنبه إلى أن هذه الحقيقة إنما انتزعت من مؤلفها انتزاعا. إنه هو الذي يمسك بها ويضمنها في النص»(9) تضمينا أدبيا يترجم رؤاه في نسق فني.وستقوم هذه الدراسة في هذا الحيز على تقصّي ينابيع/ جذور بعض الشخصيات التي كانت باعثا للكثير من سلوكياتها، وقراءة تلك الينابيع ضمن البنية السردية، ومن ثم النفاذ إلى دلالتها الفنية.   ـــ  محمد العواد: طيف الأم :محمد العواد هو ابن شرعي خارج مؤسسة الزواج، والدته إحدى الإماء اللاتي كن يعملن في بيوت السادة. لم يجد محمد العواد من والده أو من المجتمع عدالة ومساواة في المعاملة والتقدير بينه وبين إخوته البيض (الشرعيين)، فهو في كل مرة يقف في الصف الأخير، ويصلي غاضباً، ويأكل مع الخدم ويصفعه أبوه لأي هفوة، وهو يرى إخوته البيض ممتلئين بالشحم والدم، وهو عود يابس يرعى الغنم وينادم الآبار الملأى بالأصداء والأغنيات»(10).وقد شكلت الأم في وجدانه الطعم الأول للألم والمسوغ العرقي للفن، فكانت الصورة الأولى للإنسان المهمش والصدى الدائم الذي يتردد في ذاكرته عند كل معاناة يتجرعها بسبب اللون والنسب الذي ورثهما من علاقة والده بأمه. فحين علقه والده مرة في البئر ترهيبا له كي يترك العزف والغناء تذكر والدته وفضاء العذاب الذي أحاط بحياتها في منزل والده «الجوع والحشرات والمرايا المشرخة، وقناديل الأخوات والأموت، والعظام الملقاة التي لا مسكها أصابعه، تذكره، بالأم. ذلك الجسد الجميل والوجه الأبنوسي الناعم كان ملجأه الأول والأخير، تمتد أياديها إليه الآن لتقطع الحبال الغائرة  في لحمه فلا تستطيع»(11). وحين عشق الفن ربطه بالجينات الأفريقية التي تسللت إلى دمه عبر أمه وخلقت فيه تلك الارتعاشات الراقصة، «رآها أبوه ذات ليلة مملة، بين العبدات فاشتهاها، وصنعه بذلك اللون الأبنوسي والروح الأفريقية. يريد أن لا تدمدم الغابات في عروقه..». (12).وعلى الرغم من سرد الرواية لمعاناة محمد العواد من حالة التمييز، الاجتماعي عامة والأسري خاصة. التي يعيشها فإنها لم تعبر عن تبرمه الشخصي من لونه أو نسبه لوالدته بصيغ صريحة أو سلوك جلي، ولكن تغلغل التصور الجمعي للفتى الأبيض الشجاع لم تستثن مخيلة محمد العواد هو الآخر لتكشف عن شوق وتوق عميقين لصورة البطل الأبيض، فحين رأى «فارس» ذات مرة استحضر البطولة في بياضه وأناقته، «إنه فتى الشيوخ السارح بين خيامهم وخيولهم وبساتينهم، قريب إلى فؤاد الشيخ حامد، فكيف يبدو الآن صلدا مثل رمح. لِم لمْ يزل البياض والأناقة شرارات القوة والفحولة».(13) وهذه بعض أمارات الشعور بالتأزم الطبقي في نفس محمد العواد.والمفارقة الطبقية التى يعيشها محمد العواد في تركيبته كانت المؤثر الأهم في تشكل مفهوم الحرية عنده. فهو ليس عبداً مكتملاً، كما أنه ليس حراً بالأصالة؛ ولذلك يمكن النظر إلى الأداة التي استعان بها محمد العواد للتعبير عن رغبته بالتحرر من أزمة الينابيع التي يعيشها على أنها تكمن في الفن وهو أداة (فردية) في طبيعة استخدام العواد لها، غير أنها تمتلك خاصية التأثير والتحريض الجماعي، فالفن له «قدرته على التأثير في فترات أبعد من اللحظة التاريخية التي نشأ فيها، وبذلك كان له سحره الدائم»(14) ، وهو ما حاول محمد العواد ممارسته في بعض أجزاء الرواية غير أنه لم يتمكن من إنجازه حدثاً مكتملاً في بنية الرواية.وكان الغناء عند محمد العواد هو أقوى أدوات التمرد وعلامة الحرية الكبرى. وكان الفن، في ذلك الوقت، المتمثل في العزف والغناء يواجه الازدراء والاستهجان. فتكاملت أسباب الازدراء في شخصية محمد العواد من نبع واحد نبع الأم التي ورثته السواد والنسب وجريان الطرب في نبض الدم.وبالفن تمرد محمد العواد على كل مختلف المؤسسات التي كانت تحاربه : مؤسسة الأسرة: منح العود لمحمد نسباً ولقباً وهوية لم يمنحها له والده. فصار في الرواية محمد العواد، والقارئ لا يجد في الرواية إسماً لعائلة محمد. ولأجل العود والغناء هجر محمد أسرته التي لم تمنحه العدل والمساواة والاعتراف الكامل ولم تقدم له عوضاً عما سبق الحرية في اتباع ما يهوى.كما تمرد محمد العواد على مؤسسة الزواج نفسها لأنها ستكون عائقاً أمامه في استمرار حريته في ممارسة الفن، يقول لمّا طرح موضوع زواجه من «فيّ» بعد أن حملت منه «أنا الرجل الحر، أحبس نفسي في هذه الخرابة لأصنع أطفالا وأناغي زوجة وأشتري الأدام كل صباح! إنني لم أتغرب وأتعذب وأستشهد في هذه المدينة الحجرية إلا لكي أغني! سأغني! سأغني. أنا فنان أحلم أن أصعد إلى النجوم لا أعيش بين بول الصغار» (15). المؤسسة الدينية : واجه محمد العواد رجال سالم الرفاعي طوال حياته الفنية، كانوا يلاحقونه ويكسرون عوده وآلاته ويفسدون لياليه وسهراته، واصفين ما يفعله بالدعوة إلى الفجور وإفساد المجتمع. وكانت المؤسسة الدينية هي أول من حارب حبه للغناء والفن، غير أنها لم تتمكن، على طول مرحلة الصراع معها، من كسر عزيمته واثنائه عن إكمال مسيرته الفنية. الواقع السياسي والاجتماعي: وسم الكاتب الرواية في جزئها الأول بعنوان «الصوت» وبتقصي المفهوم الذي صاغته الرواية للصوت يتعمق مدلول التمرد ثم الثورة في الرواية إلى ان يختتم الجزء الأول حدثه الأخير بحركة احتجاجات كبيرة تنتهي بإطلاق النار على الميجر الإنجليزي. ففي الثقافة الشعبية يعبر مصطلح «الصوت» عن أحد الفنون الشعبية «التي تعتمد على الآلة المحببة في الأوساط الخليجية والعربية (العود)، والتي ترجمت بروح وإحساس ينتميان إلى عروبته وإقليميته الخليجية. فاختيرت له القصائد العربية الجاهلية، وأيضاً التي جاءت بعد الإسلام»(16). وبتقصي دلالة «الصوت» سوف نجدها تتطور من المفهوم الفني الذي تأسست عليه في الثقافة الشعبية وفي المدلول الأول في الرواية إلي الدلالة التعبوية والنضالية التي أخذت تتشكل بتطور البنية التركيبية في الرواية، و«نعني بالدلالة جميع لحظات التلفظ المتكررة والمتماثلة مع نفسها في كل تكرراراتها»(17)، التي ستشكل معنى دالا ضمن سياق السرد.والنماذج التي سنوردها بمنهجية متسلسلة تطورية لدلالة الصوت. وليست ذات طابع انتقائي موجه. فقد بدأ الجزء الأول، بل بدأت الرواية كلها بجملة افتتاحية هي «كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن»، وهي جملة تؤسس لمعنى الصوت بدلالته الفنية. غير أن هذه الدلالة أخذت في التطور مع اندماج محمد العواد في الحياة الاجتماعية ومع فئات متعددة.فحين كان محمد العواد بين جموع المحتجين الفقراء الذين تلاحموا وتبادلوا الطعام والصبر والقوة تورد الرواية الجمل التالية : «كانت هذه الأغنية التي انتظرها طويلا، صيحة حرب وإيقاع مارش لصف طويل من المتعبين. وراح صوته يلعلع فوق حشود الشوارع، والكلمات تتسرب، وتتعذب في الأفواه الأمية، ثم تندغم وتنمو وتطير، وتصير سرباً من النوارس»(18). إن تلاحم الفقراء تحول في نفس محمد العواد إلى أغنية لها وقعها الخاص وتأثيرها المختلف.ويشتد ارتباط مفهوم الصوت الفني بمفهوم الثورة حين يتواجد محمد العواد بين جموع الفقراء إبان ما عرف بثورة الغواصين حين خرجوا على الطواويش محتجين على ديونهم التي تتضاعف ولا تنقضي، يتساءل محمد العواد: «من أية أغوار صعد ذلك الصوت؟ تلك الأنشودة (النهمة) الغائرة في موج الصدر واضطرابات الصواري والروح واللجج والصخور ومتاريس الرمل المحطمة وقيعان الأكواخ الخالية والقدور الناضبة…؟ من أين صعدت تلك (الآه) وأوقفت الأصابع المقطوعة، وجمدت الأرجل الفالتة في الأزقة، وأنضجت الأولاد في دقائق؟ ثمة صوت اندلع،…؛ تحول الهاربون بغتة إلى مغنين… راحوا يجدفون بين التراب، وينهمون في عريهم المجلود،…، الصوت الصغير، الوحيد، المرتجف؛ يتنامى بين كتل الصخور وهو ينظم إلى قطيع البشر المشتت العائد من المسلخ،… ، الصوت الأبح، الخافت، يتوحد بصوته القوي الحزين فيندلع اللهب، وكأن مئات السفن تتوحد في هدير كوني ويصير حجرا متدفقا يرنح الفرسان من صهوات الخيول التي تفح نائية مكسورة. ولتبدو الشوارع مفتوحة حرة»(19). ففي هذا المقطع تكشف الرواية عن براعتها في استخدام اللغة استخداماً يدفع المعاني العميقة إلى التجلي، حيث تتكاتف الألفاظ التي تحشدها الرواية، المرادفة للصوت، في تصاعد يتناغم مع تصاعد الحركة الاحتجاجية للفقراء.وفي حركة احتجاجات أخرى متجهة نحو القلعة حيث يقبع سجن كبير، يرد في النص التعبير الآتي: «من كان يظن أن هؤلاء المدفونين في التراب لهم صوت؟ وأولئك الفلاحون المعزولون في الدوالي والقرى البعيدة سيندفعون بسيول حميرهم إلى القلعة فيختلط النهيق بـالصراخ»(20).وعندما تراجع «فارس» ، ذلك الشاب مرموق القبيلة، عن ثورته ضد المستعمر الإنجليزي، التي حشد لها جموع الرافضين لتسلط الميجر الإنجليزي وجموع الفقراء المتضامنين، أكدت الرواية على دلالة كلمة الصوت بمعنى صخب الثورة والاحتجاج: «لماذا لم يدع التيار يصخب، ويدمدم بين الحصى المتقلقل والذائب، ويقلع العشب الأخضر الموحل اللزج، لماذا في قمة النشوة يكسر الإيقاع والصوت؟»(21).وفي نهاية الجزء الأول يشتد صوت الاحتجاجات وتصل إلى بيت المستشار وتمتزج أصوات المحتجين، التي كانت تصدح بالنشيد أحياناً، بأصوات الرصاص المنطلقة من كاد الجانبين، إلى أن ينتهي الجزء الأول بدوي رصاصة تستقر في رأس الميجر الإنجليزي «إنهم لم يتسللوا بصمت، بل كان نشيدهم يوافق سواعدهم وحبالهم الملقاة فوق الجدران وفي اندفاعات أقدامهم الكثيرة الهائلة بين الأبنية والجدرات وغرف الحبس واندمج صراخهم وغناؤهم برصاصهم وصيحاتهم،  وتجمد الحراس الهنود مذهولين، وألقوا بنادقهم ومفاتيحهم، وطلع رفاق البحارة من تحت الحفر ونزلوا من البرج مهللين فرحين…، اندفع الميجر مطلقاً الرصاص نحو البوابة،…، وفجأة دوت رصاصه أمام وجهه…» (22).إن «تنظيم» الرواية لدلالة الصوت في هذا النسق، هو تنظيم لإحدى وجهات رؤية محمد العواد لمفهوم الحرية. وهو مفهوم ارتبط بالفن من حيث هو قوة محرضة ودافعة.. من حيث هو أداة للتعبئة وحشد الجماهير. 2  ـــ جمعة الحادي :جمعة الحادي رجل لا ينتمي إلى محيطه. في البدايات هو سليل العبيد الذين اقتيدوا إلى هذه الأرض مختطفين ومكبلين. وفي النهايات هو رجل انتشل نفسه من أهل المزابل والأكواخ فلم يعد منهم.صورة أجداده المعذبين لم تفارقه، لم تكن لحياتهم قيمة عند سادتهم فلم يوفروا لهم أسباب النجاة حين كان الموت يتخطف الجميع ويخصهم وحدهم دون السادة بالهلاك، «ثم رأى جده في سفينة العبيد وهي تغرق، والسود يصرخون بلغاتهم الغريبة، يشيرون إلى قيودهم، لكنهم راحوا يغرقون والبحارة والتجار يسبحون ويهربون من السفينة الغارقة.  أحس كأنه هو الذي يغرق ويختنق، فنهض مذعورا مغتسلا بالعرق»(23). ولم يكن حاضر جمعة وأسرته أفضل حالا من ماضي الأجداد. الحياة التي لم يحرموا منها، لم ينلهم منها إلا الخدمة والمهانة والإذلال واستلاب الحرية والإرادة، يقول في أحد مقاطع الرواية: «أنتم كنتم تعرفون كيف كانت أسرتي؛ وكيف كنت! كنا ملحقين بهامش بيت، هو أشبه بالزريبة؛ وكان أبي وإخوتي يعملون طوال النهار والليل، في تنظيف القدور وطبخ وحمل للرضع وصفعة لأية هفوة والسادة لهم أن يختلوا حتى بالبنات. أتعرف كم تحملت وقاسيت من كل هذه الإهانات؛ وتطاردك كلمة عبد في كل مكان!» (24).وكان جمعة الحادي واعياً لأزمة لونه وأزمة الطبقة التي يُصنف ضمنها، وقد عبر في غير موقع في الرواية عن ترسب ذلك في نفسه، وعن إدراكه أن بواعث سلوكه وردود فعله تجاه واقعه تجلت في صورة «طموح» جارف نحو الارتقاء الطبقي. و«مقدرة الشخصيات الأدبية على وعي ذاتها تلعب دورا بارزا في الأدب»(25)، من حيث تعبيرها عن التعبير عن نفسها، وعن وضوح إدراكها للحياة والآخر وكيف تحقق أهدافها.بحث جمعة الحادي عن السبل التي تنتشله من أزمة ينابيعه واهتدى بادئ الأمر إلى طريق العلم؛ وعلى الرغم من كون العلم أداة فردية فإنها تمتلك خاصية التنوير الجماعي؛ وهو ما لم يسعَ جمعة الحادي لتحقيقه، وإن كان عمل في بعض أحداث الرواية المتقدمة على الاستفادة من بعض الشخصيات المتعلمة لبناء الوطن مثل شخصية بدر الوزان. ولكن تلك الاستفادة كانت في إطار (المفهوم الشخصي) لجمعة الحادي في بناء الوطن، المتمثل في الاستعانة، وبناء كتلة منسجمة معه. وليست استفادة قائمة على ترسيخ مفهوم المشاركة.عكف جمعة الحادي على القراءة في الكنيسة وقرأ كثيراً من الكتب، وأهم ما وجده في الكتب طرح قضية التحرر من العبودية «كان جمعة الحادي يرتعش وهو يتابع السطور الغريبة في مجلة (المقتطف)، كانت كلمات العلم والمدنية تومض مصابيح في الطريق وورشاً ومدارس بنات جميلات وأغنيات وبالونات، …، لينم إذن، أو يجهز على هذه المجلة الرائعة، التي كلما قرأها أحس بروعة الحياة ونشوة العمر، فعما قليل سيخط بقلمه أشياء مماثلة. سيقول رأيه في تجارة العبيد، وفي ذلك النزف من سواحل أفريقيا المسمومة، وفي تلك السفن المشحونة بالصديد والعظام المكسورة. أما آن وقت نبش هذه المزبلة وأصحابها !» (26)، ويظل مأزق العبودية حاضرا عند جمعة الحادي في أغلب مواقفه، فحين تلومه إحدى أخواته على عمله مع الميجر الإنجليزي المعين من قبل المستعمر، يرد عليها لائماً ومعللاً ما يفعله بأنه وسيلة تحرر من العبودية التي يرفض المجتمع عتقهم منها. «لماذا تنقلين إلىّ هذا الهراء؟ ألا تعرفين أنهم يريدوننا أن نظل عبيداً لديهم إلى الأبد، حتى يتلذذون بتحسس عرقنا المتصبب ودمنا؟ إنهم يغارون حين إننا نتعلم ونستطيع بينما هم لا يزالون في بركهم الموحلة وفي أعمال الحمالة والدناءة»(27).ثم تطورت وسائل جمعة الحادي للتمرد على ينابيعه/ جذوره، فبعد القراءة سوف ينضم للطرف الأقوى في المجتمع، سوف ينضم إلى المستشار الذي يرى فيه ثقافة الحرية والعدل والمساواة «الميجر من أمة عظيمة وراء البحار، وهم أصحاب علوم وتمدن ورحمة، لا عبيد عندهم وكلهم أحرار! إنه يريد كتبه وسأعرض خدماتي عليه. ليس مكاني الغوص وعمارات المسامير والحبال!» (28).ثم لجأ جمعة الحادي إلى جمع الأموال وامتلاك الأراضي «الشيخ السكير مفلس، وهو بحاجة إلى النقود من أي مكان، وأرضه كبيرة وهامة. تصوروا ماذا سيحدث عندما يمتلك شخص ما نصف المدينة الصاعدة من أنقاض الأكواخ والمزابل؟ أنا أسرعت بشراء قطعة ولعلي أبتلع المزيد. انظروا إلى هؤلاء الناس البهائم، لا يدرون ماذا سيحدث غداً، والأرض كنوز» (29). وامتلاك جمعة الحادي للأرض لم يكن امتلاكاً لشكل من أشكال الثروة فحسب، بل امتلاكاً للهوية والانتماء الذي يفتقد جذوره على هذه الأرض. فالأرض تشكل أزمة من أزمات الهوية عند جمعة الحادي وقد عبر عن شي، من هذا القبيل حين كان يتألم لمصاب أخته التي احترقت والتي كان يتمنى أن تنجب أطفالا يحفرون اسم والده على هذه الأرض. «… كنت أود أن أراها منتفخة البطن، ذات جحفل من الصغار، تغرز اسم ذلك الأب العملاق في رمال هذه الأرض الجامدة. ثم أدفنها كتلة رماد في التراب!» (30).إن تتبع علاقة جمعة الحادي مع الأرض يكشف عن أزمة مع المكان، فقد عبر جمعة عن جري أطفال المحرق خلفه ونعته بـــ«العبد» وهو يعمل في شقاء، ثم انتقل إلى المنامة وعبر عن تقززه من المزابل التي تحيط به ومن الفقراء الذين يسكنونها. ولذلك كان امتلاك الأرض وسيلة لفرض علاقة جديدة مع المكان يكون جمعة الحادي هو الطرف الأقوى فيها. ومع كل مرحلة ينجح فيها جمعة الحادي في الترقي الطبقي يطمع في وسيلة جديدة تمنحه هوية جديدة. فيطمح فيما بعد إلى امتلاك النساء البيض في سعي لتغيير التركيبة العرقية لأبنائه وأحفاده «الآن لابد من تملك النساء البيض وعصرهن بين شفتيه، يريد أن يملك ويملك حتى يبتلع كل شيء»(31)، وهو ما يفسر زواجه من أخت بدر الوزان. 3   ـــ بــدر الــوزان :بدر الوزان من الشخصيات التي ظهرت في منتصف الرواية وقدمتها الرواية شخصية مناضلة للحرية والعدالة ومقاومة المستعمر. ولم يعبر بدر الوزان عن أي شعور بالاغتراب أو عدم انتماء للمكان. ولكن تبرز إشارة في نهايات الرواية تشكك في انتماء بدر الوزان لهذه الأرض عبرت عنها زوجته ظبية في رسالتها له في منفاه في سانت هيلانه «تقول لي عائشة أن نذهب إلى بلدي ولكن هذا قد أصبح بلدي وبلد زوجي يزعمون أنك لست من هذه ا لأرض !» (32). تلك الرسالة فتحت تربة السرد على قضية الينابيع/ الجذور عند بدر الوزان كغيره من شخصيات الرواية.كانت رسالة ظبية في نهايات رحلته، ولكن في البدايات حين قرر بدر أن يستجمع أسباب القوة والنفوذ لجأ إلى «القبيلة». فرحل إلى فرع عائلته من أهل (والدته) أصحاب القبيلة والنفوذ والنسب العربي الذين لم يتأخروا عن شد رباطه بهم بتزويجه إحدى بناتهم ومنحه كل ما يريد من أسباب القوة: «أخواله وأبناؤهم استقبلوه بحفاوة. دخل ببنطلونه وقميصه في كتلة الثياب والعباءات والعقل وشوارب الصقور والوجوه الصلدة. شعر براحة وهو يتبدل، ذاب في حشد القبيلة الصارم، رفس بقاياه المترددة وهواجسه. ماذا يريد أكثر من هذه الربيات تتراكم في يده، ودكانه الصغير يمتد إلى السفن والبحر والبرية، ومئات الوجوه البدوية تسلفه سجاجيدها وقماشها الملون وكرات لبنها الصلبة وماشيتها وخلاخيلها وفضتها، وهو يبيعها لتجار هنود وفرس يلتهمونها فوق سفنهم ويروح يعصر النجارين والحدادين ويستل الخناجر والخواتيم والأصابع منهم. إنه يتحول إلى صقر، الطيور المسالمة ترتعش تحت مخالبه. يتذوق عصارة الصليب المعقوف وينتزع بيض الأعشاش ويلتهم الفراخ» (33). وهكذا بالالتحام بالقبيلة صار بدر الوزان قوياً في نظره.إن المقاطع السابقة من الرواية تعبر عن أزمة هوية وأزمة جذور يعيشها المناضل بدر الوزان. فهو يرى أن جذوره غير القبلية هي أحد أسباب ضعفه والعائق أمام إعلانه أي موقف وأمام وقوفه مناضلا في أي قضية. ولذلك كان لجوئه إلى القبيلة وسيلة قوة فردية تحل له أزمة الينابيع/ الجذور التي يشعر بها في أعماقه. رابعا : ثائرون متصالحون:استناداً إلى الفكر الواقعي الاشتراكي الذي تصدر عنه رواية الينابيع، فقد قدمت الرواية أغلب الشخصيات باعتبارها ثائرةٍ على الواقع الطبقي رافضة له. ولكنها في الحقيقية كانت متصالحة مع تركيبة هذا الواقع وقابلة بقوانينه؛ وما طموحها في تغيير هذا الواقع إلا طموح فردي مرتبط بتغيير (وضعها الطبقي الذاتي) ضمن المنظومة الاجتماعية ذاتها دون تغيير التركيبة المجتمعية الطبقية. وهو ما يؤدي عادة؛ حسب المدرسة الواقعية الاشتراكية إلى خلق أزمة التغيير في المجتمعات. فإنجلز يرى إن «الإرادات العديدة الفردية العاملة في التاريخ تعطي في أكثر الأوقات نتائج مختلفة عن النتائج المرجوة، وغالباً ما تكون متناقضة لهذه النتائج المرجوة»(34). وهذا ما يفسر على نحو ظاهري للرواية، فشل تلك الشخصيات في تحقيق طموحاتها واحلامها، أو انحرافها عن مسارها.فعلى الرغم من أن بعض الشخصيات في الرواية كانت متصادمة مع الواقع فإن حركتها المتنامية في السرد كانت تتصالح مع الواقع كلما اقتربت من قوانينه. وأمارة تصالحها مع الواقع انشغالها بذاتها، ولجوؤها إلى أدوات فردية للتغيير، أو تفريد أدوات التغيير القادرة على التعبئة الجماعية، ومن ثم دخولها في عملية ارتقاء طبقي ضمن قوانين الواقع الطبقي ذاته.وفي السياقات التاريخية التي تمر بها الرواية في أحداثها وشخصياتها، كان لمفهوم الحرية والتعبير عن جوهره. فكل تحرر يجب أن يحدث تغييرا، لكن التغيير يبقى محدودا إذا ارتبط بالاتجاه الفردي. وقد كانت أغلب اتجاهات التحرر فردية، من أجل ذلك لم تحقق التغيير الطموح الذي كانت تنادي به. سنورد فيما يأتي نماذج لتعامل بعض الشخصيات مع الحرية مفهوماً والتغيير هدفاً.  1   ـــ محمد العواد:على الرغم من مشاعر الألم التي كابدها محمد العواد نتيجة التهميش الأسري والمجتمعي له بسبب لأمه، أو بسبب احترافه الفن، غير أن إرضاء الطبقات العليا من القوم كان أحد أهداف احترافه الإبداع الفني وأحد الوسائل التي أراد انتهاجها للارتقاء الطبقي، ففي حديثه لميّ التي كانت على أعتاب الزواج من رجل مرموق النسب قال «سأغني للكبار فانتظريني. لن يأخذك أحد غيري»(35). «كلهم لا يساوون أغنية مني. صدى هذه الحنجرة سيبقى إلى الأبد، وكل هؤلاء غبار ريح وثغاء خراف!» (36). وهذا التعبير المبدئي عن تقدير الطبقة التي ازدرته جعلته لا يصمد طويلا أمام إغراءاتها إذ يتراجع في آخر الأمر عن مقاطعتها ومقاومتها. فالوصف السردي يقدم محمدا باعتباره مطرب الفئات الشعبية والمهمشة، ومقاطعاً للطبقات الاجتماعية البرجوازية.!» لم يقبل أن يغني لأحد، وعندما يغني في بيته يمتلئ بالحضور والهدايا، وعجز الأغنياء عن ضيافته، ويمكن أن يفاجئ حضوره زواج بحار فقير من الأحياء القريبة، حيث سيعم الذهول وتكتب الليلة في اللوح المحفوظ في صدور الناس!» (37). ولكن بعد أن وقع محمد في غواية الغناء لتلك العائلات البرجوازية يواجهه صديقة إبراهيم زويد  بالحقيقة التي آلمته ويكشف له عن حقيقة واقعه طوال سنوات صموده.. «- ماذا فعلتْ طوال هذه السنين الأخيرة؟ سكرٌ واحتضان لنسوةٍ تتبدلُ وجوههن في كلِ ليلةٍ ، ثم لا أغنيةً جميلةً ولا كلمةً تهزُ الناسَ ، عربدةٌ ، والآن دعوةُ الشيخ ، ولا أدري من سيليهِ . . هل ستذهبُ إلى أولئك البشر الذين عذبوك ، لقد سقطتَ ، سقطتَ يا محمد»(38)، وفي حوار آخر يقول إبراهيم زويد لمحمد حين رأى عنده متاعا وأشياء يعجز عن شرائها وتوفيرها بقدرته المالية المحدودة «من أين لك هذه الأشياء؟ وأحس أنه أخطأ فازداد ارتباكاً وألماً، وتكشفت له الأشياء برعب، إنه يصغر صديقه ويحتقره، وهو صار صغيراً فعلاً ، فلا شك أنها هدايا من الشيوخ ، وما هو الثمن؟ وهو الذي قال إنه لا يمد يده أبدا !» (39).  2   ـــ فارس:تكمن مشكلة فارس أنه ثائر برجوازي، فلديه تحفظاته على أخطاء الطبقة التي ينتمي إليها في تعاملها مع باقي الطبقات، ولكنه في حراكه المتمرد كان معنيا بالحفاظ على طبقته وامتيازاتها لأنه أحد المتمتعين بامتيازاتها. لذلك لم يكن تمرده على الميجر الإنجليزي إلا لحصاره الشيخ وتسلطه عليه. فهو لم يكن من المشاركين في ثورة الغواصين الفقراء ضد جشع الطواويش، وحين تحول الأمر إلى ثورة فقراء انسحب من الحراك وقدم اعتذاره للميجر وشكل ذلك حالة انكسار عميق في حركة الاحتجاجات التي أجهضها استسلام فارس.وقد خلق الخطاب السردي حالة من التناقض بين خطاب فارس إبان الحركات الاحتجاجية، وبين الحدث الذي يكون هو جزء منه. ففي الحوار الآتي يكون خطاب فارس مظلة لمفهوم الحرية التي تنازل المستعمر البريطاني العداء «لابد أن يلتف الناس حول الشيخ، فما وعود هذا الميجر إلا أكاذيب. إنه يتطلع إلى كرسي هذا البلد وحينئذ ستتبخر كلماته، ويعود هؤلاء البؤساء إلى مستنقعاتهم وبحارهم الساخنة»(40).وبعد انكسار الاحتجاجات يطلب فارس العفو والحرية من الميجر نفسه، ويسوق خطاب الرواية إشارة إلى حالة التناقض التي تعبر عنها شخصية فارس؛ مفسرا التناقض بالوضع الطبقي الذي ينتمي إليه فارس «لم يصدقوا ما شاهدوه، فارس انحنى للميجر وطلب الغفران؟! ود الرجوع إلى غرفته الهادئة وبيته الكبير، وكأن شيئاً لم يكن وكأن أحداً ما دهس في الدروب، والشيخ الكبير لم يجندل ويحبس في بيت صغير، حارسه عسكري هندي من أقصى العجمة والعتمة»(41).ثم تورد الرواية انشغال فارس في منفاه في الهند باللهو وبالنساء، وبمراسلة عائلته في البحرين طلبا للصفح والعودة. ثم تخليه عن زميل المنفى … وعودته إلى البحرين وحيدا، وانشغاله بالتجارة وجمع الثروة حين عودته للبحرين. 3   ـــ بـدر الـوزان:قدمت الرواية شخصية بدر الوزان باعتباره شخصية متمردة ذات انتماء قومي. وكان يرفض الواقع الطبقي ويقاوم انتهازية المنتمين إلى السلطة والمستشار وينحاز إلى العمال والفقراء والمثقفين. وفي موقع سابق عرضت الدراسة باعث التغيير عند بدر الوزان وهو الشعور بأزمة الينابيع/ الجذور التي دفعته إلى تحصين نفسه وتقوية ذاته بالانتماء القبلي. والوزان يرى في النسب القبلي والثروة التي امدته قبيلة أمه وزوجته جاذبا للعناصر المؤيدة له. وبتضافر كل تلك المقومات رأى الوزان أنه صار قوياً ولا يخشى أحداً «الآن لا يخاف من أحد، وراءه ثروة وأرض وقبيلة وسرب كبير من الأصدقاء نما في شتى عروق البلد»(42). والشعور بالخوف والرغبة في التخلص منه هو، في حقيقة الأمر، هاجس ذاتي. وعمليات التغيير التي انشغل بها الوزان كانت تغييرا لواقعه الفردي وفق شروط القوة التي يفرضها المجتمع. وهو لم يَثُرْ على تلك الشروط ولم يطالب بتغييرها كي يتغير الواقع الاجتماعي بالكامل.من أجل ذلك كان الخطاب السردي يعبر عن الحركة النضالية. لبدر الوزان باعتبارها حالة زعامة فردية تنم عن نفوذ وهيمنة وقدرة على مبارزة السلطة وتوجيه الجماهير «هو في قمة تألقه؛ فوق أكتاف الجموع؛ يحس أنه يسبح في بحر عميق، الرجال طوع أمره، يأمرهم بتنظيف الطريق، وحمل الحجارة الثقيلة فينصاعون لأمره، وكأن كلماته سحر»(43). فبعد موجة احتجاجات شعبية كبيرة كان هو من يديرها يعبر الوزان عن راحة فردية ورغبة في بسط القوة أكثر فأكثر «كانت كل الخيوط تتصل بأصابعه، والهاتف لا يتوقف عن الرنين، كان ينتظر تلك المكالمات الهامة، أن يسمع صوت سميث المتذلل، أن يرى وجه الشيخ نايف التعس..» (44)… وحين قابل هؤلاء للتفاوض تنازل عن اللجنة التي كانت ذات طابع شعبي وهو ما يعكس الاتجاه الفردي في شخصية بدر الوزان، وكان حس الزعامة هو ما يشغله في المقابلة «وفوجئ كيف سيدعوهم للرحيل، كيف سينصاعون لإرادته؟! طلب بضعة شؤون بدت كلها تافهة لما كان يريد، ولكنهم رأوها صعبة حتى وافقوا عليها، ولكن أن يحل تلك اللجنة المهيمنة التي شكلها فوافق»(45). ويعترف بدر الوزان بنزعاته الفردية حين يشعر بثقل رسائل زوجته ظبية التي يتلقاها في منفاه معتبرا إياها «سطل الماء الحار الذي يلقى على رأسي كي تفيق من جنون العظعة»(46).تلك الشخصيات جميعاً انشغلت بالتغيير الفردي وليس المجتمعي ولذلك فشلت في ثورتها كما حصل مع فارس وبدر الوزان وغيرهما، أو حادت عن مبادئها كما فعل محمد العواد، أو أنها كانت واعية لغاياتها الانتهازية كما فعل جمعة الحادي ومرتضى أكبر وعادل خسرو وأخته ثريا وغيرهم.إن تلك الشخصيات، وفق المفهوم الواقعي الاشتراكي تفتقد إلى الوعي الطبقي الصحيح القادر على تغيير المجتمع وتحقيق غايات أفراده «إن هذا الوعي ليس إذن حاصل ما يفكر به ويحسه الأفراد الذين يكونون الطبقة، فردا فردا … هذا الوعي ليس الفكر الفردي»(47)، لأنه قد يمثل الرغبات الفردية والطموحات الشخصية التي تكيف نفسها حسب معطيات الواقع، ولكن الوعي الصحيح عند الواقعية الاشتراكية هو الوعي الذي يعبر عن «صلة المجتمع ككلية. لأنه في هذه الصلة فقط يكون الوعي، الذي يستطيع الناس أن يكونّوه في كل برهة عن وجودهم»(48).إن مفهوم الحرية الذي يؤدي إلي التغير، وفق ما نادت به الشخصيات السابقة لم يتحقق لأن الغايات كانت فردية، وكانت متصالحة مع قانون المجتمع وإن كانت تعبر عن ثورتها عليه. خامسا : متمردون مؤثرون:يظن بعض دارسي الأدب أن الاتجاه الواقعي الاشتراكي في الأدب معني بخلق متخيل سردي ينتهي بانتصار الشخصيات (النموذجية) إن جاز التعبير وتحقيق أحلامها في نهاية العمل الفني. وهو تصور غير دقيق يبتعد بالإبداع الفني عن طبيعته الجمالية، بل ويبتعد عن المفهوم الواقعي للأدب «فالشر في الواقع هو الذي ينتصر، وليس هناك إلا جزر صغيرة يمكن للخير أن يلوذ بها لبعض الوقت. والأعمال الفنية الأصيلة تعي ذلك، لذا ترفض الوعود التي يسهل إجزالها؛ ترفض الخاتمة السعيدة التي لا تشوبها شائبة»(49).ولكن الاتجاه الواقعي الاشتراكي يقوم على إبراز حقيقة العلاقات الاجتماعية القائمة في طبيعتها على الصراع وكشف «ما هو جوهرى في حركة المجتمع، وما هو جوهري هو القانون الأساسي بحركة الأشياء»(50). والرواية تكشف عن قانونين لنمطين من الشخصيات في الرواية. النمط الأول هو النمط الذي قدمته الرواية في صورة انتهازية وقد كشف عن قانونها شخصية أكبر مرتضى «هذه هي الدنيا، فرص وتحولات هائلة غريبة، ومن لم يقف مع الموجة الكبيرة القوية، سحقته كالحطب المهترئ»(51)…. «إن أي صمت منه سوف يحيله إلى صاحب دكان تافه»(52).ثمة شخصيات أخرى تعي قوانين المجتمع نفسها؛ وماملت معها إيجابا في اتجاه مختلف. وتمكنت؛ من خلالها؛ من تغيير واقعها بالتمسك بالأمل والقدرة على المقاومة؛ أهم هذه الشخصيات سعيد المناعى؛ ميّ؛ ظبية، إبراهيم زويد. وأهم ما ميز تلك الشخصيات معرفة قوانين الواقع والقبول بها والتعامل معها بوضعها في قالب اجتماعي يعبر عن حالة الانتماء للمجتمع التي تدين بها تلك الشخصيات.يمكن ضم سعيد المناعي إلى فئة العبيد، لكنه لم يعان من مأزق الجذور والينابيع؛ فهو كان مدركا لقانون الواقع الاجتماعي الذي يحكم تلك الطبقة والآليات التي بها تتحرر «مرت سنوات وهو عبد، يحاول أن يجمع دانات ليلغي ديونه، ويتوغل في الماء ليصادق الوحوش والسيوف … ويصنع بيتاً وقارباً ومصائد لكي يرتفع عن حشود العبيد»(53). فجمع المال وتحرر، وحين صار صاحب مال ومركب لم يَقْصُر ماله على خلاصه الفردي وترقيه الط
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 14, 2023 01:55

عبـــــــدالله خلــــــــيفة الرواية في البحرين : ينابيع البحرين .. ملحمة طويلة ونشيد بطولي

 

   على مساحة واسعة عمقاً وسطحاً يجمع عبـــــــدالله خلــــــــيفة عُقَد الخيوط بيديه، يشدها، يمَّدها، أو يُرخيها، بامتداد فضاءات حكائية سردية مترامية، تشبه إلى حد كبير القصيدة الملحمية المطوَّلة، أو النشيد البطولي الاسطوري، حيث تتوالي وتتقاطع وتلتحم، تلك الفصول كحبات المسبحة كما تترى وتائر الوقائع والأحداث والناس والشخوص، وتحتدم الصراعات وتتضارب المصالح والطموحات والغايات.

   الينابيع عمل سردي أدبي في المقام الأول، وان توسل التاريخ مادة وموضوعا ومضمونا. الينابيع ليست رواية توثِّق التاريخ بما يعنيه مفهوم التاريخ من مناسبات حركات وأحداث ووقائع وتحولات، بقدر ما توثق الفن السردي والحكائي بتوظيفها واستثمارها لتلك الوقائع والأحداث التاريخية.

   وباعتبار الينابيع عملا فنيا وجماليا قبل كل شيء، ينبغي قراءتها ومقاربتها انطلاقا من أرضية الرؤية الجمالية الفنية، وليس عبر حقيقة الوقائع والأحداث التاريخية، وهذه القراءة الجمالية لا ينبغي لها أن تلغي أو تمنع أن يكون هذا العمل الفني الجمالي شاهدا، أو شهادة أكثر صدقا وأمانة من التاريخ ولا سيَّما أن هذا العمل الفني في معناه العميق يصدر عن لا وعي فردي وجمعي وعن بصيرة حدسية، وشفافية كاشفة، وبالتالي فهو لا ينفي الحقيقة التاريخية بقدر ما يبلورها بطريقته وبأسلوبه الفني الخاص، كما أن اعتماده لتلك الأحداث والوقائع لا يخرجه أو يعفيه من ضرورة التزامه بالشروط الأدبية والقيم الفنية والجمالية.

   من هذه الأرضية الفنية لرواية الينابيع، لا تتطابق شخوص الرواية مع شخوص وأدوار وأفعال الواقع التاريخي وإن تبدت لنا في قرينة أو ملمح أو سمة تسم أثرا أو معلما من ذلك التاريخ شخصا كان أم واقعة، أم مكانا فالرواية في نسقها العام لا تستهدف فردا أو ذاتا تاريخية محددة، وما تلك الملامح والقرائن والأفعال والتحولات إلا جزء من آلية فنية لإيهامنا إيهاما روائيا فنيا، إن صح التعبير، فمحمد العواد، وهو من الشخصيات المدارية في الرواية، وإبراهيم زويد، ومي وفيَّ وشمَّاء وزهرة، ومهدي والشيخ ناصر وابناه محمد وحامد، وسالم الرفاعي، وسلطان المزين وأكبر مرتضى ومحسن، وجمعة الحادي وفارس جابر، وسعيد المناعي وبدر الوزان والميجر بيلي والمستشار وزوجته مارجريت، إن هي إلا أسماء روائية متخيلة مبتكرة، وقد وظفت لتلعب أدوارها المنوطة بها في دراما الحياة الروائية وفضاءاتها، ولتدفع من مواقفها المختلفة بالفعل الدرامي في وتيرة تصاعدية إلى غاياته المرسومة بذكاء وإتقان.

   تجسد رواية الينابيع فصلا من ملحمة طويلة، تلك هي أرض البحرين بكل ما تعنيه من موقع جغرافي محاصر بالبحر ومن فوق البحر بسياج من بوارج الحديد المدججة وما يعوق ويحيق من مآزق سياسية واقتصادية واجتماعية…

   “.. البحر، السفن، الأشرعة، الأمواج، الرجال محروقو الأجساد، والنساء بثيابهن الملونة يخضن زرقة البحر، ويصدحن بعويل الأغنيات وهي تغدو أيدي ممدودة لرجال يذبون في الماء“ ص 15.

   “كان الغناء وصوت النهامين وهدير السفن المتوغلة في البحر، وثياب النشل القزحية، والغزالات العائدات، كلها تتأجج في قنواته، فيحس بسكرة أين منها عزلة البرية، ومصادقة الذئاب“ ص 16.

   “الغناء البحري يتسرب من بين حصى البحر الصلد، فتنهمر حبالا وقواقع وجنيات، وتصير المدينة قبة بحر لا متناه زرقاء مضاءة بشمس في الداخل“ ص 22.

   غناء محمد الصادر عن بئر الأعماق، والأنغام النازفة من اوردة العود، وصدى القصف والعصف والجروح المفتوحة على شفة النهام هذا هو الطاقة الروحية التي تهب الرجال القوة والقدرة على اجتراح الخوارق وتحمل ما لا يطاق…

   “وعلى هدير وخرير صوته ويجرُ الرجالُ الحبالَ والآلامَ والسفنَ والمدن البعيدة وقروشَ البحرِ النهمةِ والأجسادَ الميتةَ، وتحترقُ الأيدي بالسكاكين والمحارِ والشمسِ الواسعةِ المهيمنة ، وبالسياطِ التي لا تتوقف ، والمياه التي لا تهدأ ولا تنفتح، وبالتمراتِ القليلاتِ والدروبِ الفارغةِ ونياحِ كربلاء والبيوت السعفية المبتلة بالغيوم“ ص 23.

   وثمة مشهد آخر للبحرين المدينة من الداخل في العشرينيات:

   “.. ليس ثمة سوى الطرق والكلاب والقمامة، والسير في العتمةِ المترنحةِ على الوجود. الجوعُ يمزقهُ، يعوي، والحراسُ يثقبون الوجوهَ والدروب، ومدينةُ البحرِ والغناء استحالتْ مصيدةً من الأحجار والأنفاق، وليس ثمة عود ولا نار خيمة.

   يجد بضعةَ مقاهٍ موحشة، لفها الظلامُ والفراغُ، فيجثمُ على كرسي طويلٍ فيها. ويضعُ نعلَهُ تحت رأسه، وقبضتيه تحت معدته.“ ص 16.

   وللبحرين البحر والأمواج والأنواء والسفن:

   “.. شهد الميجر بيلي البحر والأمواج والأشرعة والسفن والجماجم والأيدي المفقودةِ والعيونِ المفقوءةِ والضحكِ والبكاءِ والنسوة والصبيان والصبايا والفتيات“ ص 20.

   تلك هي بعض صور تزخر بها الينابيع، وهي صور حية نابضة زاخرة بالألوان والحركة والحياة، ونرى لتلك المشاهد والصور على اليابسة وفي الشواطئ والأسياف وفي أعماق البحر حيث السفن والأشرعة والصواري والأجساد وحيث تهدر الحناجر باليامال والهولو، وتتراقص القروش فرحة بفرائسها اللذيذة.

   صور نرى فيها إلى الناس في مزارعهم وأكواخهم، في بكائهم ومآتمهم ونرى للغواصين في طقوسهم البحرية التليدة في مواسم اعيادهم، في نفراتهم تأهبا لموسم غوص جديد، أو (قفلتهم) عودتهم مثقلين بالجروح والعاهات والإعاقات والعبودية والديون، نراهم في الأزقة وفي الأحياء والحواري والأنفاق الضيقة المتعرجة، في المقاهي، في مجالس الطواشين وأصحاب الحوانيت والبخاخير والأغذية، في دور الغناء وحلقات الطرب السرية والرقص الشعبي في الأفراح, الأعياد، في أغاني الأصوات الخليجية، مواويل النهامين وأبوذيات العشق والعاشقين، في إيقاعات ورغاءات البحر والأمواج والأنواء، في بكائيات ومراثي ودموع ودماء كربلاء، في الجلود المسلوخة والأيدي المفقودة والأعين المفقوءة.

   تلك هي ملحمة الينابيع تاريخ شعب وبلد، نضال وتصد وإصرار على مواجهة طبيعة غاشمة وجبروت، وشروط حياتية عنيفة مجحفة وغير عادلة، توجهها المصالح والغنائم والأطماع ولا تحفل أو تقيم وزنا لإنسانية إنسان. من هذا الواقع وضرورته الموضوعية تنهض شخوص الرواية كإفراز طبيعي وموضوعي لشروط واقع مختل وغير عادل، فمحمد العواد يهرب وينخلع عن القبيلة هربا من جور أبيه وتسلطه وتمييزه في المعاملة بين أبنائه السود والبيض، وهذا الهروب هو أيضا نوع من الثأر السلبي لذاته المهانة، وأمه التي افترسها أبوه بين قطيع من العبيد ذات ليلة نزوة وحماقة.

   جمعة الحادي، نموذج آخر للضحية الجلاد أو الجلاد الضحية.

   “.. أنت السيدُ الآن ، صعَّدتَ من حضيضِ الحضيض، من عمقِ الدموع، وقرأتَ على ضوءِ شمعةٍ شاحب، وبين لكمات السادة وبصقاتهم، انتزعتَ أوراقاً وكتباً، وأدمنتَ المكوث في مكتبةِ الكنيسة ودهشتَ من الورقِ والأفكار. رحتَ تتعلمُ كلَ شيء. ثم تعودُ لحملِ القدور والأكياسِ، تصعدُ، وسياطهم تنخر جلدك.

   والآن أصنعْ سوطاً غير مرئي، وأجلدْ هذا الرمل، والأشباح السائرة واستمتعْ! كلاب!) ص 51 ـ 52.

   “يتذكرُ كيف رأى جسدَ أمينة الأبيض في بيت (أعمامه) وظل سنوات يحلمُ، ويدفنُ وجهه في ملابسها حتى رآها تتلألأُ في ليلة عرسٍ وتــُلقى في غبةِ غرفةٍ مضاءةٍ بالمرايا. الآن لا بد من تملك النساء البيض وعصرهن بين شفتيه . يريدُ أن يملك ويملك حتى يبتلعُ كلَ شيءٍ!“ ص 52 ـ 53..

   أكبر مرتضى ـ دودة أرضية قارضة مثال صارخ لنموذج الانتهازي اللدود، أسنان منشار حديدي قاطع، لا يرعى إلاً ولا ذمة أو رحما، ينتهز المجاعات والكوارث ليأكل لحوم الناس امواتا..

   “.. كان أبوهُ عند الساحل الآخر يقولُ له:

– يا أكبر. . سوف تذهب إلى الأرضِ الجنة، كلها خير وبركة، ينابيع تتدفق في البحر والبر، والبساتين على مدى النظر، هناك ستغتني يا أكبر، يا من يبخل حتى على أبيه بثمن الدواء!“.

   “ولكي يحقق أكبر مرتضى المزيد والمزيد من الجشع والتملك، يتقرب إلى جمعة الحادي، يحابيه، وينافقه ويتملقة، فلدى جمعة الكثير مما يمكن تقديمه من الخدمات الضرورية بحكم وظيفته في مكتب الميجر بيلي، لديه ما يدور في المجالس الكثيفة، وشبكات الخطط التي سمعها، والأسلحة الرابضة في اللواوين والدهاليز والأقبية، والرؤوس المثيرة للفتنة“ ص 38.

   سالم الرفاعي ـ المطوع ـ معلم الكتاتيب، يطلق لحيته ويديه، وتلاميذته الذين كبروا وأطلقوا أيديهم في البلاد والعباد، يحتج ويتذمر من الميجر الذي جمع خيوط السلطة في قبضته، وضيق الدائرة عليه وحدَّ من سلطته المطلقة يقول متذمرا شاكيا: “– داسَ على شرائعِنا يا مولاي ، لم نعدْ نستطيع أن نحكمَ بالشرع ، فلا نجلد أحداً ولا نشتري إنساناً!“ ص 42.

   مي، فيَّ، شماء، أمينة، زينب، زهرة، نماذج لصورة المرأة البحرينية في العشرينيات، في الأرياف والبلدات والمدن، ومن مختلف الذوات أو بنت الحمولة بحسب التعبير الشعبي الذائع، لا يعدو حب محمد العواد، ذلك الصعلوك المتشرد لها وحبها له إلا أن يكون كالفقاعة أو سبحة خيال، أو حلم يقظة رومانسي إذ سرعان ما تصطدم هذه العلاقة بصخرة الواقع، وتتم خطوبتها على محمد ابن الحمولة الكبار، ومحمد العواد شبيه في هذه العلاقة بعلاقة جمعة الحادي بحبيبته أمينة التي رآها تزف إلى رجل آخر. ص 52.

   زهرة نموذج المرأة العاملة في المزارع والحقول “.. لم تعرف سوى العمل، تشققت يداها في حقل الأسرة، وكأن ثمة غابة من الأيدي والأرجل والقامات تدبُ في الأرض السبخة المليئة بالطين والماء والأحجار. لم يكن للوجود من معنى سوى انتظار الثمار ونوم الليل ودبيب النهار وكان الخارج غائباً، مخفياً، فلا تعرف ماذا بعد النخل والبحر، ماذا يوجد وراء التلال القصية المتوهجة بالدخان والصرخات. . وكان عاشوراء يعطيها قصة مليئة بالدمع والدم فتبكي أباها وأمها“ ص 78 ـ 79.

   نماذج المرأة في الينابيع هي نماذج نمطية مستلبة، سواء كانت هذه النماذج في الريف أم في المدن، فهي ذلك الكائن الذي لا يملك من أمر كينونته أو مصيره شيئاً، أو لا ينبغي له أن يملك  من أمره شيئاً، ولعل المختلف الوحيد بين تلك الشخوص أو الصور النسائية هو نموذج زينب زوجة أكبر مرتضى – والتي كان زواجها من أكبر مرتضى أشبه بزواج الصفقة بحساب الربح والخسارة والمحسوبة بدقة متناهية، لذلك لا يتردد أكبر مرتضى عن البوح لجمعة الحادي عما اصابه من غبن وخسران جراء هذه الصفقة الزيجة.

   “. . تزوجت امرأة غنية، قبيحة، وبخيلة“.

   “. . تطلع أكبر إلى زوجته وتساءل، من يستطيع الزواج بك وأنت ذات الوجه البشع واللسان السليط، ألا تدخلين القفص أيتها اللبؤة؟“ ص 107.

   وكما تتوارى حقيقة الشخوص التاريخية وتنزاح خلف أقنعة ورموز سردية متخيلة لتتساوق وتتناغم مع البطل غير المعلن في الرواية وهو الناس أو إنسان البحرين،  وهو يكتب تاريخ صراع بقائه بمداد من العرق والدمع والأجساد والدماء في صورة ملحمة شعبية طويلة شاقة ومؤلمة ممتدة عميقاً منذ ما قبل العصر الدلموني، كذلك تختبئ وتتوارى أسماء البلدان والقرى عدا المنامة والمحرق كونهما قطبي الفضاء الروائي لعموم الأحداث والشخوص والوقائع، ومع ذلك فهي لا تسمي الأحياء والحارات في هاتين المدينتين بقدر ما تشير أو توحي “.. في شرق المنامة تجمع هؤلاء السود والمجرمون السابقون واللصوص والبحارة، وتنامت الأكواخ من الشاطئ الشمالي الغارق في المزابل، حتى القرى الزراعية المتوارية وراء النخيل والأشجار في الجنوب..“ ص 84.

أو وراء رمز لغوي لفظي، مثل مدينة (البيضا) والتي نستوحي عبر السياق السردي بأنها ربما كانت الرفاع أو الزلاق أو الجسرة من بلدات البحرين الراهنة. أم مثل (العين) بما يوحيه المدلول اللغوي لمفردة (عين) والتي يمكن أن نطلقها على عشرات القرى المنتشرة في شمال وشرق وغرب البحرين.. “مضت السيارة إلى طريق الريف المتربة الطويلة. رفع الفلاحون رؤوسهم من بين غابة البرسيم، وحدقوا في هذا الكائن العجيب الذي يمتطيه الميجر بيلي وحين يتوقف أمام مستنقع مليء بالبعوض، أو يتجنب حفرة أو كومة زبالة، فإن الأيدي القذرة تندفع للمس هذا الحديد العجيب، والتحديق في مراياه، والهجانة بإبلها العجفاء، ذات الرؤوس الساخرة المعتمة، تسبقهُ وتهتزُ السياط في الهواء، هذا هو طريق العين، تمعن في الخريطة، ليس ثمة لافتة ولا إشارة“.

أو عبر ملامح المكان البيئية والجغرافية.

   “.. عبر البحر والبر حتى وصل إلى البلدة العالية ببيوتها البيضاء المتألقة كالحمام، والقريبة من صدر السماء، العربات القليلة لا تزال تدبُ بحوافرها وعجلاتها في طرقها الحجرية، والحمير البيض الناعمة، تنقلُ الخضار والأخبار والصبية..“ ص 46.

   تلك هي البلدة التي فارقها  غير آسف عليها (محمد العواد) ويمكننا أن نستقرئ المفردات البيئية في السياق بأن هذه البلدة ربما هي في قطر القريبة من جزر البحرين أو الدمام أو منطقة ما على ساحل الخليج.

   اعتمدت الينابيع موادها الخام من معين تاريخ البحرين في العشرينيات من هذا القرن في وقائعه وأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والسؤال الحاسم لقارئ الرواية هو: إلى أي مدى تمثلت الينابيع تلك الوقائع والمواد التاريخية ومن ثم إعادة إنتاجها وصياغتها في نسيج سدري فني إبداعي، ملبية بذلك مواصفات وشروط العمل الفني الناجح بمعايير وقيم الرواية الإبداعية الحديثة…؟

   التاريخ بداهة التسجيل هو الأمين للواقعة والحقيقة التاريخية في الزمان والمكان المعينين وكنموذج للحدث والحقيقة التاريخية في الينابيع (الوضع المحلي في البحرين والتدخل البريطاني المباشر في إدارة البلاد، متمثلاً في المقيم السياسي أو من يمثله وهو هنا (الميجر بيلي ومساعده أو المستشار في الفترة من 1920 – 1930، وما تلا ذلك التدخل من أفعال وردود أفعال ومواقف مختلفة ومتباينة).

   وحيث إن وظيفة الروائي هي وظيفة أدبية فنية جمالية (صورية متخيلة) لذلك نرى له هنا في الينابيع يرصد إيقاعات ذلك الحدث النفسية والشعورية والسلوكية ويصور عمق الصدمة وأصداءها وما تثيره من حيرة ودهشة تنعقدان على وجوه الناس وقلوبهم وأعينهم وألسنتهم، تلك الصدمة التي تشبه إلى حدٍ ما . . ما أحدثته الحملة الفرنسية على مصر في القرن الثامن عشر.

   ومن تلك الصور الفنية العديدة صورة «الميجر بيلي».

   “.. والآن هذا الأشقر، ذو الجلد الناصع المحمر، الأزرق العينين كالبحر الذي ألفوه، يقف بينهم حياً، باسماً، ينظرُ إليهم، لا كرسي يضعهُ فوق السحاب، ولا حراب عبيد كثيفة، مجرد كائن بشري سحري يمشي على الأرض ويومئ برأسه محيياً، وباتراً الصمت بكلماتٍ فكهة ليذهلوا، أيمكن للرب المسيطر على الغلال والظلال أن يضحك، وينزل من فوق الخيل، ليهز الورق ويرفع أصبعه متحدياً؟..“ ص 30.

   وصورةٌ أخرى ترتسمُ في عيون هذا الغريب، القادم من أعالي البحار.

   “..سحب الميجر رأسه، وبدا يتأمل هذه الوجوه، التي تشبه شخصيات شكسبير بأزيائها الغريبة، ولحاها الضخمة، وأيقن أن بساطتها الظاهرية تخفي مكراً بدوياً عريقاً، وأنها ثعالب تكونت في البراري المفزعة، ورافقت الصقور في تحويماتها وانقضاضاتها الرهيبة“ ص 83.

   ثمة حدث مفصلي تاريخي مروع، كان له فعله السحري الأسطوري المدوي في الذاكرة أو التاريخ الشفوي في الذاكرة الشعبية في البحرين، حيث ظل هذا الحدث ولمدى عشرات من السنين محوراً تنسج في مداره المخيلة الشعبية الكثير من القصص والحكايات العجائبية الغريبة، وتتناقل هذه الحكايا الأبناء عن الآباء والأجداد، هذا الحدث الدرامي أو المأساوي الضخم، الجسيم في فعله التدميري الكبير إذا ما قيس ببلد صغير كالبحرين، يمثل تربة سردية خصبة هائلة، وفضاءً واسعاً رحباً لقوى الخيال والتصوير واجتراح الحكايا الغرائبية. ذلك الحدث هو الإعصار المدمر الذي ضرب مياه الخليج في العشرينيات من هذا القرن.

   كيف تمثلت الينابيع هذا الحدث الواقعي/ الأسطوري وإلى أي مدى استفادت من اسثتماره في معمارها الحكائي السردي؟

   “.. كان الليل العميق في كل مكان، على البر البعيد، وفوق المدن والبلدات مليئاً  بطلٍ رطب ساخن، فغرق الجميع في النوم وكابوس العرق والبعوض.

   ومن بعيد ظهر  مسمارٌ كبير من الهواء الملتف، يحفرُ في الأرض والماء بسنه (1) الهائلة الحادة، فيأخذ كل شيء إلى قلبه الدائر الصاهر، ويعيدُ الأشياء محطمة، متناثرة، ويعصر الأجساد والخشب (2).

   اندفعَ المسمارُ الكبيرُ نحو المياه، هزَّ طبقاتَ الهواء، وكسرَ الصمتَ الصلدَ، وراح يحفرُ في البحر، ويثقب قاعه البعيد، ولم يحسْ الرجالُ بالأصابع القصيةِ الرهيبة ، لكن المسمارَ الذي تحول إلى حفارةٍ ضخمة ، اتسع وجمعَ إلى باطنهِ نثارَ الأشياء المحطمة المفزوعة ، واقترب من البحر والسفن الراقدة .

   عندما رفعَ الرجالُ المفزوعون رؤوسهم من آبار النوم، رأوا عملاقاً ضخماً مضيئاً، كماردٍ شرير، كشيطان، يقلبُ خشبهم ويحطم صواريهم فوق أجسادهم ، ويمزقُ هذه الكتلَ الهادئة الساكنة، ويبعثرها في اليم، فيغوصون مهشمين، ويرقدون في القبور، ويطفحون على وجوه الماءِ، وتندفعُ إليهم قروشُ البحر سعيدةً هانئةً بهذه الوليمة الكبرى.” ص 116.

   هذه صورة بنوارمية تضم في فضائها البر والبحر على السواء لحظة الإعصار وهي صورة انفجارية كلية عظمى، تتفجر من بؤرتها  عناقيد من الصور الجزئية والتفاصيل التي كانت تروي شفاهاً على ألسنة الناجين من هذا الطوفان الساحق، سواءً من كان منهم في البحر على ظهور السفن أو على السواحل فوق اليابسة.

   فصور المردة المسربلين بالنيران والحراب والحديد، والشياطين الذي يقلبون البحر، وأمواج الجبال هي صورٌ من مخزون الذاكرة الشعبية والدينية كما وردت في قصتي الطوفان والنبي سليمان (ع).

   وتنفتحُ صورُ الإعصار الكبرى على صور تخيلية غرائبية تضاعف من مأساوية الحدث، فإبراهيم زويد يجدُ نفسَهُ على قطعة خشب طافية، والماء المالح والبقايا والألم كانت تتوزعُ للاستيلاء على جسدهِ، ويسمعُ ثرثرة قروش البحر وهي تتلذذُ بلحم ربعه.

   وسعيد المناعي – النوخذا المعروف بطيبته وكرمه وشهامته، يقدرُ له النجاة هو وبحارته، وتلك اليد التي يمدها سعيد للمحتاجين أيام العسرة، امتدت والتفت لتنقذ سعيد وسفينته وبحارته.

   “يمسك دفة سفينته المتلوية مع الموج الهادر، يساعده الرجالُ والأيدي الكثيرة الملتفة حوله، عرفوا الماء من الأعماق، وأمسكوا بعضهم وخوفهم ونجوا“ ص 116.

   وهكذا تنثالُ الصورُ وتتواتر الأحاديث.

   وبحارة العنود (3) يبتلعهم البحر، وينجو بينهم صبي بأعجوبة فوق خشبة.

   قرية كاملة لم يعدْ رجالهُا، غابوا كلهم في البحر، لم تأت جثة ولا ناجٍ، ولا يزال سكانُ القرية يحدقون في الموج لمرأى سفينة أو قطعة خشبٍ طافية.

   ÙÙŠÙ’ زوجة سعيد المناعي ترقب البحر كل يوم من مصيدة السمك، وتتطلعُ إلى غول البحر بحثاً عن أبيها الذي أصر على دخول الغوص في هذا الموسم الأسود النحس.

   “.. رأت شبحاً، نقطة رمادية في الأزرق الشفاف، كأن يداً تمتدُ في الهواء وصرخة تندلعُ في النهار المعتم، وبدا الناجي مدفون الرأس في التراب والطين لا قطعة قماش تغطيه، بل الصبان وامتدادات الجروح والرضوض والملح والتراب.

   مدفون في كتل من الدم والأعشاب والإضاءات الغريبة. إنه ليس أباها، إنه إبراهيم زويد“ ص 122.

   وهكذا يجثمُ على البلاد ومن الماء إلى الماء ليلٌ أسود كثيفٌ قاتم مشحون بالحزن والتعازي والنواح والبكاء والقبور والدفن وهوس البحث عن الجثث والأشلاء والأعضاء في مصائد الأسماك والأسياف والبيوت الخربة المهجورة على السواحل والساحات الفارغة والأرياف القصية، وتتواتر الحكايات والقصص والأخبار والتفاصيل في صورٍ مرعبةٍ مخيفة.

   ولكي لا نغمط المؤلف عبـــــــدالله خلــــــــيفة حقه الأدبي والفني والذي لا تخفى معالمه وملامحه في رواية (الينابيع) أقول:

   إن هذه الصور السردية الفنية والجمالية الأخرى، ومن أبرزها الأسلوب اللغوي الذي استظهر الشعر في مجازاته واستعاراته وانزياحاته، ولعل ما يميز لغة الرواية، هي تلك اللغة التي استثمرت، وإلى حدٍ بعيد، مفردات بيئة البحرين البحرية والريفية في معادلة تنمُ عن عمق التجربة وأصالة الموروث الشعبي.

وتبقى الينابيع مفتوحة لقراءات أخرى . . تستحقُ المغامرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يوسف حسن : شاعر وأديب بحريني كبير

1 – السن: المرساة

2– الخشب: السفن

3ـــ اسم السفينة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 14, 2023 01:29

عبـــــــدالله خلــــــــيفة الرواية في البحرين : ينابيع البحرين .. ملحمة طويلة ونشيد بطولي

 

   على مساحة واسعة عمقاً وسطحاً يجمع عبـــــــدالله خلــــــــيفة عُقَد الخيوط بيديه، يشدها، يمَّدها، أو يُرخيها، بامتداد فضاءات حكائية سردية مترامية، تشبه إلى حد كبير القصيدة الملحمية المطوَّلة، أو النشيد البطولي الاسطوري، حيث تتوالي وتتقاطع وتلتحم، تلك الفصول كحبات المسبحة كما تترى وتائر الوقائع والأحداث والناس والشخوص، وتحتدم الصراعات وتتضارب المصالح والطموحات والغايات.

   الينابيع عمل سردي أدبي في المقام الأول، وان توسل التاريخ مادة وموضوعا ومضمونا. الينابيع ليست رواية توثِّق التاريخ بما يعنيه مفهوم التاريخ من مناسبات حركات وأحداث ووقائع وتحولات، بقدر ما توثق الفن السردي والحكائي بتوظيفها واستثمارها لتلك الوقائع والأحداث التاريخية.

   وباعتبار الينابيع عملا فنيا وجماليا قبل كل شيء، ينبغي قراءتها ومقاربتها انطلاقا من أرضية الرؤية الجمالية الفنية، وليس عبر حقيقة الوقائع والأحداث التاريخية، وهذه القراءة الجمالية لا ينبغي لها أن تلغي أو تمنع أن يكون هذا العمل الفني الجمالي شاهدا، أو شهادة أكثر صدقا وأمانة من التاريخ ولا سيَّما أن هذا العمل الفني في معناه العميق يصدر عن لا وعي فردي وجمعي وعن بصيرة حدسية، وشفافية كاشفة، وبالتالي فهو لا ينفي الحقيقة التاريخية بقدر ما يبلورها بطريقته وبأسلوبه الفني الخاص، كما أن اعتماده لتلك الأحداث والوقائع لا يخرجه أو يعفيه من ضرورة التزامه بالشروط الأدبية والقيم الفنية والجمالية.

   من هذه الأرضية الفنية لرواية الينابيع، لا تتطابق شخوص الرواية مع شخوص وأدوار وأفعال الواقع التاريخي وإن تبدت لنا في قرينة أو ملمح أو سمة تسم أثرا أو معلما من ذلك التاريخ شخصا كان أم واقعة، أم مكانا فالرواية في نسقها العام لا تستهدف فردا أو ذاتا تاريخية محددة، وما تلك الملامح والقرائن والأفعال والتحولات إلا جزء من آلية فنية لإيهامنا إيهاما روائيا فنيا، إن صح التعبير، فمحمد العواد، وهو من الشخصيات المدارية في الرواية، وإبراهيم زويد، ومي وفيَّ وشمَّاء وزهرة، ومهدي والشيخ ناصر وابناه محمد وحامد، وسالم الرفاعي، وسلطان المزين وأكبر مرتضى ومحسن، وجمعة الحادي وفارس جابر، وسعيد المناعي وبدر الوزان والميجر بيلي والمستشار وزوجته مارجريت، إن هي إلا أسماء روائية متخيلة مبتكرة، وقد وظفت لتلعب أدوارها المنوطة بها في دراما الحياة الروائية وفضاءاتها، ولتدفع من مواقفها المختلفة بالفعل الدرامي في وتيرة تصاعدية إلى غاياته المرسومة بذكاء وإتقان.

   تجسد رواية الينابيع فصلا من ملحمة طويلة، تلك هي أرض البحرين بكل ما تعنيه من موقع جغرافي محاصر بالبحر ومن فوق البحر بسياج من بوارج الحديد المدججة وما يعوق ويحيق من مآزق سياسية واقتصادية واجتماعية…

   “.. البحر، السفن، الأشرعة، الأمواج، الرجال محروقو الأجساد، والنساء بثيابهن الملونة يخضن زرقة البحر، ويصدحن بعويل الأغنيات وهي تغدو أيدي ممدودة لرجال يذبون في الماء“ ص 15.

   “كان الغناء وصوت النهامين وهدير السفن المتوغلة في البحر، وثياب النشل القزحية، والغزالات العائدات، كلها تتأجج في قنواته، فيحس بسكرة أين منها عزلة البرية، ومصادقة الذئاب“ ص 16.

   “الغناء البحري يتسرب من بين حصى البحر الصلد، فتنهمر حبالا وقواقع وجنيات، وتصير المدينة قبة بحر لا متناه زرقاء مضاءة بشمس في الداخل“ ص 22.

   غناء محمد الصادر عن بئر الأعماق، والأنغام النازفة من اوردة العود، وصدى القصف والعصف والجروح المفتوحة على شفة النهام هذا هو الطاقة الروحية التي تهب الرجال القوة والقدرة على اجتراح الخوارق وتحمل ما لا يطاق…

   “وعلى هدير وخرير صوته ويجرُ الرجالُ الحبالَ والآلامَ والسفنَ والمدن البعيدة وقروشَ البحرِ النهمةِ والأجسادَ الميتةَ، وتحترقُ الأيدي بالسكاكين والمحارِ والشمسِ الواسعةِ المهيمنة ، وبالسياطِ التي لا تتوقف ، والمياه التي لا تهدأ ولا تنفتح، وبالتمراتِ القليلاتِ والدروبِ الفارغةِ ونياحِ كربلاء والبيوت السعفية المبتلة بالغيوم“ ص 23.

   وثمة مشهد آخر للبحرين المدينة من الداخل في العشرينيات:

   “.. ليس ثمة سوى الطرق والكلاب والقمامة، والسير في العتمةِ المترنحةِ على الوجود. الجوعُ يمزقهُ، يعوي، والحراسُ يثقبون الوجوهَ والدروب، ومدينةُ البحرِ والغناء استحالتْ مصيدةً من الأحجار والأنفاق، وليس ثمة عود ولا نار خيمة.

   يجد بضعةَ مقاهٍ موحشة، لفها الظلامُ والفراغُ، فيجثمُ على كرسي طويلٍ فيها. ويضعُ نعلَهُ تحت رأسه، وقبضتيه تحت معدته.“ ص 16.

   وللبحرين البحر والأمواج والأنواء والسفن:

   “.. شهد الميجر بيلي البحر والأمواج والأشرعة والسفن والجماجم والأيدي المفقودةِ والعيونِ المفقوءةِ والضحكِ والبكاءِ والنسوة والصبيان والصبايا والفتيات“ ص 20.

   تلك هي بعض صور تزخر بها الينابيع، وهي صور حية نابضة زاخرة بالألوان والحركة والحياة، ونرى لتلك المشاهد والصور على اليابسة وفي الشواطئ والأسياف وفي أعماق البحر حيث السفن والأشرعة والصواري والأجساد وحيث تهدر الحناجر باليامال والهولو، وتتراقص القروش فرحة بفرائسها اللذيذة.

   صور نرى فيها إلى الناس في مزارعهم وأكواخهم، في بكائهم ومآتمهم ونرى للغواصين في طقوسهم البحرية التليدة في مواسم اعيادهم، في نفراتهم تأهبا لموسم غوص جديد، أو (قفلتهم) عودتهم مثقلين بالجروح والعاهات والإعاقات والعبودية والديون، نراهم في الأزقة وفي الأحياء والحواري والأنفاق الضيقة المتعرجة، في المقاهي، في مجالس الطواشين وأصحاب الحوانيت والبخاخير والأغذية، في دور الغناء وحلقات الطرب السرية والرقص الشعبي في الأفراح, الأعياد، في أغاني الأصوات الخليجية، مواويل النهامين وأبوذيات العشق والعاشقين، في إيقاعات ورغاءات البحر والأمواج والأنواء، في بكائيات ومراثي ودموع ودماء كربلاء، في الجلود المسلوخة والأيدي المفقودة والأعين المفقوءة.

   تلك هي ملحمة الينابيع تاريخ شعب وبلد، نضال وتصد وإصرار على مواجهة طبيعة غاشمة وجبروت، وشروط حياتية عنيفة مجحفة وغير عادلة، توجهها المصالح والغنائم والأطماع ولا تحفل أو تقيم وزنا لإنسانية إنسان. من هذا الواقع وضرورته الموضوعية تنهض شخوص الرواية كإفراز طبيعي وموضوعي لشروط واقع مختل وغير عادل، فمحمد العواد يهرب وينخلع عن القبيلة هربا من جور أبيه وتسلطه وتمييزه في المعاملة بين أبنائه السود والبيض، وهذا الهروب هو أيضا نوع من الثأر السلبي لذاته المهانة، وأمه التي افترسها أبوه بين قطيع من العبيد ذات ليلة نزوة وحماقة.

   جمعة الحادي، نموذج آخر للضحية الجلاد أو الجلاد الضحية.

   “.. أنت السيدُ الآن ، صعَّدتَ من حضيضِ الحضيض، من عمقِ الدموع، وقرأتَ على ضوءِ شمعةٍ شاحب، وبين لكمات السادة وبصقاتهم، انتزعتَ أوراقاً وكتباً، وأدمنتَ المكوث في مكتبةِ الكنيسة ودهشتَ من الورقِ والأفكار. رحتَ تتعلمُ كلَ شيء. ثم تعودُ لحملِ القدور والأكياسِ، تصعدُ، وسياطهم تنخر جلدك.

   والآن أصنعْ سوطاً غير مرئي، وأجلدْ هذا الرمل، والأشباح السائرة واستمتعْ! كلاب!) ص 51 ـ 52.

   “يتذكرُ كيف رأى جسدَ أمينة الأبيض في بيت (أعمامه) وظل سنوات يحلمُ، ويدفنُ وجهه في ملابسها حتى رآها تتلألأُ في ليلة عرسٍ وتــُلقى في غبةِ غرفةٍ مضاءةٍ بالمرايا. الآن لا بد من تملك النساء البيض وعصرهن بين شفتيه . يريدُ أن يملك ويملك حتى يبتلعُ كلَ شيءٍ!“ ص 52 ـ 53..

   أكبر مرتضى ـ دودة أرضية قارضة مثال صارخ لنموذج الانتهازي اللدود، أسنان منشار حديدي قاطع، لا يرعى إلاً ولا ذمة أو رحما، ينتهز المجاعات والكوارث ليأكل لحوم الناس امواتا..

   “.. كان أبوهُ عند الساحل الآخر يقولُ له:

– يا أكبر. . سوف تذهب إلى الأرضِ الجنة، كلها خير وبركة، ينابيع تتدفق في البحر والبر، والبساتين على مدى النظر، هناك ستغتني يا أكبر، يا من يبخل حتى على أبيه بثمن الدواء!“.

   “ولكي يحقق أكبر مرتضى المزيد والمزيد من الجشع والتملك، يتقرب إلى جمعة الحادي، يحابيه، وينافقه ويتملقة، فلدى جمعة الكثير مما يمكن تقديمه من الخدمات الضرورية بحكم وظيفته في مكتب الميجر بيلي، لديه ما يدور في المجالس الكثيفة، وشبكات الخطط التي سمعها، والأسلحة الرابضة في اللواوين والدهاليز والأقبية، والرؤوس المثيرة للفتنة“ ص 38.

   سالم الرفاعي ـ المطوع ـ معلم الكتاتيب، يطلق لحيته ويديه، وتلاميذته الذين كبروا وأطلقوا أيديهم في البلاد والعباد، يحتج ويتذمر من الميجر الذي جمع خيوط السلطة في قبضته، وضيق الدائرة عليه وحدَّ من سلطته المطلقة يقول متذمرا شاكيا: “– داسَ على شرائعِنا يا مولاي ، لم نعدْ نستطيع أن نحكمَ بالشرع ، فلا نجلد أحداً ولا نشتري إنساناً!“ ص 42.

   مي، فيَّ، شماء، أمينة، زينب، زهرة، نماذج لصورة المرأة البحرينية في العشرينيات، في الأرياف والبلدات والمدن، ومن مختلف الذوات أو بنت الحمولة بحسب التعبير الشعبي الذائع، لا يعدو حب محمد العواد، ذلك الصعلوك المتشرد لها وحبها له إلا أن يكون كالفقاعة أو سبحة خيال، أو حلم يقظة رومانسي إذ سرعان ما تصطدم هذه العلاقة بصخرة الواقع، وتتم خطوبتها على محمد ابن الحمولة الكبار، ومحمد العواد شبيه في هذه العلاقة بعلاقة جمعة الحادي بحبيبته أمينة التي رآها تزف إلى رجل آخر. ص 52.

   زهرة نموذج المرأة العاملة في المزارع والحقول “.. لم تعرف سوى العمل، تشققت يداها في حقل الأسرة، وكأن ثمة غابة من الأيدي والأرجل والقامات تدبُ في الأرض السبخة المليئة بالطين والماء والأحجار. لم يكن للوجود من معنى سوى انتظار الثمار ونوم الليل ودبيب النهار وكان الخارج غائباً، مخفياً، فلا تعرف ماذا بعد النخل والبحر، ماذا يوجد وراء التلال القصية المتوهجة بالدخان والصرخات. . وكان عاشوراء يعطيها قصة مليئة بالدمع والدم فتبكي أباها وأمها“ ص 78 ـ 79.

   نماذج المرأة في الينابيع هي نماذج نمطية مستلبة، سواء كانت هذه النماذج في الريف أم في المدن، فهي ذلك الكائن الذي لا يملك من أمر كينونته أو مصيره شيئاً، أو لا ينبغي له أن يملك  من أمره شيئاً، ولعل المختلف الوحيد بين تلك الشخوص أو الصور النسائية هو نموذج زينب زوجة أكبر مرتضى – والتي كان زواجها من أكبر مرتضى أشبه بزواج الصفقة بحساب الربح والخسارة والمحسوبة بدقة متناهية، لذلك لا يتردد أكبر مرتضى عن البوح لجمعة الحادي عما اصابه من غبن وخسران جراء هذه الصفقة الزيجة.

   “. . تزوجت امرأة غنية، قبيحة، وبخيلة“.

   “. . تطلع أكبر إلى زوجته وتساءل، من يستطيع الزواج بك وأنت ذات الوجه البشع واللسان السليط، ألا تدخلين القفص أيتها اللبؤة؟“ ص 107.

   وكما تتوارى حقيقة الشخوص التاريخية وتنزاح خلف أقنعة ورموز سردية متخيلة لتتساوق وتتناغم مع البطل غير المعلن في الرواية وهو الناس أو إنسان البحرين،  وهو يكتب تاريخ صراع بقائه بمداد من العرق والدمع والأجساد والدماء في صورة ملحمة شعبية طويلة شاقة ومؤلمة ممتدة عميقاً منذ ما قبل العصر الدلموني، كذلك تختبئ وتتوارى أسماء البلدان والقرى عدا المنامة والمحرق كونهما قطبي الفضاء الروائي لعموم الأحداث والشخوص والوقائع، ومع ذلك فهي لا تسمي الأحياء والحارات في هاتين المدينتين بقدر ما تشير أو توحي “.. في شرق المنامة تجمع هؤلاء السود والمجرمون السابقون واللصوص والبحارة، وتنامت الأكواخ من الشاطئ الشمالي الغارق في المزابل، حتى القرى الزراعية المتوارية وراء النخيل والأشجار في الجنوب..“ ص 84.

أو وراء رمز لغوي لفظي، مثل مدينة (البيضا) والتي نستوحي عبر السياق السردي بأنها ربما كانت الرفاع أو الزلاق أو الجسرة من بلدات البحرين الراهنة. أم مثل (العين) بما يوحيه المدلول اللغوي لمفردة (عين) والتي يمكن أن نطلقها على عشرات القرى المنتشرة في شمال وشرق وغرب البحرين.. “مضت السيارة إلى طريق الريف المتربة الطويلة. رفع الفلاحون رؤوسهم من بين غابة البرسيم، وحدقوا في هذا الكائن العجيب الذي يمتطيه الميجر بيلي وحين يتوقف أمام مستنقع مليء بالبعوض، أو يتجنب حفرة أو كومة زبالة، فإن الأيدي القذرة تندفع للمس هذا الحديد العجيب، والتحديق في مراياه، والهجانة بإبلها العجفاء، ذات الرؤوس الساخرة المعتمة، تسبقهُ وتهتزُ السياط في الهواء، هذا هو طريق العين، تمعن في الخريطة، ليس ثمة لافتة ولا إشارة“.

أو عبر ملامح المكان البيئية والجغرافية.

   “.. عبر البحر والبر حتى وصل إلى البلدة العالية ببيوتها البيضاء المتألقة كالحمام، والقريبة من صدر السماء، العربات القليلة لا تزال تدبُ بحوافرها وعجلاتها في طرقها الحجرية، والحمير البيض الناعمة، تنقلُ الخضار والأخبار والصبية..“ ص 46.

   تلك هي البلدة التي فارقها  غير آسف عليها (محمد العواد) ويمكننا أن نستقرئ المفردات البيئية في السياق بأن هذه البلدة ربما هي في قطر القريبة من جزر البحرين أو الدمام أو منطقة ما على ساحل الخليج.

   اعتمدت الينابيع موادها الخام من معين تاريخ البحرين في العشرينيات من هذا القرن في وقائعه وأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والسؤال الحاسم لقارئ الرواية هو: إلى أي مدى تمثلت الينابيع تلك الوقائع والمواد التاريخية ومن ثم إعادة إنتاجها وصياغتها في نسيج سدري فني إبداعي، ملبية بذلك مواصفات وشروط العمل الفني الناجح بمعايير وقيم الرواية الإبداعية الحديثة…؟

   التاريخ بداهة التسجيل هو الأمين للواقعة والحقيقة التاريخية في الزمان والمكان المعينين وكنموذج للحدث والحقيقة التاريخية في الينابيع (الوضع المحلي في البحرين والتدخل البريطاني المباشر في إدارة البلاد، متمثلاً في المقيم السياسي أو من يمثله وهو هنا (الميجر بيلي ومساعده أو المستشار في الفترة من 1920 – 1930، وما تلا ذلك التدخل من أفعال وردود أفعال ومواقف مختلفة ومتباينة).

   وحيث إن وظيفة الروائي هي وظيفة أدبية فنية جمالية (صورية متخيلة) لذلك نرى له هنا في الينابيع يرصد إيقاعات ذلك الحدث النفسية والشعورية والسلوكية ويصور عمق الصدمة وأصداءها وما تثيره من حيرة ودهشة تنعقدان على وجوه الناس وقلوبهم وأعينهم وألسنتهم، تلك الصدمة التي تشبه إلى حدٍ ما . . ما أحدثته الحملة الفرنسية على مصر في القرن الثامن عشر.

   ومن تلك الصور الفنية العديدة صورة «الميجر بيلي».

   “.. والآن هذا الأشقر، ذو الجلد الناصع المحمر، الأزرق العينين كالبحر الذي ألفوه، يقف بينهم حياً، باسماً، ينظرُ إليهم، لا كرسي يضعهُ فوق السحاب، ولا حراب عبيد كثيفة، مجرد كائن بشري سحري يمشي على الأرض ويومئ برأسه محيياً، وباتراً الصمت بكلماتٍ فكهة ليذهلوا، أيمكن للرب المسيطر على الغلال والظلال أن يضحك، وينزل من فوق الخيل، ليهز الورق ويرفع أصبعه متحدياً؟..“ ص 30.

   وصورةٌ أخرى ترتسمُ في عيون هذا الغريب، القادم من أعالي البحار.

   “..سحب الميجر رأسه، وبدا يتأمل هذه الوجوه، التي تشبه شخصيات شكسبير بأزيائها الغريبة، ولحاها الضخمة، وأيقن أن بساطتها الظاهرية تخفي مكراً بدوياً عريقاً، وأنها ثعالب تكونت في البراري المفزعة، ورافقت الصقور في تحويماتها وانقضاضاتها الرهيبة“ ص 83.

   ثمة حدث مفصلي تاريخي مروع، كان له فعله السحري الأسطوري المدوي في الذاكرة أو التاريخ الشفوي في الذاكرة الشعبية في البحرين، حيث ظل هذا الحدث ولمدى عشرات من السنين محوراً تنسج في مداره المخيلة الشعبية الكثير من القصص والحكايات العجائبية الغريبة، وتتناقل هذه الحكايا الأبناء عن الآباء والأجداد، هذا الحدث الدرامي أو المأساوي الضخم، الجسيم في فعله التدميري الكبير إذا ما قيس ببلد صغير كالبحرين، يمثل تربة سردية خصبة هائلة، وفضاءً واسعاً رحباً لقوى الخيال والتصوير واجتراح الحكايا الغرائبية. ذلك الحدث هو الإعصار المدمر الذي ضرب مياه الخليج في العشرينيات من هذا القرن.

   كيف تمثلت الينابيع هذا الحدث الواقعي/ الأسطوري وإلى أي مدى استفادت من اسثتماره في معمارها الحكائي السردي؟

   “.. كان الليل العميق في كل مكان، على البر البعيد، وفوق المدن والبلدات مليئاً  بطلٍ رطب ساخن، فغرق الجميع في النوم وكابوس العرق والبعوض.

   ومن بعيد ظهر  مسمارٌ كبير من الهواء الملتف، يحفرُ في الأرض والماء بسنه (1) الهائلة الحادة، فيأخذ كل شيء إلى قلبه الدائر الصاهر، ويعيدُ الأشياء محطمة، متناثرة، ويعصر الأجساد والخشب (2).

   اندفعَ المسمارُ الكبيرُ نحو المياه، هزَّ طبقاتَ الهواء، وكسرَ الصمتَ الصلدَ، وراح يحفرُ في البحر، ويثقب قاعه البعيد، ولم يحسْ الرجالُ بالأصابع القصيةِ الرهيبة ، لكن المسمارَ الذي تحول إلى حفارةٍ ضخمة ، اتسع وجمعَ إلى باطنهِ نثارَ الأشياء المحطمة المفزوعة ، واقترب من البحر والسفن الراقدة .

   عندما رفعَ الرجالُ المفزوعون رؤوسهم من آبار النوم، رأوا عملاقاً ضخماً مضيئاً، كماردٍ شرير، كشيطان، يقلبُ خشبهم ويحطم صواريهم فوق أجسادهم ، ويمزقُ هذه الكتلَ الهادئة الساكنة، ويبعثرها في اليم، فيغوصون مهشمين، ويرقدون في القبور، ويطفحون على وجوه الماءِ، وتندفعُ إليهم قروشُ البحر سعيدةً هانئةً بهذه الوليمة الكبرى.” ص 116.

   هذه صورة بنوارمية تضم في فضائها البر والبحر على السواء لحظة الإعصار وهي صورة انفجارية كلية عظمى، تتفجر من بؤرتها  عناقيد من الصور الجزئية والتفاصيل التي كانت تروي شفاهاً على ألسنة الناجين من هذا الطوفان الساحق، سواءً من كان منهم في البحر على ظهور السفن أو على السواحل فوق اليابسة.

   فصور المردة المسربلين بالنيران والحراب والحديد، والشياطين الذي يقلبون البحر، وأمواج الجبال هي صورٌ من مخزون الذاكرة الشعبية والدينية كما وردت في قصتي الطوفان والنبي سليمان (ع).

   وتنفتحُ صورُ الإعصار الكبرى على صور تخيلية غرائبية تضاعف من مأساوية الحدث، فإبراهيم زويد يجدُ نفسَهُ على قطعة خشب طافية، والماء المالح والبقايا والألم كانت تتوزعُ للاستيلاء على جسدهِ، ويسمعُ ثرثرة قروش البحر وهي تتلذذُ بلحم ربعه.

   وسعيد المناعي – النوخذا المعروف بطيبته وكرمه وشهامته، يقدرُ له النجاة هو وبحارته، وتلك اليد التي يمدها سعيد للمحتاجين أيام العسرة، امتدت والتفت لتنقذ سعيد وسفينته وبحارته.

   “يمسك دفة سفينته المتلوية مع الموج الهادر، يساعده الرجالُ والأيدي الكثيرة الملتفة حوله، عرفوا الماء من الأعماق، وأمسكوا بعضهم وخوفهم ونجوا“ ص 116.

   وهكذا تنثالُ الصورُ وتتواتر الأحاديث.

   وبحارة العنود (3) يبتلعهم البحر، وينجو بينهم صبي بأعجوبة فوق خشبة.

   قرية كاملة لم يعدْ رجالهُا، غابوا كلهم في البحر، لم تأت جثة ولا ناجٍ، ولا يزال سكانُ القرية يحدقون في الموج لمرأى سفينة أو قطعة خشبٍ طافية.

   فيْ زوجة سعيد المناعي ترقب البحر كل يوم من مصيدة السمك، وتتطلعُ إلى غول البحر بحثاً عن أبيها الذي أصر على دخول الغوص في هذا الموسم الأسود النحس.

   “.. رأت شبحاً، نقطة رمادية في الأزرق الشفاف، كأن يداً تمتدُ في الهواء وصرخة تندلعُ في النهار المعتم، وبدا الناجي مدفون الرأس في التراب والطين لا قطعة قماش تغطيه، بل الصبان وامتدادات الجروح والرضوض والملح والتراب.

   مدفون في كتل من الدم والأعشاب والإضاءات الغريبة. إنه ليس أباها، إنه إبراهيم زويد“ ص 122.

   وهكذا يجثمُ على البلاد ومن الماء إلى الماء ليلٌ أسود كثيفٌ قاتم مشحون بالحزن والتعازي والنواح والبكاء والقبور والدفن وهوس البحث عن الجثث والأشلاء والأعضاء في مصائد الأسماك والأسياف والبيوت الخربة المهجورة على السواحل والساحات الفارغة والأرياف القصية، وتتواتر الحكايات والقصص والأخبار والتفاصيل في صورٍ مرعبةٍ مخيفة.

   ولكي لا نغمط المؤلف عبـــــــدالله خلــــــــيفة حقه الأدبي والفني والذي لا تخفى معالمه وملامحه في رواية (الينابيع) أقول:

   إن هذه الصور السردية الفنية والجمالية الأخرى، ومن أبرزها الأسلوب اللغوي الذي استظهر الشعر في مجازاته واستعاراته وانزياحاته، ولعل ما يميز لغة الرواية، هي تلك اللغة التي استثمرت، وإلى حدٍ بعيد، مفردات بيئة البحرين البحرية والريفية في معادلة تنمُ عن عمق التجربة وأصالة الموروث الشعبي.

وتبقى الينابيع مفتوحة لقراءات أخرى . . تستحقُ المغامرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يوسف حسن : شاعر وأديب بحريني كبير

1 – السن: المرساة

2– الخشب: السفن

3ـــ اسم السفينة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 14, 2023 01:29

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الينابيع والطابع الملحمي

  تنتمي رواية «الينابيع» للروائي البحريني عبـــــــدالله خلــــــــيفة لنسق سردي يمكن تسميته بالنسق السردي الملحمي وعلى غرار بين القصرين وقصر الشوق والسكرية لنجيب محفوظ والرجع البعيد للروائي العراقي فؤاد التكرلي وسباق المسافات الطويلة للروائي عبدالرحمن منيف والصخب والعنف للروائي الأمريكي وليم فوكنر. وتطول القائمة لو سردنا أسماء تلك الروايات التي أرخت لأحداث مصيرية مصحوبة بوجهة نظر تنحاز إلى كفة الوطن ومعاناته المنتمية لذلك الماضي القريب من أجل أن لا ننساه أو نتناساه لأنه يحمل بعض همومنا التي لم نستطع مواجهتها حتى بعد رحيل المستعمر المحتل محتمين بحجج واهية وتبريرات لا تنتمي إلى الواقع.
ولكي لا تكون رواية الينابيع مجرد رواية تاريخية وثائقية فقد حرص عبـــــــدالله خلــــــــيفة أن يخلق أحداثا وشخصيات درامية موازية لتلك الأحداث التي وقعت حقا وصدقا في ذلك التاريخ القريب متخذا من الشعب البحريني بطلا لهذه الرواية المهمة ذات الأجزاء الثلاثة – وقد صدرت طبعة حديثة لها صدرت الرواية عن دار الأنتشار العربي » بيروت ط1 عام 2012 عدد الصفحات من القطع الكبير 400 صفحة.
أو كما عبر الكاتب البحريني يوسف حسن، حين أورد عنها «وكما تتوارى حقيقة الشخوص التاريخية وتنزاح خلف أقنعة ورموز سردية متخيلة لتتساوق وتتناغم مع البطل غير المعلن في الرواية وهو الناس أو إنسان البحرين، وهو يكتبُ تاريخَ صراع بقائهِ بمدادٍ من العرق والدمع والأجساد والدماء في صورةِ ملحمةٍ شعبيةٍ طويلة شاقة ومؤلمة ممتدة عميقاً منذ ما قبل العصر الدلموني، كذلك تختبئ وتتوارى أسماء البلدان والقرى عدا المنامة والمحرق كونهما قطبي الفضاء الروائي لعموم الأحداث والشخوص والوقائع».
ولابد لنا من أن نذكر هنا ان النص سرد بأسلوب الراوي العليم الذي يحيط بسرائر الشخصيات ويمتلك ناصية اقدارهم ويوجههم على مدى سطور الينابيع وقد زخرت الرواية بما يعزز هذا الصراع بين رؤيتين تنتميان لمرجعية مختلفة ولقيم ومعايير متباينة لا يمكن ان تلتقي الا على صعيد الصراع الخفي أو المعلن، بل ان البنية السردية وقبيل نهاية الجزء الثاني من الرواية تنسب ميلاد الوطن إلى تلك الثورة على ذلك المحتل، وهي تؤشر أقصى الصراع المتشكل في هيئة رفض مطلق لهذا الوجود القسري للغريب. يرد في (منولوج) جون سميث المستشار: «إنه لا يصدق أن كل هؤلاء الناس البسطاء الهادئين يحملون كل هذا الصخب الذي عبأته الاذاعات والرسائل الخارجية، كانوا في منتهى الرضا والطاعة، يتزحزحون من الشارع حالما يندفع بفرسه، ينحنون له يقصون حكاياته، ماذا جرى لهم؟ كيف تمكنت قلة من جرهم إلى المذبحة». وينتقل المنولوج إلى أعماق على وهو شخصية تنتمي إلى الجيل الثاني من الرواية حيث يرد: «حدق علي في المشهد بانبهار، ثمة سيل يتدفق نحو آخر السدود، انه يهز الارض وتندفع موجاته الهائلة… يداه تقذفان الحمم، وصوته يعلن ميلاد الوطن».
ويوائم النص بين الحدث التاريخي ذي الطابع الملحمي الذي يبدو إطارا للحدث القصصي الشيق والذي يحاذيه ويسير بموازاته وبما يشكل سمة واضحة للحدث الروائي في هذا النص إذ يعتمد على نمطين من الأحداث، النمط الأول تاريخي، وثمة إشارات إلى زمن محدد بالحرب العالمية الثانية وما يحاذيها من زمن «هذه الرياح من الدم والطاعون تصرصر في أجواء الشمال، والصلبان المعقوفة… ودهش في إحدى الليالي حين قيلت كلمات مبتذلات غسلت يد الجماعة وضميرها من المجنون الألماني». وأما النمط الآخر من الأحداث فإنه سردي خلقته مخيلة الروائي وبما لا يتعارض مع النمط الأول من الأحداث المنتمية إلى الماضي القريب والمدونة في السجلات التاريخية والمصادر المختصة، وهنا تكمن مهارة النص في هذه المواءمة والإنسجام وتشكيل الخلق الفني النابض من ركام الأخبار والوقائع التاريخية الثابتة.
وينفتح الماضي القريب للبحرين لمثل هذه الرؤية الفنية فقد كان هناك مستشار بريطاني (بلجريف) ظل يحكم البحرين خلال الأربعينيات والخمسينيات «تركزت بيده السلطة فأصبح قومندانا للشرطة ورئيسا للقضاء ومشرفا على جميع الدوائر كالصحة والمعارف والأشغال العامة والطابو والجمارك والبلديات وحتى الحدائق العامة. لذا أصبح هذا المستشار رمزا سيئا في تاريخ البحرين وهدفا لحركة الإصلاح الوطني التي طالبت بطرده من البلاد في عام 1956 بعد أن ازداد تعسفا وتمييزا للأجانب على أبناء الشعب» مما أشر طلائع تشكل الوعي السياسي والاجتماعي لكتاب القصة في الخليج عامة وفي البحرين خاصة. 
وكما أن علياً يرث روح الثورة والتمرد عن أبيه الحقيقي محمد العواد فان حمدان يرث عن سالم الرفاعي تعصبه وكرهه لبعض مظاهر الحياة في الغناء والمرح «حدق فيه الرجل بوقاحة أتعرف من أنا ؟ تطلع فيه محمد العواد بسأم وهز رأسه بالنفي الشاحب انا ولد سالم الرفاعي انا حمدان.. تذكر زمناً مضنياً واشباحاً ودهش لان الثلة المسلحة هي نفسها، أجساد قوية وكروش ولحى وعصي ولكن المغني لم يعد هو ذاته، تاه وفقد أوتاره وطباله وكورسه». والنص هنا يؤرخ لاتجاه حاضر ورؤية راهنة تنبثق من البيئة وتراثها وقيمها بيد انها تشير إلى أسلوب خاص في فهم هذا التراث وتلك القيم ومحاولة فرضهما والغاء الآخر الذي قد يكون له فهم آخر مختلف لها.
ومما يعطي هذه الرواية خصوصية لا تخفى هذه الحميمية في التناول التي مبعثها أصالة الاجواء التي عبر عنها عبـــــــدالله خلــــــــيفة وكونها في متناول تجربته الحياتية الخاصة يرد على لسانه قوله «لقد كنت احد الذين تربوا في الاحياء الشعبية وعاش طفولة مليئة بالصور الشعبية وبالاحلام والتحولات الاجتماعية والاوجاع، وانا اعد نفسي ابن جيل الستينيات الذي نشأ من ذاكرة الخمسينيات الوطنية وارهاصات التحول الزاخرة والقوية في المجتمع الصغير حيث كان هناك قطاع كبير من الناس الذين يعيشون في مستوى اجتماعي منخفض، وهناك الادارة البريطانية التي تتحكم في البلد والخليج العربي ككل وكانت مدينة المنامة مليئة بالاكواخ إلا من بعض البيوت من الطين وأنا أحد أبناء هذا المناخ الاجتماعي السياسي الفكري».
إن هذا التماهي بين السردي والتاريخي في إطار رواية «الينابيع»، مما لا يتأتى إلا لروائي ممارس يتقن حرفيته، بحيث ينتقي من ذلك الركام الهائل من التاريخ ما يعزز رؤيته المنحازة إلى إنسان هذا المكان وقيمه الخيرة. وقد أتيح للروائي البحريني عبدالله خليفة أن يجرب تقنيات سردية متنوعة عبر عشرات التجارب السردية التي أنجزها، وتأتي تجربته في الينابيع تتويجا لمنجزه السردي.كتب د. صبري مسلم
عبـــــــدالله خلــــــــيفة رواية الينابيع                         عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الينابيع والطابع الملحمي
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 14, 2023 01:27

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الينابيع والطابع الملحمي

  تنتمي رواية «الينابيع» للروائي البحريني عبـــــــدالله خلــــــــيفة لنسق سردي يمكن تسميته بالنسق السردي الملحمي وعلى غرار بين القصرين وقصر الشوق والسكرية لنجيب محفوظ والرجع البعيد للروائي العراقي فؤاد التكرلي وسباق المسافات الطويلة للروائي عبدالرحمن منيف والصخب والعنف للروائي الأمريكي وليم فوكنر. وتطول القائمة لو سردنا أسماء تلك الروايات التي أرخت لأحداث مصيرية مصحوبة بوجهة نظر تنحاز إلى كفة الوطن ومعاناته المنتمية لذلك الماضي القريب من أجل أن لا ننساه أو نتناساه لأنه يحمل بعض همومنا التي لم نستطع مواجهتها حتى بعد رحيل المستعمر المحتل محتمين بحجج واهية وتبريرات لا تنتمي إلى الواقع.
ولكي لا تكون رواية الينابيع مجرد رواية تاريخية وثائقية فقد حرص عبـــــــدالله خلــــــــيفة أن يخلق أحداثا وشخصيات درامية موازية لتلك الأحداث التي وقعت حقا وصدقا في ذلك التاريخ القريب متخذا من الشعب البحريني بطلا لهذه الرواية المهمة ذات الأجزاء الثلاثة – وقد صدرت طبعة حديثة لها صدرت الرواية عن دار الأنتشار العربي » بيروت ط1 عام 2012 عدد الصفحات من القطع الكبير 400 صفحة.
أو كما عبر الكاتب البحريني يوسف حسن، حين أورد عنها «وكما تتوارى حقيقة الشخوص التاريخية وتنزاح خلف أقنعة ورموز سردية متخيلة لتتساوق وتتناغم مع البطل غير المعلن في الرواية وهو الناس أو إنسان البحرين، وهو يكتبُ تاريخَ صراع بقائهِ بمدادٍ من العرق والدمع والأجساد والدماء في صورةِ ملحمةٍ شعبيةٍ طويلة شاقة ومؤلمة ممتدة عميقاً منذ ما قبل العصر الدلموني، كذلك تختبئ وتتوارى أسماء البلدان والقرى عدا المنامة والمحرق كونهما قطبي الفضاء الروائي لعموم الأحداث والشخوص والوقائع».
ولابد لنا من أن نذكر هنا ان النص سرد بأسلوب الراوي العليم الذي يحيط بسرائر الشخصيات ويمتلك ناصية اقدارهم ويوجههم على مدى سطور الينابيع وقد زخرت الرواية بما يعزز هذا الصراع بين رؤيتين تنتميان لمرجعية مختلفة ولقيم ومعايير متباينة لا يمكن ان تلتقي الا على صعيد الصراع الخفي أو المعلن، بل ان البنية السردية وقبيل نهاية الجزء الثاني من الرواية تنسب ميلاد الوطن إلى تلك الثورة على ذلك المحتل، وهي تؤشر أقصى الصراع المتشكل في هيئة رفض مطلق لهذا الوجود القسري للغريب. يرد في (منولوج) جون سميث المستشار: «إنه لا يصدق أن كل هؤلاء الناس البسطاء الهادئين يحملون كل هذا الصخب الذي عبأته الاذاعات والرسائل الخارجية، كانوا في منتهى الرضا والطاعة، يتزحزحون من الشارع حالما يندفع بفرسه، ينحنون له يقصون حكاياته، ماذا جرى لهم؟ كيف تمكنت قلة من جرهم إلى المذبحة». وينتقل المنولوج إلى أعماق على وهو شخصية تنتمي إلى الجيل الثاني من الرواية حيث يرد: «حدق علي في المشهد بانبهار، ثمة سيل يتدفق نحو آخر السدود، انه يهز الارض وتندفع موجاته الهائلة… يداه تقذفان الحمم، وصوته يعلن ميلاد الوطن».
ويوائم النص بين الحدث التاريخي ذي الطابع الملحمي الذي يبدو إطارا للحدث القصصي الشيق والذي يحاذيه ويسير بموازاته وبما يشكل سمة واضحة للحدث الروائي في هذا النص إذ يعتمد على نمطين من الأحداث، النمط الأول تاريخي، وثمة إشارات إلى زمن محدد بالحرب العالمية الثانية وما يحاذيها من زمن «هذه الرياح من الدم والطاعون تصرصر في أجواء الشمال، والصلبان المعقوفة… ودهش في إحدى الليالي حين قيلت كلمات مبتذلات غسلت يد الجماعة وضميرها من المجنون الألماني». وأما النمط الآخر من الأحداث فإنه سردي خلقته مخيلة الروائي وبما لا يتعارض مع النمط الأول من الأحداث المنتمية إلى الماضي القريب والمدونة في السجلات التاريخية والمصادر المختصة، وهنا تكمن مهارة النص في هذه المواءمة والإنسجام وتشكيل الخلق الفني النابض من ركام الأخبار والوقائع التاريخية الثابتة.
وينفتح الماضي القريب للبحرين لمثل هذه الرؤية الفنية فقد كان هناك مستشار بريطاني (بلجريف) ظل يحكم البحرين خلال الأربعينيات والخمسينيات «تركزت بيده السلطة فأصبح قومندانا للشرطة ورئيسا للقضاء ومشرفا على جميع الدوائر كالصحة والمعارف والأشغال العامة والطابو والجمارك والبلديات وحتى الحدائق العامة. لذا أصبح هذا المستشار رمزا سيئا في تاريخ البحرين وهدفا لحركة الإصلاح الوطني التي طالبت بطرده من البلاد في عام 1956 بعد أن ازداد تعسفا وتمييزا للأجانب على أبناء الشعب» مما أشر طلائع تشكل الوعي السياسي والاجتماعي لكتاب القصة في الخليج عامة وفي البحرين خاصة. 
وكما أن علياً يرث روح الثورة والتمرد عن أبيه الحقيقي محمد العواد فان حمدان يرث عن سالم الرفاعي تعصبه وكرهه لبعض مظاهر الحياة في الغناء والمرح «حدق فيه الرجل بوقاحة أتعرف من أنا ؟ تطلع فيه محمد العواد بسأم وهز رأسه بالنفي الشاحب انا ولد سالم الرفاعي انا حمدان.. تذكر زمناً مضنياً واشباحاً ودهش لان الثلة المسلحة هي نفسها، أجساد قوية وكروش ولحى وعصي ولكن المغني لم يعد هو ذاته، تاه وفقد أوتاره وطباله وكورسه». والنص هنا يؤرخ لاتجاه حاضر ورؤية راهنة تنبثق من البيئة وتراثها وقيمها بيد انها تشير إلى أسلوب خاص في فهم هذا التراث وتلك القيم ومحاولة فرضهما والغاء الآخر الذي قد يكون له فهم آخر مختلف لها.
ومما يعطي هذه الرواية خصوصية لا تخفى هذه الحميمية في التناول التي مبعثها أصالة الاجواء التي عبر عنها عبـــــــدالله خلــــــــيفة وكونها في متناول تجربته الحياتية الخاصة يرد على لسانه قوله «لقد كنت احد الذين تربوا في الاحياء الشعبية وعاش طفولة مليئة بالصور الشعبية وبالاحلام والتحولات الاجتماعية والاوجاع، وانا اعد نفسي ابن جيل الستينيات الذي نشأ من ذاكرة الخمسينيات الوطنية وارهاصات التحول الزاخرة والقوية في المجتمع الصغير حيث كان هناك قطاع كبير من الناس الذين يعيشون في مستوى اجتماعي منخفض، وهناك الادارة البريطانية التي تتحكم في البلد والخليج العربي ككل وكانت مدينة المنامة مليئة بالاكواخ إلا من بعض البيوت من الطين وأنا أحد أبناء هذا المناخ الاجتماعي السياسي الفكري».
إن هذا التماهي بين السردي والتاريخي في إطار رواية «الينابيع»، مما لا يتأتى إلا لروائي ممارس يتقن حرفيته، بحيث ينتقي من ذلك الركام الهائل من التاريخ ما يعزز رؤيته المنحازة إلى إنسان هذا المكان وقيمه الخيرة. وقد أتيح للروائي البحريني عبدالله خليفة أن يجرب تقنيات سردية متنوعة عبر عشرات التجارب السردية التي أنجزها، وتأتي تجربته في الينابيع تتويجا لمنجزه السردي.كتب د. صبري مسلم
عبـــــــدالله خلــــــــيفة رواية الينابيع                         عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الينابيع والطابع الملحمي
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 14, 2023 01:27

المتن الشعري في رواية الينابيع للروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة

كتب /الدكتورة وجدان الصائغإذا كان الخطاب الشعري المعاصر قد استجلب وبوعي منه التقنيات السردية ليخلق له هيكلية شعرية جديدة يتماهى فيها الشعري بالسردي نائياً بذلك عن الغنائية المباشرة ، فان الخطاب السردي (القصصي والروائي) لم يكن بمنأى عن الترسيمات الجغرافية الجديدة لحدود الأجناس الأدبية وعبر تفكيكه البنية التحتية للنص السردي واعادة صياغتها مستثمراً إمكانات المتن الشعري بانزياحاته المشفرة وترميزاته الموحية ، وهي ظاهرة ليست مستجدة في أدبنا العربي فمنذ العصر الجاهلي نلمح رغبة الناثر القديم في ترصيع متنه النثري بشذرات شعرية سواء أكانت صياغية أم مقتبسة من الرصيد الشعري الضخم لخزيننا الثقافي ومثل هذا ينسحب على الأدب الأوربي إذ اعترف موليير صراحة بوجود هذه الظاهرة في نتاجه الإبداعي حين قال مستنكراً تساؤلات النقاد في هذا الشأن : ( إنني آخذ ما يلزمني هنا حيث أجده سواء في الشكل الموسيقي أو الشعري أو سواهما!) وهو ما يؤكد حقيقة راسخة هي أن النص الإبداعي – وينطبق هذا على الشعري والسردي معاً- هو بلورة تشكل خلاصة الخزين المعرفي الإنساني وهي خلاصة لا تعرف القوالب والتقنين الاجناسي الصارم. وان الناظر في راهننا الثقافي سيشهد بالضرورة استمرار هذه الإيقاعية اعني( اشتباك الشعري بالسردي ) وعبر حركة المتون الشعرية ولاسيما قصيدة النثر صوب المنظومات السردية مغدقة على جسد النص السردي التماعات الصور ودهشة الترميز مع احتفاظ كل من الجنسين الأدبيين باستراتيجاتيه التكتيكية وهو ما جعلنا نجزم بان استدعاء الصورة الشعرية يسهم في تنامي الإيقاع الروائي وتفعيل نغمية السرد . وهو ما يصح تماماً على نخبة من النتاج الروائي الذي يطرح وفقاً لتقنياته المدهشة إشكالية مفادها :هل يمكن أن تكون الرواية في زمن الرواية هي البديل الأجمل عن المطبوع الشعري ؟ وهل يمكن أن نخضع الروائي للقب شاعر حين نسترجع ما قالته سوزان بيرنار وعلى لسان فكتور هيغو: (فليذهب الشاعر إذن حيثما شاء ، ويعمل ما يحلو له ، هذا هو قانونه … وسواء أكتب نثرا أم شعرا ، سواء أنحت في المرمر أم صب تماثيله من البرونز … فهذا رائع ، والشاعر حر)(1) ؟ كل هذه التساؤلات وسواها قفزت إلى ذاكرة التأويل وهي تتأمل تضاريس البنية السردية لرواية الينابيع بجزأيها الأول والثاني للروائي البحريني عبدالله خليفة إذ يستوقفك مستويان ؛ أحدهما مهيمن ينتمي إلى تقنيات السرد التي تؤثث الفضاء التدويني للرواية وتخضعه لآلياتها فتشذره لغة البياض ترقيمياً إلى ثلاثة وستين مشهداً في الجزء الأول من الرواية والى واحد وستين مشهداً في الجزء الثاني منها ، ويضيء المستوى الثاني – الذي نحن بصدد تعقب ملامحه- التحولات الشعرية للمحكي السردي حيث يستدعي عبدالله خليفة كل تقنيات قصيدة النثر ليبلور من تفاعل الشعري بالسردي نصاً ينفتح على كل التأويلات ، ولعل عنونة الرواية ( الينابيع) تضئ هذا الشغف الصياغي إذ يمكن أن نستشعر زخم الإيقاعات المنفلتة من ذاكرة هذا المحمول اللفظي فثمة إيقاع الخصب المشتغل على تلوين الأمكنة بالخضرة واليناعة ، وإيقاع الماء المستمد من حركة الينابيع وتدفق جريانها وإيقاع الحياة وإيقاع… , وهي تتآزر لتشكل بلورة مشفرة تحيل إلى أمكنة ترميزية معممة تتحول شعرياً لتشكل جغرافية مكانية متخمة بالمفارقة والتأويل . زد على ذلك أن المخيال السردي قد اخضع الصياغة الشعرية لنسقين أحدهما حاضر والآخر غائب .
• النسق الحاضر:
وتشكله خرائط الصور الشعرية المتخلقة من أقصى الإيحاء والترميز والمتحركة داخل الفضاء التدويني للرواية لتؤشر تحولات اللغة السردية ووفق منطلقات المدرسة التصويرية متوناً شعرية إذ لا شعر إلا بوجود الصور المكتنزة بالدلالة. لاحظ مثلاً استهلال المشهد رقم (39)(2) وحيرة أوراق التأويل إزاءه ؛ أهي قبالة قصيدة نثر تفضح تساؤلاتها المريرة راهن إنساني شرس ملبد بالإلغاء ؟! أم قبالة متن سردي يعكس سريان المونولوج المحموم لعلي وهو ينوء تحت كوابيس الحمى ، قارن الآتي :
(لماذا الصمت؟ لماذا يتحجر الرجال في الغرف الخلفية ، وتتحول العصافير الى حيات ، وتذوب كلمات الأنبياء في الطين ، ويكون البشر كالماعز المذبوح ؟ ولماذا تغدو اللآلئ والدفاتر مشانق؟
لماذا يتهاوى الجسم الممتلئ بالدم والسحر فوق القضبان والأرصفة والالحفة ؟ يا سيدي الإله ، يا مطر الأجوبة، أغثني ، رأسي تنفجر، ولعابي رماد ، وعيوني جمر! انهمر مطر ، وسمع الأقدام تخوض والقوارب تسبح في نزيفها الأبدي ).
إن صعوبة تحليل المتن الشعري المرتبط بالسرد تكمن في عدم قدرة التأويل على الانطلاق بعيداً عن فضاءات الخطاب الروائي كما هو شأن التأويل الشعري البحت إذ إن الشذرة الشعرية وان بدت متألقة إلا أن أوراق التأويل تبقى وبوعي منها خاضعة لاشتباك التقنيات السردية ، فهذه التساؤلات المريرة – التي وجهها علي {الابن غير الشرعي لمحمد العواد} للشيخ سعيد زوج أمه فيّ ظناً منه انه أبوه الحقيقي – تخرج من دائرة الاستفهام لتدخل دائرة المناجاة المحمومة الملتهبة وهي تتحرك بين القيمة المحسوسة (الأب) الراحل والقيمة المجردة (الذات الإلهية) وهي أيضاً تتحرك بين الهم المحلي والهم الإنساني ، إنها باختصار تعكس تراجيديات الإنسان المرهف المسكون بالفكر الوقاد المرموز له بـ(الدفاتر واللآلئ ) واحتضاراته المتوالية على بوابة الزنازين ( الغرف الخلفية) و(المشانق) حيث الانوات الزائفة المتحجرة (تتحول العصافير إلى حيات) ، وربما أضاء المخيال السردي (لعابي رماد , وعيوني جمر) مكابدات بروميثيوسية جديدة وعذابات معاصرة مستجلبة من الرغبة في فيقاد عتمة الآخر باحتراقات الأنا المتوحدة مع الهم الجماعي ، زد على ذلك أن انهمار المطر بذاكرته القرآنية الحافلة بالغضب والسخط لم يكشف عن استجابة ميتافيزيقية لتساؤلاته فحسب وانما كثف من عتمة الراهن وكابوسية اليومي المعاش حين أصغينا إلى صوت (الأقدام تخوض والقوارب تسبح في نزيفها الأبدي) لتتأكد الحركة المفرغة في دائرة المكابدة .
وحين يشاء الخطاب السردي في المشهد رقم (10)(3) أن يعكس احساسات محمد العواد وهو يرقب حدث توافد البسطاء على الميجر ، فانه يرسم من التحولات التي طالت المكان واناسيه صورة سوريالية (غرائبية) عرت الراهن وصورت تناقضاته المذهلة ، قارن الآتي:
(تدافعت الألسن تنسج خيوط عناكب ودم ، واستحالت المدينة فجأة مقبرة كبيرة وأعشاش ومسلخ ، وبدت البيوت الكبيرة العملاقة وسط المدينة وكأنها حيتان طلعت من تحت المياه ، وتلألأت بروجها ، ونوافذها باللؤلؤ المشتعل والأسنان والدم… الوجوه الساكنة الغافية ، والأرجل العصي المرتجفة ، وأجساد الريش المندفعة في أي ريح … استحالت فجأة إلى سلاسل من حديد وتنانير لاهبة ، وراحت تنضج خبز الألم).
تتضح البنية السوريالية للوحة في اكثر من مستوى ؛ فثمة تضخيم الأمكنة (بدت البيوت الكبيرة العملاقة وسط المدينة وكأنها حيتان طلعت من تحت المياه) وتغليفها بغلالة مرعبة (وتلألأت بروج البيوت ، ونوافذها باللؤلؤ المشتعل والأسنان والدم) والغلو في تصوير الانوات المستلبة (والأرجل العصي المرتجفة ، وأجساد الريش المندفعة في أي ريح) وهي تحيل مجتمعة إلى سخرية مريرة من واقع مأزوم وراهن ملبد بقهقهات الحزن(خبز الألم) إذ أن فيه ما يضحك ويبكي معاً وربما لان هناك قرابة غير معلنة بين الهلع والضحك – على حد تعبير لوي فاكس – زد على ذلك أن هذه اللوحة الملونة بحمرة طريفة تعكس تفاصيل الوجع ومساحاته الشاسعة المستجلبة من ( الألسن تنسج خيوط .. دم + تلألأت بروج البيوت ونوافذها باللؤلؤ المشتعل والدم + تنانير لاهبة ) قد أضاءت بنيتها الغاطسة زمناً وشخوصاً وحواراً _ مونولوجاً محموماً وديولوجاً ملبداً بالخذلان _ بالإضافة إلى تفاصيل الحدث الذي ادهش محمد العواد فبقي حائراً إزاء متوالياته المذهلة. ويمكن القول بأنها أضاءت أيضاً موقع السارد وقربه من الحدث ، وبعبارة أخرى فإننا يمكن أن نلمح حركة عينيه وهو يخبرنا به ويعطينا تأويلاً مقنعاً لما حصل ويحصل معلناً عن وجهة نظره .
وتشكل خاتمة المشهد رقم (42)(4) بؤرة تنويرية يكثف من خلالها المحكي النصي التنامي الإيقاعي للحدث الذي يخفي تحت أستاره صراعاً تاريخياً دامياً بين صوت القهر الجماعي وصوت التحرر والانعتاق ، تأمل كيف وظف المخيال السردي التقنية التشكيلية وهو يصوغ صوراً شعرية تكثف ملامح الانكسار وفضاءاته الدامية لنكون قبالة مرايا صقيلة تعكس ملامح الشيخ ناصر السعد وهو يتحسس فجيعته بزوجته التي اتسقت إيقاعات صوتها مع إيقاعات الحدث الخارجي حين قررت تركه بعد أن غادره صولجان الجاه والسلطان:
(اختفت كأنها لم تكن . كلمات رهيبة قصيرة انفجرت ثم وضعت في يديه أشلاء العمر والأبناء . مطر غزير من الرماد انهمر من السقف والزمان ، وبدا ملتحما بأشباح ووجوه مكسورة الأنوف ، وخيول غارقة في الدم والأحزان ) .
تفضح الصور الشعرية المتخمة بالهزيمة والاغتراب عمق مكابدات الذات الواقعة تحت شراسة الحدث ، ولعل مخيال التلقي يلمح الحرائق التي لفعت الأنا المنكسرة وهي تتحرك من داخل الذات المعطوبة إلى العالم الخارجي لترمد الزمن (أشلاء العمر ) وترمد الأمكنة الأليفة (سقف ) . وبنظرة متأملة نستكشف توق النص في تكثيف الأجواء الكابوسية وتهشيم مرايا المكان وعبر خلق طوفان عاصف(مطر غزير من الرماد انهمر من السقف والزمان) يمحق كل الأشياء الجميلة ويغيب ملامحها ، وهو ما يقترب كثيراً من فكرة جلد الذات وقد عزز هذا التأويل التحولات المريعة لهذه الشخصية التي كانت متوجة بالعز والفخار (وبدا ملتحما بأشباح ووجوه مكسورة الأنوف ، وخيول غارقة في الدم والأحزان) . إن هذه الأنا تستكشف عمق عذاباتها في تمرئيها بالمكان الذي شهد مباهجها ولحظات زهوها وهو أسلوب حكائي يمكن تسميته بالسرد الاستبطاني الذي يفضح الموقف الفلسفي للرواية إزاء هذه الكينونة بوصفها وعلى اقل تقدير الأنموذج الشرقي المكرور للذات المتألهة المهوسة بشهوة السلطة .
وتضئ الصورة الشعرية في المشهد (32)(5) مكنونات مي (معشوقة محمد العواد وزوجة الشيخ حامد) هذه الشخصية المولعة بالثراء والرغبة العارمة في الاكتمال بالآخر ، ويمكن القول إن هذه الشخصية هي بؤرة العمل الروائي ذا تطل علينا بوصفها جسداً أنثوياً يثير مخيلة محمد العواد ويدعوه في النهاية للمقامرة بحياته , تأمل كيف وصف المخيال السردي مكابدات مي بعد أن أصبحت في بيت زوجها روحاً موؤدةً و جسداً أنثوياً عاجزاً عن استقطاب الزوج الغارق في نزواته النسائية :
( ما أقسى هذا الليل الهابط بمساميره الصدئة على جبينها ، ينغرز ببطء ، وينشر رماده وملحه في عيونها المفتوحة للصباح البعيد ، القصر عبد اسود في الجزيرة الخرساء ، وليس لها إلا الحكايا واشعار الجواري).
إننا في هذا المقتطف السردي قبالة متن شعري يحايث احساسات الأنوثة بالاغتراب المكاني (القصر عبد اسود+ الجزيرة الخرساء) والزماني (الليل بمساميره الصدئة + الصباح البعيد) بل والنفسي المستجلب من رغبة النص في ترميز تطلعاتها (ينشر رماده في عيونها + مسامير الليل الصدئة في جبينها) ليخلق منها شهرزاد جديدة يخضعها السياق السردي للثقافة الفحولية وللعبة الموت اليومي فتستجير بـ (الحكايا واشعار الجواري) لتخفف من غلواء الترقب والانتظار.
وقد تكون البنية الشعرية شفرة سردية تتحرك في اكثر من اتجاه يضئ الحدث تارة وملامح الشخصيات وأمكنتها أخرى ، لاحظ كيف وصف استهلال المشهد رقم (13)(6) التقارب النفسي بين مي زوجة الشيخ حامد ومحمد العواد على الرغم من الفاصل الاجتماعي والمكاني الذي يحول دون تحقق حلم اللقاء بينهما :
(نائيان عن بعضهما ، قريبان في لهبهما وأنفاسهما ، والبدر يصعد في الشرق معشوشباً بأغصان غيوم ) .
تتكئ هذه الومضة الشعرية على تقنية الإسقاط الفني ( active- projection)(7) حين تخلق متوازية ترميزية بين (محمد العواد + مي) و(البدر + أغصان الغيوم) إرهاصاً بقرب تفتت الحواجز المكانية بين العاشقين وربما نستشف من التشفير الاستعاري (معشوشباً بأغصان الغيوم) الحركة المراوغة التي ستوقع البدر(محمد العواد) في شرك الغواية الجسدية المهلكة فيسقط صريع شهوته ثم صريع رصاصات ابن مي في خاتمة الرواية . زد على ذلك إن هذه الصورة البصرية المركبة(البدر يصعد في الشرق معشوشباً بأغصان غيوم) تحيل إلى تألق محمد العواد في سماء الغناء والتطريب حد تماهيه مع البدر المتوج بأكاليل الغار ، وقد أضاءت ذاكرة الفعل (يصعد) طبيعة هذه الحركة الرشيقة صوب البزوغ .
ومن المفارقات الدلالية التي تطرحها النزعة الشعرية المهيمنة ؛ ارتكاز المشهد نفسه الى الغيوم والقمر – في موضع آخر(8) – بوصفهما بؤرة ترميزية تحيل إلى خرق المقدس والمحظور ومهمازاً مشفراً يؤشر حركة مي المخاتلة للقاء بمحمد العواد نزيل بيتها وضيف زوجها الشيخ حامد وهي حركة متخمة بالهوس الجسدي الذي سيوقع الاثنين (محمد ومي ) في فخ الغواية المهلكة :
(هي تمشي الآن في أحشاء الغيوم في السماء ، ونثيث القمر الضوئي ،ورذاذ المطر الأول ، وهو يقبل قمم النخيل ويتساقط على صدر الأرض العطشى . كأن ثيابها تتسرب منها ، وجوعها يتفجر برقاً ، وسيوف من الضوء تدخل فيها والماء الطاهر يغسلها ويقبلها وكانت كل الردهات منطفئة والأبواب متحجرة ولم يزل صخب العود مرافقاً للهواء ولخلايا الجدران ، يسحبها من صدرها نحو تلك الغرفة كوة الحريق.)
تطرح هذه الصياغة الشعرية التي جاءت بضمير الغائب وعبر وعي السارد أمام مخيال التلقي شفرات ترميزية تدفع بنية الحدث برشاقة إلى الأمام فأما الشفرة الأولى (هي تمشي الآن في أحشاء الغيوم في السماء) فإنها تستبطن طبيعة هذه الشخصية الحالمة المتمحورة حول مباهج الجسد وغواياته المهلكة , وتعكس الشفرة الثانية (ورذاذ المطر الأول ، وهو يقبل قمم النخيل ويتساقط على صدر الأرض العطشى) زمنين متصادمين ؛ أحدهما منصرم شهد أوج العلاقة بين محمد العواد ومي وقد فضحت الصورة الشعرية الممزوجة برذاذ المطر الأبعاد الجسدية لهذه العلاقة من جانب ومن جانب آخر فإنها أشادت بها حين قرنتها بـ(قمم النخيل) المتخمة بالجمال والكبرياء حين كانت مي حرة طليقة . واما الزمن الآخر فهو الراهن المعاش الملبد بالعطش الذي يستعيد بنهم تلك اللحظات الفارطة ويتوق لاستجلابها على الرغم خروقاتها للنسق الاجتماعي . وتفضح الشفرة الثالثة (كأن ثيابها تتسرب منها ، وجوعها يتفجر برقاً) الشبق الجسدي لمي الذي صيره النص قرين البرق الخلب بل إننا نستشعر سخرية المخيال السردي من هذه الرغبة (كأن ثيابها تتسرب منها) بغية إدانتها من طرف خفي . وترهص الشفرة الرابعة (سيوف من الضوء تدخل فيها + الغرفة كوة الحريق.) بالخاتمة الدموية للحدث الذي سيطيح بالكينونتين (مي ومحمد العواد) معاً.
وعلى الرغم من انشغال المشهد رقم (26)(9) في تكثيف ذروة التصاعد الدرامي بسبب من تخلي محمد العواد عن فيّ ( الفتاة الملتحمة بالمكان وفطرته ) والمتورطة بعلاقة غير شرعية معه بعد أن أحست ببوادر الحمل ، فان النسق الشعري قد اطل في اكثر من مفصل ، لاحظ مثلاً كيف رصدت مرايا السرد احساسات الأنوثة المتخمة بالخذلان والرعب من التحولات الكابوسية للأمكنة :
(كانت تتقطع دموعا ويدا وثديا، كل ينابيعها المحبوسة بإقفال الأمل ، ضخت فجأة كل الوجع والرعب ، وصارت المدينة والسماء كلها حصى …)
تفضح ذاكرة المحمول اللفظي(الحصى) العقاب السماوي للخطائين (الرجم) ويفلح المخيال السردي حين يجعل من الحصى مكاناً مغلقاً يكبل هذه الكينونة لنستشعر حركة الرجم من كل الجهات (السماء + المدينة) توكيداً لغياب الرحمة والعدالة ورغبة من النص في ترسيم خريطة للمكان المعادي الذي يمارس على الذات الأنثوية شراسته .
وتفضح البنية الشعرية لاستهلال المشهد رقم (54)(10) عذابات علي بعد غياب أمه (فيّ) المفاجئ (هذا الجسد الأنثوي الجميل الذي كان محشوراً بين رجلين أحدهما شرعي(الشيخ سعيد) والآخر معشوق خارج النسق الاجتماعي (محمد العواد/ والد ابنها ) بحادث غامض يتأرجح بين الدهس المعنوي (الاغتصاب) والدهس الجسدي (حادث سير ) حيث تبقى لغزاً مشفراً قابلاً لكل الاحتمالات وتبقى جرحاً فاغراً في ذاكرة ابنها (علي ) تأمل ما أورده المحكي السردي منعكساً على وعي هذا الابن المهشم تحت معاول الفقد والغياب المباغت:
(هذه مرايا الريح ، ووجوه الطواويس والأقنعة ، من يتكلم في الماء المقفر من الأعشاب والصوت؟ كل لحظة يفتح الكفن يتفجر وجهها المرتعب. أية أصابع هذه التي أطبقت على جسدها الهش ، وغيصت السكاكين في حوضها الممتلئ بالماء والعشب ، لماذا اخذوا أمي مني ؟… لماذا جعلوني اصرخ هناك وأهز المدينة واعوي مثل ذئب يأكل جراءه؟ … لماذا وجدت السرب مثل البيت العفن الذي لا يفقس سوى الحيات؟ لماذا أصبحت لي عدة وجوه وأدراج مليئة بالسكاكين والأشباح؟… الروح تجري في الأزقة تتسول الدم ثم تحترق في أعمدة الدخان والزمان).
لابد من الإشارة إلى أن هذا الاستهلال المرمد قد شكل أفقاً مرآوياً نلمح من خلاله عذابات علي واحساساته المتناسلة بالشتات بعد غياب الام الرامزة للانتماء والخصب (حوضها الممتلئ بالماء والعشب) . فـ(مرايا الريح ) قد شكلت مهمازاً مشفراً يخفي في بنيته الغاطسة ألواناً من الدمار والخراب المادي – الذي ألقى بظلاله على المكان الأليف (البيت ) – والخراب المعنوي المستشف من تشظيات علي وتساؤلاته المريرة الملفعة بالتمرد على وجوه الطواويس والأقنعة ( الزهو الأجوف + الزيف) – بل أن الواو العاطفة قد أفلحت في تكريس المواجهة بين مرايا الريح وهذه الوجوه إشارة إلى غياب الجمال والقيم في ظروف تعمد النص إشراك التلقي في صياغة تفاصيلها والإجابة عن عناقيد الأسئلة الباحثة عن هوية الجناة المجهولين (أية أصابع هذه التي أطبقت على جسدها الهش ، وغيصت السكاكين في حوضها الممتلئ بالماء والعشب) أضف إلى ذلك أن أوراق التأويل تستشعر نمواً في شخصية علي التي غدت متأرجحة بين الإحساس الشديد بالذنب والرغبة في جلد الذات (لماذا جعلوني اصرخ هناك وأهز المدينة واعوي مثل ذئب يأكل جراءه؟) وبين الرغبة في الانتقام من المجهول (لماذا أصبحت لي عدة وجوه وأدراج مليئة بالسكاكين والأشباح؟… الروح تجري في الأزقة تتسول الدم ثم تحترق في أعمدة الدخان والزمان) بل أن تساؤله (لماذا وجدت السرب مثل البيت العفن الذي لا يفقس سوى الحيات؟) يشكل ذروة الاغتراب النفسي والزمكاني.
ويستثمر المشهد رقم (43)(11) براعة التساؤلات الساخرة في تجسيد مرارة محمد العواد وهو يرقب سفينة الثائرين فارس والمزين تتوغل في البحر لتلقيهما في باخرة قصية تحملهما إلى المحيط – كما تورد الرواية- :
(ماذا فعلنا غير أغنيات وفرحة وصرخات وحصى مندفع نحو الخيول والحراب المفترسة ؟ ولماذا كل هذا ؟ والوطن جالس على مقعد التراب ، والأكواخ تطلق خيوط الزيت والدخان في رحلة الأسرة والتناسل والصمت ) .
يكثف هذا المتن المتخم بالانكسار عبثية الجهد المبذول (أغنيات + صرخات + حصى) باتجاه تغير خرائط العتمة والتشظي ( الخيول + الحراب المفترسة) وقد كرست (الأكواخ {التي} تطلق خيوط الزيت والدخان في رحلة الأسرة والتناسل والصمت) فضاءات الاغتراب عن الآخر الراضخ لسلطة التهميش والاستلاب والمنشغل بمباهجه الآنية المرموز لها بـ ( الأسرة والتناسل والصمت). إن الخط السردي المحايث للبنية الشعرية المتوترة التي كثفت دجنة الخيبة قد أخفى في حقائبه مجموعة من الأحداث الدامية الممنتجة والمتكئة إلى استباق وارتجاع وحذف وتأجيل وتوقف مقترنة بأشخاص وفضاء من الزمان والمكان . لنكون في مواجهة صورة كاريكتيرية ساخرة تقودنا سردياً إلى الحدث المغيب الذي يسبق اللحظة السردية الشاخصة التي شكلت أحد مرتكزات النمو في شخصية محمد العواد .
و يتأكد في استهلال المشهد رقم (25)(12) نجاح النص في استدراج التلقي إلى فراديسه السردية عبر هذه المواشجة بين الشعري بانساقه التي تكثف مساحة البوح وتمنح المتن ترميزاته المترامية الدلالة وبين السردي الذي يرقب نمو الحدث – حدث لقاء محمد العواد بفارس الشخصية الثائرة على رموز التهميش – وتفاصيل المكان الذي كان مسرحاً لعذابات فارس المبعد عن وطنه . تأمل كيف مظهرت البنية الشعرية ملامح الانوات التي ضج بها مكان اللقاء حيث كانا (يتسكعان في مدينة بومباي الهائلة الرائعة المخيفة . يجلسان في مرقص واسع) –على حد تعبير الرواية -:
فتنبثق فراشة من شرنقة ، امرأة مدهشة تتحول إلى سرب من الطيور المرفرف الصادح ، قدماها لعبة ضوء ، وخلاخيلها مطر ضاحك في الأزقة ، ويداها تقفان فجأة وسط الوجه مضمومتين كسيف يعطي العينين فرصة الفتك).
لا ادري لماذا أحسست بان هذا الاستهلال يمارس على أفق التلقي سرداً مزودجاً فهو وان كان من حصة السارد حين ورد بضمير الغائب إلا انه جاء مستبطناً لشخصية محمد العواد الذي لا يرى الأنوثة إلا جسداً مكتنزاً بالغواية الحسية ومتواليتها المبهجة . وهو ما أشارت إليه الرواية في شذرات رصعت الخطاب السردي واعطت انطباعاً واضحاً عن سجية هذه الذات الشغوفة بالمغامرات النسائية . إلا أن عودة سريعة إلى خرائط الصور الشعرية المحتشدة في هذا الاستهلال ستحيل إلى مراهنة النص على براعته في تشغيل ذاكرة التلقي على اكثر من اتجاه فثمة تشغيل لذاكرة الحواس (البصر { فراشة من شرنقة + سرب من الطيور المرفرف + قدماها لعبة ضوء + يعطي العينين فرصة الفتك}و السمع { وخلاخيلها مطر ضاحك في الأزقة + الصادح} واللمس{ ويداها تقفان فجأة وسط الوجه مضمومتين كسيف} والشم {الذي بقي محتجباً خلف السطور إذ لا يمكن أن نستدعي هذه اللوحة بمنأى عن العطور الشذية والبخور}) وتشغيل الذاكرة الجمعية عبر استجلاب لوحة متكاملة من الرقص الهندي (فتنبثق فراشة من شرنقة ، امرأة مدهشة تتحول إلى سرب من الطيور المرفرف الصادح) بل أن الدقة في وصف الرقصة(ويداها تقفان فجأة وسط الوجه مضمومتين كسيف يعطي العينين فرصة الفتك) يصل ذروته حين تكون تفاصيل الجسد الأنثوي الفاتك عتبة لامكنة أليفة منقوشة على جدار الروح (قدماها لعبة ضوء ، وخلاخيلها مطر ضاحك في الأزقة) لنكون قبالة متوازية إيحائية تتحرك بين دفتي الغياب والحضور فثمة سمفونية الجمال الباذخ الحاضر وسيمفونية الخصب الغائبة والمرتهنة في الامكنة الاثيرة (الازقة) الحالمة بالغبطة والنور.
ويتوغل المخيال الشعري الى تفاصيل استهلال المشهد (56)(13) ليضيء مكابدات الكتابة هذه الحرفة الملفعة باللهيب والاتقاد ، وهو يخفي تحت التماعات الصورة حركة السرد المشتغلة على استبطان شخصية الاستاذ فارس هذا المناضل الذي نفي الى الهند بسبب من مواقفه الجريئة ضد استلاب الهوية وعاد الى وطنه ليلقى نكراناً وعقوقاً ، قارن الآتي :
( كان يهذي مراراً ، ويصطخب ، وينتحب ، ويسمع اصواته وكأنه ينشر لحمه وعظمه ، يحمل ورقه الكثيف، الممتلىء بانفاس الدخان، ويلقيه في النار ، ويعود ليدق الصخور ثانية ، بآلة يسمع صوت تكسر سنها الحادة وحشرجتها الحديدية(
يشكل الوجع السيزيفي بؤرة المتن الشعري المتخم بالتشظي والاغتراب ازاء ذاكرة المكان المثقوبة والمعطوبة ، بل ان المتوالية التراجيدية تتكثف عبر لقطات ممتنجة تختصر عذابات الذات الملتزمة (كأنه ينشر لحمه وعظمه) التي تجد في الكلمة رسالة تنويرية ونقشاً لاينسى في ذاكرة الاجيال ، وربماعكس القلم (آلة يسمع صوت تكسر سنها الحادة وحشرجتها الحديدية) التفاصيل الوعرة لرحلة الكتابة ، اضف الى ذلك ان المقول السردي (ويعود ليدق الصخور ثانية ) يكشف ابعاد المحنة الزمكانية من جانب ومن جانب آخر يضىء ملامح الاصرار التي تقمع الاستسلام والهزيمة .
ويمنح المعطى الشعري المشهد رقم (3)(14) مخيال التلقي سانحة استكشاف شخصية بدر وعبر استرجاع المونولوج ملامح معشوقته ثريا شقيقة عادل خسرو لتكون نبراتها المهموسة شفرة شعرية تتمحور حول رؤى هذه الكينونة ، قارن الآتي :
(كيف تخيط من لفائف الالفاظ عقوداً وثيابا وطيورا تطلقها في الفضاء وتقيم مهرجانات من الالوان والزغب . هناك تنفتح عريشة العنب للكلمات الكبيرة ، وهواجس للامة ، وسكاكين الغزاة ، وعبق الطوفان ويجد الاصابع الصديقة الرفيقة والوجه المعشوق وارجوحة الحب والايام الحلوة ، وليس دقائقها الصغيرة في جيوبه ويملأ بضحكاتها اروقة صدره وايامه ، ولينمو في الليل والفراغ مثل زنبقة كونية )
اية انوثة شاء المخيال السردي ان يصنع ؟ واية لوحة شعرية اراد ان يشكل ؟! وهل اشتغل على استدراج ملامح فينوس ليخطفها صوب فضاء السرد فيمنحها ملامح جديدة وهوية مغايرة نلمحها عبر تغييب تفاصيلها الجسدية وتأثيث ملامحها النفسية الباذخة الجمال (كيف تخيط من لفائف الالفاظ عقوداً وثيابا وطيورا تطلقها في الفضاء وتقيم مهرجانات من الالوان والزغب) ؟! بل اننا نشهد انبعاثأً طريفاً لهذه الكينونة من راهن يرث الماضي ويتفتق عن آت شفيف (هناك تنفتح عريشة العنب للكلمات الكبيرة ، وهواجس للامة ) بل ان المتن الشعري وعبر هذا التراصف المدروس لمعماره الفني يصير بلورة سحرية تعكس رؤى بدر وثريا الرومانسية الحالمة بغد يتفتت فيه النفي والمصادرة (سكاكين الغزاة) ، ولايخفى وعي المخيال السردي في التسمية الشعرية لشخصيات الرواية فبدر يغرم بثريا وكلاهما يتحركان صوب سماء ملونة بفراشات الانعتاق والنور .
وتعكس مرايا الصور الشعرية في المشهد رقم (3) (15) خرائط الحزن التي صيرت بلور المكان بنية تاريخية تؤشر الملحمة الفريدة التي صاغها انسان المكان تحت فضاءات مكفهرة . تأمل تحديداً صوت السارد وهو يرقب احساسات محمد العواد الذي تحرك به القارب من المحرق الى المنامة – حيث اخذه الرصيف الى حشد السفن المجنونة (على حد تعبير الرواية)- :
(خشب يرقص في الموج والنار ، واجساد محروقة عارية تخفي الصواري والغيم والحبال ، افواه تصرخ وتحرك عمارات الحطب والمسامير ، وتجعل البحر يتقلقل وينتفض ويتطاير ، الاف الرؤوس تطلق الريح في الاشرعة ، والاف النسوة بثيابهن الملونة يخفين زرقة البحر ويصدحن بعويل الاغنيات وهي تغدو ايد ممدودة لرجال يذوبون في المياه .الريحان المتناثر في الاجواء وعيون النسوة وراء البراقع والعباءات وصدى نشيج الصواري)
مما لاشك فيه ان هذا المشهد التراجيدي المكرور قد فرضته جغرافية المكان الذي شهد طقوس الرحيل والبكاء (افواه تصرخ وتحرك عمارات الحطب والمسامير + نساء يصدحن بعويل الاغنيات + صدى نشيج الصواري) لتتخلق من هذه الحناجر المنتحبة سمفونية طريفة للحزن تتماهى فيها نبرات الذات بالمكان . واذا كان الروائي عبدالله خليفة وعبر عناقيد الصور الشعرية المتخمة بعذابات الانسان قد ركز على سيرة المكان لانه راو مشارك ، فانه قد استثمر الطاقة الهائلة للذاكرة التي تقتبس ترميدات الانوات المتحركة على مساحة النص (خشب يرقص في الموج والنار ، اجساد محروقة عارية + تجعل البحر يتقلقل وينتفض ويتطاير{شرراً }+ عمارات الحطب) لتوقد مناطق السرد وتخطف فضاءها لتولد فضاء شعرياً مترعاً بالتماعات الصورة الفنية المتخمة بفجيعة الغياب.
ويصوغ استهلال المشهد رقم(60) (16) من القفال لوحة شعرية سيرية وثائقية تؤرخ للمكان و افقاً مرآويا تتمرأى فيه عذابات المكان وانواته (الذات المترقبة والذات المبعدة كرهاً عن الاحبة والوطن ) وعبر تقصي تفاصيل لهفة فيّ وولدها علي لقفال سعيد المناعي من رحلة الغوص المهلكة :
(عادت السفن ، واشرعتها ممتلئة بالهواء والامل . حمامات ترفرف من فوق الشطآن ، وزغاريد تندلع من القلوب الظامئة , اجساد شرهة لنسوة يقتحمن المياه بالنار والريحان . ثلل الرجال , اشباه العراة ، التي نسيت بعضاً من ضلوعها وعيونها وايديها في ادغال المياه ، تلتحم باغصان النسوة المورقة ، وعشب الاولاد والبنات الوافر.)
يشتبك في بنية هذا المشهد الضاج بالحركة والعنفوان الشعري بالسردي فنستشعر وعي الذات الساردة بمحنة الغياب لذلك فانها تقوم بتشغيل اكثر من ذاكرة (ذاكرة المكان + ذاكرة التلقي) لبلورة سيرة شعرية خاصة بالمكان وبالقفال تحديداً بوصفه مهيمنة اجتماعية وثقافية ، فتحشد الرموز المكانية المتحركة بين اقصى السلام والبراءة (السفن حمامات ترفرف فوق الشطآن) واقصى الهلاك ( ادغال المياه) بل ان الذاكرة الاسطورية للخطاب السردي تجد في هذا القفال تموز جديد ينبعث للحياة كل اياب بقرينة الخضرة التي اجتاحت النفوس ( ثلل الرجال … تلتحم باغصان النسوة المورقة ، وعشب الاولاد والبنات الوافر ) زد على ذلك ان المشهد الشعري يعكس من طرف خفي احساسات مزدوجة من طقوس البهجة واللوعة بهذه العودة التموزية (وزغاريد تندلع من القلوب الظامئة , اجساد شرهة لنسوة يقتحمن المياه بالنار والريحان .) لتتكشف قدرة السرد على ان يمسرح المتن الشعري وان ينفذ الى بنيته الغاطسة فنحدس زمنين: (تقويمي {مدة رحلة الغوص} ونفسي {زمن الترقب والمكابدة}) ونسمع اصوات الانوات المبتهجة التي يختلط لديها الواقع بالحلم والممكن بالمتخيل لتتأكد لنا قيمة ما يقدمه التصوير الشعري للمتن الروائي دون ان تنطفىء جذوة السرد تحت تشكيلاته الانزياحية .
وتلمح اوراق التأويل في استهلال المشهد رقم (50)(17) لوحة شعرية اخرى للسفن تتمحور حول مكابدات البحارة وعذاباتهم قارن الآتي:
(كانت السفن تنام على سرير الماء الهادىء الناعم ، متنائرة عند ينابيع الماء الحلو واللؤلؤ، استكانت بعد عناء النهار الشمسي الثقيل ، ولبست عباءة الليل ، وانهارت على الخشب والابسطة اللاسعة ولعاب المحار والحكايا القصيرة . )
يكشف هذا المشهد الشعري الحالم المشتغل على كل الحواس طبيعة الانساق الاجتماعية المتحركة بين اقصى الاستبداد والتحجر(ملاك السفن) وبين اقصى الاستسلام والانكسار(البحارة) والتي غلفت مجتمع الغوص انذاك بعتمة تليق بعذابات الفرد الواقع تحت شراسة الحرمان(18) مثلها مثل (عباءة الليل) المسدلة على زمن المكان (السفن ) الشاهد الوحيد على تلك المعاناة (النهار الشمسي الثقيل ) وطبيعة المحصول الذي يتم استحصاله (خشب + ابسطة لاسعة + لعاب المحار + حكايا قصيرة). وتتأكد حركة المخيال السردي صوب الفن التشكيلي لاكساب اللوحة الشعرية بعداً تصويريأ مضافاً عبر المناغمة اللونية بين السواد (عباءة الليل ) والبياض (نهار شمسي + اللؤلؤ) وجمالية المد البصري للبحر(سرير الماء الهادىء الناعم) .وهي حركة موفقة تكثف التفخيخ الدلالي وتعلن عن التضاد الحاد بين البنية الحاضرة المنطوق بها للوحة المكان الزاهية المزركشة بالنعيم (كانت السفن تنام على سرير الماء الهادىء الناعم ، متنائرة عند ينابيع الماء الحلو واللؤلؤ) وبين البنية الغاطسة المسكوت عنها للذات المتخمة بالوجع والاستلاب ، وقد نجح الفعل المستعار (انهارت) في ان يوقد بمخيال التلقي ملامح الوهن.
• النسق الغائب :
تشكله البنية المسكوت عنها والمرتهنة خلف استار المتن الحاضر وهي تراهن على براعة المخيال السردي في تشغيل الذاكرة الشعرية للتلقي حين تخلق موازنة ترميزية بين بطل الرواية محمد العواد وعنترة بن شداد في اكثر من موضع في الرواية (19) مازجة بذلك الماضي بالحاضر ومستشرفة الآتي وكأن شخصية عنترة تتشكل في اللحظة الراهنة ، فنشاهد هذه الكينونة المنبعثة من عمق التاريخ وهي تنفض عن كاهلها عذابات التهميش بسبب من لون البشرة المتسلل من الام العبدة لترسم بؤرة التوتر الدرامي للرواية الذي يخضع عنترة بطروحاته المعاصرة للسياقات الاجتماعية والثقافية والمعرفية بل قل والزمكانية لنلمح التحولات الطريفة في هذه الذات المتسللة من عمق الذاكرة الشعرية فنستكشف استعاضة محمد العواد السيف بآلة العود واستعاضته عن الفروسية في سوح الوغى بمغامراته النسائية واستبداله لقب عنترة الفوارس بلقب محمد العواد بل ان المخيال السردي يرسم صورة محايثة يتداخل فيها موت عنترة غدراً في معارك القتال بمصرع محمد العواد غيلة جراء مغامراته النسائية . كما نلمح في مرات عديدة امتزاج عذابات محمد العواد بمكابدات عنترة وامتزاجاً في نبرات صوتيهما توكيداً على النموذج الانساني المتكرر وسرمدية المكابدة السيزيفية ، وبنظرة متأملة نستشعر بان مي (معشوقة محمد العواد) هي عبلة معاصرة لم تخضع للاعراف الاجتماعية – كما خضعت على اقل تقدير فيّ – فكانت صورة للمعشوقة المفرغة من محتواها الفكري والروحي لتبقى متمحورة حول فروسيتها في خرق النسق الاجتماعي والقيمي .
وخلاصة القول ؛ فان المخيال السردي للروائي عبدالله خليفة قد صاغ في رواية الينابيع شذرات شعرية يمكن تسميتها تجاوزاً بقصيدة السرد – التي هي البنية الشعرية المهربة في حقائب الرواية _ وهي قصيدة مرنة مرونة الفن الروائي تسهم بشكل او باخر في تصعيد الايقاع السردي فهي قد تكون شذرة شعرية يتكيء عليها المجال السردي فنشهد وعبر التكثيف الشعري للخطاب الروائي ملامح الشخصيات وحركة نموها وتفاعلها مع الحدث والفضاء الزمكاني ونسمع احتدام الحوار …، وقد يتسع جسد هذه القصيدة ليشمل البنية الروائية برمتها لنكون والحالة هذه ازاء قصيدة مشفرة تنأى بالمتن السردي عن التقريرية والخرائط الايحائية الجاهزة . انها باختصار خاصية صياغية تقف على تقنية انخطاف اللغة السردية وصيرورتها متناً شعرياً باذخ الدلالة .
الهوامش :
(*) : عبدالله خليفة ، رواية الينابيع / الجزء الاول ، اتحاد كتاب وادباء الامارات ،الشارقة 1998 . رواية الينابيع / الجزء الثاني ، اتحاد كتاب وادباء الامارات ، الشارقة 2000
(1) : سوزان بيرنار ، قصيدة النثر من بودلير الى ايامنا ، ترجمة : أ0د0زهير مغامس ، دار المأمون ، بغداد 1993 ، ص161 ومابعدها
(2) : عبدالله خليفة ، ج2/ ص 136
(3) : نفسه ، ج1/ ص 38
(4) : نفسه ، ج1/ ص 144
(5) : نفسه ، ج1/ ص 109
(6) : نفسه ، ج2/ ص 50
(7): عرف كارل غوستاف يونج الاسقاط الفني بانه ((العملية النفسية التي يحول بها الفنان تلك المشاهد الغريبة التي تطلع عليه من أعماقه اللاشعورية ، يحولها إلى موضوعات خارجية يمكن أن يتأملها الآخرون )) ويشير الدكتور مصطفى سويف الى تماهي الاسقاط والترميز في قوله : ((بان الإسقاط هو عملية لا غنى عنها في فهم عملية الامتصاص(Introjection) حيث يسكب الشخص احاسيسه في شيء ما ، -أي يموضعها- وبذلك يتسنى له أن يفصل بينها وبين الذات ، وبقدر ما يكون هذا الشيء رمزا فان صاحبه يكون مبدعاً عبقريا )) . من الواضح أن ما يهم هذه الدراسة هو الاسقاط الفني – إذا صح التعبير – وهو الذي يفضي إلى ترميز الاشياء (الحية والجامدة) التي يسقط عليها المبدع احساسات متباينة فتستحيل رموزاً مشفرة متوترة لا حصر لها . وللاستزادة ينظر : د. مصطفى سويف ، الأسس النفسية للإبداع العربي ، دار المعارف ، ط3 ، القاهرة 1969م ، ص203 ومابعدها , كما ينظر كتابنا : العرش والهدهد ، مقاربات تأويلية لبلاغة الصورة في الخطاب اليمني المعاصر ، مؤسسة العفيف الثقافية ، صنعاء 2003 ، ص 150
(8) : نفسه ، ج2/ ص 51
(9): : نفسه ، ج1/ ص 92
(10) : نفسه ، ج2/ ص 184
(11) : نفسه ، ج1/ ص 145
(12) : نفسه ، ج2/ ص 92
(13) : نفسه ، ج2/ ص 92
(14) : نفسه ، ج2/ ص 17
(15) : نفسه ، / ص 15
(16) : نفسه ، ج1/ ص 212
(17) : نفسه ، ج1/ ص 17
(18) : للاستزادة ينظر: د. ابراهيم عبدالله غلوم ، القصة القصيرة في الخليج العربي ، المؤسسة العربية وللدراسات والنشر ، ط2، بيروت 2000 ، ص47
(19) : سنتلبث في دراسة لاحقة عند خصائص هذه النسق بالتفصيل .

 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 14, 2023 01:25