المتن الشعري في رواية الينابيع للروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة

كتب /الدكتورة وجدان الصائغإذا كان الخطاب الشعري المعاصر قد استجلب وبوعي منه التقنيات السردية ليخلق له هيكلية شعرية جديدة يتماهى فيها الشعري بالسردي نائياً بذلك عن الغنائية المباشرة ، فان الخطاب السردي (القصصي والروائي) لم يكن بمنأى عن الترسيمات الجغرافية الجديدة لحدود الأجناس الأدبية وعبر تفكيكه البنية التحتية للنص السردي واعادة صياغتها مستثمراً إمكانات المتن الشعري بانزياحاته المشفرة وترميزاته الموحية ، وهي ظاهرة ليست مستجدة في أدبنا العربي فمنذ العصر الجاهلي نلمح رغبة الناثر القديم في ترصيع متنه النثري بشذرات شعرية سواء أكانت صياغية أم مقتبسة من الرصيد الشعري الضخم لخزيننا الثقافي ومثل هذا ينسحب على الأدب الأوربي إذ اعترف موليير صراحة بوجود هذه الظاهرة في نتاجه الإبداعي حين قال مستنكراً تساؤلات النقاد في هذا الشأن : ( إنني آخذ ما يلزمني هنا حيث أجده سواء في الشكل الموسيقي أو الشعري أو سواهما!) وهو ما يؤكد حقيقة راسخة هي أن النص الإبداعي – وينطبق هذا على الشعري والسردي معاً- هو بلورة تشكل خلاصة الخزين المعرفي الإنساني وهي خلاصة لا تعرف القوالب والتقنين الاجناسي الصارم. وان الناظر في راهننا الثقافي سيشهد بالضرورة استمرار هذه الإيقاعية اعني( اشتباك الشعري بالسردي ) وعبر حركة المتون الشعرية ولاسيما قصيدة النثر صوب المنظومات السردية مغدقة على جسد النص السردي التماعات الصور ودهشة الترميز مع احتفاظ كل من الجنسين الأدبيين باستراتيجاتيه التكتيكية وهو ما جعلنا نجزم بان استدعاء الصورة الشعرية يسهم في تنامي الإيقاع الروائي وتفعيل نغمية السرد . وهو ما يصح تماماً على نخبة من النتاج الروائي الذي يطرح وفقاً لتقنياته المدهشة إشكالية مفادها :هل يمكن أن تكون الرواية في زمن الرواية هي البديل الأجمل عن المطبوع الشعري ؟ وهل يمكن أن نخضع الروائي للقب شاعر حين نسترجع ما قالته سوزان بيرنار وعلى لسان فكتور هيغو: (فليذهب الشاعر إذن حيثما شاء ، ويعمل ما يحلو له ، هذا هو قانونه … وسواء أكتب نثرا أم شعرا ، سواء أنحت في المرمر أم صب تماثيله من البرونز … فهذا رائع ، والشاعر حر)(1) ؟ كل هذه التساؤلات وسواها قفزت إلى ذاكرة التأويل وهي تتأمل تضاريس البنية السردية لرواية الينابيع بجزأيها الأول والثاني للروائي البحريني عبدالله خليفة إذ يستوقفك مستويان ؛ أحدهما مهيمن ينتمي إلى تقنيات السرد التي تؤثث الفضاء التدويني للرواية وتخضعه لآلياتها فتشذره لغة البياض ترقيمياً إلى ثلاثة وستين مشهداً في الجزء الأول من الرواية والى واحد وستين مشهداً في الجزء الثاني منها ، ويضيء المستوى الثاني – الذي نحن بصدد تعقب ملامحه- التحولات الشعرية للمحكي السردي حيث يستدعي عبدالله خليفة كل تقنيات قصيدة النثر ليبلور من تفاعل الشعري بالسردي نصاً ينفتح على كل التأويلات ، ولعل عنونة الرواية ( الينابيع) تضئ هذا الشغف الصياغي إذ يمكن أن نستشعر زخم الإيقاعات المنفلتة من ذاكرة هذا المحمول اللفظي فثمة إيقاع الخصب المشتغل على تلوين الأمكنة بالخضرة واليناعة ، وإيقاع الماء المستمد من حركة الينابيع وتدفق جريانها وإيقاع الحياة وإيقاع… , وهي تتآزر لتشكل بلورة مشفرة تحيل إلى أمكنة ترميزية معممة تتحول شعرياً لتشكل جغرافية مكانية متخمة بالمفارقة والتأويل . زد على ذلك أن المخيال السردي قد اخضع الصياغة الشعرية لنسقين أحدهما حاضر والآخر غائب .
• النسق الحاضر:
وتشكله خرائط الصور الشعرية المتخلقة من أقصى الإيحاء والترميز والمتحركة داخل الفضاء التدويني للرواية لتؤشر تحولات اللغة السردية ووفق منطلقات المدرسة التصويرية متوناً شعرية إذ لا شعر إلا بوجود الصور المكتنزة بالدلالة. لاحظ مثلاً استهلال المشهد رقم (39)(2) وحيرة أوراق التأويل إزاءه ؛ أهي قبالة قصيدة نثر تفضح تساؤلاتها المريرة راهن إنساني شرس ملبد بالإلغاء ؟! أم قبالة متن سردي يعكس سريان المونولوج المحموم لعلي وهو ينوء تحت كوابيس الحمى ، قارن الآتي :
(لماذا الصمت؟ لماذا يتحجر الرجال في الغرف الخلفية ، وتتحول العصافير الى حيات ، وتذوب كلمات الأنبياء في الطين ، ويكون البشر كالماعز المذبوح ؟ ولماذا تغدو اللآلئ والدفاتر مشانق؟
لماذا يتهاوى الجسم الممتلئ بالدم والسحر فوق القضبان والأرصفة والالحفة ؟ يا سيدي الإله ، يا مطر الأجوبة، أغثني ، رأسي تنفجر، ولعابي رماد ، وعيوني جمر! انهمر مطر ، وسمع الأقدام تخوض والقوارب تسبح في نزيفها الأبدي ).
إن صعوبة تحليل المتن الشعري المرتبط بالسرد تكمن في عدم قدرة التأويل على الانطلاق بعيداً عن فضاءات الخطاب الروائي كما هو شأن التأويل الشعري البحت إذ إن الشذرة الشعرية وان بدت متألقة إلا أن أوراق التأويل تبقى وبوعي منها خاضعة لاشتباك التقنيات السردية ، فهذه التساؤلات المريرة – التي وجهها علي {الابن غير الشرعي لمحمد العواد} للشيخ سعيد زوج أمه فيّ ظناً منه انه أبوه الحقيقي – تخرج من دائرة الاستفهام لتدخل دائرة المناجاة المحمومة الملتهبة وهي تتحرك بين القيمة المحسوسة (الأب) الراحل والقيمة المجردة (الذات الإلهية) وهي أيضاً تتحرك بين الهم المحلي والهم الإنساني ، إنها باختصار تعكس تراجيديات الإنسان المرهف المسكون بالفكر الوقاد المرموز له بـ(الدفاتر واللآلئ ) واحتضاراته المتوالية على بوابة الزنازين ( الغرف الخلفية) و(المشانق) حيث الانوات الزائفة المتحجرة (تتحول العصافير إلى حيات) ، وربما أضاء المخيال السردي (لعابي رماد , وعيوني جمر) مكابدات بروميثيوسية جديدة وعذابات معاصرة مستجلبة من الرغبة في فيقاد عتمة الآخر باحتراقات الأنا المتوحدة مع الهم الجماعي ، زد على ذلك أن انهمار المطر بذاكرته القرآنية الحافلة بالغضب والسخط لم يكشف عن استجابة ميتافيزيقية لتساؤلاته فحسب وانما كثف من عتمة الراهن وكابوسية اليومي المعاش حين أصغينا إلى صوت (الأقدام تخوض والقوارب تسبح في نزيفها الأبدي) لتتأكد الحركة المفرغة في دائرة المكابدة .
وحين يشاء الخطاب السردي في المشهد رقم (10)(3) أن يعكس احساسات محمد العواد وهو يرقب حدث توافد البسطاء على الميجر ، فانه يرسم من التحولات التي طالت المكان واناسيه صورة سوريالية (غرائبية) عرت الراهن وصورت تناقضاته المذهلة ، قارن الآتي:
(تدافعت الألسن تنسج خيوط عناكب ودم ، واستحالت المدينة فجأة مقبرة كبيرة وأعشاش ومسلخ ، وبدت البيوت الكبيرة العملاقة وسط المدينة وكأنها حيتان طلعت من تحت المياه ، وتلألأت بروجها ، ونوافذها باللؤلؤ المشتعل والأسنان والدم… الوجوه الساكنة الغافية ، والأرجل العصي المرتجفة ، وأجساد الريش المندفعة في أي ريح … استحالت فجأة إلى سلاسل من حديد وتنانير لاهبة ، وراحت تنضج خبز الألم).
تتضح البنية السوريالية للوحة في اكثر من مستوى ؛ فثمة تضخيم الأمكنة (بدت البيوت الكبيرة العملاقة وسط المدينة وكأنها حيتان طلعت من تحت المياه) وتغليفها بغلالة مرعبة (وتلألأت بروج البيوت ، ونوافذها باللؤلؤ المشتعل والأسنان والدم) والغلو في تصوير الانوات المستلبة (والأرجل العصي المرتجفة ، وأجساد الريش المندفعة في أي ريح) وهي تحيل مجتمعة إلى سخرية مريرة من واقع مأزوم وراهن ملبد بقهقهات الحزن(خبز الألم) إذ أن فيه ما يضحك ويبكي معاً وربما لان هناك قرابة غير معلنة بين الهلع والضحك – على حد تعبير لوي فاكس – زد على ذلك أن هذه اللوحة الملونة بحمرة طريفة تعكس تفاصيل الوجع ومساحاته الشاسعة المستجلبة من ( الألسن تنسج خيوط .. دم + تلألأت بروج البيوت ونوافذها باللؤلؤ المشتعل والدم + تنانير لاهبة ) قد أضاءت بنيتها الغاطسة زمناً وشخوصاً وحواراً _ مونولوجاً محموماً وديولوجاً ملبداً بالخذلان _ بالإضافة إلى تفاصيل الحدث الذي ادهش محمد العواد فبقي حائراً إزاء متوالياته المذهلة. ويمكن القول بأنها أضاءت أيضاً موقع السارد وقربه من الحدث ، وبعبارة أخرى فإننا يمكن أن نلمح حركة عينيه وهو يخبرنا به ويعطينا تأويلاً مقنعاً لما حصل ويحصل معلناً عن وجهة نظره .
وتشكل خاتمة المشهد رقم (42)(4) بؤرة تنويرية يكثف من خلالها المحكي النصي التنامي الإيقاعي للحدث الذي يخفي تحت أستاره صراعاً تاريخياً دامياً بين صوت القهر الجماعي وصوت التحرر والانعتاق ، تأمل كيف وظف المخيال السردي التقنية التشكيلية وهو يصوغ صوراً شعرية تكثف ملامح الانكسار وفضاءاته الدامية لنكون قبالة مرايا صقيلة تعكس ملامح الشيخ ناصر السعد وهو يتحسس فجيعته بزوجته التي اتسقت إيقاعات صوتها مع إيقاعات الحدث الخارجي حين قررت تركه بعد أن غادره صولجان الجاه والسلطان:
(اختفت كأنها لم تكن . كلمات رهيبة قصيرة انفجرت ثم وضعت في يديه أشلاء العمر والأبناء . مطر غزير من الرماد انهمر من السقف والزمان ، وبدا ملتحما بأشباح ووجوه مكسورة الأنوف ، وخيول غارقة في الدم والأحزان ) .
تفضح الصور الشعرية المتخمة بالهزيمة والاغتراب عمق مكابدات الذات الواقعة تحت شراسة الحدث ، ولعل مخيال التلقي يلمح الحرائق التي لفعت الأنا المنكسرة وهي تتحرك من داخل الذات المعطوبة إلى العالم الخارجي لترمد الزمن (أشلاء العمر ) وترمد الأمكنة الأليفة (سقف ) . وبنظرة متأملة نستكشف توق النص في تكثيف الأجواء الكابوسية وتهشيم مرايا المكان وعبر خلق طوفان عاصف(مطر غزير من الرماد انهمر من السقف والزمان) يمحق كل الأشياء الجميلة ويغيب ملامحها ، وهو ما يقترب كثيراً من فكرة جلد الذات وقد عزز هذا التأويل التحولات المريعة لهذه الشخصية التي كانت متوجة بالعز والفخار (وبدا ملتحما بأشباح ووجوه مكسورة الأنوف ، وخيول غارقة في الدم والأحزان) . إن هذه الأنا تستكشف عمق عذاباتها في تمرئيها بالمكان الذي شهد مباهجها ولحظات زهوها وهو أسلوب حكائي يمكن تسميته بالسرد الاستبطاني الذي يفضح الموقف الفلسفي للرواية إزاء هذه الكينونة بوصفها وعلى اقل تقدير الأنموذج الشرقي المكرور للذات المتألهة المهوسة بشهوة السلطة .
وتضئ الصورة الشعرية في المشهد (32)(5) مكنونات مي (معشوقة محمد العواد وزوجة الشيخ حامد) هذه الشخصية المولعة بالثراء والرغبة العارمة في الاكتمال بالآخر ، ويمكن القول إن هذه الشخصية هي بؤرة العمل الروائي ذا تطل علينا بوصفها جسداً أنثوياً يثير مخيلة محمد العواد ويدعوه في النهاية للمقامرة بحياته , تأمل كيف وصف المخيال السردي مكابدات مي بعد أن أصبحت في بيت زوجها روحاً موؤدةً و جسداً أنثوياً عاجزاً عن استقطاب الزوج الغارق في نزواته النسائية :
( ما أقسى هذا الليل الهابط بمساميره الصدئة على جبينها ، ينغرز ببطء ، وينشر رماده وملحه في عيونها المفتوحة للصباح البعيد ، القصر عبد اسود في الجزيرة الخرساء ، وليس لها إلا الحكايا واشعار الجواري).
إننا في هذا المقتطف السردي قبالة متن شعري يحايث احساسات الأنوثة بالاغتراب المكاني (القصر عبد اسود+ الجزيرة الخرساء) والزماني (الليل بمساميره الصدئة + الصباح البعيد) بل والنفسي المستجلب من رغبة النص في ترميز تطلعاتها (ينشر رماده في عيونها + مسامير الليل الصدئة في جبينها) ليخلق منها شهرزاد جديدة يخضعها السياق السردي للثقافة الفحولية وللعبة الموت اليومي فتستجير بـ (الحكايا واشعار الجواري) لتخفف من غلواء الترقب والانتظار.
وقد تكون البنية الشعرية شفرة سردية تتحرك في اكثر من اتجاه يضئ الحدث تارة وملامح الشخصيات وأمكنتها أخرى ، لاحظ كيف وصف استهلال المشهد رقم (13)(6) التقارب النفسي بين مي زوجة الشيخ حامد ومحمد العواد على الرغم من الفاصل الاجتماعي والمكاني الذي يحول دون تحقق حلم اللقاء بينهما :
(نائيان عن بعضهما ، قريبان في لهبهما وأنفاسهما ، والبدر يصعد في الشرق معشوشباً بأغصان غيوم ) .
تتكئ هذه الومضة الشعرية على تقنية الإسقاط الفني ( active- projection)(7) حين تخلق متوازية ترميزية بين (محمد العواد + مي) و(البدر + أغصان الغيوم) إرهاصاً بقرب تفتت الحواجز المكانية بين العاشقين وربما نستشف من التشفير الاستعاري (معشوشباً بأغصان الغيوم) الحركة المراوغة التي ستوقع البدر(محمد العواد) في شرك الغواية الجسدية المهلكة فيسقط صريع شهوته ثم صريع رصاصات ابن مي في خاتمة الرواية . زد على ذلك إن هذه الصورة البصرية المركبة(البدر يصعد في الشرق معشوشباً بأغصان غيوم) تحيل إلى تألق محمد العواد في سماء الغناء والتطريب حد تماهيه مع البدر المتوج بأكاليل الغار ، وقد أضاءت ذاكرة الفعل (يصعد) طبيعة هذه الحركة الرشيقة صوب البزوغ .
ومن المفارقات الدلالية التي تطرحها النزعة الشعرية المهيمنة ؛ ارتكاز المشهد نفسه الى الغيوم والقمر – في موضع آخر(8) – بوصفهما بؤرة ترميزية تحيل إلى خرق المقدس والمحظور ومهمازاً مشفراً يؤشر حركة مي المخاتلة للقاء بمحمد العواد نزيل بيتها وضيف زوجها الشيخ حامد وهي حركة متخمة بالهوس الجسدي الذي سيوقع الاثنين (محمد ومي ) في فخ الغواية المهلكة :
(هي تمشي الآن في أحشاء الغيوم في السماء ، ونثيث القمر الضوئي ،ورذاذ المطر الأول ، وهو يقبل قمم النخيل ويتساقط على صدر الأرض العطشى . كأن ثيابها تتسرب منها ، وجوعها يتفجر برقاً ، وسيوف من الضوء تدخل فيها والماء الطاهر يغسلها ويقبلها وكانت كل الردهات منطفئة والأبواب متحجرة ولم يزل صخب العود مرافقاً للهواء ولخلايا الجدران ، يسحبها من صدرها نحو تلك الغرفة كوة الحريق.)
تطرح هذه الصياغة الشعرية التي جاءت بضمير الغائب وعبر وعي السارد أمام مخيال التلقي شفرات ترميزية تدفع بنية الحدث برشاقة إلى الأمام فأما الشفرة الأولى (هي تمشي الآن في أحشاء الغيوم في السماء) فإنها تستبطن طبيعة هذه الشخصية الحالمة المتمحورة حول مباهج الجسد وغواياته المهلكة , وتعكس الشفرة الثانية (ورذاذ المطر الأول ، وهو يقبل قمم النخيل ويتساقط على صدر الأرض العطشى) زمنين متصادمين ؛ أحدهما منصرم شهد أوج العلاقة بين محمد العواد ومي وقد فضحت الصورة الشعرية الممزوجة برذاذ المطر الأبعاد الجسدية لهذه العلاقة من جانب ومن جانب آخر فإنها أشادت بها حين قرنتها بـ(قمم النخيل) المتخمة بالجمال والكبرياء حين كانت مي حرة طليقة . واما الزمن الآخر فهو الراهن المعاش الملبد بالعطش الذي يستعيد بنهم تلك اللحظات الفارطة ويتوق لاستجلابها على الرغم خروقاتها للنسق الاجتماعي . وتفضح الشفرة الثالثة (كأن ثيابها تتسرب منها ، وجوعها يتفجر برقاً) الشبق الجسدي لمي الذي صيره النص قرين البرق الخلب بل إننا نستشعر سخرية المخيال السردي من هذه الرغبة (كأن ثيابها تتسرب منها) بغية إدانتها من طرف خفي . وترهص الشفرة الرابعة (سيوف من الضوء تدخل فيها + الغرفة كوة الحريق.) بالخاتمة الدموية للحدث الذي سيطيح بالكينونتين (مي ومحمد العواد) معاً.
وعلى الرغم من انشغال المشهد رقم (26)(9) في تكثيف ذروة التصاعد الدرامي بسبب من تخلي محمد العواد عن فيّ ( الفتاة الملتحمة بالمكان وفطرته ) والمتورطة بعلاقة غير شرعية معه بعد أن أحست ببوادر الحمل ، فان النسق الشعري قد اطل في اكثر من مفصل ، لاحظ مثلاً كيف رصدت مرايا السرد احساسات الأنوثة المتخمة بالخذلان والرعب من التحولات الكابوسية للأمكنة :
(كانت تتقطع دموعا ويدا وثديا، كل ينابيعها المحبوسة بإقفال الأمل ، ضخت فجأة كل الوجع والرعب ، وصارت المدينة والسماء كلها حصى …)
تفضح ذاكرة المحمول اللفظي(الحصى) العقاب السماوي للخطائين (الرجم) ويفلح المخيال السردي حين يجعل من الحصى مكاناً مغلقاً يكبل هذه الكينونة لنستشعر حركة الرجم من كل الجهات (السماء + المدينة) توكيداً لغياب الرحمة والعدالة ورغبة من النص في ترسيم خريطة للمكان المعادي الذي يمارس على الذات الأنثوية شراسته .
وتفضح البنية الشعرية لاستهلال المشهد رقم (54)(10) عذابات علي بعد غياب أمه (فيّ) المفاجئ (هذا الجسد الأنثوي الجميل الذي كان محشوراً بين رجلين أحدهما شرعي(الشيخ سعيد) والآخر معشوق خارج النسق الاجتماعي (محمد العواد/ والد ابنها ) بحادث غامض يتأرجح بين الدهس المعنوي (الاغتصاب) والدهس الجسدي (حادث سير ) حيث تبقى لغزاً مشفراً قابلاً لكل الاحتمالات وتبقى جرحاً فاغراً في ذاكرة ابنها (علي ) تأمل ما أورده المحكي السردي منعكساً على وعي هذا الابن المهشم تحت معاول الفقد والغياب المباغت:
(هذه مرايا الريح ، ووجوه الطواويس والأقنعة ، من يتكلم في الماء المقفر من الأعشاب والصوت؟ كل لحظة يفتح الكفن يتفجر وجهها المرتعب. أية أصابع هذه التي أطبقت على جسدها الهش ، وغيصت السكاكين في حوضها الممتلئ بالماء والعشب ، لماذا اخذوا أمي مني ؟… لماذا جعلوني اصرخ هناك وأهز المدينة واعوي مثل ذئب يأكل جراءه؟ … لماذا وجدت السرب مثل البيت العفن الذي لا يفقس سوى الحيات؟ لماذا أصبحت لي عدة وجوه وأدراج مليئة بالسكاكين والأشباح؟… الروح تجري في الأزقة تتسول الدم ثم تحترق في أعمدة الدخان والزمان).
لابد من الإشارة إلى أن هذا الاستهلال المرمد قد شكل أفقاً مرآوياً نلمح من خلاله عذابات علي واحساساته المتناسلة بالشتات بعد غياب الام الرامزة للانتماء والخصب (حوضها الممتلئ بالماء والعشب) . فـ(مرايا الريح ) قد شكلت مهمازاً مشفراً يخفي في بنيته الغاطسة ألواناً من الدمار والخراب المادي – الذي ألقى بظلاله على المكان الأليف (البيت ) – والخراب المعنوي المستشف من تشظيات علي وتساؤلاته المريرة الملفعة بالتمرد على وجوه الطواويس والأقنعة ( الزهو الأجوف + الزيف) – بل أن الواو العاطفة قد أفلحت في تكريس المواجهة بين مرايا الريح وهذه الوجوه إشارة إلى غياب الجمال والقيم في ظروف تعمد النص إشراك التلقي في صياغة تفاصيلها والإجابة عن عناقيد الأسئلة الباحثة عن هوية الجناة المجهولين (أية أصابع هذه التي أطبقت على جسدها الهش ، وغيصت السكاكين في حوضها الممتلئ بالماء والعشب) أضف إلى ذلك أن أوراق التأويل تستشعر نمواً في شخصية علي التي غدت متأرجحة بين الإحساس الشديد بالذنب والرغبة في جلد الذات (لماذا جعلوني اصرخ هناك وأهز المدينة واعوي مثل ذئب يأكل جراءه؟) وبين الرغبة في الانتقام من المجهول (لماذا أصبحت لي عدة وجوه وأدراج مليئة بالسكاكين والأشباح؟… الروح تجري في الأزقة تتسول الدم ثم تحترق في أعمدة الدخان والزمان) بل أن تساؤله (لماذا وجدت السرب مثل البيت العفن الذي لا يفقس سوى الحيات؟) يشكل ذروة الاغتراب النفسي والزمكاني.
ويستثمر المشهد رقم (43)(11) براعة التساؤلات الساخرة في تجسيد مرارة محمد العواد وهو يرقب سفينة الثائرين فارس والمزين تتوغل في البحر لتلقيهما في باخرة قصية تحملهما إلى المحيط – كما تورد الرواية- :
(ماذا فعلنا غير أغنيات وفرحة وصرخات وحصى مندفع نحو الخيول والحراب المفترسة ؟ ولماذا كل هذا ؟ والوطن جالس على مقعد التراب ، والأكواخ تطلق خيوط الزيت والدخان في رحلة الأسرة والتناسل والصمت ) .
يكثف هذا المتن المتخم بالانكسار عبثية الجهد المبذول (أغنيات + صرخات + حصى) باتجاه تغير خرائط العتمة والتشظي ( الخيول + الحراب المفترسة) وقد كرست (الأكواخ {التي} تطلق خيوط الزيت والدخان في رحلة الأسرة والتناسل والصمت) فضاءات الاغتراب عن الآخر الراضخ لسلطة التهميش والاستلاب والمنشغل بمباهجه الآنية المرموز لها بـ ( الأسرة والتناسل والصمت). إن الخط السردي المحايث للبنية الشعرية المتوترة التي كثفت دجنة الخيبة قد أخفى في حقائبه مجموعة من الأحداث الدامية الممنتجة والمتكئة إلى استباق وارتجاع وحذف وتأجيل وتوقف مقترنة بأشخاص وفضاء من الزمان والمكان . لنكون في مواجهة صورة كاريكتيرية ساخرة تقودنا سردياً إلى الحدث المغيب الذي يسبق اللحظة السردية الشاخصة التي شكلت أحد مرتكزات النمو في شخصية محمد العواد .
و يتأكد في استهلال المشهد رقم (25)(12) نجاح النص في استدراج التلقي إلى فراديسه السردية عبر هذه المواشجة بين الشعري بانساقه التي تكثف مساحة البوح وتمنح المتن ترميزاته المترامية الدلالة وبين السردي الذي يرقب نمو الحدث – حدث لقاء محمد العواد بفارس الشخصية الثائرة على رموز التهميش – وتفاصيل المكان الذي كان مسرحاً لعذابات فارس المبعد عن وطنه . تأمل كيف مظهرت البنية الشعرية ملامح الانوات التي ضج بها مكان اللقاء حيث كانا (يتسكعان في مدينة بومباي الهائلة الرائعة المخيفة . يجلسان في مرقص واسع) –على حد تعبير الرواية -:
فتنبثق فراشة من شرنقة ، امرأة مدهشة تتحول إلى سرب من الطيور المرفرف الصادح ، قدماها لعبة ضوء ، وخلاخيلها مطر ضاحك في الأزقة ، ويداها تقفان فجأة وسط الوجه مضمومتين كسيف يعطي العينين فرصة الفتك).
لا ادري لماذا أحسست بان هذا الاستهلال يمارس على أفق التلقي سرداً مزودجاً فهو وان كان من حصة السارد حين ورد بضمير الغائب إلا انه جاء مستبطناً لشخصية محمد العواد الذي لا يرى الأنوثة إلا جسداً مكتنزاً بالغواية الحسية ومتواليتها المبهجة . وهو ما أشارت إليه الرواية في شذرات رصعت الخطاب السردي واعطت انطباعاً واضحاً عن سجية هذه الذات الشغوفة بالمغامرات النسائية . إلا أن عودة سريعة إلى خرائط الصور الشعرية المحتشدة في هذا الاستهلال ستحيل إلى مراهنة النص على براعته في تشغيل ذاكرة التلقي على اكثر من اتجاه فثمة تشغيل لذاكرة الحواس (البصر { فراشة من شرنقة + سرب من الطيور المرفرف + قدماها لعبة ضوء + يعطي العينين فرصة الفتك}و السمع { وخلاخيلها مطر ضاحك في الأزقة + الصادح} واللمس{ ويداها تقفان فجأة وسط الوجه مضمومتين كسيف} والشم {الذي بقي محتجباً خلف السطور إذ لا يمكن أن نستدعي هذه اللوحة بمنأى عن العطور الشذية والبخور}) وتشغيل الذاكرة الجمعية عبر استجلاب لوحة متكاملة من الرقص الهندي (فتنبثق فراشة من شرنقة ، امرأة مدهشة تتحول إلى سرب من الطيور المرفرف الصادح) بل أن الدقة في وصف الرقصة(ويداها تقفان فجأة وسط الوجه مضمومتين كسيف يعطي العينين فرصة الفتك) يصل ذروته حين تكون تفاصيل الجسد الأنثوي الفاتك عتبة لامكنة أليفة منقوشة على جدار الروح (قدماها لعبة ضوء ، وخلاخيلها مطر ضاحك في الأزقة) لنكون قبالة متوازية إيحائية تتحرك بين دفتي الغياب والحضور فثمة سمفونية الجمال الباذخ الحاضر وسيمفونية الخصب الغائبة والمرتهنة في الامكنة الاثيرة (الازقة) الحالمة بالغبطة والنور.
ويتوغل المخيال الشعري الى تفاصيل استهلال المشهد (56)(13) ليضيء مكابدات الكتابة هذه الحرفة الملفعة باللهيب والاتقاد ، وهو يخفي تحت التماعات الصورة حركة السرد المشتغلة على استبطان شخصية الاستاذ فارس هذا المناضل الذي نفي الى الهند بسبب من مواقفه الجريئة ضد استلاب الهوية وعاد الى وطنه ليلقى نكراناً وعقوقاً ، قارن الآتي :
( كان يهذي مراراً ، ويصطخب ، وينتحب ، ويسمع اصواته وكأنه ينشر لحمه وعظمه ، يحمل ورقه الكثيف، الممتلىء بانفاس الدخان، ويلقيه في النار ، ويعود ليدق الصخور ثانية ، بآلة يسمع صوت تكسر سنها الحادة وحشرجتها الحديدية(
يشكل الوجع السيزيفي بؤرة المتن الشعري المتخم بالتشظي والاغتراب ازاء ذاكرة المكان المثقوبة والمعطوبة ، بل ان المتوالية التراجيدية تتكثف عبر لقطات ممتنجة تختصر عذابات الذات الملتزمة (كأنه ينشر لحمه وعظمه) التي تجد في الكلمة رسالة تنويرية ونقشاً لاينسى في ذاكرة الاجيال ، وربماعكس القلم (آلة يسمع صوت تكسر سنها الحادة وحشرجتها الحديدية) التفاصيل الوعرة لرحلة الكتابة ، اضف الى ذلك ان المقول السردي (ويعود ليدق الصخور ثانية ) يكشف ابعاد المحنة الزمكانية من جانب ومن جانب آخر يضىء ملامح الاصرار التي تقمع الاستسلام والهزيمة .
ويمنح المعطى الشعري المشهد رقم (3)(14) مخيال التلقي سانحة استكشاف شخصية بدر وعبر استرجاع المونولوج ملامح معشوقته ثريا شقيقة عادل خسرو لتكون نبراتها المهموسة شفرة شعرية تتمحور حول رؤى هذه الكينونة ، قارن الآتي :
(كيف تخيط من لفائف الالفاظ عقوداً وثيابا وطيورا تطلقها في الفضاء وتقيم مهرجانات من الالوان والزغب . هناك تنفتح عريشة العنب للكلمات الكبيرة ، وهواجس للامة ، وسكاكين الغزاة ، وعبق الطوفان ويجد الاصابع الصديقة الرفيقة والوجه المعشوق وارجوحة الحب والايام الحلوة ، وليس دقائقها الصغيرة في جيوبه ويملأ بضحكاتها اروقة صدره وايامه ، ولينمو في الليل والفراغ مثل زنبقة كونية )
اية انوثة شاء المخيال السردي ان يصنع ؟ واية لوحة شعرية اراد ان يشكل ؟! وهل اشتغل على استدراج ملامح فينوس ليخطفها صوب فضاء السرد فيمنحها ملامح جديدة وهوية مغايرة نلمحها عبر تغييب تفاصيلها الجسدية وتأثيث ملامحها النفسية الباذخة الجمال (كيف تخيط من لفائف الالفاظ عقوداً وثيابا وطيورا تطلقها في الفضاء وتقيم مهرجانات من الالوان والزغب) ؟! بل اننا نشهد انبعاثأً طريفاً لهذه الكينونة من راهن يرث الماضي ويتفتق عن آت شفيف (هناك تنفتح عريشة العنب للكلمات الكبيرة ، وهواجس للامة ) بل ان المتن الشعري وعبر هذا التراصف المدروس لمعماره الفني يصير بلورة سحرية تعكس رؤى بدر وثريا الرومانسية الحالمة بغد يتفتت فيه النفي والمصادرة (سكاكين الغزاة) ، ولايخفى وعي المخيال السردي في التسمية الشعرية لشخصيات الرواية فبدر يغرم بثريا وكلاهما يتحركان صوب سماء ملونة بفراشات الانعتاق والنور .
وتعكس مرايا الصور الشعرية في المشهد رقم (3) (15) خرائط الحزن التي صيرت بلور المكان بنية تاريخية تؤشر الملحمة الفريدة التي صاغها انسان المكان تحت فضاءات مكفهرة . تأمل تحديداً صوت السارد وهو يرقب احساسات محمد العواد الذي تحرك به القارب من المحرق الى المنامة – حيث اخذه الرصيف الى حشد السفن المجنونة (على حد تعبير الرواية)- :
(خشب يرقص في الموج والنار ، واجساد محروقة عارية تخفي الصواري والغيم والحبال ، افواه تصرخ وتحرك عمارات الحطب والمسامير ، وتجعل البحر يتقلقل وينتفض ويتطاير ، الاف الرؤوس تطلق الريح في الاشرعة ، والاف النسوة بثيابهن الملونة يخفين زرقة البحر ويصدحن بعويل الاغنيات وهي تغدو ايد ممدودة لرجال يذوبون في المياه .الريحان المتناثر في الاجواء وعيون النسوة وراء البراقع والعباءات وصدى نشيج الصواري)
مما لاشك فيه ان هذا المشهد التراجيدي المكرور قد فرضته جغرافية المكان الذي شهد طقوس الرحيل والبكاء (افواه تصرخ وتحرك عمارات الحطب والمسامير + نساء يصدحن بعويل الاغنيات + صدى نشيج الصواري) لتتخلق من هذه الحناجر المنتحبة سمفونية طريفة للحزن تتماهى فيها نبرات الذات بالمكان . واذا كان الروائي عبدالله خليفة وعبر عناقيد الصور الشعرية المتخمة بعذابات الانسان قد ركز على سيرة المكان لانه راو مشارك ، فانه قد استثمر الطاقة الهائلة للذاكرة التي تقتبس ترميدات الانوات المتحركة على مساحة النص (خشب يرقص في الموج والنار ، اجساد محروقة عارية + تجعل البحر يتقلقل وينتفض ويتطاير{شرراً }+ عمارات الحطب) لتوقد مناطق السرد وتخطف فضاءها لتولد فضاء شعرياً مترعاً بالتماعات الصورة الفنية المتخمة بفجيعة الغياب.
ويصوغ استهلال المشهد رقم(60) (16) من القفال لوحة شعرية سيرية وثائقية تؤرخ للمكان و افقاً مرآويا تتمرأى فيه عذابات المكان وانواته (الذات المترقبة والذات المبعدة كرهاً عن الاحبة والوطن ) وعبر تقصي تفاصيل لهفة فيّ وولدها علي لقفال سعيد المناعي من رحلة الغوص المهلكة :
(عادت السفن ، واشرعتها ممتلئة بالهواء والامل . حمامات ترفرف من فوق الشطآن ، وزغاريد تندلع من القلوب الظامئة , اجساد شرهة لنسوة يقتحمن المياه بالنار والريحان . ثلل الرجال , اشباه العراة ، التي نسيت بعضاً من ضلوعها وعيونها وايديها في ادغال المياه ، تلتحم باغصان النسوة المورقة ، وعشب الاولاد والبنات الوافر.)
يشتبك في بنية هذا المشهد الضاج بالحركة والعنفوان الشعري بالسردي فنستشعر وعي الذات الساردة بمحنة الغياب لذلك فانها تقوم بتشغيل اكثر من ذاكرة (ذاكرة المكان + ذاكرة التلقي) لبلورة سيرة شعرية خاصة بالمكان وبالقفال تحديداً بوصفه مهيمنة اجتماعية وثقافية ، فتحشد الرموز المكانية المتحركة بين اقصى السلام والبراءة (السفن حمامات ترفرف فوق الشطآن) واقصى الهلاك ( ادغال المياه) بل ان الذاكرة الاسطورية للخطاب السردي تجد في هذا القفال تموز جديد ينبعث للحياة كل اياب بقرينة الخضرة التي اجتاحت النفوس ( ثلل الرجال … تلتحم باغصان النسوة المورقة ، وعشب الاولاد والبنات الوافر ) زد على ذلك ان المشهد الشعري يعكس من طرف خفي احساسات مزدوجة من طقوس البهجة واللوعة بهذه العودة التموزية (وزغاريد تندلع من القلوب الظامئة , اجساد شرهة لنسوة يقتحمن المياه بالنار والريحان .) لتتكشف قدرة السرد على ان يمسرح المتن الشعري وان ينفذ الى بنيته الغاطسة فنحدس زمنين: (تقويمي {مدة رحلة الغوص} ونفسي {زمن الترقب والمكابدة}) ونسمع اصوات الانوات المبتهجة التي يختلط لديها الواقع بالحلم والممكن بالمتخيل لتتأكد لنا قيمة ما يقدمه التصوير الشعري للمتن الروائي دون ان تنطفىء جذوة السرد تحت تشكيلاته الانزياحية .
وتلمح اوراق التأويل في استهلال المشهد رقم (50)(17) لوحة شعرية اخرى للسفن تتمحور حول مكابدات البحارة وعذاباتهم قارن الآتي:
(كانت السفن تنام على سرير الماء الهادىء الناعم ، متنائرة عند ينابيع الماء الحلو واللؤلؤ، استكانت بعد عناء النهار الشمسي الثقيل ، ولبست عباءة الليل ، وانهارت على الخشب والابسطة اللاسعة ولعاب المحار والحكايا القصيرة . )
يكشف هذا المشهد الشعري الحالم المشتغل على كل الحواس طبيعة الانساق الاجتماعية المتحركة بين اقصى الاستبداد والتحجر(ملاك السفن) وبين اقصى الاستسلام والانكسار(البحارة) والتي غلفت مجتمع الغوص انذاك بعتمة تليق بعذابات الفرد الواقع تحت شراسة الحرمان(18) مثلها مثل (عباءة الليل) المسدلة على زمن المكان (السفن ) الشاهد الوحيد على تلك المعاناة (النهار الشمسي الثقيل ) وطبيعة المحصول الذي يتم استحصاله (خشب + ابسطة لاسعة + لعاب المحار + حكايا قصيرة). وتتأكد حركة المخيال السردي صوب الفن التشكيلي لاكساب اللوحة الشعرية بعداً تصويريأ مضافاً عبر المناغمة اللونية بين السواد (عباءة الليل ) والبياض (نهار شمسي + اللؤلؤ) وجمالية المد البصري للبحر(سرير الماء الهادىء الناعم) .وهي حركة موفقة تكثف التفخيخ الدلالي وتعلن عن التضاد الحاد بين البنية الحاضرة المنطوق بها للوحة المكان الزاهية المزركشة بالنعيم (كانت السفن تنام على سرير الماء الهادىء الناعم ، متنائرة عند ينابيع الماء الحلو واللؤلؤ) وبين البنية الغاطسة المسكوت عنها للذات المتخمة بالوجع والاستلاب ، وقد نجح الفعل المستعار (انهارت) في ان يوقد بمخيال التلقي ملامح الوهن.
• النسق الغائب :
تشكله البنية المسكوت عنها والمرتهنة خلف استار المتن الحاضر وهي تراهن على براعة المخيال السردي في تشغيل الذاكرة الشعرية للتلقي حين تخلق موازنة ترميزية بين بطل الرواية محمد العواد وعنترة بن شداد في اكثر من موضع في الرواية (19) مازجة بذلك الماضي بالحاضر ومستشرفة الآتي وكأن شخصية عنترة تتشكل في اللحظة الراهنة ، فنشاهد هذه الكينونة المنبعثة من عمق التاريخ وهي تنفض عن كاهلها عذابات التهميش بسبب من لون البشرة المتسلل من الام العبدة لترسم بؤرة التوتر الدرامي للرواية الذي يخضع عنترة بطروحاته المعاصرة للسياقات الاجتماعية والثقافية والمعرفية بل قل والزمكانية لنلمح التحولات الطريفة في هذه الذات المتسللة من عمق الذاكرة الشعرية فنستكشف استعاضة محمد العواد السيف بآلة العود واستعاضته عن الفروسية في سوح الوغى بمغامراته النسائية واستبداله لقب عنترة الفوارس بلقب محمد العواد بل ان المخيال السردي يرسم صورة محايثة يتداخل فيها موت عنترة غدراً في معارك القتال بمصرع محمد العواد غيلة جراء مغامراته النسائية . كما نلمح في مرات عديدة امتزاج عذابات محمد العواد بمكابدات عنترة وامتزاجاً في نبرات صوتيهما توكيداً على النموذج الانساني المتكرر وسرمدية المكابدة السيزيفية ، وبنظرة متأملة نستشعر بان مي (معشوقة محمد العواد) هي عبلة معاصرة لم تخضع للاعراف الاجتماعية – كما خضعت على اقل تقدير فيّ – فكانت صورة للمعشوقة المفرغة من محتواها الفكري والروحي لتبقى متمحورة حول فروسيتها في خرق النسق الاجتماعي والقيمي .
وخلاصة القول ؛ فان المخيال السردي للروائي عبدالله خليفة قد صاغ في رواية الينابيع شذرات شعرية يمكن تسميتها تجاوزاً بقصيدة السرد – التي هي البنية الشعرية المهربة في حقائب الرواية _ وهي قصيدة مرنة مرونة الفن الروائي تسهم بشكل او باخر في تصعيد الايقاع السردي فهي قد تكون شذرة شعرية يتكيء عليها المجال السردي فنشهد وعبر التكثيف الشعري للخطاب الروائي ملامح الشخصيات وحركة نموها وتفاعلها مع الحدث والفضاء الزمكاني ونسمع احتدام الحوار …، وقد يتسع جسد هذه القصيدة ليشمل البنية الروائية برمتها لنكون والحالة هذه ازاء قصيدة مشفرة تنأى بالمتن السردي عن التقريرية والخرائط الايحائية الجاهزة . انها باختصار خاصية صياغية تقف على تقنية انخطاف اللغة السردية وصيرورتها متناً شعرياً باذخ الدلالة .
الهوامش :
(*) : عبدالله خليفة ، رواية الينابيع / الجزء الاول ، اتحاد كتاب وادباء الامارات ،الشارقة 1998 . رواية الينابيع / الجزء الثاني ، اتحاد كتاب وادباء الامارات ، الشارقة 2000
(1) : سوزان بيرنار ، قصيدة النثر من بودلير الى ايامنا ، ترجمة : أ0د0زهير مغامس ، دار المأمون ، بغداد 1993 ، ص161 ومابعدها
(2) : عبدالله خليفة ، ج2/ ص 136
(3) : نفسه ، ج1/ ص 38
(4) : نفسه ، ج1/ ص 144
(5) : نفسه ، ج1/ ص 109
(6) : نفسه ، ج2/ ص 50
(7): عرف كارل غوستاف يونج الاسقاط الفني بانه ((العملية النفسية التي يحول بها الفنان تلك المشاهد الغريبة التي تطلع عليه من أعماقه اللاشعورية ، يحولها إلى موضوعات خارجية يمكن أن يتأملها الآخرون )) ويشير الدكتور مصطفى سويف الى تماهي الاسقاط والترميز في قوله : ((بان الإسقاط هو عملية لا غنى عنها في فهم عملية الامتصاص(Introjection) حيث يسكب الشخص احاسيسه في شيء ما ، -أي يموضعها- وبذلك يتسنى له أن يفصل بينها وبين الذات ، وبقدر ما يكون هذا الشيء رمزا فان صاحبه يكون مبدعاً عبقريا )) . من الواضح أن ما يهم هذه الدراسة هو الاسقاط الفني – إذا صح التعبير – وهو الذي يفضي إلى ترميز الاشياء (الحية والجامدة) التي يسقط عليها المبدع احساسات متباينة فتستحيل رموزاً مشفرة متوترة لا حصر لها . وللاستزادة ينظر : د. مصطفى سويف ، الأسس النفسية للإبداع العربي ، دار المعارف ، ط3 ، القاهرة 1969م ، ص203 ومابعدها , كما ينظر كتابنا : العرش والهدهد ، مقاربات تأويلية لبلاغة الصورة في الخطاب اليمني المعاصر ، مؤسسة العفيف الثقافية ، صنعاء 2003 ، ص 150
(8) : نفسه ، ج2/ ص 51
(9): : نفسه ، ج1/ ص 92
(10) : نفسه ، ج2/ ص 184
(11) : نفسه ، ج1/ ص 145
(12) : نفسه ، ج2/ ص 92
(13) : نفسه ، ج2/ ص 92
(14) : نفسه ، ج2/ ص 17
(15) : نفسه ، / ص 15
(16) : نفسه ، ج1/ ص 212
(17) : نفسه ، ج1/ ص 17
(18) : للاستزادة ينظر: د. ابراهيم عبدالله غلوم ، القصة القصيرة في الخليج العربي ، المؤسسة العربية وللدراسات والنشر ، ط2، بيروت 2000 ، ص47
(19) : سنتلبث في دراسة لاحقة عند خصائص هذه النسق بالتفصيل .

 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 14, 2023 01:25
No comments have been added yet.