عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 50

February 14, 2023

عبـــــــدالله خلــــــــيفة:أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ!

㋡ أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ ! 

عبـــــــدالله خلــــــــيفة رواية الينابيع

كمال الذيب*   يلتصق المشروع القصصي للروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة فكرة ولغة، بهموم الواقع العربي، يجترح موضوعات اقاصيصه ورواياته وشخصياتها من الواقع المحلي بامتداداته الخليجية، انتقل من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية التي تصب في مجموعها في هاجس تغيير الواقع وملامسة معطياته. هاجس منطقة تعيش بين ثروة ضخمة ومحاولات تغيير مضنية.. قراءة في الينابيع : من بين الاعمال الروائية الأكثر أهمية ولفتا للانتباه رواية «البنابيع» (ثلاث أجزاء). بالإمكان القول ان الحقل الروائي التخيلي في هذا العمل يطمح إلى نوع من المسح الروائي لـحكاية البحرين الحديثة، حيث يعلن القاص في هامش الصفحة الأولى من الجزء الأول بأن هذا العمل الروائي يتحرك في فضاء زماني ومكان محلي: البحرين في بداية القرن العشرين، وتوحي مجريات هذا الجزء بأن أحداث الرواية تتخذ انطلاقا لها ينابيع مفتتح القرن العشرين. والزمان والمكان هاهنا متلازمان، وسواء أجاء متطابقين مع الزمان والمكان الواقعيين تطابقاً تاريخياً أم جاء غير متطابقين فإن قراءة الرواية تدخل القارئ في زمان ومكان يتنازعان الواقعية والخيال، فإذا كان المكان البحريني للرواية يمثل الخلفية التي تقع فيها أحداث الرواية، فإن الزمن من صنع الكاتب، ويرتبط بوعيه أو قراءته لأحداث القرن العشرين. وعند مقاربة أهم مكونات هذا العمل الروائي من الداخل، هناك عدد من العناصر المتعلقة بالمداخل وإيحاءاتها تحتاج على وقفة موجزة. أولاً : العنوان: أية ينابيع؟ إذا كنا نتفق مبدئياً بأن العنوان لا يوضع اعتباطاً من حيث المنطلق، فإن اختيار الروائي للعنوان يفترض أن يكون ذا صلة بمتن الرواية، ونقول: اذ يبدو العنوان اختياراً؛ لأننا نعتقد بأن العنوان ينشأ في ذهن الكاتب ليس من غياهب المجهول أو من الصدفة، وإنما ينشأ من عدد كبير وقد يكون غير محدود من الإمكانيات التي تختزل أو يمكن أن تختزل الرواية في دلالة رمزية ذات طابع شمولي أو جزئي دال أو ممثل لسير الجوهري، والعنوان هنا ليس لحظة بداية مثلما هو الشأن بالنسبة لفاتحة الرواية، وإنما هو لحظة الخروج لتقديم النص إلى القارئ في كلمة أو كلمات ليست اعتباطية.الينابيع جمع ينبوع، وهي معرفة أي أنها محددة، أي ليست ينابيع، فهي ينابيع محددة بالزمان والمكان البحرينيين، وكل ما توحي به الينابيع من معاني البداية والأصل والجذور، وبما توحي به من خصوبة وحياة، وهي بصيغتها المجردة من التركيب، تكاد تكون مرادفة للجذور، وهي بصيغتها تلك تفتح الباب مشرعاً أمام احتمالات مختلفة لاستكمال البناء الجملي بالوصف أو بالخبر، إلا أن قراءة الرواية تعطي للجملة الناقصة بقاياها التي تقرب المعنى إلى الجذور: جذور الحياة في هذا المكان والزمان، وجذور تلك الروح المتمردة العاشقة للحرية والحياة، كما سنرى في متن الرواية. ثانياً : الهامش: البحرين في بداية القرن العشرين في الفصل الأول من الجزء الأول من الرواية في (ص 9) حرص الروائي، وقبل مفتتح الرواية ومع إشارة الإحالة المتصلة بالرقم(1) على أن يحيلنا على هامش مهم، وليس جزءاً من زمن السرد المتخيل، وإنما هو إطار زمني خارجي لتأطير الرواية في ذهن القارئ، فأحداثها تدور في بداية القرن العشرين في البحرين، وعليه فإن القارئ يدخل بهذه الإحالة في شبكة استحضار للتاريخ الفعلي، وهكذا يقحمه الروائي في عمله ليستحضر الأحداث الفعلية، والأشخاص الفعليين، والأمكنة الفعلية، في موازاة الأحداث والأشخاص والأمكنة التخيلية داخل الرواية، وعليه أن ينجز بنفسه عمليات التقاطع ليدرك الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، ولكنه أيضاً ليؤكد بأن الرواية ليست محض خيال يدعيه الروائي وينسبه إلى عبقريته في الإنشاء، بل هو بحث القارئ على أن يدخل وعيه التاريخي، وهو يحمل معه كشافاً في دروب الرواية المختلفة.صحيح أن الرواية إنشاء لغوي وأدبي خالص، وإعادة إنتاج لذلك الواقع وفق شروط الذات المبدعة، وفق «أيديولوجية» الكاتب، إلا أنها كما يطرحها عبـــــــدالله خلــــــــيفة في هامشه الافتتاحي إحالة على رواية أخرى موازية، هي رواية التاريخ الذي يحتوي الزمان والمكان والإنسان معاً. وعليه فإننا بهذا الهامش نجد أنفسنا كمتلقين أمام روايتين، وليس أمام رواية واحدة: رواية المتن، ورواية الهامش، وعلى القارئ أن يتهيأ لخوض الرحلة بعد أن أدخله الروائي في لعبة التبعيد «البريختية». ثالثا ً: فاتحة الرواية إذا اعتبرنا فاتحة الرواية ـ ولا نقول المقدمة ـ لحظة فريدة، لحظة تأسيس، فإننا سنتعامل معها منطقةً إستراتيجيةً يتم من خلالها عبور الكاتب وعبور القارئ على حد سواء على دروب الرواية، وكل بداية هي لحظة اتصال حسية بين المؤلف والقارئ، ولذلك تتحول إلى علاقة حوار عبر آليات القراءة، والقارئ هنا بما يمتلكه من ثقافة وخبرات أدبية ولغوية قادرة على تحقيق أدبية النص، وتكفيك رموز البدايات الأساسية، وعليه فإن تلك البدايات إما أن تنجح في اجتذابه على عالم الرواية، وإما أنها تفشل في ذلك فيعرض عنها منذ البداية. فكيف بنى عبـــــــدالله خلــــــــيفة مفتتحه الروائي في الينابيع؟ وهل يمثل هذا المفتتح مفاتيح أساسية للدخول إلى عالمها؟يمثل الفصل الأول من الرواية مفتتحها الكامل دون نقصان، وهو محمل بالأسئلة والقنابل الموقوتة التي ستنفجر في ثنايا النص الروائي فيما بعد.«كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن..».«إن الفجر يترنم، كأن وجعاً ينهار في قلب زهرة..».«كأن الطفلة تصعد إلى ذروة التلة المشتعلة».«هو ذا العود يسري في الليل، ويجلب الفجر على الفراغ الواسع والبرية الثكلى».«هو ذا يقطره في ثقوبه، ويحرقه فرشات وصرخات، ويعصره في هذا السرير الفائض بالعرق، والخوف، وتلال القطن اليابس».«لماذا يتخفى أخوه وراء الجدران، ويعزف وينزف في هذه العتمة المسربلة بدم الضوء الشحيح، ويئد الأوتار في التربة القاحلة؟».«لماذا يضع الجدران والوسائد فوق تلك الآلة الرهيفة الرقيقة التي حالما أمسكها بكى؟».«وكأن صهيلاً يندفع فوق التلال المعشوشبة، وتنهار القلاع المتبقية ومدافعها الحديدية الصدئة، كأن الفرسان».«كأن الفرسان ينامون وتسحب العصافير أسنتهم وأظافرهم».«كأن الليل صار فتى وامرأة ضوئية ترقص في جرار الخمرة، والسفن تجلب قمحاً وفرحاً، والبلدة الرفيعة فوق التلة تصحو على صوت الدفوف، والديوك، ونوافير اللذة».«لماذا يعرق ويرتعش كأن حمى صادفته فجأة، أو حياً مات بغتة؟».«لماذا يبكي ويضحك، ويتسرب بين الدهاليز والأبواب، والنسوة، والأخوات غارقات في النوم، وتكاد أرجله العجلى تخدش الرؤوس، وأطراف أصابعه لا تكاد تحط على جثث الأحلام؟».ذلك مقطع مدخلي من المفتتح، يرسم الملامح وعلامات الاستفهام، ويغري بالدخول على عالم محمد وأشواقه تتفتح على صوت العود في الفجر، في الفراغ وسط أرض ثكلى، وفي إطار مكاني مجتمعي يكتم أنفاس العود، ويقع الجدران والوسائد فوقها ليكتم أنفاس تلك الآلة الرهيفة.ويعدّ أنغام العود (فضيحة)، وينصب لها مشانق الهواء، بل إن الأب إذا عرف أن أخا محمد يعزف على هذه الآلة العار فإنه سيقتله. وتكتشف أن محمداً يعيش حالة تناقض صارخة، بين أشواقه النارية المتحفزة إلى معرفة «العود الذي يحبه كثيراً، والذي سيجن بعيداً عنه» وبين أب متحجر، محافظ، مستعد لذبح الفجر «يعود إلى الفراش، ويلعن الفجر المذبوح على نافذة المنزل، يغفو ليجد عصا أبيه وهي تلتهم كتفه وظهره، وصرخاته اللاذعة تقلب ترنيماته وأغانيه الصغيرة إلى ثغاء». ص 10.   نعرف أن محمداً يعيش في أسرة كبيرة العدد، وهو أصغرهم «ويعرف مكانه، في الصف حشد من الأخوة والأخوات البيض، يقف أمامه حاجباً قامة أبيه التي تقود فرقة الصلاة الخاشعة» ص10.ونعلم بأنه يكره المطوع وحوشه الذي يفتتح به صباحه يومياً، لأن «عصاه تهتز في السماء كنسر جبار يلتذ بلحم الرؤوس وبدموع العيون» ص11.وحتى عندما يتلذذ محمد بترتيل القرآن فيهتز له وينغمه فإن عصا «المطوع تقع فوق كتفه، وصوته يصرخ: أتغني يا محمد؟». ص 11.ولكنه بدل أن ينكمش على نفسه ويخضع «اندفع وحيداً عن أخوته، وسحب العود، وراح يعزف، فطلع له من البرية أولاد الرعاة، وجنيّات البئر، ورشقوه بالحصوات، وأغصان الشوك، والسخريات، فوجد الأوتار مثل قوس قزح، تتفتت في الريح والهذيان». ص 11.ذلك هو المفتتح الروائي، وهو مشهد مدخلي فسيفسائي، ركّبت مادته من صور وليه لطفل كالكرة المطاطية، يريد أن يقفز ويتحرر من محيط خانق محافظ، وهذه نقطة الصفر لبداية الحكي، فالكاتب هنا لم يبدأ من هوامش ثانوية، بل من لحظة حكائية محملة بالأسئلة والحيرة والقلق، تشي بإمكانيات صراعات وأزمات سيعرضها السرد على القارئ في بقية الفصول، بحيث تندفع الأحداث في اتجاه تصاعدي مركب من خلال محمد الدينامو الرمز الذي بتحركه الزماني والنفسي والفكري تتحرك الأحداث التي يحتويها التاريخ، والصراع الطبقي، والتحولات الاجتماعية التي يكشف عنها النص الروائي في فصوله اللاحقة.أخيراً يمكن أن نشير في هذا المفتتح إلى التقابل الموجود بين نقطتين من الزمن زمن السرد، أحداهما الفاتحة النصية، وتمثلها صيغة الماضي المتذكر (كان محمد)، في حين ترسم الجمل الأخرى المحكومة بأداة التشبيهه (كأن) التي تكررت في هذا الفصل التمهيدي 13 مرة نسقاً إخباريا، وصفياً، موازياً لحركة محمد، ومفسراً لها، ومكثفاً لها، وحافاً بها باستخدام الفعل المضارع: (يشري / يجلب / يتخفى / يعزف / ينزف / يئد / يضع / يندفع..).فالجملة الماضية (كان) ترسم الماضي المتذكر، والجمل المضارعة ترسم حاضر السرد الذي بالقياس إليه يتشكل وتتحدد صور الماضي المستحضرة في النص، وهي التي ستنفجر من أقسامها خيوط الحياة المستدعاة. ويضاف إلى أفعال المضارعة أسماء الإشارة (هو ذا العود – هو ذا) لترسيخ حاضر السرد المشبع بالانفعالات، والتطلع، والحيرة، والغضب.وفي الخلاصة، فإن المفتتح المحمل بأسئلة الصمت والقهر الإنكارية، ومن خلال رسم الملامح الأولى للعلاقة بين (محمد) الذي يتصدر المفتتح، وبين المكان، والزمان، والأشخاص في الرواية، في شبكة من العلاقات قد وضع أسس الجذب والجاذبية للقارئ الذي يجد نفسه (متورطاً) في البحث عن إجابات، وقد نجح المفتتح أيضاً في رسم الملامح الإشكالية الأولى لعلاقات (محمد) بالآخرين:علاقته مع نفسه (حالة صراع وتطلع لخوض معركة الوجود استجابة إلى نداء داخلي واستعداد للعراك).علاقته بوالده (قائمة على القهر، والعنف، والإذلال، والتحريم).علاقته بالمطوع (قائمة على الكراهية، والقهر، والاضطهاد، والتحريم).علاقته بعموم أخوته وأخواته (قائمة على اعتباره طفلاً صغيراً في آخر الطابور، ومصدراً للسخرية والتندر).علاقته بأخيه الأكبر العازف السري المتستر، فيه إعجاب، وخوف، وحيرة، وتعاطف سري؛ لأن حب العزف والأغاني يجمع بينهما في ما يشبه الممارسة المحرمة.إن الروائي ها هنا يرسم الملامح الأولى لتصوره، الذي لا ينفصل فيه المتخيل عن الواقع، إذ هناك جدل حيوي بين حيوية التخييل وواقعية التجارب المتذكرة، باعتبارها مادة القص الخام كما وقعت في التاريخ البحريني.أن المشهد الافتتاحي تراءى لنا كإطار عام تمهيدي لبناء الشخصية، وليس مشهداً استباقياً يعود إليه القاص من جديد؛ ليكشف للقارئ عن طلاسمه، ويمده بالحقائق والتفاصيل، لأن الكاتب ليس معنياً بهذا النوع من البنية القصصية، فاختياره يكاد يكون تاريخياً يبدأ من الأسفل إلى الأعلى في حركة لولوبية، إلا أن ذلك لا يعني أن النص يخلو من الطاقة التشويقية، فمنذ هذا المفتتح نجد تلك الطاقة القائمة على التلميح دون التصريح، أي على ما يسمى بالإمساك الإخباري، بحيث تبدو تفاصيل المشهد معلقة ومحاطة بهالة من الغموض، من خلال الاستفهامات التي طرحها المشهد:لماذا يتخفى أخوه…؟لماذا يضع الجدران والوسائد فوق تلك الآلة؟لماذا يعزف ويرتعش كان حمماً صادفته فجأة وحياً مات بعته؟لماذا يبكي ويضحك وتسرب بين الدهاليز والأبواب؟أتريدُ أن تفضحني؟أتريد أن يقتلني أبي؟أتغني يا محمد؟وهذه الاستفهامات تولد استفهامات موازية لدى المتلقي، وهكذا تصبح عملية القراءة جملاً استفهامية متلاحقة تكشف باستمرار عن فراغات عميقة متلاحقة، تضطرنا الرغبة في سدّها إلى متابعة السرد دون تأخير، وهذه هي الوظيفة التسويقية. رابعاً : بناء المكان… بناء الزمان إذا ما عدنا إلى المكان والزمان في هذه المفتتح الروائي أمكن تسجيل الملاحظات التالية:هنالك الزمن الخارجي الإطاري المعلن في الهامش (بداية القرن العشرين)، وهنالك زمن السرد الذي هو الفجر، وهو فجر الأحداث في المفتتح، وفجر الرواية، وفجر القرن العشرين، أي أننا زمانياً قريبون جداً من الينبوع الأول للرواية. وهنالك إطاران للمكان: المكان الواسع الإطار الخارجي (الفراغ البرية الثكلى)، وهنالك المكان الضيق المتمثل في البيت (الدهاليز، والأبواب، والجدران العالية) والمكان الذي يعلم فيه المطوع، والقرآن، والضربات، والجلد. والمكان والزمان متلازمان أو هما توأمان، ويعدّ المكان بمثابة وعاء الزمان، ويمثل كذلك إطار الأحداث في الرواية أو الخلفية التي تقع فيها هذه الأحداث، والمكان هنا يضعه الروائي ويبنيه بكل عناصره، سواء أكان مطابقاً للمكان الواقعي أو غير مطابق له. والمهم أن الإطارين يشيان بوضوح بحالة من الاختناق بالنسبة لمحمد، وحالة من الحصار سوف تبرر (خروجه) و(مروقه) على الأنماط القائمة على (الأب) وعلى (المطوع) وعلى النواميس العبودية الإقطاعية الإخضاعية.هذا هو الإطار الذي تتفتح به الرواية، وهو إطار يهيئ للخروج والتحولات، فمثلما أفضى الاستعباد الفردي إلى هذا الضيق الذي حاصر محمد فجعله (يخرج)، فإن العبودية الاجتماعية في لواحق الرواية سوف تكون مقدمة لتحولات، وخروج من نوع آخر. إن هذه المقدمة، أو الفصل، أو المفتتح الروائي ليست مجرد فعل تسجيلي بريء، ولكنها لحظة تأسيسية لهوية السردية تصبح نقطة مركزية في صياغة ينابيع التاريخ من بوتقة الذات.إن الينابيع تبدأ في التدفق من هذه اللحظة لتؤسس لعملية بناء تاريخ المكان البحريني في الزمن المعلن، من خلال بناء التاريخ الشخصي والعائلي لمحمد، ومن خلال الصور المتدفقة عبر التاريخ الواقع والتاريخ المتخيل في الرواية في حلقات الاضطهاد المصغّر والمكبّر، والصراع بين الدوائر، بين الخارج والداخل، وبين الداخل والداخل، وبين محمد ودوائر الاضطهاد الداخلية، بما فيها تلك التي تسكن الوجدان والمخيلة: الأب، والمطوع، والآخر، فالأب يمنعه من العزف والغناء، والمطوع يجرّمه، وسالم الرفاع، والحراس، وثلة المطاوعة. سلسلة من حلقات الاضطهاد والكبت تحاصره، وتتكشف بالتدرج في النص الروائي، وتخلق تدفقه واندفاعاته في بقية الفصول. وهكذا يصبح العالم الروائي عندما يتأسس فاعلاً من خلال تلك اللغة الحية التي اختارها عبـــــــدالله خلــــــــيفة وسطاً بين السرد القصصي والشعرية منذ اللحظة الأولى في الرواية:كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن: لغة السرد.كأن الفجر يترنم/ كأن وجعاً ينهار في قلب زهرة / كأن الطفلة تصعد إلى ذروة التلة المشتعلة: لغة الشعر.في الخلاصة:إن اختيار عبـــــــدالله خلــــــــيفة لموضوع هذه الرواية المرتبط بعمق تكوينه ومعايشته للواقع البحريني، جعله يعالج موضوع هذه الرواية بنوع من اللغة المشحونة بالانفعال، حتى تخال الكاتب يقترب من تسجيل حياة يعرفها حق المعرفة بكل تفاصيلها، ولذلك نشأت لغة حميمة سيطرت على مخيلة الكاتب حتى أضحت وسيلة لتفريغ الرؤية الذاتية والأفكار الخاصة العامة بالطبع، ووحدة اللغة الحاملة لوحدة المعاناة ردمت أي مساحة قد تفصل ما بين الواقع التاريخي والواقع الروائي،فتداخل الاثنان في سيرة ساخنة، وانضما لينشدا نشيد بوح الألم والقهر والأمل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتب من البحرين

عبـــــــدالله خلــــــــيفة:أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ!

 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 14, 2023 01:17

عبـــــــدالله خلــــــــيفة:أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ!

㋡ أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ ! 

عبـــــــدالله خلــــــــيفة رواية الينابيع

كمال الذيب*   يلتصق المشروع القصصي للروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة فكرة ولغة، بهموم الواقع العربي، يجترح موضوعات اقاصيصه ورواياته وشخصياتها من الواقع المحلي بامتداداته الخليجية، انتقل من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية التي تصب في مجموعها في هاجس تغيير الواقع وملامسة معطياته. هاجس منطقة تعيش بين ثروة ضخمة ومحاولات تغيير مضنية.. قراءة في الينابيع : من بين الاعمال الروائية الأكثر أهمية ولفتا للانتباه رواية «البنابيع» (ثلاث أجزاء). بالإمكان القول ان الحقل الروائي التخيلي في هذا العمل يطمح إلى نوع من المسح الروائي لـحكاية البحرين الحديثة، حيث يعلن القاص في هامش الصفحة الأولى من الجزء الأول بأن هذا العمل الروائي يتحرك في فضاء زماني ومكان محلي: البحرين في بداية القرن العشرين، وتوحي مجريات هذا الجزء بأن أحداث الرواية تتخذ انطلاقا لها ينابيع مفتتح القرن العشرين. والزمان والمكان هاهنا متلازمان، وسواء أجاء متطابقين مع الزمان والمكان الواقعيين تطابقاً تاريخياً أم جاء غير متطابقين فإن قراءة الرواية تدخل القارئ في زمان ومكان يتنازعان الواقعية والخيال، فإذا كان المكان البحريني للرواية يمثل الخلفية التي تقع فيها أحداث الرواية، فإن الزمن من صنع الكاتب، ويرتبط بوعيه أو قراءته لأحداث القرن العشرين. وعند مقاربة أهم مكونات هذا العمل الروائي من الداخل، هناك عدد من العناصر المتعلقة بالمداخل وإيحاءاتها تحتاج على وقفة موجزة. أولاً : العنوان: أية ينابيع؟ إذا كنا نتفق مبدئياً بأن العنوان لا يوضع اعتباطاً من حيث المنطلق، فإن اختيار الروائي للعنوان يفترض أن يكون ذا صلة بمتن الرواية، ونقول: اذ يبدو العنوان اختياراً؛ لأننا نعتقد بأن العنوان ينشأ في ذهن الكاتب ليس من غياهب المجهول أو من الصدفة، وإنما ينشأ من عدد كبير وقد يكون غير محدود من الإمكانيات التي تختزل أو يمكن أن تختزل الرواية في دلالة رمزية ذات طابع شمولي أو جزئي دال أو ممثل لسير الجوهري، والعنوان هنا ليس لحظة بداية مثلما هو الشأن بالنسبة لفاتحة الرواية، وإنما هو لحظة الخروج لتقديم النص إلى القارئ في كلمة أو كلمات ليست اعتباطية.الينابيع جمع ينبوع، وهي معرفة أي أنها محددة، أي ليست ينابيع، فهي ينابيع محددة بالزمان والمكان البحرينيين، وكل ما توحي به الينابيع من معاني البداية والأصل والجذور، وبما توحي به من خصوبة وحياة، وهي بصيغتها المجردة من التركيب، تكاد تكون مرادفة للجذور، وهي بصيغتها تلك تفتح الباب مشرعاً أمام احتمالات مختلفة لاستكمال البناء الجملي بالوصف أو بالخبر، إلا أن قراءة الرواية تعطي للجملة الناقصة بقاياها التي تقرب المعنى إلى الجذور: جذور الحياة في هذا المكان والزمان، وجذور تلك الروح المتمردة العاشقة للحرية والحياة، كما سنرى في متن الرواية. ثانياً : الهامش: البحرين في بداية القرن العشرين في الفصل الأول من الجزء الأول من الرواية في (ص 9) حرص الروائي، وقبل مفتتح الرواية ومع إشارة الإحالة المتصلة بالرقم(1) على أن يحيلنا على هامش مهم، وليس جزءاً من زمن السرد المتخيل، وإنما هو إطار زمني خارجي لتأطير الرواية في ذهن القارئ، فأحداثها تدور في بداية القرن العشرين في البحرين، وعليه فإن القارئ يدخل بهذه الإحالة في شبكة استحضار للتاريخ الفعلي، وهكذا يقحمه الروائي في عمله ليستحضر الأحداث الفعلية، والأشخاص الفعليين، والأمكنة الفعلية، في موازاة الأحداث والأشخاص والأمكنة التخيلية داخل الرواية، وعليه أن ينجز بنفسه عمليات التقاطع ليدرك الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، ولكنه أيضاً ليؤكد بأن الرواية ليست محض خيال يدعيه الروائي وينسبه إلى عبقريته في الإنشاء، بل هو بحث القارئ على أن يدخل وعيه التاريخي، وهو يحمل معه كشافاً في دروب الرواية المختلفة.صحيح أن الرواية إنشاء لغوي وأدبي خالص، وإعادة إنتاج لذلك الواقع وفق شروط الذات المبدعة، وفق «أيديولوجية» الكاتب، إلا أنها كما يطرحها عبـــــــدالله خلــــــــيفة في هامشه الافتتاحي إحالة على رواية أخرى موازية، هي رواية التاريخ الذي يحتوي الزمان والمكان والإنسان معاً. وعليه فإننا بهذا الهامش نجد أنفسنا كمتلقين أمام روايتين، وليس أمام رواية واحدة: رواية المتن، ورواية الهامش، وعلى القارئ أن يتهيأ لخوض الرحلة بعد أن أدخله الروائي في لعبة التبعيد «البريختية». ثالثا ً: فاتحة الرواية إذا اعتبرنا فاتحة الرواية ـ ولا نقول المقدمة ـ لحظة فريدة، لحظة تأسيس، فإننا سنتعامل معها منطقةً إستراتيجيةً يتم من خلالها عبور الكاتب وعبور القارئ على حد سواء على دروب الرواية، وكل بداية هي لحظة اتصال حسية بين المؤلف والقارئ، ولذلك تتحول إلى علاقة حوار عبر آليات القراءة، والقارئ هنا بما يمتلكه من ثقافة وخبرات أدبية ولغوية قادرة على تحقيق أدبية النص، وتكفيك رموز البدايات الأساسية، وعليه فإن تلك البدايات إما أن تنجح في اجتذابه على عالم الرواية، وإما أنها تفشل في ذلك فيعرض عنها منذ البداية. فكيف بنى عبـــــــدالله خلــــــــيفة مفتتحه الروائي في الينابيع؟ وهل يمثل هذا المفتتح مفاتيح أساسية للدخول إلى عالمها؟يمثل الفصل الأول من الرواية مفتتحها الكامل دون نقصان، وهو محمل بالأسئلة والقنابل الموقوتة التي ستنفجر في ثنايا النص الروائي فيما بعد.«كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن..».«إن الفجر يترنم، كأن وجعاً ينهار في قلب زهرة..».«كأن الطفلة تصعد إلى ذروة التلة المشتعلة».«هو ذا العود يسري في الليل، ويجلب الفجر على الفراغ الواسع والبرية الثكلى».«هو ذا يقطره في ثقوبه، ويحرقه فرشات وصرخات، ويعصره في هذا السرير الفائض بالعرق، والخوف، وتلال القطن اليابس».«لماذا يتخفى أخوه وراء الجدران، ويعزف وينزف في هذه العتمة المسربلة بدم الضوء الشحيح، ويئد الأوتار في التربة القاحلة؟».«لماذا يضع الجدران والوسائد فوق تلك الآلة الرهيفة الرقيقة التي حالما أمسكها بكى؟».«وكأن صهيلاً يندفع فوق التلال المعشوشبة، وتنهار القلاع المتبقية ومدافعها الحديدية الصدئة، كأن الفرسان».«كأن الفرسان ينامون وتسحب العصافير أسنتهم وأظافرهم».«كأن الليل صار فتى وامرأة ضوئية ترقص في جرار الخمرة، والسفن تجلب قمحاً وفرحاً، والبلدة الرفيعة فوق التلة تصحو على صوت الدفوف، والديوك، ونوافير اللذة».«لماذا يعرق ويرتعش كأن حمى صادفته فجأة، أو حياً مات بغتة؟».«لماذا يبكي ويضحك، ويتسرب بين الدهاليز والأبواب، والنسوة، والأخوات غارقات في النوم، وتكاد أرجله العجلى تخدش الرؤوس، وأطراف أصابعه لا تكاد تحط على جثث الأحلام؟».ذلك مقطع مدخلي من المفتتح، يرسم الملامح وعلامات الاستفهام، ويغري بالدخول على عالم محمد وأشواقه تتفتح على صوت العود في الفجر، في الفراغ وسط أرض ثكلى، وفي إطار مكاني مجتمعي يكتم أنفاس العود، ويقع الجدران والوسائد فوقها ليكتم أنفاس تلك الآلة الرهيفة.ويعدّ أنغام العود (فضيحة)، وينصب لها مشانق الهواء، بل إن الأب إذا عرف أن أخا محمد يعزف على هذه الآلة العار فإنه سيقتله. وتكتشف أن محمداً يعيش حالة تناقض صارخة، بين أشواقه النارية المتحفزة إلى معرفة «العود الذي يحبه كثيراً، والذي سيجن بعيداً عنه» وبين أب متحجر، محافظ، مستعد لذبح الفجر «يعود إلى الفراش، ويلعن الفجر المذبوح على نافذة المنزل، يغفو ليجد عصا أبيه وهي تلتهم كتفه وظهره، وصرخاته اللاذعة تقلب ترنيماته وأغانيه الصغيرة إلى ثغاء». ص 10.   نعرف أن محمداً يعيش في أسرة كبيرة العدد، وهو أصغرهم «ويعرف مكانه، في الصف حشد من الأخوة والأخوات البيض، يقف أمامه حاجباً قامة أبيه التي تقود فرقة الصلاة الخاشعة» ص10.ونعلم بأنه يكره المطوع وحوشه الذي يفتتح به صباحه يومياً، لأن «عصاه تهتز في السماء كنسر جبار يلتذ بلحم الرؤوس وبدموع العيون» ص11.وحتى عندما يتلذذ محمد بترتيل القرآن فيهتز له وينغمه فإن عصا «المطوع تقع فوق كتفه، وصوته يصرخ: أتغني يا محمد؟». ص 11.ولكنه بدل أن ينكمش على نفسه ويخضع «اندفع وحيداً عن أخوته، وسحب العود، وراح يعزف، فطلع له من البرية أولاد الرعاة، وجنيّات البئر، ورشقوه بالحصوات، وأغصان الشوك، والسخريات، فوجد الأوتار مثل قوس قزح، تتفتت في الريح والهذيان». ص 11.ذلك هو المفتتح الروائي، وهو مشهد مدخلي فسيفسائي، ركّبت مادته من صور وليه لطفل كالكرة المطاطية، يريد أن يقفز ويتحرر من محيط خانق محافظ، وهذه نقطة الصفر لبداية الحكي، فالكاتب هنا لم يبدأ من هوامش ثانوية، بل من لحظة حكائية محملة بالأسئلة والحيرة والقلق، تشي بإمكانيات صراعات وأزمات سيعرضها السرد على القارئ في بقية الفصول، بحيث تندفع الأحداث في اتجاه تصاعدي مركب من خلال محمد الدينامو الرمز الذي بتحركه الزماني والنفسي والفكري تتحرك الأحداث التي يحتويها التاريخ، والصراع الطبقي، والتحولات الاجتماعية التي يكشف عنها النص الروائي في فصوله اللاحقة.أخيراً يمكن أن نشير في هذا المفتتح إلى التقابل الموجود بين نقطتين من الزمن زمن السرد، أحداهما الفاتحة النصية، وتمثلها صيغة الماضي المتذكر (كان محمد)، في حين ترسم الجمل الأخرى المحكومة بأداة التشبيهه (كأن) التي تكررت في هذا الفصل التمهيدي 13 مرة نسقاً إخباريا، وصفياً، موازياً لحركة محمد، ومفسراً لها، ومكثفاً لها، وحافاً بها باستخدام الفعل المضارع: (يشري / يجلب / يتخفى / يعزف / ينزف / يئد / يضع / يندفع..).فالجملة الماضية (كان) ترسم الماضي المتذكر، والجمل المضارعة ترسم حاضر السرد الذي بالقياس إليه يتشكل وتتحدد صور الماضي المستحضرة في النص، وهي التي ستنفجر من أقسامها خيوط الحياة المستدعاة. ويضاف إلى أفعال المضارعة أسماء الإشارة (هو ذا العود – هو ذا) لترسيخ حاضر السرد المشبع بالانفعالات، والتطلع، والحيرة، والغضب.وفي الخلاصة، فإن المفتتح المحمل بأسئلة الصمت والقهر الإنكارية، ومن خلال رسم الملامح الأولى للعلاقة بين (محمد) الذي يتصدر المفتتح، وبين المكان، والزمان، والأشخاص في الرواية، في شبكة من العلاقات قد وضع أسس الجذب والجاذبية للقارئ الذي يجد نفسه (متورطاً) في البحث عن إجابات، وقد نجح المفتتح أيضاً في رسم الملامح الإشكالية الأولى لعلاقات (محمد) بالآخرين:علاقته مع نفسه (حالة صراع وتطلع لخوض معركة الوجود استجابة إلى نداء داخلي واستعداد للعراك).علاقته بوالده (قائمة على القهر، والعنف، والإذلال، والتحريم).علاقته بالمطوع (قائمة على الكراهية، والقهر، والاضطهاد، والتحريم).علاقته بعموم أخوته وأخواته (قائمة على اعتباره طفلاً صغيراً في آخر الطابور، ومصدراً للسخرية والتندر).علاقته بأخيه الأكبر العازف السري المتستر، فيه إعجاب، وخوف، وحيرة، وتعاطف سري؛ لأن حب العزف والأغاني يجمع بينهما في ما يشبه الممارسة المحرمة.إن الروائي ها هنا يرسم الملامح الأولى لتصوره، الذي لا ينفصل فيه المتخيل عن الواقع، إذ هناك جدل حيوي بين حيوية التخييل وواقعية التجارب المتذكرة، باعتبارها مادة القص الخام كما وقعت في التاريخ البحريني.أن المشهد الافتتاحي تراءى لنا كإطار عام تمهيدي لبناء الشخصية، وليس مشهداً استباقياً يعود إليه القاص من جديد؛ ليكشف للقارئ عن طلاسمه، ويمده بالحقائق والتفاصيل، لأن الكاتب ليس معنياً بهذا النوع من البنية القصصية، فاختياره يكاد يكون تاريخياً يبدأ من الأسفل إلى الأعلى في حركة لولوبية، إلا أن ذلك لا يعني أن النص يخلو من الطاقة التشويقية، فمنذ هذا المفتتح نجد تلك الطاقة القائمة على التلميح دون التصريح، أي على ما يسمى بالإمساك الإخباري، بحيث تبدو تفاصيل المشهد معلقة ومحاطة بهالة من الغموض، من خلال الاستفهامات التي طرحها المشهد:لماذا يتخفى أخوه…؟لماذا يضع الجدران والوسائد فوق تلك الآلة؟لماذا يعزف ويرتعش كان حمماً صادفته فجأة وحياً مات بعته؟لماذا يبكي ويضحك وتسرب بين الدهاليز والأبواب؟أتريدُ أن تفضحني؟أتريد أن يقتلني أبي؟أتغني يا محمد؟وهذه الاستفهامات تولد استفهامات موازية لدى المتلقي، وهكذا تصبح عملية القراءة جملاً استفهامية متلاحقة تكشف باستمرار عن فراغات عميقة متلاحقة، تضطرنا الرغبة في سدّها إلى متابعة السرد دون تأخير، وهذه هي الوظيفة التسويقية. رابعاً : بناء المكان… بناء الزمان إذا ما عدنا إلى المكان والزمان في هذه المفتتح الروائي أمكن تسجيل الملاحظات التالية:هنالك الزمن الخارجي الإطاري المعلن في الهامش (بداية القرن العشرين)، وهنالك زمن السرد الذي هو الفجر، وهو فجر الأحداث في المفتتح، وفجر الرواية، وفجر القرن العشرين، أي أننا زمانياً قريبون جداً من الينبوع الأول للرواية. وهنالك إطاران للمكان: المكان الواسع الإطار الخارجي (الفراغ البرية الثكلى)، وهنالك المكان الضيق المتمثل في البيت (الدهاليز، والأبواب، والجدران العالية) والمكان الذي يعلم فيه المطوع، والقرآن، والضربات، والجلد. والمكان والزمان متلازمان أو هما توأمان، ويعدّ المكان بمثابة وعاء الزمان، ويمثل كذلك إطار الأحداث في الرواية أو الخلفية التي تقع فيها هذه الأحداث، والمكان هنا يضعه الروائي ويبنيه بكل عناصره، سواء أكان مطابقاً للمكان الواقعي أو غير مطابق له. والمهم أن الإطارين يشيان بوضوح بحالة من الاختناق بالنسبة لمحمد، وحالة من الحصار سوف تبرر (خروجه) و(مروقه) على الأنماط القائمة على (الأب) وعلى (المطوع) وعلى النواميس العبودية الإقطاعية الإخضاعية.هذا هو الإطار الذي تتفتح به الرواية، وهو إطار يهيئ للخروج والتحولات، فمثلما أفضى الاستعباد الفردي إلى هذا الضيق الذي حاصر محمد فجعله (يخرج)، فإن العبودية الاجتماعية في لواحق الرواية سوف تكون مقدمة لتحولات، وخروج من نوع آخر. إن هذه المقدمة، أو الفصل، أو المفتتح الروائي ليست مجرد فعل تسجيلي بريء، ولكنها لحظة تأسيسية لهوية السردية تصبح نقطة مركزية في صياغة ينابيع التاريخ من بوتقة الذات.إن الينابيع تبدأ في التدفق من هذه اللحظة لتؤسس لعملية بناء تاريخ المكان البحريني في الزمن المعلن، من خلال بناء التاريخ الشخصي والعائلي لمحمد، ومن خلال الصور المتدفقة عبر التاريخ الواقع والتاريخ المتخيل في الرواية في حلقات الاضطهاد المصغّر والمكبّر، والصراع بين الدوائر، بين الخارج والداخل، وبين الداخل والداخل، وبين محمد ودوائر الاضطهاد الداخلية، بما فيها تلك التي تسكن الوجدان والمخيلة: الأب، والمطوع، والآخر، فالأب يمنعه من العزف والغناء، والمطوع يجرّمه، وسالم الرفاع، والحراس، وثلة المطاوعة. سلسلة من حلقات الاضطهاد والكبت تحاصره، وتتكشف بالتدرج في النص الروائي، وتخلق تدفقه واندفاعاته في بقية الفصول. وهكذا يصبح العالم الروائي عندما يتأسس فاعلاً من خلال تلك اللغة الحية التي اختارها عبـــــــدالله خلــــــــيفة وسطاً بين السرد القصصي والشعرية منذ اللحظة الأولى في الرواية:كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن: لغة السرد.كأن الفجر يترنم/ كأن وجعاً ينهار في قلب زهرة / كأن الطفلة تصعد إلى ذروة التلة المشتعلة: لغة الشعر.في الخلاصة:إن اختيار عبـــــــدالله خلــــــــيفة لموضوع هذه الرواية المرتبط بعمق تكوينه ومعايشته للواقع البحريني، جعله يعالج موضوع هذه الرواية بنوع من اللغة المشحونة بالانفعال، حتى تخال الكاتب يقترب من تسجيل حياة يعرفها حق المعرفة بكل تفاصيلها، ولذلك نشأت لغة حميمة سيطرت على مخيلة الكاتب حتى أضحت وسيلة لتفريغ الرؤية الذاتية والأفكار الخاصة العامة بالطبع، ووحدة اللغة الحاملة لوحدة المعاناة ردمت أي مساحة قد تفصل ما بين الواقع التاريخي والواقع الروائي،فتداخل الاثنان في سيرة ساخنة، وانضما لينشدا نشيد بوح الألم والقهر والأمل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتب من البحرين

عبـــــــدالله خلــــــــيفة:أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ!

 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 14, 2023 01:17

February 13, 2023

اليسار في البحرين والانتهازية

عبـــــــدالله خلـــــــيفة
‏‏‏‏‏‏كاتب وروائي
𝓐𝖇𝖉𝖚𝖑𝖑𝖆 𝓚𝖍𝖆𝖑𝖎𝖋𝖆
𝖆𝖚𝖙𝖍𝖔𝖗 𝖔𝖋 𝖘𝖙𝖔𝖗𝖎𝖊𝖘 𝖆𝖓𝖉 𝖓𝖔𝖛𝖊𝖑𝖘
21.10.2014 | 1.3.1948

#المنبر_التقدمي

البورجوازيون الصغار الانتهازيون

هم أساسُ العيارة والجمبزة والانتهازية وتخريب التطور، المنافقون المعاصرون، لهم في كل حزب موقع، ولهم في كل ثورة نصيب، ولهم في كل ثورة مضادة نصيب، وهم مع الفقراء والأغنياء، وهم مع اليسار واليمين، وهم مع الدينيين ومع الملحدين، وهم مع الحكم وأعدائه، وهم مع الحقيقة والباطل، كيفما شئت والمهم أن تدفع!

المهم أن تغذيهم بالأموال، أو بالشهرة والمجاملة والنفخ، فالأموال والجوائز والعطايا والكراسي تغذي النشاط الفكري لديهم، تجعل مكوناتهم العقلية فجأة تتفتق بالاكتشافات المبهرة، والثلاجات المليئة باللحوم والسيارات والأراضي.

هم متخلفون في الفكر وإنتاج الكتب، نتاجهم مزيف، ليس فيه أي تحليل للصراعات الطبقية المعاصرة، لأنهم يرفضون أن يتخذوا موقفاً بين الفقراء والأغنياء، بين العمال والإقطاع والبرجوازية، عيارون جدد، ثم يتشدقون بالكثير مع الخرافات الحديثة والقديمة، وهم جبناء انتهازيون يهتمون كثيراً بجيوبهم، وليس بالدفاع عن الحقيقة والناس. من هنا لا يتعمقون في المعارك الاجتماعية والسياسية، فكيف يواصلون ذلك وفيها قطع أرزاقهم الوفيرة؟

فتجد دائماً أن كلماتهم تنصب في اتجاه معين وحيد، مستمر أبدي، لا يتحول ولا يتبدل، وكأنهم آلات ممغنطة وكائنات موجهة، تقرأهم وأنت في البيت دون الحاجة للقراءة، يخافون من أي توجه آخر، مدارون إلكترونياً من أقمار صناعية ومن مخافر كونية، كأنهم وُضعوا على سكك الحديد، لا يلتفتون يمنة أو يسرة، يدافعون عن حكومات، أو عن اتجاهات سائدة بالشعرة مهما ناوروا أو أدعوا، ولهم البنوك والمعاشات والكراسي والجوائز والمنافع والمناصب   والبلاعات، فهي أفكار مدفوع لها سلفاً، وهي كتابات مأجورة مقدماً، وسخافات لانفع فيها وضررها كثير على العقول.

بين عشية وضحاها يتقلب البرجوازيون الصغار الانتهازيون، من العلمانية والثورة التقدمية إلى مساندة التخريف الديني، التخريف الديني والشعوذة وليس إلى  تصحيح هذه المفاهيم وإنتاج عقلانية دينية مفيدة مهما كانت كذلك مصائبها، وينتقلون من الدعوة للثورة العمالية وانتفاضات الكادحين إلى خدمة الملالي والمجرمين المطاردين دولياًً، وتبرير الأرهاب بكل اشكاله لكن دون أن تصيب حصالاتهم وعائلاتهم المقدسة أي ضرر، ويعملون لخدمة الطائفيين وأجهزة الاستخبارات للدول القومية والدينية الدكتاتورية، (يا إلهي كيف يبيع هؤلاء الناسُ أنفسَهم بين عشية وضحاها ؟!).

والأدباء واللامبدعون لهم نصيبهم الكبير الوافر من هذه الانتهازية، وقد كنا ننتظر نضالهم وفضحهم للاستغلال وجلب العمالة الأجنبية الرثة والتصدي للدكتاتوريات وحكومات السرقة، في قصصهم وأشعارهم ورواياتهم، ولكن لا خبر جاءَ ولا نشرٌ نزل!

لكنهم يتعللون أن الأدب والفن ساميان لا يتلوثان بهذا الأسفاف الشعبي، وأنهما نائيان عن المادة، وعن الجمهور البسيط ومحدودية إدراكه وسذاجة مفاهيمه، ومع هذا فنجد أنهم مشغولون بالمادة الذهبية كثيراً، خاصة في شراء اللوحات وكسب الجوائز وطباعة الكتب مجاناً والحصول على تذاكر السفر وحضور المهرجانات بأبهة، ويقولون إن ليس لهم علاقة بالأجور والسفاف الدنيوية فهم من مادة صوفية أثيرية تضحوية خالدة إلا إذا انخفضت مرتباتهم الكبيرة، فسوف يجأرون بالشكوى كثيراً، لقد جفت أشعارهم ولوحاتهم وكتباتهم فقد نأوا عن نضال الشعب، وصارت الكلمة هي الحصالة، وصار الموقف تبعاً لأسعار البورصة، وقل أعطني شيئاً أكتب لك ما تشاء، ثم صار الهراءُ الشعري المادة السماوية التي منها يمتحون كل سخافاتهم وأعمالهم المسرحية والفنية وبراءتهم من دم يوسف! دم الشهداء والمناضلين! وتجدهم يهرجون في المسرح وفي الكتابة وفي السياسة ويظنون أن القراء والمشاهدين جهلة لا يعرفون ما وصلوا إليه من إنحدار ومن عجز عن المقاومة! هل إفادتهم كلماتهم ولوحاتهم وأصنامهم شيئاً إلا ما هو عابر؟

ولا يقل مواطنوهم وأقران السؤ الآخرون (الدينيون) عن هذا المثال (المشع)، بل لقد سبقوهم في العيارة والنصب على السذج، وهؤلاء تاجروا في الدين وهذه من أعظم الكبائر، وجعلوه مصيدة وحصالة فبئس ما يصنعون! إلا من ناضل  جاهراً قوياً من أجل حقوق الناس لا تهمه في الحق لومة لائم وإذا صار لا يُدفع له شيء واصل طريقه، وليس نضاله متوقف على دخله الرفيع، أو على رئيس وكرسي بائس!

البرجوازيون الصغار الانتهازيون ليس لهم من مال كبير يحفظهم من السؤال، ولا من موقف متجذر يرفعهم عن الانحدار، ولا من عمق الفكر ما يسمو بهم عن التسول، ولا من عمق الدين ما ينأى بهم عن التجارة بما هو ثمين لا يُقدر بمال!

خسروا الموقف وهو جوهر الشخصية وتراكمها الأخلاقي الرفيع وقدرتها على النمو والتأصيل والتحليل والبقاء الشامخ والنقد الشجاع الذي لا يطلب مكأفاة ولا رعاية من لصوص، ولا تقدير من الحقير ذي الجاه والمال.

انتهازيةُ التحديثيين

تعددت علاقات فئات البرجوازية الصغيرة بالإقطاع وهي تعتمد على طبيعة العصر ونمط الإنتاج. حين نقرأ كيف يتدهور وعي هؤلاء ويتراجعون من الحداثة إلى المحافظة والطائفية  فلا بد من قراءة ثقافة المرحلة، وزمنية الإقطاع السياسي فحين تكون الدولةُ العربية أقوى من نفوذ رجال الدين ممثلي الإقطاع الديني، هنا تكون لديها من الموارد ما يكفي لشراء ذمم هؤلاء وحين تفقدها يلجأون لغيرها.

 Ø¥Ù† توجه مجموعات و- لا نقول تيارات فكرية سياسية- إلى النفخ في الجماعات الدينية الطائفية بشكل كبير ثم التراخي عن ذلك بسبب قلة الدفع المالي لها من الجماعات الدينية التي صارت هي الممول الكبير يوضح طبيعة التدخلات السياسية الفوقية والأجنبية وحرف هذه الجماعات عن التجذر في أرضها والتغلغل في تحليله ودرسه وكتابة بحوث وبرامج  مؤصلة لقضاياه.

إن هذا الوعي المسطح التجهيلي يقود الناس للكوارث، سواء في اختياراتهم التشريعية أم في نضالاتهم اليومية المجمدة عموماً، ولهذا فإن مبدأية التحديثيين وتوجههم لنشر الخيارات الفكرية الوطنية والديمقراطية والتقدمية غدت طوق النجاة.

أثبتت المرحلة خطورة الانتهازية والكوارث التي سببتها والحصاد المالي الشخصي لبعض قياداتها التي لعبت على الحبال واختارت الدوائر الرسمية وعطائها فكانت مع الطائفيين ساعة صعودهم ومع المال والنفوذ ساعة قوته.

ونجد في انتقالاتها الجغرافية والحياتية والعملية غياباً لأي وعي متجذر وما هي سوى شعارات زائفة كتحبيذ الاشتراكية والدعوة إليها وأصحاب الدعوة همهم جمع المال!

وما تزال قواعد هذه الجماعات غير قادرة على النقد وطرد الانتهازيين من صفوفها وما تزال تعطي لهذه الوجوه المتراقصة على الحبال السياسية مكاناً مهماً.

وهكذا نرى الأشكالَ الاجتماعية من البرجوازية الصغيرة كيف تتذبذب حسب تدفق البحر الاجتماعي، فحين تكون الدولة العربية قوية وذات موارد وتجزل لهم العطاء يؤيدون الكل التحديثي من التطور،  ويعادون الموجات الدينية، حتى إذا بدأت الموازين تختل وضعفت مواردُ الدولة العربية وتفاقمت أزماتُها انتشر الجرادُ الطائفي يأكلُ الحقولَ ويشيعُ القحطَ في الحياة وراحت هذه الفئاتُ نفسها تصعد يافطات مختلفة، تؤيد العودة للوراء وهدم التطور الوطني والحداثة والعلمانية.

وإذا كان الجماعات الدينية القديمة قد فككت الجماهيرَ العربية وقسمتها إلى فسيفساء وأهلتها للسيطرات الأجنبية فهذا ما يقوم به الطائفيون المعاصرون وتوابعهم من البرجوازيين الصغار الانتهازيين المتذبذبين، الذين وجدناهم في مرحلة يرفعون شعارات الثورات العمالية الحمراء والبندقية وسحق الأديان ولا يحللون أزمات الدول وعدم ضبطها للتطور والقيام بإصلاحات جذرية لصالح الجماهير العربية منساقين مع التدهور العام في وعي هذه الجماهير مكرسين التخلف فيها.

في الزمن الراهن كذلك يتصاعد الشكلُ اللاعقلاني من الوعي والتطور، فلا تعرف الجماهير كيف تغير، وتتدفق جماهيرٌ متخلفة في الدرس والعمل على المدن وتطرح مستويات فهمها المتخلفة.

وتقود هذه المعارضات وطرح البرامج المحافظة إلى انقسام الناس وتأييد الفوضى وعدم التوحد، وتتوجه فئات البرجوازية الصغيرة لتأييد الصاعد الذي يزداد طائفية وتخلفاً وتفكيكاً للصفوف والعودة للوراء.

هكذا تنقسم النقابات والمعارضة والأشكال التوحيدية في العمل السياسي وتتوجه فئاتُ البرجوازية الصغيرة لتأييد اللاعقل في المعارضة أو الموالاة، ويغدو الإقطاع الديني هو الأقوى ولهذا نرى الاقسام بين الدول الإسلامية بمنحيين، طائفيين رئيسيين خطرين متصادمين.

ويغدو الخروج من العصر الحديث وتمزيق البلدان ونشر الفوضى والتخلف والحروب هو البرنامج الحقيقي لهؤلاء الذين يركبون الموجات ولا يقدمون حفراً عميقاً في الحياة ولا يضحون بل يريدون الناس هم الذين يضحون من أجلهم. ومن هنا نجدهم يقيمون علاقات مشبوهة مع كل الجهات حسب الفوائد التي يجنونها.

انتهازيةٌ نموذجيةٌ

منذ أن أخطأ بعضٌ من أفراد الجيل الوطني القديم في التحالف مع الطائفيين، نظراً لهشاشة جذورهم الفكرية السياسية العلمانية الوطنية، والأعشاب الضارة تتالى من هذا المنبت.

قام الجيل بتضحياته ومغامراته وكان من الضروري نقده، لكن الحالة النموذجية الانتهازية رغم تكرارها لأهمية العقلانية والهدوء التحليلي وبعد النظر تروح تصرخ هائجة وتحيل الموقف وتشريح الجيل القديم لحالةِ تشنجٍ شخصية بدلاً من تطبيق تلك المفردات الكبيرة في الموضوعية والعلمية لكون القائل الناقد لا يعجبها ولا يقترب من مستنقعها وانتهازيها.

ويمكن أن يستفيد بعض المتعلمين من خلفياتهم السابقة، ويتلاعبوا أكثر بقضايا النضال بدلاً من تجاوز الجيل القديم الذي لم تتح له فرص الدراسة الأكاديمية.

 Ø®Ù„طهم بين العمل السياسي والدين يغدو تلاعباً، فهم من المتعبدين ومن الانتهازيين. فأي جهة تجلب مصلحة ذاتية يمكن تسويقها. من حقك أن تصلي لكن ليس من حقك أن تلغي تاريخ التيار الوطني في العلمانية وفصل الدين عن السياسة!

حين يغدو الصراع السياسي الطائفي حالة اشتباك عامة يجري تصويرة كثورة وجر الوطنيين إليه، وحين يفشل يتبدل القناع، وتـُفضل المصلحة الخاصة. ولا تـُنقد هذه الأخطاء وتـُحلل بل تـُترك للاستفادة من غموضها!

حتى كوارث الشعب العارمة لا تنجو من الفلتر المصلحي الذي يقضم بعض خيراتها رغم الضحايا والكوارث!

كتاباتٌ هزيلة تستفيد من أي موقع، ويهمها التراكم المالي لا النقدي، لا تقوم بتجذير أي تحليل، وتحاول التقليل من شأن الكتابات الوطنية التقدمية وتخريب حتى أسماء أصحابها والتصغير من نتاجاتهم والتعتيم على وجودهم بأشكال صبيانية.

هذا الحقد نتاج تضخم ذاتي وإعطاء هذه الذات الهزيلة فكرياً مقاماً رفيعاً، فهي يجب أن تكون القائد الأول والزعيم المعترف به رغم الهزال الفكري والتلاعب السياسي وغياب النتاج الموضوعي الدارس للبنى الاجتماعية والصراعات الطبقية.

تخريب التيار هو جزء من المصلحة الذاتية فكلما كثر العميان المتخبطون في الليل السياسي كلما وجدت هذه الذات فرصاً للتلاعب بمصير الوطن والناس.

هي جزء من هذا الخراب الذي أمتد عقوداً وهو خريف اليسار حيث لا جدل عميق ولا شخصيات تؤصل الماضي وتصعد بإنجازاته، فهي مشغولة بمنافعها واستغلالها للماضي والحاضر، أو هي جامدة لا تقرأ وتدرس.

  Ù‚وانين الانتهازية

للانتهازية سواء كانت يسارية أم يمينية، علمانية أم دينية، في السلطة أو في المعارضة، قوانين مشتركة.

وقد عمل الانتهازيون في صفوف اليسار طويلاً لعدم توحده، ولتضارب شخوصه ورموزه وقواعده، ولعدم إنتاج فكر مستقل له، بهدف عدم وجود قوانين موضوعية لفكره ولكيانه على الأرض تحاسبهم، وبالتالي يمكنهم التحرك واستغلال تلك القواعد المهلهلة، لمصالحهم الشخصية.

وهكذا هم اليوم يتعكزون على الدينيين أو على جماعات صغيرة شخصية وعديمة الوعي، من أجل وصولهم لكراسي السلطة بشتى أنواعها، وللثروة. فذلك النخر داخل الحركة اليسارية لإطفاء جذوة وعيها وعدساتها الضوئية الاجتماعية، من أجل حركتهم الفردية، وسطوتهم، وعلامات هؤلاء الفارقة هي الغرور والتضخم الشخصي وبث العداوة بين اليسار وربطه بالقوى المحافظة السياسية والدينية وقطف ثمار الثروة.

وهذا ما يقوم به الجيل الجديد من الانتهازية داخل الحركات الدينية، فهو يصعد على تضحياتها، وقواعدها، ولا يقوم بكشف قوانين الثقافة الإسلامية، عبر درس تجربتها، وأسباب انهيار حضاراتها، وتناقضات حركاتها، وكيفية توحدها بالجماهير العاملة، من أجل أن تظل القواعد عمياء، والتنظيمات بلا قوانين ديمقراطية، ولا يتم التفريق بين المضحين والشهداء وبين اللصوص.

إن انتهازيي اليسار يريدون أن يصعدوا إلى البرلمان والسلطة دون تيارات قوية على الأرض، يضحون من أجل زرعها وتكوين عقليتها الديمقراطية بل لعبوا دوراً كبيراً في تمزيقها، فيتعكزون على تضحيات غيرهم، الذي لا يوصلهم إلا بشروط هي أن ينكروا وعيهم اليساري، ويصيروا أفراداً لا يعبرون عن فكر.

 ÙˆØ¨ÙŠÙ† انتهازيي اليمين الديني وأولئك علامات مشتركة، هي أن الانتهازيين في الحركات الدينية وقد استندوا على قواعد منتفخة كماً، عاطلة من الوعي كيفاً، يحبذون هذا النوع من الانتهازية اليسارية، فالدم واحد، وهم يقولون لقواعدهم نريد مثل هؤلاء الذين يعطلون قوانين الوعي والديمقراطية، وهم يعيدون إنتاج هذا النمط داخل حركاتهم، لأنهم غير قادرين على إنتاج ثقافة إسلامية ديمقراطية، تفترض الوحدة والعودة لجذور النضال الموضوعية والاستناد على حركة الجمهور المنظم المسئول السائل.

وكما عانت حركة اليسار من الانتهازية في صفوفها فسوف تعاني الحركات الدينية من الانتهازية في صفوفها سواءً بسواء، فهؤلاء يضعون نظاراتهم المكبرة على الكراسي والثروة، ولم يكن لديهم إنتاج فكري يحدد خطواتهم على الأرض، وبالتالي تغدو حركاتهم دائماً ذاتية كيفية اعتباطية، بلا دستور يؤطرها، ولا قانون يضبطها، ولا قواعد تحاسب عليها.

ولهذا تعتمد الحركات المصنفة بهذا الشكل على عدم خلق النتاج الفكري المؤطر المـُنتج بشكل طليعي والمُناقش بشكل جماهيري بل تعتمد على فلتات الزعيم دام ظله.

فهم يومٌ في أقصى اليسار وهم يومٌ آخر في أقصى اليمين، فلماذا جرى هذا الانتقال العنيف؟ وأين ذهبت التضحيات وكيف ضاعت ساعات العمل والجهود والزمان فهذا كله لا يهم والمهم أن الزعيم جاءته علامة، وحضرت له خاطرة بارقة عظيمة، فحول مسار القطيع.

وهذا الأمر نفسه في الدولة، فالانتهازية موجودة في كل مكان، والانتهازيون الحكوميون لا يريدون أن تكون للدولة قواعد، تحدد تقاسم الثروة وكيفية إجراء المناقصات وكيف تـُحدد الميزانية بشكل علمي وكيف تنـُاقش بشكل شعبي، ولا يريدون أن تـُعرف دخول الشركات وأين تذهب، وأن يظل هناك الخيط السري لتوزيع الثروة للبعض، وهم مثلهم مثل بقية الانتهازيين يقودون المجتمع للهلاك في سبيل صالحهم.

تتفق هذه القوى كلها  على إبقاء لعبة السياسة في أيديها، وكيفية توزيع الأدوار بينها، وتغذية بعضها بعضاً، وفي النهاية يبقى العمال عمالاً ومحدودي دخل بينما يصعد الانتهازيون ويحصلون على الفلل والبيوت والأرصدة ويذهبون للمؤتمرات ويصدرون الكتب عن إنجازاتهم ونضالهم الكبير من أجل الجماهير!

الانتهازية والموضوعية

من الصعب أن يكون الانتهازي موضوعياً، فهو يرى الجهة التي يستفيد منها كأعظم الجهات، والجهة التي يخسر منها كأسواء الجهات، ولهذا لا يرى أي جانب إيجابي في الجهة التي تعارض مصلحته، ولا يرى أن الجهة التي يستفيد منها تسبب الأضرار للآخرين.

وحين تصبح المصلحة الذاتية مُسيرةً لوجهات النظر الفكرية والسياسية، يتشابك الذاتي والموضوعي، وتضيع الحقيقة !

ولهذا حين تصطف جمعيات عديدة مع الدولة لأنها تستفيد منها، وتختفي لغة النقد الموضوعي منها، حيث إذا رأت شيئاً سلبياً من الدولة صمتت، وإذا رأت شيئاً إيجابياً اندفعت تلهج بالمكاسب والمآثر.

وعلى العكس حين ترى شيئاً إيجابياً في الخصوم تسكت، ولا تشير إلى هذا الإيجابي وكأنه لم يكن، وحين ترى شيئاً سلبياً تندفع لإصدار البيانات والتصريحات.

بطبيعة الحال هم يستخدمون هنا لغة تتظاهر بالموضوعية، والصدق والوطنية، والحفاظ على مصالح الشعب العليا وضرورة رؤية التقدم والتسامح الخ..!

وتفعل الجمعيات الأخرى ذات الأمر ، وتتبع نفس الخط، ولكن لمصلحة مختلفة. فإذا قامت الدولة بشيء إيجابي سكتت، أو تحدثت عن النواقص الكبيرة في هذا الإنجاز، وتصبح أحياناً التحولات المهمة في الحياة السياسية بعد عقود الجفاف وكأنها تخلو من أي شيء إيجابي في المسائل المفصلية للحياة السياسية.

وحين يقوم أصدقاؤها بأعمال ما ترفعها إلى السماء، ولا تشير إلى أي جانب سلبي، وخطر على الحياة السياسية والاجتماعية، وكأنها تقدم هؤلاء كأنهم حملان أو غزلان، ولا ترى عمليات التحشيد السلبية أو تراكم الجهل في الجمهور وعدم تبصيره بالحقائق عن هذه الظواهر، فقط لأنها ظواهر صديقة، فصديقي منفوخ كالبالون وعدوي مخسوف إلى أسفل سافلين !

إن الرؤية الذاتية هنا، سواء عند مناصري الدولة الأشداء أو خصومها الأشداء، لا تنتج حالة سياسية وثقافية صحية، ولا تكون وعياً موضوعياً يتراكم عند الناس، بل تقوم على ثقافة الشحن الانتهازية التي لا تتبصر الطرق ومنعرجاتها القادمة، ويقودها سائق مسرعٌ لا يفكر سوى بالوصول إلى وجبته الساخنة، ولا يهتم بالمارة وإشارات المرور !

ولكن يظهر من هذه الحالات الذاتية المصلحية أناسٌ يتبصرون بموضوعية الأشياء، ويغدون أكثر حكمة وعقلاً، ويقومون بتغيير زوايا رؤيتهم ويكتشفون في خصومهم نقاطاً إيجابية، وفي أصدقائهم نقاطاً سلبية.

وعلى مدى نشاط هؤلاء الموضوعيين وتجميعهم للقوى السياسية، وتركيزهم على السلبي أياً كان مصدره، والإيجابي أياً كان منفذه، تتوقف العمليات السياسية والفكرية والتغييرات واتجاهها.

وكلما أزداد عدد هؤلاء في مختلف الجمعيات والتيارات وناضلوا بجرأة من أجل الموضوعية الفكرية والأمانة السياسية، كلما ترسخت خطوط العقلانية والدفاع عن المصلحة العامة، ويزداد انحصار أولئك الذين يكرسون مصالحهم الخاصة، باعتبارها هي الوطن والحقيقة والمستقبل.

لكن هؤلاء الذاتيين المصلحيين ليسوا ضعافاً، بل هم أقوياء، ويستمدون قوتهم أساساً من تفكك الموضوعيين وأصحاب النزاهة، ومن قلة المدافعين عن المصلحة العامة بشكل مستقيم وكلي، لكن النضال السياسي يعتمد على التغلب على هؤلاء بأدوات الوضوح والكشف والتعاون بين مختلف العناصر النزيهة.

إن الانتهازية تتكشف عبر التحليل الواسع والموضوعي وعبر النضال المشترك لتعرية الأقنعة المختلفة.

أسباب الانتهازية في اليسار

تعود أسباب انتشار الانتهازية في اليسار إلى عجزه الفكري عن التحليل، وفي الحياة السياسية تمثل تلك انتهازية من قبل القوى القيادية فيه، لمشاركة قوى الاستغلال في شيء من غنائم المال العام.

وهكذا يتم غض النظر عن جوانب والتركيز على جوانب، بهدف إظهار حسن النوايا سواء للإقطاع المذهبي أو السياسي، بحيث تبدو وجهة النظر المساقة متفقة مع نضال الشعب والديمقراطية والوطنية الخ، لكن من يطلقها يحسب حساباً طبقياً استثمارياً فهو يهدف لخدمة مصلحته.

حين يهاجم الدينيين بقسوة فهو يقصد هنا إظهار نفسه تحديثياً رسمياً وإنه يصلح للارتفاع إلى مقام الموظفين الكبار، وحين يهاجم الرسميين بقسوة مماثلة يريد مغازلة الدينيين لكي يصعدوه إلى مراتبهم العلية.

وتتشكل هنا أقسام جزئية أخرى داخلية ضمن هذا التعدد السياسي والطائفي المتنوع، فهذا يغازل طائفة وآخر يغازل طائفة وثالث يغازل جناحاً في السلطة وآخر يغازل جناحاً آخر، وخامس يغازل جناحاً في الجماعة المذهبية المنشقة وهكذا دواليك يقوم هؤلاء بجرنا إلى الخراب الطائفي..

وبدلاً من نشر الوعي الديمقراطي بين الناس كوعي أساسي يجري نشر الوعي الشمولي وتغليب العناصر الانتهازية..

إن الذين أيدوا إنجازات التحولات نسوا سلبياتها لأنهم قبضوا ثمن السكوت عن السلبي وركزوا على الإيجابي..!

والذين ركزوا على السلبي سرعان ما قفزوا لاستثمار إيجابياتها دون ذكر هذه الإيجابيات، لأن الجمهور الذي صنعوا وعيه على كراهية النظام لا يستسيغ مثل هذه القفزة البهلوانية!

وهو إذ يريد معارضة السياسة السائدة يريد تحولات في رواتبه ومساكنه وأحجام عمالته، لكن الذين يتسلقون على نضاله ومشاعره يريدون الوصول لأهدافهم الخاصة مع بعض البهارات النقدية.

وإذ استطاعت قوى اليمين أن تزيف تحركاتها الاستغلالية تحت غطاء كثيف من البخور الديني، لكن قوى اليسار تاهت ووضحت انقساماتها القائمة على الأهداف الذاتية، فشاركت في التقسيم الطائفي وتعميقه بين فئات الشعب المختلفة.

وصار الوصول للكراسي بديلاً عن إنتاج ثقافة سياسية ديمقراطية تحديثية توزع على كافة السكان، لأن التقلبات في السيرك السياسي كانت كبيرة لا تتيح خلق وعي، فيظهر  موقف حاد ثم يعقبه موقف مناقض، ولا تردم الهوة بين الموقفين من خلال مواقف عقلانية صبورة في كل المواقف.

وهذا كله يفتت جبهة المعارضة وجمهورها الذي يبدأ بالانحسار والتشتت والتمزق وربما التضارب مستقبلاً!

وظهر هناك اتجاهان أساسيان في اليسار الاتجاه الأول هو اتجاه انتهازي، ويتوجه لدعم اليمين الديني، مقابل رشوة سياسية، واليمين الديني أثبت خواء تجربته السياسية سواء لدى المقاطعين أم المشاركين، بل وخطورة تسيده على القوائم والكراسي، لما يقود إليه من أخطار.

والاتجاه الثاني حائر متصارع متذبذب، بين حدة في الهجوم على التيارات الدينية اليمينية، وبين الخشوع لهجومها الخطر على التقدم الوطني.

والاتجاهان يكملان بعضهما، وهما نتاج خطة خفية مشتركة، تمهد الدروب للمتطرفين الدينيين لكي يتقاتلوا ويخربوا..

 Ø¶Ø¹Ù اليسار وانتشار الانتهازية

 ÙˆÙ‡Ø§ØªØ§Ù† السمتان تمثلان وجهي العملة، فقوة اليمين المذهبي تستندُ إلى ضعف اليسار وضعف اليسار يقود إلى قوة اليمين الطائفي بفصائله المختلفة.

 ÙˆØ§Ù„فئاتُ الوسطى المرتكزة على هذا الوعي اليميني المنتشر تقود بالضرورة إلى التهاون في قضايا العمال والموظفين عموماً، فالوعي المذهبي السياسي غير ملتزم بأي برنامج لمصلحة الشغيلة، وهو عبر هذا الغموض الاجتماعي يصَّعدُ بعض افراده لحيازة المكاسب.

 Ø¥Ù† الوعي المذهبي السياسي كوعي انتهازي عميق يحتاج إلى مثل هذا الغموض لعدم الارتباط بالقوى الشعبية وتغيير أوضاعها الاجتماعية، ولبقائها في خدمته.

 ÙˆÙŠØ¬Ø±Ù‰ هنا استغلال الإسلام لخلق مثل هذا الدخان الاجتماعي لتصعيد الانتهازيين.

 ÙˆØ¨Ø§Ù„تأكيد يجرى ذلك عبر الطائفية وليس عبر التوحيد الإسلامي.

 ÙÙ†Ø­Ù† نتمنى أن يسيروا على درب عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب في مكافحة الاستغلال، ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود؟

 ÙˆØ§Ù„طائفية بحد ذاتها إعلان عن توسع تمزيق الشعب وتوسيع هذا اÙ

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 13, 2023 18:38

اليسار في البحرين والانتهازية

عبـــــــدالله خلـــــــيفة
‏‏‏‏‏‏كاتب وروائي
𝓐𝖇𝖉𝖚𝖑𝖑𝖆 𝓚𝖍𝖆𝖑𝖎𝖋𝖆
𝖆𝖚𝖙𝖍𝖔𝖗 𝖔𝖋 𝖘𝖙𝖔𝖗𝖎𝖊𝖘 𝖆𝖓𝖉 𝖓𝖔𝖛𝖊𝖑𝖘
21.10.2014 | 1.3.1948

#المنبر_التقدمي

البورجوازيون الصغار الانتهازيون

هم أساسُ العيارة والجمبزة والانتهازية وتخريب التطور، المنافقون المعاصرون، لهم في كل حزب موقع، ولهم في كل ثورة نصيب، ولهم في كل ثورة مضادة نصيب، وهم مع الفقراء والأغنياء، وهم مع اليسار واليمين، وهم مع الدينيين ومع الملحدين، وهم مع الحكم وأعدائه، وهم مع الحقيقة والباطل، كيفما شئت والمهم أن تدفع!

المهم أن تغذيهم بالأموال، أو بالشهرة والمجاملة والنفخ، فالأموال والجوائز والعطايا والكراسي تغذي النشاط الفكري لديهم، تجعل مكوناتهم العقلية فجأة تتفتق بالاكتشافات المبهرة، والثلاجات المليئة باللحوم والسيارات والأراضي.

هم متخلفون في الفكر وإنتاج الكتب، نتاجهم مزيف، ليس فيه أي تحليل للصراعات الطبقية المعاصرة، لأنهم يرفضون أن يتخذوا موقفاً بين الفقراء والأغنياء، بين العمال والإقطاع والبرجوازية، عيارون جدد، ثم يتشدقون بالكثير مع الخرافات الحديثة والقديمة، وهم جبناء انتهازيون يهتمون كثيراً بجيوبهم، وليس بالدفاع عن الحقيقة والناس. من هنا لا يتعمقون في المعارك الاجتماعية والسياسية، فكيف يواصلون ذلك وفيها قطع أرزاقهم الوفيرة؟

فتجد دائماً أن كلماتهم تنصب في اتجاه معين وحيد، مستمر أبدي، لا يتحول ولا يتبدل، وكأنهم آلات ممغنطة وكائنات موجهة، تقرأهم وأنت في البيت دون الحاجة للقراءة، يخافون من أي توجه آخر، مدارون إلكترونياً من أقمار صناعية ومن مخافر كونية، كأنهم وُضعوا على سكك الحديد، لا يلتفتون يمنة أو يسرة، يدافعون عن حكومات، أو عن اتجاهات سائدة بالشعرة مهما ناوروا أو أدعوا، ولهم البنوك والمعاشات والكراسي والجوائز والمنافع والمناصب   والبلاعات، فهي أفكار مدفوع لها سلفاً، وهي كتابات مأجورة مقدماً، وسخافات لانفع فيها وضررها كثير على العقول.

بين عشية وضحاها يتقلب البرجوازيون الصغار الانتهازيون، من العلمانية والثورة التقدمية إلى مساندة التخريف الديني، التخريف الديني والشعوذة وليس إلى  تصحيح هذه المفاهيم وإنتاج عقلانية دينية مفيدة مهما كانت كذلك مصائبها، وينتقلون من الدعوة للثورة العمالية وانتفاضات الكادحين إلى خدمة الملالي والمجرمين المطاردين دولياًً، وتبرير الأرهاب بكل اشكاله لكن دون أن تصيب حصالاتهم وعائلاتهم المقدسة أي ضرر، ويعملون لخدمة الطائفيين وأجهزة الاستخبارات للدول القومية والدينية الدكتاتورية، (يا إلهي كيف يبيع هؤلاء الناسُ أنفسَهم بين عشية وضحاها ؟!).

والأدباء واللامبدعون لهم نصيبهم الكبير الوافر من هذه الانتهازية، وقد كنا ننتظر نضالهم وفضحهم للاستغلال وجلب العمالة الأجنبية الرثة والتصدي للدكتاتوريات وحكومات السرقة، في قصصهم وأشعارهم ورواياتهم، ولكن لا خبر جاءَ ولا نشرٌ نزل!

لكنهم يتعللون أن الأدب والفن ساميان لا يتلوثان بهذا الأسفاف الشعبي، وأنهما نائيان عن المادة، وعن الجمهور البسيط ومحدودية إدراكه وسذاجة مفاهيمه، ومع هذا فنجد أنهم مشغولون بالمادة الذهبية كثيراً، خاصة في شراء اللوحات وكسب الجوائز وطباعة الكتب مجاناً والحصول على تذاكر السفر وحضور المهرجانات بأبهة، ويقولون إن ليس لهم علاقة بالأجور والسفاف الدنيوية فهم من مادة صوفية أثيرية تضحوية خالدة إلا إذا انخفضت مرتباتهم الكبيرة، فسوف يجأرون بالشكوى كثيراً، لقد جفت أشعارهم ولوحاتهم وكتباتهم فقد نأوا عن نضال الشعب، وصارت الكلمة هي الحصالة، وصار الموقف تبعاً لأسعار البورصة، وقل أعطني شيئاً أكتب لك ما تشاء، ثم صار الهراءُ الشعري المادة السماوية التي منها يمتحون كل سخافاتهم وأعمالهم المسرحية والفنية وبراءتهم من دم يوسف! دم الشهداء والمناضلين! وتجدهم يهرجون في المسرح وفي الكتابة وفي السياسة ويظنون أن القراء والمشاهدين جهلة لا يعرفون ما وصلوا إليه من إنحدار ومن عجز عن المقاومة! هل إفادتهم كلماتهم ولوحاتهم وأصنامهم شيئاً إلا ما هو عابر؟

ولا يقل مواطنوهم وأقران السؤ الآخرون (الدينيون) عن هذا المثال (المشع)، بل لقد سبقوهم في العيارة والنصب على السذج، وهؤلاء تاجروا في الدين وهذه من أعظم الكبائر، وجعلوه مصيدة وحصالة فبئس ما يصنعون! إلا من ناضل  جاهراً قوياً من أجل حقوق الناس لا تهمه في الحق لومة لائم وإذا صار لا يُدفع له شيء واصل طريقه، وليس نضاله متوقف على دخله الرفيع، أو على رئيس وكرسي بائس!

البرجوازيون الصغار الانتهازيون ليس لهم من مال كبير يحفظهم من السؤال، ولا من موقف متجذر يرفعهم عن الانحدار، ولا من عمق الفكر ما يسمو بهم عن التسول، ولا من عمق الدين ما ينأى بهم عن التجارة بما هو ثمين لا يُقدر بمال!

خسروا الموقف وهو جوهر الشخصية وتراكمها الأخلاقي الرفيع وقدرتها على النمو والتأصيل والتحليل والبقاء الشامخ والنقد الشجاع الذي لا يطلب مكأفاة ولا رعاية من لصوص، ولا تقدير من الحقير ذي الجاه والمال.

انتهازيةُ التحديثيين

تعددت علاقات فئات البرجوازية الصغيرة بالإقطاع وهي تعتمد على طبيعة العصر ونمط الإنتاج. حين نقرأ كيف يتدهور وعي هؤلاء ويتراجعون من الحداثة إلى المحافظة والطائفية  فلا بد من قراءة ثقافة المرحلة، وزمنية الإقطاع السياسي فحين تكون الدولةُ العربية أقوى من نفوذ رجال الدين ممثلي الإقطاع الديني، هنا تكون لديها من الموارد ما يكفي لشراء ذمم هؤلاء وحين تفقدها يلجأون لغيرها.

 إن توجه مجموعات و- لا نقول تيارات فكرية سياسية- إلى النفخ في الجماعات الدينية الطائفية بشكل كبير ثم التراخي عن ذلك بسبب قلة الدفع المالي لها من الجماعات الدينية التي صارت هي الممول الكبير يوضح طبيعة التدخلات السياسية الفوقية والأجنبية وحرف هذه الجماعات عن التجذر في أرضها والتغلغل في تحليله ودرسه وكتابة بحوث وبرامج  مؤصلة لقضاياه.

إن هذا الوعي المسطح التجهيلي يقود الناس للكوارث، سواء في اختياراتهم التشريعية أم في نضالاتهم اليومية المجمدة عموماً، ولهذا فإن مبدأية التحديثيين وتوجههم لنشر الخيارات الفكرية الوطنية والديمقراطية والتقدمية غدت طوق النجاة.

أثبتت المرحلة خطورة الانتهازية والكوارث التي سببتها والحصاد المالي الشخصي لبعض قياداتها التي لعبت على الحبال واختارت الدوائر الرسمية وعطائها فكانت مع الطائفيين ساعة صعودهم ومع المال والنفوذ ساعة قوته.

ونجد في انتقالاتها الجغرافية والحياتية والعملية غياباً لأي وعي متجذر وما هي سوى شعارات زائفة كتحبيذ الاشتراكية والدعوة إليها وأصحاب الدعوة همهم جمع المال!

وما تزال قواعد هذه الجماعات غير قادرة على النقد وطرد الانتهازيين من صفوفها وما تزال تعطي لهذه الوجوه المتراقصة على الحبال السياسية مكاناً مهماً.

وهكذا نرى الأشكالَ الاجتماعية من البرجوازية الصغيرة كيف تتذبذب حسب تدفق البحر الاجتماعي، فحين تكون الدولة العربية قوية وذات موارد وتجزل لهم العطاء يؤيدون الكل التحديثي من التطور،  ويعادون الموجات الدينية، حتى إذا بدأت الموازين تختل وضعفت مواردُ الدولة العربية وتفاقمت أزماتُها انتشر الجرادُ الطائفي يأكلُ الحقولَ ويشيعُ القحطَ في الحياة وراحت هذه الفئاتُ نفسها تصعد يافطات مختلفة، تؤيد العودة للوراء وهدم التطور الوطني والحداثة والعلمانية.

وإذا كان الجماعات الدينية القديمة قد فككت الجماهيرَ العربية وقسمتها إلى فسيفساء وأهلتها للسيطرات الأجنبية فهذا ما يقوم به الطائفيون المعاصرون وتوابعهم من البرجوازيين الصغار الانتهازيين المتذبذبين، الذين وجدناهم في مرحلة يرفعون شعارات الثورات العمالية الحمراء والبندقية وسحق الأديان ولا يحللون أزمات الدول وعدم ضبطها للتطور والقيام بإصلاحات جذرية لصالح الجماهير العربية منساقين مع التدهور العام في وعي هذه الجماهير مكرسين التخلف فيها.

في الزمن الراهن كذلك يتصاعد الشكلُ اللاعقلاني من الوعي والتطور، فلا تعرف الجماهير كيف تغير، وتتدفق جماهيرٌ متخلفة في الدرس والعمل على المدن وتطرح مستويات فهمها المتخلفة.

وتقود هذه المعارضات وطرح البرامج المحافظة إلى انقسام الناس وتأييد الفوضى وعدم التوحد، وتتوجه فئات البرجوازية الصغيرة لتأييد الصاعد الذي يزداد طائفية وتخلفاً وتفكيكاً للصفوف والعودة للوراء.

هكذا تنقسم النقابات والمعارضة والأشكال التوحيدية في العمل السياسي وتتوجه فئاتُ البرجوازية الصغيرة لتأييد اللاعقل في المعارضة أو الموالاة، ويغدو الإقطاع الديني هو الأقوى ولهذا نرى الاقسام بين الدول الإسلامية بمنحيين، طائفيين رئيسيين خطرين متصادمين.

ويغدو الخروج من العصر الحديث وتمزيق البلدان ونشر الفوضى والتخلف والحروب هو البرنامج الحقيقي لهؤلاء الذين يركبون الموجات ولا يقدمون حفراً عميقاً في الحياة ولا يضحون بل يريدون الناس هم الذين يضحون من أجلهم. ومن هنا نجدهم يقيمون علاقات مشبوهة مع كل الجهات حسب الفوائد التي يجنونها.

انتهازيةٌ نموذجيةٌ

منذ أن أخطأ بعضٌ من أفراد الجيل الوطني القديم في التحالف مع الطائفيين، نظراً لهشاشة جذورهم الفكرية السياسية العلمانية الوطنية، والأعشاب الضارة تتالى من هذا المنبت.

قام الجيل بتضحياته ومغامراته وكان من الضروري نقده، لكن الحالة النموذجية الانتهازية رغم تكرارها لأهمية العقلانية والهدوء التحليلي وبعد النظر تروح تصرخ هائجة وتحيل الموقف وتشريح الجيل القديم لحالةِ تشنجٍ شخصية بدلاً من تطبيق تلك المفردات الكبيرة في الموضوعية والعلمية لكون القائل الناقد لا يعجبها ولا يقترب من مستنقعها وانتهازيها.

ويمكن أن يستفيد بعض المتعلمين من خلفياتهم السابقة، ويتلاعبوا أكثر بقضايا النضال بدلاً من تجاوز الجيل القديم الذي لم تتح له فرص الدراسة الأكاديمية.

 خلطهم بين العمل السياسي والدين يغدو تلاعباً، فهم من المتعبدين ومن الانتهازيين. فأي جهة تجلب مصلحة ذاتية يمكن تسويقها. من حقك أن تصلي لكن ليس من حقك أن تلغي تاريخ التيار الوطني في العلمانية وفصل الدين عن السياسة!

حين يغدو الصراع السياسي الطائفي حالة اشتباك عامة يجري تصويرة كثورة وجر الوطنيين إليه، وحين يفشل يتبدل القناع، وتـُفضل المصلحة الخاصة. ولا تـُنقد هذه الأخطاء وتـُحلل بل تـُترك للاستفادة من غموضها!

حتى كوارث الشعب العارمة لا تنجو من الفلتر المصلحي الذي يقضم بعض خيراتها رغم الضحايا والكوارث!

كتاباتٌ هزيلة تستفيد من أي موقع، ويهمها التراكم المالي لا النقدي، لا تقوم بتجذير أي تحليل، وتحاول التقليل من شأن الكتابات الوطنية التقدمية وتخريب حتى أسماء أصحابها والتصغير من نتاجاتهم والتعتيم على وجودهم بأشكال صبيانية.

هذا الحقد نتاج تضخم ذاتي وإعطاء هذه الذات الهزيلة فكرياً مقاماً رفيعاً، فهي يجب أن تكون القائد الأول والزعيم المعترف به رغم الهزال الفكري والتلاعب السياسي وغياب النتاج الموضوعي الدارس للبنى الاجتماعية والصراعات الطبقية.

تخريب التيار هو جزء من المصلحة الذاتية فكلما كثر العميان المتخبطون في الليل السياسي كلما وجدت هذه الذات فرصاً للتلاعب بمصير الوطن والناس.

هي جزء من هذا الخراب الذي أمتد عقوداً وهو خريف اليسار حيث لا جدل عميق ولا شخصيات تؤصل الماضي وتصعد بإنجازاته، فهي مشغولة بمنافعها واستغلالها للماضي والحاضر، أو هي جامدة لا تقرأ وتدرس.

  قوانين الانتهازية

للانتهازية سواء كانت يسارية أم يمينية، علمانية أم دينية، في السلطة أو في المعارضة، قوانين مشتركة.

وقد عمل الانتهازيون في صفوف اليسار طويلاً لعدم توحده، ولتضارب شخوصه ورموزه وقواعده، ولعدم إنتاج فكر مستقل له، بهدف عدم وجود قوانين موضوعية لفكره ولكيانه على الأرض تحاسبهم، وبالتالي يمكنهم التحرك واستغلال تلك القواعد المهلهلة، لمصالحهم الشخصية.

وهكذا هم اليوم يتعكزون على الدينيين أو على جماعات صغيرة شخصية وعديمة الوعي، من أجل وصولهم لكراسي السلطة بشتى أنواعها، وللثروة. فذلك النخر داخل الحركة اليسارية لإطفاء جذوة وعيها وعدساتها الضوئية الاجتماعية، من أجل حركتهم الفردية، وسطوتهم، وعلامات هؤلاء الفارقة هي الغرور والتضخم الشخصي وبث العداوة بين اليسار وربطه بالقوى المحافظة السياسية والدينية وقطف ثمار الثروة.

وهذا ما يقوم به الجيل الجديد من الانتهازية داخل الحركات الدينية، فهو يصعد على تضحياتها، وقواعدها، ولا يقوم بكشف قوانين الثقافة الإسلامية، عبر درس تجربتها، وأسباب انهيار حضاراتها، وتناقضات حركاتها، وكيفية توحدها بالجماهير العاملة، من أجل أن تظل القواعد عمياء، والتنظيمات بلا قوانين ديمقراطية، ولا يتم التفريق بين المضحين والشهداء وبين اللصوص.

إن انتهازيي اليسار يريدون أن يصعدوا إلى البرلمان والسلطة دون تيارات قوية على الأرض، يضحون من أجل زرعها وتكوين عقليتها الديمقراطية بل لعبوا دوراً كبيراً في تمزيقها، فيتعكزون على تضحيات غيرهم، الذي لا يوصلهم إلا بشروط هي أن ينكروا وعيهم اليساري، ويصيروا أفراداً لا يعبرون عن فكر.

 وبين انتهازيي اليمين الديني وأولئك علامات مشتركة، هي أن الانتهازيين في الحركات الدينية وقد استندوا على قواعد منتفخة كماً، عاطلة من الوعي كيفاً، يحبذون هذا النوع من الانتهازية اليسارية، فالدم واحد، وهم يقولون لقواعدهم نريد مثل هؤلاء الذين يعطلون قوانين الوعي والديمقراطية، وهم يعيدون إنتاج هذا النمط داخل حركاتهم، لأنهم غير قادرين على إنتاج ثقافة إسلامية ديمقراطية، تفترض الوحدة والعودة لجذور النضال الموضوعية والاستناد على حركة الجمهور المنظم المسئول السائل.

وكما عانت حركة اليسار من الانتهازية في صفوفها فسوف تعاني الحركات الدينية من الانتهازية في صفوفها سواءً بسواء، فهؤلاء يضعون نظاراتهم المكبرة على الكراسي والثروة، ولم يكن لديهم إنتاج فكري يحدد خطواتهم على الأرض، وبالتالي تغدو حركاتهم دائماً ذاتية كيفية اعتباطية، بلا دستور يؤطرها، ولا قانون يضبطها، ولا قواعد تحاسب عليها.

ولهذا تعتمد الحركات المصنفة بهذا الشكل على عدم خلق النتاج الفكري المؤطر المـُنتج بشكل طليعي والمُناقش بشكل جماهيري بل تعتمد على فلتات الزعيم دام ظله.

فهم يومٌ في أقصى اليسار وهم يومٌ آخر في أقصى اليمين، فلماذا جرى هذا الانتقال العنيف؟ وأين ذهبت التضحيات وكيف ضاعت ساعات العمل والجهود والزمان فهذا كله لا يهم والمهم أن الزعيم جاءته علامة، وحضرت له خاطرة بارقة عظيمة، فحول مسار القطيع.

وهذا الأمر نفسه في الدولة، فالانتهازية موجودة في كل مكان، والانتهازيون الحكوميون لا يريدون أن تكون للدولة قواعد، تحدد تقاسم الثروة وكيفية إجراء المناقصات وكيف تـُحدد الميزانية بشكل علمي وكيف تنـُاقش بشكل شعبي، ولا يريدون أن تـُعرف دخول الشركات وأين تذهب، وأن يظل هناك الخيط السري لتوزيع الثروة للبعض، وهم مثلهم مثل بقية الانتهازيين يقودون المجتمع للهلاك في سبيل صالحهم.

تتفق هذه القوى كلها  على إبقاء لعبة السياسة في أيديها، وكيفية توزيع الأدوار بينها، وتغذية بعضها بعضاً، وفي النهاية يبقى العمال عمالاً ومحدودي دخل بينما يصعد الانتهازيون ويحصلون على الفلل والبيوت والأرصدة ويذهبون للمؤتمرات ويصدرون الكتب عن إنجازاتهم ونضالهم الكبير من أجل الجماهير!

الانتهازية والموضوعية

من الصعب أن يكون الانتهازي موضوعياً، فهو يرى الجهة التي يستفيد منها كأعظم الجهات، والجهة التي يخسر منها كأسواء الجهات، ولهذا لا يرى أي جانب إيجابي في الجهة التي تعارض مصلحته، ولا يرى أن الجهة التي يستفيد منها تسبب الأضرار للآخرين.

وحين تصبح المصلحة الذاتية مُسيرةً لوجهات النظر الفكرية والسياسية، يتشابك الذاتي والموضوعي، وتضيع الحقيقة !

ولهذا حين تصطف جمعيات عديدة مع الدولة لأنها تستفيد منها، وتختفي لغة النقد الموضوعي منها، حيث إذا رأت شيئاً سلبياً من الدولة صمتت، وإذا رأت شيئاً إيجابياً اندفعت تلهج بالمكاسب والمآثر.

وعلى العكس حين ترى شيئاً إيجابياً في الخصوم تسكت، ولا تشير إلى هذا الإيجابي وكأنه لم يكن، وحين ترى شيئاً سلبياً تندفع لإصدار البيانات والتصريحات.

بطبيعة الحال هم يستخدمون هنا لغة تتظاهر بالموضوعية، والصدق والوطنية، والحفاظ على مصالح الشعب العليا وضرورة رؤية التقدم والتسامح الخ..!

وتفعل الجمعيات الأخرى ذات الأمر ، وتتبع نفس الخط، ولكن لمصلحة مختلفة. فإذا قامت الدولة بشيء إيجابي سكتت، أو تحدثت عن النواقص الكبيرة في هذا الإنجاز، وتصبح أحياناً التحولات المهمة في الحياة السياسية بعد عقود الجفاف وكأنها تخلو من أي شيء إيجابي في المسائل المفصلية للحياة السياسية.

وحين يقوم أصدقاؤها بأعمال ما ترفعها إلى السماء، ولا تشير إلى أي جانب سلبي، وخطر على الحياة السياسية والاجتماعية، وكأنها تقدم هؤلاء كأنهم حملان أو غزلان، ولا ترى عمليات التحشيد السلبية أو تراكم الجهل في الجمهور وعدم تبصيره بالحقائق عن هذه الظواهر، فقط لأنها ظواهر صديقة، فصديقي منفوخ كالبالون وعدوي مخسوف إلى أسفل سافلين !

إن الرؤية الذاتية هنا، سواء عند مناصري الدولة الأشداء أو خصومها الأشداء، لا تنتج حالة سياسية وثقافية صحية، ولا تكون وعياً موضوعياً يتراكم عند الناس، بل تقوم على ثقافة الشحن الانتهازية التي لا تتبصر الطرق ومنعرجاتها القادمة، ويقودها سائق مسرعٌ لا يفكر سوى بالوصول إلى وجبته الساخنة، ولا يهتم بالمارة وإشارات المرور !

ولكن يظهر من هذه الحالات الذاتية المصلحية أناسٌ يتبصرون بموضوعية الأشياء، ويغدون أكثر حكمة وعقلاً، ويقومون بتغيير زوايا رؤيتهم ويكتشفون في خصومهم نقاطاً إيجابية، وفي أصدقائهم نقاطاً سلبية.

وعلى مدى نشاط هؤلاء الموضوعيين وتجميعهم للقوى السياسية، وتركيزهم على السلبي أياً كان مصدره، والإيجابي أياً كان منفذه، تتوقف العمليات السياسية والفكرية والتغييرات واتجاهها.

وكلما أزداد عدد هؤلاء في مختلف الجمعيات والتيارات وناضلوا بجرأة من أجل الموضوعية الفكرية والأمانة السياسية، كلما ترسخت خطوط العقلانية والدفاع عن المصلحة العامة، ويزداد انحصار أولئك الذين يكرسون مصالحهم الخاصة، باعتبارها هي الوطن والحقيقة والمستقبل.

لكن هؤلاء الذاتيين المصلحيين ليسوا ضعافاً، بل هم أقوياء، ويستمدون قوتهم أساساً من تفكك الموضوعيين وأصحاب النزاهة، ومن قلة المدافعين عن المصلحة العامة بشكل مستقيم وكلي، لكن النضال السياسي يعتمد على التغلب على هؤلاء بأدوات الوضوح والكشف والتعاون بين مختلف العناصر النزيهة.

إن الانتهازية تتكشف عبر التحليل الواسع والموضوعي وعبر النضال المشترك لتعرية الأقنعة المختلفة.

أسباب الانتهازية في اليسار

تعود أسباب انتشار الانتهازية في اليسار إلى عجزه الفكري عن التحليل، وفي الحياة السياسية تمثل تلك انتهازية من قبل القوى القيادية فيه، لمشاركة قوى الاستغلال في شيء من غنائم المال العام.

وهكذا يتم غض النظر عن جوانب والتركيز على جوانب، بهدف إظهار حسن النوايا سواء للإقطاع المذهبي أو السياسي، بحيث تبدو وجهة النظر المساقة متفقة مع نضال الشعب والديمقراطية والوطنية الخ، لكن من يطلقها يحسب حساباً طبقياً استثمارياً فهو يهدف لخدمة مصلحته.

حين يهاجم الدينيين بقسوة فهو يقصد هنا إظهار نفسه تحديثياً رسمياً وإنه يصلح للارتفاع إلى مقام الموظفين الكبار، وحين يهاجم الرسميين بقسوة مماثلة يريد مغازلة الدينيين لكي يصعدوه إلى مراتبهم العلية.

وتتشكل هنا أقسام جزئية أخرى داخلية ضمن هذا التعدد السياسي والطائفي المتنوع، فهذا يغازل طائفة وآخر يغازل طائفة وثالث يغازل جناحاً في السلطة وآخر يغازل جناحاً آخر، وخامس يغازل جناحاً في الجماعة المذهبية المنشقة وهكذا دواليك يقوم هؤلاء بجرنا إلى الخراب الطائفي..

وبدلاً من نشر الوعي الديمقراطي بين الناس كوعي أساسي يجري نشر الوعي الشمولي وتغليب العناصر الانتهازية..

إن الذين أيدوا إنجازات التحولات نسوا سلبياتها لأنهم قبضوا ثمن السكوت عن السلبي وركزوا على الإيجابي..!

والذين ركزوا على السلبي سرعان ما قفزوا لاستثمار إيجابياتها دون ذكر هذه الإيجابيات، لأن الجمهور الذي صنعوا وعيه على كراهية النظام لا يستسيغ مثل هذه القفزة البهلوانية!

وهو إذ يريد معارضة السياسة السائدة يريد تحولات في رواتبه ومساكنه وأحجام عمالته، لكن الذين يتسلقون على نضاله ومشاعره يريدون الوصول لأهدافهم الخاصة مع بعض البهارات النقدية.

وإذ استطاعت قوى اليمين أن تزيف تحركاتها الاستغلالية تحت غطاء كثيف من البخور الديني، لكن قوى اليسار تاهت ووضحت انقساماتها القائمة على الأهداف الذاتية، فشاركت في التقسيم الطائفي وتعميقه بين فئات الشعب المختلفة.

وصار الوصول للكراسي بديلاً عن إنتاج ثقافة سياسية ديمقراطية تحديثية توزع على كافة السكان، لأن التقلبات في السيرك السياسي كانت كبيرة لا تتيح خلق وعي، فيظهر  موقف حاد ثم يعقبه موقف مناقض، ولا تردم الهوة بين الموقفين من خلال مواقف عقلانية صبورة في كل المواقف.

وهذا كله يفتت جبهة المعارضة وجمهورها الذي يبدأ بالانحسار والتشتت والتمزق وربما التضارب مستقبلاً!

وظهر هناك اتجاهان أساسيان في اليسار الاتجاه الأول هو اتجاه انتهازي، ويتوجه لدعم اليمين الديني، مقابل رشوة سياسية، واليمين الديني أثبت خواء تجربته السياسية سواء لدى المقاطعين أم المشاركين، بل وخطورة تسيده على القوائم والكراسي، لما يقود إليه من أخطار.

والاتجاه الثاني حائر متصارع متذبذب، بين حدة في الهجوم على التيارات الدينية اليمينية، وبين الخشوع لهجومها الخطر على التقدم الوطني.

والاتجاهان يكملان بعضهما، وهما نتاج خطة خفية مشتركة، تمهد الدروب للمتطرفين الدينيين لكي يتقاتلوا ويخربوا..

 ضعف اليسار وانتشار الانتهازية

 وهاتان السمتان تمثلان وجهي العملة، فقوة اليمين المذهبي تستندُ إلى ضعف اليسار وضعف اليسار يقود إلى قوة اليمين الطائفي بفصائله المختلفة.

 والفئاتُ الوسطى المرتكزة على هذا الوعي اليميني المنتشر تقود بالضرورة إلى التهاون في قضايا العمال والموظفين عموماً، فالوعي المذهبي السياسي غير ملتزم بأي برنامج لمصلحة الشغيلة، وهو عبر هذا الغموض الاجتماعي يصَّعدُ بعض افراده لحيازة المكاسب.

 إن الوعي المذهبي السياسي كوعي انتهازي عميق يحتاج إلى مثل هذا الغموض لعدم الارتباط بالقوى الشعبية وتغيير أوضاعها الاجتماعية، ولبقائها في خدمته.

 ويجرى هنا استغلال الإسلام لخلق مثل هذا الدخان الاجتماعي لتصعيد الانتهازيين.

 وبالتأكيد يجرى ذلك عبر الطائفية وليس عبر التوحيد الإسلامي.

 فنحن نتمنى أن يسيروا على درب عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب في مكافحة الاستغلال، ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود؟

 والطائفية بحد ذاتها إعلان عن توسع تمزيق الشعب وتوسيع هذا التمزيق إلى مستويات سياسية عليا.

 وضعف اليسار هو الوجه الآخر لقوة اليمين، فاليسار بذيليته لقوى الطائفية، قام بتمزيق صفوفه، لعدم قدرته على الارتقاء إلى مهمات الإسلام التوحيدية، والوطنية، والإنسانية، وتبعيته للطائفيين.

 وتمزيق صفوفه تشكل لملاحقته الشعبية السطحية لهذه القوى، وبدغدغة عواطف الجمهور الجاهل بمصالحه، الذي يقود نفسه للكوارث، كما تشكل ذلك بالضعف التنظيمي الداخلي والصراعات الذاتية، التي شكلها أفرادٌ مرضى معقدون منفصمون عن معارك الناس، ومهووسون بذواتهم الفارغة المريضة. إن طرد هؤلاء من صفوف اليسار صار مهمة ملحة للقواعد بأسرع وقت ممكن.

 ومن هنا فالوعي الوطني الذي علامته البارزة هو اليسار في هذه المرحلة والمرحلة السابقة، لم يجد ممثلين بارزين له. ومن هنا ستتواصل اللعبة الذاتية في استخدام قضايا الناس لتعبئة الجيوب.

 كما يتضح ذلك في ضخامة أعداد المستقلين، الذين لم يحسموا الخيار التاريخي بالصراع الوطني ضد الطائفيين وضد الاستغلال على أغلبية الناس والعاملين؛ والذين يتمسحون بأذيال الطائفيين لتصعيدهم إلى الكراسي، وليس في نضالهم من أجل مصالح الجمهور، التي تترابط مع النضال الوطني ومع قيادة اليسار في هذه المرحلة من التاريخ.

 وأقول اليسار لأن الفئات الغنية العليا صمتت عن الكفاح خلال العقود السابقة، ومن يحمل خطها الآن في المعركة، لم يثبت موقفه بشكل ملموس ومتجذر في الأرض.

 ومن الواضح أن قوى التضحية تضعف مع ضخامة الجهل الشعبي، ولهذا فمن الصعوبة في هذه المرحلة هزيمة القوى الطائفية، لكن يجب عدم الاعتماد عليها حتى في هذه المرحلة؛ وبضرورة عدم خداع الناس بأن هؤلاء سيفعلون أشياء مهمة؛ والخوف أن يفجروا معارك مجانية داخل البرلمان، فنرجو أن يواصلوا التعقل الذي بدأوه مؤخراً بالركون للوحدة الوطنية والنضال السلمي الداخلي المتأني. وتتضاعف المسئولية في الخليج مع طرح الملف النووي الإيراني وما سوف يحدثه من كوارث على المنطقة.

 إن ظهور برلمان وطني توحيدي يكرس نفسه للولاء الوطني ولا يكون تابعاً لقوة سياسية خارجية يصعد الأزمات والصراعات تبعاً لريموت كنترولها، هو الخندق الأساسي الذي يجب أن نصطف فيه، مدافعين عن التطور الديمقراطي الداخلي في أي بلد، وبضرورة رفض التدخلات الأجنبية وإعطاء الشعوب حقوقها كذلك.

إن مهمات النضال الوطني التوحيدي ومعالجة المشكلات الكبيرة من تدني الأجور وسياسة سيادة العمالة الأجنبية وضخامة تلوث البيئة وعدم وجود تخطيط عمراني — اقتصادي متكامل الخ، ان كل هذه المهمات وغيرها يجب أن تكون بؤرة عمل البرلمانيين. لكن توجه المذهبيين السياسيين هو توجه طبقي بخدمة شرائح صغيرة في المجتمع.

الانتهازيون والفوضويون

مع غياب التيارات العقلانية الوطنية الديمقراطية انفتح الباب للفوضويين والانتهازيين للسيطرة على الساحة العقلية المعطلة للجمهور.

انتشار الوعي الديمقراطي توارى بسبب هذا الكم من الفوضويين والمسعورين سياسياً والحمقى فكرياً، فهؤلاء كانت مهمتهم الحقيقيةخلال سنوات عديدة سابقة هي تخريب ساحة النضال، ففي أيام العمل السري كان تجنيد الأعضاء ودفعهم في معارك غير متكافئة، وجر الشباب لأعمال تفوق فهمهم، وكان شعارهم (اعترفْ وأخرجْ من السجن) مما صحر القواعد وغيّب المناضلين والتراكم الديمقراطي والتماسك النضالي والصلابة السياسية والأفق الفكري المنفتح.

أعتمد هؤلاء على لغة الصراخ والانفعال الشديد مما جعل سياسة الحماقة هذه تولد(قادة) فوضويين عنفيين كل قدراتهم تكمن في الصراخ وعدم فهم الواقع والمستقبل، مما أدى إلى انتشار مدرسة الحماقة هذه خاصة في الجيل التالي الذي أجدب يسارياً ووطنياً ووسع من الدينيين الطائفيين الذين أوصلوا هذه الحالة للذروة،  وقسموا المجتمع، وهدموا الفكر والتطور.

ما زال هؤلاء المغامرون الفوضويون يحكمون الصفوف الأولى في الجماعات السياسية، ويكرسون نهج الحماقة حتى بعد أن أُصيب الجيل الأول بالخيبات والاختفاء والهزائم.

هذا صّحر الواقع السياسي من الوعي، ومن رؤية المستقبل والانضباط العقلاني السياسي، وجعل الجملة الحادة الصاخبة، واستعمال الأيدي والألفاظ البذيئة والادعاءات السياسية المراهقة حتى في البرلمان بديلاً عن العقلانية والتراكم السياسي الطويل وتكوين الجماعات المعتدلة المتنفذة ذات المشاريع السياسية وفهم مشكلات الجمهور والبلد والمساهمة في حلها.

هذا مكن الانتهازيين من جهة أخرى من فرش نفوذهم في الواقع السياسي المريض، فهؤلاء لا يملكون أي وعي وأي رغبة في إصلاح المجتمع بقدر ما يسعون لتكوين مصالحهم الخاصة وتكوين شلل الفساد العامة الخاصة.

وقد حصلوا على فرصهم مع غياب العقلانيين والوطنيين المخلصين بعيدي النظر وأصحاب البرامج والثقافة السياسية العميقة فعطلوا البرلمان والصحافة والوعي عامة.

وهكذا بدلاً من دحر الفوضويين واستخدام ما في خطاباتهم من نواة عقلانية وفرزها عن الفوضى والصخب والعنف الذاتي، يقومون برفض كلَ شيء وعدم طرح البديل وعدم التعبير عن مشكلات الناس والمجتمع، مصورين أنفسهم بأنهم دعاة العقل وليس قوى الفساد السفلى المشاركة القارضة للمال العام.

تقوم الفوضوية والانتهازية بدور متكامل مشترك وهو منع الوعي السياسي الناضج من التكون ومن تشكل قوى الإصلاح الشعبية، وتحولها لتيارات مؤثرة.

وبهذا يفقد الجمهور أمل التغيير، وينتشر فيه اليأس ويفرز ذلك قوى التطرف والعنف والجريمة.

بدون النقد وتكوين البديل الإعلامي وطرح النماذج السياسية المركبة الجامعة للنقد والمسئولية التعبيرية والحكمة العملية، فإن هذه النماذج المخربة للعمل السياسي الوطني سوف تنتشر وتمنع التطور مستفيدة من الفوضوية والمراهقة السياسية.

 تفكك الثقافة الفاعلة

حين نرى المسار المؤلم للجماعات التحديثية التي بدأت حادة مخيفة في أطروحاتها ثم انتهت وهي تبحث عن المال بأي صورة، لا بد أن نقوم بدرس ذلك، فهو مسار معقد وقد يتكرر لدى المجموعات الدينية كذلك وربما بطريقة أكثر حدة وتعقيداً.

 لنلاحظ ان الاهتمام بالأشكال والجوانب التحديثية المفصولة عن مضمون تغيير أحوال الناس، أي الاهتمام بالأنا على حساب النحن، وكذلك لغة الهجوم الحادة على الإرث والتقاليد وتوجيه المجابهة بين قوى المعارضة، تماثل الطرح قبل عقود أن حل كل المشكلات يمكن عبر البندقية ولغة النار.

 ولكن مجموعات الفئات الوسطى المعبرة عن تجربة أقصى اليسار، كانت وهي تدفع ثمناً باهظاً من حياتها لمثل هذه الأفكار، لم تتعلم منها أثناء التجربة، وإذا غدا الحرمان مكروهاً، وتطوير وعي الذات الحزبية بالواقع وبالفكر غير ممكن لأسباب كثيرة، لهذا كان الاتجاه نحو النقيض، نحو المال والمراكز والشهرة والصداقة مع الأنظمة والحركات الشمولية ومع المهيمنين بشتى ألوانهم، والمهم خدمة الأنا.

 كان هذا الإفلاس الفكري يتجلى بالوقوف عند المرتكزات الشمولية للنظام الشمولي القديم، (الاتحاد السوفيتي، والصين وكوبا) أو بالارتهان كلياً للتجربة الغربية، وتأتي عدم القدرة على فهم النظام العربي التقليدي الراهن، وتشجيع الأنظمة كذلك لانفتاحية الفئات الوسطى، في التوجه للانتهازية اليمينية هذه المرة، أو التشدق بألفاظ اليسار عبر جمل باترة وامضة؛ مع غياب الموقف التوحيدي لليسار والقوى الديمقراطية عامة..

 إن هذا ينطبق على انهيار أنماط الوعي المستخدمة، كغياب الدراسة العلمية، وتخثر الشعر، وجمود القصة، وشكلانية اللوحة التشكيلية وموتها، وسفر الأغنية الثورية إلى الصمت والتجارة، وانتهازية القانون حسب مواقف الجماعة الخ..

 إن العجز العميق عن التطور يولد أمراض جنون العظمة، وتشجيع الشلل لتخريب الثقافة الوطنية ومعاييرها الموضوعية، وتكريس النجومية وحب المال، وتفكيك الجماعات اليسارية والوطنية عموماً.

 إن الخراب كان كبيراً في العمق، وهو خرابٌ غير مدروس، وغير معروفة آثاره، ولكن ظاهرة العجز عن الفعل، وتكرارية اللغة الميتة، والعودة للمأتمية، والاصطافات اللامبدئية، والعجز عن النقد العميق، هي وغيرها تشير إلى تخثر فعل ممثلي هذه الفئات الوسطى، وعجزهم عن العمل الاجتماعى الفاعل.

 ومن هنا نجد أن الثقافة الرسمية السائدة في بعض الدوائر تشجع على كل ما هو منقطع عن الموقف المبدئي، والاحتفاء بالخارج، ولهذا فهم يشجعون ثقافة من موزمبيق لكن لا يمدون ايديهم للمنتج المنهار المحلي، إلا إذا تخلى عن ثقافته الوطنية المنتجة وتحول إلى أراجوز سياسي أو شعري أو تشكيلي أو مسرحي، فالمهم هو الاستعراضات.

 لغد قامت القوى (التحديثية) بتقزيم بعضها بعضا، فتلك الجماعة تحتكر أغلب جوانب الثقافة المفيدة المدرة للأرباح، ولكن إلى ماذا قاد ذلك؟ إلى التخلي عن نقد الواقع، وعدم قدرة النتاجات ان تعري الأخطاء، وهذا الجانب لم يتغير حتى بعد أن أخذت الدوائر الرسمية تنقد نفسها. وتغدو التحالفات غير مبدئية، فالسياسي الذي ينقد بقوة وحِدة الواقع السياسي، يصمت عن نقد الواقع الثقافي الفاسد، فلم يمتلك منهجين مختلفين؟

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 13, 2023 18:38

February 12, 2023

الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية كتب عمر كوش

الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية الجزء الأول والثاني

الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
مؤلف هذا الكتاب هو عبدالله خليفة، الكاتب والروائي البحريني، له العديد من الأعمال الروائية والدراسات.

وفي كتابه «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية»، يحاول خليفة تلمس ظاهرات الوعي العربي ـ الإسلامي بجانبيه الأساسيين: الدين والفلسفة، وبجذور هذا الوعي الأولى، التي تمتد من مرحلة الجاهلية وظهور الإسلام، ثم تشكل الدولة الإسلامية، وصولاً إلى نهاية الدولة الأموية.
ويأمل في أن يحمل عمله رؤية جديدة إلى «الوعي العربي»، الذي بدأ في الظهور بصفة وثنية، ثم انحاز إلى الطبيعة الدينية التوحيدية، وهو أمر غير معزول عن إطاره التاريخي، وعن بنيته الاجتماعية الخاصة التي يقوم بتكوينها، جدلاً مع التاريخ، وحفراً في الحاضر.
هذا الموضوع الواسع، وغير المقيد، يتطلب التركيز على بنية فكرية واجتماعية واسعة وممتدة ومتحولة، تشمل جملة الأفكار التي كانت سائدة في المجتمع العراقي الجنوبي القديم، وعلى الخطوط العرضية لتطور الوعي الديني في مصر الفرعونية، لاكتشاف طبيعة النظام الاجتماعي التي كانت سائدة وقتئذ، وتبيان دور ذلك النظام الاجتماعي في التطور التاريخي.
ذلك أن الوعي العربي، بمعناها الإجرائي، ومن ثم تطوره اللاحق: الوعي الإسلامي، وهو ينمو داخل بنيته الاجتماعية يقوم باستعادة تلك العناصر من العصور القديمة، سواء عبر علاقته المباشرة، أو من خلال التأثيرات الفكرية التي تأطرت من خلال الأديان: الوثنية، واليهودية، والمسيحية.
لكن دراسة البنية الاجتماعية، عليها أن لا تجعل الباحث مأسوراً في طابعها التقني، أي اعتبار الوعي مجرد اتجاهاته فكرية وسياسية، بل يتوجب اعتباره علاقات حية، اجتماعية واقتصادية وثقافية محددة.
وإذا كان الإسلام ظاهرة نمت بين الرعاة وفي المجتمع العربي الرعوي فلابد أن تكون جذوره مربوطة بمستويات هذا المجتمع، ولكنه عبّر ـ من حيث الإتجاه ـ عن تحول حضاري يتجاوز مجتمع الرعاة هذا، ويستهدف تخطيطه وتمدينه.
وعليه تتشكل علاقة الدرس والتحليل للعلاقة بين المدينة (مكة) كقاعدة حضارية لهؤلاء الرعاة. علماً أن بين القيادة الطليعية والجسم الاجتماعي تتكون علاقات معقدة من التداخل والتجاوز.
وفي العهد الراشدي كانت البنية السائدة تستند إلى ظهور ملكية الدول للأراضي العامة (الصوافي)، وظهور نمط جديد من الإنتاج والتوزيع، الأمر الذي أفضى إلى سلسلة من التغيرات الاجتماعية والفكرية، ومع ترسخ هذه البنية واستعادة الهياكل الاقتصادية العائدة إلى العصر القديم، تبدأ اجتماعات سياسية عميقة في هذه البنية، تفضي إلى النظام السياسي الأموي.
وعليه يتوغل خليفة في دراسة في بنية النظام الأموي وتناقضاتها وسيرورة الصراعات داخلها وسببيتها، بحيث يقوم بوضع الخطوط العريضة لتطور المجتمع العربي ـ الإسلامي في هذه المراحل الاجتماعية والسياسية المتعددة، من خلال قراءة عملية انتقاله من البداوة إلى الحضارة.
وتبيان طبيعة الصراعات وأشكالها ومضامينها، وصولاً إلى دراسة التشكيلية الاقتصادية ـ الاجتماعية التي استقر عليها. والمنطلق في ذلك هو أن تبعية الإنسان للطبيعة هنا وعدم وجود قدرات إنتاجية تحويلية لديه، كانت تقود إلى سيطرة القوى الماورائية المختلفة، تعبيراً عن الجوانب والقوى المادية في الكون والحياة التي تهيمن عليه.
غير أن إنسان العصور القديمة أوجد الرؤى والشخوص المتخصصة في التحكم في عملية الإنتاج الروحي، كشكل أولي سحري من المثالية، أي عبّر هذا الوعي الذي يعطي الخارج الميتافيزيقي القدر على السيطرة على الداخل الإنساني، سواء كان هذا الداخل تنظيما اجتماعيا أم أفكارا ومشاعر.
ويمكن القول أن المثالية أخذت صيغتها الأولى من السحر والطقوس والأديان البدائية، حيث القوى الغريبة المختلفة تسيطر على بناء الطبيعة، فتهندس الكون وتشكله من خلال المواد الطبيعية والاجتماعية المتاحة لها، سواء كانت عبر المعارك مع الحيوانات الخرافية أم مع القوى الطبيعية الملتحمة بها كالبحر والسماء والنجوم والعواصف والطوفان الخ .
لكن خليفة يعتبر أن الغيبية الدينية كانت الأم الأولى للمثالية، التي ستغدو المدرسة الفلسفية الكبرى فيما بعد، والتي ترى أسبقية الفكرة في صنع الوجود، ومرد اعتباره هذه الأفكار الغيبية نظرات وأفكار مثالية، هو إعطائها القوة الفكرية والتصورات العقلية السحرية والأسطورية، الدور الأول في صياغة العالم.
لذلك اعتمدت الفلسفات المثالية، التي ستتشكل فيما بعد، على هذه الجذور الدينية والأسطورية، حيث تتراكم المعارف ويكتشف التجريد والتعميم النظري، ويلتحم بالمنجزات العلمية المختلفة. فضلاً عن أن هذه العناصر الميتافيزيقية شديدة الغيبية تظل الأقوى في الحضور الفكري، في حين إن الفلسفة المثالية الموضوعية لا تكاد أن تخرج إلا فيما بعد، وبعد عدة قرون من ظهور الإسلام في المجتمع العربي.
والمعروف أنه في سياق التحول التاريخي للبشر، حدث تمايز بين شكلين من الوعي المثالي، الأديان ـ الأساطير والفلسفة، لكن حين تأقلمت الأخيرة في بلاد المشرق، فقد كان بانتظارها تلك الأديان والأساطير في مرحلة جديدة من تطورها، فقامت الأديان والأساطير باستيعاب الفلسفة اليونانية في عباءتها الغيبية، مثلما قامت الفلسفة بالصراع ضد الأشكال الغيبية المطلقة.
ويرى خليفة أن العلاقة بين الدين والفلسفة لا تعتمد على تضادهما الفكري، باعتبارهما مستويين مختلفين من التشكيل المعرفي، بل أيضاً على الصراع الاجتماعي أو التعاون أو الإلحاق القائم بين الإشراف والفئات الوسطى، أي أن التضاد بين الدين والفلسفة قد يصل إلى المضامين العميقة المشكلة لهما.
ولهذا فقد غلب على الفلسفات اليونانية في مرحلتها الأولى الاتصاف بالمادية حين كانت مستقلة ومعبرة عن اتجاهات الفئات الوسطى في مدن حرة، ولكن الاتجاهات المثالية نمت وتطورت وسادت فيها بعد ضمور الفئات الوسطى إلحاقها بالدولة وصعود طبقة ملاك العبيد.
إذن، يهتم خليفة بقراءة الجذور القديمة لتشكيل الوعي العربي في مرحلتيه، الوثنية والإسلامية، لكن السؤال يبقى حول إمكانية العثور على وعي غير الوعي الديني بمرحلتين وببنيتين، وعن المرحلة التي وضعت وصنعت القواعد الأساسية للوعي في كل مرحلة من مراحل التاريخ العربي الإسلامي.
وبعيداً عن مثل هذه الأسئلة يبحث خليفة في الأبنية الفكرية التي تشكل على أساسها الوعي الفلسفي المكتمل في العصر العباسي. ثم ينتقل إلى بحث أبنية الفلسفة المختلفة .
وفي سياق تلمس مراحل تطور الوعي الديني في المشرق القديم يرى خليفة أن مرحلة الانتقال إلى يثرب هي التي ستجذر الدعوة الإسلامية، وتجعلها تتغلغل في البنية الصحراوية، فالقبائل العربية في يثرب، الأوس والخزرج، التي وجدت أنفسها تُأكل في حروبها الداخلية، وتحاصر بإمكانيات اليهود الاقتصادي.
وتغدو مدينتها مهمشة وضعيفة تجاه مكة المستحوذة على السيادة على الحجاز، رأت إن مناصرتها للدعوة الإسلامية سوف تجعل مدينتها في مركز الصدارة.
ومثل أي دين غدا الإسلام التأسيسي منظومة فكرية وسياسية واجتماعية شاملة، فاتحد الفكري بجهاز الدولة الوليد، وغدت العبادات والمعاملات والغيبيات في كتلة واحدة، وكلها تستهدف عبر ترابطها العقيدي أن تنقل العرب من عالم المختلف والتفكك إلى حضارة.
ثم ظهر التفكير بالقدرة، والتاريخ العربي ـ الإسلامي يشكل أولى خطواته، وقد غدا هذا التاريخ هو موضوعه، وبدأ هذا التفكير أولياً مضطربا متسائلاً عن هذا القضاء المهيمن، وعن مدى حجم الإرادة فيه، ثم راح هذا التفكير الأولي بالنمو مع اتساع حجم الصراعات السياسية والاجتماعية .
وكان تشكل علم الكلام داخل الإطار الديني جعله محكوماً بالمقولات الدينية الأساسية، وبالفهم المحدد للعصر، باعتبار الوجود مخلوقاً بشكل كلي لله، سواء في ماضيه أم مستقبله، وبهذا فإن التاريخ الإسلامي نشأ من هذه الإرادة الكلية.
ومن هنا يستنتج خليفة أن الفلسفة لم تولد مع المعتزلة، رغم أنها استفادت من حركتهم الدينية ـ السياسية الداعية للحركة والعقل، وقد كان للفلسفة أن تنشأ على انقاضهم، بعد أن عجزوا عن استثمار التراكم المعرفي في إنتاج رؤى فلسفية شاملة.
كما أن الاختلاف بينهم وبين الفلاسفة، الذين سيكونون دينيين كذلك، إذا استثنينا الدهريين الذين أزيلت أقوالهم من الذاكرة التاريخية، أن المعتزلة لم تكن لديهم فلسفة كونية شاملة، أي نظرة تشمل مختلف حيثيات الوجود، ونمت آراؤهم داخل تلافيف النص الديني، متأولين الجوانب الشديدة الغيبية أو الكثيرة الخوارق، وغير المعقولة، بشكل نسبي وعفوي.
وينصب جهد خليفة على الأمور المتعلقة بالجانب الديني التي يربطها بالبنى التحتية، وفاء لمقولات انحسر أنصارها وزمانها، حيث أن تشكل العقل الديني الإسلامي جرى فوق تطورات اجتماعية مركبة متضادة، فهناك محاولات لجعل البنية الاجتماعية في خدمة الإنسان، وبرغم إن هذه المحاولات كانت تحوي رموزاً غيبية كثيرة، حيث لا عقل ممكن في ذلك الحين بدونها.
لكن كافة الرموز الغيبية والإرث الغيبي الواقعي واللحظة التاريخية، توحي بأن التاريخ حينئذ يعبر عبر عقل واقعي متحكم في سيرورته، وليس ذلك سوى مظهر لهيمنة الأكثرية على الثروة فالمصير.
ولا يجهد خليفة نفسه في البحث والفلسفة ولا علم الكلام السابق عليها، إذ كان علم الكلام وليد المناقشات بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين ممثلي الديانات الأخرى: اليهودية والمسيحية، والتي كان معتنقوها يعيشون بأمان في دار الإسلام.
وقد ساهم التعايش وبين الفرق والمدارس الإسلامية في شحذ العقول وحثها على العلم والدرس، وفي تحرير الأذهان من أسر التقاليد الدينية الضيقة. وأدى الحوار والجدل بينهم إلى بروز دور العقل حكماً أعلى في المناقشات اللاهوتية.
وفي فهم العقائد الدينية نفسها. وفي سياق هذه المشادات ظهرت وتطورت النزعة العقلانية في علم الكلام، أول التيارات الفلسفية في الفكر الإسلامي، الذي طوره مفكرو المعتزلة، ومن ثم الأشاعرة .
كما لا يعطي خليفة أية أهمية للفلسفة المشائية، حيث يعتبر الكندي الذي لقب بـ «فيلسوف العرب» أول العرب الذين اشتغلوا بـ «علوم الأوائل» اليونانية ونشرها، وجاءت أعماله لتعكس خليطاً واسعاً من المذاهب التي تنحدر إلى أرسطو وأفلاطون وأفلوطين وبرقليس والفيثاغوريين.
كذلك فإن الحكمة الصوفية والتصوف بشكل عام لا يجدان متسعاً من البحث، مع أن ظهور التصوف يعود إلى فجر الإسلام، وقد تطور من سلوك الزهد والتنسك إلى القول بالمحبة والفناء والحلول، فالتأمل الفلسفي. وظهرت في المرحلة الفلسفية للتصوف مدرستان أساسيتان، هما: الإشراقية التي أسسها السهروردي، والوجودية التي أرسى أسسها ابن عربي.
كل ذلك كان غائباً في «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية» على حساب قراءة الأوضاع الاجتماعية والصراعات السياسية، وكشف حراك «الطبقات» وتحولات الأديان، وتحققات الوعي العربي، هذا الوعي الذي بقي يحلق في سماء خالية من المفاهيم، ولم يجد أرضاً يعيد عليها أقلمته.

عمر كوش

الكتاب: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 2005

الصفحات: 599 صفحة .

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 12, 2023 00:36

الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية كتب عمر كوش

الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية الجزء الأول والثاني

الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
مؤلف هذا الكتاب هو عبدالله خليفة، الكاتب والروائي البحريني، له العديد من الأعمال الروائية والدراسات.

وفي كتابه «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية»، يحاول خليفة تلمس ظاهرات الوعي العربي ـ الإسلامي بجانبيه الأساسيين: الدين والفلسفة، وبجذور هذا الوعي الأولى، التي تمتد من مرحلة الجاهلية وظهور الإسلام، ثم تشكل الدولة الإسلامية، وصولاً إلى نهاية الدولة الأموية.
ويأمل في أن يحمل عمله رؤية جديدة إلى «الوعي العربي»، الذي بدأ في الظهور بصفة وثنية، ثم انحاز إلى الطبيعة الدينية التوحيدية، وهو أمر غير معزول عن إطاره التاريخي، وعن بنيته الاجتماعية الخاصة التي يقوم بتكوينها، جدلاً مع التاريخ، وحفراً في الحاضر.
هذا الموضوع الواسع، وغير المقيد، يتطلب التركيز على بنية فكرية واجتماعية واسعة وممتدة ومتحولة، تشمل جملة الأفكار التي كانت سائدة في المجتمع العراقي الجنوبي القديم، وعلى الخطوط العرضية لتطور الوعي الديني في مصر الفرعونية، لاكتشاف طبيعة النظام الاجتماعي التي كانت سائدة وقتئذ، وتبيان دور ذلك النظام الاجتماعي في التطور التاريخي.
ذلك أن الوعي العربي، بمعناها الإجرائي، ومن ثم تطوره اللاحق: الوعي الإسلامي، وهو ينمو داخل بنيته الاجتماعية يقوم باستعادة تلك العناصر من العصور القديمة، سواء عبر علاقته المباشرة، أو من خلال التأثيرات الفكرية التي تأطرت من خلال الأديان: الوثنية، واليهودية، والمسيحية.
لكن دراسة البنية الاجتماعية، عليها أن لا تجعل الباحث مأسوراً في طابعها التقني، أي اعتبار الوعي مجرد اتجاهاته فكرية وسياسية، بل يتوجب اعتباره علاقات حية، اجتماعية واقتصادية وثقافية محددة.
وإذا كان الإسلام ظاهرة نمت بين الرعاة وفي المجتمع العربي الرعوي فلابد أن تكون جذوره مربوطة بمستويات هذا المجتمع، ولكنه عبّر ـ من حيث الإتجاه ـ عن تحول حضاري يتجاوز مجتمع الرعاة هذا، ويستهدف تخطيطه وتمدينه.
وعليه تتشكل علاقة الدرس والتحليل للعلاقة بين المدينة (مكة) كقاعدة حضارية لهؤلاء الرعاة. علماً أن بين القيادة الطليعية والجسم الاجتماعي تتكون علاقات معقدة من التداخل والتجاوز.
وفي العهد الراشدي كانت البنية السائدة تستند إلى ظهور ملكية الدول للأراضي العامة (الصوافي)، وظهور نمط جديد من الإنتاج والتوزيع، الأمر الذي أفضى إلى سلسلة من التغيرات الاجتماعية والفكرية، ومع ترسخ هذه البنية واستعادة الهياكل الاقتصادية العائدة إلى العصر القديم، تبدأ اجتماعات سياسية عميقة في هذه البنية، تفضي إلى النظام السياسي الأموي.
وعليه يتوغل خليفة في دراسة في بنية النظام الأموي وتناقضاتها وسيرورة الصراعات داخلها وسببيتها، بحيث يقوم بوضع الخطوط العريضة لتطور المجتمع العربي ـ الإسلامي في هذه المراحل الاجتماعية والسياسية المتعددة، من خلال قراءة عملية انتقاله من البداوة إلى الحضارة.
وتبيان طبيعة الصراعات وأشكالها ومضامينها، وصولاً إلى دراسة التشكيلية الاقتصادية ـ الاجتماعية التي استقر عليها. والمنطلق في ذلك هو أن تبعية الإنسان للطبيعة هنا وعدم وجود قدرات إنتاجية تحويلية لديه، كانت تقود إلى سيطرة القوى الماورائية المختلفة، تعبيراً عن الجوانب والقوى المادية في الكون والحياة التي تهيمن عليه.
غير أن إنسان العصور القديمة أوجد الرؤى والشخوص المتخصصة في التحكم في عملية الإنتاج الروحي، كشكل أولي سحري من المثالية، أي عبّر هذا الوعي الذي يعطي الخارج الميتافيزيقي القدر على السيطرة على الداخل الإنساني، سواء كان هذا الداخل تنظيما اجتماعيا أم أفكارا ومشاعر.
ويمكن القول أن المثالية أخذت صيغتها الأولى من السحر والطقوس والأديان البدائية، حيث القوى الغريبة المختلفة تسيطر على بناء الطبيعة، فتهندس الكون وتشكله من خلال المواد الطبيعية والاجتماعية المتاحة لها، سواء كانت عبر المعارك مع الحيوانات الخرافية أم مع القوى الطبيعية الملتحمة بها كالبحر والسماء والنجوم والعواصف والطوفان الخ .
لكن خليفة يعتبر أن الغيبية الدينية كانت الأم الأولى للمثالية، التي ستغدو المدرسة الفلسفية الكبرى فيما بعد، والتي ترى أسبقية الفكرة في صنع الوجود، ومرد اعتباره هذه الأفكار الغيبية نظرات وأفكار مثالية، هو إعطائها القوة الفكرية والتصورات العقلية السحرية والأسطورية، الدور الأول في صياغة العالم.
لذلك اعتمدت الفلسفات المثالية، التي ستتشكل فيما بعد، على هذه الجذور الدينية والأسطورية، حيث تتراكم المعارف ويكتشف التجريد والتعميم النظري، ويلتحم بالمنجزات العلمية المختلفة. فضلاً عن أن هذه العناصر الميتافيزيقية شديدة الغيبية تظل الأقوى في الحضور الفكري، في حين إن الفلسفة المثالية الموضوعية لا تكاد أن تخرج إلا فيما بعد، وبعد عدة قرون من ظهور الإسلام في المجتمع العربي.
والمعروف أنه في سياق التحول التاريخي للبشر، حدث تمايز بين شكلين من الوعي المثالي، الأديان ـ الأساطير والفلسفة، لكن حين تأقلمت الأخيرة في بلاد المشرق، فقد كان بانتظارها تلك الأديان والأساطير في مرحلة جديدة من تطورها، فقامت الأديان والأساطير باستيعاب الفلسفة اليونانية في عباءتها الغيبية، مثلما قامت الفلسفة بالصراع ضد الأشكال الغيبية المطلقة.
ويرى خليفة أن العلاقة بين الدين والفلسفة لا تعتمد على تضادهما الفكري، باعتبارهما مستويين مختلفين من التشكيل المعرفي، بل أيضاً على الصراع الاجتماعي أو التعاون أو الإلحاق القائم بين الإشراف والفئات الوسطى، أي أن التضاد بين الدين والفلسفة قد يصل إلى المضامين العميقة المشكلة لهما.
ولهذا فقد غلب على الفلسفات اليونانية في مرحلتها الأولى الاتصاف بالمادية حين كانت مستقلة ومعبرة عن اتجاهات الفئات الوسطى في مدن حرة، ولكن الاتجاهات المثالية نمت وتطورت وسادت فيها بعد ضمور الفئات الوسطى إلحاقها بالدولة وصعود طبقة ملاك العبيد.
إذن، يهتم خليفة بقراءة الجذور القديمة لتشكيل الوعي العربي في مرحلتيه، الوثنية والإسلامية، لكن السؤال يبقى حول إمكانية العثور على وعي غير الوعي الديني بمرحلتين وببنيتين، وعن المرحلة التي وضعت وصنعت القواعد الأساسية للوعي في كل مرحلة من مراحل التاريخ العربي الإسلامي.
وبعيداً عن مثل هذه الأسئلة يبحث خليفة في الأبنية الفكرية التي تشكل على أساسها الوعي الفلسفي المكتمل في العصر العباسي. ثم ينتقل إلى بحث أبنية الفلسفة المختلفة .
وفي سياق تلمس مراحل تطور الوعي الديني في المشرق القديم يرى خليفة أن مرحلة الانتقال إلى يثرب هي التي ستجذر الدعوة الإسلامية، وتجعلها تتغلغل في البنية الصحراوية، فالقبائل العربية في يثرب، الأوس والخزرج، التي وجدت أنفسها تُأكل في حروبها الداخلية، وتحاصر بإمكانيات اليهود الاقتصادي.
وتغدو مدينتها مهمشة وضعيفة تجاه مكة المستحوذة على السيادة على الحجاز، رأت إن مناصرتها للدعوة الإسلامية سوف تجعل مدينتها في مركز الصدارة.
ومثل أي دين غدا الإسلام التأسيسي منظومة فكرية وسياسية واجتماعية شاملة، فاتحد الفكري بجهاز الدولة الوليد، وغدت العبادات والمعاملات والغيبيات في كتلة واحدة، وكلها تستهدف عبر ترابطها العقيدي أن تنقل العرب من عالم المختلف والتفكك إلى حضارة.
ثم ظهر التفكير بالقدرة، والتاريخ العربي ـ الإسلامي يشكل أولى خطواته، وقد غدا هذا التاريخ هو موضوعه، وبدأ هذا التفكير أولياً مضطربا متسائلاً عن هذا القضاء المهيمن، وعن مدى حجم الإرادة فيه، ثم راح هذا التفكير الأولي بالنمو مع اتساع حجم الصراعات السياسية والاجتماعية .
وكان تشكل علم الكلام داخل الإطار الديني جعله محكوماً بالمقولات الدينية الأساسية، وبالفهم المحدد للعصر، باعتبار الوجود مخلوقاً بشكل كلي لله، سواء في ماضيه أم مستقبله، وبهذا فإن التاريخ الإسلامي نشأ من هذه الإرادة الكلية.
ومن هنا يستنتج خليفة أن الفلسفة لم تولد مع المعتزلة، رغم أنها استفادت من حركتهم الدينية ـ السياسية الداعية للحركة والعقل، وقد كان للفلسفة أن تنشأ على انقاضهم، بعد أن عجزوا عن استثمار التراكم المعرفي في إنتاج رؤى فلسفية شاملة.
كما أن الاختلاف بينهم وبين الفلاسفة، الذين سيكونون دينيين كذلك، إذا استثنينا الدهريين الذين أزيلت أقوالهم من الذاكرة التاريخية، أن المعتزلة لم تكن لديهم فلسفة كونية شاملة، أي نظرة تشمل مختلف حيثيات الوجود، ونمت آراؤهم داخل تلافيف النص الديني، متأولين الجوانب الشديدة الغيبية أو الكثيرة الخوارق، وغير المعقولة، بشكل نسبي وعفوي.
وينصب جهد خليفة على الأمور المتعلقة بالجانب الديني التي يربطها بالبنى التحتية، وفاء لمقولات انحسر أنصارها وزمانها، حيث أن تشكل العقل الديني الإسلامي جرى فوق تطورات اجتماعية مركبة متضادة، فهناك محاولات لجعل البنية الاجتماعية في خدمة الإنسان، وبرغم إن هذه المحاولات كانت تحوي رموزاً غيبية كثيرة، حيث لا عقل ممكن في ذلك الحين بدونها.
لكن كافة الرموز الغيبية والإرث الغيبي الواقعي واللحظة التاريخية، توحي بأن التاريخ حينئذ يعبر عبر عقل واقعي متحكم في سيرورته، وليس ذلك سوى مظهر لهيمنة الأكثرية على الثروة فالمصير.
ولا يجهد خليفة نفسه في البحث والفلسفة ولا علم الكلام السابق عليها، إذ كان علم الكلام وليد المناقشات بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين ممثلي الديانات الأخرى: اليهودية والمسيحية، والتي كان معتنقوها يعيشون بأمان في دار الإسلام.
وقد ساهم التعايش وبين الفرق والمدارس الإسلامية في شحذ العقول وحثها على العلم والدرس، وفي تحرير الأذهان من أسر التقاليد الدينية الضيقة. وأدى الحوار والجدل بينهم إلى بروز دور العقل حكماً أعلى في المناقشات اللاهوتية.
وفي فهم العقائد الدينية نفسها. وفي سياق هذه المشادات ظهرت وتطورت النزعة العقلانية في علم الكلام، أول التيارات الفلسفية في الفكر الإسلامي، الذي طوره مفكرو المعتزلة، ومن ثم الأشاعرة .
كما لا يعطي خليفة أية أهمية للفلسفة المشائية، حيث يعتبر الكندي الذي لقب بـ «فيلسوف العرب» أول العرب الذين اشتغلوا بـ «علوم الأوائل» اليونانية ونشرها، وجاءت أعماله لتعكس خليطاً واسعاً من المذاهب التي تنحدر إلى أرسطو وأفلاطون وأفلوطين وبرقليس والفيثاغوريين.
كذلك فإن الحكمة الصوفية والتصوف بشكل عام لا يجدان متسعاً من البحث، مع أن ظهور التصوف يعود إلى فجر الإسلام، وقد تطور من سلوك الزهد والتنسك إلى القول بالمحبة والفناء والحلول، فالتأمل الفلسفي. وظهرت في المرحلة الفلسفية للتصوف مدرستان أساسيتان، هما: الإشراقية التي أسسها السهروردي، والوجودية التي أرسى أسسها ابن عربي.
كل ذلك كان غائباً في «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية» على حساب قراءة الأوضاع الاجتماعية والصراعات السياسية، وكشف حراك «الطبقات» وتحولات الأديان، وتحققات الوعي العربي، هذا الوعي الذي بقي يحلق في سماء خالية من المفاهيم، ولم يجد أرضاً يعيد عليها أقلمته.

عمر كوش

الكتاب: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 2005

الصفحات: 599 صفحة .

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 12, 2023 00:36

February 11, 2023

المذاهب الإسلامية والتغيير .. عبــدالله خلــيفة

◄المذاهب الإسلامية والتغيير ►


مع غياب الطابع الثوري للإسلام وهيمنة القوى الارستقراطية على الحكم، توجه العامةُ لمختلف ضروب التفسيرات المختلفة والآراء المعارضة حسب الطابع السائد الاجتماعي للأمم الإسلامية، ففي فترةِ تكونِ الدولة الأموية وبداية القهر من قبل السلطة المركزية ظهرتْ النزعاتُ البسيطة والمذاهب الفكرية المختزلة، التي يمكن أن يؤمن بها أي فرد في المجتمع كالقدرية والتجسيمية.
والفرقُ الدينيةُ هي التي تحولتْ بشكلٍ تدريجي طويلٍ لما تُسمى المذاهب، والتي كانت في البدء مجموعة من الأفكار والنزعات المتعددة والمتقطعة، ثم على مر القرون صارتْ هي المذاهبُ المعروفة حالياً: مثل الخوارج، والسنة، والشيعة. وترسختْ على أسسٍ سياسية وفكرية واجتماعية وفقهية.
وقد تداخلت وتعاضدت وتنوعتْ الآراءُ السنيةُ لكبارِ الأئمة لتغدو مؤسسةً لجماعة هي الأكبر فتشكل الطائفة ذات المقاربة النقدية الإصلاحية مع الدول الحاكمة السائدة منذ الدولة الأموية مروراً بالدولة العباسية، ورغم معارضة أئمة السنة لبعض ممارسات الحكام الأوائل لكن التطورَ التاريخي من تثبيتٍ ونفي في بناء المذهب جعل آراءَ هؤلاء الأئمة هي المرجعية للطائفة، عبر وسط عقلي معتدل أكد مرجعية النصوص المقدسة مع قراءة الظروف المتغيرة ودرجات متعددة من الاجتهاد بينها إلى رفض للاجتهاد في المدرسة الأخيرة وهي الحنبلية.
واعتمد هذا المذهب السني عموماً على أساسيات التاريخ المؤسس للمسلمين وعدم رؤية للصراعِ الاجتماعي السياسي فيه، وقبول بما حدث فيه من سيرورة تاريخية، ونقد الأخطاء الممزقةِ للجماعة، وإعتبار تاريخ المسلمين هو تاريخ الجماعة، وما عداه تاريخ منشق عليه.
وعبّر تاريخُ المذاهبِ السنية عامةً عن تاريخ الدول الرسمية وتاريخ الأئمة والفقهاء السائرين على درب الجماعة. ومن خلال فكرة محورية هي أن جماعة المسلمين لا تتصارع داخلها، وأنما الصراعات مؤثرات خارجية أو هي من جماعات خارجة عن الصراط المستقيم وأن الإصلاحَ يتم من داخلها.
وهكذا فإن التحليلات للصراعات الاجتماعية والسياسية جاءت من قبل الباحثين والمفكرين المستقلين أو المنتمين للطوائف كذلك، حيث راح هؤلاء يبحثون عن أسبابِ الصراعاتِ السياسية والاجتماعية، ومن أين جاءت؟ وكيف تطورت؟ ولماذا لم يستطع المسلمون وقفها؟
ولهذا فإن كثيرين نسبوا أحداث (الفتنة الكبرى) إلى شخصيات مُندسةٍ بين المسلمين حملتْ أفكاراً غريبة عليهم كعبدالله بن سبأ وغيره، فلم يقبلوا بفكرة أن المسلمين يمكن أن يختلفوا.
فما دامت النصوصُ المقدسة كاملةً نقيةً فلماذا تحدث الانشقاقاتُ والصراعات؟ فتذهب هذه الآراءُ إلى البحث عن سببياتها خارج البُنى الاجتماعية المتضادة والمتغيرة عبر التاريخ.
وهذا بخلافِ مفكرين ينتمون إلى نفس المذاهب السنية كالجاحظ وابن خلدون وابن رشد وابن طفيل الذين يرجعون الاختلافات والصراعات إلى أفكار ونفسيات مختلفة بين قادة المسلمين الأوائل وإلى ظروف خارجية كذلك كالفتوحات وتبدل العيش.
وهكذا استطاع مفكرون من السنة في ختام العصر الوسيط أن يحللوا بصورةٍ أكثر موضوعية مسار التاريخ الديني للمسلمين.
في حين ظل الخوارج يرون التاريخ الإسلامي الحق متوقفاً عند الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر، وحتى علي إلى قبوله بالتحكيم، وماعدا ذلك فهو تاريخٌ فاسد!
وكوّن الشيعة مذهبيتَهم على مركزيةِ أحقيةِ أهل البيت النبوي بالخلافة، وكون ماعداهم خارج هذا الحق، أو مغتصبين له، فشكلوا نظريةَ الحق الإلهي والأسرة النورانية المتوارثة، وهو شكلٌ تقديسي مزودج شعبي وارستقراطي.
والمذهبياتُ الأخرى تتشكلُ من هذه الآراء المحورية تشدداً أو مرونة، فهي كلها تدورُ على الصراع حول السلطة، ثم تبني عليها أبنية تؤكدها.
الصراعُ حول السلطة هو الذي شكل هذه المذاهب، فهي كانت شظيات من آراء وتواريخ ثم مع تفاقم الصراع حول السلطة، بعد عقودٍ طويلة تحولتْ إلى هياكل مترابطة من الآراء والعبادات والفقه والتاريخ المستقل وإلى طوائف متمايزة.
الدولة العباسية الكبرى في صراعها مع المذهبيات الأخرى من تشيع وخوارج ومزدكية أحستْ بالحاجةِ الموضوعية لتكوين نظرة دينة فقهية ملازمة للدولة الواسعة. وضخامةُ الدولةِ وتنوعها وتطوراتُها غذتْ التعدديةَ في المذهب والحاجة للاجتهاد وعدم الركون للرأي الفقهي الواحد.
فيما كانت المذهبيةُ الشيعيةُ بعدمِ وصولها إلى الحكم توجد خلفاء أئمة رمزيين، يجابهون الأخطاء على الأرض الواقعية ويشيرون إلى العدل الذي لم يتحقق.
ثم جاءتْ الظروفُ التاريخيةُ بنشوء قوميةٍ واعدةٍ هي الفرس ليحدث التلاقح التاريخي المطول التأسيسي بين المذهب الإثناعشري والدول الفارسية، وبهذا تنأى الشيعةُ عن المركز السني المسيطر نحو القواعد الفلاحية والأمة الفارسية التي كانت مُضطَّهدةً من المركز العباسي العربي، المصَّور كتعبير عن السنة، وقد عملت ظروفٌ تاريخية عديدة على نبذِ الفرس للآراء الأمامية الأخرى كالزيدية والإسماعيلية ليتوافقوا مع الاثناعشرية لنضالها السلمي واستخدام التقية ابتعاداً عن بطش الحكام.
لم تسد المذاهب الإسلامية الكبرى المستمرة للوقت الحاضر إلا بعد هزيمة أو زوال المذاهب المعارضة العنفية كالقرامطة والخوارج وتغير مذاهب أخرى وتحولها للطريق السلمي كالزيدية والأباضية.
كان هذان الزوال والتقلص تعبيراً عن عدم وصول الفرق المعارضة الحادة إلى فهم سببيات الثورة الإسلامية المؤسسة، واعتمادها على أشكال عنفية حادة وعلى القبلية، والهيمنة على البسطاء ودفعهم للحروب، وعدم القدرة على صنع دول ديمقراطية نموذجية للمسلمين.
لكن من الجهة الأخرى لم تستطع المذاهب الكبرى الباقية أن تعبر عن نضال الأغلبية الشعبية من المسلمين، وتداخلت مع الحكومات والأنظمة السائدة، ولهذا حدثت الازاحات لأفكار العدالة والانتخاب الديمقراطي للحكام، وتوجهت بعيدا عن تحرير الفلاحين من هيمنة الاقطاع وتغيير ظروف النساء المسحوقات من ظلم الدولِ والرجال، والنضال مع الحرفيين والعمال لتغيير أوضاعهم، وركزت في الفقه الجزئي المتركز في العائلة وأحكام الزواج والمعاملات التجارية والاقتصادية المختلفة.
فشل المذاهب المغامرة ومواكبة المذاهب الكبرى للدول الاستغلالية المختلفة، جعلت الوعي الإسلامي الحائر يبحث عن طرق الخلاص من هذا العالم غير العادل والظالم، ولم يتوجه الفلاسفة والمفكرون وقتذاك في البحث في البنى الاجتماعية الاقتصادية سبب الاختلال والقهر، إلا بشكل حالات جزئية، بل توجهوا في المشرق العربي الإسلامي خاصة إلى التماهي مع النجوم والكواكب وأقدارها وأحكامها، ورأوا أن المصائرَ الأرضية مكتوبة في الأعالي، وأن الانتصارات سوف يكتبها رجال يأتون من الغيب، وكان هذا كله تعبيرا عن فقدان الجماهير العربية الإسلامية المسيحية لنشاطها النضالي، وتفكك الدول وتحولها إلى دويلات واقطاعيات، وإذا جاءت الدول المركزية الكبيرة كالدولة العثمانية والدولة الفارسية فإنها تترك الاقاليم في أوضاعها المستقلة مكتفيةً بالخراج المتوجه للسلطة المركزية التي تحوله للطبقة المسيطرة وللعسكر وبعض الترميمات العامة.
ويلاحظ هنا أن بلدان شمال افريقيا احتفظت بوحدة أكبر من المشرق العربي الإسلامي الذي تفتت بشكل أكبر وغدا مجمعاً للأديان والمذاهب المختلفة، ومن هنا انتشرت الفلسفة العقلية فيه بينما ازدهرت الفلسفات اللاعقلية في المشرق.
فقدَ المسلمون في أثناء الدول الكبيرة ذات الموارد امكانات القيام بتحول حاسم عميق في البُنى الاقتصادية الاجتماعية، المتخلفة الزراعية الإقطاعية، الفاقدة المساواة، وتأسيس المواطنة والحريات العامة، وقد تعايشت المذاهب والأفكار والفلسفات مع هذا الواقع الذي يزدادُ تردياً بقيام الحروب بين الجماعات الإسلامية وبظهور قوى غربية استولت على البحار وإدارة الثروة العالمية.
عبرت المذاهب عن مقاربتين للظروف الطبيعية – الاجتماعية، مقاربة مع تقاليد البدو وانشاء الدول الموحدة وهو ما قارب أهل السنة، ومقاربة أخرى مع تقاليد الفلاحين، وهي ذات الجذور التعددية التفتيتية، فظهرت دول توحيدية ودول مفككة، لكن الجميع نزل للتفتت.
في هذا الانهيار العام صارت للصوفية امكانية الحضور والمقاومة داخل هذا البناء، فهي جزء من انهيار الوعي بتطرفِها في الحاقه بالغيبياتِ الكلية، ولكنها راحت تعارض ابتعاد المذاهب الإسلامية عن الجماهير المسحوقة، وغدت جزءا منها، وسخرت من الحكام ومن البذخ وتدمير الثروة العامة، ولكنها هي ذاتها تحول أقطابها إلى حكام ومسيطرين على العامة، وتجمد الوعي الصوفي في أشكاله المفارقة الشديدة الغيبية، وانعزل عن الواقع ودرسه، فتحولت الصوفية إلى دروشة، وهبت الرياح المعادية ورياح التغيير بعد ذلك في هذا العالم الإسلامي المفتت المحتل في كثير من أجزائه وراح يبحث عن أدوات التفكير الجديدة وأدوات التغيير في ظروف مختلفة.
لم تدرك القوى السياسية والفكرية الدينية المشكلة التي تواجهها في عمليات التغيير في العصر الحديث.
حاولت الامبراطوريات ذات الرداء الديني كالامبراطورية العثمانية والدولة الفارسية والمدرسة الوهابية وغيرها القيام ببعض الإصلاحات داخل النظام الديني القديم، واستمرت في ذلك عقوداً، فيما كان العالم يتوجه للحداثة والقوى الغربية تتوسع وتسيطر عبر مشروع الحداثة هذا، الذي أتاح موارد ضخمة وتنامياً للسيطرة، ووضع الشعوب الأخرى تحت الهيمنة مع إحداثِ تغييراتٍ ضرورية تستكملُ نظام الإستغلال العالمي لها.
الترقيعات والعمليات الشكلانية من الإصلاح والعمليات الجادة من الإصلاح في التركيبة الدينية السياسية الاجتماعية المُستعادةِ من القرون الوسطى، لم تغير واقع الأمم الإسلامية، فابتلعت واستمرت تحت الهيمنة، لكن هذه الهيمنة الغربية نفسها أعطتها بصيصاً من النور.
لقد التبس الأمر على المثقفين المسلمين فلم يدركوا أن الحضارةَ الغربية هي ذروةُ الحضارة البشرية، وأن الاستعمارَ هو حقبةٌ تاريخية (ضرورية) في مسار الإنسانية المعقد، أما التقوقع في الشكل القومي الديني المنقطع عن هذه الذروة فلا يجدي نفعاً، لكنهم مع أخذهم جوانب من الحضارة الغربية ظلوا يرفضون قسماتها الأساسية.
من يسمون بالتنويريين والنهضويين والإسلاميين الحداثيين أخذوا تلك الجوانب التي رأوها إيجابية وفعلوها في الواقع العربي الإسلامي ؟المسيحي، لكنهم بعد عقود إما فشلوا وإما أن من تجاوزهم من الشموليين والعسكريين والمحافظين ألغى صيغ المقاربة الجزئية مع الغرب.
وحده كمال أتاتورك قائد تركيا الخارجة من الامبراطورية العثمانية طرح صيغة بسيطة وهي التماهي مع الغرب والصعود إلى مستواه ما دام هو قمة البشرية الحديثة، وخلال عقود من القمع والتغيير والديمقراطية والانقلابات العسكرية تحققت نبوءة أتاتورك، وغدت تركيا حديثة مع العديد من البقايا القديمة والصراعات الثانوية فيما واصلت الدول العربية والإسلامية طرح أسئلة الحداثة وكيفيتها وهي في مواقع لا تختلفُ كثيراً عن البدايات من تفكك الأبنية وتخلف الأرياف وعبودية النساء وضعف الصناعة وعجز الهياكل السياسية عن مقاربة الديمقراطية.
لم يفهم المسلمون إن الذي بين أيديهم هي أنظمةٌ إقطاعية لم تعد قادرة على الصعود لذروة العصر، إن المجتمع الديني القديم لم يعد من الممكن استمراره، فرغم أن الأهداف السياسية في الثورة الاسلامية تقدمية، لكن البنية التي وقعتْ فيها هذه الثورة أخذتْ الكثيرَ من سلبيات وأشكال تفكير العصور القديمة وعلاقات اللامساواة بين الرجال والنساء وبين الحكام والمحكومين وغيرها، هذه البُنية يجب أن تُزاح كلياً، ويحدث فصل بين الدولة والدين، فتقوم الدولةُ بما يترتبُ عليها من برامج الحداثة العالمية ومن تقدم لمواطنيها ومساواتهم القانونية التامة وإحداث أشكال التعبير الديمقراطية الحرة، فيما يتوجه الدين ومؤسساته لخدمة المؤمنين من خلال أدواته الاجتماعية المحضة.
أما الجمع بين بنية الحداثة وبنية الدين في مؤسسات مشتركة فهو أمرٌ محال، الحداثةُ سلطةٌ جديدة، والدينُ سلطةٌ قديمة، ولا بأس من التعايش الاجتماعي العام لكن ليس من الممكن وجودهما معاً في مؤسسات سياسية عامة مشتركة.
هذه الصيغة الغربية أتاحت تطور البلدان الغربية وتركيا وتغيرت الأديان في الغرب وتقدمت كذلك، وعبرت تركيا عن نموذج لهذا في المحيط الإسلامي.
فيما أن صيغَ التداخلِ بين الدولةِ والدين أخذت الدولَ العربية والإسلامية في دورانٍ تاريخي متعبٍ وفي سلاسل من الانقلابات الدامية والثورات اللامجدية.
تكسرتْ قضبانُ السجون التي أقامها المحافظون السياسيون والدينيون للشعوب، اتسعت دوائر الحرية للافراد والجماعات بشكل لم يسبق له مثيل في بقية العصور، ولم تكن الدول الاشتراكية إلا تجارب أخرى من تحطيم تلك القضبان، بأشكال مغايرة ومتجهة للجذور الاقتصادية وبأشكالٍ سياسية غير ديمقراطية كذلك تجاوزتها فيما بعد، ولكن العالمَ الحداثي الديمقراطي العلماني بروافده المختلفة صبَّ في مجريات واحدة في نهاية القرن العشرين وتجمعت قوى البشرية التحديثية في زلزال.
فهل يمكن أن تقف الشعوب العربية في مؤخرة العالم تراقبُ الأممَ تتوحد وتتعملق وهي مفتتة متخلفة؟ وهي لاتزال تطرح الأسئلة نفسها لما قبل قرنين؟ ولا تزال مخدوعةً؟
وهل تكون التحولات الجارية الآن شيئاً آخر غير السراب العربي المعتاد؟
تجلتْ محاولاتُ المحافظين الدينيين للسيطرة الشمولية على المسلمين من خلالِ شكلين أساسيين هما ولاية الفقيه السني عبر الإخوان المسلمين وولاية الفقيه الشيعي عبر التجربة السياسية الإيرانية.
وعلى عكس أتاتورك وعلى عكس نموذج المقاربة الحقيقية من الغرب الديمقراطي طرحتْ موضوعةُ ولايةِ الفقيه العودة للإسلام، بشكلِ الاسترجاع النصوصي الكامل، من وجهة نظر السنة المحافظين والشيعة المحافظين كذلك رغم التباين بين الجانبين في فهم (الإسلام).
قالتا بأخذ الإسلام كما هو، وجاء ذلك بشكل العودة والذهاب إلى الماضي، واستعادة نمط حكمه وأشكاله العبادية الصارمة، وقد بدأت ولايةُ الفقيهِ السني للإخوان المسلمين تنسج خيوطها الدكتاتورية عبر الارشاد والتعليم والإصلاح من موقع الفئات الوسطى الصغيرة المطحونة في مصر الثلاثينيات، واتخذتْ موقفاً اجتماعياً سياسياً خطيراً متذبذباً، عبر قبول جوانب من الحداثة والتوجه أيضاً إلى النمط الاستبدادي السياسي الاجتماعي بشكل أساسي، بدلاً من أن تتعاون مع جماعة الوفد التحديثية وتشكلان تياراً ديمقراطياً وطنياً مقارباً للغرب محدثاً للتحول، بل تصارعتا، وهذا أدى إلى أن يقفز العسكرُ إلى السلطة ويضرب الجماعتين، ويتذبذب العسكرُ كذلك بين تكريسِ الشمولية وأخذ بعض جوانب الغرب المحدودة، مما أدى إلى انهيار مشروعات نصف الحداثة المصرية هذه ودخول مصر مرحلةَ غموضٍ حضاري وتذبذب إلى الآن.
فمشروع ولاية الفقيه السني دخل لحظة الجمود وعدم القبول الواسع، لكنه سبّب مشكلات كبيرة، عبر استنساخه من قبل الجماعات الدينية الأكثر شمولية والعنفية الارهابية، فغدتْ هذه العودةُ إلى (الإسلام) بصورةٍ حرفية وبأزياء خارجية وبانتحار سياسي كامل.
أما ولايةُ الفقيه الشيعية فأدخلت المسلمين في مخاطر كبرى كذلك، فنظراً إلى عدمِ وجود برنامج حقيقي، وبسبب رفض الإصلاحات الديمقراطية في أوضاع النساء والفلاحين والعمال والثقافة، وجعل السلطة أداةً دكتاتورية، فقد انتهت الولاية لتكون حكراً على المستبدين الدينيين والعسكريين الذين راحوا يغامرون بمصير إيران، وحين ظهرَ سرابُ ولايةِ الفقيه هنا وعدم إنتاجه للجنة الموعودة قاموا بتصديرها للبلدان العربية خاصة، وكان هذا التصدير ينزل بقوة على التكوينات الوطنية في كل بلد بشكلٍ حاد لكون هذا التنزيل لا ينبثق من التجربة الوطنية لكل شعب، فيؤدي إلى تطوره بل يكون هذا النزول سبباً في انشطاره وخوفه من المُصدِّر الإيراني وسياساته، وقد وقع التصدير على العراق وفيه المرجعيةُ الكبرى للشيعةِ في العالم، ووقفتْ المرجعيةُ من دون تأييد إلى أي حزبٍ ومع تغيير ظروف الشعب العراقي السيئة، وهو تأكيد منها أن الأحزاب السنية والشيعية يجب أن تتحد أو أن تترك التجارة السياسية بالمذاهب. وهذا يؤكد عدم صحة مسألة ولاية الفقيه السياسية على الجانبين.
فيما دخل المجتمع الإيراني في أزمة انقسامية لا يعرف كيف يخرجُ منها.
وقد واصل الفقهُ المحافظ في جميع المذاهب الإسلامية حضوره الهادئ البطيء ومتابعة ظروف المسلمين واقتراح الحلول على الأصعدة كافة بشكل جزئي محدود، معبراً في العديد من صوره عن تلاقيه مع السلطات الحاكمة في البلدان الإسلامية التي لم تقم بتحولات عميقة لصالح الجماهير، وظلت الهياكلُ السياسية فاسدة فيها ولم يدعُ هذا الفقهُ إلى تغييرِ ظروف العامة ونشر الديمقراطية والحريات.
إن الديمقراطيةَ العلمانية تحريرٌ للعامة من أسر الفقر والأمية وإيجاد الحرية والتقدم الثقافي، وهي أمور تؤدي عبر الإرادات وأفعالها المتنوعة المضيئة، إلى إعادة اكتشاف الإسلام وإنتاجه في عصر جديد، والتغلغل في الحضارة الحديثة واستثمار إنجازاتها.
وهي عمليةٌ تركيبيةٌ صعبة بدأتْ بعضُ الأحزابِ الجديدة الديمقراطية العلمانية وذات الجذور الإسلامية مقاربتها.
إن الجمعَ بين مستقبلٍ يكادُ يضيع من بين أيدينا وماضٍ عزيز علينا ولاتزال أشكاله العتيقة تخنقنا، مهمةٌ مركبةٌ صعبة جدا ولكن ليست مستحيلة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 11, 2023 23:32

المذاهب الإسلامية والتغيير .. عبــدالله خلــيفة

◄المذاهب الإسلامية والتغيير ►


مع غياب الطابع الثوري للإسلام وهيمنة القوى الارستقراطية على الحكم، توجه العامةُ لمختلف ضروب التفسيرات المختلفة والآراء المعارضة حسب الطابع السائد الاجتماعي للأمم الإسلامية، ففي فترةِ تكونِ الدولة الأموية وبداية القهر من قبل السلطة المركزية ظهرتْ النزعاتُ البسيطة والمذاهب الفكرية المختزلة، التي يمكن أن يؤمن بها أي فرد في المجتمع كالقدرية والتجسيمية.
والفرقُ الدينيةُ هي التي تحولتْ بشكلٍ تدريجي طويلٍ لما تُسمى المذاهب، والتي كانت في البدء مجموعة من الأفكار والنزعات المتعددة والمتقطعة، ثم على مر القرون صارتْ هي المذاهبُ المعروفة حالياً: مثل الخوارج، والسنة، والشيعة. وترسختْ على أسسٍ سياسية وفكرية واجتماعية وفقهية.
وقد تداخلت وتعاضدت وتنوعتْ الآراءُ السنيةُ لكبارِ الأئمة لتغدو مؤسسةً لجماعة هي الأكبر فتشكل الطائفة ذات المقاربة النقدية الإصلاحية مع الدول الحاكمة السائدة منذ الدولة الأموية مروراً بالدولة العباسية، ورغم معارضة أئمة السنة لبعض ممارسات الحكام الأوائل لكن التطورَ التاريخي من تثبيتٍ ونفي في بناء المذهب جعل آراءَ هؤلاء الأئمة هي المرجعية للطائفة، عبر وسط عقلي معتدل أكد مرجعية النصوص المقدسة مع قراءة الظروف المتغيرة ودرجات متعددة من الاجتهاد بينها إلى رفض للاجتهاد في المدرسة الأخيرة وهي الحنبلية.
واعتمد هذا المذهب السني عموماً على أساسيات التاريخ المؤسس للمسلمين وعدم رؤية للصراعِ الاجتماعي السياسي فيه، وقبول بما حدث فيه من سيرورة تاريخية، ونقد الأخطاء الممزقةِ للجماعة، وإعتبار تاريخ المسلمين هو تاريخ الجماعة، وما عداه تاريخ منشق عليه.
وعبّر تاريخُ المذاهبِ السنية عامةً عن تاريخ الدول الرسمية وتاريخ الأئمة والفقهاء السائرين على درب الجماعة. ومن خلال فكرة محورية هي أن جماعة المسلمين لا تتصارع داخلها، وأنما الصراعات مؤثرات خارجية أو هي من جماعات خارجة عن الصراط المستقيم وأن الإصلاحَ يتم من داخلها.
وهكذا فإن التحليلات للصراعات الاجتماعية والسياسية جاءت من قبل الباحثين والمفكرين المستقلين أو المنتمين للطوائف كذلك، حيث راح هؤلاء يبحثون عن أسبابِ الصراعاتِ السياسية والاجتماعية، ومن أين جاءت؟ وكيف تطورت؟ ولماذا لم يستطع المسلمون وقفها؟
ولهذا فإن كثيرين نسبوا أحداث (الفتنة الكبرى) إلى شخصيات مُندسةٍ بين المسلمين حملتْ أفكاراً غريبة عليهم كعبدالله بن سبأ وغيره، فلم يقبلوا بفكرة أن المسلمين يمكن أن يختلفوا.
فما دامت النصوصُ المقدسة كاملةً نقيةً فلماذا تحدث الانشقاقاتُ والصراعات؟ فتذهب هذه الآراءُ إلى البحث عن سببياتها خارج البُنى الاجتماعية المتضادة والمتغيرة عبر التاريخ.
وهذا بخلافِ مفكرين ينتمون إلى نفس المذاهب السنية كالجاحظ وابن خلدون وابن رشد وابن طفيل الذين يرجعون الاختلافات والصراعات إلى أفكار ونفسيات مختلفة بين قادة المسلمين الأوائل وإلى ظروف خارجية كذلك كالفتوحات وتبدل العيش.
وهكذا استطاع مفكرون من السنة في ختام العصر الوسيط أن يحللوا بصورةٍ أكثر موضوعية مسار التاريخ الديني للمسلمين.
في حين ظل الخوارج يرون التاريخ الإسلامي الحق متوقفاً عند الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر، وحتى علي إلى قبوله بالتحكيم، وماعدا ذلك فهو تاريخٌ فاسد!
وكوّن الشيعة مذهبيتَهم على مركزيةِ أحقيةِ أهل البيت النبوي بالخلافة، وكون ماعداهم خارج هذا الحق، أو مغتصبين له، فشكلوا نظريةَ الحق الإلهي والأسرة النورانية المتوارثة، وهو شكلٌ تقديسي مزودج شعبي وارستقراطي.
والمذهبياتُ الأخرى تتشكلُ من هذه الآراء المحورية تشدداً أو مرونة، فهي كلها تدورُ على الصراع حول السلطة، ثم تبني عليها أبنية تؤكدها.
الصراعُ حول السلطة هو الذي شكل هذه المذاهب، فهي كانت شظيات من آراء وتواريخ ثم مع تفاقم الصراع حول السلطة، بعد عقودٍ طويلة تحولتْ إلى هياكل مترابطة من الآراء والعبادات والفقه والتاريخ المستقل وإلى طوائف متمايزة.
الدولة العباسية الكبرى في صراعها مع المذهبيات الأخرى من تشيع وخوارج ومزدكية أحستْ بالحاجةِ الموضوعية لتكوين نظرة دينة فقهية ملازمة للدولة الواسعة. وضخامةُ الدولةِ وتنوعها وتطوراتُها غذتْ التعدديةَ في المذهب والحاجة للاجتهاد وعدم الركون للرأي الفقهي الواحد.
فيما كانت المذهبيةُ الشيعيةُ بعدمِ وصولها إلى الحكم توجد خلفاء أئمة رمزيين، يجابهون الأخطاء على الأرض الواقعية ويشيرون إلى العدل الذي لم يتحقق.
ثم جاءتْ الظروفُ التاريخيةُ بنشوء قوميةٍ واعدةٍ هي الفرس ليحدث التلاقح التاريخي المطول التأسيسي بين المذهب الإثناعشري والدول الفارسية، وبهذا تنأى الشيعةُ عن المركز السني المسيطر نحو القواعد الفلاحية والأمة الفارسية التي كانت مُضطَّهدةً من المركز العباسي العربي، المصَّور كتعبير عن السنة، وقد عملت ظروفٌ تاريخية عديدة على نبذِ الفرس للآراء الأمامية الأخرى كالزيدية والإسماعيلية ليتوافقوا مع الاثناعشرية لنضالها السلمي واستخدام التقية ابتعاداً عن بطش الحكام.
لم تسد المذاهب الإسلامية الكبرى المستمرة للوقت الحاضر إلا بعد هزيمة أو زوال المذاهب المعارضة العنفية كالقرامطة والخوارج وتغير مذاهب أخرى وتحولها للطريق السلمي كالزيدية والأباضية.
كان هذان الزوال والتقلص تعبيراً عن عدم وصول الفرق المعارضة الحادة إلى فهم سببيات الثورة الإسلامية المؤسسة، واعتمادها على أشكال عنفية حادة وعلى القبلية، والهيمنة على البسطاء ودفعهم للحروب، وعدم القدرة على صنع دول ديمقراطية نموذجية للمسلمين.
لكن من الجهة الأخرى لم تستطع المذاهب الكبرى الباقية أن تعبر عن نضال الأغلبية الشعبية من المسلمين، وتداخلت مع الحكومات والأنظمة السائدة، ولهذا حدثت الازاحات لأفكار العدالة والانتخاب الديمقراطي للحكام، وتوجهت بعيدا عن تحرير الفلاحين من هيمنة الاقطاع وتغيير ظروف النساء المسحوقات من ظلم الدولِ والرجال، والنضال مع الحرفيين والعمال لتغيير أوضاعهم، وركزت في الفقه الجزئي المتركز في العائلة وأحكام الزواج والمعاملات التجارية والاقتصادية المختلفة.
فشل المذاهب المغامرة ومواكبة المذاهب الكبرى للدول الاستغلالية المختلفة، جعلت الوعي الإسلامي الحائر يبحث عن طرق الخلاص من هذا العالم غير العادل والظالم، ولم يتوجه الفلاسفة والمفكرون وقتذاك في البحث في البنى الاجتماعية الاقتصادية سبب الاختلال والقهر، إلا بشكل حالات جزئية، بل توجهوا في المشرق العربي الإسلامي خاصة إلى التماهي مع النجوم والكواكب وأقدارها وأحكامها، ورأوا أن المصائرَ الأرضية مكتوبة في الأعالي، وأن الانتصارات سوف يكتبها رجال يأتون من الغيب، وكان هذا كله تعبيرا عن فقدان الجماهير العربية الإسلامية المسيحية لنشاطها النضالي، وتفكك الدول وتحولها إلى دويلات واقطاعيات، وإذا جاءت الدول المركزية الكبيرة كالدولة العثمانية والدولة الفارسية فإنها تترك الاقاليم في أوضاعها المستقلة مكتفيةً بالخراج المتوجه للسلطة المركزية التي تحوله للطبقة المسيطرة وللعسكر وبعض الترميمات العامة.
ويلاحظ هنا أن بلدان شمال افريقيا احتفظت بوحدة أكبر من المشرق العربي الإسلامي الذي تفتت بشكل أكبر وغدا مجمعاً للأديان والمذاهب المختلفة، ومن هنا انتشرت الفلسفة العقلية فيه بينما ازدهرت الفلسفات اللاعقلية في المشرق.
فقدَ المسلمون في أثناء الدول الكبيرة ذات الموارد امكانات القيام بتحول حاسم عميق في البُنى الاقتصادية الاجتماعية، المتخلفة الزراعية الإقطاعية، الفاقدة المساواة، وتأسيس المواطنة والحريات العامة، وقد تعايشت المذاهب والأفكار والفلسفات مع هذا الواقع الذي يزدادُ تردياً بقيام الحروب بين الجماعات الإسلامية وبظهور قوى غربية استولت على البحار وإدارة الثروة العالمية.
عبرت المذاهب عن مقاربتين للظروف الطبيعية – الاجتماعية، مقاربة مع تقاليد البدو وانشاء الدول الموحدة وهو ما قارب أهل السنة، ومقاربة أخرى مع تقاليد الفلاحين، وهي ذات الجذور التعددية التفتيتية، فظهرت دول توحيدية ودول مفككة، لكن الجميع نزل للتفتت.
في هذا الانهيار العام صارت للصوفية امكانية الحضور والمقاومة داخل هذا البناء، فهي جزء من انهيار الوعي بتطرفِها في الحاقه بالغيبياتِ الكلية، ولكنها راحت تعارض ابتعاد المذاهب الإسلامية عن الجماهير المسحوقة، وغدت جزءا منها، وسخرت من الحكام ومن البذخ وتدمير الثروة العامة، ولكنها هي ذاتها تحول أقطابها إلى حكام ومسيطرين على العامة، وتجمد الوعي الصوفي في أشكاله المفارقة الشديدة الغيبية، وانعزل عن الواقع ودرسه، فتحولت الصوفية إلى دروشة، وهبت الرياح المعادية ورياح التغيير بعد ذلك في هذا العالم الإسلامي المفتت المحتل في كثير من أجزائه وراح يبحث عن أدوات التفكير الجديدة وأدوات التغيير في ظروف مختلفة.
لم تدرك القوى السياسية والفكرية الدينية المشكلة التي تواجهها في عمليات التغيير في العصر الحديث.
حاولت الامبراطوريات ذات الرداء الديني كالامبراطورية العثمانية والدولة الفارسية والمدرسة الوهابية وغيرها القيام ببعض الإصلاحات داخل النظام الديني القديم، واستمرت في ذلك عقوداً، فيما كان العالم يتوجه للحداثة والقوى الغربية تتوسع وتسيطر عبر مشروع الحداثة هذا، الذي أتاح موارد ضخمة وتنامياً للسيطرة، ووضع الشعوب الأخرى تحت الهيمنة مع إحداثِ تغييراتٍ ضرورية تستكملُ نظام الإستغلال العالمي لها.
الترقيعات والعمليات الشكلانية من الإصلاح والعمليات الجادة من الإصلاح في التركيبة الدينية السياسية الاجتماعية المُستعادةِ من القرون الوسطى، لم تغير واقع الأمم الإسلامية، فابتلعت واستمرت تحت الهيمنة، لكن هذه الهيمنة الغربية نفسها أعطتها بصيصاً من النور.
لقد التبس الأمر على المثقفين المسلمين فلم يدركوا أن الحضارةَ الغربية هي ذروةُ الحضارة البشرية، وأن الاستعمارَ هو حقبةٌ تاريخية (ضرورية) في مسار الإنسانية المعقد، أما التقوقع في الشكل القومي الديني المنقطع عن هذه الذروة فلا يجدي نفعاً، لكنهم مع أخذهم جوانب من الحضارة الغربية ظلوا يرفضون قسماتها الأساسية.
من يسمون بالتنويريين والنهضويين والإسلاميين الحداثيين أخذوا تلك الجوانب التي رأوها إيجابية وفعلوها في الواقع العربي الإسلامي ؟المسيحي، لكنهم بعد عقود إما فشلوا وإما أن من تجاوزهم من الشموليين والعسكريين والمحافظين ألغى صيغ المقاربة الجزئية مع الغرب.
وحده كمال أتاتورك قائد تركيا الخارجة من الامبراطورية العثمانية طرح صيغة بسيطة وهي التماهي مع الغرب والصعود إلى مستواه ما دام هو قمة البشرية الحديثة، وخلال عقود من القمع والتغيير والديمقراطية والانقلابات العسكرية تحققت نبوءة أتاتورك، وغدت تركيا حديثة مع العديد من البقايا القديمة والصراعات الثانوية فيما واصلت الدول العربية والإسلامية طرح أسئلة الحداثة وكيفيتها وهي في مواقع لا تختلفُ كثيراً عن البدايات من تفكك الأبنية وتخلف الأرياف وعبودية النساء وضعف الصناعة وعجز الهياكل السياسية عن مقاربة الديمقراطية.
لم يفهم المسلمون إن الذي بين أيديهم هي أنظمةٌ إقطاعية لم تعد قادرة على الصعود لذروة العصر، إن المجتمع الديني القديم لم يعد من الممكن استمراره، فرغم أن الأهداف السياسية في الثورة الاسلامية تقدمية، لكن البنية التي وقعتْ فيها هذه الثورة أخذتْ الكثيرَ من سلبيات وأشكال تفكير العصور القديمة وعلاقات اللامساواة بين الرجال والنساء وبين الحكام والمحكومين وغيرها، هذه البُنية يجب أن تُزاح كلياً، ويحدث فصل بين الدولة والدين، فتقوم الدولةُ بما يترتبُ عليها من برامج الحداثة العالمية ومن تقدم لمواطنيها ومساواتهم القانونية التامة وإحداث أشكال التعبير الديمقراطية الحرة، فيما يتوجه الدين ومؤسساته لخدمة المؤمنين من خلال أدواته الاجتماعية المحضة.
أما الجمع بين بنية الحداثة وبنية الدين في مؤسسات مشتركة فهو أمرٌ محال، الحداثةُ سلطةٌ جديدة، والدينُ سلطةٌ قديمة، ولا بأس من التعايش الاجتماعي العام لكن ليس من الممكن وجودهما معاً في مؤسسات سياسية عامة مشتركة.
هذه الصيغة الغربية أتاحت تطور البلدان الغربية وتركيا وتغيرت الأديان في الغرب وتقدمت كذلك، وعبرت تركيا عن نموذج لهذا في المحيط الإسلامي.
فيما أن صيغَ التداخلِ بين الدولةِ والدين أخذت الدولَ العربية والإسلامية في دورانٍ تاريخي متعبٍ وفي سلاسل من الانقلابات الدامية والثورات اللامجدية.
تكسرتْ قضبانُ السجون التي أقامها المحافظون السياسيون والدينيون للشعوب، اتسعت دوائر الحرية للافراد والجماعات بشكل لم يسبق له مثيل في بقية العصور، ولم تكن الدول الاشتراكية إلا تجارب أخرى من تحطيم تلك القضبان، بأشكال مغايرة ومتجهة للجذور الاقتصادية وبأشكالٍ سياسية غير ديمقراطية كذلك تجاوزتها فيما بعد، ولكن العالمَ الحداثي الديمقراطي العلماني بروافده المختلفة صبَّ في مجريات واحدة في نهاية القرن العشرين وتجمعت قوى البشرية التحديثية في زلزال.
فهل يمكن أن تقف الشعوب العربية في مؤخرة العالم تراقبُ الأممَ تتوحد وتتعملق وهي مفتتة متخلفة؟ وهي لاتزال تطرح الأسئلة نفسها لما قبل قرنين؟ ولا تزال مخدوعةً؟
وهل تكون التحولات الجارية الآن شيئاً آخر غير السراب العربي المعتاد؟
تجلتْ محاولاتُ المحافظين الدينيين للسيطرة الشمولية على المسلمين من خلالِ شكلين أساسيين هما ولاية الفقيه السني عبر الإخوان المسلمين وولاية الفقيه الشيعي عبر التجربة السياسية الإيرانية.
وعلى عكس أتاتورك وعلى عكس نموذج المقاربة الحقيقية من الغرب الديمقراطي طرحتْ موضوعةُ ولايةِ الفقيه العودة للإسلام، بشكلِ الاسترجاع النصوصي الكامل، من وجهة نظر السنة المحافظين والشيعة المحافظين كذلك رغم التباين بين الجانبين في فهم (الإسلام).
قالتا بأخذ الإسلام كما هو، وجاء ذلك بشكل العودة والذهاب إلى الماضي، واستعادة نمط حكمه وأشكاله العبادية الصارمة، وقد بدأت ولايةُ الفقيهِ السني للإخوان المسلمين تنسج خيوطها الدكتاتورية عبر الارشاد والتعليم والإصلاح من موقع الفئات الوسطى الصغيرة المطحونة في مصر الثلاثينيات، واتخذتْ موقفاً اجتماعياً سياسياً خطيراً متذبذباً، عبر قبول جوانب من الحداثة والتوجه أيضاً إلى النمط الاستبدادي السياسي الاجتماعي بشكل أساسي، بدلاً من أن تتعاون مع جماعة الوفد التحديثية وتشكلان تياراً ديمقراطياً وطنياً مقارباً للغرب محدثاً للتحول، بل تصارعتا، وهذا أدى إلى أن يقفز العسكرُ إلى السلطة ويضرب الجماعتين، ويتذبذب العسكرُ كذلك بين تكريسِ الشمولية وأخذ بعض جوانب الغرب المحدودة، مما أدى إلى انهيار مشروعات نصف الحداثة المصرية هذه ودخول مصر مرحلةَ غموضٍ حضاري وتذبذب إلى الآن.
فمشروع ولاية الفقيه السني دخل لحظة الجمود وعدم القبول الواسع، لكنه سبّب مشكلات كبيرة، عبر استنساخه من قبل الجماعات الدينية الأكثر شمولية والعنفية الارهابية، فغدتْ هذه العودةُ إلى (الإسلام) بصورةٍ حرفية وبأزياء خارجية وبانتحار سياسي كامل.
أما ولايةُ الفقيه الشيعية فأدخلت المسلمين في مخاطر كبرى كذلك، فنظراً إلى عدمِ وجود برنامج حقيقي، وبسبب رفض الإصلاحات الديمقراطية في أوضاع النساء والفلاحين والعمال والثقافة، وجعل السلطة أداةً دكتاتورية، فقد انتهت الولاية لتكون حكراً على المستبدين الدينيين والعسكريين الذين راحوا يغامرون بمصير إيران، وحين ظهرَ سرابُ ولايةِ الفقيه هنا وعدم إنتاجه للجنة الموعودة قاموا بتصديرها للبلدان العربية خاصة، وكان هذا التصدير ينزل بقوة على التكوينات الوطنية في كل بلد بشكلٍ حاد لكون هذا التنزيل لا ينبثق من التجربة الوطنية لكل شعب، فيؤدي إلى تطوره بل يكون هذا النزول سبباً في انشطاره وخوفه من المُصدِّر الإيراني وسياساته، وقد وقع التصدير على العراق وفيه المرجعيةُ الكبرى للشيعةِ في العالم، ووقفتْ المرجعيةُ من دون تأييد إلى أي حزبٍ ومع تغيير ظروف الشعب العراقي السيئة، وهو تأكيد منها أن الأحزاب السنية والشيعية يجب أن تتحد أو أن تترك التجارة السياسية بالمذاهب. وهذا يؤكد عدم صحة مسألة ولاية الفقيه السياسية على الجانبين.
فيما دخل المجتمع الإيراني في أزمة انقسامية لا يعرف كيف يخرجُ منها.
وقد واصل الفقهُ المحافظ في جميع المذاهب الإسلامية حضوره الهادئ البطيء ومتابعة ظروف المسلمين واقتراح الحلول على الأصعدة كافة بشكل جزئي محدود، معبراً في العديد من صوره عن تلاقيه مع السلطات الحاكمة في البلدان الإسلامية التي لم تقم بتحولات عميقة لصالح الجماهير، وظلت الهياكلُ السياسية فاسدة فيها ولم يدعُ هذا الفقهُ إلى تغييرِ ظروف العامة ونشر الديمقراطية والحريات.
إن الديمقراطيةَ العلمانية تحريرٌ للعامة من أسر الفقر والأمية وإيجاد الحرية والتقدم الثقافي، وهي أمور تؤدي عبر الإرادات وأفعالها المتنوعة المضيئة، إلى إعادة اكتشاف الإسلام وإنتاجه في عصر جديد، والتغلغل في الحضارة الحديثة واستثمار إنجازاتها.
وهي عمليةٌ تركيبيةٌ صعبة بدأتْ بعضُ الأحزابِ الجديدة الديمقراطية العلمانية وذات الجذور الإسلامية مقاربتها.
إن الجمعَ بين مستقبلٍ يكادُ يضيع من بين أيدينا وماضٍ عزيز علينا ولاتزال أشكاله العتيقة تخنقنا، مهمةٌ مركبةٌ صعبة جدا ولكن ليست مستحيلة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 11, 2023 23:32

February 1, 2023

الماديةُ والعلوم

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

في إنتاجِ دكتاتوريته الفردية يصعدُ لينين صراعَهُ ضد التعددية في الحزب، فيقسمهُ، ويصعدُ صراعَه ضد التنوع الديمقراطي في الغرب فيغدو الغرب برجوازياً لا بد له من شيوعية نافية له بكليته.
لكنه أيضاً يتوغلُ في مجال العلوم ويواجه تعددَ المدارس والتيارات الفلسفية المثالية العقلانية والمادية التجريبية من أجل إكتساح المادية الجدلية للمسرح الفكري. لكن أية مادية جدلية لديه؟
ظهرت في أواخر وأوائل القرن العشرين مدارس وحركات علمية عديدة لا تنطلق من المادية الجدلية بل من وعي علمي مختبري ومن غوص تجريبي في العقل ومن إستخدام اللغة في تحليل منتجات العلوم الطبيعية.
كانت مدرسة(التجريبية المنطقية) تتوجه نحو دراسة الظاهرات الطبيعية بأشكالٍ جزئية تجريبية، حيث تفصلُ الظاهرةَ العامة عن كلية الطبيعة، وتدرس عناصر التجربة، لاستخلاص نتائج موثقة.
تعارضُ هذه المدرسةُ أفكاراً ومسلمات إطلاقية من أجل أن تموضع الدراسة، وتحللَ الشيءَ أو الظاهرة، ولهذا رفضت مفاهيم مثل(المادة) و(الجوهر) معتبرة إياهما آراءً قديمة غير نقدية.
(إن اللون هو موضوعٌ فيزيائي إذا أخذنا بعين الاعتبار تبعيته لمصدر النور الذي ينيره للألوان الأخرى والحرارة والمكان الخ، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار تبعيته لشبكية العين فأمامنا موضوع نفساني إحساس).
إن التجريبية المنطقية تقوم بدرس هذين الجانبين المواد والأشياء عبر صلاتها بالأحساس والجهاز العقلي البشري:
(إن الصلة بين الحرارة والنار تخص الفيزياء في حين أن الصلة بين(العناصر) وبين الأعصاب تخصُّ الفيزيولوجيا، ولكن لا هذه الصلة ولا تلك توجد بمفردها بل توجد كلتاهما معاً).
هذا ما يقوله الفيلسوف الإلماني ماخ في القرن التاسع عشر والذي ينقله لينين في كتابه(المادية والنقد التجريبي) ص 53، دار التقدم، موسكو.
فيقسم النقدُ التجريبي عمليةَ المعرفةِ المتأتية من العلوم إلى عناصر شيئية، وعناصر تفكيرية.
ويقول مفكر روسي موجزاً هذا(الإحساس مُعطى لنا أصدق من الجوهرية). بمعنى أن المطلقات هي خارج عملية البحث والتحليل للأشياء.
يعبرُ لينين عن إختلافه بطرق هجومية حادة ويقول محدداً وجهة نطره:
(يجب القول إن كثيرين من المثاليين وجميع اللاادريين.. يلقبون الماديين بالميتافيزئيين لإنه يخيل إن الأعتراف بوجود عالم خارجي مستقل عن إدراك الإنسان يعني تخطي حدود التجربة. وسوف نتكلم في حينه عن هذه التعابير وعن خطئها التام من وجهة نظر الماركسية)، ص 64.
لا يحلل لينين بدقة مسألة وصف الماديين بالميتافيزيقية هنا، ويخلطُ بين(إن الأشياء مستقلة عن وعي الإنسان بالمطلق)، وبين أن الأشياءَ ليست مسقلةً عن وعي الإنسان النسبي.
إن إنفصالَ الأشياء والطبيعةِ عن الإنسان هو أمرٌ موضوعي، لاجدال فيه، ولكنها ليست مستقلة عن وعي الإنسان التاريخي حين يتعامل معها ويحللها ويحاول إكتشافها.
وهكذا كان العلماء القدماء لا يفصلون أفكارهم وعقائدهم عن تحليل المواد، في حين وصلت العلوم بين القرنين 19و20 إلى عمليات متقدمة لفصل الوعي الذاتي للباحث عن المادةِ المدروسة.
ومن الممكن بهذا أن يقعَ الماديون في عالم الغيب الاجتماعي السياسي كما سيحدثُ للينين نفسه.
ومن هنا تتعاظمُ أهميةُ هذه القراءة للاحساس، ولتحول الانطباعات إلى معرفة، والتركيز على التجربة، التي لها أدوات ومستويات وتطورات في أجهزتها والتي تغدو ملغيةً لمعلوماتٍ وآراء سابقة نظراً لهذه الصلة بين المُعطى والتجربة.
لهذا تغدو العلومُ الطبيعيةُ منفصلةً عن الفلسفات والأديان والآراء المسبقة، وتغدو الفلسفات مستفيدة من خلاصات هذه العلوم ومستثمرة لها في وجهات نظرها.
من الممكن أن يكون هؤلاء الباحثين مثاليين ودينيين وماديين من مختلف التيارات، بسبب أن نشؤ العلوم في الغرب جاء من وعي مسيحيين ويهود ومؤمنين عامة، وهؤلاء حاولوا الارتقاء بالعلوم وعدم الاصطدام مع أديانهم وحجموا دلالات ونتائج العلوم وربطها بالصراعات الاجتماعية. لكن لينين ينطلق من رؤية حادة لإزالة الأديان والإستغلال بدون وعي علمي حقيقي، فيؤدي لتجربة مغايرة لما يريد.
خذ مثلاً ما يقوله لينين نفسه عن الأثير وعلاقته بالوعي:
(وهذا يعني إنه توجد خارج عنا، بصورة مستقلة عنا وعن إدراكنا، حركة للمادة، مثلاً، موجات الأثير ذات الطول المعين والسرعة المعينة، التي يولد في الانسان، بتأثيرها في شبكة العين، الإحساسُ بهذا اللون أو ذاك)، ص 54.
إن حركة المادة العامة المجردة هذه صحيحة التأثير غير أن(موجات الأثير) هذه غير موجودة في الطبيعة نفسها، أي أن هذا المصطلح من مفردات مدرسة علمية قديمة تم تجاوزها فلم يعد هناك شيءٌ أسمه موجات الأثير! لقد جرت تجارب علمية في أواخر القرن التاسع عشر أثبتت غياب هذا المُسمى، وبدأت نظرياتٌ علمية جديدة، ولكن مع غياب متابعة لينين:
(لقياس سرعة الموجات الكهرومغناطسية، قام ميكلسون ومورلي بإجراء تجربتهما الشهيرة سنة 1881وقد كانت هذه التجربة من أشهر التجارب في القرن التاسع عشر، والتي أدت إلى ثورة علمية لأن نتائجها كانت تعاكس تماما أفكار الباحثين المؤيدين لفكرة الأثير).
بطبيعة الحال إن العديد من باحثي النقدية التجريبية مثاليون ومحافظون وبينهم باحثون مناضلون في نقد وتحليل العالم الطبيعي والاجتماعي كذلك، لكن التعددية وإستثمار العلوم ونتائجها وتطويرها بالنقد يخلق شبكات تحليل واسعة للحياة في مختلف جوانب المعرفة.
يولي لينين أهميةً كبيرة لرجل الدين باركلي بإعتباره مشابهاً بشكل كلي للعلماء الفزيائيين والمنظرين النقديين التجريبيين، أصحاب هذه الفلسفة الجديدة التي قام لينين بمواجهتها في سنة 1908 في كتابه(المادية والنقد التجريبي).
(إن بريكلي يقول بكل جلاء إن المادة(جوهر لا وجود له)، ص 21.
يعتبر لينين ذلك بمثابة(الهجوم المقدس على المادة)!
إن رجل الدين المثالي هذا في تصوره يماثل أرنست ماخ الباحث من القرن التاسع عشر الفيزيائي المعروف.
لكن ثمة فرق هائل بين القس بيركلي والعالم ماخ!
فمن هو بريكلي هذا؟
جورج بيركلي (مارس 1685 – 14 يناير 1753) كان فيلسوفًا بريطانيًا-إيرلنديًا وأسقفا أنجليكانياً يعتبر من أهم مساندي الرؤية الجوهرية في القرن الثامن العشر الميلادي، ادعى بيركلي انه لا يوجد شيء اسمه مادة على الإطلاق وما يراه البشر ويعتبرونه عالمهم المادي لا يعدو أن يكون مجرد فكرة في عقل الله. وهكذا فأن العقل البشري لا يعدو أن يكون بيانا للروح. قلة من فلاسفة اليوم يمتلكون هذه الرؤية المتطرفة، لكن فكرة أن العقل الإنساني، هو جوهر، وهو أكثر علواً ورقياً من مجرد وظائف دماغية، لا تزال مقبولة بشكل واسع. آراء بيركلي هُوجمت، وفي نظر الكثيرين نُسفت)، موسوعة ويكيبيديا.
إذن بيركلي صاحب رؤية دينية متطرفة ألغى من خلالها العالمَ الموضوعي، وأعتبرهُ مجردَ فكرةٍ إلهية، وهو إمتدادٌ للعصور الوسطى والوعي الكَنسي التقليدي، ولهذا فهو يختلفُ إختلافاً كبيراً عن إرنست ماخ الذي عاش في القرن التاسع عشر باحثاً:
(ماخ، إرنست (1838 – 1916م)فيزيائي وعالم نفسي نمساوي درس حركة الأجسام بسرعتها القصوى خلال الغازات، وطوَّر طريقة دقيقة لقياس سرعتها معبرًا عنها بسرعة الصوت. وتعتبر هذه الطريقة مهمة خاصة في مشاكل الطيران الأسرع من الصوت. ظل عمل ماخ مبهماً إلى أن بدأت سرعة المركبة الفضائية تقترب من سرعة الصوت. وبعد ذلك استُخدم مصطلح رقم ماخ مقياساً للسرعة.)، المصدر نفسه.
وهو(يـُذكرُ باسهاماته في الفيزياء مثل رقم ماخ ودراسة موجات الصدم. كفيلسوفٍ للعلوم، فقد كان له تأثير كبير على الإيجابية المنطقية ومن خلال انتقادهِ لنيوتن، الذي مهّد لنسبية أينشتاين).
تتعدد وجهات نظر لينين تجاه ماخ ورؤيته، فيقول(التصور العام للماخيين ضد المادة) ص16،( الأسقف بركلي يساوي الماخيين)، ص35، وأتباعه يحاولون(تمرير المادية خلسة!)، (حاول أن يميل صوب المادية).
إن علماء الطبيعة يقومون بتنحية المُسبقات المختلفة، ومنها الأفكار، والتصورات القديمة عن المكان والزمان والمادة، وقد يقعون في أخطاء فكرية في هذا الهدف، ولكنهم يلجأون لذلك من أجل البحث العلمي، وعملية التنحية تبدو للينين بمثابة خيانة، ومن هنا يقوم ماخ بالبحث الجزئي المتغلغل في الظاهرة المدروسة للوصول إلى معرفتها والسيطرة عليها تقنياً، ثم يقوم بإختراعاته الكبيرة لكن فهمه النظري المادي الجدلي محدود.
(إن افيناريوس ينعتُ بالبحث المطلق ما يعتبرهُ ماخ صلة (العناصر) خارج جسمنا، وينعت بالنسبي ما يعتبره ماخ صلة العناصر التابعة لجسمنا)، المادية ص61.
إن افيناريوس هو عالمٌ مماثلٌ لماخ أقتربَ من رؤيته، وهو يعتبر الطبيعة التي هي العناصر خارج الجسم وبالتالي هي مطلقة، ولن تكون هنا في مجال البحث، لكن العناصرَ التي تدخلُ البحثَ هي متأثرة بوعينا ومستوى إدراكنا فهي نسبية.
كانت ثمة ثورةٌ علميةٌ تجري في أوربا من أجل الإطاحة بمفاهيم الفيزياء التقليدية، ومن أجل تصور جديد للمادة والكون، وهو تصورٌ متراوح متذبذب جزئي محدود لدى كل من ماخ وافيناريوس لكنه يظهرُ بصورته الكبيرة المادية الجدلية لدى انشتاين.
إن التجريبية النقدية المرفوضة عن لينين كانت تغيرُ العلومَ، لكنه كان لا يزالُ مع فكرة موجات الأثير، التي قامتْ تجربةُ العالِمين ميكلسون ومورلي بدحضها، سنة 1881 كما ذكرنا آنفاً في حين كتبَ لينين كتابَه سنة 1908، وطبعَهُ مرة أخرى بعد الثورة الروسية دون تغيير في فهمهِ لموجات الأثير، فتلك التجريبية أكدت أهمية دور العلماء الشخصي وتغييرهم لآراء سائدة مُسّبقة، قَبلية.
في مقابل واحدية الحزب المطلقة وهيمنة الدولة المطلقة يجري كذلك جعل المادية الجدلية مهيمنةً كلية، لكن الدكتاتورية هنا مُصّدعة للعلوم الطبيعية والاجتماعية على نحو خاص.
تتكشف في المساواة بين بريكلي والماخيين والتجريبيين المنطقيين عدم فهم لينين للتطور الاجتماعي الفكري العلمي ومراحله التاريخية ومسائل الديمقراطية وتعددية الاجتهادات الفكرية والفلسفية، ففيما يعكس بيركلي رؤية دينية صوفية رجعية يقوم علماءٌ من الفئات المتوسطة بتطوير العلوم مجتنبين الدينَ والمادية الجدلية الجامدة وقتذاك.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 01, 2023 17:25

الوعي والمادة

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

جسد فهم المجتمعات للمادة، وهي الأشياء والعالم الخارجي الموضوعي، خارج العقل البشري، مدى قدرة البشر على السيطرة على الطبيعة والمجتمع، ومدى قدرتهم على التصنيع وخلق تراكم للعلوم الطبيعية والاجتماعية.
وقد بدأ العرب يقاربون الحضارة الحديثة منذ أن تفتحت عيون المثقفين في النهضة الحديثة، ومن ثم راحوا يراكمون وعياً جديداً مختلفاً عن (المادة) منذ الأنظمة الملكية الليبرالية فالأنظمة العسكرية الوطنية والثقافة التنويرية العلمانية وراح يتصاعد بتقطع وضعف دون أن قطع بجذورهم الإسلامية والقديمة والإنسانية.
وهذا التصاعد والتقطع والاستمرارية تعبر كلها عن حصيلة الصناعة والعلوم والحرية وعن جذور ضعيفة في حفر الأرض المادية.
لقد كان الحصول على معنى المادة ومعنى العلم وكشف سببيات الوجود لتلك القبائل التي خرجت من الجزيرة العربية أمراً صعباً محفوفاً بالمخاطر ولجماعاتٍ أميةٍ محدودة الأرث العلمي، والتي إنتجت منها فئات وسطى حرفية وثقافية في ظل الإمبراطورية وراحت تتساءلُ عن معنى الوجود وكيفية فهمه وكيف السيطرة عليه؟
إن الشعوبَ لا تفهم الطبيعةَ والمجتمعَ بشكلٍ مجرد سحري غيبي تلقائي عجائبي بشكلٍ أساسي، وإن كانت هذه هي المراحلُ الدنيا لتشكلِ العقول، لكنها تتجاوزها، لأنها ذات مستويات دنيا، ولاعتمادها على الحدس وهو أدنى أشكالِ الفكر وعلى التجارب البسيطة غير المعللة وغير المجربة تجريباً حديثاً.
لكن هذه الأشكال الدنيا ملاصقة كثيراً للعرب والمسلمين لأنهم في المستويات الدنيا من الإنتاجين الصناعي والعلمي، ومن هنا فالأشكال الأخرى من السحر والدين غير العقلاني تبقى مترافقةً مع هذا التطور ذي المستوى المنخفض.
ومن هنا كانت الجهود الجبارة للعلماء العرب والمسلمين في إنتزاع أسرار الطبيعة والمجتمع، وهم في بدايات الحضارة، وهو أمر مهدهُ علماءُ اللغةِ والكلامِ ثم الفلاسفة، الذين وضعوا جميعاً القواعدَ الأولى لبناءِ العقلية العربية الموضوعية النقدية، التي تراكمُ لبناتِ المعرفةِ الموثَّقة، والتي تكشفُ خلايا المادةِ وعملياتِ التغلغلِ فيها بشتى أشكالِ تمظهراتها، سواءً كانت جسم إنسان أو حيوان أو أشياء مادية بمختلف حالاتها، أو كانت كوكباً أم نجماً.
ولا تنفصلُ العلومُ الإنسانيةُ هنا عن العلوم الطبيعية، بل كانت هي مقدمتها، فتطورُ علومِ النحو والصرف والبيان ودراسة جذور اللغة وحياة العرب الاجتماعية، قادَ إلى وضعِ لغةٍ كبيرة ذات إمكانيات تعبيرية وإشتقاقية حيوية تحت تصرف علماء الطبيعة والرياضيات والطب والفلك والكيمياء وغيرهم.
فتغيرت الرياضيات بداية من تغيير الأرقام إلى جعل الصفر فيها وجعلها بالتالي سهلة ولا نهائية الحساب، لأن المادة لانهائية، وعبر الجبر تم إظهار الكم المجهول من الكم المعلوم، فغدت الرياضيات أداةً أخرى، وتطورت الهندسة الأقليدية، خاصة عبر التلاقح مع الثقافة اليونانية، ثم بدأت الكيمياء والفيزياء بالتطور مع تطور الحرف والصناعات.
لكن هل تنفصل العلوم هنا عن الشعوذة خاصة مع هذه النشأة الأولى الضعيفة؟
(أخذ جابرٌ«بن حيان» مادة الكيمياء – كما هو معلومٌ – من مدرسةِ الإسكندرية التي كانت تقولُ بإمكانيةِ انقلابِ العناصر وتحولها بعضها إلى بعض، وأخذ مع هذه الكيمياء فيضاً من الفلسفة الهيلينية والآدابَ السحريةَ والتصوف والروحية الإيرانية)، (الجامع في تاريخ العلوم عند العرب، الدكتور محمد عبدالرحمن مرحبا، منشورات عويدات ط2، 1988، ص 315).
إن إمكانياتِ الوصولِ إلى الأبعادِ المتعددة للمادةِ مسألةٌ مرهونةٌ بقوى الإنتاجِ السائدة في المجتمع وتجلياتها في البحثِ العلمي خاصةً مدى تقدم الحرف ومن ثم وجود معامل الإختبار، وظهور وتعمق تخصصات العلماء، وتنوع أدوات السبر والصهر والتحليل المختلفة.
ولهذا فإن حدوثَ جدلٍ عميقٍ بين الصناعة والعلوم لم يحدث:
(مزجَ العلماء العرب والمسلمون الذهبَ بالفضة، وإستخدموا القصديرَ لمنع التأكسد والصدأ في الأواني النحاسية، وإستخدموا خبرتَهم الكيمائية في صناعةِ العطور ومواد التجميل وصناعة الأقمشة والشموع..) الخ، الموسوعة العربية العالمية، ص 460.
لنلاحظ هنا كيف أن منهجيات البحث العقلي كانت محدودة وكذلك فإن توجه الطبقات الحاكمة للاستئثارِ بجانبٍ كبيرٍ من الفيضِ الإقتصادي، وجهَ الصناعات نحو الصناعات الاستهلاكية التابعة للقصور وكبارالتجار، مثلما أن الحركة الفلسفية لم تقمْ بتحليلات عميقة للمواد الطبيعية والاجتماعية.
إن المادة هنا باعتبارها مواداً وكواكب ونجوماً، أي مادةً كونيةً، لم تتغلغلْ الأبحاثُ فيها، فجثمت أشكالُ الوعي العربي العلمية على سطوح المواد والعمليات، وهي الموادُ المقاربةُ للاستهلاكِ أو للصحةِ الجسدية البسيطة، أو للتنجيم، وهو الثقبُ الأسودُ الذي إنهالتْ فيهِ موادُ الخرافةِ الواسعة وبلعتْ العقولَ والحضارة العربية.
وحتى شبكة العلوم الطبيعية كانت خاضعةً لأهدافِ الطبقاتِ العليا، فالطبُ والتنجيمُ والصيدلةُ يتمُ الصرفُ عليها، في حين لا تحظى علومٌ أخرى بمثل ذلك.
إن أشكال الوعي من دين وفلسفة وعلوم لم تستطع أن تصل إلى المادة إلا بمستويات محدودة وعجزتْ عن كشفِ تنوعاتِها والوصولِ إلى مكوناتِها الأصغر، وفي مختلفِ تجليات المادة الحية والجامدة على السواء، كما لم تصلْ – تلك الأشكال- إلى فهم عمليات المادة الأكثر تطوراً وهي الحياة الاجتماعية البشرية ونتاجها الأعمق وهو الظاهرات الفكرية.
ومن هنا فقدتْ مفاتيحَ إستمرار النهضة والتقدم وتوقفت وتخلفت.
إن أحجامَ إكتشاف المادة في الحضارتين الكبريين الإغريقية والعربية والحضارات الأخرى كذلك مثل الصينية والهندية، لم تصل إلا لكشف سطوح المادة، لكن في الحضارة الغربية التي تصاعدت منذ القرن الخامس عشر بدأت ظروف جديدة تتشكل، فقد أزيلت الدولة الكلية الإستبدادية وأُبعدت أحجارُ سيطرتِها وهي الأديان الكاتمة على حريات العقول وإنفتح المجال للتجريب العلمي الحر.
لكن ذلك إستغرق زمناً طويلاً وبتفاعل البُنى الاقتصادية والفكرية لكل المجموع النهضوي الغربي، بحيث تمَ تجاوزُ الحرفةَ، بظهورِ الصناعتين اليدوية فالآلية، والأخيرة هي الذروة ولأول مرة في التاريخ، وبهذا فإن المادة بمختلف تجلياتها الكونية والأرضية وُضعت تحت أصابع وعيون البشر لتفحصها، بشكلٍ تاريخي متدرجٍ يعكسُ تطورَ الصاعاتِ والملاحةِ وسيطرتهم على الأشياء والمنتجات والخريطة الأرضية.
إن الأجسامَ الفضائية كالكواكب والنجوم أُعيد النظر إليها، ورئُيتْ حركةُ الأجسام الكوكبية بشكلٍ صحيح، فبدأت المناظير تتجه إلى المواد الأصغر فالأصغر، دون أن يتوقف تحليل المواد الكبرى.
وهذه المراحلُ الأولى من الإكتشافاتِ الجغرافية والصناعة أعطتْ إقتراباً من الأجسامِ الفلكية الكبرى وساهمَ ذلك في إستعادةِ وحدةِ الكرة الأرضية، وبتواضعِ الأرض في المجموعة الشمسية لكنها صارت أقوى، ودخلتْ في تشكيلةٍ تاريخية جديدة هي الرأسمالية جعلتْ المادةَ البضائعية هي محور الاقتصاد والمعامل.
أعطت هذه المرحلة تغلغلات كبيرة في المواد الصناعية، فتمكن تشارلس داروين من فهم سببيات تطور الأحياء، وكشف كارل ماركس مادة البضاعة وتناقضاتها الاجتماعية، وهو مستوى لا يعود للبيولوجيا بل للعلوم الإنسانية، وتغلغل فرويد في فهم مادة العقل وطبقاته في الوعي واللاوعي إضافة لعلماء آخرين كشفوا جوانب أخرى من هذه المادة المُـفَّكرة، وهذه كانت ذروة العلوم في القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين.
في القرن العشرين تعرت المادة تعرية واسعة جداً، إتسع الكون إتساعاً عظيماً، ورُئي كمجراتٍ تشكلتْ في الانفجار العظيم، وهو الكون المرئي التاريخي لنا، أي كوننا، لأنه من الممكن أن تكون هناك أكوان أخرى، وكذلك فإن مادة هذا الكون دُرست وحُللت.
(المادة في الفيزياء الكلاسيكية هي كل ما له كتلة وحجم ويشغل حيزاً من الفراغ)، الموسوعة. لكن هذا هو الشكل الكلاسيكي للمادة فقد تداخلت المادة والطاقة، صارتا نوعاً واحد بوجهين.
وكما أن المادة لانهائية في الكبر فهي لا نهائية في الصغر، والحديث عن وجود حدود لها هو مجرد ظن:
(تتكون المادة من جسيماتٍ بالغة الصغر تسمى الجزيئات، وهي عبارة عن تجمعات لجسيمات أصغر هي الذرات. وتلك بدورها تتكون من جسيمات أصغر. ويُعتقد حالياً أن المادة تتكون من أجسام صغيرة جداً لا تتجزأ، حيث أنها لا تتكون من جسيمات أصغر بل هي أصغر شيء. وتـُسمى هذه الجسيمات بـ”الجسيمات الأولية”، ومع هذا فليس من المُثبت بعد أنها فعلاً أصغر الأجسام المكوّنة للمادة.)، موسوعة
كشفتْ المادةُ عن كونِها حركةً صراعية، فأجزاء الذرة الداخلية متضادة، دائبة الحركة، والمادة الطبيعية الكونية في صراع دائم بين مكوناتها وفي العلاقات بينها، وهي في حالة سيولة دائمة من الحركة.
المادة هي جزء من كوننا، ولا يُمكن إطلاق هذا المطلح على ما وراءه. ويُعتقد حالياً أن المادة تـُشكل 27% من كلتة الكون، 4% فقط هي المادة الطبيعية، والتي تنقسم إلى نوعين رئيسيّين: مادة مضيئة وغير مضيئة، وتــُشكل الأولى 0.4% من كتلة الكون، في حين أن الثانية تـُشكل 3.6% من كتله. أما الـ23% الأخرى فهي المادة المظلمة، والـ73% الباقية هي الطاقة المعتمة.
ليست قدرات العلوم الغربية وإمكانيات الثورة التقنية التي عصفت بالقرن العشرين هي مجرد إهرامات من الأفكار المجردة بل هي تحولات كبيرة في العلاقات الدولية قادت إلى إنقلاب أوضاع الدول وتأكيد الغرب لقيادته للمسيرة العالمية تبعاً لمصالحه ومن خلال موقعه المتميز، وبالعصف بنظم ماقبل الراسمالية والرأسماليات الحكومية الشرقية.
لقد برز صراع العلوم والثورة المعلوماتية والتقنيات الغربية في مواجهة وأمية العالم الثالث وتخلفه الثقافي ومحدوديته العلمية وتبلور في كونهِ صراعَ أساليب إنتاج وثروات تنتقل من جهة الشرق لجهة الغرب، فقد بلغ نسبة إنتاج العالم النامي 7% من الإنتاج الصناعي العالم، وبلغ حجم ديونه 2 تريليون دولار، رغم ضم هذا العالم النامي 70% من سكان العالم.
إن مجموع الارباح التى حولتها الاستثمارات الغربية لبلادها قد بلغ 139,7 بليون دولار خلال عقد 1970 – 1980.
فليست الثورة العلمية والتقنية هي مجرد أفكار مجردة، وليست هيمنة العلوم على المواد، هي أشكال ثقافية، بل سيطرة على المواد الخام، والاستثمارات والثروة المعرفية الجديدة.
إن عجز العالم النامي، ومنه العالم العربي، هو في أبنيته الاجتماعية – الثقافية المتخلفة، فعقلنة العالم وقراءاته السببية والقانونية، تترافق مع تغيير العلاقات بين الثقافة والتربية والتعليم وبين الإنتاج، مع تغيير الهياكل الاجتماعية الذكورية، مع تغيير الهياكل الحكومية البيروقراطية، مع الإنتقال للديمقراطية.
إن الثورة العلمية والتقنية الغربية تتغلغل كذلك في تغيير المواد التي ينتجها العالم النامي كذلك، فهي تطيح باقتصاده التقليدي كذلك:
(ومن الأمثلة على الصناعات التى قامت على الهندسة الوراثية (التكنولوجية الحيوية) والتى تم بها ايجاد منتجات تحل محل الانتاج الزراعي في العالم المتخلف التوصل الى انتاج النيلة(منتج صناعي يُستخدم في الصباغة) التى تنتجها الهند، وانتاج خيوط مخلقة لتحل محل السيزاك والمطاط، وانتاج حبوب الفانيليا بدلا من الطبيعية التى تنتجها مدغشقر وإنتاج حوالى ثلاثين بديلاً للصمغ العربي الذي ينتجه السودان)،(تاج السر.
إذا قرأنا هذه التحولات العاصفة الغربية وإنعكاساتها على المستوى الفكري، وربطنا بين إنهيار العقلانية العربية بعد ابن رشد، وعجز القوى الفكرية المختلفة عن العودة حتى إلى هذه العقلانية الفلسفية الدينية المثالية، فسوف نرى إنهيار المجتمعات العربية وعجزها عن الارتفاع لتحديات العلوم الغربية وثورتها المشار إليها، فغياب العقلانية الفلسفية يشير إلى عجوزات مختلفة؛ عدم القدرة على نشر التصنيع وخلق قوى عاملة متقدمة ماهرة تقنياً، وضعف وعي النساء وحضورهن التقني والعلمي، وهيمنة الثقافة السحرية على الوعي العام الخ.
أي أن الحضور العربي الراهن هو بسبب إنتاج المواد الخام الثمينة وأهمها البترول، الذي يجعل العديد من الدول العربية لا تعلن أفلاسها وإنهيارها الاقتصادي، ولما سببه البترول من حراك إقتصادي شمل دولاً عربية عديدة كذلك.
وقيام الاقتصاديات والأبنية الاجتماعية العربية على إقتصاد نفطي يؤكد غياب العرب عن ثقافة العالم المعاصر العلمية، وتشكل هذا العالم على الوعي غير العلمي.
فليس الوعي بالمادة كرؤية فلسفية مسألة تجريدية، بل تتعلق بصميم التطور البشري، فحين يرفض أبوحامد الغزالي السببية في زمن الثقافة العباسية، ولا تدخل هذه كرؤية شاملة في مختلف تجليات الظاهرات الطبيعية والاجتماعية، وأن لا تزال هذه الرؤية سائدة في الثقافة العامة، فهذا يظهر الفرق بين ثقافة غربية أحتوت عالم المواد وصنعتها كذلك وبين ثقافة لا تزال تعيش على الحرف وإنتاج المواد الخام.
لقد غدت هذه الثقافة الغربية التقنية تدخل إلى نسيج المواد وتغير تركيبها الطبيعي، وقد أمكنها صناعة الخلية الحية والقيام بالاستنساخ.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 01, 2023 17:18