المذاهب الإسلامية والتغيير .. عبــدالله خلــيفة
◄المذاهب الإسلامية والتغيير ►
مع غياب الطابع الثوري للإسلام وهيمنة القوى الارستقراطية على الحكم، توجه العامةُ لمختلف ضروب التفسيرات المختلفة والآراء المعارضة حسب الطابع السائد الاجتماعي للأمم الإسلامية، ففي فترةِ تكونِ الدولة الأموية وبداية القهر من قبل السلطة المركزية ظهرتْ النزعاتُ البسيطة والمذاهب الفكرية المختزلة، التي يمكن أن يؤمن بها أي فرد في المجتمع كالقدرية والتجسيمية.
والفرقُ الدينيةُ هي التي تحولتْ بشكلٍ تدريجي طويلٍ لما تُسمى المذاهب، والتي كانت في البدء مجموعة من الأفكار والنزعات المتعددة والمتقطعة، ثم على مر القرون صارتْ هي المذاهبُ المعروفة حالياً: مثل الخوارج، والسنة، والشيعة. وترسختْ على أسسٍ سياسية وفكرية واجتماعية وفقهية.
وقد تداخلت وتعاضدت وتنوعتْ الآراءُ السنيةُ لكبارِ الأئمة لتغدو مؤسسةً لجماعة هي الأكبر فتشكل الطائفة ذات المقاربة النقدية الإصلاحية مع الدول الحاكمة السائدة منذ الدولة الأموية مروراً بالدولة العباسية، ورغم معارضة أئمة السنة لبعض ممارسات الحكام الأوائل لكن التطورَ التاريخي من تثبيتٍ ونفي في بناء المذهب جعل آراءَ هؤلاء الأئمة هي المرجعية للطائفة، عبر وسط عقلي معتدل أكد مرجعية النصوص المقدسة مع قراءة الظروف المتغيرة ودرجات متعددة من الاجتهاد بينها إلى رفض للاجتهاد في المدرسة الأخيرة وهي الحنبلية.
واعتمد هذا المذهب السني عموماً على أساسيات التاريخ المؤسس للمسلمين وعدم رؤية للصراعِ الاجتماعي السياسي فيه، وقبول بما حدث فيه من سيرورة تاريخية، ونقد الأخطاء الممزقةِ للجماعة، وإعتبار تاريخ المسلمين هو تاريخ الجماعة، وما عداه تاريخ منشق عليه.
وعبّر تاريخُ المذاهبِ السنية عامةً عن تاريخ الدول الرسمية وتاريخ الأئمة والفقهاء السائرين على درب الجماعة. ومن خلال فكرة محورية هي أن جماعة المسلمين لا تتصارع داخلها، وأنما الصراعات مؤثرات خارجية أو هي من جماعات خارجة عن الصراط المستقيم وأن الإصلاحَ يتم من داخلها.
وهكذا فإن التحليلات للصراعات الاجتماعية والسياسية جاءت من قبل الباحثين والمفكرين المستقلين أو المنتمين للطوائف كذلك، حيث راح هؤلاء يبحثون عن أسبابِ الصراعاتِ السياسية والاجتماعية، ومن أين جاءت؟ وكيف تطورت؟ ولماذا لم يستطع المسلمون وقفها؟
ولهذا فإن كثيرين نسبوا أحداث (الفتنة الكبرى) إلى شخصيات مُندسةٍ بين المسلمين حملتْ أفكاراً غريبة عليهم كعبدالله بن سبأ وغيره، فلم يقبلوا بفكرة أن المسلمين يمكن أن يختلفوا.
فما دامت النصوصُ المقدسة كاملةً نقيةً فلماذا تحدث الانشقاقاتُ والصراعات؟ فتذهب هذه الآراءُ إلى البحث عن سببياتها خارج البُنى الاجتماعية المتضادة والمتغيرة عبر التاريخ.
وهذا بخلافِ مفكرين ينتمون إلى نفس المذاهب السنية كالجاحظ وابن خلدون وابن رشد وابن طفيل الذين يرجعون الاختلافات والصراعات إلى أفكار ونفسيات مختلفة بين قادة المسلمين الأوائل وإلى ظروف خارجية كذلك كالفتوحات وتبدل العيش.
وهكذا استطاع مفكرون من السنة في ختام العصر الوسيط أن يحللوا بصورةٍ أكثر موضوعية مسار التاريخ الديني للمسلمين.
في حين ظل الخوارج يرون التاريخ الإسلامي الحق متوقفاً عند الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر، وحتى علي إلى قبوله بالتحكيم، وماعدا ذلك فهو تاريخٌ فاسد!
وكوّن الشيعة مذهبيتَهم على مركزيةِ أحقيةِ أهل البيت النبوي بالخلافة، وكون ماعداهم خارج هذا الحق، أو مغتصبين له، فشكلوا نظريةَ الحق الإلهي والأسرة النورانية المتوارثة، وهو شكلٌ تقديسي مزودج شعبي وارستقراطي.
والمذهبياتُ الأخرى تتشكلُ من هذه الآراء المحورية تشدداً أو مرونة، فهي كلها تدورُ على الصراع حول السلطة، ثم تبني عليها أبنية تؤكدها.
الصراعُ حول السلطة هو الذي شكل هذه المذاهب، فهي كانت شظيات من آراء وتواريخ ثم مع تفاقم الصراع حول السلطة، بعد عقودٍ طويلة تحولتْ إلى هياكل مترابطة من الآراء والعبادات والفقه والتاريخ المستقل وإلى طوائف متمايزة.
الدولة العباسية الكبرى في صراعها مع المذهبيات الأخرى من تشيع وخوارج ومزدكية أحستْ بالحاجةِ الموضوعية لتكوين نظرة دينة فقهية ملازمة للدولة الواسعة. وضخامةُ الدولةِ وتنوعها وتطوراتُها غذتْ التعدديةَ في المذهب والحاجة للاجتهاد وعدم الركون للرأي الفقهي الواحد.
فيما كانت المذهبيةُ الشيعيةُ بعدمِ وصولها إلى الحكم توجد خلفاء أئمة رمزيين، يجابهون الأخطاء على الأرض الواقعية ويشيرون إلى العدل الذي لم يتحقق.
ثم جاءتْ الظروفُ التاريخيةُ بنشوء قوميةٍ واعدةٍ هي الفرس ليحدث التلاقح التاريخي المطول التأسيسي بين المذهب الإثناعشري والدول الفارسية، وبهذا تنأى الشيعةُ عن المركز السني المسيطر نحو القواعد الفلاحية والأمة الفارسية التي كانت مُضطَّهدةً من المركز العباسي العربي، المصَّور كتعبير عن السنة، وقد عملت ظروفٌ تاريخية عديدة على نبذِ الفرس للآراء الأمامية الأخرى كالزيدية والإسماعيلية ليتوافقوا مع الاثناعشرية لنضالها السلمي واستخدام التقية ابتعاداً عن بطش الحكام.
لم تسد المذاهب الإسلامية الكبرى المستمرة للوقت الحاضر إلا بعد هزيمة أو زوال المذاهب المعارضة العنفية كالقرامطة والخوارج وتغير مذاهب أخرى وتحولها للطريق السلمي كالزيدية والأباضية.
كان هذان الزوال والتقلص تعبيراً عن عدم وصول الفرق المعارضة الحادة إلى فهم سببيات الثورة الإسلامية المؤسسة، واعتمادها على أشكال عنفية حادة وعلى القبلية، والهيمنة على البسطاء ودفعهم للحروب، وعدم القدرة على صنع دول ديمقراطية نموذجية للمسلمين.
لكن من الجهة الأخرى لم تستطع المذاهب الكبرى الباقية أن تعبر عن نضال الأغلبية الشعبية من المسلمين، وتداخلت مع الحكومات والأنظمة السائدة، ولهذا حدثت الازاحات لأفكار العدالة والانتخاب الديمقراطي للحكام، وتوجهت بعيدا عن تحرير الفلاحين من هيمنة الاقطاع وتغيير ظروف النساء المسحوقات من ظلم الدولِ والرجال، والنضال مع الحرفيين والعمال لتغيير أوضاعهم، وركزت في الفقه الجزئي المتركز في العائلة وأحكام الزواج والمعاملات التجارية والاقتصادية المختلفة.
فشل المذاهب المغامرة ومواكبة المذاهب الكبرى للدول الاستغلالية المختلفة، جعلت الوعي الإسلامي الحائر يبحث عن طرق الخلاص من هذا العالم غير العادل والظالم، ولم يتوجه الفلاسفة والمفكرون وقتذاك في البحث في البنى الاجتماعية الاقتصادية سبب الاختلال والقهر، إلا بشكل حالات جزئية، بل توجهوا في المشرق العربي الإسلامي خاصة إلى التماهي مع النجوم والكواكب وأقدارها وأحكامها، ورأوا أن المصائرَ الأرضية مكتوبة في الأعالي، وأن الانتصارات سوف يكتبها رجال يأتون من الغيب، وكان هذا كله تعبيرا عن فقدان الجماهير العربية الإسلامية المسيحية لنشاطها النضالي، وتفكك الدول وتحولها إلى دويلات واقطاعيات، وإذا جاءت الدول المركزية الكبيرة كالدولة العثمانية والدولة الفارسية فإنها تترك الاقاليم في أوضاعها المستقلة مكتفيةً بالخراج المتوجه للسلطة المركزية التي تحوله للطبقة المسيطرة وللعسكر وبعض الترميمات العامة.
ويلاحظ هنا أن بلدان شمال افريقيا احتفظت بوحدة أكبر من المشرق العربي الإسلامي الذي تفتت بشكل أكبر وغدا مجمعاً للأديان والمذاهب المختلفة، ومن هنا انتشرت الفلسفة العقلية فيه بينما ازدهرت الفلسفات اللاعقلية في المشرق.
فقدَ المسلمون في أثناء الدول الكبيرة ذات الموارد امكانات القيام بتحول حاسم عميق في البُنى الاقتصادية الاجتماعية، المتخلفة الزراعية الإقطاعية، الفاقدة المساواة، وتأسيس المواطنة والحريات العامة، وقد تعايشت المذاهب والأفكار والفلسفات مع هذا الواقع الذي يزدادُ تردياً بقيام الحروب بين الجماعات الإسلامية وبظهور قوى غربية استولت على البحار وإدارة الثروة العالمية.
عبرت المذاهب عن مقاربتين للظروف الطبيعية – الاجتماعية، مقاربة مع تقاليد البدو وانشاء الدول الموحدة وهو ما قارب أهل السنة، ومقاربة أخرى مع تقاليد الفلاحين، وهي ذات الجذور التعددية التفتيتية، فظهرت دول توحيدية ودول مفككة، لكن الجميع نزل للتفتت.
في هذا الانهيار العام صارت للصوفية امكانية الحضور والمقاومة داخل هذا البناء، فهي جزء من انهيار الوعي بتطرفِها في الحاقه بالغيبياتِ الكلية، ولكنها راحت تعارض ابتعاد المذاهب الإسلامية عن الجماهير المسحوقة، وغدت جزءا منها، وسخرت من الحكام ومن البذخ وتدمير الثروة العامة، ولكنها هي ذاتها تحول أقطابها إلى حكام ومسيطرين على العامة، وتجمد الوعي الصوفي في أشكاله المفارقة الشديدة الغيبية، وانعزل عن الواقع ودرسه، فتحولت الصوفية إلى دروشة، وهبت الرياح المعادية ورياح التغيير بعد ذلك في هذا العالم الإسلامي المفتت المحتل في كثير من أجزائه وراح يبحث عن أدوات التفكير الجديدة وأدوات التغيير في ظروف مختلفة.
لم تدرك القوى السياسية والفكرية الدينية المشكلة التي تواجهها في عمليات التغيير في العصر الحديث.
حاولت الامبراطوريات ذات الرداء الديني كالامبراطورية العثمانية والدولة الفارسية والمدرسة الوهابية وغيرها القيام ببعض الإصلاحات داخل النظام الديني القديم، واستمرت في ذلك عقوداً، فيما كان العالم يتوجه للحداثة والقوى الغربية تتوسع وتسيطر عبر مشروع الحداثة هذا، الذي أتاح موارد ضخمة وتنامياً للسيطرة، ووضع الشعوب الأخرى تحت الهيمنة مع إحداثِ تغييراتٍ ضرورية تستكملُ نظام الإستغلال العالمي لها.
الترقيعات والعمليات الشكلانية من الإصلاح والعمليات الجادة من الإصلاح في التركيبة الدينية السياسية الاجتماعية المُستعادةِ من القرون الوسطى، لم تغير واقع الأمم الإسلامية، فابتلعت واستمرت تحت الهيمنة، لكن هذه الهيمنة الغربية نفسها أعطتها بصيصاً من النور.
لقد التبس الأمر على المثقفين المسلمين فلم يدركوا أن الحضارةَ الغربية هي ذروةُ الحضارة البشرية، وأن الاستعمارَ هو حقبةٌ تاريخية (ضرورية) في مسار الإنسانية المعقد، أما التقوقع في الشكل القومي الديني المنقطع عن هذه الذروة فلا يجدي نفعاً، لكنهم مع أخذهم جوانب من الحضارة الغربية ظلوا يرفضون قسماتها الأساسية.
من يسمون بالتنويريين والنهضويين والإسلاميين الحداثيين أخذوا تلك الجوانب التي رأوها إيجابية وفعلوها في الواقع العربي الإسلامي ؟المسيحي، لكنهم بعد عقود إما فشلوا وإما أن من تجاوزهم من الشموليين والعسكريين والمحافظين ألغى صيغ المقاربة الجزئية مع الغرب.
وحده كمال أتاتورك قائد تركيا الخارجة من الامبراطورية العثمانية طرح صيغة بسيطة وهي التماهي مع الغرب والصعود إلى مستواه ما دام هو قمة البشرية الحديثة، وخلال عقود من القمع والتغيير والديمقراطية والانقلابات العسكرية تحققت نبوءة أتاتورك، وغدت تركيا حديثة مع العديد من البقايا القديمة والصراعات الثانوية فيما واصلت الدول العربية والإسلامية طرح أسئلة الحداثة وكيفيتها وهي في مواقع لا تختلفُ كثيراً عن البدايات من تفكك الأبنية وتخلف الأرياف وعبودية النساء وضعف الصناعة وعجز الهياكل السياسية عن مقاربة الديمقراطية.
لم يفهم المسلمون إن الذي بين أيديهم هي أنظمةٌ إقطاعية لم تعد قادرة على الصعود لذروة العصر، إن المجتمع الديني القديم لم يعد من الممكن استمراره، فرغم أن الأهداف السياسية في الثورة الاسلامية تقدمية، لكن البنية التي وقعتْ فيها هذه الثورة أخذتْ الكثيرَ من سلبيات وأشكال تفكير العصور القديمة وعلاقات اللامساواة بين الرجال والنساء وبين الحكام والمحكومين وغيرها، هذه البُنية يجب أن تُزاح كلياً، ويحدث فصل بين الدولة والدين، فتقوم الدولةُ بما يترتبُ عليها من برامج الحداثة العالمية ومن تقدم لمواطنيها ومساواتهم القانونية التامة وإحداث أشكال التعبير الديمقراطية الحرة، فيما يتوجه الدين ومؤسساته لخدمة المؤمنين من خلال أدواته الاجتماعية المحضة.
أما الجمع بين بنية الحداثة وبنية الدين في مؤسسات مشتركة فهو أمرٌ محال، الحداثةُ سلطةٌ جديدة، والدينُ سلطةٌ قديمة، ولا بأس من التعايش الاجتماعي العام لكن ليس من الممكن وجودهما معاً في مؤسسات سياسية عامة مشتركة.
هذه الصيغة الغربية أتاحت تطور البلدان الغربية وتركيا وتغيرت الأديان في الغرب وتقدمت كذلك، وعبرت تركيا عن نموذج لهذا في المحيط الإسلامي.
فيما أن صيغَ التداخلِ بين الدولةِ والدين أخذت الدولَ العربية والإسلامية في دورانٍ تاريخي متعبٍ وفي سلاسل من الانقلابات الدامية والثورات اللامجدية.
تكسرتْ قضبانُ السجون التي أقامها المحافظون السياسيون والدينيون للشعوب، اتسعت دوائر الحرية للافراد والجماعات بشكل لم يسبق له مثيل في بقية العصور، ولم تكن الدول الاشتراكية إلا تجارب أخرى من تحطيم تلك القضبان، بأشكال مغايرة ومتجهة للجذور الاقتصادية وبأشكالٍ سياسية غير ديمقراطية كذلك تجاوزتها فيما بعد، ولكن العالمَ الحداثي الديمقراطي العلماني بروافده المختلفة صبَّ في مجريات واحدة في نهاية القرن العشرين وتجمعت قوى البشرية التحديثية في زلزال.
فهل يمكن أن تقف الشعوب العربية في مؤخرة العالم تراقبُ الأممَ تتوحد وتتعملق وهي مفتتة متخلفة؟ وهي لاتزال تطرح الأسئلة نفسها لما قبل قرنين؟ ولا تزال مخدوعةً؟
وهل تكون التحولات الجارية الآن شيئاً آخر غير السراب العربي المعتاد؟
تجلتْ محاولاتُ المحافظين الدينيين للسيطرة الشمولية على المسلمين من خلالِ شكلين أساسيين هما ولاية الفقيه السني عبر الإخوان المسلمين وولاية الفقيه الشيعي عبر التجربة السياسية الإيرانية.
وعلى عكس أتاتورك وعلى عكس نموذج المقاربة الحقيقية من الغرب الديمقراطي طرحتْ موضوعةُ ولايةِ الفقيه العودة للإسلام، بشكلِ الاسترجاع النصوصي الكامل، من وجهة نظر السنة المحافظين والشيعة المحافظين كذلك رغم التباين بين الجانبين في فهم (الإسلام).
قالتا بأخذ الإسلام كما هو، وجاء ذلك بشكل العودة والذهاب إلى الماضي، واستعادة نمط حكمه وأشكاله العبادية الصارمة، وقد بدأت ولايةُ الفقيهِ السني للإخوان المسلمين تنسج خيوطها الدكتاتورية عبر الارشاد والتعليم والإصلاح من موقع الفئات الوسطى الصغيرة المطحونة في مصر الثلاثينيات، واتخذتْ موقفاً اجتماعياً سياسياً خطيراً متذبذباً، عبر قبول جوانب من الحداثة والتوجه أيضاً إلى النمط الاستبدادي السياسي الاجتماعي بشكل أساسي، بدلاً من أن تتعاون مع جماعة الوفد التحديثية وتشكلان تياراً ديمقراطياً وطنياً مقارباً للغرب محدثاً للتحول، بل تصارعتا، وهذا أدى إلى أن يقفز العسكرُ إلى السلطة ويضرب الجماعتين، ويتذبذب العسكرُ كذلك بين تكريسِ الشمولية وأخذ بعض جوانب الغرب المحدودة، مما أدى إلى انهيار مشروعات نصف الحداثة المصرية هذه ودخول مصر مرحلةَ غموضٍ حضاري وتذبذب إلى الآن.
فمشروع ولاية الفقيه السني دخل لحظة الجمود وعدم القبول الواسع، لكنه سبّب مشكلات كبيرة، عبر استنساخه من قبل الجماعات الدينية الأكثر شمولية والعنفية الارهابية، فغدتْ هذه العودةُ إلى (الإسلام) بصورةٍ حرفية وبأزياء خارجية وبانتحار سياسي كامل.
أما ولايةُ الفقيه الشيعية فأدخلت المسلمين في مخاطر كبرى كذلك، فنظراً إلى عدمِ وجود برنامج حقيقي، وبسبب رفض الإصلاحات الديمقراطية في أوضاع النساء والفلاحين والعمال والثقافة، وجعل السلطة أداةً دكتاتورية، فقد انتهت الولاية لتكون حكراً على المستبدين الدينيين والعسكريين الذين راحوا يغامرون بمصير إيران، وحين ظهرَ سرابُ ولايةِ الفقيه هنا وعدم إنتاجه للجنة الموعودة قاموا بتصديرها للبلدان العربية خاصة، وكان هذا التصدير ينزل بقوة على التكوينات الوطنية في كل بلد بشكلٍ حاد لكون هذا التنزيل لا ينبثق من التجربة الوطنية لكل شعب، فيؤدي إلى تطوره بل يكون هذا النزول سبباً في انشطاره وخوفه من المُصدِّر الإيراني وسياساته، وقد وقع التصدير على العراق وفيه المرجعيةُ الكبرى للشيعةِ في العالم، ووقفتْ المرجعيةُ من دون تأييد إلى أي حزبٍ ومع تغيير ظروف الشعب العراقي السيئة، وهو تأكيد منها أن الأحزاب السنية والشيعية يجب أن تتحد أو أن تترك التجارة السياسية بالمذاهب. وهذا يؤكد عدم صحة مسألة ولاية الفقيه السياسية على الجانبين.
فيما دخل المجتمع الإيراني في أزمة انقسامية لا يعرف كيف يخرجُ منها.
وقد واصل الفقهُ المحافظ في جميع المذاهب الإسلامية حضوره الهادئ البطيء ومتابعة ظروف المسلمين واقتراح الحلول على الأصعدة كافة بشكل جزئي محدود، معبراً في العديد من صوره عن تلاقيه مع السلطات الحاكمة في البلدان الإسلامية التي لم تقم بتحولات عميقة لصالح الجماهير، وظلت الهياكلُ السياسية فاسدة فيها ولم يدعُ هذا الفقهُ إلى تغييرِ ظروف العامة ونشر الديمقراطية والحريات.
إن الديمقراطيةَ العلمانية تحريرٌ للعامة من أسر الفقر والأمية وإيجاد الحرية والتقدم الثقافي، وهي أمور تؤدي عبر الإرادات وأفعالها المتنوعة المضيئة، إلى إعادة اكتشاف الإسلام وإنتاجه في عصر جديد، والتغلغل في الحضارة الحديثة واستثمار إنجازاتها.
وهي عمليةٌ تركيبيةٌ صعبة بدأتْ بعضُ الأحزابِ الجديدة الديمقراطية العلمانية وذات الجذور الإسلامية مقاربتها.
إن الجمعَ بين مستقبلٍ يكادُ يضيع من بين أيدينا وماضٍ عزيز علينا ولاتزال أشكاله العتيقة تخنقنا، مهمةٌ مركبةٌ صعبة جدا ولكن ليست مستحيلة.


