عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 52

January 27, 2023

إنهم يهــزون الأرض !


إنهم يهــزون الأرض ! .. اليس كذلك!!



أسم الكاتب : عبدالله خليفة

|| || || || ||

في تلك العشش التي نبتتْ في السبخة، في حوار البحر مع اليابسة، في ذلك الخوصِ المشتعلِ في القيظ، وجدَ نفسَهُ يخرجُ من بطنِ أمهِ الأرض وهو يرقص! عارياً في المياه يستعيدُ رحلة العبيد المسلسلين في السفن، يمسكُ أداته الموسيقية ويعزف، في كلِ الدروبِ، في يقظةِ الخلايا، بجسمهِ القصير، وبوجهه الأسمر وعينيه النفاذتين كأنه فهدٌ يطالعُ الأشياءَ والبشر، يغرز حربتـَهُ في الترابِ والورق وخرائط الأرواح.

في زنزانتهِ في وسطِ الـ jail كما يرددُ السجناء يشعلُ النورَ في ظلمةِ الجزيرة، ويكتبُ في دفاترهِ التي لا تنتهي، ويحدقُ في الكتبِ الأجنبية، يستلُ حروفاً وكلمات، يترجمُها، يعربُها، يُحضرُ عالماً من الفرح والأنين والغناء والهمس وانفجارات الموسيقى، بين بحرٍ من القتلة واللصوص.

حين وُلد هناك في العششِ على موج الطبول والطارات، حيث النعل تجثمُ فيما وراء الأقدام العارية والرقص الجماعي الذي يدورُ حول صارية، حول ثلة تضربُ الجلودَ بقوة، لتهز الأرض، تدورُ حول صارية السفينة التي تاهتْ في البحار، وترنحتْ على جرفِ جزرٍ يابسةٍ جرداء، يرقصون، نساءً ورجالاً، يفرحون، يتجمعون، يأتون من كلِ مخزنٍ غارقٍ تحت الأرض، ومن الحفر، ومن الموانئِ التي سلختْ ظهورَهم ببضائعِها وشمسِها، ويطلقون الأرواحَ المحبوسة فتصيرُ وردة أو تصيرُ سكيناً تغوصُ في صدرٍ ما، أو تصيرُ نشوة في كوخٍ يضجُ بعدها طفلٌ بصراخ الولادة، أو تصيرُ لحناً يبتكرُ المشاعر.

كان عليهِ أن يرى هذا العالمَ يغرق، الأكواخ تحترقُ، والطبول تـُدفنُ في بيوتٍ حجريةٍ تائهة، والمغنين والراقصين يتوارون وراء الذاكرة، ومجيدٌ يفقدُ أباه، يرحلُ ذلك الكائن الغامض الذي لم يره كثيراً، تبخر وترك شبحاً يحوم على أيامه، ونزلتْ المرأة للعيش، أمهُ المصنوعة من الحجر والرهافة والضنى، مشتْ للمكاتب والمدارس تنتزعُ اللقمة، وهو يغادرُ المدرسة ليلتحق بالمعمل، من الورقِ للزيت والدخان، ومن الحلمِ للهوان، ومن مستنقعاتِ النفط تصعدُ نجمة.

وفي سيارةِ الشركةِ الطويلة، وامتدادها الثعباني السائر نحو البرية، هذا الثعبانُ الذي يبلعُهُم كلَ يوم، ليقذفهم في الصحراء، يُخرجون ذلك الساحرَ من بطنِ الأرضِ ليضعوهُ في البراميل والأنابيب، كان يعزفُ، العمالُ الذين تهدهدُهم سيارة (سالم الخطر) وتتقلبُ بهم، وينعسون، يوقظـُهم مجيد بصراخهِ وعزفهِ وضحكاته. كانوا ينتزعون الساحرَ الأسودَ الذي لعبَ في الأعماق ويحيلونه إلى أسماك صغيرة في أيديهم.

أمهُ الصامتة، الهادئة، تترنمُ بالفارسية والعربية، صنعتْ أولاداً انغمروا في العيش الصعب، لا أحد يسمع ما تهمسُ به، لا تغضبُ من رفاقهِ الذين يتدفقون على بيته، يجثمون ليتكلموا كثيراً، هو ينتزعُ منها تلك الأغاني التي ضاعتْ في البراري والجبال والسفن الغارقة، وحملها المهاجرون إلى أصقاع البحر النائية، يدونها، يحركُ موسيقاها الداخلية، ويجلبُ المعاجم، هذا الفارسي العربي العالمي، هذا الأسودُ الفحمي المضيء، يدسُ رأسَهُ الصغير في جبال الكلمات، وسيجارته لا تفارقه، Lucky strike الأمريكية الحمراء، عدوة الإضرابات والصدر، يصنعُ الشاي الأحمرَ المميز، ويرى نفسَهُ يصعد، يصيرُ بتهوفن آخر في الشرق، العازفون حوله، وهو يصعدُ المسرح، الخشبة عالية، وهو يمسكُ عصا المايسترو ويحركُ العالمَ والبشرَ بموسيقاه.

في باحةِ السجنِ يجلسُ قربَ الزنزانة لم يبق معه سوى قطه، المدلل، يعطيه من الأكل أكثر مما يأكل، قط كسول، ينام أغلب الوقت، لا يصيد حتى صرصاراً، وموتهُ كان فجيعة، ومجيد طوال الوقت يعزف، سبورتهُ في عمقِ الزنزانة، شهدتْ أجيالاً من المتعلمين للنوتة، رؤوسٌ من الصخور، ماعزٌ بري يهجمُ على الحشائش الغضة، وحين يخرجون ينسون، ينغمرون في حقول الجرجير والحفاظات، وهو يُعلم، يدقُ الأرضَ بقدميه، يُصدّعُ رؤوسَ السجناء، وخاصة جار الزنزانة أبوسعيد اليماني القاتل، ملك الفجل والليمون والطماطم في السجن، الذي يعود متعباً ويريد أن ينام، لينهض باكراً يقطعُ بمنجلهِ رؤوسَ البصل والقطط، فينهضُ كلَ لحظةٍ صارخاً على مجيد: (دعنا ننام!)، الليلُ في أولهِ وهو يحفرُ في الكتبِ الأجنبية القادمة من وراء الأسلاك والمياه، اشترتها أمهُ من المكتبةِ القريبة من الحي، وجاءتْ لمكتب السجن، وتغلغلتْ بين غابةٍ وحشية من السواعد والأنصال والعيون، خيوط قلبها تتوجه للفتى الذي حلمتْ أن يتزوج، وأن ترى عياله، وها هو في السجن المؤبد، أو اشتراها أخوه، ثمة خيوط ملتهبة تشده لما وراء البحر، وكل سنة نسخة من السنة الأخرى، كربونٌ بشعٌ مشع، نفس الوجبات الحامضة، نفس السجناء المعتوهين، النفوس الطيبة التي كان يتخيلها مع غوركي في تشرده، ليست هي، ليس كما كتبَ هو، إنها مخيفة، متعبة، مُدمرة ومُدمرة، كل سنة تحومُ عليهِ وتحاككهُ وتسخرُ منه وتتعلمُ وتراه في صمتهِ الكثيف، في سيرهِ نحو محطة الطاقة الصغيرة، في إشعاله للنور، حين يمرض تـُصابُ الجزيرة بالعتمة التامة، ويأتي إليه العريف، لينهض قبل أن تلتهمَ الحوتة الجزيرة العمياء في البحر.

مراتٍ قليلة ينفجر، تلك الأرض المتفحمة، ذلك الجبل الصغير، يطلقُ صرخاتهِ ومعزوفاته الهادرة، يحركُ يديه ويَخرجُ المايسترو من بدلةِ السجن المهترئة، التي فقدتْ لونها فيما قبل تاريخ الألم، ويتراءى حوله حشدٌ من العازفين، واللحنُ يهدرُ ويرتخي وينامُ وينقضُ على بقعِ الظلام ويصرخُ في الأنام، فيرى السجناءُ موجَ البحر يتحرك وتمشي الجبالُ الصغيرة نحو الحرية، وتهرولُ ضفافُ الحلم القريبة من مصائدهِم وجراحِهم إلى النساء والشوارع والبيوت.

قليلٌ من الكوابيس تطارده، الكابوسُ المستمر، جثومه في جوفِ السمكةِ الكبيرة العفنة، التي تبدو أنها لا تمضي، متكلسة في المياه العميقة، وتفرز عليه أحماضها، وصديدها وماء نارها، وهو يزحف في الظلام نحو سيارة الضابط الأجنبي، يضعُ قنبلتـَه، لتصعد السيارة في اليوم التالي إلى الطابق الثاني من العمارة تنزلُ الملابسَ المعلقة والحديد، الشابُ الغامضُ المجنون والغريب العازف، العامل الساحر، لم يظنْ أحدٌ أنه يفعل شيئاً، لكن العيون تسللت إلى مخدعه، ينهضُ في عمق الليل وهو مغسولٌ بالعرق والقيود تطبقُ على رقبته. ويرى الأمهات اللواتي تعذبن يمسحن ماءه.

السنواتُ تمرُ وهو الذي كان يجرجرُ سلاسلـَهُ في الجزيرة تعبَ منهُ الحديدُ وغادرهُ، ولم ير أمَهُ وهي تموتُ في المستشفى نازفة آخر أمعائها، تلك المرأة الكستناء، بائعة الحلوى للأطفال في الحي، بعباءتها الجاثمة على البساط، في الشارع، المشعة، التي تواصلتْ معه طوال خمسة وعشرين عاماً تركتهُ أخيراً، رحلتْ، وهو يصرخ عند الأسلاك الصدئة، والعالم نائم، العالم كله تركه، لكن السجناء جاءوا إليه في عمق الظلام والصمت.

يهزُ الأرضَ بقدمه، تعبَ الزمانُ منه والوحوشُ التي أكلتْ من جسمهِ يئست، وغادرتْ قوقعته الضاجة بالأنين والحنين والأصداء المخيفة، والأوراقُ تعبرُ الحدود، تسكنُ في مدينة السين والتماثيل، يظهر مايسترو هناك، يتطلع إلى ورقٍ أصفر ممزقٍ قادم من جزيرة صغيرة بحجم نملة في الخليج، يحدقُ فيه بإعجاب ويحركُ عصاه ليحرك الأرض ويهزُ طبقات الصمت.

لا شيء يبقى، لا شيء يزول، ومجيد راقدٌ ينزفُ رئته من التبغ والموسيقى، حوله صبية، وزوجة، وأصدقاء كثيرون، يحملُ جزيرته الشبحية الدامية معه كما يحمل النوتات والدفاتر الكثيرة التي كتبها، وما تزال قدماه الشيطانيتان تدقان الأرض بتوتر.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 27, 2023 18:59

January 1, 2023

December 19, 2022

سيحذف الموقع (الحساب) قريبا إذ لم يتغير هذا الوضع

لعدم وجود متابعين

فليفرح ابوعركي وابو تاكي وابو مجتبى

انتصرت القرية على المدينة !

ثمان سنوات هباءٌ منثور !

المجد للمضحين ، وللشهداء

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 19, 2022 22:49

December 2, 2022

November 29, 2022

عبدالله خليفة أحد أهم الكتاب المخلصين لتجربتهم الفكرية

ربما كان «عبدالله خليفة» أحد أبرز الكتاب الذين أخلصوا بشكل منقطع النظير للاستراتيجية ذاتها التي بدأ بها منذ أن أصبحت الكتابة الإبداعية هاجسا أساسيا لا مناص منه. فقد وضع نصب ناظريه ما يحيط به، ما يعانيه، وما يشكل بؤرة اشتغال على غير صعيد من الأصعدة الحياتية. لم يكتف خليفة بالكشف، بالفضح، بل راح ينشد أغنية سردية تخلقت عبر الإرهاصات التي زج بها في كتبه، لنكتشف نهاية المطاف صيرورة حكاية ممتدة وراسخة.
الرائي سيجد امتدادا وتواصلا في كل المثبت في مجموعاته القصصية وأعماله الروائية، فمنذ «لحن الشتاء» التي صدرت في العقد السابع من القرن الماضي، والكاتب لم يبرح المنطقة الواقعية التي ارتضاها لنفسه منذ عمله الافتتاحي السابق. وللسبب نفسه فقد منحه هذا الأمر قدرة وكفاءة لافتة في الوصول إلى المخبوء والمستور والمحتجب. إن هذا الانتماء الغريب (للواقعية) لحقل واحد من الحقول السردية مكن القاص والروائي من تشريح حقيقي ودقيق لبعض مفصليات الواقع الذي جبل عليه والذي شكله وتشكل منه. إن مزية نهج إبداعي كهذا يدل بصورة حتمية على إيغال متعمق في قراءة السطوح وصولا إلى أكثر الطبقات غورا، وهذا التوجه – بلاشك – على رغم التنويع الذي وفره اختلاف الجنس الأدبي (القصة / الرواية ) وتغير المنظور وتطور التجربة من كتاب لآخر فإننا إزاء معادلة تفضي إلى القول بأن خليفة لم يكتب إلا نصا واحدا، والبقية الباقية يمكننا عدها تفصيلات أو حواش لهذا النص الواحد.(!!)
وتفصيل ذلك، أن السؤال الإبداعي عند كاتبنا قد انشطر إلى مبدأين: المبدأ الأول: ويتمثل في الوفاء للحمولة الفكرية الواقفة خلف الكتابة، والثاني: ويتحقق في الطبيعة الفنية للرسالة التي يبثها رواة مجموع ما كتب. إن الالتحام الشديد وغياب الفواصل الجلية أفرزت تلك الإشكالية المزعجة، حيثما انفك المبدأ الأول يحضر بصورته الفاقعة في الثاني على طول التجربة وامتدادها، ما فوت فرصة أكيدة للظفر بالنسبة إلى مجموع من كان متلقيا لهذه التجربة، بسبب امتلاك خليفة لأسلوبية قادرة على أن تكون ذات فرادة، ومقدرته اللافتة على الإمساك بزمام السرد وبالتفصيل في الوصف، وفي بناء نماذج من شخوص تتحلى بأبعاد مادية وروحية مختلفة، وذات بناء نفسي يتأسس على معرفة أكيدة بأنماط ونماذج شتى، وتبحر عميق في النفس البشرية.
وبين إخلاص للأرض والبشر ولأحلامهم العريضة، يكون مشروع عبدالله خليفة السردي. هذه الثنائية المتجذرة بتغلغل عميق تحد كثيرا من الفعل الإبداعي الحقيقي. وإذا كان الأدب مسئولية، فحتما ولابد أن تكون المسئولية الكبرى فنية. ولوحدثت زحزحة ما في قابل الأيام عن الرؤية ذاتها فستكون لنا مفازة حقيقية، في ظل كل تلك الإمكانات والتجربة والخبرة الإنسانية والسردية سواء بسواء.
ومع ذلك، لقد مخر «خليفة»الأزقة والحواري والشوارع، وعالج مأساة المدينة الحديثة، ومسح بقلمه كما هائلا من الأنماط البشرية/ الهامشية، وناقش وحاور مشكلات إنسانية ووجودية أصيلة، حلق وابتعد بأحلامه بعيدا، صور البهاء، وأوغل في تسليط الضوء على القحط والفقر. اليابسة والبحر فضاءات قصصه ورواياته، والواقع والخيال ميادين اشتغاله، والسواد يغلب البياض ويتفوق عليه، والفراغ واليأس موضوعات أثيرة، واتخاذ العزلة ليست واردة. والمواجهة – الحالمة – حتى لو لم تخلف أثرا فهي المصير القدري، إننا نقف أمام حالات نعرفها، وربما نحن من يقصدنا الخطاب، والعنف الذي تستبطنه رواياته مزية ليست بحاجة إلى كبير تدليل.
عبدالله خليفة يمثل اتجاها سرديا متفاعلا أشد التفاعل مع ما يراه ويقرأه. إنه شبيه بالمصور الفوتوغرافي الكلاسيكي – في زمن الكاميرا الديجتال – الذي يعد منجزه بمثابة الوثيقة الدامغة المحلاة بشيء من فتنة السرد، ومن مراودة التخييل.
أخيرا، تلك هوامش قرائية وليدة قراءات متباعدة… وللمهتمين بإبداع وأفكار عبدالله خليفة، ولكيفية تصوره لمشروع الحداثة في هذه المنطقة من العالم، تقيم أسرة الأدباء والكتاب مساء الاثنين 9/6/2003م: ندوة يحاضر فيها عن ذاكرة الحداثة في الخليج والجزيرة العربية سيتحدث فيها عن تجربته الشخصية، وهي من تقديم كمال الذيب
الوسط – حسام أبوأصبع
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 276 – الإثنين 09 يونيو 2003م الموافق 08 ربيع الثاني

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 29, 2022 17:28

عبدالله خليفة.. تحطيم الصورة الذهنية وتكوينها

عبدالله خليفة.. تحطيم الصورة الذهنية وتكوينها

كتب: حسين التتان

«رحل عبدالله خليفة، هجر شخوصه وأمكنته وارتأى أن يكون خلف النص، أن يحتجب ليقرأ مسروداً ومحكياً بعد أن كان حاكياً وراوياً، وطوال تجربته الممتدة به في حقبها وتحولاتها ظل عبدالله خليفة وفياً لعالمه الروائي، ووفياً أيضاً لمبانيه المادية العتيدة. وكان بحق راوي الريف -إن جاز لنا التعبير- ولم يشأ أن يفارق عالم الكادحين والبسطاء. ومع معماره الروائي الشاهق الذي شيده روائياً فضلاً عن إنتاجه الفكري والبحثي.
مطلوب اليوم أكثر من أي يوم آخر أن يحتفي بهذا الأديب احتفاء يليق به ويليق بإبداعه، ولا أقل من تخصيص جائزة وطنية كبرى تكون باسمه تحت عنوان (جائزة عبدالله خليفة للإبداع الروائي) واستلهام أعماله مسرحياً ودرامياً، ولا سيما في أعماله الروائية التاريخية، التي بمعالجة درامية يسيرة وشيء من التعديل يمكن تحويلها إلى دراما تاريخية متكاملة تعكس جانباً من تاريخنا وتراثنا الإسلامي». هذا تماماً ما قاله صديقي الكاتب صاحب القلم الرشيق الأستاذ زكريا رضي في حق الكاتب والروائي البحريني الراحل عبدالله خليفة، فأجاد فيما وصف.
عبد الله خليفة، هذا الرجل الوطني الذي أنتج من الإبداعات ما يمكن أن يفوق إنتاج الكثير من المبدعين العرب، فاستطاع أن يضع اسم البحرين على طريق الخارطة الثقافية والأدبية في الوطن العربي، وكان مثالاً حياً للشخصية الوطنية التي استطاعت أن تكون رمزاً من رموز العطاء والإثراء الثقافي والأدبي والاجتماعي والسياسي في البحرين.
إن مسيرة الراحل الحافلة من الإبداع والتنوير، والتي شهدت على قوة ومكانة الكبير عبدالله خليفة، لم تدع مجالاً لأي منصف ومحب لأديبنا أن يقول ما يمكن أن يقال في حقه، فإبداعاته اختصرت كل الكلام، ورؤاه ونظرياته في التاريخ والأدب كانت نتاج وعيه بطبيعة الحراك السياسي والأدبي والاجتماعي الذي مر به الوطن العربي، وذلك منذ فجر الحركات التحررية وحتى بعد أن تشكلت الكيانات والدول العربية.
ناضل الراحل عبدالله خليفة من أجل الإنسان ومن أجل رسم صورة نقدية للوقائع التاريخية بإسقاطات مليئة بالجرأة وكسر المسكوت عنه من المقدسات على هذا العصر المنكوب أصلاً، فكان يفك طلاسم الأحداث ليربطها عبر واقع هذه الأمة، في عملية جراحية لتحسين مستوى الوعي واستئصال كل أمراض الاجتماع، من خلال معالجة دقيقة وفاحصة للمنتج التاريخي، فكانت الرواية مدخلاً جميلاً لتشكيل أجمل لبنات الوعي الإنساني، أما الكتابة فكانت مصدراً للإلهام وأداة مهمة لصياغة واقع المجتمع في زمن أقعدته أمراضه المزمنة؛ كالجهل والتخلف.
حين نتحدث عن قامة وطنية كبيرة كقامة الراحل عبدالله خليفة فإننا نتحدث عن تاريخ من العطاءات والتميزات والإبداعات وتهشيم زوايا المألوف، فكان حاداً في تحطيم «التابو» على الرغم من رقته، وكان رقيقاً في طرحه على الرغم من صلابته، ولهذا فإن رحيل رجل كخليفة يمكن أن يحدث فجوة كبيرة في جدار الحركات الوطنية ومسيرة المنتجات الأدبية والثقافية في البحرين، بل وفي كافة أرجاء العالم العربي.
عبدالله خليفة، حاله حال كل المبدعين العرب الذين لم تنتبه لهم المؤسسات الرسمية في طول الوطن العربي وعرضه من أجل أن تحتفي بهم في حياتهم، فكرمتهم بعد رحيلهم بضغط من رفقائهم في دروب النضال والإبداع والأدب. رحل خليفة بصمت الكبار والمبدعين، فخسر الوطن رجلاً ربما نحتاجه أكثر من أي وقت مضى.
نم قرير العين أيها الراحل العزيز، فإنك أديت ما عليك على أكمل وجه، وتركت بقية المهمة للأجيال المتعاقبة لإكمال مشوار يزخر بجنون حب الإنسان.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 29, 2022 09:24

November 20, 2022

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الأعمال الكاملة

الأعمال الكاملة الروائية والقصصية والتاريخية والنقدية

❖ الأعمال القصصية الكاملة، المجلد الثاني :
1 – لحن الشتاء ، 1975.
✾ «القصص: الغرباء – الملك – هكذا تكلم عبد المولى – الكلاب – اغتيال – حامل البرق – الملاذ – السندباد – لحن الشتاء – الوحل – نجمة الخليج – الطائر – القبر الكبير – الصدى – العين».
2 – الرمل والياسمين، 1982.
✾ «القصص: الفتاة والأمير – علي بابا واللصوص – شجرة الياسمين – العوسج – الوجه – الأرض والسماء – المصباح – نزهة – الصورة – اللقاء – لعبة الرمل – الأحجار – العرائس – الماء والدخان».
3 – يوم قائظ ، 1984.
✾ «القصص: الدرب – أماه… أين أنت – الخروج – الجد – الجزيرة».
4 – سهرة ، 1994.
✾ «القصص: السفر – سهرة – قبضة تراب – الطوفان – الأضواء – ليلة رأس السنة – خميس – هذا الجسد لك – هذا الجسد لي – أنا وأمي – الرمل والحجر».
5 – دهشة الساحر، 1997.
✾ «القصص: طريق النبع – الأصنام – الليل والنهار – الأميرة والصعلوك – الترانيم – دهشة الساحر – الصحراء – الجبل البعيد – الأحفاد – نجمة الصباح».
6 – جنون النخيل، 1998.
✾ «القصص: بعد الانفجار – الموت لأكثر من مرة واحدة! – الأخوان – شهوة الدم – ياقوت – جنون النخيل – النوارس تغادر المدينة – رجب وأمينة – عند التلال – الأم والموت – النفق – ميلاد».
7 – سيد الضريح، 2003.
✾ «القصص: طائران فوق عرش النار – وراء الجبال – ثنائية القتل المتخفي – البركان – سيد الضريح – وتر في الليل المقطوع – أطياف – رؤيا – محاكمة على بابا – الحارس».

❖ الأعمال الروائية الكاملة، المجلد الثالث:
مريم لا تعرف الحداد، الضباب، نشيد البحر، الأقلف، الينابيع، 2021.❖ الأعمال التاريخية الكاملة، المجلد الرابع:
محمد ثائراً، عمر بن الخطاب شهيداً، عثمان بن عفان شهيداً، يا علي! أميرُ المؤمنين شهيداً، رأس الحسين، مصرعُ أبي مسلمٍ الخراساني، ضوء المعتزلة، 2021❖ الأعمال النقدية الكاملة، المجلد الخامس:
تطور الأنواع الأدبية العربية، نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية، الراوي في عالم محمد عبدالملك القصصي ، عالم قاسم حداد الشعري.
❖ الأعمال الروائية الكاملة، المجلد السادس:
ساعة ظهور الأرواح، التماثيل، ذهب مع النفط، عنترة يعودُ الى الجزيرة، عقاب قاتل، اغتصاب كوكب، رسائل جمال عبدالناصر السرية، 2022. ❖ الأعمال القصصية الكاملة، المجلد السابع :
✾ إنهم يهزون الأرض !
القصص : الشاهدُ.. على اليمين – الكسيحُ ينهض – جزيرة الموتى – مكي الجني – عرضٌ في الظلام – حفار القبور – شراء روح – كابوس – ليلة صوفية – الخنفساء – بائع الموسيقى – الجنة – الطائر الأصفر – موت سعاد – زينب والعصافير – شريفة والأشباح – موزة والزيت – حمامات فوق سطح قلبي – سقوط اللون – الطريق إلى الحج – حادثة تحت المطر – قمرٌ ولصوص وشحاذون – مقامة التلفزيون – موتٌ في سوق مزدحمٍ – نهاياتُ أغسطس – المغني والأميرة – انطولوجيا الحمير – عمران – على أجنحة الرماد – خيمةٌ في الجوار – ناشرٌ ومنشورٌ – شهوة الأرض – إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح – طائرٌ في الدخان – الحيُّ والميت – الأعزلُ في الشركِ – الرادود – تحقيقٌ – المطرُ يموتُ متسولاً – بدون ساقين – عودة الشيخ لرباه – بيت الرماد – صلاةُ الجائع – في غابات الريف – الحية – العـَلـَم – دموعُ البقرة – في الثلاجة – مقامات الشيخ معيوف – رسالةٌ من بـينِ الأظافر – الأسود – عاليةٌ – جلسةٌ سادسةٌ للألمِ – غيابٌ – عودةٌ للمهاجرِ – دائرةُ السعفِ – الضمير – المحارب الذي لم يحارب – الموتُ حُبـَأً – إنهم يهزون الأرض! – حـُلمٌ في الغسق – رحلة الرماد – أعلامٌ على الماء – قبقب الخليج الأخير – المنتمي إلى جبريل – البق – رغيفُ العسلِ والجمر – عوليس أو إدريس – المفازة – قضايا هاشم المختار – أنشودة الصقر – غليانُ المياه – جزرُ الأقمار السوداء – سيرة شهاب – معصومة وجلنار – سارق الأطفال – شظايا – الترابيون – وراء البحر.. – كل شيء ليس على ما يرام – قمرٌ فوق دمشق – الحب هو الحب – شجرة في بيت الجيران – المذبحة – إجازة نصف يوم – حادث – البائع والكلب – ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ – إمرأة – الربان – إذا أردتَ أن تكونَ حماراً – اللوحة الأخيرة – شاعرُ الصراف الآلي – البيت – حوت – أطروحةٌ – ملكة الشاشة – الغولة – وسواسٌ – مقامة المسرح – إعدام مؤلف – يقظة غريبة».❖ الأعمال النقدية الكاملة، المجلد الثامن :
✾ تجارب روائية وقصصية من الخليج والجزيرة العربية .
✾ عبـدالله خلــيفة: عرضٌ ونقدٌ عن أعماله .
✾ حوارات نقدية .❖ الأعمال الروائية الكاملة، المجلد التاسع:
✾ – ثمن الروح.
✾ – ألماس والأبنوس .
✾ – ابنُ السيد.
✾ – طريق اللؤلؤ .
✾ – بورتريه قصاب .❖ الأعمال الروائية الكاملة، المجلد العاشر:
✾ – الأرض تحت الأنقاض .
✾ – حورية البحر .
✾ – شاعرُ الضياء .
✾ – خَليجُ الأرواحِ الضَائعة.
✾ – هُـدهـُـد سـليمـان .
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 20, 2022 23:15

November 10, 2022

وداعاً صديق الياسمين

وداعاً صديق الياسمين

وداعاً صديق الدرب الطويل، ويا له من طريق يا عبدالله خليفة قارب النصف قرن، نصف قرن وأنت تحمل أعباءه بين جناحين وتحلق بها بعيداً في آفاق دربك الأدبي، بدأت بأنين البحارة والفقراء والمساكين – الهيرات-، الذين لم يكفك أن تدافع عنهم وتعرض على العالم معاناتهم، منتهياً بكدح العمال في وقت الطفرة الاقتصادية. وطول نصف قرن كان أفقك يتنوع ويتعدد بين النضال الوطني السياسي، والكدح والحفر في القصة والرواية، وبهذا التنوع الثري أمضيت كل حياتك رفيقاً للجميع، متألماً معهم، ومفكراً في قضاياهم، لذا أحبوك في مجالات متنوعة، ومن شرائح متعددة. كنا نتمنى أن يستمر عطاؤك بضع سنين أخرى فمعارك التنوير ما زالت في حاجة إليك. كنت قلماً ذا مبادئ لا تهادن الظلام، سنتذكرك دائماً رفيقاً مخلصاً للأفكار المستنيرة، عقلانياً وثاقباً في النظر إلى التاريخ مصاحباً للمشاريع الحضارية الأكثر فائدة للناس، بهذا استبشرت الأمل بعد عقود من الصبر والكفاح. ولم تكتف برواياتك الكثيرة المتعددة التي وضعت البحرين في مصاف الرواية العربية.عملت بصدق وتفانٍ لتكون الرواية البحرينية في موقع منظور وبارز.
كوكب تنويري مشتعل أنت..
ذكرتنا بفولتير، وطه حسين والعقاد. مفكرُ أنت يشغل بالك عثرات الفكر العربي، كاتب أنت في مقال يومي طابعه الفكر والتحليل، متعدد الخبرات ثقافياً، مسافراً إلى أعماق الروح ولجتها، مسترسلاً في معاناة الناس الذين في القاع، أنت الذي نشأت في بؤرة جغرافية ساخنة بين حي العدامة والقضيبية مع طبقات المضطهدين في الأرض.
صديقي عبدالله سنتذكرك دائماً ونستعيد صوت كالدافئ الهادئ. ولقد عرفتك مناضلا تسهم في الانتفاضة الوطنية التي أشعلتها مع أصحابك أصدقاء الطريق والمحنة والفاجعة. عرفتك صديقاً للكادحين. كنت مفتوناً بسحر الكتابة يشغلك الوطن في محنه وانتفاضاته الكثيرة. لقد اخترت العقلانية منهجاً، ورأيت أن أشكال النضال تتنوع في مختلف المراحل، ولكن الهدف البعيد لا يتغير: مجتمع العدالة والحرية. صقلتك التجارب السياسية المريرة فعرفت أن جوهر النضال في فاعليته ومردوده على الناس، بذلك تركت الشعارات وتوجهت إلى الواقع. أذكرك يا صديق الدرب الوعر والكلمة الصادقة.
عزيزي عبدالله لم تكن عابراً في الطريق، وستبقى مشعلاً يضيء الطرقات المظلمة. ان المعارك التنويرية لم تنته، وأصدقاؤك لن يكلوا عن التنوير. يا صديق الناس، سيرتك عطرة وأنا أرويها والحزن يكبل نفسي على مصابك. فوجئت يا صديقي وفُجعت برحيلك وعطائك في قمة حيويته وبهائه، لذا كان ذهابك سريعاً ومفاجئاً وأنت في قمة عطائك: الكثير من الروايات ومن الدراسات الأدبية النقدية، الكثير من الكتب الفكرية والسياسية. لقد جئت إلى الحياة لتعيش وتكتب وتتعذب، وتسخر من ضعفاء الإيمان. اتصفت يا صديقي بتنوع الإنتاج الروائي من مرحلة «الهيرات» التي تشير إلى تضحيات الغواصين أيام صيد اللؤلؤ، إلى توهجات عمال بابكو، ثم عدت الى التاريخ فغصت فيه باحثاً عن ضوء العدالة، وبريق الحرية. الأسماء التي اخترتها كانت شبيهة بروحك، ومتفائلة مع أملك أن يُنصف الفقراء.
وداعاً صديق القلب.
وداعاً صديق الأفكار النبيلة.
وداعاً صديق الإبداع والخلق.
وداعاً صديق المضطهدين.
وداعاً عاشق الحرية.
وداعاً .. وداعاً.
كتب: محمد عبدالملك
اخبار الخليج
8 نوفمبر 2014

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 10, 2022 12:12

November 9, 2022

آه .. يا بلد!

عبـــــــدالله خلـــــــيفة

بلد ليس عدد سكانه يصل إلى مليون ولكنه غير قادر على توفير اللقمة والعمل لأبنائه.
بلد لا يصل ابناؤه إلى نصف مليون وينتج من النفط، وتحته بحيرات من النفط والغاز، ولكنه جائع ويتسول من الجيران.
بلد يمتلئ بالمصارف وكميات هائلة من النقود ومليارات من الدولارات والجنيهات الإسترلينية والينات والريالات، وتفوح من أوراق جرائده انتصارات ومكاسب الشركات والبنوك وفي استعراض بهيج للأرباح، يعيش كثير من شعبه العامل، والذي لا يجد عملاً، تحت مستوى خط الفقر، كبلدان كثيفة السكان.
بلد بنوكه وشركاته نهمة وإداراته كثيفة، يستقدم كل غريب، ويمد يده لكافة ألوان الشعوب والأديان والأعراق، ويجعل أبناءه يتشردون في الغربة، باحثين في صناديق زبالة الأمم والشعوب الأخرى عن لقمة، ورغيف.
بلد صغير كثيف السكان قليل الجغرافيا كأنه امبراطورية يبلع البحر والنخيل والجزر والفشوت والمحار والأسماك والينابيع، في نهم مالي لا يعرف الرحمة لصغار الطيور، والأعشاش والجيرة والجيران ويتشدق بالرحمة والمحبة في بالونات زاهية من الكلام.
بلد يسود وعيه الحماقة، وقد عادى عداءً شديداً الحكمة، واعتبرها خصمه اللدود، وجعل من الحماقة سيدة الحضور في الاقتصاد، وعلم الاجتماع، وفي السياسة، والجموع المتكلمة المتصارعة ابداً على فتات المنطقة النفطية، وعلى الريش من دجاجات الآبار السمينة في كل مكان.
بلد على شكل سفينة ضائعة، إما أن يغرق وإما يطفو منتفخاً بامراضه.
بلد لا يريد ان يصلح نفسه، وهو يتشدق كثيراً بالإصلاح على مدى القرون، ويتشدق كثيراً بالعلوم والثقافة وهو الجاهل الأمي الذي يحتاج إلى من يمحو أميته.
بلد لا يريد ان يذهب إلى مقاعد الدراسة الديمقراطية، وأن يتعلم الف باء الحضارة، والتضحية والصبر، وخدمة المواطن أولاً ثم الغريب الضيف.
بلد ينتظر قضاءه الصعب ذات يوم حين يجد ارضه محروقة، وسماءه ملوثة، وقد باعت الرمال والمياه والغاز والشيم والمصائد والزيت بعد أن أضاع القمح والنخيل واللوز والعصافير.
بلد عاجز أن يتحد ولو يوماً واحداً.
بلد باع وجهه للغرباء من كل الأجناس، وجلس متسولا على قارعة الطريق العالمي، وخزائنه مليئة بالعملات والأسهم وشهادات الاستثمار.
بلد على باب الله ويترصده الشيطان.
بلد أخذ شهادة الثرثرة بتفوق.
بلد سينهض ذات يوم حين يقف على أيدي أبنائه وبناته، وليس ثمة ناطور فكري وسياسي واقتصادي يعتقل إرادته الحرة، ويلطش خبز الصباح من فمه.
بلد سيتعلم كيف يقاوم ويجمع شظايا الإرادات المبعثرة في نهج وطني واسع.
بلد لن يقبل التسول.
بلد لن يرحل من الخليج أو يغوص في قعر بحره مثل سفينة غوص عتيقة.
بلد سيكتشف النفط مجدداً وسيعبر اتفاقية الخط الأحمر والأصفر.
بلد سيوزع نفطه المباع على فقرائه وحاراته الناضبة من أبنائه.
بلد لن يكون هو بؤرة التناقضات في المنطقة بل سيكون عابرا الحواجز.
والذين اسروه واختطفوه سيكونون في ذمة التاريخ.

أخبار الخليج 22-10-2004

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 09, 2022 10:52

أطيــــــــــــــاف

عبـــــــدالله خلـــــــيفة

أطيــــــــــــــاف

ـــ 1ـــ
جاءه شبحٌ في الحلم وهتف به :
ــ أأنت مؤمنٌ أم كافر؟!
صرخة مدوية لم يسمعها جيداً ، فلم يُجب. رأى صراطاً على جانبيه لهبٌ ، وامرأة مجللة بالسواد .أدرك بعدئذٍ إنها أمه ، ثم جاء الدوي جلياً ، و دهش لأن الشبح يصعد على سلالم أعضائه .
أستيقظ على حصى تضرب نافذته المشروخة في أكثر من موضع .عثمان كان يتطلع فيه بهيئته المرحة الساخرة. يقول:
ــ ألا تريد أن تنزل ؟!
ــ هيا أطلعْ..
ــ لا، لا، سأنتظرك هنا.
كانا قد جاءا في الليلة الماضية وأحدثا ضجةً ، فأستيقظ أبوه و لسان زوجة أبيه..
يسيران نحو الفندق. أمين يتطلع إلى عثمان بود ودهشة. منذ سنين حلم بهذه المشية ، وبهذا الوجه العظمي ، والجسد الهزيل ، منذ أن حُوصر في الصندوق الخشبي وسط الصحراء ، في ذلك المربع الرملي ، بين أنصاب التلال الحجرية والشمس المسنونة الحراب..
هذا الوجه الحبيب يعرفه ، إلتحما في معهد المعلمين ، بين الكتب والأشجار والسجائر ، تعاركا حول أخطر الكلمات في العالم. حين كان يزوره تفرح به أمه، ويقوم بالثرثرة معها في شئون الأكل والدجاج و السحر ، وهو الذي علمه كيف يخترقان السوق ليدخلا شركة المشروبات الكحولية ، ويشتريان ست علب بيرة باردة ، لاتزال رطوبة معدنها اللاصقة بالكيس تبلل ريقه..
بعدها كانت الثرثرة عند دار الحكومة ، حيث كان البحر ملاصقاً لها وقتذاك ، وكانت السرطانات الصغيرة الطالع من الشقوق ، السوداء ، الكالحة ، الباحثة عن رزقها وحل الجزْر ، ترمقهما بحذر..
لم يدريا ما لون السماء ، ورائحة الغد المُفعمة بالرماد والنار ، مكتفيان بأرجلهما التي تقودانهما إلى الباص والزقاق .
والآن هما معاً ، كأنه لم يفقد عمراً وأحباباً ، ويدخلان ليس دكةً من حجر تحتها أسراب سراطانات وقواقع ، بل بناءً عالياً ، كأنه معول هائل غائص في التراب ومندفع إلى الفضاء ، شكل قبيح، ومزوق بالأقواس والأصباغ و الزجاج اللامع و البلاط المرهف .
يجلسان قرب الموسيقى والماء المتدفق في خيوط لؤلؤية متكسرة ، وعثمان يحدق فيه بنظرة غريبة ، انعكاسات وإلتماعات أشتعلت مع زبد البيرة ، كأنه ثعلب ينتظر غزالاً صغيراً ساذجاً عند النهر،أشياء صعدت في نفسه لم يحبها ، ثمة أمر محيرلا يدري به ، هل لأنه لا يدفع، أو لأن عثمان يتباهى بالنقود ، أو لأنه يغازل النادلة الفليبينية بابتذال ؟!
شيءٌ ما صعد إلى رأسه ، شيءٌ ساخن ، من هذه الطاقة البخارية النارية التي تندفع إلى مسامه ، وتكهرب روحه..
يسأله:
ــ لماذا لا تشرب ؟
يُمسك خده ، و يحس بأذنيه تنتفخان .
ــ لماذا جئنا هنا ؟
يقول عثمان بحماس غريب :
ــ أشرب ! أنس ما تعلمته.. طالع الآن تجربة جديدة . لم تعد تلك الأفكار تعني شيئاً الآن. كل شيء تبدل. طالع بعينيك ، وأسمع بأذنيك ..أستخدم حواسك لتقرأ العالم !
يُحضر على غير رغبته عدة علب فتتكدس فوق الطاولة ، يشعل سيجارة وراء سيجارة ، الخيوط تلفهما ، وأمين لم يتعود مثل هذا الشرب ، قبل سنوات كان أقصى ما يشربه ثلاث علب ، وفي العلبة الخشبية المرمية في الصحراء كان يحلم بزجاجة مشروب غازي ، والآن علب كثيرة وموسيقى ونساء من شتى الألوان ، وفساتين غريبة ، وعطور ثمينة ، وأغراب ممتلئون بالنقود والثياب والحقائب ، وبنايات تنمو في كل مكان ، وعدة مثاقيب تحفر في الأرض وفي رأسه وفي عمره ، وبينهم عتيق خرب ، وهو ضيف ثقيل في غرفة مكسورة الزجاج ، مضمضته مكروهة عند زوجة أبيه.السرير البسيط الذي كان يتصور إنه سيجده ، وينام عليه، حالماً به كامرأة ، لم يره، وعاث الخراب بغرفته ، وضاعت كتبه وأوراقه ، والآن أين سيذهب؟
لم يتكلم ، لم يقذف مشاعره بحبه لهذا الصديق ، الذي يقول كلاماً غريباً، وهو وعده أن يكمل أطروحته عن نيازك الأفكار في الصحراء العربية ، وهو الذي توحد بصورة باتريس لوممبا ، وبلاد الثلج الحمراء ، ماذا به؟ لا يفيق إلا ليسكر ، ولا يسكر إلا ليهذي؟!

ــــ 2 ــــ
حيه يغدو ورشة عمل ،البيوت الصغيرة الواطئة الجدران ، ذات الغرف الصغيرة التي تسمع هسهسة أسرتها في الدرب ،تثقب أمعاؤها ، تنثر أشياؤها الأليفة الرهيفة كالمصابيح القديمة ، مثلما كانت تنثر ملابس الموتى عند البحر ، خطواته مبعثرة ، وروحه مُلقاة عند أكثر من فوهة زقاق.
هنا كان المطوع ، هنا كان ذلك الكوخ الذي يُحفظ فيه القرآن ، وحوشه الرملي ، وزوجة المطوع التي كانت تغلي الأرز وتدعهم يكنسون البيت و”يسفطون ” السمك ، ذلك السمك الرخيص ، وهو يشرد من عصا المعلم ولم يحفظ شيئاً ، وأخذته الكتب الجديدة ، ولم يُعد إلى القرآن .
والآن في هذه الليالي الموحشة ، حيث اختفى الرفاق ، ولم يعد يجد أحداً ، وكلما مر على طريق رأى خليةً محترقة، جذوة عتيقة انطفأت في عاصفة المعادن، في هذه الغرفة القديمة التي شهدت كل الوجوه، والأحذية السوداء، وانتزاع الكتب والقصاصات الثمينة، راح يقرأ القرآن، يحاول أن يجد في دروب الصحارى وجوه فتيانه، والسر في سيادة الرمل والقلاع.
تصبح خطوات أمين أثقل، وجيوبه فاضية، ويدهش من انتشار شعره الأبيض ، يرى في المرآة شظايا من وجه أمه. ذلك الصدر المفتوح المترهل الممصوص من ضغط الدم والسكر. ويسمع زوجة أبيه تغمغم في المطبخ، وتعدد القذارات التي يتركها..لا يعرف لماذا لا تحبه هذه المرأة، رغم كل هدوئه وعزلته ؟
يُباغت بضربات الحصى على النافذة .جاء عثمان إذن .وجاءت السكرة حتى الصباح، فلينقشع وجه زوجة أبيه، وليستقبل عثماناً وأصحابه المحشورين في السيارة المندفعة، وروائح السجائر والبيرة وتكة اللحم والبقل تفوح .
يقول له أحدهم إن صورته كانت معلقة على جدران جامعة باتريس، وأنهم الآن يهابون الجلوس معه، ولكنه يبدو..عادياً متواضعاً، وتساءل باستغراب : فلماذا حبسوك كل هذه المدة؟!
يعسكرون في خمارة رخيصة،صاحبها أحضر كل النفايات القديمة من أدوات معدنية وكتب وأشياء، ووضعها على الرفوف المختلفة، المتغلغلة كالعروق في جسد الحانة المبعثر في الجهات ودروبها الضيقة المتلوية ، وظلماتها المتداخلة بأنوار شاحبة ، وبحماماتها الصغيرة الكريهة ، وسجادها العتيق النخر..
أصحابه مندفعون في سلاسل من الضحك والتعليقات التي لا تعطي منولوج عثمان فسحة للصعود. في إنكسارات الضجة القليلة يسمعه:
ــ ألقِ بالماضي في البحر. لم يُعد يفيدنا أولئك الأجداد ، وإلا لأعطونا شيئاً في مواجهة كل هذا الركام .. ليس سوى العصر ، أنظر زجاجاته وموسيقاه وأبنيته وجمال نسائه.. ماذا لدينا. .البراقع والدراويش وأسمال الفكر!؟
يندفع بقوة أحصنة العرب ، يغزو فراغ عقله، يُحدث فيه وشوشة معدنية ، وكل ٌ يتكلم عن مغامراته وخداعه للفتيات ، فيتناثر لعاب السوق السوداء ، والتجارة ببنطلونات الجينز وعلب الملبارو..
وكان الرجل الأشيب في الحزب يقول له: يجب أن تبقى في الوطن ،لا تفكر أنت بالسفر والدراسة !
الشلة تضحك على رجل ملتح دخل المكان خطأ ، تمتلئ الطاولة بالعلب والسجائر والطفايات الممتلئة بالبقايا المهروسة ، وتمسك الأيدي أجساد الأثيوبيات المقدمات للشراب اللواتي يضربن الأكف بدلال وغضب محسوب .
دخل رجلٌ قصير قوي وجلس قربهم ، وبدا مكفهرا حانقا و هو يرمقهم.
بدأ أمين يدخل سرداب اللذة السري ، حين تتحول الفقاقيع إلى نشوة وتمرد ، وأحس إنه لا بد أن يضع حداً لإزعاج ممض فيه ، ألم العودة والإفلاس ، والغربة ، الغربة الفظيعة حيث يدور على البيوت المهجورة ، والمدينة ممتلئة بالأغراب ، وقلبه يسقط على الرصيف ولا ينتبه أحدٌ ، حنق كبير على هؤلاء الضاحكين النزقين..
لا يجد سوى أن ينهض ، ويغادر بغتة، تاركاً الجمع مذهولاً.
وفيما بعد، عرف عن الشجار الذي وقع ، واندفاع الرجل القصير القوي بزجاجة فارغة مسنونة الرأس نحو عثمان لأنه سمعه يشتم الإله..

ــــ 3 ــــ
الطريق طويل إلى المجلة ، الحر فظيع، والضاحية التي يخترقها كانت بساتين وصارت مساكن لغرباء وموظفين مرفهين ، ورئيس التحرير المنتفخ لحماً يعتبره صيداً في مجلته المدعومة من سفارة عربية. الصحفيون السودانيون مشردون مثله ، وكانوا غيمة باردة في وهج الصيف ، وتركوه ينزلق إلى أرض الحمى والقرى ، مصوراً العجائز وبقايا الفلاحين الذائبين في الأرض والأملاح ، المتبخرين مع الرطوبة النارية الصاعدة من البحر..
يختلط بموكب حسيني ، وتأتيه طرطشات الدم ، هنا يحلق عروة مذبوحاً في الصحراء ، وكل البدو الرعاة لم يصلوا إلى القصور، والسجاجيد مرسومة بخيوط الذهب وعروق المزارعين، ولم يستطع أن يتخلص من الزحام الحسيني ، وهو يرى السلاسل تغوص في جلد الظهر ، حافرةً خرائط عربية عميقة ، تمتد من الكوفة إلى روح الحسين ، يصير في النهر الفائض بالأشلاء والدماء سورة ، يترنح من الرائحة و الألم و الشوك الذي ينغرز في العينين ، يتأمل النطع و السيف و رأس الزقاق المقطوع ، ويسمع صرخة الحلم فجأة ” أأنت مؤمن..؟ ” ، ورأى السور الكبير الذي قسم روحه ، وأشلاءه في كل الجهات ، ودهش هل هو الذي قطعت رقبته فها هو دمه في كل مكان..!
خلصه باص مزدحم من فوضى عارمة ، ورأى الطرق المتقاطعة ، وجلس على طاولة عثمان كأثاث فرعوني مستعمل ، ولم تنعشه الباروكات وزجاجات العطر والبيرة، وأحس بالقعر العميق الذي يملأه..
اسطوانة عثمان تدور:
ــ دعك من ..
تأتي امرأتان شقراوان وتخرجانه من الزمن الرملي .عثمان يدفق لهما المشروبات والخضروات والتعليقات الساخرة والنزقة ، وبقايا جرح الرجل القصير لا يزال فيه ، فيتلفت حذراً ، وأمين يتحلحل وينغمر في بشرة الزبدة المضيئة ورقائق التفاح وفيض الكمثرى بالضؤ والحنان ، ويخرجون في كتلة متداخلة من السواعد والأفواه والأطياف ، ويحلون في تعريشة من النخيل و القبل والأطباق ، وتأتي زخات القرى المُحملة بالرطوبة والأنين ، فيضحك عثمان ويدغدغ المرأتين المنفجرتين بالصياح ، ويسمعون من ميكروفون ذكرى وفاة إمام.. ، ويرى أمين أسلاك برق ونار و رجالاً يعبرون المدى ، والشرق ذبيحة. أغفى ونام وصحا .
رأى ثلة كبيرة تحيط به . أمه وأبوه ورفاقه وجلاد وه وعثمان والمرأتان والعلبة الخشبية ، ومياه الشتاء النازلة عليها و ابلاً صارخاً ، وأشتد الكلام :
ــ حتى لو كانوا يؤمنون بالخرافات فهم أهلك !
ــ أنظر إنهم .. يتبركون بالوحل!
ــ تمائم وخرز وجيوب ملآى بالدم !
ــ يا سيدي أنفجر الهدى من السماء !
ــ الأرض تبعث والقيامة قريبة!
لم يفهم أمين لماذا سار وحيداً. وجد نفسه في أدغال القرى ، بين غابات النخيل المذبوحة التي صارت جذوعاً وقصوراً ، والشوارع المبلطة النظيفة المضاءة المحفوفة بالفلل ، تقود إلى أمعاء القرى ، إلى الدروب المفقؤة الأعين ، والى أزقة الأولاد العراة ، وكتل الحصى والسعف و العظام وأسلاك الكهرباء المُعلقة فوق الرؤوس و” سلندرات ” الغاز المتناثرة عند الجدران و المخابز الرثة وقدور الفول والحشود التي تغرف و الهياكل الشاحبة التي تسير بأزرار الأقراص و الإبر والأدعية .
جثم عند غرفة لها حوش بسيط . حدق فيه المالك العجوز بذهول . وظل ساعات هائماً في الحقول ، يغترف هواءً نقياً ، و يقيم صداقة مبكرة مع العصافير الوفيرة .
في الغرفة العارية العاطلة من السجاد والستائر ، على الحصير الذي اشتراه ، أمام التلفزيون الصغير المستعمل الذي بالكاد يقبض على شيءٍ من أجسام الفضاء ، وضع الأكلة الزاهدة وراح يمضغ ألذ وجبة بارتياح . وحينئذٍ سمع راديو الجيران وصوت المقرئ الذي نفذ إلى عظامه :
«ألم يجدكَ يتيماً فآوى » ؟
كان صوت أمه يشتعل واحتضانها يصهره : « أترك كل هذا، سأموت بسببك ! » . ويرى جسمه خلف قضبان ” الجيب” بين هرم الكتب التي نزفها من رواتبه ، وهي تحترق ، فيغور في رمال الصحراء ، في عيس لايصل إلى شيءٍ ، في صندوق خشبي ، عند التلال الحجرية والجنود يصوبون على أهدافهم البشرية ، والعالم ثقب صغير ، وقلم «ناشف» مُهرب يذكره بزرقة البحر والحرية..
كأن العمر كله ذهب هباءً ، و ها هو صمت عميق يلفُ الأرض ، والناس ثور الساقية الأبدي يجتر البرسيم ، ويعيد إنتاج السماد البشري ، فيدهش من هذا الحضور الخالد لمعاوية، والغياب الدامي للحسين..

ــــ 4 ــــ
لم تتبدل أحواله بسهولة. يرى عثماناً ينثر آلاف الدنانير في سفراته المستمرة إلى تايلند ، و هو يجمع الأوراق القليلة من قروح جلده ، ويرمم عينيه بنظارات ، ويحتضن عثماناً العائد بحكايات غابة النسوة الكثيفة الملونة ، والجزر الفضية ذات المياه الزرقاء اللامتناهية و صخور الجبال العملاقة ، وكأن صاحبه يستمتع بتعذيبه وهو ينشر أسنان رحلاته في لحمه .
كلما عاد أمين توحد بالفراش ، وبغمغمة ميكروفون المأتم ، وكأنها منولوج تاريخي مع الألم والدم ، فيرسل سطوراً إلى الجهاز فيبتلع أصابعه .
يدور على الأحياء، يصادق الفتية والبرسيم والنمل ، ثم يتوحد بالفراغ .
يخاف على عثمان وصحته و نقوده فيحضنه خائفاً ليدفعه بغضب :
ــ أنت بلا جواز ، بلا مال ، بلا نساء ثم تدفن نفسك في كهف معتم.. وخرابة نخيل !
يراه مُحاطاً بثلته الكبيرة ، القدور الممتلئة، والعُلب تغطي الطاولات ، يستلم عثمان أول دفعة من النساء الروسيات، فيصرخ :
ــ بدلاً من أن نتغرب ونُلاحق .. الآن هم هنا !
ثم يقول مداعباً إياهن جميعا وبالروسية:
ــ أهلاً بالرفيقات !
صور التلفزيون لا تشد النسوة المنغمرات في الدخان ، وساحة الكرملين الثلجية ملآى بالمتسولين. يندفع عثمان بين القدور التي تبقبق والممتلئة بالسمك والجمبري ، بين حشده الضاري ، يده لا تسقط العلبة أبداً، والسيجارة في زاوية فمه ، وبدلة المكتب الأنيقة ، ورباط العنق المُحكم ، وضحكاته الحادة المتقطعة ، غريبة…
يطالع كم صار هيكله عظمياً ناتئاً ، وامتصت السهرات كل بريقه ، وغدت ثرثرته مُنهكة، وتتصل حتى أذان الفجر ، ولديه سيوف كثيرة يغمدها في الأصدقاء الذين خانوا، وفي الملتحين الذي تكاثروا رغم كل خطب جولاته في الفنادق ، وتتقطع السهرات بشجارات حادة ، وبالبكاء ، وبشحوب متصاعد للذاكرة..
يذهب إليه في مكتبه الصباحي . بدلة أنيقة و جليد. لارفة من إبتسامة ولا زهرة من روح . تلاشت روائح المطاعم الرخيصة التي يندفع إليها مع الشلة الفائرة بالصحة والعضلات والإفلاس . وهو لا يكاد أن يأكل شيئاً ، وعلبة البيرة يخبئها دائماً في جيبه ، وتظهر من تحت المقعد ، وتتسرب كل نقطة إلى الوجه الحجري الظامئ أبداً ، وحين تلقيه السيارة يدخل البيت جامداً ، موقراً أباه أو أمه ويمضي إلى غرفته بهدوء مطبق.
يجمع عثمان أغراضه من المكتب ويقول:
ــ قدمت استقالتي..
ويعرف إنه فُصل! يأخذه بسيارته إلى الفندق.يحاول أن يجره بعيداً دون جدوى . يطلب نقوداً. يمضي محني الظهر نافخاً الدخان بشوق إلى العلب!

ـــــ 5 ـــــ
كانت القرية أدغالاً بشرية تتحرك نحو الشوارع ، كتلاً من الشعل تتساقط على البيوت والطرق..
ليس ثمة خبز أو ضؤ ، والشوارع تحتلها فرق متضادة عنيفة ، والرؤوس تتفجر ، ويتراكض رجال صارخون في أعماق الحقول. يقذفون كتل النار . يرى الفلل تتوهج ، ثم تدوي سيارات الإسعاف والإطفاء..
لم يعد في بيته شيء ، والجنود يقتحمون المنازل ويضربون بالهراوات. وفي الليل يهجم المقنعون على كل ما يدب. امتلأت غرفته بدخان الإطارات المحترقة والقنابل المسيلة للدموع . وجهه ملفع بقماش مبلول ، وأصابعه تبحث عن الأسطر في الظلمات .
أنقذه «الفاكس» في التراسل مع كائناته المادية وراء خطوط النار.
عبر «النقال» راح يبحث عن عثمان . أحس بحاجته الغريبة إلى هذا المُفكك والتائه. وكانت الأصوات والعلامات تأخذه من بار إلى غرفة مؤجرة ، إلى فندق رخيص ، وإذا به يسمعه بعيداً ، هارباً من مطاردة الدائنين.
جاءه صوته هادئاً ، منكسراً ، لكنه أستعاد مرحه ببساطة ، وكأن الغربة و الإفلاس والبطالة والملاحقات لا تهز فيه شعرة .لا يزال يسمع الموسيقى وثرثرة النساء ، يشرب الكؤوس الكثيرة ، وينام في غرفته الرثة ، ثم يصحو متحجراً ، ليبدأ في الظهيرة مشواره المخيف..
عثمان بدوره كان يصغي إلى المخبأ الذي ورط نفسه فيه ، ويضحك من نيران الحرية المتفحمة ، ويقول : ألق بالماضي ، فيصرخ: كيف، كيف؟!
رأى أمين نفسه كأنه في قعر العالم ، نازلاً إلى الأشباح و جثة تموز ، مدققاً في ملامح المصلوبين ، وعثمان فوقه بعيداً ، في قمة فندق مشتعل بالضؤ ، وغاطس في المياه العميقة .
رقد محموماً ، سمع دقات من جاره ، وثمة أسياخ تنمو في بطنه ، كأن أحداً يطبخ البشر في قدور كبيرة ، ويوزع رؤوسهم الناضجة فوق أطباق الرماد .
يُرسل أوراقه و هو يرى الضؤ الخافت و يسمع رنات حروفه وهي تتساقط في العالم الحي ، وتأخذ أصابعه المقطوعة وأسطوانات الغاز المتفجرة الصاعدة إلى عنان السماء في احتفال مدوٍ توزع لحم الفقراء على الملائكة ، ومولدات الكهرباء وهي تغذي النهار بالنار والليل بالظلمات..
وإذا بثلة ملثمة تقتحم الغرفة ، تتوغل فوق أوراقه وكتبه ، تتطلع إلى بعضها البعض بدهشة ورعب ، تحدق في أوراق الفاكس وتسحب الثعبان الطويل النائم ، وتقرأ وهي تسكب الكاز في إنحاء المكان ، تحيطه ألسنة النار و تكتب سطورها على جسمه ، رأى نفسه في العلبة الخشبية وسط الصحراء يكتب على ورق الصابون ، ويبصر الأشياء من ثقب خرقه مسمار صغير.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 09, 2022 00:02