الثورة المحمدية

مؤسسُ ديانةٍ، وقائدُ ثورة
تكرُ العصورُ وأسمكَ نورٌ يغمرُ البشر، وليس ثمة نبيٌ ولا وصيٌ ولا ولي ضحى كما ضحيت، وعانى كما عانيت، وأبلى كما أبليت، ونقل أمته من الحضيض إلى شاهق القمم!
من استطاع أن يفعل مثلك، في ربع قرن حولت هؤلاء الفقراء الضائعين في بيداء التاريخ إلى حكماء وفلاسفة، وهادمو عروش راسخة على القهر، فبنوا حضارةً تمتدُ من الصحراء إلى القارات المسكونة وكادوا أن يمسكوا القمر ؟
من تحمل كل هذا الألم ؟ من خاض كل هذه الحروب وصاغ البيان وعلم الإنسان وإذا ارتجف الناس في حضرته قال إن أمه كانت امرأة عادية تأكل القديد ؟
من استطاع أن يقود مساكين الصحارى ليتملكوا الجنان، ويأخذهم إلى جهات العلوم، وينثر في أيديهم الفضة كما ينثر الحكمة، ويبقى هو في بيته البسيط وحتى همسه يغدو مسموعاً في الشارع ؟
ليس اللباس ولا الشعر ولا الصولجان من أخدته إلى العلى بل هذه الروح المتوثبة المشتعلة لهدم الاصنام ورموز العبادة البشرية الوضيعة ولهذه التجارة بالضلوع البشرية، وقدته لهذه الينابيع المتدفقة من التضحية والشجاعة التي تنتقل إلى الملايين كالكهرباء فتفجرُ طاقاتها وتوزع محطات نورها عبر العصور!
وهذه الثقافة العميقة العريقة وهذا التجميع المدهش لقوى البشر المتضادة الممزقة، وتحويلها إلى سيل بناءٍ، وهذا الصدر المفتوح لكل نأمة بشرية، ولكل خلجةٍ إنسانية ولكل وجعٍ فلا يضيق ولا يهدأ..
وامتد عذابك إلي أسرتك، وراح لصوص التراث والحكم، يسرقون ثمار ثورتك، ويحملوننا وزر عذاب أهلك، فامتد حيطُ الدم إلى نحورنا وعروقنا وضمائرنا، وليس لنا إلا أن نناضل ضد رموز الشر والاستغلال لنسترد كرامة النبوة والأسرة النبيلة!
فى عظمتك الباقية عبر العصور نستلهمُ حرفاً أو كلمة، لعلنا نضيءٌ كهفاً، وقد أطبقت علينا الظلماتُ، وصرنا أسرى لأناس سرقوا تراثك، وأناس كرهوا سيرتك، أولئك حبسوا ماضينا، وهؤلاء اعتقلوا حاضرنا، وليس لنا سوى المستقبل نوحدُ فيه صفوفنا علنا نتحرر ونفجر نهضة عظمي كما فعلت..
سُرقت كنوزنا حتى اصحبنا عرايا بين الأمم، وتماثيلنا ونفطنا وأرضنا مباعة بأرخص الأثمان، يأكلون من أكتافنا ويضحكون على تراثنا، وهذه الملايين قادرة أن تصنع شيئاً جديداً للإنسانية رغم أن عرافى الكذب اجتمعوا على نفى خصوبتها ودورها التاريخي..
وليس بيننا رجلٌ أو امرأة يرتفعُ إلى ظلٍ من قامتك فيوحدُ الملايين الجاهزة لكل تضحية، والرموز الشاحبة انحشرت في ثقوب الحصالات والتبعية والطوائف رافضةٍ التوحيد الذي أعلنته مبدأُ، وكرسوا التفريقَ وباعوا كل شيء من أجل فللهم وقصورهم وخزائن طوائفهم ووضعوا ملياراتنا المسروقة في شركات الإغارة على مخيماتنا وارواحنا وأكواخنا..
لكن الملايين تصعد للمعرفة والاكتشاف، وتنخرط في المصهر الثوري المحمدي الإنساني الكوني، تكتشف علاقاتها بالجمهور الفقير المستعبد، أصل الطاقة المولدة لكل ثورة، وتحول خموله ومعاناته إلى نشاط وعلم وفلسفة، مثلما حولت عظمتك عماراً وبلالاً قادةٍ كباراً..
نمضى على حبك، ونستلهم سيرتك، ونمشي على خطى ثورتك، ونفصل مؤقتاً الديانة عن الثورة، لنوحدهما في تكوبنٍ جديد، يكرس الديانة كحياة اجتماعية، ويعمق الثورة كنظامٍ سياسي ليصهر مجموعات المسلمين والعرب في تكوين حديث يقفز إلى ذرى الحداثة والعلوم والنهضة كما فعلت وفجرت طاقة هذه الأمم وعبرت بالإنسانية صحارى كبرى!

الثورة المحمدية والإقطاع الدينى
تشكلت الثورة المحمدية على أرضية شعبية بدوية لا تعرف مؤسسات الكهنوت، ولم يسبق للعرب أن شكلوا مؤسسات دينية متوحدة مع قوى القهر والاستغلال، إلا بشكل هلامي وضبابي عبر دور مكة المقدس، والتى كانت تحتفي بأصنام القبائل العربية، وبدأ كهنوتٌ غامض يظهر في بني هاشم ماعتبارهم أهل الرفادة وسقاية الحجيج والاعتناء بالكعبة.
ولكن هذه المؤسسة الدينية لم تتبلور في شكل سياسى متوحد مع الدولة حدث لم يكن ثمة دولة، ولا مؤسساتها المنظمة من جيش وشرطة، إلا إذا كان الأحابيش وهم قوة عسكرية صغيرة لدى ملأ قريش يمثلون أهمية وسط القبائل المسلحة.
ولهذا حين ظهر الإسلام تخوف من تحول بعض المؤمنين إلى رجال دين، يتحولون إلى مؤسسة دينية على طريقة اليهود والمسيحيين، ومن هنا كان شعار «لا كهنوت فى الإسلام» واضحاً قوياً حتى أن عهد الخلفاء الراشدين وعصر السلف كلاهما مرا ولم تتشكل فيهما مؤسسة دينية، وحتى التعليم الديني والفتاوى والأحكام والقضاء كانت تُجرى دون أن تكون ضمن مؤسسة دينية، ودون مقابل مادى، ورفض السلف تسميات رجال دين أو فقهاء.
بطبيعة الحال غمر العربُ والمسلمون الصحابةَ والسلف في الأمصار بالهدايا، والحب، وهناك من القلة من استغل هذا العطف والاهتمام إلى إثراء، وأخذ جانب من الدينيين يحولُ المعرفةَ الإسلامية إلى رأس مال، وتداخل هذا الاتجاه المصلحى مع نمو أجهزة الدولتين الأموية ثم العباسية، وأخذ الفقه المعارض المرتكز على بحث المال العام وحرية المسلمين والعدالة يتحول إلى فقهٍ موال يتجنب القضايا الكبرى.
ورغم القمع الفظيع والمجازر فإن المجاهدين لأجل توزيع المال العام على الناس، لم ينقطعوا، وتحولت دعواتهم إلى فرق فكرية سياسية، مما جعل الدول توسع دوائر مشاركة رجال الدين في غنائم الاستغلال، وتطارد من يفتى ضدها. لكن حتى هذه الفرق الفكرية السياسية لم تنجُ من الاضطهاد والشراء لضعاف النفوس من داخلها، فأخذت تتحول إلى فرق تنوير فكرية خالية من النضال السياسي الجماهيري، وعجزت عن تطوير أدواتها الفكرية لكشف أوضاع الإمبراطورية القائمة على استغلال الفلاحين والعبيد والناس عامة.
وقد سيطرت الأشكال الدينية المفرغة من المضامين النضالية و المساواتية للفترة الأولى على المناخ الفكري الديني، وغدت أسر الأشراف تحول هذه المادة الدينية إلى وسائل للوثوب إلى السلطة، والنزاع مع القوى السياسية الأخرى.
تحولت أشكال الفقه السياسي للقوى المسيطرة إلى مذاهب كبرى، وقامت بتفتيت المسلمين إلى قوى متنابذة، كما تحولت هذه المذاهب إلى أشكال لصراع الأمم البازغة فى المناخ الديني العام، مثلما كان الصراع بين الأتراك والفرس في إيران على الحكم خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين، لكنه تجسد من خلال صراع المذاهب السنية والإمامية المختلفة.
هكذا دخلت هذه الأشكال الدينية إلى حيز الوجود الاجتماعي اليومي للمسلمين متحولة إلى مؤسسات مهيمنة، تفرض حضورها المطلق على قضايا الحياة الاجتماعية، أي في ميادين العلاقات الأسرية خاصة وطرق التفكير والأحوال الشخصية، حيث أن الدول لم تسمح لها بالوثوب إلى السلطة، وكان هناك تداخل بين المسيطرين على الثروة العامة من حكام ورجال دين.
لم تستطع هذه المؤسسات التي تمازجت والقوى التقليدية المالية والعقارية أن ترى الإسلام التأسيسي كثورة نهضوية وذات قوانين تحالفية مع الفقراء لتشكيل عالم حر، أي قامت بنزع المضمون، وغيبت المسار التاريخي، والدلالات الاجتماعية والسياسية في سبيل الهيمنة.

الثورة المحمدية والديمقراطية المعاصرة
اعتبرت التحولات العربية الإسلامية في القرن الأول الهجري باعتبارها إما نموذجاً سياسياً مطلقاً، وإما أنها لا تصلح كنموذج للتطور السياسي الراهن، والذين يأخذونها كنموذج مطلق لا يعنون أنها ثورة نهضوية، بل يأخذونها كرسالة دينية غيبية مطلقة، وبالتالي يقومون بتجاوز مضمونها السياسي والاجتماعي التحويلي لمجتمع
التخلف والتفكك السابق .
وهذا يعود لانبثاق منطلقاتهم الايديولوجية عن عصر تال على هذه الثورة، وليس بسبب قراءة الظروف السياسية، التي شكلت ديمقراطية مباشرة بين القيادة النهضوية والجمهور الشعبي، حيث لم تكن هناك فترة كافية لترسيخ الدولة، وكذلك بسبب تمازج مهماتها التحويلية للجزيرة العربية بالتصدي للهيمنة الأجنبية على المشرق.
وكان النموذج السياسي القوي في التجربة العربية لا يرتفع عن دور دار الندوة، أو عن الرياسة القرشية التي توجهت للاستبداد، وعن المشيخة القبائلية التي كانت تتخلى تدريجياً عن ديمقراطيتها المباشرة، والذي تمظهر ذلك في ظهور الملوك في بعض القبائل العربية الكبيرة كقبيلة كندة، والتي كان التحالف مع الأجنبي متضمناً في غور تجربتها السياسية كما فعل أمرؤ القيس حين استعان بالروم بعد الثورة ضد طغيان أبيه.
وقد اعتمد الإسلام في تجربته الاجتماعية على التراث العربي السابق، في مجالات كثيرة، ولأن هذا التراث لم يفرز حكماً شعبياً، يمكن أن يرفد المرحلة النبوية النهضوية التحولية، في مخاضها الشعبي والحربي في تغيير الكيان التقليدي المفكك والدموي السابق، فلم تظهر تجربة سياسية انتخابية.
ولكن نستطيع أن نرى بعض البذور الديمقراطية الشعبية في هذه التجربة، عبر عدم تشكل جهاز قمع عسكري موجه ضد الناس، حيث كانت القبائل المنضمة للإسلام هي التي تكون هذا الجهاز.
ومن هنا كان إنشاء الأجهزة المحلية في حكم المناطق، لم يحدث عبر صدامات حادة، بل كان أهالي المنطقة العرب ينضمون للوالي الإسلامي، ويشكلون إدارة محلية، صارت بعد بضع سنوات قليلة قواعد لحرب الفتوح.
وكذلك كان عام الفتوح بلقاءاته المباشرة ومكاشفاته يعبر عن هذه البساطة في تكون السلطة، التي جاءت كتتويج للتقاليد الديمقراطية القبلية الغائرة، والتي إزاحتها الأرستقراطية القبلية المتنامية في الحياة الاجتماعية السابقة.
ولكن من جهة أخرى فإن هذه التقاليد الديمقراطية، التي تركزت على العلاقة المنفتحة والودية والمباشر؛ بين القائد والجمهور، لم تتشكل في مؤسسات، ولم يحولها الخلفاءُ فيما بعد إلى مجلس عام للقبائل؛ لكون عملية الانتخاب غير مقرة لديهم، فالانتخاب عملية مضادة للطابع القبلي، فالقبائل عادةً يمثلها شيوخها، ولا يمكن أن تجري فيها عملية تفكك اجتماعي وسياسي.
ومن هنا نقول بأن تجربة المدينتين النهضويتين اللتين قادتا الثورة، جرتا عبر إلحاق هذه القبائل، عمق الامتداد الشعبي للمدن، بجسم الأحداث المتصاعدة وبالتحويلات الاجتماعية، ولم تكن لديهما فرصة طويلة لتشكيل مدن كاملة الحداثة.
وسرعان ما انقطع التطور بالاندفاع نحو الفتوحات، التي قوت زعماء القبائل والفئات الميسورة بشكل أكبر من القوى الفقيرة، والتي لم يكن لديها مؤسسات.
وإذا كانت الفئات التجارية المكية القرشية التي قادت هذه الثورة، تعتمد أساساً على رأس المال التجاري، فإن هذا الرأس المال قد تكون بفائض هذه القبائل الفقيرة الرعوية، ومناطق الإنتاج الحرفية المحدودة، ومن خلال السوق الكبرى في الشام وفارس، التي تحكمت فيها الدول العظمى في ذلك الوقت .
ولهذا من المستحيل أن يتشكل رأس مال صناعي في ذلك الزمن، رغم أن الإقطاع لم يظهر بعد، ولا تزال الفئات الوسطى هي المسيطرة على الأفق التاريخي.
إن الثورة الاجتماعية الإسلامية إذن تمت بقيادة فئات تجارية طليعية وعبر مدنية حديثة بالنسبة للقبائل والرعاة، وهذا هو المناخ الاجتماعي التاريخي الذي سمح بحدوث عمليات ديمقراطية سياسية واجتماعية كبيرة، لكنها لم تتبلور بهياكل سياسية منتخبة.
وحين تم الانتقال إلى الأقطار الشمالية ذات الإرث العبودي المُعمّم، القائمة على الأنظمة الاستبدادية العريقة، فإن التراث الديمقراطي الشعبي سيبقى لفترة وجيزة، وبعدئذ سنرى المعارك الكبيرة لانتقال السلطة إلى الأشراف، إلى الأرستقراطية، التي كانت مضطرة للحفاظ على الإرث المحمدي شكلاً وتغييبه مضمونياً، عوضاً عن تطوير آلياته الشعبية الجنينية. أما الفرق المعارضة فستناضل للإبقاء على ذلك الإرث، ولكن مع القمع المتواصل وتشكيل الفضاء السياسي والثقافي من خلال وعي الأشراف، فإن القوى المعارضة ذاتها ستلتحق بعالم الأشراف الفكري، والسياسي، وستعجز عن العودة إلى تقاليد الثورة الشعبية السابقة والمتكونة في عالم اجتماعي وتاريخي مغاير.
وتعطي التطورات الاجتماعية والسياسية المعاصرة بعثاً لتلك التقاليد المضمرة دائماً في اللاوعي السياسي العربي، والتي يشوشها الإرسالُ الأرستقراطي، فتغدو تقاليد التجار الأحرار القرشيين مضمرة في تقاليد الديمقراطية الغربية المعاصرة، باعتبارها التتويج الذي حصل على امتداده التاريخي، ولكن في حاضنة غير عربية، وهي حاضنة الصناعة والتقنية والعلوم التي طورت رأس المال ليزيل العوائق الإقطاعية والتقليدية.
ومن هنا تغدو هذه الثمار الغربية، أدوات عربية إسلامية، لتجلية ذلك المضمون الشعبي الديمقراطي العربي القديم، والذي تكدس فوقه تراب القوى اللاديمقراطية على مر العصور السابقة، ولكن هذا التراب هو المؤثر الأساسي، في تشكيل وعي الجمهور العربي، وبناء التقاليد الاجتماعية الراهنة.
وهنا تحدث العملية المعاكسة لفعل القوى المحافظة على مر التاريخ السابق، عبر كشف تغييبها للتقاليد الديمقراطية الشعبية، واستغلالها للثروتين المادية والدينية من أجل خلق عوالم شمولية أبدية، جعلت الفرد العربي والمسلم خارج الفعل التاريخي.
إن الفقه السياسي الديمقراطي لا بد أن يعاضده فقهٌ ديمقراطي اجتماعي، يربط العلاقات بين الجانبين، ويبحث في مدى مشروعية الفقه التقليدي، ومن أين تشكلت أصوله الحقيقية، ودور الحواضن الشمولية في إنتاج وعي معاد لتطور الأمة.
فظهور الديمقراطيات السياسية العامة من برلمان وانتخاب ليس هو إلا الإطار للتغيرات العميقة التي تحفر في بنى العائلة والقبيلة والدولة والجماعات المختلفة، وما دامت هذه البنى الاجتماعية ذات أسس شمولية فلن يكون للتغيرات السياسية العامة تأثيرات بعيدة المدى. حيث هيمنت تقاليد الأشراف التقليدين لا تقاليد التجار المكيين النهضويين.
إن التغيرات التي جرت في الثورة الإسلامية التأسيسية ستجد الآن بعضاً من فضائها المفقود في التاريخ السابق، فالملكية العامة التي وُضعت من أجل (الأمة) ستعاد الآن، والملكية الخاصة الإنتاجية الموزعة والمنتشرة يكثر نموها، ومن هذين الجانبين تجري خلخلة لتقاليد الهيمنة الشمولية على كافة المستويات، وهذا ما يسمح بتطور فقه ديمقراطي تجديدي حديث، يجمع بين الجوانب المشرقة والإيجابية في الإرث السابق، وإنجازات الحداثة التي لا تمسخ شخصية الأفراد وتطورهم الفكري المستقل.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 24, 2023 22:14
No comments have been added yet.