المترحلون في الحداثة

عربٌ وعبريون، ساميون غامضون، جاءوا لمنطقةِ الشرقِ الأوسط في قديم الزمان، العرب نزلوا للبوادي الشاسعة وضاعوا فيها قروناً.

والعبريون توجهوا للحضارات الكبرى بين النيل والفرات، وصاروا سجناء الحضارتين، وكتبوا حلماً أن يملكوا من النيل إلى الفرات؛ حضارةٌ طردتهم وحضارة حبستهم.

العابرون المترحلون، البدو في عرقهم العميق، في هدمِ دولتِهم العابرة كتبوا كتاباً باقياً في الزمان على مرِ العصور، هو جوهرُ الحضارةِ الذي لم يصنعوه في العمارةِ والجند، نسجوا خيوطاً من قصصِ وسحرِ وأساطير وتقدم الحضارتين جعلتهم سادةً خرافيين على مدى الزمن، وكان الكتابُ مستعاراً.

لكن الذي أسسَّ التوراةَ هو الذهب، فهذه قبائلٌ توحدتْ برأسِ المال وهو طفلٌ جنينٌ في بطن أمه الرأسمالية الشرقية، في التشرد والضياع وإستغلال الشعوب وأسواطها التي تنزلُ على ظهر هذه القبائل المتمدنة، كان الذهب قوة ًوسيفاً بتاراً، ووراء الذهب كان العمل البشري المُستغَّل، لهذه الشعوب والأمم التي تعملُ وتنتجُ وتكتشف وتتصارع، مضيعةً ثرواتها في غمضة عين.

 الملوك والأمراء والرؤساء يتلاعبون بالثروات، ويبعثرونها على القصور والمحظيات وسماع المديح، واليهود يعيشون في أزقة نائية عن الصراعات البذخية الضارية، والجميع يحتاج إلى صبرهم وعملهم وخزنهم للمال. كانوا هم الملوكُ المتوارون وراء السراب السياسي للشعوب.

لم يشكلوا إمبراطوريات تحول جبالَ الذهب إلى ديون، بل حولوا الديونَ لجبالٍ من الذهب.

فيما كان أشقائهم العرب ينحدرون للبداوةِ ويعيشون فيها مخلدين. وفي ومضةِ الإسلامِ والنهضةِ طار العربُ بعضَ السنين فوق الصحارى، واستأجروا الشعوبَ لكي تعملَ عنهم، وشكلوا لحظات معرفية عظيمة منفصلة عن الصحراء ثم ما لبثوا أن صحروا المدن.

وكان الذهبُ يتسربُ لليهود المتوارين عن ظهور الخيل والعاملين في النقش وحك المعدنين الثمين والرخيص، والسير وراء الحرف والحريات الاقتصادية.

في العصر الحديث تواجه العربُ والعبرانيون بعدَ طول إفتراق، عدةُ آلافٍ من السنين لأبناءِ العم لم تُغيرْ لغتيهما الصارمتين الأسطوريتين المتقاربتين الموجودتين في الكتب المقدسة.

ولكن شتان بين حالٍ وحال.

حشودٌ هائلةٌ بين المشرقِ والمغرب، شعوبٌ كبيرة تواجه العبرانيين وقد تركوا الترحال وتخندقوا في دولة، ولم يتفقوا على عيشٍ مشترك، العبرانيون جاءوا فوق بوارج وطائرات وبنوك الأمم المتقدمة. إن أممَ الذهبِ إستوتْ أنظمةً وهيمنةً على الشعوب، والعربُ بقوا في صحاريهم وخنادقهم، وإنتُزعتْ أراضيهم وثرواتهم الشحيحة.

العبرانيون تجسدَّ فيهم تاريخُ العمل والعربُ تجسد فيهم تاريخُ الكسل.

رغم إحتفاظ العبراني بقداسةِ الإله والصلوات والأعياد المعقدة التركيب والمغرقة في الفذلكةِ العبادية، فقد كان شديد العملية، وقد عبرتْ أممُ الرأسماليةِ الغربية في عبادتِها الجامحةِ للنقود والإنتاج والهيمنة عن مكنونِ ذاتهِ العميقة الخالدة،

فيما العربي ضائعٌ، كسولٌ، خريجُ المقاهي والغرزات، يجمعُ شيئاً من المال ليبعثره على ملذاته أو يقدم الإحسانَ الوفير للأمم التي تنهبه، لا يزال مترحلاً غير مستقر، وطنه خيمة، وصندوق نقوده غيمة،

وجد العبراني دولةً يُظهرُ فيها عقدَهُ التاريخية، تاريخُ الذل الطويل يتحولُ إلى إذلال لأي شعبٍ يقعُ تحت قبضته، كما واصل الإنحناء لإله الرعود الباطش، وإستطاع بنفعية جبارة أن ينتزع الأرباح من ظهور الشعوب طوال أيام الأسبوع ويخصص السبت فقط لربه. 

إنه شعب الكيف ذي النوعية المتقدمة.

وهناك شعوب الكم الهائلة ولكن ذات النوعية المحدودة.

بلد صغير في مواجهة بلدان عدة غير قادرة على وقف رعونته.

وعي العربي السائد لا يُفكك، ينتظرُ الغيبَ يشتغلُ عنه، ولهذا يكثرُ من القراءات الدينية، والبدوي الكامن في روحه ينتظر الحديقة المليئة بالجواري والغذاء والمياه المتنوعة، وحوّلَ برميل النفط لبركة سباحة ورقد تحت الشجرة يعيد مواويل الرعاة.

إعتبر النفط غيباً، ونشر ديكورات وأكسسورات التدين، فإنتشرت دكاكينُ اللحى والبساط السحري والتمائم والجوامع، ورغم كل هذه الجهود الجبارة لم يستطع أن يلاحق العبراني الذي ليس لديه آبار نفط ولا مناجم حديد.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 28, 2023 22:02
No comments have been added yet.