صراع الطوائف والطبقات في إسرائيل
≣ يعبر قيامُ إسرائيل عن مجموعة كبيرة من التناقضات السياسية والثقافية، فقد أُقيم المشروعُ من قبل الحركة الصهيونية، التي ظهرتْ في الغرب، ومثلتْ مستوىً دينياً واجتماعياً مغايراً لبقية اليهود في العالم، وخاصة اليهود الشرقيين، فسيطر ما يُسمى (الإشكناز) على مقاليد السلطة وغدوا طبقة مميزة تناهض أي قوة اجتماعية تحاول الصعود.
منذ البداية كان مشروع إسرائيل متضاداً فقد أقامه اليهود العلمانيون المفترضون، فهو مشروع ديني بقيادة رأسمالية غربية يهودية، علمانية، فظهرت دولة حديثة دينية معاً، فهي لا تنتمي للعلمانية ولا للدين، وهي خليط غريب بينهما.
إن النسيج الديني نفسه لا يقوم على دولة متوارثة ذات تقاليد متنامية، فلم تكن ثمة دولة، ولا تراكم تجربة سياسية حكومية، بل قامت على أحلام وذكريات امتدت لقرون مديدة، فكيف يتحقق نسيج ديني موحد بناء على تاريخ الشتات الطويل؟!
لو أن اليهود الشرقيين قادوا بناء الدولة لجاءت الدولة دولة شرقية متخلفة، لكن اليهود الغربيين قاموا بهذه العملية ونقلوا المشروعات الغربية إلى إسرائيل، وهذا كفل لهم كذلك ليس القيادة الروحية فحسب بل القيادتين الاقتصادية والسياسية.
ومع هذا فإن اليهود الغربيين العلمانيين والتحديثيين قليلو الارتباط بالتقاليد الدينية اليهودية الصارمة، مما خلق تضاداً عميقاً بينهم وبين اليهود الشرقيين المُبعدين عن السلطة والامتيازات الاقتصادية، فقام هؤلاء باستثارة التقاليد الدينية وتجذيرها في الدولة العلمانية المفترضة.
إن هذا الصراع الاجتماعي بين يهود الغرب ويهود الشرق ينعكسُ دينياً، بين شكلين من تبني اليهودية، أي بين يهودية تحديثية وبين يهودية تقليدية.
تناقضات العلمانية واليهودية عميقة، فقد تأسس النظام على أساس سلطة الحاخامات في تحديد من هو اليهودي، واشترطوا شروطاً صعبة ومن أهمها أن يكون اليهودي من أسرة يهودية، وعن طريق أم يهودية، وهو أمرٌ من الصعوبة تحقيقه، خاصة لليهود الشرقيين الذين كان الكثير منهم مسيحيين.
تحديد السكان وأصولهم، وجعل هذه الأصول هي المسيطرة سياسياً، يجعل الدولة دينية غير علمانية، في حين ان ماكينة عمل الدولة تعتمد على الانتخابات الحرة والأحزاب المتصارعة، وهي آلية غربية ديمقراطية.
إن هذه الشروط وطرق العمل السياسي الأساسية تجعل أحزاب الأشكيناز هي المسيطرة، لكنها تؤدي كذلك إلى ردود فعل الأحزاب الدينية الشرقية وتصاعد دورها، فظهر بين اليهود الشرقيين حزب (شاس) المؤثر الذي يمنع الأحزاب العلمانية من التفرد بالسلطة.
فلا يُعرف حقيقة هل إسرائيل دولة علمانية أم دينية، أهي شرقية أم غربية؟
لكن الثروة توحد القوى الرأسمالية فيها سواء أكانت تنتحب كثيراً عند جدار المبكى أم كانت لا تراه إلا في الصور.
ومع تجذرها الرأسمالي الكبير، وقد كان اليهود منذ زمن الكنعانيين رأسماليين في الشرق ثم في الغرب، فإن الصراع لا يدور عن توزيع الثروة فقط، بل أيضاً حول أنصبة الطوائف في حصص الحكم، والأمران يتداخلان ويعينان بعضهما بعضا، الثروة تقود للحكم والحكم يقوي الثروة.
هل تؤدي التقاليد الدينية القوية في الدولة إلى الرجوع للبنى الإقطاعية الشرقية؟
هذا غير ممكن، سواء بجذور اليهود التاريخية التجارية، أو بسبب تعاظم الدور الرأسمالي في دولة أقيمت على أساس صناعي غربي متطور، ولكن مع هذا فإن التقاليد الدينية وتدني مستويات اليهود القادمين من الشرق، تجعل الميراث المحافظ موجوداً بقوة، ويؤججه الصراعُ مع العرب خاصة.
إذاً فإن التناقض الأساسي في الدولة الإسرائيلية هو تناقض ديني بين اليهود الغربيين (الإشكيناز) واليهود الشرقيين (الإسفارديم).
ولماذا لا يحدث التناقض الطبقي هنا ويغدو هو محرك الحياة السياسية؟
هذا يعود إلى ان قيادتي الطائفتين قيادات في الطبقة الرأسمالية الحاكمة نفسها، لكن عبر مستويات اقتصادية واجتماعية متباينة، وبتقاليد مختلفة، تمثل المكونين الأساسيين للسكان، القادمين من الغرب، وللسكان القادمين من الشرق، وهما ذوا مستويين مختلفين رأسماليين، أي أن تطور الرأسمالية اليهودية في الغرب متطور عن مستوى الرأسمالية في الشرق.
ومع هذا فإن المستويين المختلفين اجتماعياً بدرجات معينة يشكلان اختلافات سياسية قوية، فتدخل في الصراع عوامل أخرى كاستثمار العمال في الانتخابات والاستفادة من التقاليد الدينية من أجل الوصول للكراسي على طريقة الجماعات الطائفية في العالم الإسلامي تماماً.
ومن هنا فإن العلمانية تتدمر مرة أخرى فتغدو الدولة دينية ليس على مستوى القمة الحاخامية فقط بل على مستوى القواعد السياسية، في حين ان الدولة صناعية.
وهذا أمرٌ يعود لطبيعة تشكيل الدولة القصير نسبياً، وزراعتها داخل غابة تراثية أسطورية، وعودتها للشرق جسماً وبقسمٍ كبيرٍ من السكان، فالقمة الصناعية رأسمالية متطورة والقاعدة شرقية تقليدية.
بل ان الأمر لا يقتصر على هذا، فوجودُ دولةٍ متغربة عن منطقتها وغازية على جسم سياسي لا يعود إليها، ويقوم هذا الغازي نفسه بغزو آخر يحتل فيه أراضي عربية جديدة، إن ذلك كله يعيده إلى تاريخ الاستعمار الغربي وطريقة الاحتلالات القديمة وهو ما يظهر في حركة الاستيطان.
(فيما تلعب حركة غوش أمونيم المتطرفة التي تعتبر أحد امتدادات الحاخام المتطرف مئير كهانا دورا عنصريا مميزا، وهي التي جندت الدين في خدمة الاستيطان، ولهذا فهي في صراع مع جميع الحكومات من أجل الحصول على امتيازاتها الخاصة في دعم المستوطنات والوجود الاستيطاني في الضفة والقطاع والقدس الشرقية.)، (من كتاب الهامشيون في إسرائيل، د. أسعد غانم).
وتمثل حركة الاستيطان استغلال الدين لغايات اقتصادية وسياسية واضحة، فالحركات الشرقية الدينية تقوم بإلهاب المشاعر الدينية من أجل أغراضها.
إن صراع العلمانية والحركة الدينية قديم في النشاط السياسي لليهود، ففي العصر الحديث وخاصة في أوروبا الغربية ومع هزيمة الأنظمة الإقطاعية الدينية المسيحية أخذت الطائفة اليهودية تطرحُ بقوةٍ على نفسها مسألة الهوية الدينية في عصر علماني غربي هائل؛ فإلى أين تتجه وماذا تكون في عصر الحداثة والاستعمار؟ وهو سؤالٌ مصيري تم طرحه في عقر دار الغرب المتوجه للسيطرة على العالم وحوز كنوزه، وكانت نتائج السؤال خطيرة جداً على وضع اليهود وعلى أمم أخرى لم يكن لها علاقة بذلك السؤال وذلك اللعاب السائل على الثروات، خاصة على اليهودي الشيلوكي الذي يتحين الفرصة للهبر من اللحم. ظهرَ إتجاهٌ علماني قوي في الجماعات اليهودية يطرح حلاً فردياً على كل يهودي؛ (كن يهودياً في بيتك وحداثياً علمانياً في العالم الخارجي).
وهو اتجاهٌ تنويري بين اليهود المثقفين، لكن لا يتطابق مع أوضاع اليهود عامة، فهناك ملايين من اليهود خارج هذه الأسئلة وتعيش عالماً تقليدياً سواء في الشرق أم الغرب. وهكذا فإن حركة علمانية تولدت عبر الثقافة الديمقراطية الغربية السائدة، راحت تدعو إلى العيش التحديثي في الغرب نفسه، وعدم الذوبان كذلك في علمانيته. وكان لها مرادفٌ ديني عند اليهود المتدينين الرافضين للدخول في السياسة والزج باليهود في مشروعات الاستعمار. لكن قوى أخرى تمثل اتجاهات متطرفة رأت ضرورة استمرار الحي اليهودي المنفصل (الجيتو) عن المدنية الغربية الرأسمالية المتطورة التي راحت تزيلُ الأحياءَ الدينية والمذهبية الخاصة، في كلٍ اجتماعي لا يعرف الهوية الدينية بل يعرف الهوية المواطنية، لكن الرأسماليات الغربية كذلك لم تـُزلْ جذورَ حكوماتها المسيحية بطبيعة الحال، وبهذا فإن مشروعات الغزو الاستعماري الغربية قوت الدينية التبشيرية والساحقة لشعوب العالم الثالث (الوثنية)! فكانت تلك العلمانية الغربية – اليهودية مبتورة وزائفة. كان هناك لقاءٌ غيرُ مقدسٍ بين ديانتين سماويتين وصارتا استعماريتين! وبهذا فإن الاتجاهات اليهودية المتطرفة وجدت في نمو الاستعمار قوة جديدة لتصاعد دورها، وخاصة أن بعض اليهود أسسوا شركات كبيرة، بحاجة للتوسع والمواد الخام والمستعمرات! هكذا التحمت حركة (التنوير) اليهودية بالحركة الصهيونية وشكلتا الجسمَ السياسي للأشكناز الذين يديرون الدولة العبرية، فلم يُعدْ اليهودي يهودياً فقط في بيته بل في شارعه ومستعمراته وأراضيه! إن قيادة هذه (الطائفة) بالمعنى السياسي للدولة كما تم توضيحه سابقاً، نقلت اليهودَ إلى مغامرةٍ سياسية عالمية محفوفة بالكثير من المخاطر على الشعوب وعلى اليهود أنفسهم، ولم تستطع أن تكون إسرائيل (جيتو) مناطقيا، منفصلا عن محيطها، ولم يستطع اليهود الغربيون أن يكونوا هم كل سكانها، فحدثت تلك التناقضات السكانية والسياسية المتعددة. فانتقلت السياسة اليهودية من محدودية الجيتو السياسية إلى الذيلية للسياسة الغربية (المسيحية)! وكلتا السياستين التوسعيتين قطعتا جذورهما بالديانتين كديانتين إنسانيتين مازال لهما هذا الطابع عند اتباعهما الذين لم يتلوثوا بجراثيم التوسع، وحتى في إسرائيل ظهر أناسٌ لم يشاركوا في صياغة وتنفيذ هذه السياسات، لكن أدخلوا في جوها وغـُسلت أدمغتهم بفعل عوامل كثيرة. فغدت حركة التنوير اليهودية ظلاماً يرفض أن يتغلغل لتحليل الدين وجذوره، ويكتشف في اليهود بشراً مثل غيرهم، فأحاطت بهم الأسلاك الشائكة الثقافية، وتفجرت حروبُ الاقتحام والاستعمار والاستغلال فعجزوا عن التنور والتماهي مع بقية البشر المسالمين حتى ظهرت حركة سلام إسرائيلية تعارض ذلك التاريخ الدامي. كذلك فإن اليهود الشرقيين الذين تعكزوا عليهم من أجل تضخيم العدد السكاني، جعلوهم في المرتبة السكانية الثانية، فالثالثة يحتلها العرب. ففيما يقيم رأسماليو الإشكناز في إسرائيل في المدن المتطورة ويحصلون على ظروف عيش باذخة، يعيشُ الكثيرُ من اليهود الشرقيين في ظروف الفقر والتمييز. (ويتعرض اليهود الشرقيون إلى محنة واضحة على الصعيد الاجتماعي أيضا، فهم معزولون في أحياء قذرة وفقيرة في إسرائيل، إذ يسكن الكثير منهم في مساكن العرب القديمة التي تم هجرها بسبب النكبة، في الوقت الذي يسكن فيه اليهود الأشكناز في أحياء جديدة راقية بعيدة عن أماكن القاذورات والمناطق الصناعية وفضلاتها، إضافة إلى فوارق في التعليم أيضا.)، (المصدر؛ الهامشيون في دولة إسرائيل). وعبر هذا الفقر والمحدودية الثقافية تستثمر قوى التطرف السياسي الإسرائيلي مثل هذه الأوضاع لخلق حركات يمينية متطرفة، كما ظهر حزب (ليكود) الذي هيمن على السياسة الإسرائيلية خلال سنوات عديدة، وهو أمرٌ يشاركهم فيه جيرانهم العرب كذلك. لقد تنامت الانقساماتُ العميقة في المجتمع الإسرائيلي بفضل سياسة السلام العربية واليهودية، والصراعات الداخلية بين القوى السياسية والدينية: (وهكذا عكست الخريطة السياسية والبرلمانية لأول مرة وبشكل جلي التعددية الإثنية والثقافية في المجتمع الإسرائيلي التي كبتتها الصهيونية لعقود طويلة، وحصرتها في ثلاثة اتجاهات رئيسية هي الصهيونية العمالية ويمثلها حزب العمل، والصهيونية المراجعة ويمثلها حزب الليكود، والصهيونية الدينية ويمثلها حزب المفدال. وكان سلوك هذه الأحزاب الإثنية قطاعيا لدرجة كبيرة، خاصة في أمور مثل اقتسام موازنة الدولة، والصراع على وزارة التعليم بين المتدينين والعلمانيين، والصراع على وزارة الداخلية بين «الروس» – كمهاجرين جدد يريدون تأكيد حقهم في المواطنة على أساس المشاركة في المصير- والمتدينين الأرثوذكس الذين يريدون تحديد هوية المواطن بناء على يهوديته التي يفتقر إليها «الروس».. وهو ما جعل قضايا الصراع الداخلي تحتدم بشدة حول أولويات اجتماعية وثقافية بدت للمحلل بصورة لم تكن بهذا الجلاء في وقت من الأوقات.) موقع إسلام أون لاين. وكما هيمن الاتجاهُ الغربي الإشكنازي السابق الذكر على ميلاد إسرائيل الصهيونية خلال نصف قرن فإن الاتجاهات غير الصهيونية أخذت تتصاعد بقوة لتبدأ تاريخ إسرائيل غير الصهيونية، فمنذ القديم كان هناك قسم من اليهود غير موافق على تشكيل دولة خاصة باليهود، ويعتبرها محرقة تقوم بجمع اليهود لإبادتهم، وهذا الخوف أو الوعي الإنساني، جعل هذا القسم يتعاون مع الحضور العربي الفلسطيني. وقد تكون هذه المخاوف نبوءة ما تجعل قسماً كبيراً من اليهود يتوجهون لسياسة السلام التي بدأت تؤتي ثمارها لولا التطرف المذهبي. كذلك كان اليهود الروس غير المعترف بديانتهم يتطرفون بالدفاع عن هذه اليهودية ولكنهم في عملهم السياسي ينسفون الصهيونية، بقيامهم بخلق مجتمع الإثنيات ذات المصالح المشتركة ويرفضون سيطرة يهود الغرب وعبرهم تم إلغاء تحكم حزبي العمل والليكود في إسرائيل لتظهر خريطة سياسة مختلفة تماماً. وعلى عكس الشائع المتصور فقد لعبتْ السياساتُ العربية القومية والدينية المتطرفة دورها في تقوية المجتمع الإسرائيلي وسياسة حكوماته التوسعية، فمنذ حرب التحرير البائسة سنة 1948حتى آخر الحروب كانت الكوارث تتالى على المجتمعات العربية، وكانت إسرائيل تمتن علاقاتها مع الغرب وتستجلب مساعداته وتعتبر نفسها أداته الحربية، لكن سياسة السلام العربية قلصت هامش المناورة هذا، وجعلت القوى الإسرائيلية تتصارع بقوة، وأوجدت جنين دولة فلسطينية لولا عودة سياسة التطرف الدينية مرة أخرى .
هناك صعوباتٌ شديدة في تشكل مواقف مشتركة للطبقات العاملة في كل من إسرائيل وفلسطين المتداخلتين، فالطبقة الحاكمة في إسرائيل تستغلُ كلاً من البلدين وجمهورهما العامل بضراوة. وفي إسرائيل فإن الطبقة الحاكمة المكونة من سياسيين من قوى علمانية ودينية ثرية تركز في سياسة السيطرة على الضفة وغزة وعدم استقلال فلسطين إلا بشروط مجحفة، فيما تستغل القوى العاملة في إسرائيل المكونة من يهود وعرب.
في حوار أجراه اليساريون العرب المغاربة مع عضو حزب شيوعي إسرائيلي من النمط التروتسكي، يقول: (لقد تغير المجتمع الإسرائيلي كثيرا جدا خلال السنوات الأخيرة. لقد مر وقتٌ كانت فيه إسرائيل قادرة على ضمان التشغيل الكامل وتحسين شروط عيش الشعب الساكن فيها. أما الآن فالبطالة تجاوزت نسبة 10%. الحكومة تعمل دائما على الاقتطاع من النفقات الاجتماعية. هاجمت أنظمة التقاعد، التعليم، الصحة وغيرها. وقد صرنا الآن نرى المتسولين في شوارع إسرائيل! والهوة بين الغني والفقير تتصاعد. إن إسرائيل مجتمع طبقي، مثلها مثل أي بلد آخر. توجد فيه طبقة عاملة، مكونة من اليهود ومن العرب. وتوجد فيه أيضا طبقة سائدة. وهناك صراع طبقي كما يظهر من خلال العديد من الإضرابات)، (حيفا، 18 يوليو 2006).
تحول الحكوماتُ الإسرائيلية المتعاقبة الوضع الفلسطيني وخاصة التطرف فيه لأداة سيطرة عسكرية واستغلال، وعبر الادعاء بكون الفلسطينيين يشكلون خطراً وجودياً على إسرائيل فقد تفاقمت النفقات العسكرية بشكل هائل واقتطعت من عيش الناس، وبهذا فقد غدا حل القضية الفلسطينية ومشاكلها لدى الجمهور الإسرائيلي قضية محورية في حياته وأيدت السياسة السلمية وضغطت في اتجاهها لكن ظهرت جهاتٌ عربية أخرى تواصل تبرير الميزانية العسكرية الخيالية باستمرار المواجهة العنيفة. يقول السياسي اليساري الإسرائيلي: ( إن المسألة القومية تعقد بشكل هائل مهمتنا هنا. فبينما الطبقة العاملة في إسرائيل طبقة مضطهدة من طرف طبقتها السائدة نفسها، فإن إسرائيل كدولة تضطهد شعباً بأسره، أي الشعب الفلسطيني. وطالما بقي الشعب الفلسطيني مضطهداً فإنه لن تكون هناك أي حرية حقيقية للعمال الإسرائيليين. إن النضال من أجل حقوق الشعب الفلسطيني هو جزء لا يتجزأ من نضال العمال الإسرائيليين من أجل تحررهم الخاص).
إن الأوضاع متداخلة بقوة بين فلسطين وإسرائيل، وأي نمو لنضال القوى العاملة في إسرائيل يتطلب التوحد مع نضال الشعب الفلسطيني، والخروج من دوامة الوعي الديني العنصري، في كلا الجانبين، ونجد أن قوى عديدة في الجانبين بدأت تتخذ مواقف عقلانية ومتقاربة، لكن القوى القومية والدينية المتطرفة لا تزال كذلك ذات حضور قوي وتمنع فريقي السلام من العمل المشترك. وإذا قامت القوى الديمقراطية في فلسطين بتطوير وعيها السلمي منذ الرئيس السابق ياسر عرفات ومواصلة أبومازن هذا الخط، فإن هناك ضعفاً كبيراً في الجانب الإسرائيلي لهذا التوجه بسبب ما قلناه من الإرث الشمولي الغائر في الحركة الصهيونية، وبسبب استغلال الجمهور العامل الإسرائيلي والفلسطيني، وخاصة في الجانب العربي لما يتم دفعه من أجور رخيصة لهؤلاء العمال قياساً حتى بالعمال الإسرائيليين، كذلك فإن بقاء التوتر بين الجانبين يجعل القوى المسيطرة العسكرية – الصناعية في قمة المجتمع متحالفة مع الحاخامات! لقد كان التصور الأساسي للمجتمع الإسرائيلي بأن يكون قاعدة سكانية عسكرية في حالة طوارئ مستمرة وعمالاً مفرغين من وعيهم العمالي الإنساني وخاضعين للحركة الصهيونية، وهذا يتطلب سياسة مواجهة دائمة، وإذا لم يوجد طرف يواجه إسرائيل فلا بد من خلقه وتوتيره حتى يندفع للمواجهة! كانت سياسة السلام مؤثرة ومزعجة للأوساط الإسرائيلية الحاكمة، ولهذا تكرست بقوة في سنوات المواجهة، والآن تقوم بمساعدتها القوى والأوساط الدينية والقومية العربية والإسلامية المتطرفة، وتعطيها المبررات لزيادة الإنفاق العسكري وطلب المساعدات وتصوير إسرائيل المحاصرة المخنوقة! ومن هنا فإسرائيل الحاكمة تعمل على بقاء الحد الأدنى من سياسة المواجهة المتوترة كذلك تقوم بالابتزاز في مفاوضات السلام، بحيث تكسب من الجانبين.
وهنا فكلما زادت الأطراف العربية في سياسة السلام ورفضت التنازلات المصيرية، وتوقفت عن سياسة العنف وحركت قوى السلام واليسار الإسرائيليتين فقدت تلك القوى الحاكمة الإسرائيلية أوراقها. خاصة ان هذه السياسة العدوانية الاستعمارية العتيقة تواجه برفض جمهور متسع من الأقليات اليهودية المضطهدة التي تريد العيش وزيادة دخولها بدلاً من أن تموت في حروب مستمرة لهذه الدولة – القاعدة العسكرية. فتبدل الطابع الصهيوني للدولة العنصرية وضخامة الوجود العربي فيها الذي يبلغ 16% من مجموع السكان داخل إسرائيل، أي حوالي مليون عربي، وتمرد اليهود الشرقيين واتساع رقعة اليسار الانتخابات وفي الوجود السياسي عامة. لقد كانت الأحزاب المعارضة في القسم العربي قليلة ولكن مع تزايد تأثير القوى المتشددة فقد ظهر الكثير من الأحزاب وقسمت الأصوات العربية.


