تحقيبٌ إجتماعي لفلسفةِ ألمانيا

خروجُ الفلسفةِ الألمانية من الشكلِ الديني لم يتم كالفلسفاتِ الأوربية في البلدان المتطورة رأسمالياً في القرن التاسع عشر، فلسلسلةُ فلسفاتِ كانط وفيخه وهيجل وشوبنهور وغيرهم حتى القرن العشرين لم تكن سوى فكرة الدين السماوية المطلقة مهيمنةً على هذه الفلسفاتِ الأرضية الذليلة أمام الأكليروس، الشكلُ فكرةٌ فوقيةٌ تهيمنُّ على البشرِ والأرض وسيرورة الأفكار.
الفكرةُ المطلقةُ الهيجلية السرمديةُ المتحولة في الوجود البشري المتنوعِ التاريخي التي تنمو جدلياً أوضحُ شكلٍ فلسفي للدين، وللمثالية، في زمنِ الحداثةِ الرأسمالية التي كانت تُعبدُ الدروبَ للحرية الاجتماعية والسياسية في غرب أوربا للحريات.
الإقطاعُ المهيمن بصورةٍ طويلة مطلقة، ومكّون الإمارات الألمانية الكثيرة، الموّحدةِ عبر دولة كبيرة متخلفة عن جيرانها، والمتجسدُ في الدين، والمعرقل لوجود وتطور البرجوازية في القرن التاسع الألماني، هو مشكل هذه الفلسفات.
قيمةُ الفردِ ودوره المستقل هو بؤرةُ هذا العصر الأوربي لكنه معرقلٌ في ألمانيا، ويتجسدُ ذلك في الفلسفات التي هي ذورةُ فهم البشر للعصر والمجتمع، وقد كان الفيلسوفُ عمانويل كانط هو مفتتحُ هذه الفلسفات التي هزّتْ البشريةَ بإتساعِها وديمومتها ومغامراتها الخطيرة كذلك، لكن الذات عند كانط نجدها ذاتاً فردية محصورة، غيرَ محلِّلةٍ للمكان والزمان الموضوعين، المجردين، والمجسدين في جسم ألمانيا الإقطاعي، وتغدو معرفتها جزئيةً، مُركزةً على ظاهر الشيء، على ظاهر ألمانيا، ويفلتُ الشيءُ في ذاته من المعرفة، وتغدو ألمانيا ذاتاً فردية شاحبةً مقزمة، مجهولة السيرورة التاريخية والتشكل الاجتماعي، والدولةُ الإمبراطورية تفردُ عليها أجنحةَ النسور.
وفيخته الفيلسوف التالي يجعل الفردَ محارةً لا تستقبلُ حتى ذرات الرمل، فلا تخصبُ لؤلؤاً ولا كسراً لبرجزية ذاتية متوقعة في نفسها، غير قادرة على العبور للآخر، وللتغيير الاجتماعي السياسي. وقد صرخَ به طالبٌ حين رمى حجراً على نافذته بإن القوقعة إخُترقت وأن الذات مفتوحة على العالم الخارجي!
هيغل أراد أن يعممَ العمليات التاريخيةَ الكلية في الوجود والمجتمع، عبر حركاتٍ جدلية مُسبقة الصنع من ذاته، ومن خلال عباءة الفكرة المطلقة، حيث تغدو هذه الفكرة هي الدين والدولة وقد تجسدتْ في صناعِها من الإقطاعيين البروسيين هؤلاء الطغاةُ الذين يُختتم بهم هتلر ومحارقُهُ عالمَ ألمانيا القديم.
البرجوازي الصغير المجسدُ في هيغل وهم دائماً صناع الأفكار المتذبذبة، ليس منتمياً لبرجوازية صناعيةٍ محولةٍ للمجتمع الإقطاعي، فهو يعطي مكونات الدين والدولة الإقطاعيين الحركة وسيطرةَ الأعالي والرتب العليا، ويعطي التطورَ الاجتماعي الموضوعي مساراته المختلفة بدون لبهِ من الصراع الاجتماعي.
قدمٌ في اليمين وقدمٌ في اليسار، ولهذا كان ظهورُ اليساريين الهيجليين إنشقاقاً بين البرجوازية غير الناضجة إقتصادياً وسياسياً وبين العامةِ غير المتبلورةِ في طبقةٍ عاملةٍ مستقلة.
ولهذا كانت ثورة 1848 بلا طبقة حقيقية قائدة، كانت الطبقاتُ البرجوازية قد إنتصرتْ في البلدان الرأسمالية المتقدمة، ولكنها عاجزة في ألمانيا حيث تلحفت البرجوازية أرديةَ الإقطاع الثقيلة وهيّمن عليها الضباطُ البروسيين الكبار ورجال الدين المحافظين الذين قادوا توحيدَ ألمانيا بعد ذلك، ليفرض الإقطاعُ سيطرتَه حتى يأتي هتلر فينفجر هذا التحالفُ وتُدمر ألمانيا.
تأخر البرجوازية الألمانية في توحيدِ البلد وتثويره إقتصادياً صناعياً وإجتماعياً فكرياً وغياب تعاونها مع العمال سياسياً وإقتصادياً، أدى إلى هذا الهجين الاجتماعي السياسي المضطرب، وإلى هذه الفلسفات المركزة على الشكل، وعلى القوى العليا المهيمنة، وعلى الأنا المعزولة عن شلالات التحولات الاجتماعية، وعلى تصاعد الأشكال الدينية الشاحبة فكرياً، وأدوات التحليل الظاهرية غير الغائصة في الأعماق ومضامين الظاهرات، والمركزة على السطوح، والتي تغدو الثورات فيها بعد ذلك مغامرات وفوضى، وإنقلابات فاشية قاتلة مدمرة.
يشابهُ التطورُ الألماني التطورَ في بعض الدول العربية والإسلامية حيث التطور الرأسمالي المُعرقل بالإقطاع، والذي يتأزم شيئاً فشيئاً حتى يغدو إنفجارات ويتوجه للانتحار عبر الحروب، عاجزاً عن تطوير بناه الاقتصادية عبر الحداثة والتصنيع الواسع ونشر التنوير والديمقراطية والسلام الاجتماعي.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 03, 2023 01:14
No comments have been added yet.