الوعي والتغيير

تنامت العناصر الديمقراطية في الدولة الإسلامية على مستويي السياسة والوعي بدءًا من العصر الأموي، حيث نفى العديد من المثقفين أفكار الشمولية في الوضع الاجتماعي السياسي والفكر، سواءً بالمطالبة بعودة (الفيء) للناس، أو إزالة هيمنة الخلافة الفردية، وتأكيد حرية الإنسان وتقليص صور الألوهية القدرية على الإرادة العامة، لكن وعي بعض الأفراد من الفئات الوسطى اتجه نحو عروض غيبية للقضايا المطروحة، وعدم الربط بين قضايا المال العام والاستبداد السياسي والمسائل الدينية والفقهية. ولم تتشكل حركات تجمع بين هذه المسائل الفكرية والسياسية المنفصلة لكونها فئات ولم تتشكل كطبقة على أساس صناعي، ويعبر ذلك عن تفكك إرادة الفئات الوسطى والعامة المقامة على إنتاج زراعي يتعرض للتآكل وحِرفي يعيش على بذخ الأغنياء.
لم يكن بإمكان الوعي الديني المثالي التنويري خاصة في علم الكلام المعتزلي أن يشكل تحليلاً لتطور الصراع الاجتماعي، وإستراتيجية موحّدة للفئات الوسطى المنقسمة بين فئاتها وتياراتها، وأن يقرأ الوضع المادي للمجتمع.
إن حركة الأفراد من الفئات الوسطى والشعبية لا تكوّن حركة سياسية اجتماعية عامة، بل تتفكك وتضطرب وتغدو مجردةً، ثم تتشكل عبر فئات دينية مدنية منقسمة ذات مناهج متضادة.
فتسيطر مسائلُ الفقه على المساحة الكبرى من الوعي، فالفقه هو مؤسسُ العبادات والعلاقات المادية والروحية، ضمن مواد الماضي والأحكام الشرعية وتطوراتها المختلفة، حيث يسيطر توجهان، الحكم عبر الرأي والحكم عبر النص السابق.
هو وجود لتيارين مختلفي النمو خاصة حين تزدهر الفئات الوسطى مع تنامي التجارة والأحوال المادية، فيما مدرسة الحديث تعبر عن انكفاء ذلك التطور.
هذا الشكل الأولي من الوعي الذي يكوّن الخريطة الاجتماعية اليومية، والملامح الأولية للأمم الإسلامية في عالمها الأسري والمادي وعلاقاتها السياسية، يعكس مدى التطور الذي تحقق خلال القرنين الهجريين الأولين لكن هذا التطور تلكأ وتوقف ثم حدث تراجع، ولهذا فنصيبُ مدرسة الرأي يتقلص لحساب مدرسة الحديث، كما أن عالم الحرية والقضاء على الاستبداد وإنتاج حياة الرفاهية لا يتحقق، فيظهر شكلٌ آخر من الوعي هو علم الكلام ليقرأ المشكلة.
إن علم الكلام يتشكل من أجل تحليل تلك المواد الأولية من الفقه والتاريخ الإسلامي، ويحدث فيه نفس الانقسام بين وعي يتوجه للتحليل النقدي المطور وتحليل يؤكد المسلمات السائدة.
إن علم الكلام المعتزلي الرائد يرتبط بمقولات الدين ويطرح أفكاراً جزئية فلسفية، تحلل قضايا مثل القدر والحرية والجبر والذرة والإله وصفاته والقرآن وتكوينه، وغيرها من المسائل التي ارتبطت بالوعي المثالي الجزئي، وقد تباين علم الكلام عن الفقه وبدأ في التحليق فوق التحليل المادي للتاريخ، عبر ذبذبة الفئات الوسطى بين النقد الاجتماعي للسلطات السياسية والدينية وبين مسايرتها. تعبر ذروة وأزمة علم الكلام المعتزلي في مسألة خلق القرآن المتأثرة بالطرحين اليهودي والمسيحي عن طفولية الوعي ومثاليته المغامرة وعدم قدرته المفترضة على قراءة القرآن ككتاب نهضوي تحويلي وبالتالي قراءة تطورات الصراعات الاجتماعية العربية، فبدأ هذا العلم مناضلاً وانتهى ذيلياً لقوى النظام المناهضة للحرية والتعددية.
وقد حاولت الفلسفة العربية أن تقرأ الإشكالية ذاتها بأدوات أكثر تطوراً وبغنى فكري أوسع، لكن الفلسفة هي الأخرى ظلت مثالية دينية لا تقرأ سببيات الحياة الاجتماعية والتاريخ لكنها قاربت بعض ذلك لدى ابن رشد وابن خلدون. الأشكال الفكرية من فقه وعلم كلام وفلسفة عبرت عن تكريس الوعي للمحافظة الاجتماعية والانقسامات المذهبية وضعف تنويره وتثويره.
هذا كان مظهراً لعجز الفئات الوسطى والشعبية عن التغيير من داخل المدن، والتغيير كان يحدث دائماً عبر القبائل المسلحة حتى العصر الحديث التي تركز القوة بين يديها، ولهذا ظهرت الثورة العباسية بقيادة الأشراف وقد تغلغلت وسط الجمهور الخراساني الشعبي، وهو الأمر الذي مثّل لحظة تطور مفصلية وأحدث الفترة التحولية الثانية في حياة المسلمين. ثم جاءت التغييرات التفكيكية عبر القبائل المسلحة ولكن للوراء والمؤدية لتدهور أشكال الوعي حتى تسلمت الجيوش الوطنية عمليات التغيير الحديثة في ظل إشكاليات مماثلة وإنجازات متذبذبة أو متدهورة.

تحولاتُ الوعي النهضوي المبكر

لم يستطع الوعي النهضوي العربي المبكر أن يغدو ثقافةَ فئات وسطى غالبة شاملة، فالتكوين التقليدي (الإقطاعي) كان سائداً في الممالك الكبيرة والإمبراطورية العثمانية وسيظل محيطاً بها في أنظمتها غير الصناعية.
ولهذا فإن حركات الوهابية والسنوسية والمهدية كانت إعادة إنتاج للأنظمة التقليدية السابقة بأشكال مذهبية محافظة، كانت إعادة أخرى للعصر التقليدي. ولهذا فإن الجسمَ الواسع من الأمم العربية والإسلامية كان تقليدياُ مسيطراً، ولهذا لم يكن بإمكان التكوينات النهضوية الطالعة سوى أن تتذيل بأشكال متعددة لهذا السائد أو تكون محاصرة ومنهكة.
التكويناتُ التحديثية الصاعدة في المدن الكبيرة كالقاهرة ودمشق وبيروت وإسطنبول وطهران تقوم بنقلِ حداثةٍ محدودة مجلوبة أو منتجة، لفئات وسطى صغيرة محاصرة واكبتها مؤسسات تجارية وحِرفية جعلتها متذبذبة بين الماضي التقليدي والحداثة، بين الإقطاع والرأسمالية، ولهذا أنتجت أشكالاً من المغامرات الفكرية والسياسية غير المرتبطة بجمهور واسع تحديثي صناعي قادر على الانعطاف بها نحو بُنى حداثية متكاملة.
هنا تغدو الحداثة على شكل مغامرات فكرية وسياسية ودعوات خطابية وكتابات مثقفين تفتقد للحاضن الشعبي الفاعل، وتتذبذب بين الطبقات الحاكمة والمحكومة، وبين الاستعمار والشعوب، بين السلطنة والرعية، على طريقة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
النقلةُ التاليةُ تجيءُ بعد هيمنة الاستعمار وتغير البُنى الاجتماعية ودخول صناعات جديدة ووسائل إتصال ونشر وتحجيم بعض المظاهر المتطرفة للإقطاع، وحدوث توسع للفئات الوسطى وظهور أوسع للعمال المشتغلين بأجر، فوجدت النخبُ والمثقفون البارزون بعض الحواضن المدنية لها القادرة على حمل الأفكار الجديدة، التي أصبحت أكثر تجذراً في الحداثة.
الكمالية التركية، والوفدية المصرية، والثورة المشروطية الإيرانية، والثورات العراقية والسورية، كانت تجليات لفاعلية الفئات الوسطى الصاعدة المتلاحمة مع الجمهور، لتوسيع حضور العلاقات الرأسمالية الحديثة لكنها لم تصل للقطع مع الأنظمة التقليدية، وسواء كان ذلك لتردد الفئات الوسطى وعدم رسوخها الصناعي العلمي، أو لهجوم القوى التقليدية، ودعم الاستعمار لها وتثبيته للأبنية التقليدية، فإن الوعي التحديثي ظل جزئياً وبجهود فردية ونخبوية، عاجزاً عن قراءةِ البنية التقليدية السابقة المسيطرة وعجزِ العلاقات الجديدة عن حسم التطور.
جهود لطفي السيد ومحد حسين هيكل وطه حسين وغيرهم وهو الاتجاه الليبرالي الديني، تتداخل وجهود شبلي شميل وسلامة موسى وفرح أنطون وإسماعيل مظهر التحديثية العلمانية، مشكلةً انفصاماً في العقلانية التحديثية حيث لا يكتمل تحليل البنية الإقطاعية الدينية السابقة ولا تُفهم العلاقات الرأسمالية الجديدة، وتستوردُ مناهجٌ ومعارفٌ غربية تريدُ جلبَ بنية رأسمالية كاملة من الخارج.
عجزُ الفئاتِ الوسطى الجديدة هو عجزٌ معرفي ذو جذور مادية اقتصادية محدودة في التصنيع والعلوم.
لهذا تحدث انتصارات للقوى التقليدية الحاكمة عبر إبقاء البنى القديمة وتطعيمها بشيء من التحديث غير الجذري سواء في انتصار الشاه في إيران على قوى الثورة المشروطية وقوى الحداثة أو في صعود المَلكيات الفردية أو بقاء الأنظمة التقليدية في دول الحركات السلفية وتغلغل الاستعمار ودعمه للهياكل الإقطاعية شبه الرأسمالية.
في التحولات الجديدة تواجه المجتمعات أزمات اقتصادية ومعيشية ولا يؤدي الارتباط بالدول الغربية المسيطرة إلى تحول نهضوي عميق وتغيير معيشي كبير كما تقول اللافتات المرفوعة من قبل الدول الغربية، وتضطرب الأحوال وتريد الجماهير أنظمة جديدة، خاصة بعد أزمات الغرب الاقتصادية وتصدع الغرب عبر ظهور(الشيوعية) الروسية، وهنا تتجمد فاعليات الفئات الوسطى ثم تتكسر، وتظهر فاعلياتُ البرجوازيات الصغيرة في حركات الإخوان والقوميين والبعثيين والشيوعيين، طارحة هدم الأنظمة السائدة وظهور أنظمة شمولية تحولية كاسحة.
وتسّرع الحربُ العالمية الثانية بهذا التحول وفيما تظل الفئات الوسطى تنتج ثقافاتها الليبرالية منعطفة أكثر صوب الدين، تعبيراً عن تنامي محافظتها وخفوتها الصدامي وتكسر أدواتُ تحليلها المعرفية، تلجأ البرجوازياتُ الصغيرة إلى التنظيمات السرية ورفع شعارات الاشتراكية المتعددة الألوان وتبدأ قوى الجيوش للتأهب للدخول في حومة السياسة والصراع الاجتماعي، حيث تعجز البرجوازيات الصغيرة عن تحريك الشوارع وخلق ثقافات ديمقراطية تحولية نظراً لعدم إرتباطها بالطبقتين المنتجتين البرجوازية الصناعية والعمال.
ويصبح مفكرو التنوير والحداثة والديمقراطية محدودي العدد، وتضعف ريادة الغرب الديمقراطي للإنسانية خاصة مع إنقساماته وحروبه وضعف قواه الديمقراطية والعمالية، وتضخ الأريافُ والبوادي المأزومة فيض السكان في المدن العربية الإسلامية، ويغدو الرجوع للماضي شكلاً من أشكال هزيمة نموذج التقدم الوحيد الممكن الصعب الرؤية، ولهذا تغدو الانقلابات العسكرية تعبيراً عن عجز ثقافة التحديث في التغلغل للجموع، وفشل الفئات الوسطى لمهمات التصنيع وتغيير الأرياف بأشكال إصلاحية تحولية، وتفقد الأنظمةُ قواعدَها التي تشكلت في نمو المَلكية الديمقراطية والليبرالية، وتؤيد الجماهير الانقلابات العاصفة التي تمثل عواصف سياسية وإجتماعية خطيرة على المدى البعيد تغير سطوح الأنظمة وتعيدها للوراء سياسياً وفكرياً.
وتغدو مشروعات المفكرين للعلمانية والتحديث الديمقراطي أكثر نأياً وتُحضر الأرضية للعودة للعصر الوسيط بصراعاته الدينية والمذهبية.

الوعي الطائفي الوعي الطبقي –

هل يشكل الفكر الطائفي وعياً؟ أليس هو ضد (الوعي)؟ إن المقصود هنا بـ(الوعي) هو أشكال المعرفة التي تظهر وتنمو في الذهن الإنساني باختلاف هذه الأشكال، فنقول الوعي الاسطوري، والوعي الديني، والوعي العلمي، والوعي القومي وغيرها من أشكال تعبر عن بنى فكرية ذهنية تتشكل في حقب التاريخ المختلفة، وفي المجتمعات المتنوعة.
إن كل بنية لها تاريخها والعناصر التي تتألف منها، وقد تعبر التاريخ طويلا بتلك العناصر، وقد تتفكك وتظهر أشكال جديدة تكونت في ظروف مختلفة وبعناصر معرفية جديدة.
وحين ظهر المسلمون لم يكن ثمة ما يسمى الوعي الطائفي، وكانت كلمة (طائفة) تشير إلى جماعة من الناس ليس لها طابع فكري مميز عن غيرها من الجماعات.
كما جاء في القرآن «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلِحُوا بينهما، فإن بغتْ إحداهُما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلِحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المُقسِطين»، سورة (الحجرات/ 9).
كان هناك إذًا الوعي الديني بشكليه الوثني والإسلامي، ولم يكن بإمكان الوعي الإسلامي أن يتجلى بشكل طبقي رغم كونه كذلك من حيث الجوهر الاجتماعي الذي يحمله، باعتباره وعي الجماعات الشعبية الثائرة، بخلاف الوعي الوثني في مكة المعبر عن ملأ قريش الارستقراطي، وبالتالي بقي الوعي الإسلامي مجرداً غير محدد بخصائصه الطبقية، باعتباره وعي الجماعات الشعبية المتكونة من التجار من جهة والفقراء والعبيد من جهة أخرى، وهاتان الجماعتان اللتان تعاونتا معا لتغيير الحال الطبقي السياسي حين شكلتا الدولة انصهرتا سياسيا، رغم أنهما لم تنصهرا طبقيا.
صحيح أن بعض الفقراء أَثروا كثيرا بفضل التحولات السياسية الاجتماعية، إلا أن التمايز الطبقي بقي بينهما، ثم تلاشى مع الفتوح الكبيرة وتبدل الدولة.
هذه اللحظة التوحيدية بين أغنياء وفقراء يسعون إلى نهضة تحولية مشتركة ستكون لحظة مفصلية في التاريخ، ويندر تكرارها، فإذا تكررت فسوف تحدث نهضة ما، حسب الجذور التي نشأت الجماعتان منها في كل مرحلة، فالجذور تتعدد سواء كانت في زمن امبراطورية إسلامية أو في دول دينية منفصلة، أو دولٍ حديثة مستقلة.
طابع الملكية وقوى العمل، وطبيعة التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية التي تشير لإمكانيات العصر، ومستويات الثقافة، كل هذه ستدخل عضويا في أشكال الوعي التوحيدي المغير.
من هنا كان الوعي الديني المؤسس للدولة الإسلامية ذا عناصر مقدسة غيبية يؤمن بها ويعتبرها صانعة التاريخ والأفكار، وموجهة لتدمير كيان وثني متفتت، وبالتالي فإن الجماعة المؤمنة توحيدية مطلقة، فأسس رؤيته على التضاد المطلق بين التوحيد والتفكيك، بين المؤمنين والكفار، وكان جوهره الشعبي العام يراه مطابقا للتوحيد والجذور الإلهية، خاصة مع إلغائه للارستقراطية والملأ والتعالي الطبقي. وبالتالي فإن موقفه الطبقي الديمقراطي توارى وراء شعارية التوحيد، ولم يصنفهُ سياسيا اجتماعيا بحكم وعي المرحلة، لكن تبنيه للأغلبية الشعبية وتوزيعه للخيرات للعامة حسب سورة الحشر الختام التحليلي الاجتماعي للتاريخ الديني المدني، تصوره مطلقا في بقائه التاريخي. فلن تستطيع قوى الأقلية أن تعود مجدداً للحكم، وأن قوى الأغلبية الممسكة بالدولة والواقع ستظل مستمرة، وهذا ما لم يحدث بحكم تفكك الوحدة النضالية تلك، فحين تفككت القوى الشعبية وتصارعت، عادت الارستقراطية من جديد للحكم بشكل إسلامي.
وهو ما لم يفسر اجتماعيا بل فسر بالقدر مجددا حسب الوعي الديني الذي صار رسميا، فيما راحت الأغلبية تبحث عبر مواد وعيها المختلفة، عن تفاسير جديدة غيرِ رسمية وتعكس مصالح الأغلبية.
كان الشكل الاقتصادي غير السائد وهو الغزو قد حل محل الأشكال الانتاجية ومحل التجارة، وفرض نفسه كقوة أساسية وأحدث الفتوحات وراكم الثروات في طبقة وجلب العبيد والجواري، فنشأت طبقتان متضادتان كليا في الغنى أو الفقر، فيما تضاءلت الفئة الوسطى، وبرزت قليلا في الدولة الأموية واتسعت في المركز بعض الشيء في الدولة العباسية غير أنها لم تقم تحالفا متينا على أساس فكري عميق بسبب ارتباطها المصلحي بدولة الخلافة وما تعطيه لها من فتات. ولم تعد تجربة الثورة التأسيسية الإسلامية لأنها لم تقرأ الجذور والبنى الاجتماعية، وتاهت في الأشكال الفكرية المنفصلة عن الواقع التي غدت آراء فكرية ومذاهب وفرقا.
كان الوعي التوحيدي هو أساس النهضة وضم القبائل وتجسد دينيا في كل جماعة مذهبية منقسمة تصورت أنها هي كل المسلمين، فلم تتصور أي جماعة أنها مفككة للوحدة حين تعتبر نفسها كل المؤمنين، وأن تكونها ليس هو جوهرُ الأمة وأساسها، فيما الأخريات من المذاهب غير هذا.
وكان الأساس الفكري هو تصور العقيدة بأنها شيء غيبي خالص، وليست فكرة اجتماعية كذلك، وأنها ضمت في فترة تاريخية انقساما اجتماعيا بين الأغنياء والفقراء لأسباب سياسية اجتماعية مرحلية وكان توحيديا مؤقتا لا يلغي التمايز بين الأغنياء والفقراء، وأن الصراع على السلطة هو صراع اجتماعي وليس دينيا، وأن المتصارعين على السلطة يجب أن يضعوهُ فيما هو اجتماعي وليس فيما هو ديني، فوقع الوعي الإسلامي في اشكاليات راح يتلمس الخروج منها عبر قرون.
لم يستطعْ الوعي الديني الإسلامي التالي لمرحلةِ التأسيسِ إلا أن يكونَ طائفيا.
فقد تشكلتْ الطوائفُ عبر ظهورِ تفاسير متعددةٍ للقرآن والحديث والتاريخ عكستْ صراعاتٍ ومواقفَ سياسيةً تجاه المسألةِ المحوريةِ غيرِ المحلولةِ بشكلٍ ديمقراطي وهي (الصراعُ على السلطة).
وكلُ رؤيةٍ لهذه الصراعاتِ كانت تنسخُ الجوهريَّ المطلقَ غيرَ الاجتماعي من الرؤية العامة الدينية، أي لم تكن تأخذ الرؤيةَ النهضويةَ التي تشكلتْ في الثورة الإسلامية التأسيسية، بل تأخذُ هيكلَها المجردَ وتحيلهُ لجوهرٍ مطلقٍ خارج التحليلِ الاجتماعي السياسي، فلم تكن تر كيف كان التحالفُ الطبقي وكيف أسس التكونَ الديمقراطي الاجتماعي الذي لم يحلهُ إلى تحالف ديمقراطي سياسي، أي لم تنشأ تنظيماتٌ مختلفةٌ تعبرُ عن القسمين الاجتماعيين المختلفين طبقيا، المتحدين سياسيا، بل كانا في كيان واحد، رفض حتى الشكل السياسي المحدد.
ولهذا لم يكن الصحابةُ حزبيين، ولم يوجدْ تنظيمٌ حزبي، وكان هذا الرفضُ الباترُ لفكرةِ الحزبيةِ خوفاً على الكيانِ التوحيدي الهش في ذلك الزمان، الذي كانت خلفهُ كياناتٌ ضخمةٌ من الهياكل القبلية والآراء الوثنية المتجذرة والآراء الدينية المختلفة المناوئة.
وهكذا فإن البناءَ الشمولي تغلغل في التجربة الديمقراطية الاجتماعية بشكلٍ تاريخي مستترٍ متصاعد، وحين عادتْ الارستقراطيةُ للحكم ناقضةً البناءَ الاجتماعي المُقنن دينيا محافظةً على شكلهِ السياسي الشمولي، حدث تصدعٌ هائلٌ في الذهنيةِ المشتركةِ والروحية الجماعية التعاضديةِ بين المسلمين فكأن زلزالا اجتماعيا قد حدث، ولم تسمحْ أدواتُ الوعي المتوافرةِ لمثقفي المسلمين حينذاك أن يفهموا الانقلابَ الاجتماعي السياسي، الذي حاربوه ولكنه سيطر عليهم.
لقد صارعوه من خلال العناصر الفكرية المتاحة لزمنهم، كفكرةِ القدر ونقضها، لكن الانقلابَ الاجتماعي انتصر وساد التاريخ.
إن قوة فكرة التوحيد، والأشكال العبادية والتنظيمات الدينية المصاحبة لها، وأدوات القسر الحكومية، قد جعلت هذه القبائل والأقوام والأمم تتحد وتعيش في كيان سياسي واحد هائل.
إن قوة التوحيد لم يدخل فيها التنوعُ الديمقراطي، وقوى القسر والاستغلال هيمنت بقوة على هذا التوحد السياسي، وعلينا أن نرى أن القرون الثلاثة الأولى من الإسلام ظهرت فيها قوى الصراع الطبقي بقوى هائلة، لكن لم تنعكس على الكيانات التوحيدية، فلم تظهر المذاهب – الطوائف إلا كعناصر فكرية مستقلة، ولم تتحول الأفكارُ إلى طوائفَ مغلقةٍ بعد، والسبب أن فكرة التوحيد كانت جبارة مسيطرة، وبدايات المذاهب كانت فيها تعددية وقبول بالآخر المخلتف، واعتبرتْ أقوال الأئمة الفقهاء كآراء غيرِ ملزمةٍ واجتهادات قابلة للأخذ والرد، فكان الشكلُ السياسي الإمبراطوري صامداً للزمن.
كانت عواملُ التحلل تشتغل بقوة هي الأخرى، فالوعي الديني لم يزلْ متجوهراً على ذاته، والتراكمات تتجه لبلورة كيانات مغلقة شمولية داخلها، فالاجتهاد يقللا مع الزمن، وفصل الوعي الديني عن الفلسفة وعن التاريخ الاجتماعي يجري ويغدو الوعي الديني جوهراً لا تاريخيا إلا في نصوصه المغلقة، والسلطات تحيلُ الأفكارَ الدينيةَ والمحاكمَ إلى قوى ملحقة بها.
من هنا مع الانهيارِ المتدرجِ للشكل السياسي الإمبراطوري وعبر النخر العميق فيه، أخذت المذاهبُ صيغها المغلقة، التي يعبرُ كل واحدٍ منها عن كونهِ الإسلام مطلقاً، فتكونتْ تدريجيا الطوائف.
كانت طائفة مثل الخوارج تعد نفسها كياناً أصيلاً معبراً عن جوهر الخلافة الأولى، لكنها تحللتْ منها عبر شموليتها الحادة ورفضها أي تنوع أو مرونة سياسية، وغدت كيانات صحراوية باترةً للاختلاف والبشر.
وفعلت المذاهبُ ذاتَ الأمر في الكيانات المدنية بشكل أطول وأقل حدة لكن عكست النتيجة نفسها، ففقدتْ الاختلافَ الداخلي الديمقراطي، وفي نهاية المطاف غدت تلوكُ أفكارَها السطحيةَ المتيبسة بفعل فقدان مياه التفكير المتعدد ونسق الحياة المختلف الذي يجري كل يوم.
إن مصالحَ القبائل والأقوامِ والأمم والطبقات في الشكل الإمبراطوري لم تُؤخذ بعين الاعتبار من قبل مراكز الحكم، وكانت الدوائر الفكرية الدينية قد تكلست وتقوقعت، ولم تعد قادرة على إنتاج الجديد، نظراً لأن المقومات المنهجية التي اعتمدت عليها هي منهجيات قطع عن الأبنية الاجتماعية وعن تحليلها ومتابعة تحولاتها، فامتنعت قدرتها على التغيير، وانعكس ذلك على الأبنية السياسية فمن إمبراطورية واحدة ظهرت عشرات الممالك والأقاليم والمناطق المستقلة.
حدث التكلس الكلي، ولم يعد الجديد ممكناً من الداخل، لكن الجديد ظهر في مناطق بشرية أخرى، وجاء وضرب الكيانات العديدة المتجوهرة حول ذواتها، وقيل انها صدمة الحضارة الجديدة، ولكن هل نفذت إلى الداخل؟
المسألة صعبة وطويل
شكلتْ صدمة الحضارةِ الحديثة دوائرَ تحولية صغيرة تجاه الأجسام الاجتماعية المحافظة المهيمنة.
فكانت التياراتُ الجديدةُ المستوحاةُ هي أبنيةٌ صغيرةٌ على ضفافِ تلك الأجسام، التي تكونتْ قرونا وكانت هي ذاتها من أثرِ قرونٍ سابقة.
إذًا سادت أفكارُ الوعي الطائفي خلال القرن العشرين بأكمله، حيث المذهبيةُ كيان اجتماعي سياسي قائم على سيطرات اجتماعية تقليدية في الإنتاج ونظُم الحكم، وتغدو الأفكارُ الداعيةُ للتغييرِ القادمةُ من الغرب مجردَ ذراتٍ أمامَ بحرٍ مالح هائل، وحين تدخلُ فيه تتحولُ مثله.
الأفكارُ التحديثيةُ في الفترة النهضوية الأولى كالوفدية المصرية القائلة إنها ليبرالية، نجدُهَا تقولُ بالتعبير عن (الأمة) المصرية ولا تقولُ إنها برجوازية تعبرُ عن طبقةٍ، فغدتْ بنيةً مغلقةً كلية كالمذهبيات، ونجدها اذ تعترفُ بالعمال تقومُ بإلحاق نقاباتهم بسيطرتها، فيما تقمع الحزب الاشتراكي المصري، وفي النهاية تغدو حزباً للمالكين الكبار من أصحاب الأملاك الزراعية وأصحاب الملايين.
فهيمنتُها على السلطةِ المنتخبةِ نفسِها تحولُها إلى دكتاتورية، بدلاً من نشر الديمقراطية في البناء الاجتماعي، ومع هذا كان الوفدُ أفضلَ من غيره، وغدت النسخُ تكررُ ذاتها.
وبهذا قامت الأحزابُ الكليةُ من مواقع شتى، من موقعِ الشعب أو الأمة، حيث الحزب هو التعبير عن الأمة، أو معبر عن البروليتاريا وتؤسسهُ البرجوازيةُ الصغيرةُ لتقيمَ دكتاتوريةً كلية. والقوميةُ تعبيرٌ كلي آخر عن الأمة وتقيم ذات الدكتاتورية فلا تجعل الشعبَ يتطور ديمقراطيا، وبهذا كله فإن هذه الكليات المتأثرة بالغرب الديمقراطي، لم تستطع أن تكون لا من الغرب ولا من الشرق. هذه الهجانةُ مؤسسة ظلتْ على هامش التكوينات الدينية المحافظة المسيطرة على المجتمعات الإسلامية. وبعد أن اهترأت من القمع والسيطرة على الحكم ومن الحروب لم تعدْ قادرةً على فعلِ شيءٍ رغم سيول التحولات والأحداث.
واستعادتْ الجماعاتُ الدينية الكلية في عالم ديمقراطي مكانتها بعد هذا الانكماش التحديثي والهزيمة لليسار والبرجوازية التحديثية غير المتعاونين اللذين خسرا مكانتيهما بسبب هذا الإلغاء المتبادل بينهما.
علينا هنا أن نتذكر هزيمة التحالف الطبقي بين الأغنياء المتوسطين والفقراء والعبيد بعد الثورة الإسلامية التأسيسية، وكيف خسر الجانبان، بسبب غياب التنظيمات الديمقراطية المتنوعة المتعاونة بينهما.
وكيف استعاد البناءُ الاجتماعي العتيقُ المحافظ الموروث من الجاهلية وما قبلها سيادته على العرب والمسلمين باسم الإسلام.
علينا أن نقرأ التعاقب الدوري كذلك بعد هزيمة القرامطة والخوارج والإسماعيلية بعد الخطابات الحادة لهذه الفرق وعدم إنجازها أي تحول في حياة العاملين والنساء والثقافة العلمية وعودة المحافظين مرةً أخرى ليبقوا قروناً طويلة ويسلموا المسلمين مادةَ نهب للاستعمار الحديث.
إنها تعاقبيةٌ مستمرةٌ بسبب عدم قيام القوى المحوّلة للواقع باستخدام المفاهيم الديمقراطية والعقلانية، والخروج من عالم الطوائف إلى وعي الطبقات، وبقاء تحولاتها قشورية على السطح والسماح بعودة المفاهيم العشائرية القبلية الطائفية نفسها وإلباسها لأجسادٍ ديكوريةٍ (تحديثية).
الآن لدينا القوى الطائفية تقول إنها ديمقراطية وحديثة، تريد أن تخدعنا بعد أكثر من ألف سنة، وتريد المحافظة على ركائز الإقطاع الاجتماعي المذهبي: تخلف النساء وعدم مساواتهن بالرجال، وقمع العقول، وغياب المساواة أمام القانون، ورفض فصل الدين عن السياسة.
في هذا الزمان الراهن حدث تكرار لبعض مظاهر الماضي، وصعدت شموليات عتيقة باطنية ورفضت الديمقراطية داخل البيوت ومع النساء والثقافة والأطفال والعقول والدين والسياسة، لكي تقتنص الحكم والمكاسب من خلال البرلمانات.
يحدث الآن الاختطاف السياسي المتسرع بدون تأثيث ديمقراطي عميق، بدون أن تكون قوى الطبقات والفئات كالعمال والنساء والمثقفين والبرجوازية الوطنية قد أسست نقاباتها ومصالحها ومعارفها وجذورها في الواقع، وتلعب قوى التطرف من اليسار أو اليمين كأدوات للاختطافات المتعددة، وعبر مصالح دول شمولية مهيمنة كذلك، ولهذا فإن البناء الديمقراطي الجديد ينبغي أن يرى كل لوحات التاريخ العربي الإسلامي السابقة، وأهمية تفكيك الشموليات الاجتماعية الراسخة من أجل أن تأتي البرلمانات ثماراً تتوج دور القواعد الشعبية العميق في مختلف البنى العربية والإسلامية، وألا تكرر الحقبةُ الراهنةُ دوراتَ التاريخ المغلقة.

زئبقية الوعي

الفئات الوسطى الصغيرة ذات وعي زئبقي مترجرج متذبذب بين الطبقات المالكة والعاملة.
في زمنية الأزمة تقارب الوعي الوطني واليسار وتزايد عليهما، لهذا كانت أشكال الوعي والأدب والفن مصبوغة بمزايدات دفاعاً عن الكادحين ومقاربة العلمانية ونقد الوعي الميتافيزيقي بلغات متطرفة حماسية زائفة، وحينئذ لم تكن تصنع مقاربة عقلانية من الواقع، وترفض المؤسسات السياسية والدينية بجرة قلم!
كان انحدارها لصفوف العاملين وفقدانها مدخراتها يجعلها تشتط وترفع السلاح الوهمي وتفجر بالونات الهواء ويغدو الشعراء أفواهاً صاخبة تلقي الجمر في الشوارع!
تتغير هذه اللغة مع تصاعد أسعار النفط، وظهور السيارات الخاصة بوفرة، ونمو المنازل الغامضة في البرية، والذي كان يكتب قصصاً عن الولادات العسيرة لنساء الأزقة الفقيرة ويصف العاملين في كوابيس المصانع ويضع أيدي الضحايا في لوحاته يقدم برامج مسلية رخيصة في التلفزيون، ويكتب أناشيد صوفية مدائحية، ولا يرى في الواقع أية أخطاء جسيمة والذي يحشد فئات الفقراء في فصوله الروائية الواعدة ينسحب نحو قواقع الذات والتهويمات الصوفية ويؤيد طوابير المتسولين السياسيين. والذي يؤد نزول الطبقة العاملة الشارع ينزوي في المؤسسة البنكية لا يتنفس خارجها.
ليس ثمة مقاربة عقلانية بأن يطور لغته الصاخبة للزمن الماضي في حفر نقدي عقلاني للواقع، وأن لا يصطخب هذا الصخب كله لليمين ويترنح فوق حبال السياسية والكتل أو يغلق فمه عن أي نقد ويرى الواقع جميلاً كله ويهرب لقضايا السياسة في المنطقة ويطرحها بأشكال أقرب لأدعية الشحاذين، والذي لم يكن يصلي يخرج لصلاة الفجر.
الفئات البرجوازية الصغيرة هي منتجة أشكال الوعي، منها يظهر المتعلمون وقلة منهم عمال، وعليها معتمد صناعة العلوم والثقافة ولكن مع ضياع معايير النقد والعلم تنتشر الأحكام الجائرة، ومن يرفض الزواج بامرأة ثانية نراه متعدد الزوجات كثير الرحلات!
قدرات هذه الفئات أنها توحد الطبقات في مواقف وطنية عقلانية وتجمع بينها وتخفف من تضاداتها، وتخلق جسوراً بين اليمين واليسار، لكن مع ترنحها لمواقف يمينية متطرفة وتركيزها على مصالحها الشخصية وتسلقها في كل مكان ونشرها هذه المعايير في الوعي والصحافة فإن فوضى فكرية سياسية تحدث، وتخرج أفاع التخلف وترتد التيارات للوراء وتضيع ساحات الوطن.
الرواية الواقعية تغدو خرافة والحفر في الواقع يصير انتهازية باحثة عن نقاط الضوء المسرحية والتلاعب بالكلام، والمسرح يغلق أفواهه النقدية وتُعرض المدائح السلطانية في الخطب ولا يعد ثمة موقف نقدي من قضايا الفكر والهجوم عليه، وهذه الفجائع المتطرفة لا تحصل على درس ونقد متبصر من أجل رصانة وأمانة!

الوعي التحديثي وتجاوز التقليدية

الوعي الديني نشأ كوعي تحديثي يحاول التغلب على تخلف الواقع ومصاعب العيش ولكنه لم يتحلل من كل تخلفه، فحمل عناصر التقدم والتخلف معاً، عناصر المادية والمثالية معاً.
رفع حال العاملين والنساء والتجار الصغار تشابك مع إقامة دولة كان لا بد أن تكون عناصرها الشعبية الديمقراطية أقوى من عناصرها الاستغلالية الارستقراطية، أي إلى أي مدى تكون العناصر المناضلة الشعبية قادرةً على الحكم وتوجيه الأحداث، إلى أن تقوى عناصرها الارستقراطية القبلية وتضعف الأخرى وتفقد وحدتها وتماسكها وتضيع بين الأحداث والرموز!
وفيما تستند العناصر الديمقراطية إلى تراث نضالي عربي قديم، متجذر في الجاهلية في القواعد الشعبية، ترتكز العناصر الارستقراطية على هيئات القبائل وقواها العليا وأملاكها وتراثها السائد.
لكن القوى الشعبية تُهزم عامة لكنها لا تهزم كلية، كما أن الأخرى لا تنتصر تماماً لكنها تسود، ويبقى تاريخ الإنسان متعلقاً بظروفه الموضوعية ومستوى فهم قياداته ومدى تراكم العناصر المادية في تراثه الفكري. كانت العناصر النضالية التي ظهرت في الزمن الإسلامي الأول قد ساعدت في ظهور الأمم الإسلامية من بين الأمم الوثنية، وكرست وعيها وتقدمها ووضعت الأسس لسيادة الأرستقراطيات وحضور الطبقات الشعبية حسب فسيفساء هذه الأمم ومدى حضور قواها الفاعلة.
لكن مواقع هذه العناصر الفكرية والاجتماعية والسياسية يتبدل مع تغير التاريخ، وتبدل التشكيلات الانتاجية، فقد غدا التكوين التقليدي لمختلف الطبقات غير قادر على إحداث التقدم المطلوب، وصارت عناصر السيادة الفوقية والانتاج الحرفي الزراعي البيروقراطي غير قادرة على مسايرة التطور العالمي في مؤسساته الاقتصادية والسياسية والفكرية.
لهذا فإن العناصر المادية الجنينية في النشأة الدينية الأولى بحاجة لأن تكون سائدة، فمسائل السلام وحريات النساء والمساواة والديمقراطية بين الأجناس والطبقات ضرورة لوجود الأمم الإسلامية، في حين أن مسائل الغيبيات المتطرفة تغدو الحاجة للتخفيف من هيمنتها وحدتها.
ولهذا يغدو وعي الشباب متلبساً غير مدرك للمراحل التاريخية التي قطعتها الأديان، والتناقضات التي سادت في مسيراتها التاريخية، وكيفية التعامل مع عناصرها المختلفة في الزمن الراهن، بين فصل عناصر مضرة وتصعيد عناصر مفيدة مضيئة.
إنهم يأتون إليها كمادة خام لا يفرقون بين المضيء والمعتم، بين المادي والمثالي، بين الفلسفي العام المغير والميتافيزيقي الجامد المتخلف، بين الديمقراطي والشمولي، بين ما هو منفتح قومياً وما هو متعصب عنصرياً.
بين إرادة الجمع الديمقراطي وإرادة الفرد الجامح الشمولي.
إن الحماس يأخذهم للمغامرات والذوبان في القوى المحافظة، التي تكرس سيادتها الارستقراطية أكثر مما تشكل بيئة ديمقراطية تعاونية.
لهذا فإن الشباب لا يحتاج لكثرة الثرثارات السياسية وتضييع زمنه عبر المقاهي، بقدر ما يحتاج للإنتاج الفكري السياسي، للدرس، وتوسيع وتوزيع قدراته على البحث والفنون والآداب والصناعات، وأن يظهر منه مثقفون كبار وموسوعيون بدلاً أن يتكاثر فيه مشاغبو الشوارع وفوضويوه والفاشلون في التطور السياسي العلمي.

علاقاتُ الوعيين القومي والديني

كوعيين يقومان على هيمنة النخب لا يستثمران العلاقات الواقعية الموضوعية في الحياة، معتمدين على الأبطال المهيمنين والخارقين ومختلطين بأشكال الوعي غير العقلانية، ولهذا فإن الأشكال الديمقراطية وهيمنة القواعد تغدو ضعيفة إن لم تكن معدومة.
لقد اعتمدت الثقافة القومية في الخليج على الإرث الديني العادي بدون قراءات معمقة، فلقد جاورت القوى المحافظة بدون أن تحلل وعيها، ووجدت في بعض الحركات كالقرامطة أو الزنج أشكالاً (ثوريةً) جاهزة تبتعد أو تنفي من خلالها الثقافة الدينية التقليدية والأوضاع الجامدة غير المحللة.
كانت حركات القرامطة والزنج والخوارج نتاج اضطهادات حادة وفوضى اجتماعية وسياسية، واعتمدت على المغامرات العسكرية في ردود أفعالها ولم تؤسس نهضات مستقرة بديلة.
كانت دولة القرامطة محاولةً تعاونية في بدء عملها حيث جعلت بعض وسائل الانتاج ملكيةً عامة ولكن هذه الوسائل تحولت لسيطرةٍ قبلية عليا، ولم يكن ثمة سبيل لتطور ديمقراطي واقتصاد مختلف في ذلك الزمان، وكان شكل الوعي خرافيا كما يظهر ذلك لدى أحد أهم كتاب القرامطة وهو عبدان.
لهذا كان العنف والهجوم على الدول والحجاج ومكة والدخول في تحالف مع الدولة العباسية مدمراً لتطور هذا الوعي القرمطي الواعد.
في حين كان الزنج غير قادرين سوى على تحويل مضطهديهم إلى عبيد.
في العديد من نشرات القوى السياسية المعاصرة في الخليج ثمة استشهادات بتلك القوى وهو أمر يعكس عدم درس التاريخ الإسلامي، فيما بقي الدينيون المحافظون يكررون التاريخ الجامد النصوصي بدون دراسات وحفريات معرفية.
ووجد هؤلاء المعاصرون في حركات فوضوية مثل اقتحام الحرم المكي عملاً نضالياً وهو العمل المغامر الفوضوي ويوضح طبيعة الامتدادات الفكرية المحدودة خلال قرون، كما يعبر عن مستوى القراءات السطحية لدى(الثوريين) المعاصرين.
كان من الاستحالة لأشكال الوعي المباشرة السطحية أن تخترق التاريخ وتفهم سببيات انتصار أسر الأشراف والدول الارستقراطية على العامة والصحابة وسببيات غياب التحالفات ودور الفئات الوسطى وسببيات إخفاقات النهضة، وكون المغامرات شكلاً ماضوياً خطيراً وتكراره في الزمن المعاصر دليل على عدم التطور والدرس، خاصة مع تدهور وعي الجماعات المتعدية على الحرم والمقدسات وفتحها طرق العنف الحادة لقوى عامية شديدة الخطورة.
ولهذا فإن ابتعاد القوى الحديثة عن التغيير وتجاورها مع الجماعات الدينية المحافظة يبين مستوى هذا الوعي الذي جثم بدون تحليلات واعتمد على المواد الجاهزة سواء كانت مغامرة ماضوية أو معاصرة.
ويطرح تطور دول الخليج العربية الإسلامية إشكاليات معقدة تحولية وإنسانية، وتغدو ضرورة الارتكاز على وعي عربي إسلامي تحديثي إنساني، يعالج عمليات التطور عبر التحديث والاستناد على عناصر النهضة والتقدم في ذلك الإرث، فمن عزلة شديدة إلى عولمة حادة، ومن نمو رعوي إلى حداثة مظهرية واستهلاكية شديدة، تحتاج التطورات إلى مواقف وطنية قومية إنسانية غنية الأبعاد وتغدو أشكال التعصب الدينية والقومية انتحاراً.

شكالُ الوعي التي تتردى

في بكارة المدينة العربية المعاصرة والقرية تناءٍ كبير. المدينة بسيطة لا تعرف أشكال الحداثة الأخيرة والقرية تعيش في الماضي.
أشكالُ الوعي التي تظهر في مقالة الجريدة وخطبة النادي وقصيدة الشاعر تقوم بالمقاربة بين المدينة والقرية، لانبثاقها من رؤية الشعب، حيث إن الاستعمار يوحد الناس، يتصادم مع جذورهم التاريخية والواقعية الراهنة، كما أنه يدع السوق مفتوحة للنشاط الخاص وإن كان يجعل قوى العشائر والطوائف مسيطرة على الأوضاع العامة لمساندته.
فئات المثقفين بأشكالها الأدبية والفنية تجعلُ النخبَ الشعبية المدنية والريفية تتقارب، تثير العواطف عن التاريخ والتراث الموحد، تدعو للنهوض، تحمس التجار للعطاء والمشاركة في الانتاجين الثقافي والاقتصادي، ولهذا فإن مصطلحات التوحيد والتنوير شائعة: الوحدة، والنهضة، والنور، والاستقلال، والعروبة.
على الرغم من التخلف في وسائل المواصلات وبساطة المؤسسات وشظف العيش إلا أن تلك الأجيال قدرت على تحريك الكتل السكانية المنقسمة في طوائفها، حيث لم تكن الدول العربية الإسلامية قادرة على التدخلات في شؤون بعضها بعضا، والمؤسسات المذهبية ليست لديها شهية السلطة وفيها متعلمون وطنيون نادرون ولكنهم مؤثرون ولا ينعدم فيها كذلك محافظون يحشدون للطوائف.
أشكال الوعي لم تكن متطورة، فكتابُ الفلسفة على عدد الأصابع، ويحضّرون مواد من عوالم النهضة الغربية، وأشكال الأدب والفن تتطور بسرعة وتبثُ النقدَ تجاه قضايا الحياة والصحافة محدودة وإن كانت الدول الكبيرة تتوسع بها، وعبرها وبنشر الكتب وعبر الإذاعات تغدو المطبوعات مركزاً مهماً للوعي، تنقل الشعارات السياسية للنخب والجمهور بأشكال من التبسيط والانفعال.
المصالح الوطنية المشتركة للشعوب وتركيز الاستعمار على استثمار المواد الخام لأجل مصانعه، والأسواق المحلية لبضائعه، تخلق تناقضات غير قابلة للحل، في مجمل العالم الثالث، الذي يتفجر في معارك التحرر الوطني.
لكن مرحلة الاستقلال تخلق التفكك والصدامات الداخلية، فمهمات التصنيع وتغيير البُنى التقليدية المتخلفة لا تُواجه، والرساميل الناهضة التي تريد إدارة الأسواق لا تُعطى الفرص، والقوى العشائرية والدينية تستلم إدارات الدول.
الرأسماليات الخاصة لم تُشجع من قبل الدول الغربية، وقد عملتْ على بعث الهياكل الإدارية القديمة، حيث تبقي نفس القنوات الاقتصادية السابقة من حيث فتح الأسواق الخارجية وإضعاف التصنيع في الدول المستقلة.
كما أن القوى العشائرية والدينية المتمركزة في البوادي والأرياف المدعمة من قبل الاستعمار اعتمدت على ثقافات قديمة.
وكانت تجارب الدول الشرقية (الاشتراكية) تشجع نفس المسارات ضيقة الأفق، وخلقت أسواقاً مغلقة، ورأسماليات حكومية، مما أضعف التطورات السياسية والاقتصادية الحرة في العالم الثالث، ولم تحللْ تجربةُ دول عدم الانحياز هذا الوضع وتاهت بين اتجاهات تجريبية ورأسماليات حكومية.
هذا ما أدى لتفاقم التناقضات في هذه الدول المستقلة، فالحكومات هيمنت على الاقتصاديات، وتوجهت لصناعات المواد الخام المُصدّرة للدول الغربية، فيما وُجهت القطاعات الخاصة لعروض المواد المستوردة، وهكذا فإن الدولَ الغربية تمكنت من رسم مصائر دول العالم الثالث من خلال بُعد نظر استغلالي.
تفككت أوضاعُ الدول الشرقية فالقياداتُ العائدة للعصر ما قبل الرأسمالي كرست الرأسماليات الحكومية التي تناقضت مع الديمقراطية، وتحول الاقتصاد إلى قطاعات عامة فاشلة وقطاعات خاصة تجارية استهلاكية ناجحة، وهذا أدى لتدهور أشكال الوعي وتفاقم التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في هذه الدول.
وجدت أشكالُ الوعي العائدة لما قبل الرأسمالية والحداثة فرصها في النمو وخلق الاختلالات في البُنى السياسية والاجتماعية، فرؤى الخرافة والأشكال الأدبية العتيقة المتكلسة عادت للظهور، وعادت الأفكار السياسية للطوائف ممزقة الشعوب والدول الإسلامية.
وهذا كله جعل الدول الغربية الكبرى ممسكة بقيادة التحول مستنزفة المواد الخام شبه المصنعة وبائعة السلاح للدول والقوى المتحاربة.
وغدت العودة للمسارات التصنيعية الكبيرة والتحولات العقلانية في السياسة صعبة، لكنها ليست مستحيلة.
انفصال القوميين العرب سنة 1968 بين جناحين (تقليدي) و(جديد) عبر عن أسلوبين لمعالجات التطور السياسي الاجتماعي، بين أسلوب التطور التدريجي ومسايرة الفئات الوسطى الإصلاحية وبين أسلوب القفزات والمغامرة والمعبر عن الجيل الجديد الجامعي في تلك الفترة، والمتأثر بهزيمة يونيو 1967 وبضرورة تجاوزها وبطرح الكفاح المسلح وإقصاء القيادة القومية عن مركزها من قبل الجماعات القومية الجديدة، لكن القيادة التاريخية بقيت في مكانها وتحسست التحولات بصورة أكثر واقعية.
واستطاعت حركة القوميين العرب في الكويت أن تصمد وتتطور معبرةً عن استثمار العناصر الديمقراطية المتراكمة خلال تجارب الكويت عبر محطات مهمة في القرن العشرين.
في عقد الستينيات وما تلاه ركزت الحركة على مسايرة ونقد وتطوير التجربة الديمقراطية الجنينية في الكويت مستثمرة البرلمان ومجلة الطليعة وأدوات العمل الفكرية والسياسية المختلفة.
كان التلاقح مع الفئات الوسطى وعملها السلمي التحويلي المتدرج معمقاً للبرامج السياسية وتحليل جوانب المجتمع المختلفة، من حيث الدفاع عن مصالح الناس في حقول النفط ودعم شركة النفط الوطنية والشركات العامة وطرح برامج لتوجيه الفوائض نحو التصنيع وإنشاء معامل تعتمد على المواد النفطية، وتغيير الحياة الاقتصادية والثقافية للمواطنين وإشاعة الحريات العامة.
لكن مع تصاعد رأسمالية الدولة وتوقف تحولات الرأسمالية الحرة على الصعيد الاقتصادي السياسي تصارعت قوتا الإقطاع السياسي مع تلك الفئات الرأسمالية الصغيرة الداعية للتحولات التحديثية الديمقراطية.
ولهذا جاء تجميد دور مجلس الأمة لفترات عدة إعاقة لهذه التطورات، وكما حدث في بلدان عربية عدة من دور مطلق لرأسمالية الدولة وتصعيد للقوى العشائرية والمذهبية فقد حدث تراجع لتطور التحولات الديمقراطية وحداثة المجتمع، حيث برزت الجوانب الاستهلاكية والبذخية، مما انعكس على تراجع دور القوى القومية والديمقراطية عامة وبروز قوى البداوة وتغلغلها في الحياة السياسية بقوة والعودة بالتطور الاجتماعي السياسي للوراء، وخطورة ذلك تفكك المجتمعات العربية إلى هوياتها الطائفية كما يحدث في سوريا والعراق وغيرهما.
كان هذا يتضافر مع تراجع القوى التحديثية في الدول المجاورة وانفجار الحرب العراقية الإيرانية وغزو الكويت نفسها من قبل النظام العراقي، ورغم الأطروحات المعتدلة للقوى القومية لكن فوضى المنطقة وترجيح نمو القوى الطائفية والعشائرية خلال العقود السابقة جعلها محدودة التأثير في السنوات الأخيرة.
لم تتوقف القوة القومية في الكويت عن لعب دور بناء والدفاع عن مجمل قضايا التنمية والتطور والمشاركة في مختلف انتخابات مجلس الأمة وطرحها الدعوات لتطوير مسيرته عبر منح السلطة التشريعية صلاحيات تشريعية واسعة والحفاظ على الوحدة الوطنية ونبذ استخدام الدعوات الطائفية في العمل السياسي لكن مجمل التراكمات المحافظة التي خُلقت عبر عقود منعت من هذا التحول.
إن غياب البنية الانتاجية الصناعية الواسعة والاعتماد على العمالة الأجنبية والاقتصاديات الاستهلاكية والبذخية وقطع دور الثقافة التنويرية الديمقراطية التي تصاعدت في عقود سابقة، وعدم تغيير بنية رأسمالية الدولة نحو بنية رأسمالية وطنية حرة وتغيير الحياة السياسية تبعاً لذلك جعلت من الكويت مثيلاً لبلدان عربية أخرى رغم بداياتها الديمقراطية المهمة، التي لعبت فيها القوى القومية والديمقراطية دوراً بارزاً في تنميتها.
إن توجيه توظيفات مناسبة للصناعات المناسبة والقوى العمالية التقنية المتطورة ولجم الاستهلاك الواسع التبذيري في ظل ديمقراطية تعددية مدنية كان يمكن أن يمثل إستراتيجية مناسبة للقوى القومية والديمقراطية.

تطورٌ واقعي حذر

في نشأة التيارات الفكرية السياسية عناصرُ أولى أساسية تبدأ معها وتستمر وتُعرف بها، وقدرة أعضائها وكوادرها هي في تنمية هذه العناصر وتطويرها وعزل العناصر السلبية فيها وترسيخ الايجابيات فيها.
وقد كان الاتجاهان الماركسي والقومي في البحرين مصطدمين مختلفين بقوة لكون البلد كان ولا زال بوابة مفتوحة لأهل المنطقة وتجري فيه اللقاءات الخصبة (والسلبية كذلك) بين تيارات المنطقة والعالم.
إصطدام التيارين المذكورين بحدة على مستوى الشارع والحياة اليومية ربما كان أقل حدة مما جرى في بلدان عربية أخرى عرفت الصراعات الدامية ولكنه حمل تأثيراتها وأنفاس ضراوتها.
شكلُ ظهور التيار الماركسي كان ملغماً بالنسبة للتيار القومي الذي رأى فيه انحرافاً، فقد عبر ذلك التيار الإنساني عن انفتاحه على المكونات البشرية والدينية المختلفة، سواء كانوا قادمين من الساحل الإيراني أو من الساحل العماني.
فقد تداخل أولئك المهاجرون بالمواطنين، وصاروا نسيجاً في أحيائها، ولهذا فإذا حملوا أفكاراً وسربوها في المجتمع فإنها تكون خاضعة للنسيج المحلي وللتطور الاجتماعي السياسي الوطني.
وقد كانت الأفكار القومية والماركسية والدينية أفكاراً شائعة تغلغلت وإنتشرت ولكن الأهم هل كانت تعبر عن موديل مستورد جاهز أم شعارات بشرية خاضعة للبنى الوطنية ولمراحل نضال كل شعب؟
لكن الوعي القومي ببكارته في تلك المرحلة كان منزعجاً من الوجود غير العربي الصرف ويعتبره غزواً وتسريباً لنموذج أجنبي خطر.
في حين كان الوعي الآخر يرى بحرنة متنامية لعناصر لم تعد دخيلة، وما كان محورياً هو دور الأفكار الديمقراطية الجديدة في تغيير الحياة الاجتماعية والسياسية.
الوعي القومي كان ينطلق بخلاف ذلك على موديل مستورد فوحدة العرب كان ينقلها بأشكال عاطفية حادة، ويحولها لبرنامج سياسي راهن، ولهذا فهو يرى وحدة البلد أمراً جاهزاً، ومن الضروري الانتقال لوحدة الخليج بل والجزيرة العربية وتغيير أنظمتها وطرد الاستعمار من جميع أقطارها حتى تتحقق الوحدة العربية.
كان يند

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 03, 2023 04:16
No comments have been added yet.