إلياس بلكا's Blog, page 11
December 24, 2013
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (17).. تتمة. المعضلة الروسية.
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (17).. تتمة.
المعضلة الروسية:
تأليف: إلياس بلكانواصل شرح الموضوع:
ثم جاء القرن العشرون وقامت الثورة البولشيفية بروسيا، وتأسس الاتحاد السوفياتي، وضم إليه بلادا واسعة وشعوبا مسلمة كثيرة. ورفعت الشيوعية شعار محاربة الأديان كافة، فتم إقفال المساجد وإلغاء التعليم الديني.. وكانت فترة حرجة كاد فيها الإسلام يندثر.
وجاء الاحتلال السوفياتي لأفغانستان ليضيف جرحا آخر في تاريخ العلاقات الإسلامية-الروسية. إذ من غير المعقول ولا المقبول أن يستمر هذا التمدد الروسي على حساب المسلمين إلى ما لا نهاية، فظهر الجهاد الأفغاني.. ورغم كل أخطاء هذه المقاومة ورغم بعض الظروف الدولية والإقليمية - السلبية- التي نشأت حولها.. فإنه كان من حق الأفغان بل من واجبهم أن يحملوا السلاح دفاعا عن أرضهم وهويتهم واستقلالهم. وأدى الشعب الأفغاني ثمنا باهظا من دمائه وأملاكه واستقلاله.. لكنه في الأخير انتصر. إنما نكأت هذه الحرب الخاطئة جروحا وأشعلت فتنا بين الروس والمسلمين، وأغضبت العالم الإسلامي الذي أحس بأن الروس اعتدوا عليه في عقر داره دون وجه حق، اللهم إلا الرغبة في السيطرة والتسلط.. فهي إمبريالية روسية قومية في ثياب اشتراكية أممية. وأحس هذا العالم أن أمم الغرب والشرق تتكالب عليه وتتآمر.
ثم انهار الاتحاد السوفياتي فجأة، وظن بعض مسلمي القوقاز أن الفرصة مواتية للاستقلال عن موسكو، فثار بعضهم وتمرد، خاصة من الشيشان.. هكذا ظهرت حرب ثانية بالمنطقة طرفاها الروس وبعض المسلمين.
والحق أن معاناة شعوب القوقاز المسلمة من السيطرة الروسية معاناة تاريخية وحقيقية، لكنني أعتقد أن الشيشان أخطؤوا حين حملوا السلاح في وجه روسيا. لقد أغراهم اضطراب الأوضاع بها وضعفها. ولو تأملوا لعرفوا أن روسيا قد تضعف لكنها لا تنهار. فالثور الكبير قد يضعف لكنه لا يسقط.
لذلك كانت النتيجة أن أبيد هذا الشعب الصغير الذي لم يكن مهيأ لمواجهة قوة جبارة هي روسيا، حتى لو أنه استطاع أن يقف في وجهها زمانا.
لقد كانت حرب الشيشان خطأ بكل المقاييس. فقد قُضي على الشيشان المساكين، فأما العالم العربي-الإسلامي فلم ينجدهم بشيء، ولم يفعل شيئا. وأما الغرب فهو كعادته منافق كبير، بعضه شجع الشيشان على الثورة في البداية ثم خذلهم في النهاية.
وقد تركت هذه الحرب آثارا أخرى لا تزال قائمة، ولا تقل خطورة عن الدماء المهدورة. ولا أقصد بهذا استمرار بعض العمليات العسكرية المحدودة، فالروس يقتلون قائدا شيشانيا هنا، والشيشان يلجؤون لخطف رهائن هناك.. أو نحو ذلك..
بل أعني الشروخ النفسية والثقافية التي حصلت داخل روسيا نفسها، بين مسلمي روسيا ومسيحييها.. فهذا صنع هوة بين المواطنين لا تفيد أحدا.. خاصة أن عموم الشعب في روسيا في العقود الأخيرة لم يكن يحمل عداوة حقيقية للإسلام.
يجب على الفكر العربي والإسلامي المعاصر أن يدرس العلاقة المثلى بين العالمين الإسلامي والسلافي-الروسي، وأن ينتج نظرية حقيقية في هذا الموضوع. وفي رأيي أنه يجب أن تكون أركان هذا الموقف وفق الآتي:
1- لا ينبغي اعتبار روسيا عدوا بأي حال من الأحوال، بل يجب التعامل معها باعتبارها بلدا كبيرا لا يمكن إلغاؤه من خارطة العالم وقواه المؤثرة.
2- يجب على مسلمي روسيا الانخراط في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد انخراطا إيجابيا، لا أعني بهذا الذوبان في المحيط الروسي، بل أن يشعر مسلمو روسيا بالمواطنة ويساهموا فيها.. حتى يكون لهم تأثيرهم في مجريات الحياة العامة الروسية.
3- لا يجب اللجوء للسلاح أبدا ضد روسيا وسلطتها المركزية. فهذا أسلوب ثبت عدم جدواه، بل ثبت أنه يضر المسلمين ولا يفيدهم شيئا. وينبغي أن نفهم الفرق بين أفغانستان وبين داغستان مثلا.. ففي الحالة الأولى عندنا دولة مستقلة غزاها الجيش السوفياتي الأجنبي بقوة السلاح، وجميع الأديان وقوانين العالم تعترف هنا بحق الدفاع عن الوطن. أما في الحالة الثانية، فعندنا جمهوريات مسلمة ضمن الاتحاد الفيديرالي الروسي، فإذا أحس المسلمون هنا بمظالم فالواجب أن يسعوا إلى رفعها بالكفاح السلمي وبالأساليب القانونية وبتقوية مركزهم السياسي والثقافي والعلمي والاقتصادي.. أي بممارسة المواطنة لا بهدمها.
4- إن نجاح الديموقراطية في روسيا نجاح للروس أولا، وللمسلمين ثانيا سواء للذين يعيشون داخل روسيا أو في جوارها.
4- على الدول العربية والإسلامية أن تضع في سياساتها حسابا لروسيا، وأن تعترف لها بما يجوز الاعتراف به من مصالحها السياسية والاقتصادية، وأن تدشن معها شراكة حقيقية على جميع المستويات.. ولا ينبغي أن ننسى أن مسلمي روسيا يقدرون بربع السكان، وأن نسبتهم في تزايد.
لقد جاءت أحداث سوريا المؤلمة لتكشف أننا لا يمكن أن نتجاوز روسيا ولا أن نتجاهلها.. لقد أحزننا كثيرا الموقف الروسي الحالي، وهو موقف غبي في منتهى الغباء ولا أخلاقي بالمرة. لكن هذا لا يمنع أن نعترف بأن العرب لم يبذلوا جهدا حقيقيا في فهم الروس وكيف يفكرون ولا في إقناعهم وكسب موقفهم..
أما الذين لا يعرفون – حين تُذكر أمامهم روسيا- إلا الصياح بالجهاد.. فليتقوا الله في المسلمين ودمائهم المعصومة.. وليفهموا قبل أن يتكلموا، وليقرؤوا قبل أن ينطقوا.. إذ فيهم من لا يعرف أي شيء عن تاريخ روسيا وأوضاعها.. ورغم ذلك يفتي في شؤون مسلميها بفتاوى خطرة ومدمرة.
الخلاصة أنه علينا أن نكسب روسيا، وأن نفرض عليها احترامنا واحترام مصالحنا.. بشراكة استراتيجية ذكية وشاملة.. بعيدا عن لغة الحرب والحقد والصراع.. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
Published on December 24, 2013 12:34
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (8).. تتمة. المعضلة الروسية.
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (8).. تتمة.
المعضلة الروسية:
تأليف: إلياس بلكانواصل شرح الموضوع:
ثم جاء القرن العشرون وقامت الثورة البولشيفية بروسيا، وتأسس الاتحاد السوفياتي، وضم إليه بلادا واسعة وشعوبا مسلمة كثيرة. ورفعت الشيوعية شعار محاربة الأديان كافة، فتم إقفال المساجد وإلغاء التعليم الديني.. وكانت فترة حرجة كاد فيها الإسلام يندثر.
وجاء الاحتلال السوفياتي لأفغانستان ليضيف جرحا آخر في تاريخ العلاقات الإسلامية-الروسية. إذ من غير المعقول ولا المقبول أن يستمر هذا التمدد الروسي على حساب المسلمين إلى ما لا نهاية، فظهر الجهاد الأفغاني.. ورغم كل أخطاء هذه المقاومة ورغم بعض الظروف الدولية والإقليمية - السلبية- التي نشأت حولها.. فإنه كان من حق الأفغان بل من واجبهم أن يحملوا السلاح دفاعا عن أرضهم وهويتهم واستقلالهم. وأدى الشعب الأفغاني ثمنا باهظا من دمائه وأملاكه واستقلاله.. لكنه في الأخير انتصر. إنما نكأت هذه الحرب الخاطئة جروحا وأشعلت فتنا بين الروس والمسلمين، وأغضبت العالم الإسلامي الذي أحس بأن الروس اعتدوا عليه في عقر داره دون وجه حق، اللهم إلا الرغبة في السيطرة والتسلط.. فهي إمبريالية روسية قومية في ثياب اشتراكية أممية. وأحس هذا العالم أن أمم الغرب والشرق تتكالب عليه وتتآمر.
ثم انهار الاتحاد السوفياتي فجأة، وظن بعض مسلمي القوقاز أن الفرصة مواتية للاستقلال عن موسكو، فثار بعضهم وتمرد، خاصة من الشيشان.. هكذا ظهرت حرب ثانية بالمنطقة طرفاها الروس وبعض المسلمين.
والحق أن معاناة شعوب القوقاز المسلمة من السيطرة الروسية معاناة تاريخية وحقيقية، لكنني أعتقد أن الشيشان أخطؤوا حين حملوا السلاح في وجه روسيا. لقد أغراهم اضطراب الأوضاع بها وضعفها. ولو تأملوا لعرفوا أن روسيا قد تضعف لكنها لا تنهار. فالثور الكبير قد يضعف لكنه لا يسقط.
لذلك كانت النتيجة أن أبيد هذا الشعب الصغير الذي لم يكن مهيأ لمواجهة قوة جبارة هي روسيا، حتى لو أنه استطاع أن يقف في وجهها زمانا.
لقد كانت حرب الشيشان خطأ بكل المقاييس. فقد قُضي على الشيشان المساكين، فأما العالم العربي-الإسلامي فلم ينجدهم بشيء، ولم يفعل شيئا. وأما الغرب فهو كعادته منافق كبير، بعضه شجع الشيشان على الثورة في البداية ثم خذلهم في النهاية.
وقد تركت هذه الحرب آثارا أخرى لا تزال قائمة، ولا تقل خطورة عن الدماء المهدورة. ولا أقصد بهذا استمرار بعض العمليات العسكرية المحدودة، فالروس يقتلون قائدا شيشانيا هنا، والشيشان يلجؤون لخطف رهائن هناك.. أو نحو ذلك..
بل أعني الشروخ النفسية والثقافية التي حصلت داخل روسيا نفسها، بين مسلمي روسيا ومسيحييها.. فهذا صنع هوة بين المواطنين لا تفيد أحدا.. خاصة أن عموم الشعب في روسيا في العقود الأخيرة لم يكن يحمل عداوة حقيقية للإسلام.
يجب على الفكر العربي والإسلامي المعاصر أن يدرس العلاقة المثلى بين العالمين الإسلامي والسلافي-الروسي، وأن ينتج نظرية حقيقية في هذا الموضوع. وفي رأيي أنه يجب أن تكون أركان هذا الموقف وفق الآتي:
1- لا ينبغي اعتبار روسيا عدوا بأي حال من الأحوال، بل يجب التعامل معها باعتبارها بلدا كبيرا لا يمكن إلغاؤه من خارطة العالم وقواه المؤثرة.
2- يجب على مسلمي روسيا الانخراط في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد انخراطا إيجابيا، لا أعني بهذا الذوبان في المحيط الروسي، بل أن يشعر مسلمو روسيا بالمواطنة ويساهموا فيها.. حتى يكون لهم تأثيرهم في مجريات الحياة العامة الروسية.
3- لا يجب اللجوء للسلاح أبدا ضد روسيا وسلطتها المركزية. فهذا أسلوب ثبت عدم جدواه، بل ثبت أنه يضر المسلمين ولا يفيدهم شيئا. وينبغي أن نفهم الفرق بين أفغانستان وبين داغستان مثلا.. ففي الحالة الأولى عندنا دولة مستقلة غزاها الجيش السوفياتي الأجنبي بقوة السلاح، وجميع الأديان وقوانين العالم تعترف هنا بحق الدفاع عن الوطن. أما في الحالة الثانية، فعندنا جمهوريات مسلمة ضمن الاتحاد الفيديرالي الروسي، فإذا أحس المسلمون هنا بمظالم فالواجب أن يسعوا إلى رفعها بالكفاح السلمي وبالأساليب القانونية وبتقوية مركزهم السياسي والثقافي والعلمي والاقتصادي.. أي بممارسة المواطنة لا بهدمها.
4- إن نجاح الديموقراطية في روسيا نجاح للروس أولا، وللمسلمين ثانيا سواء للذين يعيشون داخل روسيا أو في جوارها.
4- على الدول العربية والإسلامية أن تضع في سياساتها حسابا لروسيا، وأن تعترف لها بما يجوز الاعتراف به من مصالحها السياسية والاقتصادية، وأن تدشن معها شراكة حقيقية على جميع المستويات.. ولا ينبغي أن ننسى أن مسلمي روسيا يقدرون بربع السكان، وأن نسبتهم في تزايد.
لقد جاءت أحداث سوريا المؤلمة لتكشف أننا لا يمكن أن نتجاوز روسيا ولا أن نتجاهلها.. لقد أحزننا كثيرا الموقف الروسي الحالي، وهو موقف غبي في منتهى الغباء ولا أخلاقي بالمرة. لكن هذا لا يمنع أن نعترف بأن العرب لم يبذلوا جهدا حقيقيا في فهم الروس وكيف يفكرون ولا في إقناعهم وكسب موقفهم..
أما الذين لا يعرفون – حين تُذكر أمامهم روسيا- إلا الصياح بالجهاد.. فليتقوا الله في المسلمين ودمائهم المعصومة.. وليفهموا قبل أن يتكلموا، وليقرؤوا قبل أن ينطقوا.. إذ فيهم من لا يعرف أي شيء عن تاريخ روسيا وأوضاعها.. ورغم ذلك يفتي في شؤون مسلميها بفتاوى خطرة ومدمرة.
الخلاصة أنه علينا أن نكسب روسيا، وأن نفرض عليها احترامنا واحترام مصالحنا.. بشراكة استراتيجية ذكية وشاملة.. بعيدا عن لغة الحرب والحقد والصراع.. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
Published on December 24, 2013 12:34
December 22, 2013
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (16). ابن خلدون يتأمل تاريخنا البحري.
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (16).
إلياس بلكاأكتب هنا عن بعض القضايا المهمة التي تحتاج إلى جهود الباحثين والمؤلفين، خاصة من جيل الشباب.. فهي قضايا مهمة بالنسبة لحاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها، بل إن نهضتنا المنشودة تقوم جزئيا على الدراسة العميقة والجادة لهذه المشكلات وأمثالها، وتقديم الحلول المناسبة لها: حلول تراعي الدين وقواعده، دون أن تغفل عن العصر وطبيعته..
ابن خلدون يتأمل تاريخنا البحري: تأليف: إلياس بلكا في يوم 8 نوفمبر 2012 انعقد مؤتمر الحزب الشيوعي الحاكم بالصين. وهو أهم اجتماع لهذا البلد العملاق يتم فيه تحديد السياسات واختيار الرؤساء.. وكان مما أعلنه الرئيس أن الصين ستتحول إلى قوة بحرية، وذلك لمكافئة النفوذ الياباني والأمريكي.. فالآن أصبح للصين سياسة بحرية حقيقية، وستظهر بعض نتائجها في السنين القليلة القادمة. وبهذه المناسبة أرى – والله أعلم- أنه يوجد عامل مهم في تدهور الحضارة الإسلامية ننساه ولم ننتبه له بما يكفي: إن حضارتنا انهزمت في البحر قبل أن تنهزم في البرّ. فأحيانا يبدأ الانتصار من البحر، كما تكون الهزيمة منه أيضا. ومعارك البحر لا تقل خطورة عن معارك البر. سأعرض لهذه الفكرة بتفصيل أكثر في الحلقة القادمة بإذن الله. لكني رأيت أن أمهد للموضوع بعرض آراء ابن خلدون في موضوع القوة البحرية في تاريخنا. فقد كتب هذا المفكر الفذ في صفحات محدودة عصارة للتاريخ البحري الإسلامي، بما له وبما عليه، بنظرة ناقدة فاحصة. وهي من أهم ما كُـتب في المسألة، كما يرى ذلك كريستوف بيكار – المختص بالتاريخ البحري لغرب حوض البحر الأبيض المتوسط في العصر الوسيط -، بل يعتبره من أكثر ما وصلنا دقة وجمعا وتركيبا من مؤرخ عاصر بعض مراحل التاريخ البحري للعالم الإسلامي. بحار العالم الإسلامي: يتصل العالم الإسلامي بستة بحار، وأساس الكتلة المائية يتشكل على هيئة حرف Z اللاتيني حيث امتداد البحر المتوسط والبحر العربي والبحر الأحمر، ثم ترتبط هذه الكتلة بالمحيط الهندي في الشرق وبالأطلسي في الغرب. وهذا يؤهل المنطقة لأن تكون قوة بحرية هائلة. وكذلك كان العالم الإسلامي الوسيط، كما أوضحه ابن خلدون في مقدمته المشهورة. بداية تأسيس البحرية الإسلامية: يدرج ابن خلدون "قيادة الأساطيل" ضمن الوظائف السلطانية. ويشير في البداية إلى اختصاص إفريقية (أي تونس تقريبا حاليا) والمغرب بهذه الخطة، ويعلل ذلك باتصال البلاد بالبحر الرومي (أي المتوسط). إضافة إلى أن سكان سواحل هذا البحر اعتادوا ركوب البحر ومهروا فيه في الحرب والسلم. ويرى ابن خلدون أنه لا توجد فروق بين القوة البرية والقوة البحرية، فالدولة تمر أيضا في عالم البحر بمراحل النشأة ثم الشدة ثم الضعف: في البداية بناء البحرية، وهو ما تمّ في العهد الإسلامي الأول. ثم تأتي مرحلة السيطرة الإسلامية على البحر في عهد الخلافات الكبرى الأموية والفاطمية. والمرحلة الثالثة شهدت تراجعا متواصلا في القوة البحرية للمسلمين لصالح اللاتين. هكذا استهل ابن خلدون الفصل بالحديث عن بدايات اتصال الدولة الإسلامية بالبحر في عهد عمر ومعاوية، وكيف تردد العرب في ركوب البحر لبداوتهم. فلما استقر الملك لهم وملكوا الأمم البحرية تعلموا ركوب البحر فأنشؤوا الأساطيل والمرافئ وصاروا أمة بحرية. ويتوقف صاحبنا عند أبرز دول الإسلام التي كانت لها قوة بحرية، خاصة بالغرب الإسلامي، وهم: العبيديون أو الفاطميون، والأغالبة بإفريقية، والأمويون بالأندلس خاصة أيام عبد الرحمن الناصر، وبالشرق يذكر الأمويين بالشام خاصة. وهذه فترة السيادة البحرية لدول الإسلام. يقول ابن خلدون: "كان المسلمون لعهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه، وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للأمم النصرانية قِـبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه، وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم.." وفي هذه الفترة لم يكن لأوربا إلا بعض الساحل الشمالي الشرقي. ويمتدح ابن خلدون عمل الأمويين حين سيطروا على الإنشاءات البحرية للبيزنطيين بعكا، وأسسوا أول أسطول بأمر من معاوية. والاسم الآخر الذي يذكره هو الخليفة عبد الملك، والسياسة البحرية هنا هي تأسيس مصانع السفن. وفي الأندلس يشير ابن خلدون لعبد الرحمن الناصر الذي بنى أسطولا بحريا قويا بقاعدة ألمرية. وبالنسبة للفاطميين فإن عاصمتهم كانت قاعدة بحرية، وهي المهدية. وآخر قوة بحرية يذكرها ابن خلدون هي للموحدين بالغرب الإسلامي. متى تكون للدولة بحرية قوية؟ وقد هدى العقل الاستقرائي والعملي الذي كان يملكه ابن خلدون.. هداه إلى أن لاحظ أن بناة القوى البحرية في حضارتنا كانوا في الغالب مؤسسي دول الخلافة. أي أن امتلاك قوة بحرية هو بالدرجة الأولى قرار سياسي بالنسبة للدول الكبيرة التي تتمتع بإمكانيات بشرية ومادية معتبرة. لذلك حين لاحظ ابن خلدون أن القوة البحرية الإسلامية في الشرق وَهَنت منذ وقت مبكر نسبيا، إذ "ضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن انقطع، ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد.".. فإن علـّة فقدان السيادة البحرية عنده هي: " عدم عناية الدول بمصر والشام لذلك العهد وما بعده لشأن الأساطيل البحرية والاستعداد منها للدولة." السيادة البحرية تنتقل إلى الغرب الإسلامي: هكذا انتقلت السيادة البحرية للدولة الإسلامية من الشرق إلى الغرب، "فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك، وبقيت بإفريقية والمغرب، فصارت مختصة بها. وكان الجانب الغربي من هذا البحر لهذا العهد موفور الأساطيل، ثابت القوة، لم يتحيّفه عدو ولا كانت لهم به كرّة." وهنا يشير ابن خلدون لأوج القوة البحرية الإسلامية في هذه الفترة في عهد الموحدين، خاصة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن الذي "انتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا من بعد، فيما عهدناه." وهذا ما يفسر استنجاد صلاح الدين الأيوبي بالبحرية الموحدية في مواجهة الصليبيين. بعد التفوق الموحدي، جاء بنو مرين الذين كانت قوتهم البحرية أقل، لكنها حافظت على التوازن البحري مع الممالك المسيحية بحيث كانت القوتان متساويتين. " ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل لضعف الدولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسية، ورجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه والمران عليه.. وصار المسلمون فيه كالأجانب." والأمر الآخر المهم في تفكير ابن خلدون، والذي يشير إليه بيكار، هو أنه لا يعتبر هذا التراجع بسبب تفوق شعوب جنوب أوربا المطلة على البحر وإتقانهم لركوب البحر بالفطرة، خاصة من أهل البندقية وجنوة، كما كان يُعتقد أحيانا.. فالقوة البحرية عند صاحبنا لا تختص بشعب أو بلاد معينين، بل بالدولة نفسها : هل لها سياسة بحرية أم لا، أي هل تملك إرادة بناء قوة بحرية؟ ثم هل تتوفر على الخبرة بالبحر والتي يختزنها البحارة والصانعون وسائر الرجال الذين لهم علاقة بالبحر؟ وهذا وعي متقدم بالموضوع. الجزر وأهميتها الاستراتيجية: كان لابن خلدون معرفة بالجزر واهتمام بها، فهو يقول مثلا في ثنايا حديثه عن البحر الرومي والشامي: "..وفيه جزر كثيرة عامرة كبار مثل أقريطش وقبرص وصقلية وميورقة وسردانية." ذلك لأن ابن خلدون يرى أن لجزر البحر المتوسط أهمية استراتيجية استثنائية، وأن فقد المسلمين لها بالتدريج ساعد كثيرا على تراجع قوتهم، فهي نوع من خط الدفاع الأول عن أراضي اليابسة. ولذلك لما سيطر المسلمون على البحر المتوسط "ملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة وأقريطش وقبرس.." وبالمقابل حين ضعفت البحرية الإسلامية بالشرق الإسلامي، خسروا أول ما خسروا هذه الجزر، حيث " مدّ النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية مثل صقلية وإقريطش ومالطة فملكوها." ثم حين ضعفت بحرية الغرب الإسلامي أيضا خسروا الجزائر التي بالجانب الغربي من البحر الرومي. يتبع..
إلياس بلكاأكتب هنا عن بعض القضايا المهمة التي تحتاج إلى جهود الباحثين والمؤلفين، خاصة من جيل الشباب.. فهي قضايا مهمة بالنسبة لحاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها، بل إن نهضتنا المنشودة تقوم جزئيا على الدراسة العميقة والجادة لهذه المشكلات وأمثالها، وتقديم الحلول المناسبة لها: حلول تراعي الدين وقواعده، دون أن تغفل عن العصر وطبيعته..
ابن خلدون يتأمل تاريخنا البحري: تأليف: إلياس بلكا في يوم 8 نوفمبر 2012 انعقد مؤتمر الحزب الشيوعي الحاكم بالصين. وهو أهم اجتماع لهذا البلد العملاق يتم فيه تحديد السياسات واختيار الرؤساء.. وكان مما أعلنه الرئيس أن الصين ستتحول إلى قوة بحرية، وذلك لمكافئة النفوذ الياباني والأمريكي.. فالآن أصبح للصين سياسة بحرية حقيقية، وستظهر بعض نتائجها في السنين القليلة القادمة. وبهذه المناسبة أرى – والله أعلم- أنه يوجد عامل مهم في تدهور الحضارة الإسلامية ننساه ولم ننتبه له بما يكفي: إن حضارتنا انهزمت في البحر قبل أن تنهزم في البرّ. فأحيانا يبدأ الانتصار من البحر، كما تكون الهزيمة منه أيضا. ومعارك البحر لا تقل خطورة عن معارك البر. سأعرض لهذه الفكرة بتفصيل أكثر في الحلقة القادمة بإذن الله. لكني رأيت أن أمهد للموضوع بعرض آراء ابن خلدون في موضوع القوة البحرية في تاريخنا. فقد كتب هذا المفكر الفذ في صفحات محدودة عصارة للتاريخ البحري الإسلامي، بما له وبما عليه، بنظرة ناقدة فاحصة. وهي من أهم ما كُـتب في المسألة، كما يرى ذلك كريستوف بيكار – المختص بالتاريخ البحري لغرب حوض البحر الأبيض المتوسط في العصر الوسيط -، بل يعتبره من أكثر ما وصلنا دقة وجمعا وتركيبا من مؤرخ عاصر بعض مراحل التاريخ البحري للعالم الإسلامي. بحار العالم الإسلامي: يتصل العالم الإسلامي بستة بحار، وأساس الكتلة المائية يتشكل على هيئة حرف Z اللاتيني حيث امتداد البحر المتوسط والبحر العربي والبحر الأحمر، ثم ترتبط هذه الكتلة بالمحيط الهندي في الشرق وبالأطلسي في الغرب. وهذا يؤهل المنطقة لأن تكون قوة بحرية هائلة. وكذلك كان العالم الإسلامي الوسيط، كما أوضحه ابن خلدون في مقدمته المشهورة. بداية تأسيس البحرية الإسلامية: يدرج ابن خلدون "قيادة الأساطيل" ضمن الوظائف السلطانية. ويشير في البداية إلى اختصاص إفريقية (أي تونس تقريبا حاليا) والمغرب بهذه الخطة، ويعلل ذلك باتصال البلاد بالبحر الرومي (أي المتوسط). إضافة إلى أن سكان سواحل هذا البحر اعتادوا ركوب البحر ومهروا فيه في الحرب والسلم. ويرى ابن خلدون أنه لا توجد فروق بين القوة البرية والقوة البحرية، فالدولة تمر أيضا في عالم البحر بمراحل النشأة ثم الشدة ثم الضعف: في البداية بناء البحرية، وهو ما تمّ في العهد الإسلامي الأول. ثم تأتي مرحلة السيطرة الإسلامية على البحر في عهد الخلافات الكبرى الأموية والفاطمية. والمرحلة الثالثة شهدت تراجعا متواصلا في القوة البحرية للمسلمين لصالح اللاتين. هكذا استهل ابن خلدون الفصل بالحديث عن بدايات اتصال الدولة الإسلامية بالبحر في عهد عمر ومعاوية، وكيف تردد العرب في ركوب البحر لبداوتهم. فلما استقر الملك لهم وملكوا الأمم البحرية تعلموا ركوب البحر فأنشؤوا الأساطيل والمرافئ وصاروا أمة بحرية. ويتوقف صاحبنا عند أبرز دول الإسلام التي كانت لها قوة بحرية، خاصة بالغرب الإسلامي، وهم: العبيديون أو الفاطميون، والأغالبة بإفريقية، والأمويون بالأندلس خاصة أيام عبد الرحمن الناصر، وبالشرق يذكر الأمويين بالشام خاصة. وهذه فترة السيادة البحرية لدول الإسلام. يقول ابن خلدون: "كان المسلمون لعهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه، وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للأمم النصرانية قِـبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه، وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم.." وفي هذه الفترة لم يكن لأوربا إلا بعض الساحل الشمالي الشرقي. ويمتدح ابن خلدون عمل الأمويين حين سيطروا على الإنشاءات البحرية للبيزنطيين بعكا، وأسسوا أول أسطول بأمر من معاوية. والاسم الآخر الذي يذكره هو الخليفة عبد الملك، والسياسة البحرية هنا هي تأسيس مصانع السفن. وفي الأندلس يشير ابن خلدون لعبد الرحمن الناصر الذي بنى أسطولا بحريا قويا بقاعدة ألمرية. وبالنسبة للفاطميين فإن عاصمتهم كانت قاعدة بحرية، وهي المهدية. وآخر قوة بحرية يذكرها ابن خلدون هي للموحدين بالغرب الإسلامي. متى تكون للدولة بحرية قوية؟ وقد هدى العقل الاستقرائي والعملي الذي كان يملكه ابن خلدون.. هداه إلى أن لاحظ أن بناة القوى البحرية في حضارتنا كانوا في الغالب مؤسسي دول الخلافة. أي أن امتلاك قوة بحرية هو بالدرجة الأولى قرار سياسي بالنسبة للدول الكبيرة التي تتمتع بإمكانيات بشرية ومادية معتبرة. لذلك حين لاحظ ابن خلدون أن القوة البحرية الإسلامية في الشرق وَهَنت منذ وقت مبكر نسبيا، إذ "ضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن انقطع، ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد.".. فإن علـّة فقدان السيادة البحرية عنده هي: " عدم عناية الدول بمصر والشام لذلك العهد وما بعده لشأن الأساطيل البحرية والاستعداد منها للدولة." السيادة البحرية تنتقل إلى الغرب الإسلامي: هكذا انتقلت السيادة البحرية للدولة الإسلامية من الشرق إلى الغرب، "فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك، وبقيت بإفريقية والمغرب، فصارت مختصة بها. وكان الجانب الغربي من هذا البحر لهذا العهد موفور الأساطيل، ثابت القوة، لم يتحيّفه عدو ولا كانت لهم به كرّة." وهنا يشير ابن خلدون لأوج القوة البحرية الإسلامية في هذه الفترة في عهد الموحدين، خاصة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن الذي "انتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا من بعد، فيما عهدناه." وهذا ما يفسر استنجاد صلاح الدين الأيوبي بالبحرية الموحدية في مواجهة الصليبيين. بعد التفوق الموحدي، جاء بنو مرين الذين كانت قوتهم البحرية أقل، لكنها حافظت على التوازن البحري مع الممالك المسيحية بحيث كانت القوتان متساويتين. " ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل لضعف الدولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسية، ورجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه والمران عليه.. وصار المسلمون فيه كالأجانب." والأمر الآخر المهم في تفكير ابن خلدون، والذي يشير إليه بيكار، هو أنه لا يعتبر هذا التراجع بسبب تفوق شعوب جنوب أوربا المطلة على البحر وإتقانهم لركوب البحر بالفطرة، خاصة من أهل البندقية وجنوة، كما كان يُعتقد أحيانا.. فالقوة البحرية عند صاحبنا لا تختص بشعب أو بلاد معينين، بل بالدولة نفسها : هل لها سياسة بحرية أم لا، أي هل تملك إرادة بناء قوة بحرية؟ ثم هل تتوفر على الخبرة بالبحر والتي يختزنها البحارة والصانعون وسائر الرجال الذين لهم علاقة بالبحر؟ وهذا وعي متقدم بالموضوع. الجزر وأهميتها الاستراتيجية: كان لابن خلدون معرفة بالجزر واهتمام بها، فهو يقول مثلا في ثنايا حديثه عن البحر الرومي والشامي: "..وفيه جزر كثيرة عامرة كبار مثل أقريطش وقبرص وصقلية وميورقة وسردانية." ذلك لأن ابن خلدون يرى أن لجزر البحر المتوسط أهمية استراتيجية استثنائية، وأن فقد المسلمين لها بالتدريج ساعد كثيرا على تراجع قوتهم، فهي نوع من خط الدفاع الأول عن أراضي اليابسة. ولذلك لما سيطر المسلمون على البحر المتوسط "ملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة وأقريطش وقبرس.." وبالمقابل حين ضعفت البحرية الإسلامية بالشرق الإسلامي، خسروا أول ما خسروا هذه الجزر، حيث " مدّ النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية مثل صقلية وإقريطش ومالطة فملكوها." ثم حين ضعفت بحرية الغرب الإسلامي أيضا خسروا الجزائر التي بالجانب الغربي من البحر الرومي. يتبع..
Published on December 22, 2013 13:19
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (9). ابن خلدون يتأمل تاريخنا البحري.
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (9).
إلياس بلكاأكتب هنا عن بعض القضايا المهمة التي تحتاج إلى جهود الباحثين والمؤلفين، خاصة من جيل الشباب.. فهي قضايا مهمة بالنسبة لحاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها، بل إن نهضتنا المنشودة تقوم جزئيا على الدراسة العميقة والجادة لهذه المشكلات وأمثالها، وتقديم الحلول المناسبة لها: حلول تراعي الدين وقواعده، دون أن تغفل عن العصر وطبيعته..
ابن خلدون يتأمل تاريخنا البحري: تأليف: إلياس بلكا في يوم 8 نوفمبر 2012 انعقد مؤتمر الحزب الشيوعي الحاكم بالصين. وهو أهم اجتماع لهذا البلد العملاق يتم فيه تحديد السياسات واختيار الرؤساء.. وكان مما أعلنه الرئيس أن الصين ستتحول إلى قوة بحرية، وذلك لمكافئة النفوذ الياباني والأمريكي.. فالآن أصبح للصين سياسة بحرية حقيقية، وستظهر بعض نتائجها في السنين القليلة القادمة. وبهذه المناسبة أرى – والله أعلم- أنه يوجد عامل مهم في تدهور الحضارة الإسلامية ننساه ولم ننتبه له بما يكفي: إن حضارتنا انهزمت في البحر قبل أن تنهزم في البرّ. فأحيانا يبدأ الانتصار من البحر، كما تكون الهزيمة منه أيضا. ومعارك البحر لا تقل خطورة عن معارك البر. سأعرض لهذه الفكرة بتفصيل أكثر في الحلقة القادمة بإذن الله. لكني رأيت أن أمهد للموضوع بعرض آراء ابن خلدون في موضوع القوة البحرية في تاريخنا. فقد كتب هذا المفكر الفذ في صفحات محدودة عصارة للتاريخ البحري الإسلامي، بما له وبما عليه، بنظرة ناقدة فاحصة. وهي من أهم ما كُـتب في المسألة، كما يرى ذلك كريستوف بيكار – المختص بالتاريخ البحري لغرب حوض البحر الأبيض المتوسط في العصر الوسيط -، بل يعتبره من أكثر ما وصلنا دقة وجمعا وتركيبا من مؤرخ عاصر بعض مراحل التاريخ البحري للعالم الإسلامي. بحار العالم الإسلامي: يتصل العالم الإسلامي بستة بحار، وأساس الكتلة المائية يتشكل على هيئة حرف Z اللاتيني حيث امتداد البحر المتوسط والبحر العربي والبحر الأحمر، ثم ترتبط هذه الكتلة بالمحيط الهندي في الشرق وبالأطلسي في الغرب. وهذا يؤهل المنطقة لأن تكون قوة بحرية هائلة. وكذلك كان العالم الإسلامي الوسيط، كما أوضحه ابن خلدون في مقدمته المشهورة. بداية تأسيس البحرية الإسلامية: يدرج ابن خلدون "قيادة الأساطيل" ضمن الوظائف السلطانية. ويشير في البداية إلى اختصاص إفريقية (أي تونس تقريبا حاليا) والمغرب بهذه الخطة، ويعلل ذلك باتصال البلاد بالبحر الرومي (أي المتوسط). إضافة إلى أن سكان سواحل هذا البحر اعتادوا ركوب البحر ومهروا فيه في الحرب والسلم. ويرى ابن خلدون أنه لا توجد فروق بين القوة البرية والقوة البحرية، فالدولة تمر أيضا في عالم البحر بمراحل النشأة ثم الشدة ثم الضعف: في البداية بناء البحرية، وهو ما تمّ في العهد الإسلامي الأول. ثم تأتي مرحلة السيطرة الإسلامية على البحر في عهد الخلافات الكبرى الأموية والفاطمية. والمرحلة الثالثة شهدت تراجعا متواصلا في القوة البحرية للمسلمين لصالح اللاتين. هكذا استهل ابن خلدون الفصل بالحديث عن بدايات اتصال الدولة الإسلامية بالبحر في عهد عمر ومعاوية، وكيف تردد العرب في ركوب البحر لبداوتهم. فلما استقر الملك لهم وملكوا الأمم البحرية تعلموا ركوب البحر فأنشؤوا الأساطيل والمرافئ وصاروا أمة بحرية. ويتوقف صاحبنا عند أبرز دول الإسلام التي كانت لها قوة بحرية، خاصة بالغرب الإسلامي، وهم: العبيديون أو الفاطميون، والأغالبة بإفريقية، والأمويون بالأندلس خاصة أيام عبد الرحمن الناصر، وبالشرق يذكر الأمويين بالشام خاصة. وهذه فترة السيادة البحرية لدول الإسلام. يقول ابن خلدون: "كان المسلمون لعهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه، وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للأمم النصرانية قِـبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه، وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم.." وفي هذه الفترة لم يكن لأوربا إلا بعض الساحل الشمالي الشرقي. ويمتدح ابن خلدون عمل الأمويين حين سيطروا على الإنشاءات البحرية للبيزنطيين بعكا، وأسسوا أول أسطول بأمر من معاوية. والاسم الآخر الذي يذكره هو الخليفة عبد الملك، والسياسة البحرية هنا هي تأسيس مصانع السفن. وفي الأندلس يشير ابن خلدون لعبد الرحمن الناصر الذي بنى أسطولا بحريا قويا بقاعدة ألمرية. وبالنسبة للفاطميين فإن عاصمتهم كانت قاعدة بحرية، وهي المهدية. وآخر قوة بحرية يذكرها ابن خلدون هي للموحدين بالغرب الإسلامي. متى تكون للدولة بحرية قوية؟ وقد هدى العقل الاستقرائي والعملي الذي كان يملكه ابن خلدون.. هداه إلى أن لاحظ أن بناة القوى البحرية في حضارتنا كانوا في الغالب مؤسسي دول الخلافة. أي أن امتلاك قوة بحرية هو بالدرجة الأولى قرار سياسي بالنسبة للدول الكبيرة التي تتمتع بإمكانيات بشرية ومادية معتبرة. لذلك حين لاحظ ابن خلدون أن القوة البحرية الإسلامية في الشرق وَهَنت منذ وقت مبكر نسبيا، إذ "ضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن انقطع، ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد.".. فإن علـّة فقدان السيادة البحرية عنده هي: " عدم عناية الدول بمصر والشام لذلك العهد وما بعده لشأن الأساطيل البحرية والاستعداد منها للدولة." السيادة البحرية تنتقل إلى الغرب الإسلامي: هكذا انتقلت السيادة البحرية للدولة الإسلامية من الشرق إلى الغرب، "فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك، وبقيت بإفريقية والمغرب، فصارت مختصة بها. وكان الجانب الغربي من هذا البحر لهذا العهد موفور الأساطيل، ثابت القوة، لم يتحيّفه عدو ولا كانت لهم به كرّة." وهنا يشير ابن خلدون لأوج القوة البحرية الإسلامية في هذه الفترة في عهد الموحدين، خاصة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن الذي "انتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا من بعد، فيما عهدناه." وهذا ما يفسر استنجاد صلاح الدين الأيوبي بالبحرية الموحدية في مواجهة الصليبيين. بعد التفوق الموحدي، جاء بنو مرين الذين كانت قوتهم البحرية أقل، لكنها حافظت على التوازن البحري مع الممالك المسيحية بحيث كانت القوتان متساويتين. " ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل لضعف الدولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسية، ورجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه والمران عليه.. وصار المسلمون فيه كالأجانب." والأمر الآخر المهم في تفكير ابن خلدون، والذي يشير إليه بيكار، هو أنه لا يعتبر هذا التراجع بسبب تفوق شعوب جنوب أوربا المطلة على البحر وإتقانهم لركوب البحر بالفطرة، خاصة من أهل البندقية وجنوة، كما كان يُعتقد أحيانا.. فالقوة البحرية عند صاحبنا لا تختص بشعب أو بلاد معينين، بل بالدولة نفسها : هل لها سياسة بحرية أم لا، أي هل تملك إرادة بناء قوة بحرية؟ ثم هل تتوفر على الخبرة بالبحر والتي يختزنها البحارة والصانعون وسائر الرجال الذين لهم علاقة بالبحر؟ وهذا وعي متقدم بالموضوع. الجزر وأهميتها الاستراتيجية: كان لابن خلدون معرفة بالجزر واهتمام بها، فهو يقول مثلا في ثنايا حديثه عن البحر الرومي والشامي: "..وفيه جزر كثيرة عامرة كبار مثل أقريطش وقبرص وصقلية وميورقة وسردانية." ذلك لأن ابن خلدون يرى أن لجزر البحر المتوسط أهمية استراتيجية استثنائية، وأن فقد المسلمين لها بالتدريج ساعد كثيرا على تراجع قوتهم، فهي نوع من خط الدفاع الأول عن أراضي اليابسة. ولذلك لما سيطر المسلمون على البحر المتوسط "ملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة وأقريطش وقبرس.." وبالمقابل حين ضعفت البحرية الإسلامية بالشرق الإسلامي، خسروا أول ما خسروا هذه الجزر، حيث " مدّ النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية مثل صقلية وإقريطش ومالطة فملكوها." ثم حين ضعفت بحرية الغرب الإسلامي أيضا خسروا الجزائر التي بالجانب الغربي من البحر الرومي. يتبع..
إلياس بلكاأكتب هنا عن بعض القضايا المهمة التي تحتاج إلى جهود الباحثين والمؤلفين، خاصة من جيل الشباب.. فهي قضايا مهمة بالنسبة لحاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها، بل إن نهضتنا المنشودة تقوم جزئيا على الدراسة العميقة والجادة لهذه المشكلات وأمثالها، وتقديم الحلول المناسبة لها: حلول تراعي الدين وقواعده، دون أن تغفل عن العصر وطبيعته..
ابن خلدون يتأمل تاريخنا البحري: تأليف: إلياس بلكا في يوم 8 نوفمبر 2012 انعقد مؤتمر الحزب الشيوعي الحاكم بالصين. وهو أهم اجتماع لهذا البلد العملاق يتم فيه تحديد السياسات واختيار الرؤساء.. وكان مما أعلنه الرئيس أن الصين ستتحول إلى قوة بحرية، وذلك لمكافئة النفوذ الياباني والأمريكي.. فالآن أصبح للصين سياسة بحرية حقيقية، وستظهر بعض نتائجها في السنين القليلة القادمة. وبهذه المناسبة أرى – والله أعلم- أنه يوجد عامل مهم في تدهور الحضارة الإسلامية ننساه ولم ننتبه له بما يكفي: إن حضارتنا انهزمت في البحر قبل أن تنهزم في البرّ. فأحيانا يبدأ الانتصار من البحر، كما تكون الهزيمة منه أيضا. ومعارك البحر لا تقل خطورة عن معارك البر. سأعرض لهذه الفكرة بتفصيل أكثر في الحلقة القادمة بإذن الله. لكني رأيت أن أمهد للموضوع بعرض آراء ابن خلدون في موضوع القوة البحرية في تاريخنا. فقد كتب هذا المفكر الفذ في صفحات محدودة عصارة للتاريخ البحري الإسلامي، بما له وبما عليه، بنظرة ناقدة فاحصة. وهي من أهم ما كُـتب في المسألة، كما يرى ذلك كريستوف بيكار – المختص بالتاريخ البحري لغرب حوض البحر الأبيض المتوسط في العصر الوسيط -، بل يعتبره من أكثر ما وصلنا دقة وجمعا وتركيبا من مؤرخ عاصر بعض مراحل التاريخ البحري للعالم الإسلامي. بحار العالم الإسلامي: يتصل العالم الإسلامي بستة بحار، وأساس الكتلة المائية يتشكل على هيئة حرف Z اللاتيني حيث امتداد البحر المتوسط والبحر العربي والبحر الأحمر، ثم ترتبط هذه الكتلة بالمحيط الهندي في الشرق وبالأطلسي في الغرب. وهذا يؤهل المنطقة لأن تكون قوة بحرية هائلة. وكذلك كان العالم الإسلامي الوسيط، كما أوضحه ابن خلدون في مقدمته المشهورة. بداية تأسيس البحرية الإسلامية: يدرج ابن خلدون "قيادة الأساطيل" ضمن الوظائف السلطانية. ويشير في البداية إلى اختصاص إفريقية (أي تونس تقريبا حاليا) والمغرب بهذه الخطة، ويعلل ذلك باتصال البلاد بالبحر الرومي (أي المتوسط). إضافة إلى أن سكان سواحل هذا البحر اعتادوا ركوب البحر ومهروا فيه في الحرب والسلم. ويرى ابن خلدون أنه لا توجد فروق بين القوة البرية والقوة البحرية، فالدولة تمر أيضا في عالم البحر بمراحل النشأة ثم الشدة ثم الضعف: في البداية بناء البحرية، وهو ما تمّ في العهد الإسلامي الأول. ثم تأتي مرحلة السيطرة الإسلامية على البحر في عهد الخلافات الكبرى الأموية والفاطمية. والمرحلة الثالثة شهدت تراجعا متواصلا في القوة البحرية للمسلمين لصالح اللاتين. هكذا استهل ابن خلدون الفصل بالحديث عن بدايات اتصال الدولة الإسلامية بالبحر في عهد عمر ومعاوية، وكيف تردد العرب في ركوب البحر لبداوتهم. فلما استقر الملك لهم وملكوا الأمم البحرية تعلموا ركوب البحر فأنشؤوا الأساطيل والمرافئ وصاروا أمة بحرية. ويتوقف صاحبنا عند أبرز دول الإسلام التي كانت لها قوة بحرية، خاصة بالغرب الإسلامي، وهم: العبيديون أو الفاطميون، والأغالبة بإفريقية، والأمويون بالأندلس خاصة أيام عبد الرحمن الناصر، وبالشرق يذكر الأمويين بالشام خاصة. وهذه فترة السيادة البحرية لدول الإسلام. يقول ابن خلدون: "كان المسلمون لعهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه، وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للأمم النصرانية قِـبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه، وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم.." وفي هذه الفترة لم يكن لأوربا إلا بعض الساحل الشمالي الشرقي. ويمتدح ابن خلدون عمل الأمويين حين سيطروا على الإنشاءات البحرية للبيزنطيين بعكا، وأسسوا أول أسطول بأمر من معاوية. والاسم الآخر الذي يذكره هو الخليفة عبد الملك، والسياسة البحرية هنا هي تأسيس مصانع السفن. وفي الأندلس يشير ابن خلدون لعبد الرحمن الناصر الذي بنى أسطولا بحريا قويا بقاعدة ألمرية. وبالنسبة للفاطميين فإن عاصمتهم كانت قاعدة بحرية، وهي المهدية. وآخر قوة بحرية يذكرها ابن خلدون هي للموحدين بالغرب الإسلامي. متى تكون للدولة بحرية قوية؟ وقد هدى العقل الاستقرائي والعملي الذي كان يملكه ابن خلدون.. هداه إلى أن لاحظ أن بناة القوى البحرية في حضارتنا كانوا في الغالب مؤسسي دول الخلافة. أي أن امتلاك قوة بحرية هو بالدرجة الأولى قرار سياسي بالنسبة للدول الكبيرة التي تتمتع بإمكانيات بشرية ومادية معتبرة. لذلك حين لاحظ ابن خلدون أن القوة البحرية الإسلامية في الشرق وَهَنت منذ وقت مبكر نسبيا، إذ "ضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن انقطع، ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد.".. فإن علـّة فقدان السيادة البحرية عنده هي: " عدم عناية الدول بمصر والشام لذلك العهد وما بعده لشأن الأساطيل البحرية والاستعداد منها للدولة." السيادة البحرية تنتقل إلى الغرب الإسلامي: هكذا انتقلت السيادة البحرية للدولة الإسلامية من الشرق إلى الغرب، "فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك، وبقيت بإفريقية والمغرب، فصارت مختصة بها. وكان الجانب الغربي من هذا البحر لهذا العهد موفور الأساطيل، ثابت القوة، لم يتحيّفه عدو ولا كانت لهم به كرّة." وهنا يشير ابن خلدون لأوج القوة البحرية الإسلامية في هذه الفترة في عهد الموحدين، خاصة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن الذي "انتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا من بعد، فيما عهدناه." وهذا ما يفسر استنجاد صلاح الدين الأيوبي بالبحرية الموحدية في مواجهة الصليبيين. بعد التفوق الموحدي، جاء بنو مرين الذين كانت قوتهم البحرية أقل، لكنها حافظت على التوازن البحري مع الممالك المسيحية بحيث كانت القوتان متساويتين. " ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل لضعف الدولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسية، ورجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه والمران عليه.. وصار المسلمون فيه كالأجانب." والأمر الآخر المهم في تفكير ابن خلدون، والذي يشير إليه بيكار، هو أنه لا يعتبر هذا التراجع بسبب تفوق شعوب جنوب أوربا المطلة على البحر وإتقانهم لركوب البحر بالفطرة، خاصة من أهل البندقية وجنوة، كما كان يُعتقد أحيانا.. فالقوة البحرية عند صاحبنا لا تختص بشعب أو بلاد معينين، بل بالدولة نفسها : هل لها سياسة بحرية أم لا، أي هل تملك إرادة بناء قوة بحرية؟ ثم هل تتوفر على الخبرة بالبحر والتي يختزنها البحارة والصانعون وسائر الرجال الذين لهم علاقة بالبحر؟ وهذا وعي متقدم بالموضوع. الجزر وأهميتها الاستراتيجية: كان لابن خلدون معرفة بالجزر واهتمام بها، فهو يقول مثلا في ثنايا حديثه عن البحر الرومي والشامي: "..وفيه جزر كثيرة عامرة كبار مثل أقريطش وقبرص وصقلية وميورقة وسردانية." ذلك لأن ابن خلدون يرى أن لجزر البحر المتوسط أهمية استراتيجية استثنائية، وأن فقد المسلمين لها بالتدريج ساعد كثيرا على تراجع قوتهم، فهي نوع من خط الدفاع الأول عن أراضي اليابسة. ولذلك لما سيطر المسلمون على البحر المتوسط "ملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة وأقريطش وقبرس.." وبالمقابل حين ضعفت البحرية الإسلامية بالشرق الإسلامي، خسروا أول ما خسروا هذه الجزر، حيث " مدّ النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية مثل صقلية وإقريطش ومالطة فملكوها." ثم حين ضعفت بحرية الغرب الإسلامي أيضا خسروا الجزائر التي بالجانب الغربي من البحر الرومي. يتبع..
Published on December 22, 2013 13:19
December 17, 2013
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (15). الإسلام والروس.
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (15).
الإسلام والروس: تأليف: إلياس بلكاكنت أرى ولا أزال أننا بحاجة شديدة إلى الانفتاح على العوالم الأخرى غير الغرب ،بشقيه الأوربي والأمريكي .. فنولي اهتماما خاصا لدول الصين واليابان وروسيا وشرق آسيا وإفريقيا السوداء والهند والبرازيل.. ذلك أن مركز الثقل السياسي والاقتصادي في العالم قد بدأ منذ زمان يتحول شيئا فشيئا إلى آسيا بالخصوص.. وعلى الفكر العربي الإسلامي أن يواكب هذا التحول وأن يتعرف بعمق على مجتمعاته الرائدة .. وهذا يقتضي أول ما يقتضي: إتقان لغات هذه الحضارات. ثم من شروط تحقيق التواصل مع هذه الشعوب أن ندرك كيف تنظر إلينا وإلى حضارتنا ، وما هي صورتنا عندهم..وأنت تجد اليوم أن كثيرا من البلاد العربية والإسلامية أعرضت عن أكثر العالم، فبعضها ولى شطره صوب أمريكا، وبعضه صوب أوربا، بل إن بعض البلاد –ومنها المغرب- لا يعرف من أوربا سوى بلدا أو بلدين، والباقي كأنه لا يوجد في خريطة العالم.سنتعرف اليوم على العالم الروسي. ومما لا يعرفه كثير من الناس أن روسيا عرفت الإسلام قبل المسيحية، وذلك حين فتحت بلاد الداغستان في القوقاز في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. ثم استمر الإسلام ينتشر شيئا فشيئا بهذه المناطق بفضل جهود الدعاة والتجار والمتصوفة. وترجع الصلات التجارية بين العرب والروس إلى العهد العباسي الأول. وأول وصف عربي لشعوب الروس والخزر والبلغار كتبه أحمد بن فضلان في رحلته سنة309 هـ.ومازال الإسلام منذ ذلك الحين إلى اليوم عنصرا مؤثرا في السياستين الداخلية والخارجية لروسيا .والروسيون القدامى هم أهم فروع مجموعة بشرية كبيرة هي: السلافيون، والذين تنقسم لغاتهم إلى ثلاثة فصائل كبيرة . وقد دفعت الظروف الحياتية والمناخية الصعبة هذا الشعب إلى التوسع فكان مقر دولته كييف. ثم ما لبث الأمراء الروس أن اختاروا الديانة المسيحية في شكلها الأورثذكسي البيزنطي، لأسباب سياسية عملية.. وهو الاختيار الذي كانت له عواقب كثيرة ،أهمها انعزال روسيا عن سائر أوربا الكاثوليكية من جهة وعن آسيا المسلمة من جهة أخرى .لكن تطورا خطيرا حدث وغير كل شئ في المنطقة، وذلك هو الغزو المغولي- التتري الذي هزم الروس سنة 1233ميلادية ، واحتل أراضيهم لما يزيد على قرنين. وحين غدا الإسلام الدين الرسمي للدولة المغولية التترية عام1312.. ازداد حقد الروس على الغزاة واقتنعوا بأن بلادهم قلعة مسيحية ضد الإسلام. ولهذا اشتد الكفاح الروسي ضد التتار، واستطاعت الدولة الروسية احتلال أهم مدنهم: قازان، فأبادت جل سكانها سنة 1552، وقضت على دولة سيبيريا المسلمة عام 1598.هذه باختصار الأصول التاريخية للتمدد الروسي ولاستراتيجيته التي تشكلت منذ هذه الفترة، وبعض عناصرها استمر إلى القرن العشرين ومنهـا :أولا:التوسع على حساب أراضى المسلمين . ثانيا: ترويس الأمم المغولية وتنصيرها وإلا إبادتها.لكن هذه الاستراتيجية اصطدمت بأكبر عقبة، وهي شعوب القوقاز التي تزعمتها الطريقة النقشبندية طيلة القرن التاسع عشر. وكانت أعنف مقاومة هي تلك التي قادها الإمام شامل بداغستان، والذي وضع إصلاحات مدنية ومالية وعسكرية، فالتفتْ حوله بلاد القوقاز، واستطاع أن يحقق انتصارات كبيرة على الروس، قبل أن يستسلم سنة 1859. ولذلك عرفت العلاقات الروسية - التترية توترا شبه دائم. إذ لم يكتف الروس بالسيطرة السياسية ، بل سلكوا سبيل الاستيطان و تذويب من بقي من التتار بين المحتلين. وتأرجحت الإمبراطورية طويلا بين محاولات التنصير وطمس الهوية، وبين الاعتراف بالحقوق الدينية والثقافية للتتار، وذلك بحسب التصور المهيمن في كل مرحلة بين رجالات الدولة.وقد نشأت بين التتار في نهاية القرن التاسع عشر حركة إسلامية تجديدية واسعة النطاق، من أبرز روادها الشيخ شهاب الدين المرجاني. ويرى الأستاذ العطاوي أن هذه الحركات التي حملت لواء التجديد والاجتهاد سبقت نظيراتها في العالم العربي بعشرات السنين.لكن رغم الصراعات التاريخية لشعوب المنطقة فقد سـادت بينهــا أيضا فترات ســلام وتواصل. وأهم الأساليب التي تعرف الروس عبرها على الحضارة الإسلامية هي: العلاقات التجارية، والرحلات، خاصة زيارة الأماكن المقدسة المسيحية بفلسطين، والبعثات الدبلوماسية، والاستشراق العلمي، والترجمات، والصحافة…..ويوجد مصدر رئيس اعتمده الروس في التعرف على الإسلام، وهو ما كتبه اليونان والبيزنطيون ـ أو ترجموه ـ في الموضوع مما بدأ يظهر في روسيا منذ القرن الحادي عشر. لكن هذه الكتابات التي كانت في أكثرها غير موضوعية أفسدت صورة الإسلام والمسلمين في المخيال الروسي، وأثرت سلبا على مستقبل الاستشراق.. وإن ظهر في القرن السادس عشر مفكرون روس نزهاء خففوا من هذه الصورة ، مثل أندري كوربكسي.والملاحظ أن الأثر العربي في الروس كان في الغالب غير مباشر، أي بطريق شعوب القوقاز المسلمة، فاستعارت اللغة الروسية كلمات كثيرة من العربية، وترجم الكثير من الأدب العربي إلى الروسية عن طريق لغات أخرى كاليونانية. ويعتبر القرن التاسع عشر القرن الذي تجلى فيه بوضوح تأثير القرآن الكريم والآداب العربية في الأدب الروسي.. ومثال بوشكين واضح.هذا بعض ما استفدته من الكتاب القيم للأستاذ عبد الرحيم العطاوي: الاستشراق الروسي. (مدخـل إلى تاريخ الدراسات العربية والإسلامية في روسيا).إن العالم الروسي مهم، وذلك لأسباب كثيرة، ليس منها فقط موقفها الأخير من الثورة السورية، وهو موقف مرفوض جملة وتفصيلا، ولا عذر لروسيا فيه ألبتة... لكن أساسا لأن روسيا دولة محورية على الصعيد الدولي وفي التاريخ الحديث، فهي أكبر بلد في العالم من حيث المساحة، وعدد سكانها حوالي 140 مليون نسمة. وهي دولة لها بعض الصناعات المتطورة كالطيران، وغنية بالموارد الطبيعية بما فيها النفط والغاز. كما أن روسيا على المستوى السياسي دولة غير غربية، بمعنى أنها يمكن أن تحدث بعض التوازن في العلاقات الدولية. والأهم من هذا كله أن عدد المسلمين الذين يعيشون في روسيا يقدر بعشرين مليون نسمة، وأن الحدود الروسية متاخمة لبعض البلدان الإسلامية. وسنرى في العدد القادم بعض نتائج هذه المعلومات.
يتبع..
Published on December 17, 2013 11:24
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (8). الإسلام والروس.
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (8).
الإسلام والروس: تأليف: إلياس بلكاكنت أرى ولا أزال أننا بحاجة شديدة إلى الانفتاح على العوالم الأخرى غير الغرب ،بشقيه الأوربي والأمريكي .. فنولي اهتماما خاصا لدول الصين واليابان وروسيا وشرق آسيا وإفريقيا السوداء والهند والبرازيل.. ذلك أن مركز الثقل السياسي والاقتصادي في العالم قد بدأ منذ زمان يتحول شيئا فشيئا إلى آسيا بالخصوص.. وعلى الفكر العربي الإسلامي أن يواكب هذا التحول وأن يتعرف بعمق على مجتمعاته الرائدة .. وهذا يقتضي أول ما يقتضي: إتقان لغات هذه الحضارات. ثم من شروط تحقيق التواصل مع هذه الشعوب أن ندرك كيف تنظر إلينا وإلى حضارتنا ، وما هي صورتنا عندهم..وأنت تجد اليوم أن كثيرا من البلاد العربية والإسلامية أعرضت عن أكثر العالم، فبعضها ولى شطره صوب أمريكا، وبعضه صوب أوربا، بل إن بعض البلاد –ومنها المغرب- لا يعرف من أوربا سوى بلدا أو بلدين، والباقي كأنه لا يوجد في خريطة العالم.سنتعرف اليوم على العالم الروسي. ومما لا يعرفه كثير من الناس أن روسيا عرفت الإسلام قبل المسيحية، وذلك حين فتحت بلاد الداغستان في القوقاز في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. ثم استمر الإسلام ينتشر شيئا فشيئا بهذه المناطق بفضل جهود الدعاة والتجار والمتصوفة. وترجع الصلات التجارية بين العرب والروس إلى العهد العباسي الأول. وأول وصف عربي لشعوب الروس والخزر والبلغار كتبه أحمد بن فضلان في رحلته سنة309 هـ.ومازال الإسلام منذ ذلك الحين إلى اليوم عنصرا مؤثرا في السياستين الداخلية والخارجية لروسيا .والروسيون القدامى هم أهم فروع مجموعة بشرية كبيرة هي: السلافيون، والذين تنقسم لغاتهم إلى ثلاثة فصائل كبيرة . وقد دفعت الظروف الحياتية والمناخية الصعبة هذا الشعب إلى التوسع فكان مقر دولته كييف. ثم ما لبث الأمراء الروس أن اختاروا الديانة المسيحية في شكلها الأورثذكسي البيزنطي، لأسباب سياسية عملية.. وهو الاختيار الذي كانت له عواقب كثيرة ،أهمها انعزال روسيا عن سائر أوربا الكاثوليكية من جهة وعن آسيا المسلمة من جهة أخرى .لكن تطورا خطيرا حدث وغير كل شئ في المنطقة، وذلك هو الغزو المغولي- التتري الذي هزم الروس سنة 1233ميلادية ، واحتل أراضيهم لما يزيد على قرنين. وحين غدا الإسلام الدين الرسمي للدولة المغولية التترية عام1312.. ازداد حقد الروس على الغزاة واقتنعوا بأن بلادهم قلعة مسيحية ضد الإسلام. ولهذا اشتد الكفاح الروسي ضد التتار، واستطاعت الدولة الروسية احتلال أهم مدنهم: قازان، فأبادت جل سكانها سنة 1552، وقضت على دولة سيبيريا المسلمة عام 1598.هذه باختصار الأصول التاريخية للتمدد الروسي ولاستراتيجيته التي تشكلت منذ هذه الفترة، وبعض عناصرها استمر إلى القرن العشرين ومنهـا :أولا:التوسع على حساب أراضى المسلمين . ثانيا: ترويس الأمم المغولية وتنصيرها وإلا إبادتها.لكن هذه الاستراتيجية اصطدمت بأكبر عقبة، وهي شعوب القوقاز التي تزعمتها الطريقة النقشبندية طيلة القرن التاسع عشر. وكانت أعنف مقاومة هي تلك التي قادها الإمام شامل بداغستان، والذي وضع إصلاحات مدنية ومالية وعسكرية، فالتفتْ حوله بلاد القوقاز، واستطاع أن يحقق انتصارات كبيرة على الروس، قبل أن يستسلم سنة 1859. ولذلك عرفت العلاقات الروسية - التترية توترا شبه دائم. إذ لم يكتف الروس بالسيطرة السياسية ، بل سلكوا سبيل الاستيطان و تذويب من بقي من التتار بين المحتلين. وتأرجحت الإمبراطورية طويلا بين محاولات التنصير وطمس الهوية، وبين الاعتراف بالحقوق الدينية والثقافية للتتار، وذلك بحسب التصور المهيمن في كل مرحلة بين رجالات الدولة.وقد نشأت بين التتار في نهاية القرن التاسع عشر حركة إسلامية تجديدية واسعة النطاق، من أبرز روادها الشيخ شهاب الدين المرجاني. ويرى الأستاذ العطاوي أن هذه الحركات التي حملت لواء التجديد والاجتهاد سبقت نظيراتها في العالم العربي بعشرات السنين.لكن رغم الصراعات التاريخية لشعوب المنطقة فقد سـادت بينهــا أيضا فترات ســلام وتواصل. وأهم الأساليب التي تعرف الروس عبرها على الحضارة الإسلامية هي: العلاقات التجارية، والرحلات، خاصة زيارة الأماكن المقدسة المسيحية بفلسطين، والبعثات الدبلوماسية، والاستشراق العلمي، والترجمات، والصحافة…..ويوجد مصدر رئيس اعتمده الروس في التعرف على الإسلام، وهو ما كتبه اليونان والبيزنطيون ـ أو ترجموه ـ في الموضوع مما بدأ يظهر في روسيا منذ القرن الحادي عشر. لكن هذه الكتابات التي كانت في أكثرها غير موضوعية أفسدت صورة الإسلام والمسلمين في المخيال الروسي، وأثرت سلبا على مستقبل الاستشراق.. وإن ظهر في القرن السادس عشر مفكرون روس نزهاء خففوا من هذه الصورة ، مثل أندري كوربكسي.والملاحظ أن الأثر العربي في الروس كان في الغالب غير مباشر، أي بطريق شعوب القوقاز المسلمة، فاستعارت اللغة الروسية كلمات كثيرة من العربية، وترجم الكثير من الأدب العربي إلى الروسية عن طريق لغات أخرى كاليونانية. ويعتبر القرن التاسع عشر القرن الذي تجلى فيه بوضوح تأثير القرآن الكريم والآداب العربية في الأدب الروسي.. ومثال بوشكين واضح.هذا بعض ما استفدته من الكتاب القيم للأستاذ عبد الرحيم العطاوي: الاستشراق الروسي. (مدخـل إلى تاريخ الدراسات العربية والإسلامية في روسيا).إن العالم الروسي مهم، وذلك لأسباب كثيرة، ليس منها فقط موقفها الأخير من الثورة السورية، وهو موقف مرفوض جملة وتفصيلا، ولا عذر لروسيا فيه ألبتة... لكن أساسا لأن روسيا دولة محورية على الصعيد الدولي وفي التاريخ الحديث، فهي أكبر بلد في العالم من حيث المساحة، وعدد سكانها حوالي 140 مليون نسمة. وهي دولة لها بعض الصناعات المتطورة كالطيران، وغنية بالموارد الطبيعية بما فيها النفط والغاز. كما أن روسيا على المستوى السياسي دولة غير غربية، بمعنى أنها يمكن أن تحدث بعض التوازن في العلاقات الدولية. والأهم من هذا كله أن عدد المسلمين الذين يعيشون في روسيا يقدر بعشرين مليون نسمة، وأن الحدود الروسية متاخمة لبعض البلدان الإسلامية. وسنرى في العدد القادم بعض نتائج هذه المعلومات.
يتبع..
الإسلام والروس: تأليف: إلياس بلكاكنت أرى ولا أزال أننا بحاجة شديدة إلى الانفتاح على العوالم الأخرى غير الغرب ،بشقيه الأوربي والأمريكي .. فنولي اهتماما خاصا لدول الصين واليابان وروسيا وشرق آسيا وإفريقيا السوداء والهند والبرازيل.. ذلك أن مركز الثقل السياسي والاقتصادي في العالم قد بدأ منذ زمان يتحول شيئا فشيئا إلى آسيا بالخصوص.. وعلى الفكر العربي الإسلامي أن يواكب هذا التحول وأن يتعرف بعمق على مجتمعاته الرائدة .. وهذا يقتضي أول ما يقتضي: إتقان لغات هذه الحضارات. ثم من شروط تحقيق التواصل مع هذه الشعوب أن ندرك كيف تنظر إلينا وإلى حضارتنا ، وما هي صورتنا عندهم..وأنت تجد اليوم أن كثيرا من البلاد العربية والإسلامية أعرضت عن أكثر العالم، فبعضها ولى شطره صوب أمريكا، وبعضه صوب أوربا، بل إن بعض البلاد –ومنها المغرب- لا يعرف من أوربا سوى بلدا أو بلدين، والباقي كأنه لا يوجد في خريطة العالم.سنتعرف اليوم على العالم الروسي. ومما لا يعرفه كثير من الناس أن روسيا عرفت الإسلام قبل المسيحية، وذلك حين فتحت بلاد الداغستان في القوقاز في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. ثم استمر الإسلام ينتشر شيئا فشيئا بهذه المناطق بفضل جهود الدعاة والتجار والمتصوفة. وترجع الصلات التجارية بين العرب والروس إلى العهد العباسي الأول. وأول وصف عربي لشعوب الروس والخزر والبلغار كتبه أحمد بن فضلان في رحلته سنة309 هـ.ومازال الإسلام منذ ذلك الحين إلى اليوم عنصرا مؤثرا في السياستين الداخلية والخارجية لروسيا .والروسيون القدامى هم أهم فروع مجموعة بشرية كبيرة هي: السلافيون، والذين تنقسم لغاتهم إلى ثلاثة فصائل كبيرة . وقد دفعت الظروف الحياتية والمناخية الصعبة هذا الشعب إلى التوسع فكان مقر دولته كييف. ثم ما لبث الأمراء الروس أن اختاروا الديانة المسيحية في شكلها الأورثذكسي البيزنطي، لأسباب سياسية عملية.. وهو الاختيار الذي كانت له عواقب كثيرة ،أهمها انعزال روسيا عن سائر أوربا الكاثوليكية من جهة وعن آسيا المسلمة من جهة أخرى .لكن تطورا خطيرا حدث وغير كل شئ في المنطقة، وذلك هو الغزو المغولي- التتري الذي هزم الروس سنة 1233ميلادية ، واحتل أراضيهم لما يزيد على قرنين. وحين غدا الإسلام الدين الرسمي للدولة المغولية التترية عام1312.. ازداد حقد الروس على الغزاة واقتنعوا بأن بلادهم قلعة مسيحية ضد الإسلام. ولهذا اشتد الكفاح الروسي ضد التتار، واستطاعت الدولة الروسية احتلال أهم مدنهم: قازان، فأبادت جل سكانها سنة 1552، وقضت على دولة سيبيريا المسلمة عام 1598.هذه باختصار الأصول التاريخية للتمدد الروسي ولاستراتيجيته التي تشكلت منذ هذه الفترة، وبعض عناصرها استمر إلى القرن العشرين ومنهـا :أولا:التوسع على حساب أراضى المسلمين . ثانيا: ترويس الأمم المغولية وتنصيرها وإلا إبادتها.لكن هذه الاستراتيجية اصطدمت بأكبر عقبة، وهي شعوب القوقاز التي تزعمتها الطريقة النقشبندية طيلة القرن التاسع عشر. وكانت أعنف مقاومة هي تلك التي قادها الإمام شامل بداغستان، والذي وضع إصلاحات مدنية ومالية وعسكرية، فالتفتْ حوله بلاد القوقاز، واستطاع أن يحقق انتصارات كبيرة على الروس، قبل أن يستسلم سنة 1859. ولذلك عرفت العلاقات الروسية - التترية توترا شبه دائم. إذ لم يكتف الروس بالسيطرة السياسية ، بل سلكوا سبيل الاستيطان و تذويب من بقي من التتار بين المحتلين. وتأرجحت الإمبراطورية طويلا بين محاولات التنصير وطمس الهوية، وبين الاعتراف بالحقوق الدينية والثقافية للتتار، وذلك بحسب التصور المهيمن في كل مرحلة بين رجالات الدولة.وقد نشأت بين التتار في نهاية القرن التاسع عشر حركة إسلامية تجديدية واسعة النطاق، من أبرز روادها الشيخ شهاب الدين المرجاني. ويرى الأستاذ العطاوي أن هذه الحركات التي حملت لواء التجديد والاجتهاد سبقت نظيراتها في العالم العربي بعشرات السنين.لكن رغم الصراعات التاريخية لشعوب المنطقة فقد سـادت بينهــا أيضا فترات ســلام وتواصل. وأهم الأساليب التي تعرف الروس عبرها على الحضارة الإسلامية هي: العلاقات التجارية، والرحلات، خاصة زيارة الأماكن المقدسة المسيحية بفلسطين، والبعثات الدبلوماسية، والاستشراق العلمي، والترجمات، والصحافة…..ويوجد مصدر رئيس اعتمده الروس في التعرف على الإسلام، وهو ما كتبه اليونان والبيزنطيون ـ أو ترجموه ـ في الموضوع مما بدأ يظهر في روسيا منذ القرن الحادي عشر. لكن هذه الكتابات التي كانت في أكثرها غير موضوعية أفسدت صورة الإسلام والمسلمين في المخيال الروسي، وأثرت سلبا على مستقبل الاستشراق.. وإن ظهر في القرن السادس عشر مفكرون روس نزهاء خففوا من هذه الصورة ، مثل أندري كوربكسي.والملاحظ أن الأثر العربي في الروس كان في الغالب غير مباشر، أي بطريق شعوب القوقاز المسلمة، فاستعارت اللغة الروسية كلمات كثيرة من العربية، وترجم الكثير من الأدب العربي إلى الروسية عن طريق لغات أخرى كاليونانية. ويعتبر القرن التاسع عشر القرن الذي تجلى فيه بوضوح تأثير القرآن الكريم والآداب العربية في الأدب الروسي.. ومثال بوشكين واضح.هذا بعض ما استفدته من الكتاب القيم للأستاذ عبد الرحيم العطاوي: الاستشراق الروسي. (مدخـل إلى تاريخ الدراسات العربية والإسلامية في روسيا).إن العالم الروسي مهم، وذلك لأسباب كثيرة، ليس منها فقط موقفها الأخير من الثورة السورية، وهو موقف مرفوض جملة وتفصيلا، ولا عذر لروسيا فيه ألبتة... لكن أساسا لأن روسيا دولة محورية على الصعيد الدولي وفي التاريخ الحديث، فهي أكبر بلد في العالم من حيث المساحة، وعدد سكانها حوالي 140 مليون نسمة. وهي دولة لها بعض الصناعات المتطورة كالطيران، وغنية بالموارد الطبيعية بما فيها النفط والغاز. كما أن روسيا على المستوى السياسي دولة غير غربية، بمعنى أنها يمكن أن تحدث بعض التوازن في العلاقات الدولية. والأهم من هذا كله أن عدد المسلمين الذين يعيشون في روسيا يقدر بعشرين مليون نسمة، وأن الحدود الروسية متاخمة لبعض البلدان الإسلامية. وسنرى في العدد القادم بعض نتائج هذه المعلومات.
يتبع..
Published on December 17, 2013 11:24
December 10, 2013
محاضرة بندوة النظريات الفقهية في موضوع الاحتياط باعتباره أصلا فقهيا أونظرية فقهية.
محاضرة لي في موضوع الاحتياط الفقهي بندوة النظريات الفقهية بمسقط عاصمة عُمان.
تبدأ في الفيديو على الدقيقة 15,00. ثم الأسئلة والأجوبة في نهاية الشريط.http://www.youtube.com/watch?v=gfcpx43eVNc&list=PLB904EE2337B26742&index=40
Published on December 10, 2013 06:37
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (14). أسئلة المواطنة والدولة في الإسلام.
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (14).
أسئلة المواطنة والدولة في الإسلام. إلياس بلكاعرف العالم في القرون الثلاثة الأخيرة انقلابا شاملا في مختلف مناحي الحياة. وقد مس هذا الانقلاب عالم الإسلام بعمق وهزه هزا شديدا... ليس فقط في عالم الأشياء، بل أيضا في عالم الأفكار.. وهو العالم الأهم.من ذلك نظام الدولة والحكم الذي عرف تطورات هائلة بظهور الدولة الحديثة وسائر متعلقاتها من المواطنة وأشكال الحكم والدستور والبرلمان والانتخابات وأنواع الإدارة المركزية وغير المركزية... وقد كنت بدأت البحث في بعض هذه القضايا، أروم الاجتهاد في شكل الدولة اليوم ضمن الرؤية الإسلامية القائمة على الاستهداء بالوحي مع مراعاة المصالح البشرية.. ثم تركت هذا البحث لكثرة الأشغال التي لا تترك ما يكفي من الوقت لإنجاز عمل علمي رصين.. ولا أدري هل سأعود للموضوع أم لا. وفيما يلي بعض الأسئلة التي انطلقتُ منها، أذكرها للاستفادة، ولكي نعرف مدى صعوبة الموضوع، ومدى أهميته وراهنيته أيضا.. ثم لعل أحدا من الباحثين الشباب يجتهد في تقديم الأجوبة المناسبة لهذه الأسئلة الحرجة:ما هو شكل الدولة الأصلي في الإسلام أم إنه لم يحدد شكلا محددا للدولة.هل نظام الخلافة هو النظام الوحيد للدولة المشروعة في الإسلام.هل للخلافة علاقة بالجغرافيا، لأن الشكل التاريخي الطاغي لنظام الخلافة في تاريخنا هو الإمبراطورية، وقد كانت إما عالمية كالخلافات العباسية والعثمانية، أو إقليمية كخلافة الموحدين بالغرب الإسلامي.مع ملاحظة أن حكم النبوة كان خلافة، لكنه جغرافيا شمل مدينة يثرب (المدينة المنورة) وضواحيها. فهو أقرب إلى المدينة اليونانيةCity هل صحيح أن الدولة القطرية حديثة ولا وجود لها في تاريخنا. وكيف نسمي الدولة الطاهرية بفارس، والدولة الفاطمية لما تقلصت حدودها بمصر، والمماليك بمصر أيضا، ودولة الأدارسة بالمغرب الأقصى، ثم دول بني مرين والسعديين والعلويين بالمغرب أيضا...وحين نتحدث عن انشطار الخلافة: هل هي خلائف متعددة، أم هي بذور مختلفة لدول قطرية قادمة.هل أساس مفهوم الدولة القطرية فكرة القومية، أم الجغرافيا والمساحة، أم السيادة المحدودة..؟هل الدولة العربية الحديثة، والتي تسمى دولة التجزئة، دولة مشروعة لأنها شكل من أشكال الحكم، والإسلام متساهل في موضوع الأشكال. أم إنها غير مشروعة لأنها من نتائج الاستعمار.إذا قلنا بشرعية هذه الدولة: (وهو ما أراه، فالدول القطرية مشروعة، شرط أن تتكامل فيما بينها وتتعاون وألا تتصارع فيما بينها): هل هي شرعية أصولية فقهية منذ البداية، أم إنها شرعية الضرورة والأمر الواقع.الحدود الحالية حدودُ شرعيةٍ أم حدودُ ضرورةٍ. وهل توجد أي إمكانية قانونية لتجاوزها.هل الجمهورية العربية المتحدة في بداية الستينات (بين مصر وسوريا) دولة قطرية أو وطنية، أم لا؟ وهل يوجد فرق بين الدولة القطرية والدولة الوطنية.هل يعترف الإسلام بمفهوم المواطنة، أم إن ذلك تكريس لواقع التجزئة، وهزيمة أمام الفكر الغربي، لأن الفكرة أساسا غربية؟إذا قلنا بأن الإسلام يعترف بالمواطنة (وهو ما يمكن أن نجد له أساسا في وثيقة المدينة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام)، فما المفترض أن يكون أساسها: الدم والانتماء القومي، أم القانون أي علاقة تنظم الحقوق والواجبات بين الأفراد والدولة.هل يصحّ الاستدلال بتجربة المدينة المنورة على مبدأ المواطنة، لأنها ضمت المسلمين والمنافقين واليهود. ماذا كان سيحدث لو لم يغادرها اليهود بعد نقضهم للعهد.هل يصحّ الاستدلال باعتراف الإسلام بالقبلية على الاعتراف بالمواطنة الحديثة؟ هل هذا القياس سليم؟هل يختلف مفهوم المواطنة في البلاد العربية التي جميع سكانها مسلمون.. عنه في البلاد العربية التي تعيش فيها أقليات غير مسلمة. هل المواطنة السعودية كالمواطنة المصرية مثلا؟هل يوجد تعارض بين الإخلاص لله والإخلاص للوطن؟ وكيف نوفق بين عقيدة الولاء للمؤمنين ولو خارج الوطن، مع التآخي مع المواطنين غير المسلمين؟هل المفهوم المعاصر لبعض حركات النهضة لـ: الدولة الإسلامية، مفهوم سليم. وماذا يعني بالضبط مصطلح (الدولة المدنية)؟ثم ماذا تعني الدولة الإسلامية بالضبط: لأن سكانها مسلمون، أم لأن أحكامها إسلامية شرعية، أم لأنه لا يوجد في أحكامها معارضة صريحة لقواطع شرعية، أم.. ما العلاقة بين المفهوم الفقهي للدار ومفهوم الدولة.ما هي أبرز الكتابات في هذه القضايا وأمثالها، لا من منطلق غربي أو قانوني صرف، بل من منظور إسلامي، إما فكري عام، أو تأصيلي فقهي؟يجب أن نجتهد ونجد لهذه الأسئلة وأمثالها الأجوبة الصحيحة، خاصة أن الدولة اليوم، وهي ما يسمى بـ"الدولة القومية" أو "الدولة الوطنية".. تعاني من أزمات متعددة، سجلها ودرسها الفكر الدستوري والسياسي المعاصر، سواء بأوربا أم بأمريكا. لذلك على الفكر الإسلامي أن يستفيد من هذا الجدل العالمي القائم منذ حوالي ثلاثين سنة.. رغم أنه لم يجد حلا لأكثر إشكالات الحكم اليوم.. فقد برع الفكر السياسي المعاصر في تشخيص أزمات السلطة والديموقراطية والإدارة العامة والحريات.. لكنه أخفق في وضع نظريات جديدة وفي اكتشاف بدائل عملية. والله أعلم، وهو سبحانه أجل وأحكم.
Published on December 10, 2013 04:46
December 7, 2013
التعريف بإحدى أقدم المجلات المسيحية العربية: الهدى.
تصدر مجلة الهدى عن الكنيسة الإنجيلية المشيخية ، وهي من أقدم المجلات المسيحية العربية، وربما أقدمها.
رفقته موقع المجلة، ويمكن تحليل أعداد كثيرة جدا من أعداد المجلة.
http://www.alhodach.com/
رفقته موقع المجلة، ويمكن تحليل أعداد كثيرة جدا من أعداد المجلة.
http://www.alhodach.com/
Published on December 07, 2013 07:22
سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (13). مشكلة الارتباك المصطلحي في علوم الحديث.
سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (13).
مشكلة الارتباك المصطلحي في علوم الحديث:
إلياس بلكا تعني كلمة مصطلح الحديث: أصول الحديث، أو قواعد الحديث. وسمي بالمصطلح لأن أكثره يدور على ألفاظ معينة عليها مدار عمل المحدثين ويضبط لغتهم العلمية التي يتداولونها، فيجري تفسيرها والتمثيل لها. ومما يعاني منه علم الحديث عدم استقرار المصطلح، وغموض بعضه، والاختلاف الكثير فيه. مثل مسائل الإرسال، والحد بين المشهور والمستفيض والآحاد، وتعريف الحسن، وقول الترمذي: هذا حسن صحيح، وشروط قبول الرواية، وبعض قضايا الجرح والتعديل وألفاظهما ومراتبهما.. يقول الأستاذ فاروق حمادة: "إننا لا نزال نجد الجدل محتدما بين دارسي السنة حول عدد من المصطلحات، كالمجهول والمنكر مثلا، وهذا يدل على أن البحث العلمي في هذه القضايا لم يكتمل في تحديد المصطلحات ودلالتها، وهذا له آثار تبدأ في التصحيح والتضعيف، وتنتهي بناء عليه في التحليل والتحريم، ويستفيد من هذا كل متصيد في الماء العكر طعنا في السنة وتحللا من الدين." وحتى لا يكون هذا الكلام نظريا فقط أعرض مثالا من الحديث المرسل، فهو –كما قال السخاوي- "من أجل الأبواب، فإنه أحكام محضة، ويكثر استعماله، بخلاف غيره." لكن استعماله واسع جدا، فدخل فيه الخبر المنقطع، والمعضل، والمعلق، ودخل فيه التدليس وما سمي بالمنقطع الخفي، وبالإرسال الخفي.. وهذه في الواقع مصطلحات مختلفة.. ناهيك عن قضية حكم المرسل وحكم العمل به. فالدارقطني مثلا يقول في حديث عامر الشّعبي عن عمر بن الخطاب: "هذا مرسل، عامر لم يدرك عمر." كذلك العلائي الكيكلدي لم يلتزم في كتابه "جامع التحصيل بأحكام المراسيل" حدا معينا للمرسل، فبحث في الانقطاع والتدليس ونحوهما.. حتى قال ابن تيمية: "وكذلك ما يسقط من إسناده رجل، فمنهم من يخصه باسم المنقطع، ومنهم من يدرجه في اسم المرسل، كما أن فيهم من يسمي كل مرسل منقطعاً، وهذا كله سائغ في اللغة." وهذا التوسع في الاستعمال المصطلحي بدعوى سوغانه في اللغة، أو غير ذلك، انتهى بإضاعة المصطلح واستقراره، وهو غاية يسعى إليها كل علم، فينقل ألفاظا لغوية إلى دلالات اصطلاحية جديدة، أو ينحت لنفسه –إذا لزم الأمر- كلمات جديدة. وغني عن البيان أن عدم انضباط المصطلح ووضوحه يؤدي آليا إلى الخبط المنهجي واتساع شقة الخلاف، وبعضه ليس حقيقيا.. وأخيرا إلى الاضطراب في الحكم على الأحاديث النبوية.. فيظهر الأثر السلبي لذلك كله في النقاش العَقَدي والفقهي والأخلاقي.. أي يتجاوز ذلك إلى قضايا الدين بصفة عامة. وقد حاول بعض السابقين حل هذه المشكلة، فنجحوا في بعض ذلك كما فعل ابن الصلاح في المقدمة، لكنهم لم يوفقوا بالنسبة المرضية، كما ترى ذلك عند ابن حجر رحمه الله في نخبة الفكر، فهو استطاع ضبط بعض المصطلحات كاعتباره المرسل ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما سمعه من غيره. لكنه زاد في غموض بعض المصطلحات كحده للحديث المشهور وللفرد والغريب في الكتاب نفسه.. فأضاف إلى الارتباك المصطلحي ولم ينقص منه. ولا عذر لأهل العصر في استمرار هذه المشكلة، بعد أن أصبحت أكثر علوم الإسلام، ومنها الحديث، مستقرة، أو قابلة للاستقرار النهائي، وبعد أن تشكلت القواعد والمناهج، وصرنا نملك مكتبة حديثية ضخمة. لكن بعض المعاصرين –عوض أن يساهموا في حل هذه المشكلة- ارتكبوا أمورا زادت الطين بلة، والحق أنه يجب عدم الابتعاد كثيرا عن مناهج القدماء واصطلاحاتهم حتى لا تنقطع الصلة أو يتعقّد الفهم. وقد فهم قوم التجديد في اقتراح مصطلحات جديدة مكان القديمة، وهذا أمر مشوش، وقليل الفائدة.. بينما التجديد أوْلى أن يكون في أبواب أخرى.
مشكلة الارتباك المصطلحي في علوم الحديث:
إلياس بلكا تعني كلمة مصطلح الحديث: أصول الحديث، أو قواعد الحديث. وسمي بالمصطلح لأن أكثره يدور على ألفاظ معينة عليها مدار عمل المحدثين ويضبط لغتهم العلمية التي يتداولونها، فيجري تفسيرها والتمثيل لها. ومما يعاني منه علم الحديث عدم استقرار المصطلح، وغموض بعضه، والاختلاف الكثير فيه. مثل مسائل الإرسال، والحد بين المشهور والمستفيض والآحاد، وتعريف الحسن، وقول الترمذي: هذا حسن صحيح، وشروط قبول الرواية، وبعض قضايا الجرح والتعديل وألفاظهما ومراتبهما.. يقول الأستاذ فاروق حمادة: "إننا لا نزال نجد الجدل محتدما بين دارسي السنة حول عدد من المصطلحات، كالمجهول والمنكر مثلا، وهذا يدل على أن البحث العلمي في هذه القضايا لم يكتمل في تحديد المصطلحات ودلالتها، وهذا له آثار تبدأ في التصحيح والتضعيف، وتنتهي بناء عليه في التحليل والتحريم، ويستفيد من هذا كل متصيد في الماء العكر طعنا في السنة وتحللا من الدين." وحتى لا يكون هذا الكلام نظريا فقط أعرض مثالا من الحديث المرسل، فهو –كما قال السخاوي- "من أجل الأبواب، فإنه أحكام محضة، ويكثر استعماله، بخلاف غيره." لكن استعماله واسع جدا، فدخل فيه الخبر المنقطع، والمعضل، والمعلق، ودخل فيه التدليس وما سمي بالمنقطع الخفي، وبالإرسال الخفي.. وهذه في الواقع مصطلحات مختلفة.. ناهيك عن قضية حكم المرسل وحكم العمل به. فالدارقطني مثلا يقول في حديث عامر الشّعبي عن عمر بن الخطاب: "هذا مرسل، عامر لم يدرك عمر." كذلك العلائي الكيكلدي لم يلتزم في كتابه "جامع التحصيل بأحكام المراسيل" حدا معينا للمرسل، فبحث في الانقطاع والتدليس ونحوهما.. حتى قال ابن تيمية: "وكذلك ما يسقط من إسناده رجل، فمنهم من يخصه باسم المنقطع، ومنهم من يدرجه في اسم المرسل، كما أن فيهم من يسمي كل مرسل منقطعاً، وهذا كله سائغ في اللغة." وهذا التوسع في الاستعمال المصطلحي بدعوى سوغانه في اللغة، أو غير ذلك، انتهى بإضاعة المصطلح واستقراره، وهو غاية يسعى إليها كل علم، فينقل ألفاظا لغوية إلى دلالات اصطلاحية جديدة، أو ينحت لنفسه –إذا لزم الأمر- كلمات جديدة. وغني عن البيان أن عدم انضباط المصطلح ووضوحه يؤدي آليا إلى الخبط المنهجي واتساع شقة الخلاف، وبعضه ليس حقيقيا.. وأخيرا إلى الاضطراب في الحكم على الأحاديث النبوية.. فيظهر الأثر السلبي لذلك كله في النقاش العَقَدي والفقهي والأخلاقي.. أي يتجاوز ذلك إلى قضايا الدين بصفة عامة. وقد حاول بعض السابقين حل هذه المشكلة، فنجحوا في بعض ذلك كما فعل ابن الصلاح في المقدمة، لكنهم لم يوفقوا بالنسبة المرضية، كما ترى ذلك عند ابن حجر رحمه الله في نخبة الفكر، فهو استطاع ضبط بعض المصطلحات كاعتباره المرسل ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما سمعه من غيره. لكنه زاد في غموض بعض المصطلحات كحده للحديث المشهور وللفرد والغريب في الكتاب نفسه.. فأضاف إلى الارتباك المصطلحي ولم ينقص منه. ولا عذر لأهل العصر في استمرار هذه المشكلة، بعد أن أصبحت أكثر علوم الإسلام، ومنها الحديث، مستقرة، أو قابلة للاستقرار النهائي، وبعد أن تشكلت القواعد والمناهج، وصرنا نملك مكتبة حديثية ضخمة. لكن بعض المعاصرين –عوض أن يساهموا في حل هذه المشكلة- ارتكبوا أمورا زادت الطين بلة، والحق أنه يجب عدم الابتعاد كثيرا عن مناهج القدماء واصطلاحاتهم حتى لا تنقطع الصلة أو يتعقّد الفهم. وقد فهم قوم التجديد في اقتراح مصطلحات جديدة مكان القديمة، وهذا أمر مشوش، وقليل الفائدة.. بينما التجديد أوْلى أن يكون في أبواب أخرى.
Published on December 07, 2013 07:14
إلياس بلكا's Blog
- إلياس بلكا's profile
- 50 followers
إلياس بلكا isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

