إلياس بلكا's Blog, page 9

February 28, 2014

أسفي على زيدية اليمن. سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية.

سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية.
أسفي على زيدية اليمن.  
إلياس بلكا
التقيت منذ نحو عامين في إحدى الندوات مجموعة من أفاضل الزيدية، وكان منهم أحد أحفاد الإمام حميد الدين، وهو آخر أئمة اليمن وعليه كان انقلاب عام 1962  .. ودار بيننا حوار، فكان ممّا سألته عنه: أين صوت الزيدية في عالم اليوم؟ فكان جوابه الأول: ما عندنا مليون دولار.
ما القصة؟ الشيعة تاريخيا عشرات الفرق والمذاهب، فهي الطائفة الأكثر انشقاقا في التاريخ الإسلامي، ثم إنها استقرت في زمننا هذا على ثلاث فرق رئيسية: الإمامية والزيدية والإسماعيلية.. وتوجد طوائف غيرها لكنها جد محدودة، أو في طور الانقراض والذوبان في إحدى الجماعات الثلاثة، خاصة الأولى، إذ للإمامية اليوم مشروع طموح لتوحيد التشيع واستلحاق جميع فرق الشيعة.. بحيث يكون جميع الشيعة في العالم إمامية. وهو غير مشروع نشر التشيع وسط أهل السنة. فهذان مشروعان مختلفان.
نتكلم الآن فقط في المشروع الأول، فهو في الحقيقة مشروع وأمل قديم جدا، فالمذهب الإمامي نفسه ثمرة تركيب وجمع لآراء فرق شيعية كثيرة، كما أوضح ذلك الباحث الشيعي العراقي كامل الشيبي في كتابه "الصلة بين التصوف والتشيع" حيث قال: "التشيع الحالي إنما هو زبدة الحركات الشيعية كلها، من عمار إلى حجر بن عديّ إلى المختار وكيسان إلى محمد بن الحنفية وأبي هاشم وبيان بن سمعان والغلاة الكوفيين، إلى الغلاة من أنصار عبد الله بن الحارث، إلى الزيديين والإسماعيليين، ثم الإمامية التي صارت اثنا عشرية. وقام بعملية المزج متكلمو الشيعة ومصنفوها."  
واليوم يُعاد إحياء هذا المشروع، وقد نجح نسبيا، خاصة مع فرقة النصيريين أو العلويين بالشام.
والنجاح الآخر تحقق باليمن، إذ تحول جزء مهم من الزيدية هنالك إلى المذهب الإمامي، وأصبحوا يُعرفون بـ"الحوثيين".
وما كنت أحب لإخواننا الزيود أن يتركوا مذهبهم، فهو مذهب عظيم له تاريخه ورجاله، كما أن شخصية مؤسسه عظيمة في تاريخنا، فهو زيد بن علي زين العابدين بن الحسين.. رضي الله عن الجميع. كان عالما وتقيا وشجاعا، وثار في الكوفة على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، لكن أصحابه –كالعادة- خذلوه وتركوه في المعركة وحيدا.. فتكررت مأساة جدّه الحسين مرة أخرى، لذلك يقال له أحيانا: الحسين الثاني.
وقد أسس الزيود دولا، وبنوا مدنا، وظهرت عندهم مدارس كلامية وأصولية وفقهية.. وساهموا في حضارتنا العربية-الإسلامية.. يكفي أن تتأمل لائحة علماء الزيدية على مرّ التاريخ، وهي غنية بكبار العلماء في مختلف المجالات.. كالهادي ويحيى بن حمزة وابن الوزير والشوكاني..
وفي الزيدية أيضا اعتدال، فهم وسط بين أهل السنة والشيعة، لذا يُلقبون بـ"سنة الشيعة"، أو "شيعة السنة".. فكان من الآمال المعقودة عليهم أن يكون لهم دور في التقريب بين الفريقين العظيمين..
لكن عوض أن يتمّ تطوير المذهب وإعمال الاجتهاد فيه وإخراج تراثه وتأصيل مواقفه.. بحيث يكون له حضور معتبر في الساحة الإسلامية وأثر محمود في نهضتنا المنشودة.. فإن جزءا كبيرا منه ترك الجَمَل بما حمل، وترك المذهب كله إلى مذهب آخر اعتنقه كما هو بلا زيادة ولا نقصان.. فظهرت حركة الحوثيين أو طائفة الحوثيين، لا أدري كيف نصفها.. وهي الحركة التي حظيت بدعم إيراني شامل..
وأحسب –والله أعلم- أن مخطط إيران في اليمن هو تحويل الزيود إلى المذهب الإمامي، ثم دعمهم وتسليحهم ليكون لهم دور مباشر، وربما أكبر من حجمهم، في البلد. أي يريد الإيرانيون بالضبط تكرار تجربة حزب الله بلبنان. وهذا المشروع نجح  باليمن إلى حد كبير، وإن كان من المستحيل أن ينجح نجاحَ حزب الله بلبنان، لأنه في اليمن جميع الأطراف مسلحة، والقبلـيّة مهمة بالبلد، ولا توجد هناك إسرائيل لاتخاذها ذريعة بالحق أو بالباطل.. ثم ليس جميع الزيدية تحولوا إلى إمامية، فالطائفة الآن منقسمة على نفسها بشكل عميق.
لست ألوم إيران على شيء، فهذا بلد كبير له سياساته  ومشاريعه.. ومن حقه أن يعمل وفق ما تمليه  عليه ما يعتبره مصالحه، سواء كانت مذهبية ثقافية، أم سياسية أم استراتيجية أم اقتصادية.. وكان رأيي ولا يزال أنه علينا أن نتعامل مع إيران  باحترام ونعترف بدورها ومكانتها.
لكن كنت أتمنى على  زيدية اليمن أن يقولوا للإيرانيين: شكرا على دعمكم، لكننا نريد أن تكون علاقاتنا ندّية أكثر، وأن نتعاون في إطار احترام خصوصيات كل طرف، وأنه توجد مساحات أخرى ووسطى  بين الاستتباع الكامل والعداوة المتبادلة.
كنت أتمنى على زيدية اليمن أن يطوروا من المذهب ويُخرجوا كنوزه وينشروا تراثه، ويصححوا ما يرونه جديرا بالتصحيح، ويكون لهم صوت ورأي مستقل عن الجميع..
بكلمة كنا نتمنى أن يُجدَّد المذهب  دون أن يفقد  شخصيته وروحه الأصيلة.. لكن الذي حدث في بعض دوائر الزيدية أنه لا هم جددوا ولا هم حافظوا على ما عندهم.. بل ببساطة  تركوا كل شيء وقلـّدوا بعض ما هو موجود.. وهذا سبيل سهل لأنك تقلد ولا تبدع شيئا.
لاشك أن من أهم أسباب خفوت صوت الزيدية الأصيلة ضعفها المادي، فالزيود فقراء في الغالب، وليس لهم أموال من النفط أو غير النفط لكي يغروا بها الناس.. كما يفعل الآخرون.. إذ كثير من المتحولين مذهبيا  تحركهم مصالح مادية ومالية.. لكنهم يحاولون إيهام أنفسهم وغيرَهم بأنهم مقتنعون، لذلك قد تجدهم يدافعون بشراسة عن مواقفهم الجديدة.. لكنهم في العمق طلاب مال مهما علا صوتهم بغير ذلك.. وأنا على يقين أنه لو كان للزيود بترول لما حدثت هذه التحولات في صفوفهم.. كما أنا على يقين بأن بعض الشباب السني الذي يتحول الآن إلى المذهب الإمامي.. كان سيختار المذهب الزيدي.. أعني أيضا لو كان للزيدية أموال يوزعونها.. فالمسألة عند الكثيرين مادية وليست مبدئية..   لذلك فحفيد الإمام مصيب حين قال لا نملك مليون دولار. وهو الحدّ الأدنى لإنشاء قناة فضائية مثلا.
لكنه سبب غير كاف في تفسير هذا الأفول البطئ لمذهب كبير  وعظيم في حجم الزيدية.
وقد يُقال: نحن في المغرب، فلماذا تكتب لنا عن الزيدية. والجواب أننا أمة واحدة، ومصيرنا واحد، وجسد واحد.. من جهة أخرى العلم مواهب من الله سبحانه، يمكن أن تكون مغربيا وتنتج عملا عظيما يتعلق بقضية مشرقية بالأساس.. ويمكن أن تكون سوريّا وتنتج عملا كبيرا يتعلق بالمغرب الكبير مثلا..  فالمعارف مواهب، وفضل الله يؤتيه من يشاء أينما يشاء.
لذلك فأعظم كتاب  جامع عن الزيدية في العصر الحديث، أو من أعظم هذه الكتب، لم يكتبه يمني، بل كتبه أستاذ مصري اسمه: أحمد محمود صبحي.. وهذا معناه أنه يمكن لبعض علماء ومفكري أهل السنة من الشباب، خاصة إذا كانوا متعاطفين مع الزيدية،  أن يساعدوا المذهب على التجدد والاستمرار.. يمكن أن يقترحوا عليه سبيلا ما.. خارطة طريق فكرية وإصلاحية.. حتى يكون للمذهب وجوده وصوته وإضافته المميّزة إلى حضارتنا.. والله سبحانه أعلم وأحكم. 
   
 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 28, 2014 11:45

February 23, 2014

الشتات الريفي بأوربا: تاريخه، وآثاره، وكيف نحوله لعامل تنمية وبناء.


الشتات الريفي بأوربا: تاريخه، وآثاره، وكيف نحوله لعامل تنمية وبناء.

في الأقصى الغربي لشمال إفريقيا توجد دولة المغرب، وهي أقرب بلد إفريقي إلى أوربا. وأقرب منطقة في المغرب إلى أوربا هي ما يسمى: الريف، حيث يسكن الأمازيغ أو البربر من آلاف السنين.
كانت المنطق...ة تاريخيا، بسبب أنها منطقة عبور وبسبب طبيعتها الجغرافية الصعبة، مصدرا مستمرا للهجرة.
إحدى أكبر هذه الهجرات بدأت في الستينيات من القرن العشرين، ولاتزال متواصلة، وغايتها الأساسية أوربا الغربية.
بحثي سيتناول كيفية نشوء شتات أمازيغي ريفي بأوربا يقدر بمليون إنسان من أصل أربعة ملايين: أسبابه العميقة، والجروح النفسية الجماعية والفردية التي تركها في نفوس من هاجروا ومن بقوا ، وكذا آثاره على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للريف..
والغاية من البحث هي كيف يمكن أن نحول هذه الهجرة التي كانت تحزن الريفيين والتي اعتبرها بعض الباحثين كارثية على المنطقة ومستقبلها إلى عامل قوة وتنمية لها وللمغرب ككل.. وللدول الأوربية المستقبلة للهجرة أيضا.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 23, 2014 09:54

February 21, 2014

ظاهرة الإلحاد في عالم ما بعد الحداثة. (2). سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية.

سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية.
ظاهرة الإلحاد في عالم ما بعد الحداثة. (2)  
إلياس بلكا
رأينا في الحلقة الماضية كيف أننا فشلنا –نسبيا- في إخراج علم الكلام والدفاع عن العقائد الدينية بثوب جديد يناسب العصر وطبيعته ومشكلاته.
إذن لماذا تأخرنا في إنجاز هذا العمل؟ وجهتُ هذا السؤال للشيخ علي جمعة – مفتي مصر السابق- في حوار دار بيننا السنة الماضية، وكان رأيه أنه كان للشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله اجتهاد في المسألة أعطى نتائج سلبية. تفسيره أن عبد الحليم، وهو الإمام الأكبر وشيخ الزهر في الستينيات، كان لا يرى وضع مواد علم الكلام في الكليات الأزهرية، فنشأ جيل من الباحثين والدارسين لا يعرف هذا العلم، لذلك لم يطوّر من أدوات تثبيت العقائد الإسلامية.
كان الشيخ عبد الحليم محمود صوفيا، وعلى الطريقة الشاذلية. وهذه الطريقة من أيام مؤسسها في القرن السابع الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله لم تكن تستسغ أن نتكلم في أدلة وجود الله.. وكيف يطلب الإنسان التافه الصغير أدلة على وجود الله الخالق العظيم؟! ألهذه الدرجة انقلبت الآية ؟ وقد صاغ ذلك ابن عطاء الله الإسكندري في مناجاته مثلا، فكتب: إِلهِي، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ؟ أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟! مَتى غِبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ!  وَمَتى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟! عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيباً.. الخ..
لكن هذا التفسير قد يعلل تأخر علم الكلام في بلد كمصر مثلا، لكنه لا يعلل هذا التأخر في بلدان مسلمة أخرى كالمغرب والشام والقارة الهندية.. على سبيل المثال.
صحيح أنه توجد استثناءات، ربما من أهمها أعمال الشيخ سعيد النورسي الذي اشتهرت عنه قولته بأن واجب الوقت هو حفظ الإيمان أولا.. وقد عاش الشيخ في ظل تركيا الكمالية حيث واجه الدين تحديات ضخمة استهدفت وجوده.
نترك هذه القضية جانبا، إذ نحتاج لدراسة متخصصة توضح لنا لماذا لم يقع تطوير علم الكلام والعقائد في القرن العشرين بالدرجة المطلوبة. ولعلك لو قارنتَ مثلا هذا بما حققته علوم شرعية أخرى، كالفقه والحديث، من نمو وتطور.. لاتَّضح لك الفرق جليّا. 
لكن لموضوع الإلحاد جوانب أخرى لابد من دراستها: لماذا اتسع الإلحاد في عالم اليوم؟ ما علاقته بما يسمى بـ"الحداثة" وبعصر الأنوار في القرن الثامن عشر.. أيضا ما صلته بمرحلة "ما بعد الحداثة"، والتي يمكن اختصارها بوصفها مرحلة افتقاد المعنى.. فهنا جميع الأمور متساوية، ولا يوجد شيء أفضل من شيء، لأنه لا توجد مرجعية عليا للبشرية: لا دينية ولا أخلاقية.. ولا يوجد المُقدس، بل كل شيء تَدنّس. وهذا هو المغزى العميق للرسوم الكاريكاتورية للرسول الأكرم عليه السلام. أراد هذا العالم ألا يُـبقيَ شيئا مقدسا في الدنيا.. فلزم تدنيس كل شيء.. والمسلمون هم آخر الأمم الكبيرة التي تحتفظ بفكرة المقدس.. لذا تركز الهجوم على عقائدهم.
لكن عالم ما بعد الحداثة في جوهره ليس ملحدا.. وكذلك ليس مؤمنا... بالنسبة له الإيمان والإلحاد فكرتان متساويتان.. ولا يمكن أن نصحح إحداهما على حساب الأخرى.. لأنه لا يوجد مقياس نهائي لهذا التصحيح.. لذلك حين تساوت الأفكار في عالم ما بعد الحداثة وتعادلتْ.. وأصبحت كلها نسبية.. سقطت كلها من الاعتبار.. لذا نفهم لماذا لم يعد عالَمنا يفكر ويتأمل.. لقد توقف التفكير حين تساوى كل شيء مع كل شيء، ولم تعد للأشياء أي قيمة ذاتية.. لا يوجد شيء له قيمة في حد ذاته.. الإنسان المحدد في الزمان والمكان هو الذي يضفي على الأشياء قيمة معينة، فأصبح هو المرجع بنفسه.. لكن لنفسه. إذ لا توجد مرجعيات مطلقة تعلو على حدود الإنسان والزمان والمكان..
لهذا نفهم كيف أن بشرية ما بعد الحداثة حين تركتْ عالم الأفكار جانبا فإنها ركّزت كل اهتمامها على عالم الأشياء.. الأشياء المادية.. فإذا كان البشر يختلفون حول الفكرة فإنهم يتفقون على المتعة.. هذا الشيء الوحيد المعترف به في عصرنا هذا.. حقـّا أصاب فوكوياما في وصفه للإنسان المعاصر بـ"الكلب السعيد"، أي في كتابه حول نهاية التاريخ.. وإن أخطأ في تصوره أن عالم الأفكار مات تماما.. هو كلب لأنه يهتم فقط بمتعه المادية من أكل وشرب وجنس وبيع وشراء.. وهو سعيد لأنه يظن نفسه كذلك.. سعيد بما يملكه.
لذلك فإن البشرية –في أكثريتها- إذ تركت الإيمان بالله واليوم الآخر جانبا، إما من باب الإلحاد أو من باب اللاأدرية أو من باب الإهمال فقط.. فإنها عوّضته بالإيمان بإله آخر: المال.. أكثر الناس اليوم يعبدون المال.. يسعون وراءه في النهار ويحلمون به نوما في الليل.. كل الحديث الآن عن المال وما يتعلق به.. هذا هو المعبود الأكبر اليوم..
ذلك لأن المال وسيلة أيضا لمتع أخرى يحرص عليها الإنسان المعاصر.. فهو يأكل ويشرب أكثر من أي وقت مضى حتى صارت البدانة مشكلة عالمية.. وهو يشتري لدرجة مَرَضية لذلك أصبح الاستهلاك هو الموضة الأولى، كما بيّن ذلك جيدا الفيلسوفالألماني ماركوز في كتابه الذي لايزال مفيدا حتى الساعة: الإنسان ذو  البُعد الواحد.. وهذا الإنسان أيضا أصبح مهووسا بالجنس أكثر من أي وقت مضى.. لقد أصبح الجنس في عالمنا هوسا جماعيا خطيرا جدا..
هذه بعض أبعاد مشكلة الإلحاد اليوم. ونحتاج لدراسات عديدة ومتنوعة لضبطها. لكن على من يتصدّى لها أن يقرأ بعض التراث العالمي في الموضوع، بمعنى أن عليه أن يقرأ أيضا باللغات الأجنبية حتى يأتي بالجديد المفيد.. ولا يكتفي بالعربية. جربت كتابة كلمة "إلحاد" بالإنجليزية في موقع بحث خاص بمكتبة إحدى الجامعات الأنجلوساكسونية، فطلعت لي: 82959  نتيجة، ليست كلها صالحة بطبيعة الحال، لكن هذا الرقم يعطيك فكرة عن ضخامة الموضوع.. فأين همّة الشباب..
 
 
 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 21, 2014 06:37

February 19, 2014

ظاهرة الإلحاد: حقيقتها وحدودها (1). سلسلة آفاق جديدة في العلوم الإسلامية.

سلسلة آفاق جديدة في العلوم الإسلامية.
ظاهرة الإلحاد: حقيقتها وحدودها (1).  
إلياس بلكا
يُعرف عصرنا هذا بالفردانية، حيث الأولوية للفرد على الجماعة. لذلك يتحدثون مثلا عن حقوق الإنسان/الفرد، ونادرا ما يتحدث أحد عن حقوق الشعب/الجماعة.. هذا جوهر الخلاف في بعض القضايا كالإجهاض مثلا: من منظور الفردانية يحقّ للمرأة أن تجهض لأنها تتصرف في جسدها، ولا سلطان لأحد على هذا الجسد غيرُها.. أما من منظور الحقوق الجماعية فلا يجوز لأننا سفينة واحدة ومركب واحد. ومسألة التحكم في النسل مصيرية للبشرية فلا يمكن تركها لأهواء الأفراد.
هذا ربما هو السبب الرئيس وراء فورة الاعتقادات والأديان التي يعرفها العالم: جميع المعتقدات تجد لها اليوم أنصارا ومؤمنين.. كالأديان السماوية، والوضعية كالبوذية والهندوسية.. حتى بعض التقاليع الآسيوية كهاري الكريشنا (اقرأ عنها بالأنترنت) لها مكانها في العالم.
يمكن أن نضع في هذا السياق تيارا فكريا آخر، هو: الإلحاد واللادينية واللأدرية. وهذه في الحقيقة مصطلحات متفاوتة بعض الشيء في دلالاتها. فالإلحاد هو إنكار وجود الله أصلا، والجزم بأنه لا يوجد. واللادينية أقرب إلى إهمال موضوع الدين والتدين جملة وتفصيلا، فهو إهمال سلوكي أكثر مما هو موقف فكري. واللأدرية توقف تام، فصاحبها لا يثبت وجود الخالق، لكنه أيضا لا ينفيه..
دعونا الآن نركز الحديث على الإلحاد. فهذه ظاهرة قديمة جدا، بل موغلة في القدم.. لكنها كانت دائما ظاهرة هامشية في التاريخ البشري، بمعنى أن معظم البشرية كان دائما يؤمن بالله خالقا للكون، وإنما كان الانحراف في التوحيد، لأن هذه البشرية كانت غالبا ما تـُثبت مع الله آلهة أخرى.. لذلك تلاحظ أن القرآن الكريم لم يعتن كثيرا بردّ شبه الإلحاد، لكنه بالغ في بيان تهافت الشرك وفي توضيح أدلة التوحيد.
حتى أوربا في عصر الأنوار احتفظت بإيمانها، فأكثر فلاسفة الأنوار الذين هاجموا الكنيسة والدوغما المسيحية أعلنوا أنهم يؤمنون بالله الواحد (فولتير مثلا).. ثم شيئا فشيئا بدأ جزء من الفكر الأوربي يراجع هذا الإيمان نفسه، خاصة مع نيتشه فيلسوف العدمية.. حتى صارت أوربا بعد الحرب العالمية الثانية أول قارة ملحدة في التاريخ، بتعبير الرئيس التشيكي السابق فاكلاف هافل.. ليس بمعنى أن الأوربيين ملحدون، فالأكثرية إلى الآن تعلن إيمانها بالله في استطلاعات الرأي.. لكن بمعنى أن الدين كاد يتلاشى تماما من هذه القارة.. من الدولة والمدرسة والحياة العامة.. بل حتى أماكن التعبد والكنائس صارت خاوية لا يرتادها أحد..
نحن في العالم العربي والإسلامي لسنا بعيدين عن هذا التأثير، ويوجد اليوم اتفاق على أن الإلحاد منتشر وموجود بين  الشباب بنسبة ما.. لكن الذي لا نعرفه هو: إلى أيّ مدى. فوجود الظاهرة أمر مؤكد، لكن حجمها غير معروف.
قرأت مؤخرا في موقع بي بي سي مقالا عن الإلحاد بمصر، من غريب ما جاء فيه أن بعض الفتيات لاأدريات ومع ذلك يحتفظن بحجابهنّ خوفا من ردّ فعل المجتمع..
والواقع أن المجتمعات العربية والإسلامية، أو الشرقية، مجتمعات متدينة بطبيعتها.. لكن هل هذا معناه أن الإلحاد سيبقى دائما على هامش حياة هذه المجتمعات؟  ألا يوجد احتمال أن يتطور أكثر ويبرز؟
لست على يقين من الجواب لا إيجابا ولا سلبا. لكن من الأهمية بمكان دراسة ظاهرة الإلحاد في مجتمعاتنا.. وهي دراسة متنوعة، إذ منها ما يجب أن يدرس الظاهرة عالميا، خاصة بأوربا المختلفة كثيرا عن أمريكا المتديّـنة.. ومنها ما يجب أن يدرسها في نطاق العالم الإسلامي، أو بعض مناطقه أو دوله..
لا ينبغي أن تقتصر هذه الدراسة على كيفية ردّ الإلحاد، بمعنى أن نؤلف كتبا في إثبات وجود الله.. بل يجب أيضا دراسة الموضوع من النواحي الاجتماعية والنفسية والحداثية..
من جهة من المهم تطوير علم الكلام، والذي هو علم الدفاع عن العقائد الدينية بالأدلة العقلية.. فنحن لا نزال إلى الآن نقتصر على الأدلة القديمة على وجود الله سبحانه والتي فصّلها علماؤنا قديما، كدليل التسلسل ودليل التمانع.. ودليل العناية بتعبير ابن رشد.. لكن هذا غير كاف. ولعليّ أشرح الفكرة أفضل في مقال قادم عن كيف يمكن الاستفادة من الاكتشافات الفلكية الأخيرة في الموضوع..
يتبع..
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 19, 2014 00:44

February 8, 2014

سلسلة التصوف السلفي(9): الصعق والذوبان في الأدب الصوفي.

سلسلة التصوف السلفي(9): الصعق والذوبان في الأدب الصوفي.  باب فيمن مات صعقا، أو تلاشى، عند شهود شيء من الأنوار الإلهية أو ورود حال.
 إلياس بلكا توجد قصص وأسماء كثيرة عمّن مات صعقا عند سماع القرآن الكريم، أو عند مشاهدة أمر من عالم الغيب.. وخاصة من ذاب تماما وتلاشى عند مشهادته لمظهر من جلال الله تعالى وعظمته.
ولكي أقرب إلى القارئ الفكرة، أذكر له هنا ما كتبه فضيلة الشيخ الدكتور عبد الجليل العبادلة، من علماء الأردن، ثم أتبعه بتعليق:
وقد قرأت للبعض أنه ذكر لأبي يزيد رضي الله عنه أن شابا كان يصرح بأنه يرى الله. فقال إنما يراه على قدره، ولو حضر مجلسنا ورآه على قدرنا لصعق. وبلغ كلامه إلى الشاب، وفعلا حضر المجلس، ومنّ الله عليه بالشهادة في هذا المجلس. وشهداء الحضرة هؤلاء أكثر من أن يحصروا. نبه عليهم الإمام السيوطي رحمه الله في كتبه، وخصوصا أولئك الذين صعقوا بسماع آيات من القرآن الكريم. وقد توفي ابن حضرة سيدنا علي نور الدين اليشرطي في أثناء حضرة الذكر، وقال عنه هو شهيد الحضرة.
والله جل جلاله يمنّ على من يشاء من عباده بمثل هذه التجليات فيما يتعرّف به على عباده من حقائق الأسماء والصفات. منهم من يصعق ولا يطيق، ومنهم من يذوب حتى يتلاشى. وقد حدثني الشيخ أحمد عقيل كان من تلامذة محدث الشرق بدر الدين الحسني وكان من كبار العلماء أن الشيخ أمرالمريدين أن يدخلوا الخلوة ثلاثة أيام، وبعد انتهاء المدة افتقدوا واحدا منهم ودخلوا الغرفة فلم يجدوا من أثره إلا شحمة بيضاء قدر الأصبع. وأشار إلى عينيه اللتين بهما رأى هذا المشهد. وقد أمر الشيخ أن توضع على قطنة وتُلف، وصلوا عليه. وإذا كان من هو من أولي العزم من الرسل قد خر صاعقا من تجلي الله على الجبل الذي جعله دكاً.. فلعلّه سأل الله ما لا طاقة له على تحمله، فأشهده من أنوار الجلال ما أذابه. ولذلك جعل الله لنا في خواتيم سورة البقرة ما يرشدنا أن نطلب منه سبحانه أن لا يحملنا ما لا طاقة لنا به. فسبحان الكبير المتعال الذي لا يصمد أمام مواجهته بصفته -صفة الألوهية القاهرة- إلا من ثبته. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.  
هذا تعليق كتبته على هامش المقال السابق:  القاعدة أن الاستماع إلى القرآن الكريم بخشوع وتأثر مطلوب. أما أن يصل ذلك إلى الموت، فهذا وقع كثيرا حتى صنف بعض العلماء كتبا عن "قتلى القرآن"، أي الذين ماتوا بسبب ذلك.. لكن هذا دون درجة الكمال، لأن الكمال هو في التأثر بالقرآن مع الاحتفاظ بالوعي التام، كما كان حال الأنبياء والصحابة.. لكن من يقع مثلا مغشيا عليه لسماعه القرآن، فإن كان مغلوبا فلا بأس بذلك، بل يدل ذلك على رقة ورهافة شعور وإيمان.. أما أن يتعمد ذلك فلا يجوز. يبقى هل يمكن مثلا لإنسان أن يذوب تماما في خلوة ينعزل فيها ويتفرغ للذكر.. أقول هذا ممكن، لا استحالة فيه.. تماما كالجبل الذي تجلى له الله سبحانه بنوره فذاب الجبل وانفجر إلى ذرات.. في قصة موسى. لكن ليس واجبا تصديق مثل الحكاية التي أوردتها عن الذي ذاب في الخلوة، إنما الواجب تصديق القرآن والسنة الصحيحة.. وأمثال تلك الحكايات للاستئناس والاعتبار.. والله أعلم.
ثم وجدت هذا النص لابن تيمية رضي الله عنه: قال :...غالب ما يحكى من المبالغة في هذا الباب إنما هو عن عُباد أهل البصرة، مثل حكاية من مات أو غشي عليه في سماع القرآن،ونحوه كقصة زرارة بن أوفى قاضي البصرة فإنه قرأ القرآن في صلاة الفجر:(فإذا نقر في الناقور) فخر ميتاً...وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن،ولم يكن في الصحابة من هذا حاله فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين كأسماء بنت أبي بكر وعبدالله بن الزبير وابن سيرين ونحوهم.. والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه،وإن كان حال الثابت أكمل منه..لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن، وهي وجل القلوب ودموع العيون واقشعرار الجلود كما قال تعالى:(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون)...أهـ.
ومما يمكن ذكره هنا حديث صحيح مسلم: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. فلا شيء يصمد لنور الله لحظة واحدة، ولو تجلى الله سبحانه بذرة من نوره العظيم على الكون لاحترق الكون كله وانتهى بجميع ما فيه، إذ لا يطيقه، ولا شيء يطيق جلال الله تعالى لا صغيرا ولا كبيرا.. لذا من صفات الله: الباطن، لأنه لو ظهر لخلقه لتلاشوا وماتوا، فحجبهم عن رؤيته سبحانه في هذه الدار الدنيا. فحجاب الله نور. ولذلك لما عرج بنبينا إلى السماوات صحبه جبريل عليه السلام حتى وصلا إلى سدرة المنتهى، وقف جبريل عليه السلام وأخبر النبي عليه السلام بأن هذا مبلغه وأنه لا يستطيع أن يتقدم وإلا انتهى واحترق.. فسبحان الله نور السماوات والأرض وما بينهما..
وهذا الموضوع يسمى موضوع "الحجب النورانية".. والخلاصة كما قال الشيخ عبد الله الجبرين في شرح أحاديث الاحتجاب بالنور أو حُجُب النور ما يلي: هذه أحاديث كما سمعنا، وآثار يؤخذ منها من تعظيم الخالق سبحانه علوه وارتفاعه، وكذلك أيضًا عظمته في خلقه لما خلق.
ومن جملة ذلك خلقه لهذه الحجب التي احتجب بها عن خلقه. ورد في حديث صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .
هكذا في هذا الحديث أخبر بأن حجابه النور الذي احتجب به عن خلقه، خلق هذا النور، واحتجب به عن خلقه مع أنه عالم بهم ومطلع عليهم، ولا يخفى عليه من أمرهم شيء. وبهذه الأحاديث التي سمعنا تعداد الحجب إذ بها أن بين الرب تعالى وبين أدنى خلقه أربعة حجب؛ كل حجاب سمكه أو عرضه ما بين سماء إلى سماء؛ أي: مسيرة خمسمائة سنة.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 08, 2014 11:07

سلسلة التصوف السلفي(8): مقام الرضا وجمال التسليم بالقدر والقضا.

مقام الرضا وجمال التسليم بالقدر والقضا. تأليف: إلياس بلكا.هذا مقام كبير، بل من أفضلها وأقربها إلى الله تعالى. ويعني الرضا أن يصل العبد إلى درجة عميقة من الرضا بحاله وبما خلقه الله عليه وبما كتبه له أو قدّره عليه. وقد يظن كثير من الناس أن هذه الدرجة سهلة المنال، بل قد يحسب كثير منهم أنهم متحققون بها وأنهم  راضون بالله وبما قسمه لهم.. لكن الحقيقة غير ذلك.  وحقيقة الأمر أن الإنسان في الدنيا خلِق طلاّبا للأشياء راغبا من الزيادة  في كل خير، كما وصفه الله تعالى: ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث. ذلك متاع الحياة الدنيا.) وأهم شهوات الدنيا ثلاثة: الجاه أو السلطة، والمال بأنواعه، والمرأة (بالنسبة للرجل، والرجل بالنسبة للمرأة).. هكذا الإنسان لا يمل من شهواته ولا يفتر عن تلبيتها، فهو دائم البحث والتفتيش عنها والركض وراءها.. وإذا حصّلها استشرفت نفسه إلى المزيد، ثم إذا وصل إلى المزيد تطلع إلى مزيد المزيد.. كالعطشان الذي لا يزيده شرب الماء المالح إلا عطشا.. أما إذا لم يحصل من هذه الشهوات إلا على بعضها، أو على قليل منها كلها، فإنه ينقلب إلى إنسان غاضب.. وهنا يأتي موضوع الرضا بالله والرضا عن الله. هذا الإنسان الغاضب قد يكون غاضبا من بشر آخرين، ممن يعايشهم في بيئته الاجتماعية والمهنية.. ونحو ذلك. وقد يكون غاضبا من نفسه، ويعرف علم النفس المعاصر هذه الحالة حيث يكره الإنسان نفسه ويحملها "فشله"، وربما لذلك نهى نبينا عليه السلام أن يسبّ الإنسان نفسه، فمن أهم أسباب اضطرابات الشخصية في الطب النفسي حين يفقد الإنسان تقدير ذاته وحين لا يعود يحترم نفسه... هذه الأنواع من الغضب معروفة ويمكن لأي مراقب أن يلاحظها في الحياة الاجتماعية. لكن أخطر أنواع الغضب هو – والعياذ بالله- الغضب من الله جل وعلا! وقد يستغرب بعض الناس ذلك، لكن هذه الحقيقة موجودة، وتقع للمسلم ولغير المسلم.. فغير المؤمن يعرف في قرارة نفسه أن لهذا الكون خالقا وللحياة ربا، لذلك إذا تعرض لمكروه  أو لم ينل مرغوبا قد يتولد عنده إحساس بالسخط. والمسلم أيضا قد يقع له ذلك رغم إيمانه بالله وإسلامه. وأصل ذلك يتولد من اعتقاد الإنسان أنه يستحق الخير، كما يراه هو، وأنه لا يجدر به أن يصيبه أي تعب وأي مكروه في بدنه أو أهله أو ماله.. فهو الغرور إذن: هذا الشعور السيء الذي ركبه الله تعالى في النفس البشرية، فمن الناس من يكسر غروره ومنهم من يزيده وينميه. والغرور يجعل المرء يعتقد أنه على هدى مستقيم وأن من حقه أن يتمتع  بطيبات الدنيا دون أن يصيبه شيء من سيئاتها. لذلك يحكي القرآن الكريم كيف أن الإنسان يفهم الخير والنعمة على أنه إكرام يستحقه، ويفهم الشر والضيق على أنه إهانة من ربه، فيسخط لذلك: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعّمه فيقول ربي أكرمني. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني). فالحكمة هي الابتلاء، كما قال الشيخ الحراق: رحِمك بأكدار الدنيا ليزعجك إليه، وأشهدك محاسن الآخرة لتقبل بكليتك عليه. لذلك من الحكم العطائية: ابن عطاء الله: من لم يُقبل على الله بعواطف الامتننان سيق إليه بسلاسل الامتحان. فهذا السخط، أي حين يغضب المرء من ربه، قد يكون بالكلام وقد يكون بأحاديث النفس. وهذا كله خطأ، وأشده الكلام لأن الإنسان مؤاخذ بلسانه، بينما وساوس النفس معفوٌّ عنها إلا إذا صارت عزما. وطريق إصلاح هذا  أن يعرف العبد أنه لا يستحق شيئا على الله، فقد سبق حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئا مذكورا، بل كان عدما وفي العدم، ولمّا كان الله طيبا كريما جوادا فقد أخرج الإنسان من العدم وجعله في أحسن تقويم وزوّده بالحواس والأعضاء  ومهّد له الأرض وسهل له الحياة عليها.. فهذا كله فضل محض من الإله الكريم، ولو شاء الله ألاّ يخلق الإنسان لفعل، إذ لا مُكره له، ولو شاء أن يعدم البشرية كلها ولا يبعثها مرة أخرى.. لفعل، وليس لأحد الحق في شيء. إذن وجودنا نحن محض تفضّل من الله :( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد).لكن من عظيم كرم الرب سبحانه أنه لم يخلقنا فحسب من العدم، بل إنه وعدنا أن يبعثنا بعد الموت، وأرسل إلينا أنبياءه ليشرحوا لنا كيف أن هذا الرب الرحيم أعدّ لنا حياة أخرى بعد الموت، ليس فيها مرض ولا عدم ولا تعب، فهي الجنة التي خلقها من أجلنا، ولكي نعيش إن شاء الله في جوار ربنا إلى ما لا نهاية.. هكذا بلا نهاية، فهو خلود  أبدي في ظل رب كريم وجليل وعظيم ورؤوف.. وهذا كله جود من الجواد لا يحدّ، وكرم من الكريم لا يوصف. أما نحن فبأي شيء نعتبر أنه "يجب" أن يكون لنا كذا وكذا من متاع هذه الدنيا الفانية.. إن تأمل هذا المعنى ورسوخه في القلب، وأفضل العبادة التفكر كما جاء في الآثار، يؤدي إلى إدراك المؤمن لدرجة الحمد والشكر، فيكون حامدا لله شاكرا لأنعمه متعجبا من فيضه معترفا بتقصيره وبـ"كفره" للنعمة. ثم من الشكر يصير إلى الرضا، فيرضى عن ربه ولا يسخط من قدره شيئا. والإيمان بالقضاء والقدر يتفرع عن الرضا، حيث يرضى المؤمن بما قدّره الله عليه وبما اختاره له، فهو لا يحسد غيره ولا يقارن حاله بحال من يظن هو أنه على خير وفير، ولا يتسخّط .وهذا لا يمنعه إن كان في وضع هو  دون ما يأمل ويحب أن يسعى إلى إصلاحه، وأن يبذل جهده في تجاوزه.. فهو يأخذ بالأسباب الدنيوية والمشروعة، ويحاول أن يزداد من الحلال بالحلال.. ثم لا يضره أنجح أم فشل، فلا يفرح لدرجة البطر بخير أصابه، ولا يحزن لدرجة اليأس بشرّ كان من نصيبه، وهو في الحالين معا  راض بالله، قانع بما قسمه له.إن الرضا والشكر وتقبل القدر .. أمور مترابطة فيما بينها. وقد فهم بعض الناس منها السلبية التامة في الحياة  وعدم الفعل وضعف السعي.. كما أن بعض التراث الصوفي كان يشجع على ذلك، ويحشد له نصوصا في غير سياقها وحكايات أحوال لا ينبغي أن يحتج بها.. لكن الصواب والذي بيّنه كبار العلماء من الفقهاء والصوفية.. من السلف والخلف.. غير ذلك. فالمقصود بالرضا هو الفرح بالله على أيّ حال كنت، فأنت إذا شعرت بأعماق قلبك أنك فرح بربك، سعيد به، مطمئن له في باطنك.. في جميع أحوالك على تباينها واختلافها.. فأنت راض بربك. والحقيقة أن مقام الرضا صعب المورد، لا يتحقق على الكمال إلا بجهاد واجتهاد، لأن للنفس الأمارة بالسوء  قوة على صاحبها وسطوة عليه، فالعقل المؤمن يجذب صاحبه إلى الرضا وهي تجذبه إلى السخط والمطالبة.. لكن على المؤمن أن يحاول دائما ترويض نفسه، كما يفعل مع الحيوان الجموح، ومع الزمن ستتحول نفسه الأمارة أو اللوامة إلى النفس المطمئنة.. تلك التي يقال لها لما تغادر الدنيا وترتفع عاليا إلى السماء في صحبة ملائكة كرام: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي..) هكذا فجزاء من رضي عن ربه أن الله في علاه يرضى عنه، وأي شيء أفضل من أن تربح رضى الله عليك... فعليك لتنال رضا الله أن تبادله أنت أيضا بالرضا.. وأن تعرف أن مَقامك حيث أقامك.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 08, 2014 10:56

February 4, 2014

سلسلة التصوف السلفي (7): في كسر النفس وترويضها.


تأليف: إلياس بلكا.
وهنا مسألة أخرى تطرح سؤالا آخر غير مسألتي العلم والمال، فإن بعض الصوفية لم يكتف بالخروج من ممتلكاته حتى زاد على ذلك طلب المال من الناس، أعني أنهم لجؤوا إلى التسول. فهل يكون هذا مشروعا؟ الحقيقة هذا من موارد الخلاف بين الفقهاء والصوفية. كان ابن عجيبة التطواني رحمه الله  من كبار الصالحين بالمغرب في آخر القرن التاسع عشر، وكانت له همّة الأولين من السلف فأحب أن يأخذ بمنهاج التصوف كاملا، وفعلا يذكرنا ابن عجيبة بأمثال الجنيد والداراني والمحاسبي والغزالي.. وأضرابهم من قمم التصوف الأول. وقد ترك ابن عجيبة الوظيفة المرموقة والمال الذي كان يملكه، وأمره شيخه بطرق أبواب البيوت وسؤال الناس كسرة خبز أو شربة ماء، وهو في هيئة متواضعة وثياب مهملة.. ويحكي الذين يعرفونه كيف أن بعض الناس كان يردّه، ويقولون مجنون، وبعضهم كان يبكي لحاله ويرثي له.. وبعد مدة عاد شيخه وأمره بالتوقف عن ذلك، بمعنى أن المسألة في أصلها تربوية.لست في وارد أن أحكم على أمثال ابن عجيبة، وهو عالم وأيّ عالم، كما تشهد بذلك كتبه، كما أعتقد أنه وليّ كبير، والجميل فيه أنه كان صادقا.. صادقا بشكل عميق، وتحس بصدقه  إذا قرأت كتبه أو اطلعت على حياته.. لكن بداية أقول: إن غرض ابن عجيبة غرض صحيح، فهو كان يبغي كسر نفسه، أي كسر غرورها، فابن عجيبة حين كان يتسول كان يذل هذه النفس الصعبة المراس والتي لا تنقاد لصاحبها بسهولة.. فهذه غاية سليمة، لأن أول شروط النجاة هو التحكم في النفس وأهوائها، فلابد من كسرها. المشكلة: كيف نكسر هذه النفس بين جوانحنا.. هذه النفس الخبيثة؟ في الحقيقة لا أعرف أسلوبا معينا لذلك، وأسلوب بعض الصوفية كالتسول مثلا يكسر النفس فعلا، لكن: هل هو مشروع؟ لست مطمئنا إلى هذه الطريقة، لكن يمكن أن نلاحظ وجود طرق أخرى تؤدي تقريبا المهمة نفسها، على رأسها خدمة الناس مع الصبر على أذاهم واحتساب ذلك، فخدمة الإنسان للرجل والمرأة والكبير والصغير والغني والفقير.. وتحمل أذاهم، لأنه لابد أن يصلك شيء من الأذى حتى من الناس الذين تخدمهم، هذا يساهم في ترويض النفس. فهذا الأسلوب ونحوه مما يُجوزه الفقهاء أفضل وأولى من أساليب لا يرضاها أهل الفقه، فقد كان بعض الصوفية مثلا حين يُعرف بالصلاح فيخاف على نفسه من الرياء يتعمد السرقة في السوق ليُضرب أو يشهّر به، فيقول الناس: والله فلان الذي تقولون عنه وليّ صالح هو مجرد كذاب سارق، لقد قبضنا عليه في السوق يسرق كذا وكذا.. فيطمئن الصوفي لحاله ويعيش بين الناس دون أن ينتبه إليه أحد، فكأنه يفضل أن يسقط في أعين الناس حتى لا يسقط في عين الله. وهذا غرض صحيح، لكن الوسيلة غريبة، والأوْلى الاجتهاد في البحث عن غيرها.. والتسول أخف منه لأن السرقة ممنوعة أصلا بخلاف الطلب، فقد يجوز أحيانا كما في حالة الحاجة الشديدة. وقد لقيت مرة مسلما إيطاليا، فاشتكى لي من قلة اهتمام بعض المسلمين بالنظافة، وكان يتطوع بنظافة المراحيض ودورات الوضوء، وربما كان يبغي من هذا العمل كسر النفس وتهذيبها، فقد كان فيه نفحة صوفية، ككثير من الأوربيين المسلمين...  وهذا لاشك أخف كثيرا من حالة التسول لأن العمل في النظافة مشروع بل مطلوب، فإذا كان للعامل نية كسر نفسه وغرورها الفارغ انضافت جهة أخرى في المشروعية. لكن يشْكل على هذا كراهة الشريعة لبعض المهن، فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم للمسلم  الحجامة، رغم أنه احتجم وأدى للحجام أجرته. ولا يحضرني جواب الآن عن هذا الاعتراض، لكن أظن الحديث من باب آخر مختلف عمّا نحن فيه.أقول هذا، ولا أخفي أنني أحببت ابن عجيبة ومازلت، وأنني تأثرت كثيرا لقصة حياته وتقلباتها وما حدث له من حوادث، كما تأثرت كثيرا بقصة تسوله وهو العالم الذي كان إلى فترة قريبة غنيا مكرما صاحب جاه ومكانة.. رحمه الله رحمة واسعة.. من جهة أخرى أظن أننا إذا طورنا العمل الاجتماعي والخيري، ونظمناه في إطار المؤسسات، وغرسنا في نفوس الجميع ثقافة الإحسان، يكون في هذا تربية وتهذيب للنفس، وفي الوقت نفسه أخذ بمفهوم فروض الكفاية.. فيشارك في هذ العمل الفقير والغني، والمهندس والطبيب، والوزير والحارس.. كل بما يتقنه، فيعمل وزير الصحة مثلا في مستشفى شعبي نصف يوم في أسبوع أو أسبوعين أو يوما في شهر.. ومجالات التطوع واسعة، كدور العجزة والأيتام وتعليم الأميين وتنظيف المدن والقرى والشواطئ.. وعلى كبار القوم البداءة بإعطاء المثال، فيتعلم الجميع خلق التواضع وخدمة الآخر.. وفكرة التطوع فكرة إسلامية أصيلة، فنحتاج لتطويرها و أيضا لإغنائها بهذا البعد التربوي الذي رامه المتصوفة، والذي ربما تطرف بعضهم في بعض أساليب تحقيقه. والله يعلم، ونحن لا نعلم، إنما نظن ظنا وما نحن بمستيقنين. يتبع..
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 04, 2014 10:16

January 25, 2014

January 24, 2014

عجائب اللانهائي. سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية.


سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية.
عجائب اللانهائي.  
إلياس بلكا
ما معنى اللانهائي؟ لا أحد يعرف الجواب عن هذا السؤال. فالعقل البشري لا يستطيع أن يتصور هذا المفهوم وأن يستوعبه. لقد بيّن كانط جيدا عجز العقل عن الإحاطة بفكرة اللانهاية.. تصور أن الكون لانهائي في امتداده.. كيف يكون الفضاء ممتدا إلى ما لا نهاية.. كيف تكون الأرض لانهائية..؟
ولو قلنا بأن للكون حدودا يتوقف عندها.. فإن عقولنا تتساءل: ماذا بعد هذه الحدود؟ ماذا وراءها؟ فتقول مثلا: لا شيء وراءها، فهو العدم. ويثور سؤال آخر: وما العدم؟
هل العدم صورة معاكسة، أو مقلوبة، للانهائي..؟
إنه مثال واحد للعجز البشري أمام ألغاز الوجود.
وصور اللانهائي كثيرة جدا: نحن نتصور اللانهائي في العالم الكبير، كالكون اللامحدود. ونتصور اللانهائي أيضا في العالم الصغير.. فبالإمكان نظريا أن نقطع الورقة إلى جزئين، وكل جزء إلى جزئين.. وهكذا إلى ما لانهاية..
ندخل إلى عالم الذرات، وهو عالم دقيق جدا لا نراه بالعين.. لقد اكتشف الفيزيائيون أن في الذرات جزيئات كثيرة، كالبروتون والنيوترون.. ثم اكتشفوا أنه توجد جزيئات أصغر من هذه، كالفوتون.. وربما يوجد أيضا ما هو أصغر.. متى سينتهي هذا؟ الله وحده يعلم.
اللانهائي في الأرقام أيضا: من رقم واحد إلى ما لانهاية، لا يوجد رقم أخير تنتهي عنده كل الأرقام.. لو أنك بقيت أبد الأبدين تكتب رقما طويلا، أي تضيف على يمين الرقم (واحد) أرقاما أخرى.. لن تصل أبدا إلى نهاية..
أيضا  من رقم واحد إلى صفر توجد أرقام لانهائية، وهي الكسور العشرية التي لا تنتهي أبدا.
والألوان؟  هي أيضا لانهائية، تستطيع أن تستخرج لونا مختلفا من الألوان الأساسية الأربعة (الأحمر والأصفر والأزرق والأخضر)، بدمج لونين مثلا، فيطلع لك لون آخر، ثم إلى هذا اللون تضيف لونا آخر من الأربعة، فيظهر لك لون آخر.. وهكذا فالألوان لانهائية.. وأكثر الألوان لا أسماء لها، لا نعرف كيف نسميها..
والأصوات مثال آخر للانهاية: توجد أصوات لا نهاية لها.. لذلك كل ساعة تظهر في العالم ألحان جديدة وموسيقى جديدة.. بإمكانك أن تركب موسيقى لا تنتهي..
والأشكال الهندسية لا نهائية.. المثلثات والمربعات والمكعبات والمخروطات.. أشكال بملايير الملايير.. وأكثر.. وأكثر..
الأزمان كذلك، صحيح أن لها بداية لأن الله سبحانه هو خالق الزمان.. لكن لا نهاية للزمان. لذلك نؤمن –نحن المسلمين وأهل الكتاب عموما- بأن الروح خالدة، فالروح لا تموت، ولن تموت..
لذلك من أسماء الله سبحانه الأول، لأنه لا شيء قبله.. والآخِر، لأنه لا شيء بعده.
لم يستثمر الفكر الإسلامي هذا الموضوع جيدا، رغم كثرة التطورات المعرفية والعلمية، في الرياضيات والهندسة والفيزياء والفلك.. ففي الرياضيات مثلا يوجد حساب التفاضل والتكامل، وما يسمى بـ "تناقضات اللانهائي".. وتُقدم الفيزياء الكوانتية بعالمها العجيب إمكانات هائلة لفهم الموضوع أكثر..
ورغم كثرة علمائنا في هذه المجالات لم نرَ بحوثا كافية تفيدنا في هذا الباب.. ثمة حاجة إلى عمل مشترك بين علماء الطبيعة وعلماء الدين والفلاسفة.. لفك بعض طلاسم اللانهائي.. ولعل هذا يدخل فيما يسمى اليوم بـ"علم الكلام الجديد". لابد من تطوير علم العقيدة وأصول الدين.. وموضوع اللانهائي مدخل ممتاز لذلك.
منذ حوالي قرن من الزمان.. أي منذ أيام المرحوم مصطفى صبري، آخر شيوخ الإسلام بالدولة العثمانية، كان كتابه الضخم "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين".. بعده لم ينجز الفكر الإسلامي المعاصر.. عملا في مستوى هذا الكتاب الكبير.
 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 24, 2014 16:23

إلياس بلكا's Blog

إلياس بلكا
إلياس بلكا isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow إلياس بلكا's blog with rss.