إلياس بلكا's Blog, page 10
January 21, 2014
الانفصال بين أهل الفقه وأهل الحديث. سلسلة آفاق جديدة في العلوم الإسلامية.
سلسلة آفاق جديدة في العلوم الإسلامية.
الانفصال بين أهل الفقه وأهل الحديث.
إلياس بلكا
الحديث والفقه علمان عظيمان من علومنا الإسلامية، لكن حدث مبكرا في تاريخنا أن نما العلمان في خطين منفصلين عن بعضهما البعض. ولذلك فقضية الانفصال بين الفريقين: أهل الفقه وأهل الحديث.. قضية قديمة. يقول ابن حبان المتوفى سنة 354هـ: "لم يكن هذا العلم في زمان قطّ تعلُّمُه أوجب منه في زماننا هذا، لذهاب من كان يُحسن هذا الشأن، وقلّة اشتغال طلبة العلم به؛ لأنّهم اشتغلوا في العلم في زماننا هذا، وصاروا حزبين: فمنهم طلبةُ الأخبار الذين يرحلون فيها إلى الأمصار، وأكثرُ هِمّتهم الكتابةُ والجمعُ، دون الحفظ والعلم به وتمييز الصحيح من السقيم، حتى سمّاهم العوامُّ حشويّة. والحزبُ الآخر: المتفقّهة الذين جعلوا جلّ اشتغالهم بحفظ الآراء والجدل، وأغضوا عن حفظ السنن ومعانيها، وكيفية قبولها وتمييز الصحيح من السقيم منها، مع نبذهم السنن قاطبة وراء ظهورهم."
وبعده بجيل واحد كرر الخطابي (المتوفى سنة 386) هذه الملاحظة وسجل أسفه على هذه الازدواجية: "رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر. وكل واحدة لا تتميز عن أختها في الحاجة ولا تستغني عنها(..) لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع(..) ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين والتقارب في المنزلتين وعموم الحاجة(..) إخوانا متهاجرين وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين..الخ"
ثم تتابعت جهود العلماء لردم هذه الهوة، وركزت خاصة على تنقيح الفقه من الأحاديث الواهية والمنكرة وما لا أصل له. فخرّج أهل الحديث كتبا فقهية مهمة: فكتب جمال الدين الزيلعي "نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية"، وابن الملقن "البدر المنير في تخريج الشرح الكبير لأبي القاسم الرافعي"، وابن حجر "التلخيص الحبير." وفي زمننا خرّج أحمد بن الصديق أحاديث بداية المجتهد.
وهذا الاهتمام بتنقية الفقه وتصحيح سكته امتد أيضا إلى علوم أخرى كأصول الفقه والتفسير، فظهرت كتب تخرج أحاديثها.
واليوم حقق الفقه الإسلامي بمختلف مدارسه نقلة نوعية مهمة جدا، ونما نموا جيدا، لكن أثر هذه الجهود في الفقه المعاصر محدود، فكأننا رجعنا إلى البداية. ويضرب فاروق حمادة لهذا مثالا من الموسوعة الفقهية الكويتية التي لم تستفد من جهود التخريج والتصحيح. ثم يقول: "وهذا يدل على انقطاع أو شبه انقطاع بين هذه الحركة الحديثية المباركة وبين الحركة الفقهية التي يتوجب عليها الاستفادة القصوى من عطاءات السنة المباركة وجهود الباحثين فيها (..) وإذا بقينا ندور في فلك الجمع بين السليم والسقيم، فلن يكون هناك أثر للدراسات الحديثية، وستبقى هذه الدراسات تدور حول نفسها في أهم حقل وميدان لها، ألا وهو ميدان الفقه والتشريع، ولابد من وقفة طويلة عميقة في هذه المسألة.."
إننا نوشك أن نكرر نفس الأخطاء، ونرسخ تقسيما للعلوم وأهلها طالما انتقده العلماء واشتكوا منه. فكثير ممن يدرس الحديث اليوم لا يهتم بالعلوم الأخرى، ورصيده منها أقل من الحد الأدنى الضروري، ولا خبرة له بفقه الحديث ومناهج الاستدلال به عند المتقدّمين، حتى إن بعض طلاب الحديث اليوم يعادون علوم المتن والفقه.
ولابد أن أشير هنا إلى أن بعض أهل الحديث المعاصرين كأنهم يعتبرون الكلام في السنن والأخبار النبوية حكرا عليهم، ولا يجيزون لغيرهم أن يدلي بدلوه في بعض الأحاديث برأي أو وجهة نظر.. وهذا غلو لا يجوز، كما أنه يخالف منهج سلف الأمة الذين كانوا يعطون الأولوية في تفسير نصوص الحديث النبوي للفقهاء والعلماء الشرعيين.
إذن ما يجب عمله الآن هو دراسة هذا الانفصام المستمر، والنظر في أسبابه نظرا عميقا. إذ لا شك أنه كان لاتساع العلمين -الفقه والحديث- أثرا مهما في هذه الظاهرة، بحيث يندر جدا اجتماعهما في شخص واحد. فلا مناص من الاعتراف بضرورة التخصص، كما لا مناص من تحقيق التكامل بينهما. وهنا تبرز الحاجة إلى فئة من العلماء الموسوعيين الذين يجمعون بين تحقيق أقصى حد ممكن من المعرفة في الحديث، وبين علم آخر: الحديث والعقائد، أو الحديث والتفسير، أو الحديث والفقه، أو الحديث وأحد العلوم الاجتماعية والإنسانية.. فهذه الفئة هي التي تستطيع الربط بين الجزر المنعزلة بعضها عن بعض بجسور من التفاهم والتكامل.
Published on January 21, 2014 12:23
سلسلة آفاق جديدة في العلوم الإسلامية.الانفصال بين...
سلسلة آفاق جديدة في العلوم الإسلامية.
الانفصال بين أهل الفقه وأهل الحديث.
إلياس بلكا
الحديث والفقه علمان عظيمان من علومنا الإسلامية، لكن حدث مبكرا في تاريخنا أن نما العلمان في خطين منفصلين عن بعضهما البعض. ولذلك فقضية الانفصال بين الفريقين: أهل الفقه وأهل الحديث.. قضية قديمة. يقول ابن حبان المتوفى سنة 354هـ: "لم يكن هذا العلم في زمان قطّ تعلُّمُه أوجب منه في زماننا هذا، لذهاب من كان يُحسن هذا الشأن، وقلّة اشتغال طلبة العلم به؛ لأنّهم اشتغلوا في العلم في زماننا هذا، وصاروا حزبين: فمنهم طلبةُ الأخبار الذين يرحلون فيها إلى الأمصار، وأكثرُ هِمّتهم الكتابةُ والجمعُ، دون الحفظ والعلم به وتمييز الصحيح من السقيم، حتى سمّاهم العوامُّ حشويّة. والحزبُ الآخر: المتفقّهة الذين جعلوا جلّ اشتغالهم بحفظ الآراء والجدل، وأغضوا عن حفظ السنن ومعانيها، وكيفية قبولها وتمييز الصحيح من السقيم منها، مع نبذهم السنن قاطبة وراء ظهورهم."
وبعده بجيل واحد كرر الخطابي (المتوفى سنة 386) هذه الملاحظة وسجل أسفه على هذه الازدواجية: "رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر. وكل واحدة لا تتميز عن أختها في الحاجة ولا تستغني عنها(..) لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع(..) ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين والتقارب في المنزلتين وعموم الحاجة(..) إخوانا متهاجرين وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين..الخ"
ثم تتابعت جهود العلماء لردم هذه الهوة، وركزت خاصة على تنقيح الفقه من الأحاديث الواهية والمنكرة وما لا أصل له. فخرّج أهل الحديث كتبا فقهية مهمة: فكتب جمال الدين الزيلعي "نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية"، وابن الملقن "البدر المنير في تخريج الشرح الكبير لأبي القاسم الرافعي"، وابن حجر "التلخيص الحبير." وفي زمننا خرّج أحمد بن الصديق أحاديث بداية المجتهد.
وهذا الاهتمام بتنقية الفقه وتصحيح سكته امتد أيضا إلى علوم أخرى كأصول الفقه والتفسير، فظهرت كتب تخرج أحاديثها.
واليوم حقق الفقه الإسلامي بمختلف مدارسه نقلة نوعية مهمة جدا، ونما نموا جيدا، لكن أثر هذه الجهود في الفقه المعاصر محدود، فكأننا رجعنا إلى البداية. ويضرب فاروق حمادة لهذا مثالا من الموسوعة الفقهية الكويتية التي لم تستفد من جهود التخريج والتصحيح. ثم يقول: "وهذا يدل على انقطاع أو شبه انقطاع بين هذه الحركة الحديثية المباركة وبين الحركة الفقهية التي يتوجب عليها الاستفادة القصوى من عطاءات السنة المباركة وجهود الباحثين فيها (..) وإذا بقينا ندور في فلك الجمع بين السليم والسقيم، فلن يكون هناك أثر للدراسات الحديثية، وستبقى هذه الدراسات تدور حول نفسها في أهم حقل وميدان لها، ألا وهو ميدان الفقه والتشريع، ولابد من وقفة طويلة عميقة في هذه المسألة.."
إننا نوشك أن نكرر نفس الأخطاء، ونرسخ تقسيما للعلوم وأهلها طالما انتقده العلماء واشتكوا منه. فكثير ممن يدرس الحديث اليوم لا يهتم بالعلوم الأخرى، ورصيده منها أقل من الحد الأدنى الضروري، ولا خبرة له بفقه الحديث ومناهج الاستدلال به عند المتقدّمين، حتى إن بعض طلاب الحديث اليوم يعادون علوم المتن والفقه.
ولابد أن أشير هنا إلى أن بعض أهل الحديث المعاصرين كأنهم يعتبرون الكلام في السنن والأخبار النبوية حكرا عليهم، ولا يجيزون لغيرهم أن يدلي بدلوه في بعض الأحاديث برأي أو وجهة نظر.. وهذا غلو لا يجوز، كما أنه يخالف منهج سلف الأمة الذين كانوا يعطون الأولوية في تفسير نصوص الحديث النبوي للفقهاء والعلماء الشرعيين.
إذن ما يجب عمله الآن هو دراسة هذا الانفصام المستمر، والنظر في أسبابه نظرا عميقا. إذ لا شك أنه كان لاتساع العلمين -الفقه والحديث- أثرا مهما في هذه الظاهرة، بحيث يندر جدا اجتماعهما في شخص واحد. فلا مناص من الاعتراف بضرورة التخصص، كما لا مناص من تحقيق التكامل بينهما. وهنا تبرز الحاجة إلى فئة من العلماء الموسوعيين الذين يجمعون بين تحقيق أقصى حد ممكن من المعرفة في الحديث، وبين علم آخر: الحديث والعقائد، أو الحديث والتفسير، أو الحديث والفقه، أو الحديث وأحد العلوم الاجتماعية والإنسانية.. فهذه الفئة هي التي تستطيع الربط بين الجزر المنعزلة بعضها عن بعض بجسور من التفاهم والتكامل.
Published on January 21, 2014 12:23
January 14, 2014
سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (19). الشيخ الكوثري وإسهاماته في علم الفرق.
الشيخ الكوثري وإسهاماته في علم الفرق .
إلياس بلكا
استثنائية العصر : ولد الشيخ محمد زاهد الكوثري بمدينة دوزجه بتركيا العثمانية في سنة 1879، وطالت به الحياة رحمة الله عليه حتى أواسط القرن العشرين، وتوفي بمصر لاجئا.. أي إنه عاصر فترة استثنائية من تاريخ الأمة الإسلامية، حيث انهارت الدولة العثمانية وسقطت معظم البلاد الإسلامية في يد القوى الأوربية الرئيسة، وشهد العالم الإسلامي صراعا مريرا بين تياري الهوية والحداثة.. فيما عرف سائر العالم تحولات كبرى تجلت آثارها في الحربين الكونيتين وانشقاق الشرق والغرب.
استثنائية الرجل: في هذا العصر المضطرب ومن قلب هذه الانقلابات الفكرية والسياسية والاجتماعية ظهر عالم كبير، يذكرنا بعلمائنا السابقين العظام، بل إن بروز الشيخ الكوثري هو بحد ذاته دليل على رجحان الرأي الأصولي الذي يعتبر أن الله لا يخلي الأرض من حجة ومجتهد (مسألة خلو الزمان عن مجتهد).. ومن اطلع على كتب الشيخ وبعض من صولاته وجولاته لا يشك في اجتهاده وكونه من الطبقة الأولى من العلماء. بيد أن القارئ في تراث الكوثري رحمه الله يصاب بالحيرة والدهشة، فهو كتب تقريبا في جميع العلوم العقلية والنقلية، قد استوعبها وأحاط بمشكلاتها فضلا عن مسائلها الواضحة..من ذلك:1- العقائد وعلم الكلام. 2- التفسير وعلوم القرآن. 3- أصول الفقه والفقه وتاريخ التشريع. 4- الحديث متنا ومصطلحا. 5- المنطق والفلسفة..الخ.
علم الفرق أو الملل والنحل : وقد وجدت أن أكثر الباحثين والكتاب –ممن تعرضوا لتراث الشيخ بالدرس والتأليف- تناولوا آراء الكوثري في حقول علمية ثلاثة، وهي: 1- العقيدة والكلام، خاصة باب الصفات. 2- الفقه، والحنفي بالخصوص، في مثل مسألة الطلاق البدعي. 3- الحديث النبوي، وهو الذي عرف به الأستاذ زاهد أكثر من غيره من العلوم.
لكن بقيت -نظرا لتعدد مواهب الشيخ وتنوع مجالات بحثه وتأليفه- جوانب من تراثه الغني لم توف حقها، ومنها: علم الفرق.. فهذا علم أسسه المسلمون لحصر مقالات الفرق الإسلامية وشرحها، ثم الرد عليها أحيانا.. حتى استقل هذا الفن بكُتاب وتآليف ومناهج وتاريخ.. ثم أهمله المتأخرون. فلما جاء الكوثري نبه على أهميته وجدد الكلام عليه.. وقد قدّم رحمه الله أو علق على ما لا يقل عن ثمانية كتب من أمهات كتب الفرق، كالتبصير في الدين للإسفرايني، والتنبيه للملطي، والفرق للبغدادي.. حتى أربت عدد صفحات مقدماته هذه على المائة، دون ما تفرق في سائر أعماله من إشارات وفوائد تخص الفرق والملل.. ومجموع ذلك لاشك أنه يُكون كتابا تاما في هذا الحقل العلمي الخاص. لذلك أعتبر الشيخ مجددا لهذا العلم في القرن العشرين، فهو انتبه إلى أهميته وإلى استمرار حياة بعض الفرق في العصر الحاضر، في الوقت الذي كان فيه كثير من أهل العلم والفكر يظن أن علم الفرق اندثر باندثار موضوعه.. لقد كان الشيخ الكوثري بعيد النظر كأنه يرى المستقبل من وراء الحجب.
خطة البحث : يمكن أن يتناول البحث المقترح منظور الكوثري لهذا العلم وتعريفه إياه، وكيف أنه من العلوم الضرورية في الملة، ورأيه في حديث افتراق الأمة المشهور، ورأيه أيضا في منهج تصنيف الفرق..وقد نبه الشيخ على مجموعة من القواعد والضوابط لهذا الفن (كالتزام أخذ مقالات المذاهب من كتب أصحابها)، وهي تصلح لتأسيس ما أسميه" أصول علم الفرق". كما أن للكوثري أفكارا في مسألة العلاقة بين المذاهب، بل من المُلفت للانتباه أنه كان يقترح خطوات عملية تخص منهج التعامل مع الملل والنحل الحيّـة، متجاوزا بذلك الاهتمام النظري المجرد. أما آراؤه في المسائل التفصيلية للفرق الإسلامية وإشكالات البحث فيها فأكثر من أن تحصى.. ولعل في الباحثين من يكتب بالتفصيل عن عطاء هذا الإمام الفذ ونظرياته في "علم الفرق"...
Published on January 14, 2014 07:51
January 13, 2014
سلسة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (11). مشكلة العزوبة والبحث الفقهي.
أكتب هنا عن بعض القضايا المهمة التي تحتاج إلى جهود الباحثين والمؤلفين، خاصة من جيل الشباب.. فهي قضايا مهمة بالنسبة لحاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها، بل إن نهضتنا المنشودة تقوم جزئيا على الدراسة العميقة والجادة لهذه المشكلات وأمثالها، وتقديم الحلول المناسبة لها: حلول تراعي الدين وقواعده، دون أن تغفل عن العصر وطبيعته.
سلسة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (11).
مشكلة العزوبة والبحث الفقهي:
إلياس بلكا من مشكلات المجتمعات البشرية اليوم: العزوف عن الزواج، أو عدم وجدان الشريك، وأحيانا كيفما كان هذا الشريك.. مناسبا أو غير مناسب.. وهذه مشكلة وصلت إلى أوجها في عصرنا هذا، وذلك من آثار الحداثة وقدرتها الهائلة على تشكيل المجتمعات من جديد.. ولم ينج من ذلك أي مجتمع، حتى مجتمعاتنا العربية –الإسلامية، هكذا بالسودان مثلا أكثر من ثلاثة ملايين امرأة بدون زواج، وفي السعودية أكثر من مليون ونصف، وفي الأردن -وهو بلد صغير- نصف مليون، بل إن نصف التونسيات على الأقل بلا زواج.. وأظن في المغرب العدد يتجاوز مليونين. أما الرقم المهول فقد سجلته مصر بأحد عشر مليون امرأة..
وبالطبع هذه الملايين من العازبات تقابلها ملايين أخرى من العزاب الرجال.. إنها كارثة حقيقية أصابت عالمنا، والله تعالى أعلم بآثارها كلها في المستقبل، لأننا مهما عرفنا بعض الآثار اليوم.. تغيب عنا آثار أخرى، فهذه تجربة حصلت لأول مرة في التاريخ البشري بهذه السعة والضخامة.. ولا أحد يدرك مآل الحال.
وتقف وراء هذه المشكلة أسباب عديدة، بعضها ثقافي حيث إن عددا متزايدا من الناس في الشرق والغرب، كما في الشمال والجنوب.. لم يعودوا يرون الأسرة أساسية.. قديما كان الزواج بالنسبة للفتاة هو كل شيء، أوهو على الأقل: أكثر الأشياء أهمية في حياتها.. والآن أصبح الزواج أحد الأمور المهمة في الحياة إلى جوار أمور أخرى كالدراسة أو العمل.
وتوجد أسباب اقتصادية تتمثل في غلاء المعيشة، خاصة السكن، وعدم قدرة عدد كبير من الشباب على تأسيس أسر. وتوجد أيضا أسباب اجتماعية ونفسية..
هي سلسلة من الأسباب المتشابكة أدت في نهاية المطاف لوجود مئات ملايين الناس في العالم يعيشيون لوحدهم.
لاشك أننا نحتاج لدراسات معمقة –اجتماعية وأنثروبولوجية ونفسية.. – لنضع اليد على مكامن الداء بدقة، ونعرف الأسباب.. وهذا يمهد للبحث عن الحلول المناسبة..
وبعض الحلول واضحة ومعروفة، فإن تحسن الوضع الاقتصادي مثلا يساعد كثيرا على تقليص ظواهر العزوبة والعنوسة.. وقد لوحظ أن الشباب العاطل عن العمل يسارع إلى الزواج وتأسيس أسر بمجرد أن يجد وظيفة أو عملا قارا أو شبه قار..
لكن ماذا يستطيع الفكر الإسلامي المعاصر أن يصنع حيال هذه المشكلة وأخواتها؟ بماذا يمكن أن يساهم في حل هذه المعضلة؟
عادة ما يطرح هذا الفكر قضية "تعدد الزوجات" حلا لهذه المشكلة. ولاشك أن التعدد مشروع، ولا يجوز منعه بحال وإلا يكون ذلك إهدارا لنص قرآني صريح.. لكنه ليس حلا حقيقيا للأسباب التالية:
1- إن كثيرا من البلاد الإسلامية إما تمنع التعدد قانونا، كتركيا وتونس.. أو تقيده وتضيق من اللجوء إليه، كالمغرب.
2- لا يوجد إقبال كبير على ممارسة التعدد في بلداننا.. صحيح أن التفاوت بينها حاصل، فبلاد الخليج العربي أكثر ممارسة للتعدد من بلاد أخرى كمصر.. لكن في المحصلة النهائية حالات التعدد محدودة جدا، ولهذا أسباب ليس هنا موضع مناقشتها.. لذلك تجد أن حالات التعدد عندنا بالمغرب لا تتجاوز 0.1 % من عقود الزواج، فهو شبه منعدم. وانظر حولك أيها القارئ الكريم وتأمل.. في أسرتك ومعارفك: هل تجد من له أكثر من زوجة واحدة.. ربما لن تجد أحدا.
3- الجو الثقافي العام، والذي تلخصه كلمة الحداثة، لا يساعد على التعدد.. لقد لوحظ حتى في صفوف المتدينين أنهم لا يحبذون التعدد، ويرونه حلا يلجأ إليه عند الضرورة لا غير، بل قد يعيبون على من يفعله. وإذا كان هذا حال المتدينين بما بالك بالليبراليين..
4- حتى لو افترضنا انتشار التعدد في بلد ما، فهو لن يستطيع استيعاب الأعداد الكبيرة من العازبات.. بل فقط جزءا بسيطا منها.
لهذا يجب أن نترك موضوع التعدد جانبا، وبدلا من ذلك على البحوث العلمية اليوم أن تتوجه إلى دراسة ما يسمى بـ"الأنكحة الجديدة"، وهي عقود زواج اقترحها بعض أهل العلم، أو عمل بها بعض الناس ثم سألوا الفقهاء عن حكمها.. سأذكر بعضها إلى جانب أنكحة معروفة وقديمة. من ذلك مثلا:
1- زواج المسيار: فهذا عقد زواج مستوف لكل الأركان، فيوجد إيجاب وقبول، وولي الأمر حاضر، والشهود كذلك، والمهر.. لكن المرأة رضيت بأن تتنازل عن حقها في النفقة أو حقها في المبيت، أو عنهما معا.. فهي رضيت بإعفاء الرجل من واجب الإنفاق عليها لأنها مثلا غنية، أو صاحبة عمل أو دخل مالي لا تحتاج معه إلى أحد.. وهي أيضا رضيت بألا يبيت زوجها عندها.. وقد كان عرف فقهاؤنا القدامى ما يشبه هذا الزواج، وسموه زواج النهاريات.. لأن الرجل يزور زوجته نهارا فقط، أو غالبا.
2،3- الزواج بنية التأقيت، وزواج المتعة: هذان عقدان متشابهان، لأن في كليهما الزواج مؤقت من ناحية الزمن، فهو لمدة معينة: أيام، أو شهور ، أو سنين.. معدودة. والفرق بينهما، أو أهم فرق، هو أن الرجل في زواج المتعة أفصح عن نيته للمرأة، فهي تعرف أن العقد مؤقت ومحدود زمنيا. وفي حالة الزواج بنية التأقيت، لا يفصح عن نيته، فهو نوى زواجا مؤقتا لكنه لم يخبر بذلك زوجته. وكان بعض الشباب العربي يصنع هذا أيام دراسته بأوربا أو أمريكا.
4- زواج الفرند، أو الصديق، وهو أيضا مستوف لجميع الأركان والشروط، غير أن الزوجين لا يعيشان في بيت مستقل، فالشاب عند أهله والفتاة عند أهلها، ويلتقيان حيثما تيسّر لهما ذلك.. ويعيشان على هذا الحال حتى يغنيهما الله من فضله فيجدان بيتا يجمعهما تحت سقفه.
وقد اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم زواج المسيار والفرند، وإن كان ميل الأكثر فيما يظهر لي، والله أعلم، إلى الجواز..
أما زواج المتعة فباطل عندنا، نحن معشر أهل السنة وإنما قال به الشيعة الإمامية فقط، بينما وافقنا الشيعة الزيدية –وهم أساسا ببلاد اليمن- على تحريم هذا العقد، ذلك لأن الزواج عندنا رباط على نية الدوام لتأسيس أسرة، فلا يجوز أن يكون لأمد معين. وأما الزواج المؤقت فباطل أيضا عند الجمهور الأوسع من الفقهاء لأنه مؤقت فأشبه زواج المتعة، ولأن فيه خداعا للمرأة وكذبا عليها حين يوهمها الرجل بدوام العشرة وهو يبطن غير ذلك.
في جميع هذه الصور يوجد زواج وتبادل للإرث في حالة الوفاة، وعدة في طلاق أو وفاة، ويلحق الأطفال بآبائهم.. وغير ذلك من الآثار الشرعية للزواج.
قد تكون المشكلة في بعض هذه الصور الجديدة ليس في جوازها، إذ هي من الناحية الصورية، أعني صورة العقد، صحيحة.. بل في بعض آثارها السلبية، خاصة مع مجئ الأبناء.. لذلك يمكن التفكير في وضع ضوابط وشروط لهذه العقود، أي لما جوّزناه من هذه العقود.
لست هنا لأفتي، لأن غرضي ليس هو الفتوى، كما أنني لست من أهلها. لكنني أريد أن أقول: إن على الفقه الإسلامي أن يساهم في حل مشكلات العزوبية والعنوسة بالنظر في إمكان عقود جديدة، أو شبه جديدة.. عقود تحافظ من جهة على مقاصد الشريعة في تأسيس الأسرة وحمايتها، وتفتح من جهة أخرى للشباب أبوابا من الحلال عوض أن يلجأ للعلاقات المحرمة، وهذه آثارها معروفة في تدمير المجتمعات وانتشار الأطفال غير الشرعيين وانهيار الأخلاق وكثرة الأمراض.. وغير ذلك كثير مما هو معروف معلوم. فالحاجة ملحة لبحوث ودراسات يتعاون عليها متخصصون في الفقه الإسلامي وآخرون في العلوم الاجتماعية والإنسانية. والله تعالى أعلم وأحكم.
سلسة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (11).
مشكلة العزوبة والبحث الفقهي:
إلياس بلكا من مشكلات المجتمعات البشرية اليوم: العزوف عن الزواج، أو عدم وجدان الشريك، وأحيانا كيفما كان هذا الشريك.. مناسبا أو غير مناسب.. وهذه مشكلة وصلت إلى أوجها في عصرنا هذا، وذلك من آثار الحداثة وقدرتها الهائلة على تشكيل المجتمعات من جديد.. ولم ينج من ذلك أي مجتمع، حتى مجتمعاتنا العربية –الإسلامية، هكذا بالسودان مثلا أكثر من ثلاثة ملايين امرأة بدون زواج، وفي السعودية أكثر من مليون ونصف، وفي الأردن -وهو بلد صغير- نصف مليون، بل إن نصف التونسيات على الأقل بلا زواج.. وأظن في المغرب العدد يتجاوز مليونين. أما الرقم المهول فقد سجلته مصر بأحد عشر مليون امرأة..
وبالطبع هذه الملايين من العازبات تقابلها ملايين أخرى من العزاب الرجال.. إنها كارثة حقيقية أصابت عالمنا، والله تعالى أعلم بآثارها كلها في المستقبل، لأننا مهما عرفنا بعض الآثار اليوم.. تغيب عنا آثار أخرى، فهذه تجربة حصلت لأول مرة في التاريخ البشري بهذه السعة والضخامة.. ولا أحد يدرك مآل الحال.
وتقف وراء هذه المشكلة أسباب عديدة، بعضها ثقافي حيث إن عددا متزايدا من الناس في الشرق والغرب، كما في الشمال والجنوب.. لم يعودوا يرون الأسرة أساسية.. قديما كان الزواج بالنسبة للفتاة هو كل شيء، أوهو على الأقل: أكثر الأشياء أهمية في حياتها.. والآن أصبح الزواج أحد الأمور المهمة في الحياة إلى جوار أمور أخرى كالدراسة أو العمل.
وتوجد أسباب اقتصادية تتمثل في غلاء المعيشة، خاصة السكن، وعدم قدرة عدد كبير من الشباب على تأسيس أسر. وتوجد أيضا أسباب اجتماعية ونفسية..
هي سلسلة من الأسباب المتشابكة أدت في نهاية المطاف لوجود مئات ملايين الناس في العالم يعيشيون لوحدهم.
لاشك أننا نحتاج لدراسات معمقة –اجتماعية وأنثروبولوجية ونفسية.. – لنضع اليد على مكامن الداء بدقة، ونعرف الأسباب.. وهذا يمهد للبحث عن الحلول المناسبة..
وبعض الحلول واضحة ومعروفة، فإن تحسن الوضع الاقتصادي مثلا يساعد كثيرا على تقليص ظواهر العزوبة والعنوسة.. وقد لوحظ أن الشباب العاطل عن العمل يسارع إلى الزواج وتأسيس أسر بمجرد أن يجد وظيفة أو عملا قارا أو شبه قار..
لكن ماذا يستطيع الفكر الإسلامي المعاصر أن يصنع حيال هذه المشكلة وأخواتها؟ بماذا يمكن أن يساهم في حل هذه المعضلة؟
عادة ما يطرح هذا الفكر قضية "تعدد الزوجات" حلا لهذه المشكلة. ولاشك أن التعدد مشروع، ولا يجوز منعه بحال وإلا يكون ذلك إهدارا لنص قرآني صريح.. لكنه ليس حلا حقيقيا للأسباب التالية:
1- إن كثيرا من البلاد الإسلامية إما تمنع التعدد قانونا، كتركيا وتونس.. أو تقيده وتضيق من اللجوء إليه، كالمغرب.
2- لا يوجد إقبال كبير على ممارسة التعدد في بلداننا.. صحيح أن التفاوت بينها حاصل، فبلاد الخليج العربي أكثر ممارسة للتعدد من بلاد أخرى كمصر.. لكن في المحصلة النهائية حالات التعدد محدودة جدا، ولهذا أسباب ليس هنا موضع مناقشتها.. لذلك تجد أن حالات التعدد عندنا بالمغرب لا تتجاوز 0.1 % من عقود الزواج، فهو شبه منعدم. وانظر حولك أيها القارئ الكريم وتأمل.. في أسرتك ومعارفك: هل تجد من له أكثر من زوجة واحدة.. ربما لن تجد أحدا.
3- الجو الثقافي العام، والذي تلخصه كلمة الحداثة، لا يساعد على التعدد.. لقد لوحظ حتى في صفوف المتدينين أنهم لا يحبذون التعدد، ويرونه حلا يلجأ إليه عند الضرورة لا غير، بل قد يعيبون على من يفعله. وإذا كان هذا حال المتدينين بما بالك بالليبراليين..
4- حتى لو افترضنا انتشار التعدد في بلد ما، فهو لن يستطيع استيعاب الأعداد الكبيرة من العازبات.. بل فقط جزءا بسيطا منها.
لهذا يجب أن نترك موضوع التعدد جانبا، وبدلا من ذلك على البحوث العلمية اليوم أن تتوجه إلى دراسة ما يسمى بـ"الأنكحة الجديدة"، وهي عقود زواج اقترحها بعض أهل العلم، أو عمل بها بعض الناس ثم سألوا الفقهاء عن حكمها.. سأذكر بعضها إلى جانب أنكحة معروفة وقديمة. من ذلك مثلا:
1- زواج المسيار: فهذا عقد زواج مستوف لكل الأركان، فيوجد إيجاب وقبول، وولي الأمر حاضر، والشهود كذلك، والمهر.. لكن المرأة رضيت بأن تتنازل عن حقها في النفقة أو حقها في المبيت، أو عنهما معا.. فهي رضيت بإعفاء الرجل من واجب الإنفاق عليها لأنها مثلا غنية، أو صاحبة عمل أو دخل مالي لا تحتاج معه إلى أحد.. وهي أيضا رضيت بألا يبيت زوجها عندها.. وقد كان عرف فقهاؤنا القدامى ما يشبه هذا الزواج، وسموه زواج النهاريات.. لأن الرجل يزور زوجته نهارا فقط، أو غالبا.
2،3- الزواج بنية التأقيت، وزواج المتعة: هذان عقدان متشابهان، لأن في كليهما الزواج مؤقت من ناحية الزمن، فهو لمدة معينة: أيام، أو شهور ، أو سنين.. معدودة. والفرق بينهما، أو أهم فرق، هو أن الرجل في زواج المتعة أفصح عن نيته للمرأة، فهي تعرف أن العقد مؤقت ومحدود زمنيا. وفي حالة الزواج بنية التأقيت، لا يفصح عن نيته، فهو نوى زواجا مؤقتا لكنه لم يخبر بذلك زوجته. وكان بعض الشباب العربي يصنع هذا أيام دراسته بأوربا أو أمريكا.
4- زواج الفرند، أو الصديق، وهو أيضا مستوف لجميع الأركان والشروط، غير أن الزوجين لا يعيشان في بيت مستقل، فالشاب عند أهله والفتاة عند أهلها، ويلتقيان حيثما تيسّر لهما ذلك.. ويعيشان على هذا الحال حتى يغنيهما الله من فضله فيجدان بيتا يجمعهما تحت سقفه.
وقد اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم زواج المسيار والفرند، وإن كان ميل الأكثر فيما يظهر لي، والله أعلم، إلى الجواز..
أما زواج المتعة فباطل عندنا، نحن معشر أهل السنة وإنما قال به الشيعة الإمامية فقط، بينما وافقنا الشيعة الزيدية –وهم أساسا ببلاد اليمن- على تحريم هذا العقد، ذلك لأن الزواج عندنا رباط على نية الدوام لتأسيس أسرة، فلا يجوز أن يكون لأمد معين. وأما الزواج المؤقت فباطل أيضا عند الجمهور الأوسع من الفقهاء لأنه مؤقت فأشبه زواج المتعة، ولأن فيه خداعا للمرأة وكذبا عليها حين يوهمها الرجل بدوام العشرة وهو يبطن غير ذلك.
في جميع هذه الصور يوجد زواج وتبادل للإرث في حالة الوفاة، وعدة في طلاق أو وفاة، ويلحق الأطفال بآبائهم.. وغير ذلك من الآثار الشرعية للزواج.
قد تكون المشكلة في بعض هذه الصور الجديدة ليس في جوازها، إذ هي من الناحية الصورية، أعني صورة العقد، صحيحة.. بل في بعض آثارها السلبية، خاصة مع مجئ الأبناء.. لذلك يمكن التفكير في وضع ضوابط وشروط لهذه العقود، أي لما جوّزناه من هذه العقود.
لست هنا لأفتي، لأن غرضي ليس هو الفتوى، كما أنني لست من أهلها. لكنني أريد أن أقول: إن على الفقه الإسلامي أن يساهم في حل مشكلات العزوبية والعنوسة بالنظر في إمكان عقود جديدة، أو شبه جديدة.. عقود تحافظ من جهة على مقاصد الشريعة في تأسيس الأسرة وحمايتها، وتفتح من جهة أخرى للشباب أبوابا من الحلال عوض أن يلجأ للعلاقات المحرمة، وهذه آثارها معروفة في تدمير المجتمعات وانتشار الأطفال غير الشرعيين وانهيار الأخلاق وكثرة الأمراض.. وغير ذلك كثير مما هو معروف معلوم. فالحاجة ملحة لبحوث ودراسات يتعاون عليها متخصصون في الفقه الإسلامي وآخرون في العلوم الاجتماعية والإنسانية. والله تعالى أعلم وأحكم.
Published on January 13, 2014 12:23
January 7, 2014
سلسلة آفاق جديدة في العلوم الإسلامية . المدرسة الشاذلية: اقتراح ماستر.
سلسلة آفاق جديدة في العلوم الإسلامية .
المدرسة الشاذلية: اقتراح ماستر.
إلياس بلكا
عرفت الجامعات المغربية في العقد الأخير عددا من الماسترات المتخصصة في التصوف، وأكثرها عام يتعلق بهذا الحقل المعرفي والسلوكي المميّز في حضارتنا.
واليوم آن الأوان لتأسيس ماسترات جديدة، تكون هذه المرّة متخصصة بشكل ما في جانب من جوانب التصوف والتاريخ الاجتماعي والثقافي للإسلام والمسلمين.
من ذلك: الطريقة الشاذلية التي أسسها الشيخ أبو الحسن الشاذلي، وهو التلميذ الوحيد لعبد السلام بن مشيش، رحمهما الله. وكلاهما من المنطقة نفسها، وهي جبال غمارة في غرب الريف المغربي. فالشيخ الشاذلي مغربي، وإنما ينسب إلى شاذلة، وهي قرية بتونس، لأنه أقام بها بعض الوقت، وكان قد ظهر أمره.
ثم جاء بعده الشيخان أبو العباس المرسي الأندلسي، ثم ابن عطاء الله السكندري.. ثم تفرعت الطريقة إلى عدد كبير من الطرق.. ولم تكد تمضي ثلاثة قرون حتى كانت الشاذلية واحدة من أكبر المناهج الصوفية في العالم.. وهي إلى اليوم حيّة موجودة تغطي القارات الخمس..
وقد ترك رجال الطريقة تراثا مهما، لا يزال أكثره مخطوطا.
ثم كان لبعض رجال الشاذلية وطرقها أدوار مهمة في تاريخ الإسلام، خاصة بشمال إفريقيا، يكفي أن نذكر دور الزاوية الدرقاوية في القرن التاسع عشر مثلا..
لكن هذا كله لم يدرس بما فيه الكفاية، وأحيانا لم يدرس أصلا، فلا توجد دراسات وافية عن الشاذلية.. إلا كتاب شيخ الأزهر المرحوم عبد الحليم محمود، عن "المدرسة الشاذلية"، وكتاب آخر عن أبي الحسن الشاذلي لمأمون غريب، وكتاب صغير عن الشاذلية عموما لعبد المغيث بصير.
وهذا جهد قليل في دراسة تيار واسع بحجم الشاذلية، له من العمر حوالي ثمانية قرون، كما أنه ممتد على تراب كبير، وله أتباع كثر في بلدان متعددة.. حتى إن الشيخ الدرقاوي ترك حوالي أربعين ألفا من الأتباع في القرن التاسع عشر.
لذلك نحتاج لدراسات متعددة في هذا المجال، وبعضها يمكن أن يكون حرا، أي تأليفا حرا. كما أن بعضها يمكن أن يكون في إطار رسائل الماستر والدكتوراه.
من هنا الحاجة لتدشين ماستر بجامعاتنا يكون خاصا بالشاذلية، وتكون الدراسة فيه من نواح متنوعة: صوفية خالصة، وتاريخية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية.. بما في ذلك واقع الشاذليين اليوم ورؤيتهم لموقعهم ودورهم في بلدانهم الإسلامية وفي الحضارة المعاصرة.
وهنا يمكن لكلية الآداب، في إطار شعب اللغة العربية أو الدراسات الإسلامية.. أن تحتضن هذا النوع من الماسترات. كما يمكن ذلك أيضا لشعبة التاريخ، وحتى لشعبة الاجتماع. وفي جميع الحالات سيحتاج هذا الماستر لتعاون من أساتذة العلوم السياسية، خاصة التاريخ السياسي الحديث، وأساتذة علوم الاجتماع.
ثم من الأهمية بمكان أن يُتوج هذا الماستر بفتح باب للدكتوراه، فأطاريح الدكتوراه هي الثمرة الحقيقية والكبرى للدراسات العليا.
هكذا سيتوفر البلد على جيل من الباحثين والمختصين في الشاذلية، يكتبون عنها ويستخرجون تراثها ويكشفون ما لها وما عليها.
والله أعلم، إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين، كما كان يقول شيخنا الإمام مالك رحمه الله.
Published on January 07, 2014 12:22
January 6, 2014
سلسلة التصوف السلفي (6): في مغزى الأمر أحيانا بالخروج من المال.
في مغزى الأمر أحيانا بالخروج من المال. تأليف: إلياس بلكا.تتمة للحديث عن العلم والإخلاص يمكن أن نقول الشيء نفسه عن المال، وطلب المربي من المريد أن يخرج عن ماله، أي يتخلص منه تماما. وهذا كان في السلف، أيام كان في الناس قوة وصدق عميق.. ومنذ قرون لا يأخذ التصوف بهذا الطريق إلا قليلا لصعوبته على الأكثرية الساحقة من الناس.. وغاية الخروج من المال هي تصفية النفس من التعلق به، وتوجيهها للتعلق بالله وحده. أعني لو فرضنا قدرة إنسان ما على الإخلاص لله مع غناه وامتلاكه للمال، فهنا لا أظن أحدا يطلب منه الخروج عن ماله، وإذا فعل يكون مخطئا، فسليمان عليه السلام كان ملكا وغنيا، ولا ينقص ذلك من قربه من ربه ومن مكانته الكبيرة عند الله، إلا لماما فهذا بشري، وهي قصة سليمان لما طفق ذبحا بالصافنات الجياد (وهي الخيول) إذ شغلنه عن صلاته عصرا.. لكنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. كذلك داود كان ملكا، وكان أواها من الصالحين. وإن كان حال نبينا عليه أزكى الصلاة والسلام أفضل وأعلى، فقد خيّره الله تعالى بين أن يكون ملكا أو عبدا نبيا.. فاختار العبودية.وكذلك من الصحابة أغنياء كثر كعثمان وعبد الرحمن بن عوف.. والنبي عليه السلام كان يقول: نعم المال الصالح في يد العبد الصالح.لكن ما القول فيمن أراد السلوك إلى الله، لكن ماله يمنعه ويشغله؟ هنا لا بعد أن يرى المربي أن يأمره بالتخلص من ماله، فهذا غرض صحيح والله أعلم، أعني كما تقول القاعدة الأصولية: إذا تعارضت مصلحتان تقدم أرجحهما. فلو فرضنا هذا الشخص شديد الارتباط بماله، وأنه على شفا جرف هار، وأنه لا يستطيع أن يتعبد لربه ويخلص له مع غناه.. فما قيمة هذا المال إذن.. ففي النهاية الفقر مع القرب من الله أفضل من الغنى مع ابتعاد عنه قلّ أو كثر.وقد تناول العلماء مسألة أيهما أفضل: الفقير الصابر أم الغني الشاكر؟ وهي مسألة مشهورة في العلم، لكنها تتعلق بشخصين كلاهما على هدى من الله وكلاهما على استقامة وخير، فالواحد صابر والآخر شاكر.. وأحدهما غني والآخر فقير، فيكون للموازنة والترجيح بينهما سبيل، فالمسألة في محل الاجتهاد. لكن مسألتنا الأولى تختلف، فهي الغني الذي غفل عن ربه وعن شكره، أو هو يذكره طورا وينسيه مالُه ذكر ربه أطوارا: فهذا هو الذي يحتمل أن يؤمر بالتخلص من ماله. وليس هذا على سبيل الفتوى الفقهية، إذ لا شك فقها أنه ليس على صاحب المال الحلال أن يخرج من ماله. فهذا باب وراء الفقه، هو إلى التطوع أقرب، وهو في الحقيقة يخص فئة قليلة جدا من الناس، هم الذين يسارعون في الخيرات، لذلك جاءت الشريعة على النمط الأوسط، بلا إفراط ولا تفريط، فهي تراعي الأكثرية من الناس ممن استعداداتهم متوسطة. وأصل ذلك القرآن الكريم: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. ذلك هو الفضل الكبير.) ولا شك أن المقتصدين لا يستطيعون الخروج من المال، ولا ينبغي أن يكلفوا بذلك، فهذا تكليف غير واقعي أولا، وغير مطلوب ثانيا.. لأن للمال مكانة في الإسلام، ودورا عليه أن يؤديه، وقد أمر الله بالصدقة والزكاة وعمران الأرض.. فكيف يكون ذلك إذا كانت الأمة جماعة من الشحاذين المعدمين، فهذا لا يشرف الإسلام. فوجود رؤوس أموال ضخمة في الأمة الإسلامية شرط من شروط نهضتها، كما كانت رؤوس الأموال بأوربا شرطا لنهضتها الحديثة، كما أوضح ذلك ماكس فيبر في كتابه النافع: الأخلاق البروتستانتية والرأسمالية.. على شرط ان تكون هذه الأموال من حلال وتصرف في حلال وتخدم الأمة، أي تنشىء الصناعات اللازمة وتستصلح الأراضي الواسعة وتستثمر في التقنيات والأدوات التكنولوجية.. باختصار لا يمانع الإسلام في ظهور بورجوازية وطنية وإسلامية مخلصة، لكن ليست كهذه البورجوازية السخيفة في عالمنا العربي، والتي يسميها الماركسيون العرب عن حق بالبورجوازية المتعفنة لأنها قامت وتقوم على السلب والنهب واستغلال النفوذ.نرجع إلى مسألتنا، فالفتوى هنا فتوى فردية، تخص الأفراد، فإذا كان المالك أسيرا لماله ولم يستطع الفكاك من هذا الأسر، فهو يشغله عن ربه وآخرته، فإن آخر الدواء الكي.. وهذا لا يمكن معرفته إلا من طرف المالك نفسه، وهنا نقول له: استفت قلبك، وإن أفتاك المفتون. فهذا من أبواب ما يمكن تسميته بـ:فتوى القلب. وفي السائرين من يتولد عنده، بسبب معاناته وتعلقه بالمال، كره شديد للمال ورفض له، وهذا ليس كرها للمال في ذاته، بل لأنه يراه عائقا في طريقه إلى ربه.. لذلك ترك جماعة من الصالحين ثرواتهم كالمحاسبي وابن عجيبة وغيرهم كثير.. وترك ابن للخليفة هارون الرشيد معيشة القصور وساح في الأرض لا يعرفه أحد.. في قصة عجيبة يحكيها ابن الجوزي في صفة الصفوة، والأصفهاني أيضا –فيما أظن- في حلية الأولياء.إن المالك قد يكون على خطر، وقد يكون غارقا في الدنيا، يعبد ماله بالليل والنهار، وهو غير واع بذلك وغير منتبه لنفسه : (نسوا الله فأنساهم أنفسهم)، فهنا يفيد المربي النافذ البصيرة العليم بخبايا النفوس، فيبادر إلى تخليص المالك من ماله. والكمل من شيوخ التصوف، وهم النادر، يفعل ذلك بالتدريج وبالرفق. ويحكي ابن المبارك قصة عن شيخه عبد العزيز الدباغ كيف كان يصحبه رجل غني من أهل الفلاحة، وكان هذا الرجل مشغولا كثيرا بتربية الثيران، ورأى الشيخ ضرر ذلك عليه وأنه غارق في عالم الأبقار هذا، بالليل والنهار، لدرجة أنه لا ينتفع بالصحبة والنصيحة، فاحتال عليه وتلطف به حتى أقنعه ببيع هذه الثيران، والاستفادة من المال في نشاط اقتصادي آخر.. فلما فعل ذلك أصبح الفلاحُ يبصر بشكل أوضح، فأدرك ما كان فيه من الغفلة، ثم شيئا فشيئا ترقى في أحواله وكان من الفالحين.والحاصل أن المال فتنة عظيمة، بل هي من أشد فتن الدنيا وأصعبها على النفس.. فإذا تغلب المرء على هذه الفتنة، فالأحسن أن يبقي المال بيده بعد أن أخرجه من قلبه. لكن إذا فشل في ذلك ولم ينجح، فقد يكون الحلّ في قرار واحد وحاسم بالخروج تماما من هذا المال، فيكون ذلك كمن واجه سبعا في طريقه، فإذا تغلب على السبع فبها ونعمت، ويكمل طريقه. لكن إذا هزمه السبع كان الأفضل له أن يهرب منه حتى لا يأكله السبع.. والذي واجه السبع وأاكمل طريقه خير من الذي هرب منه، كذلك المالك الذي يحتفظ بماله ويسخره للخير، ويجاهد نفسه ويتغلب عليها.. يكون أفضل من الذي خرج عن ماله وآثر السلامة، كما قال النبي عليه السلام: الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.. لكن شرط ذلك أن يتغلب على نفسه وهواه، وإلا فحال الثاني أفضل. لكنني أقيد هذا بجملة أمور:1- الأحسن عدم التصدق بماله في باب الإطعام، لأن مصلحته محدودة ومؤقتة. والأفضل –خاصة إن كان المال كثيرا- أن يقدمه لمؤسسة، إما خيرية أو علمية أو اجتماعية.. فالمقصود مؤسسة نفع عام تستثمر هذا المال لصالح الأمة. ولا يكون المتبرع بالضرورة هو صاحبها ومسيّرها. وهذا هو الدور الذي كانت تؤديه مثلا مؤسسة الوقف في تاريخنا، وهي التي نقلتها أوربا بعد الحروب الصليبية وطورتها. ولعل من الأمثلة القريبة لهذا الأمر بيل غيتس الذي تبرع بأكثر ثروته ووضعها في مؤسسة باسمه واسم زوجته.2- أن يترك بعض المال لورثته، لأن الخروج من المال ليس واجبا، وللورثة حق فيه، وقد لا يطيقون ما يطيق المتبرع. والرسول عليه السلام أوصى بهذا حين قال لصحابي أراد التصدق بجميع ماله في مرض موته: أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.3- استبقاء بعض المال لنفسه، إذ لو خرج عنه كله لافتقر، والفقر بلاء والدنيا بلاغ، فليُبْق معه ما يعيش به كي لا يضطر لسؤال الناس أو الاشتغال بعمل مرهق قد يتعبه ويبدد طاقته.. فلا تبقى له قوة على التعبد والذكر. لكن لو أصرّ على التطوع بجميع ماله وعدم استبقاء شيء منه.. فهذا توكل صحيح ومقام نادر، وأصله عمل أبي بكر حين جاء بماله كله وقدمه للنبي عليه الصلاة والسلام، بينما جاء عمر بنصف ماله. وحين سأله الرسول: ما أبقيت لأهلك؟ أجاب الصديق: تركتُ لهم الله ورسوله.. رضي الله عنه.في النهاية المال وسيلة وليس غاية، وفي الحساب الأخير غاية المؤمن هي الله تعالى لا المال.من هذا يتبيّن أن فكرة الخروج من الأموال في بعض مناهج الصوفية فكرة صحيحة ومشروعة، لكن الخطأ في جعلها فتوى عامة لعموم الخلق، فهؤلاء حسبهم أن يؤمروا بكسب المال من حلال، وأن ينفقوه في حلال، وأن يؤدوا حقوقه كالزكاة ومواساة الأقربين.. وهم إذا فعلوا ذلك كانوا من كبار الفالحين في الدنيا والأخرى.يتبع..
Published on January 06, 2014 12:57
January 2, 2014
هل كان الشاطبي مقلدا؟
السؤال
قال الإمام الشاطبي في (فتاويه) (ص:119): (ومراعاة الدليل أو عدم مراعاته ليس إلينا معشر المقلدين، فحسبنا فهم أقوال العلماء والفتوى بالمشهور منها وليتنا ننجو مع ذلك رأسا برأس لا لنا ولا علينا).
وقال (ص:167): (فَلَا حَظَّ في ذلك للمرتد راجعَ الإسلامَ قبل القسمة أم لا، وإن جاء نقل في المذهب بخلاف هذا فمشكل على قواعد المذهب وعلى قواعد الشريعة. وأيضا فما ذُكر أولاً هو المشهور المعمول به، فلا يُنصرف إلى غيره مع وجود التقليد في المفتي كزماننا، وأنا لا أستحل إن شاء الله في دين الله وأمانته أن أجد قولين في المذهب فأفتي بأحدهما على التخيير مع أني مقلد، بل أتحرى ما هو المشهور والمعمول به، فهو الذي أذكره للمستفتي ولا أتعرض إلى القول الآخر، فإن أشكل عليَّ المشهور ولم أرَ لأحد من الشيوخ في أحد القولين ترجيحا توقفت).
هل كان الإمام الشاطبي مؤصل نظرية المقاصد وصاحب الموافقات يعمل ويفتي باجتهاده أم تقليدا (تمذهباً)؟؟ الجواب: الذي يبدو لي أن الشاطبي لا يجتهد اجتهادا مطلقا، فهو مالكي المذهب، لكن أكيد له خيارات خارج المذهب المالكي، كما له ترجيحات بين بعض الأقوال المتعارضة داخل المذهب. لكن الطابع العام لفقه الشاطبي مالكي. أما تصريحه بأنه مقلد فهو من تواضعه رحمه الله، وإلا فهو عالم كبير، ويمكن اعتباره مجتهدا داخل المذهب، مع قدرة على الاجتهاد في آحاد المسائل مطلقا على القول بتجزؤ الاجتهاد الذي هو مذهب جمهور الأصوليين. حتى لو صرح الشاطبي بأنه مقلد، هذا من تواضع علمائنا رحمه الله. وكيف يكون مقلدا وهو إمام المقاصد؟ إنما لا يمكن اعتبار الشاطبي مجتهدا اجتهادا مطلقا لعدم توفر بعض شروط الاجتهاد المطلق فيه، كالخبرة بالحديث النبوي، تماما كعبد الرحمن بن القاسم شيخ المذهب بعد الإمام مالك، فقد عدوه مجتهدا منتسبا لا مطلقا لقصور آلة الاجتهاد في السنة النبوية عنده، بخلاف الإمام فهو مجتهد في الحديث أيضا كما يدل على ذلك تصنيفه للموطأ. من ناحية أخرى لا يعتبر الشاطبي من المتوسعين في فقه الفروع، على شاكلة ابن رشد الجد والمازري واللخمي وابن يونس.. ممن يعدّ من مجتهدي المذهب في التخريج والترجيح.. لذلك لم يصنف كتابا مستقلا في الفروع، وإن استخرج له أبو الأجفان رحمه الله فتاوى نشرها في جزءين.. أعني أن الشاطبي في الفروع الفقهية دون ابن رشد الجد مثلا.. ولو عقدنا مقارنة مع المذهب الشافعي، فإن معادل ابن رشد هو النووي، والنووي من فقهاء الشافعية الكبار في التخريج والترجيح، ومن أصحاب الوجوه.. ومعادل الشاطبي في المذهب الشافعي أظنه والله أعلم: الجويني، إمام الحرمين. صحيح أن الجويني أجلّ، وأنه إمام في علم الكلام أيضا، والشاطبي لم يكن متكلما.. لكن كلامنا في الفقه وعلومه.. وصحيح أن الجويني صنف في المذهب: نهاية المطلب. وهو كتاب مهم في تاريخ المذهب الشافعي.. لكن الشاطبي أيضا كان بلا شك قادرا على أن يصنف كتابا معتبرا في المذهب المالكي. كلا من الجويني والشاطبي من الأصوليين الكبار، ومن علماء المقاصد أيضا.. وكلاهما لم يجتهد اجتهادا مطلقا، فهما مجتهدان داخل المذهب، ويسمى هذا بالمجتهد المنتسب.. واجتهاد الشاطبي في المذهب بالقوة لا بالفعل، أي أنه يملك أدوات الاجتهاد المذهبي لكنه لم يمارسه على نطاق واسع، بل في مسائل قد تكون كثيرة لكنها على كل حال معدودة. وبالنسبة للمالكية المتأخرين، أي من جاؤوا بعد الشاطبي، فإن قول الشاطبي معتبر عند أكثرهم.. ليس الشاطبي بأقل من الفقهاء الأربعة الذين اعتمدهم الشيخ خليل في مقدمة مختصره.
قال الإمام الشاطبي في (فتاويه) (ص:119): (ومراعاة الدليل أو عدم مراعاته ليس إلينا معشر المقلدين، فحسبنا فهم أقوال العلماء والفتوى بالمشهور منها وليتنا ننجو مع ذلك رأسا برأس لا لنا ولا علينا).
وقال (ص:167): (فَلَا حَظَّ في ذلك للمرتد راجعَ الإسلامَ قبل القسمة أم لا، وإن جاء نقل في المذهب بخلاف هذا فمشكل على قواعد المذهب وعلى قواعد الشريعة. وأيضا فما ذُكر أولاً هو المشهور المعمول به، فلا يُنصرف إلى غيره مع وجود التقليد في المفتي كزماننا، وأنا لا أستحل إن شاء الله في دين الله وأمانته أن أجد قولين في المذهب فأفتي بأحدهما على التخيير مع أني مقلد، بل أتحرى ما هو المشهور والمعمول به، فهو الذي أذكره للمستفتي ولا أتعرض إلى القول الآخر، فإن أشكل عليَّ المشهور ولم أرَ لأحد من الشيوخ في أحد القولين ترجيحا توقفت).
هل كان الإمام الشاطبي مؤصل نظرية المقاصد وصاحب الموافقات يعمل ويفتي باجتهاده أم تقليدا (تمذهباً)؟؟ الجواب: الذي يبدو لي أن الشاطبي لا يجتهد اجتهادا مطلقا، فهو مالكي المذهب، لكن أكيد له خيارات خارج المذهب المالكي، كما له ترجيحات بين بعض الأقوال المتعارضة داخل المذهب. لكن الطابع العام لفقه الشاطبي مالكي. أما تصريحه بأنه مقلد فهو من تواضعه رحمه الله، وإلا فهو عالم كبير، ويمكن اعتباره مجتهدا داخل المذهب، مع قدرة على الاجتهاد في آحاد المسائل مطلقا على القول بتجزؤ الاجتهاد الذي هو مذهب جمهور الأصوليين. حتى لو صرح الشاطبي بأنه مقلد، هذا من تواضع علمائنا رحمه الله. وكيف يكون مقلدا وهو إمام المقاصد؟ إنما لا يمكن اعتبار الشاطبي مجتهدا اجتهادا مطلقا لعدم توفر بعض شروط الاجتهاد المطلق فيه، كالخبرة بالحديث النبوي، تماما كعبد الرحمن بن القاسم شيخ المذهب بعد الإمام مالك، فقد عدوه مجتهدا منتسبا لا مطلقا لقصور آلة الاجتهاد في السنة النبوية عنده، بخلاف الإمام فهو مجتهد في الحديث أيضا كما يدل على ذلك تصنيفه للموطأ. من ناحية أخرى لا يعتبر الشاطبي من المتوسعين في فقه الفروع، على شاكلة ابن رشد الجد والمازري واللخمي وابن يونس.. ممن يعدّ من مجتهدي المذهب في التخريج والترجيح.. لذلك لم يصنف كتابا مستقلا في الفروع، وإن استخرج له أبو الأجفان رحمه الله فتاوى نشرها في جزءين.. أعني أن الشاطبي في الفروع الفقهية دون ابن رشد الجد مثلا.. ولو عقدنا مقارنة مع المذهب الشافعي، فإن معادل ابن رشد هو النووي، والنووي من فقهاء الشافعية الكبار في التخريج والترجيح، ومن أصحاب الوجوه.. ومعادل الشاطبي في المذهب الشافعي أظنه والله أعلم: الجويني، إمام الحرمين. صحيح أن الجويني أجلّ، وأنه إمام في علم الكلام أيضا، والشاطبي لم يكن متكلما.. لكن كلامنا في الفقه وعلومه.. وصحيح أن الجويني صنف في المذهب: نهاية المطلب. وهو كتاب مهم في تاريخ المذهب الشافعي.. لكن الشاطبي أيضا كان بلا شك قادرا على أن يصنف كتابا معتبرا في المذهب المالكي. كلا من الجويني والشاطبي من الأصوليين الكبار، ومن علماء المقاصد أيضا.. وكلاهما لم يجتهد اجتهادا مطلقا، فهما مجتهدان داخل المذهب، ويسمى هذا بالمجتهد المنتسب.. واجتهاد الشاطبي في المذهب بالقوة لا بالفعل، أي أنه يملك أدوات الاجتهاد المذهبي لكنه لم يمارسه على نطاق واسع، بل في مسائل قد تكون كثيرة لكنها على كل حال معدودة. وبالنسبة للمالكية المتأخرين، أي من جاؤوا بعد الشاطبي، فإن قول الشاطبي معتبر عند أكثرهم.. ليس الشاطبي بأقل من الفقهاء الأربعة الذين اعتمدهم الشيخ خليل في مقدمة مختصره.
Published on January 02, 2014 06:38
January 1, 2014
إخبار بندوة: الاجتهاد والتجديد: إشكال التأصيل والتنزيل.
جامعة سيدي محمد بن عبد الله
كلية الآداب والعلوم الإنسانية،
ظهر المهراز، فاس
تنظم شعبة الدراسات الإسلامية
بشراكة مع مختبر تراث الغرب الإسلامي: أصالة وتجديد وحوار
ندوة علمية دولية في موضوع:
الاجتهاد والتجديد: إشكال التأصيل والتنزيل
2014 أبريل 30 - 29 يومي: الثلاثاء والأربعاء:
ديباجة:
من المعلوم عند أهل العلم أن الاجتهاد قد تأسس على أسس متينة وقواعد أصيلة، انطلق منها المجتهدون،وبرعوا في الاستمداد من النص الشرعي، بعد فهم خطابه وإدراك مقاصده، فكان منه المنطوق والمفهوم والمعقول، وجاءت الأحكام الشرعية مؤصلة في مصدرها، معللة في مسالك استنباطها، حتى نتجت عن ذلك ثروة علمية فقهية عظيمة، استجابت عبر التاريخ لحاجة المسلمين وأجابت عن نوازلهم ووقائعهم العامة، ولما تقدم الزمان وقصرت الهمم عن بلوغ شأو الاجتهاد على نمط المتقدمين الأوائل، كثر التقليد والاجترار،وضاقت المسالك الفقهية عن استيعاب الوقائع المستجدة، فاتهم الفقه الإسلامي بالقصور وهو منه بريء، وعلت الدعوات إلى تجديد أصول الاجتهاد ومسالكه، وتفرق الدارسون في ذلك إلى ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول : يريد التحلل من قواعد الاجتهاد المقررة عند الأوائل، والتفلت من عقالها ما أمكنه ذلك، زاعماً أن من مستلزمات التجديد التبرم عن طرائق المتقدمين، لعدم صلاحيتها لهذا العصر وحوادثه؟.
الاتجاه الثاني : يتمسك بأصول الأوائل ومسالكهم في استنباط الأحكام الفقهية، ويتقيد أيضا بما أنتجوه من فتاوى عبر التاريخ، بل ينظر للواقع المعاصربمنظار القرون السابقة، زاعماً أن الصواب كل الصواب في تقليد الفقهاء المتقدمين والقياس على فتاواهم دون مراعاة للفوارق التاريخية والمجتمعية والحضارية.. ؟
الاتجاه الثالث : تمسك بأصول الاجتهاد ومسالك الفهم المنهجية الصحيحة، ويستفيد من اجتهادات السابقين، ويستعين بها لفهم اللاحقين، ولا يتعصب للفهوم والآراء والاجتهادات التي كانت تخص زماناً ومكاناً ما.
والدارس المدقق المتتبع المعاصر عند تعامله مع هذه الاتجاهات وقراءته لإنتاجاتها، وتقويمه لفهومها ونظرها، واستحضاره لأحوال عصره، وتطور مجتمعه،وتعدد حوادثه وتعقدها،تبرز أسئلة محورية في الباب، منها:
· هل التجديد المطلوب يعني بالضرورة نقض القواعد والأصول والتحلل من الضوابط والشروط، واتباع "المصلحة" على غير هدى من الشرع الحكيم؟
· هل الاجتهاد بشروطه وضوابطه المقررة عند المتقدمين ما زال مسلكاً صالحاً للتوصل إلى الأحكام الشرعية للنوازل المعاصرة؟
· ما المقصود بالتجديد ؟ ألا ينبغي تحرير المفهوم أولاً ثم البناء عليه ثانياً؟
· ألا يعتبر الطريق الجامع بين إعمال الاجتهاد بأصوله وضوابطه، ومراعاة مستجدات العصر ومناطات الأحكام، مسلكاً قويماً يمكن اعتماده؟
هذه الأسئلة وغيرها تقترح شعبة الدراسات الإسلامية و مختبر تراث الغرب الإسلامي: أصالة وتجديد وحوار بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، أن تكون مدار ندوة علمية دولية في موضوع: "الاجتهاد التجديد:إشكال التأصيل والتنزيل"
أيام: الاثنين والثلاثاء:29-30- أبريل 2014
وذلك وفق المحاور الآتية:
1. دراسة علمية عميقة للمفاهيم وللمصطلحات: التجديد- الاجتهاد - التأصيل - التنزيل.
2. قراءة في الاجتهاد الفقهي عبر التاريخ
3. ثنائية التأصيل والتنزيل في الاجتهاد المعاصر
4. الاجتهاد المعاصر بين واقع التقليد ودعوات التجديد
5. ضوابط التجديد في العلوم الشرعية( علم الكلام،الفقه والأصول، التفسير، الحديث،الفكر الإسلامي... ).
6. دراسة في الأسس المرجعية والمنهجية للإجهاد والتجديد في الفكر الإسلامي
7. علم المقاصد وأهميته في الملاءمة بين التأصيل والتنزيل في الاجتهاد المعاصر.
8. تكامل الوحي والعقل والنص.
9. مواعيد مهمة
10. Ã تاريخ انعقاد الندوة : 29-30- أبريل 2014.
11. Ã آخر تاريخ لاستلام الملخصات والاستمارات :يوم : 15 يناير 2014
12. Ã تاريخ الإخبار بقبول الملخصات: يوم : 15 فبراير2014
13. Ã آخر تاريخ لاستلام البحوث كاملة : يوم : 30 مارس2014
شروط المشاركة :
حرصًا منا على تحقيق أهداف الندوة، والسعي نحو إنجاحها بمداخلات متميزة تتسم بالأصالة والموضوعية والإضافة المعرفية والعلمية ترجو اللجنة العلمية للندوة من السادة الأساتذة الباحثين مراعاة مايلي::
1- أن يَتَّسم البحثُ بالجِدَّة والأصالة والعمق والالتزام بالشروط الأكاديميّة المتبعة في الأبحاث العلميّة، مع تجنّب الاستطراد والخروج عن الموضوع.
2- ألا يكون البحث قد نُشر من قبلُ أو قُدِّم للنشر ، أو نال به صاحبُه درجة علميّة.
3- إرسالُ مُلَخَّص عن فكرة البحث وأهدافه وعناصره عبر البريد الإلكتروني (وفقاً للموعد المحدّد، على ألا يزيد الملخص عن صفحة).
4- أن تُثْبَثَ قائمةُ المصـادر والمراجع مستوفاةً في آخر البحث مرتبةً على حروف المعجم.
5- أن يقدَّم اسمُ الكتاب على اسم مؤلفه عند توثيق النصوص في الحواشي، وكذلك في ثبت المصادر والمراجع.
6- ذكرُ خلاصة نتائج البحث .
7- أن يكون حجم الخط في كتابة البحث (16)، وأما الحواشي فتكون بحجم (14). على نظام ويندوز بخط (Traditional Arabic)، وأنلايقل البحث عن 10صفحات وألا يزيد عن25 صفحة..
8- أن يرفق البـاحثُ مع بحثه سيرةً ذاتيةً له، وتُرسـلُ بالبريد الالكتروني.
ملحوظات :
جميع بحوث الندوة تُعرض للتحكيم وَفْقَ الشروط المتبعة أكاديميًا.
· لن تقبل البحوث التي لم تلتزم بأحد الشروط المبينة أعلاه.
· تتحمل الندوة مصاريف الاستضافة والإقامة مدة الندوة.، ولا تتحمل مصاريف السفر.
البريـــد الإلكتـــروني للندوة:
nadwaijtihad @outlook.fr
استمارة المشاركة في ندوة:
الاجتهاد والتجديد: إشكال التأصيل والتنزيل
2013 أبريل 30 - 29 يومي: الثلاثاء والأربعاء:
الاسم الكامل :................................................................................................
الإطارالعلمي:........................................................................................... المؤسسة:......................................................................................................
البلد:.................................................................................................
الهاتف الثابت:.................................................................................................
الهاتف المحمول:................................................................................................
الناسوخ ( الفاكس) : ..........................................................................................
العنوان الإلكتروني – E-mail-
محور المشاركة :................................................................................................
عنوان العرض :................................................................................................
ملخص العرض :
................................................................................................................................................................... ..................................................................................................................................................................... ............................................................................................................................................................................. ............................................................................................................................................................................... ................................................................................................................................................................................ ......................................................................................................................................... .......................................................................................................................................... .........................................................................................................................................
البريـــد الإلكتـــروني للندوة:
nadwaijtihad @outlook.fr
Published on January 01, 2014 08:37
December 29, 2013
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (18).. تتمة. الهزيمة البحرية للحضارة الإسلامية .
الهزيمة البحرية للحضارة الإسلامية: إلياس بلكاذكرتُ في المقال الأخير أن الهزيمة الحضارية للمسلمين بدأت من البحر قبل البر. لذلك من أسباب انهيار حضارتنا إهمال البحر. ولا أعني بهذا الناحية العسكرية خاصة، بل الموضوع برمته وبأبعاده كلها: الاستراتيجية والاقتصادية والتجارية والعسكرية.. والحديث عن البحر في تاريخنا طويل متشعب الذيول، بدأه القرآن الكريم في عدد كبير من الآيات، فهو يذكر البحر والموج والزبد.. ويمتن الله على عباده بتيسير ركوب البحر لهم وجريان السفن فيها وبما فيه من غذاء.. وكيف يُنجي سبحانه في أكثر الأحيان راكبي البحر حين يحيط بهم الموج من كل مكان..
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فهو لم ير البحر في حياته، على الراجح. لكنه كان يحب لأمته أن تركب البحر، ففي الحديث الصحيح عند البخاري وغيره أنه زار أم حرام، وبعد الغذاء أخذته سنة من النوم فرأى في منامه أن ناسا من أمته يغزون ويركبون البحر كالملوك على الأسرّة.. ثم استيقظ عليه السلام وهو يضحك فرحا بذلك. وقد حاول معاوية بن أبي سفيان، حين كان واليا على الشام، أن يقنع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بإنشاء أسطول بحري للدولة الراشدة. فأرسل عمر –ولم يكن يعرف البحر- إلى فاتح مصر عمرو بن العاص يستشيره ويسأله عن البحر، فكتب إليه مجيبا: إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، إن ركن خرق القلوب وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق. فلما قرأه عمر كتب إلى معاوية: لا والذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا.وحقّ لعمر أن يحتاط لدماء المسلمين، فالعرب لم تكن أمة بحرية، ولم تكن لها الخبرة الكافية لركوب البحر.لكن هذا الوضع تغير بداية من عهد عثمان، فأصبح للدولة الإسلامية سياسة بحرية مدروسة، وتناثرت في عالم الإسلام عشرات المدن الساحلية التي تشتغل بالبحر: إما تجارة، أو صيدا، أو حربا.. وفي أقل من قرن من الزمان كانت البحرية الإسلامية تسيطر على معظم حوض البحر البيض المتوسط.. ثم أهملت الدول المتعاقبة الموضوع، خاصة بعد ضعف الدولة الفاطمية بمصر.. ودفع العالم الإسلامي أول ثمن كبير لهذا الإهمال، بتعرضه للحروب الصليبية المدمرة، حتى إن صلاح الدين الأيوبي لم يجد ما يصد به الصليبيين القادمين بحرا، فاستنجد بأهم قوة بحرية إسلامية في العالم آنذاك، وهي قوة الموحدين بالغرب الإسلامي.الثمن الثاني الضخم الذي دفعه المسلمون لقاء ضعف العناية بالبحر هو حركة الالتفاف الأوربي على العالم الإسلامي، والتي قادتها أساسا ممالك إسبانيا والبرتغال لغرض اكتشاف طريق بحرية وتجارية لا تخضع للرقابة الإسلامية، أي لا تمر بالأراضي الإسلامية.. فقاد ذلك لما يسمى بـ: الكشوف الجغرافية، والتي يمكن اعتبارها أكبر ضربة للعالم الإسلامي في فجر العصور الحديثة.وتوجد أثمان أخرى، لكن المقال لا يتسع لذكرها جميعا. فحسبنا التمثيل.ثم شهدت مرحلة الدولة العثمانية صعودا في القوة البحرية الإسلامية، وكانت هي المسيطرة على البحر المتوسط لقرنين على الأقل.وأخيرا في القرون الثلاثة المنصرمة تضاءل اهتمام العالم الإسلامي بشؤون البحر حتى كاد ينعدم. ولو أخذنا مثالا من المغرب الأقصى لوجدنا أنه في نهاية العصر الوسيط كان دائما يتعرض للغزو بحرا، لكن الدولة والمجتمع كلاهما فرّط في بناء حياة اجتماعية واقتصادية وعسكرية تهتم بالبحر. فتجد أن أقوى قبائل شمال إفريقيا وأشدها شكيمة لم تكن تشتغل بالبحر رغم قربها الشديد منه، وهي قبيلة بني ورياغل التي قادها الأمير عبد الكريم الخطابي ومعها أكثر قبائل الريف لمواجهة محتل اقتحم ديارها وفاجأها من البحر. وتظهر أهمية الأمر لو علمنا أنه كان لقبيلة صغيرة مجاورة لقبيلة بني ورياغل الكبيرة دور بحري مهم في بعض فترات تاريخ المنطقة ، وهي قبيلة بني بقيوة. فكيف لو أن الورياغليين اتجهوا إلى الاشتغال بالبحر أساسا. والحقيقة أنه كان لملوك الدولة العلوية وعي بخطورة الموضوع، حتى في فترات ضعف المغرب الأقصى في القرن التاسع عشر. فقد كان للسلطان محمد بن عبد الله عناية بالقوة البحرية واهتمام بها، واستطاع فعلا أن يبني أسطولا من ستين قطعة بحرية مجهزة بالعتاد والرجال.لكن أسبابا داخلية، وعوامل خارجية على رأسها ضغوط الدول الأوربية، تعاونت على الحد من هذه السياسة البحرية.. فاضطر المولى سليمان رحمه الله لحل الأسطول فعليا.ثم نصل لعهد السلطان عبد الرحمن بن هشام الذي حاول الاهتمام بالموضوع، لكن بعد مهاجمة النمساويين لمرسى العرائش، وتدخل الإنجليز.. وأسباب أخرى متعددة لا مجال لتفصيلها هنا.. انتهى السلطان إلى الاقتناع باستحالة أن يكون للبلاد أسطول حربي حقيقي، فأمر في لحظة يأس بإغراق ما تبقى من السفن المغربية القليلة في ميناء سلا.. كأنه يئس من الموضوع وأراد نسيانه وسدّ بابه نهائيا.ولعل من المفيد هنا أن أعرض لرأي الأستاذ المؤرخ عزيز قنجاع، فبحسب مقال له نشره موقع العرائش 24 .. فإن بداية استعمار المغرب وانهزامه أمام الأمم الأوربية لم تكن مع معركة إيسلي التي خاضها المغرب ضد فرنسا سنة 1844، ولا مع حرب تطوان مع الإسبان.. بل هزيمة المغرب العسكرية الأولى كانت معركة العرائش، ورغم أن المغاربة تصدوا ببسالة لهذا الهجوم، إلا أن هذه الواقعة في نظر معاصري الحدث وفي نظر مثقفي القرن التاسع عشر كانت أكبر مصيبة حلت بالمغرب، إذ من نتائجها إنهاء البحرية المغربية تماما.. والتمهيد للهجوم الأجنبي. هذا رأي، ولستُ مؤرخا لأحكم عليه بشيء، لكنه رأي جدير بالفحص والتأمل.وبعد، فهذا –والله أعلم- بعض ما ظهر لي في هذا الموضوع الذي يحتاج لدراسات مستقلة، ولمشاركة أهل الاختصاص من المؤرخين والمهتمين.. ولعل منهم ومن القراء الكرام من يشاركنا بعلمه ولا يبخل علينا بمعرفته. آمين.
Published on December 29, 2013 09:32
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (9).. تتمة. الهزيمة البحرية للحضارة الإسلامية .
الهزيمة البحرية للحضارة الإسلامية: إلياس بلكاذكرتُ في المقال الأخير أن الهزيمة الحضارية للمسلمين بدأت من البحر قبل البر. لذلك من أسباب انهيار حضارتنا إهمال البحر. ولا أعني بهذا الناحية العسكرية خاصة، بل الموضوع برمته وبأبعاده كلها: الاستراتيجية والاقتصادية والتجارية والعسكرية.. والحديث عن البحر في تاريخنا طويل متشعب الذيول، بدأه القرآن الكريم في عدد كبير من الآيات، فهو يذكر البحر والموج والزبد.. ويمتن الله على عباده بتيسير ركوب البحر لهم وجريان السفن فيها وبما فيه من غذاء.. وكيف يُنجي سبحانه في أكثر الأحيان راكبي البحر حين يحيط بهم الموج من كل مكان..
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فهو لم ير البحر في حياته، على الراجح. لكنه كان يحب لأمته أن تركب البحر، ففي الحديث الصحيح عند البخاري وغيره أنه زار أم حرام، وبعد الغذاء أخذته سنة من النوم فرأى في منامه أن ناسا من أمته يغزون ويركبون البحر كالملوك على الأسرّة.. ثم استيقظ عليه السلام وهو يضحك فرحا بذلك. وقد حاول معاوية بن أبي سفيان، حين كان واليا على الشام، أن يقنع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بإنشاء أسطول بحري للدولة الراشدة. فأرسل عمر –ولم يكن يعرف البحر- إلى فاتح مصر عمرو بن العاص يستشيره ويسأله عن البحر، فكتب إليه مجيبا: إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، إن ركن خرق القلوب وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق. فلما قرأه عمر كتب إلى معاوية: لا والذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا.وحقّ لعمر أن يحتاط لدماء المسلمين، فالعرب لم تكن أمة بحرية، ولم تكن لها الخبرة الكافية لركوب البحر.لكن هذا الوضع تغير بداية من عهد عثمان، فأصبح للدولة الإسلامية سياسة بحرية مدروسة، وتناثرت في عالم الإسلام عشرات المدن الساحلية التي تشتغل بالبحر: إما تجارة، أو صيدا، أو حربا.. وفي أقل من قرن من الزمان كانت البحرية الإسلامية تسيطر على معظم حوض البحر البيض المتوسط.. ثم أهملت الدول المتعاقبة الموضوع، خاصة بعد ضعف الدولة الفاطمية بمصر.. ودفع العالم الإسلامي أول ثمن كبير لهذا الإهمال، بتعرضه للحروب الصليبية المدمرة، حتى إن صلاح الدين الأيوبي لم يجد ما يصد به الصليبيين القادمين بحرا، فاستنجد بأهم قوة بحرية إسلامية في العالم آنذاك، وهي قوة الموحدين بالغرب الإسلامي.الثمن الثاني الضخم الذي دفعه المسلمون لقاء ضعف العناية بالبحر هو حركة الالتفاف الأوربي على العالم الإسلامي، والتي قادتها أساسا ممالك إسبانيا والبرتغال لغرض اكتشاف طريق بحرية وتجارية لا تخضع للرقابة الإسلامية، أي لا تمر بالأراضي الإسلامية.. فقاد ذلك لما يسمى بـ: الكشوف الجغرافية، والتي يمكن اعتبارها أكبر ضربة للعالم الإسلامي في فجر العصور الحديثة.وتوجد أثمان أخرى، لكن المقال لا يتسع لذكرها جميعا. فحسبنا التمثيل.ثم شهدت مرحلة الدولة العثمانية صعودا في القوة البحرية الإسلامية، وكانت هي المسيطرة على البحر المتوسط لقرنين على الأقل.وأخيرا في القرون الثلاثة المنصرمة تضاءل اهتمام العالم الإسلامي بشؤون البحر حتى كاد ينعدم. ولو أخذنا مثالا من المغرب الأقصى لوجدنا أنه في نهاية العصر الوسيط كان دائما يتعرض للغزو بحرا، لكن الدولة والمجتمع كلاهما فرّط في بناء حياة اجتماعية واقتصادية وعسكرية تهتم بالبحر. فتجد أن أقوى قبائل شمال إفريقيا وأشدها شكيمة لم تكن تشتغل بالبحر رغم قربها الشديد منه، وهي قبيلة بني ورياغل التي قادها الأمير عبد الكريم الخطابي ومعها أكثر قبائل الريف لمواجهة محتل اقتحم ديارها وفاجأها من البحر. وتظهر أهمية الأمر لو علمنا أنه كان لقبيلة صغيرة مجاورة لقبيلة بني ورياغل الكبيرة دور بحري مهم في بعض فترات تاريخ المنطقة ، وهي قبيلة بني بقيوة. فكيف لو أن الورياغليين اتجهوا إلى الاشتغال بالبحر أساسا. والحقيقة أنه كان لملوك الدولة العلوية وعي بخطورة الموضوع، حتى في فترات ضعف المغرب الأقصى في القرن التاسع عشر. فقد كان للسلطان محمد بن عبد الله عناية بالقوة البحرية واهتمام بها، واستطاع فعلا أن يبني أسطولا من ستين قطعة بحرية مجهزة بالعتاد والرجال.لكن أسبابا داخلية، وعوامل خارجية على رأسها ضغوط الدول الأوربية، تعاونت على الحد من هذه السياسة البحرية.. فاضطر المولى سليمان رحمه الله لحل الأسطول فعليا.ثم نصل لعهد السلطان عبد الرحمن بن هشام الذي حاول الاهتمام بالموضوع، لكن بعد مهاجمة النمساويين لمرسى العرائش، وتدخل الإنجليز.. وأسباب أخرى متعددة لا مجال لتفصيلها هنا.. انتهى السلطان إلى الاقتناع باستحالة أن يكون للبلاد أسطول حربي حقيقي، فأمر في لحظة يأس بإغراق ما تبقى من السفن المغربية القليلة في ميناء سلا.. كأنه يئس من الموضوع وأراد نسيانه وسدّ بابه نهائيا.ولعل من المفيد هنا أن أعرض لرأي الأستاذ المؤرخ عزيز قنجاع، فبحسب مقال له نشره موقع العرائش 24 .. فإن بداية استعمار المغرب وانهزامه أمام الأمم الأوربية لم تكن مع معركة إيسلي التي خاضها المغرب ضد فرنسا سنة 1844، ولا مع حرب تطوان مع الإسبان.. بل هزيمة المغرب العسكرية الأولى كانت معركة العرائش، ورغم أن المغاربة تصدوا ببسالة لهذا الهجوم، إلا أن هذه الواقعة في نظر معاصري الحدث وفي نظر مثقفي القرن التاسع عشر كانت أكبر مصيبة حلت بالمغرب، إذ من نتائجها إنهاء البحرية المغربية تماما.. والتمهيد للهجوم الأجنبي. هذا رأي، ولستُ مؤرخا لأحكم عليه بشيء، لكنه رأي جدير بالفحص والتأمل.وبعد، فهذا –والله أعلم- بعض ما ظهر لي في هذا الموضوع الذي يحتاج لدراسات مستقلة، ولمشاركة أهل الاختصاص من المؤرخين والمهتمين.. ولعل منهم ومن القراء الكرام من يشاركنا بعلمه ولا يبخل علينا بمعرفته. آمين.
Published on December 29, 2013 09:32
إلياس بلكا's Blog
- إلياس بلكا's profile
- 50 followers
إلياس بلكا isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

