إلياس بلكا's Blog, page 13
November 10, 2013
سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (7). الظاهرة الدينية الجديدة: صعود الإنجيليين.
سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (7).
الظاهرة الدينية الجديدة: صعود الإنجيليين. إلياس بلكا
المسيحية في عالم اليوم.
أود هنا أن أسجل ملاحظة تتعلق بنا، وهي أن في موقف الفكر الإسلامي المعاصر من المسيحية شيئا من الاستعلاء واللامبالاة. أما الاستعلاء فمفهوم، لأنه ينبع من عقيدتنا الإسلامية التي تثبت تحريف المسيحية، وأيضا من ملاحظة تناقضاتها العقلية وأخطائها التاريخية... أعني أنه عادي جدا أن يعتقد المؤمن بدين ما أن ديانته أفضل وأرقى من أديان غيره.
لكن ما لا نفهمه هو الإهمال واللامبالاة. نحن مثلا لا نعرف كبير شيء عن البابوات الراحلين، ولا عن البابا المستقيل، ولم نهتم بهم وبدراسة أفكارهم وأعمالهم وأدوارهم في عصرنا، رغم أنهم من الشخصيات المؤثرة في عالم القرن العشرين... ما هي مثلا الدراسات العربية عن البابا يوحنا بولس الثاني، واحد من أهم بابوات القرن العشرين؟ وكذلك لا نعرف شيئا عن البابا بينيديكتوس، ولا شيئا عن البابا الحالي.
تظل المسيحية –رغم كل شيء- مؤثرة في عالم اليوم، ولها حضورها النوعي والعددي، كما لها تأثيرها في مجريات الأحداث.. تأثير كثيرا ما يكون خفيا غير بارز. فالواجب إذن هو دراسة عالم المسيحية باستمرار، لأنه ليس من الماضي فقط، بل هو حاضر أيضا. ولا يجب أن تقتصر هذه الدراسة على النواحي العقدية فقط، وهي التي يقوم بها علم مقارنة الأديان، بل أيضا تدرس سياساتها وأفكارها الحديثة وتجاربها وكيفية مجابهتها لقضايا عصرنا...
ومن ناحية أخرى يوجد اليوم فكر مسيحي معاصر، كما يوجد الفكر الإسلامي المعاصر، وكلاهما يشترك – بحكم خلفيتهما الدينية- في مجابهة أسئلة حرجة واحدة، كما في قضايا المرأة، والدعوة أو التبشير، وتطورات علم الإراثة، وحقوق الإنسان، والنزعة الفردانية، وحوار الأديان، ومشكلة اللادينية... ونحو ذلك. أعني أنه توجد إمكانيات واعدة للاتفادة المتبادلة بين الفكرين. فمن لهذه المهمة ومتى نقوم بها؟
وأضرب هنا مثالا لتطور خطير تعرفه المسيحية، ورغم ذلك لم نتابعه بالدرس والبحث.
بروز البروتستانتية:
وقد خصصت مجلة "تاريخ وتراث" الفرنسية أحد أعدادها لهذا الموضوع. وفي الحوار الذي أجرته المجلة مع الأستاذ والأكاديمي المتخصص في الموضوع فيليب جوتار، نجده يعلل نجاح البروتستانتية بتوافقها مع الفردانية الحديثة. ولكنه غير مطمئن للصعود السريع الذي تعرفه اليوم الكنيسة الإنجيلية، وهي أهم الكنائس البروتستانتية (حوالي 400 مليون منتم مقابل 312 مليون شخص محسوب على الكنائس الأخرى كالكالفنية والتعميدية...). فهي تخلط بين التبشير العادي وبين رؤية سياسية خاصة تبغي السيطرة.
ويرى المحاوَر أن بين الإنجيليين –في المسيحية- وبعض السلفيين –في الإسلام- شبها كبيرا، فعندهما معا نجد: أجوبة بسيطة لعالم معقد، وقراءة حرفية للنصوص، وتفكير مانوي يقسم الناس إلى ناجين وهالكين.. ولذلك يخشى جوتار على السلم العالمي من الكنائس الجديدة التي تنبت كالفطر، في أمريكا خاصة.
وتنبه مقالات أخرى على ظاهرة التقدم السريع للإنجيليين، وهو تقدم أسرع من الإسلام، كما يقول سيباستيان فاط الاختصاصي في الحركات الإنجيلية، والذي كتب مقالا ثانيا عن التأثير الذي يمارسه هؤلاء على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، خاصة في عهد الرئيس بوش الابن.
وتقول ناتالي لوكا –الباحثة بالمركز الوطني الفرنسي-: من مظاهر هذا النجاح الإنجيلي أن 25% من سكان كوريا الجنوبية أصبحوا بروتستانت إنجيليين، وكذلك ما يقدر بخمسين مليون صيني.
تقصير الفكر العربي-الإسلامي هنا:
والحقيقة أننا –معشر العرب والمسلمين، خاصة أهل الفكر والعلم منهم- قصّرنا حين لم نتعرف في الزمان المناسب على التطورات التي كانت تعيشها البروتستانتية منذ حوالي نصف قرن.. حتى فوجئنا بقوتها اليوم، وبأن لأكبر فروعها تأثير مهم على حاضرنا ومصائرنا.
ومما يعلل هذا التقصير في نظري هو أن الفكر الإسلامي الحديث المهتم بالأديان نسي في غمرة انشغاله بالكاثوليكية وعقائدها أن يوجه بعض جهوده لفهم البروتستانتية وتتبع أحوالها، حتى إنني لا أعرف لمفكر أو مؤلف عربي كتابا عميقا وواسعا في موضوع البروتستانتية.
هذا ما ظهر لي حين كنتُ أُعد لتأليف كتاب عن الإصلاح الديني بين الإسلام والمسيحية، وللأسف أن هذا التأليف لم يتمّ.
فلعل في الباحثين والمؤسسات الفكرية من يسد هذه الثغرة الخطيرة.. ببحوث حرة، أو أكاديمية.. بل حتى بمجموعة مقالات... تُحرّك هذا السكون الخطأ. إلياس بلكا
Published on November 10, 2013 11:07
سلسلة التصوف السلفي (4): في معنى قول الصوفية: قد يكون العلم حجابا.
سلسلة التصوف السلفي(4) في معنى قول الصوفية: قد يكون العلم حجابا. تأليف: إلياس بلكا.قولهم العلم حجاب قولة صحيحة، رغم أنها في الظاهر مستنكرة. ومعناها أن الانشغال بالعلم فقط يخفي في الغالب رغبة في نفع الذات وشهوة الظهور والشهرة، كما في الحديث أنه يؤتى بالعالم فيقذف في النار لأنه تعلـّم ليقال عالم. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن للعلم لذة وأن في النفس رغبة في السيادة بالعلم على الآخرين. وهنا من الواضح أن نية العالم أو المتعلم فاسدة، فيقول له المربون من الصوفية: دع العلم، أي توقف تماما عن التعلم أو التعليم وما يتعلق بهما. وهذا إجراء مؤقت، فهم لا يقصدون بذلك اتخاذ موقف سلبي مبدئي من العلم.والقصة كلها عند الصوفية تتلخص في أن غاية الإنسان في الدنيا يجب أن تكون رضا الله وحده، فأي شيء يقف في هذا الطريق يكون لا مشروعا ولا محبذا، ولو كان هو العلم الشرعي، بما في ذلك علوم القرآن والحديث (أعني إذا أصبحت هذه العلوم صنعة وسبيلا لأكل الدنيا، لا غير.).. لأنه إذا أصبح هو الغاية كان عمل الإنسان لنفسه لا لربه، وكان له التعب، تعب البدن والعقل، ولا أجر له على الله لأنه لم يقصد وجهه، ولأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا. وهذا منشأ المذهب القديم للفقهاء في عدم جواز أخذ أجرة على إقراء القرآن الكريم وإمامة الصلاة والأذان.. ونحو ذلك. ثم عدلوا عن هذه الفتوى لما خافوا على هذه الفروض من الاندثار، فعدوها من فروض الكفاية وأباحوا الأجر عليها. والشيطان لا يأتي الإنسان في صورة الحرام دائما، بل قد يأتيه أحيانا في صورة الدين أو العلم أو الفضل، فهذا من تلبيسات إبليس التي أوضحها جيدا ابن الجوزي في كتابه الممتع: تلبيس إبليس. وأهل الخير غالبا ما يؤتون من هذا الباب لأن الشيطان يئس من جرهم إلى المعصية، خاصة المعاصي البدنية.. فيدخل عليهم من المعاصي القلبية أو من إفساد النية وتحريفها إلى أغراض أخرى، وهو الرياء الذي سماه الحديث الشرك الأصغر.فإذا صلحت النية واستقامت عاد هؤلاء المربون وقالوا له: الآن ارجع إلى ما كنت عليه، فعلـّم وتعلم فذلك من أفضل القربات إلى الله.. تماما كما وقع للغزالي الذي دخل في أزمة نفسية عميقة جدا، وهو في ذروة سلطانه العلمي، فقد كان مشهورا ومقربا من السلطان، له تصانيف سارت بذكرها الركبان، وكان يدرّس في أعلى المدارس الدينية: المدرسة النظامية ببغداد حيث يحضر مجلسه من العلماء –ناهيك عن الطلبة- أكثر من أربعمائة.. ثم فجأة كرهت نفسه ذلك، ولازم بيته، ومرض مرضا كاد يودي بحياته. والسبب أنه اكتشف –في لحظة صفاء- أن ذلك كله أو أكثره كان للدنيا لا لله سبحانه، فبدأ يتساءل: ما الداعي لهذا كله، وما هي الغاية من الحياة أصلا، وقد اعترف له الجميع بالإمامة في العلم، لكن ماذا بعد؟ وقد حكى بنفسه قصته هذه في كتابه العجيب (المنقذ من الضلال)، وهو من السير الفكرية النادرة في تراثنا العلمي.ترك الغزالي العراق، وساح في الأرض وتصوف، ثم دخل الخلوة وتفرغ للتعبد في الأكثر، وإن كان يستجيب أحيانا لرفاقه من الصوفية فيقدم لهم بعض الدروس.. واستمر على هذا المنوال سنين عددا. فلما صفت نيته ولاحظ ذلك منه أصحابه أمروه بالعودة للتدريس والتصنيف وألحوا عليه، فعاد إلى العراق وإلى ما كان عليه. والغزالي هو صاحب القولة الجميلة المشهورة: أردنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله. ذلك أن العلم الحقيقي يهدي صاحبه إلى الله ويزهده في الدنيا، وبقدر نقص العلم يكون التعلق بالدنيا ورغبات النفس، وعلى قدر زيادته ورسوخه يقلّ ذلك. وإن كان يشكل على هذا ما جاء في الأمم السابقة عن العلماء السوء، وفي أمتنا أيضا.. فهؤلاء علماء بشهادة الحديث، لكن علمهم لم ينجهم؟ ويبدو لي والله أعلم أن هؤلاء علماء فعلا، وتصدق عليهم صفة العلم، لكنهم لم يبلغوا العلم الراسخ، فالعلم الراسخ حتما يقرب الإنسان من الله، كما في سورة آل عمران: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به، كل من عند ربنا).. والله أعلم.وقد يكون في الصوفية أو من يدّعون المشيخة بغير تأهيل من يفهم قولة الصوفية هذه باعتبارها عداوة للعلم. هؤلاء لم يفهوا المراد فلا يحتج بهم، وإنما الحجة في الشيوخ الكاملين من أهل العلم والسنة والصفاء، أولائك الذين تلقت الأمة طريقهم بالقبول العام.والخلاصة أن العلم عبادة عظيمة، وشأنه عند الله كبير.. لكن بشرط خلوص النية لربّ كل شيء: رب العلم، وغير العلم.يتبع..
Published on November 10, 2013 10:20
November 9, 2013
تعريف بمؤسسة فكرية وعلمية: مبـــــــــدع.
Published on November 09, 2013 10:54
November 6, 2013
مقال جديد: الإسلام وفكرة التقدم
صدر مقالي هذا (الإسلام وفكرة التقدم Progres ) ضمن العدد الثاني عشر من مجلة التنوير المعرفي التي تصدر عن مركز التنوير المعرفي بالخرطوم، السودان. وهي فصلية فكرية محكمة. ومن ضمن مواد العدد أيضا: الأنظمة العربية - تآكل الشرعية السياسية. بناء الدولة السودانية المعاصرة من منظور التعدد الثقافي.. وواقع حرية الفكر في العالم العربي والإسلامي المعاصر (محاضرة).. وإمكانية التعايش بين الإسلام والغرب في عصر الهيمنة الغربية...وغيرها.
http://tanweer.sd/arabic/modules/smartsection/category.php?categoryid=4
http://tanweer.sd/arabic/modules/smartsection/category.php?categoryid=4
Published on November 06, 2013 11:16
November 1, 2013
سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (6). مستقبل المسيحية العربية
أكتب هنا عن بعض القضايا المهمة التي تحتاج إلى جهود الباحثين والمؤلفين، خاصة من جيل الشباب.. فهي قضايا مهمة بالنسبة لحاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها، بل إن نهضتنا المنشودة تقوم جزئيا على الدراسة العميقة والجادة لهذه المشكلات وأمثالها، وتقديم الحلول المناسبة لها: حلول تراعي الدين وقواعده، دون أن تغفل عن العصر وطبيعته. سلسلة آفاق جديدة في العلوم الإسلامية (6).
مستقبل المسيحية العربية
إلياس بلكا
انعقد هذا الأسبوع مؤتمر جمع مسيحيي الشرق ببيروت برئاسة الرئيس اللبناني ميشال سليمان.. فكتبت هذه الكلمات:
بداية أرى أن لإخواننا المسيحيين بالعالم العربي والإسلامي مكانتهم ودورهم ووجودهم المشروع. وليس هذا اختيارا منا فقط، بل هو– قبل ذلك- من مبادئ الإسلام الكبيرة، والتي فرضت على المسلمين الاعتراف بأهل الكتاب. ولولا هذا الموقف الديني العظيم لما استمر وجود المسيحيين بأرض الإسلام طوال أربعة عشر قرنا.
إن الإسلام يعترف بالديانتين المسيحية واليهودية، وهما اللتان لم تقابلا ذلك باعتراف مماثل. بل نحن نشهد اليوم –كما يقول اكسافيير تيرنسيان في مقال له عن البابا السابق- أن أفكار بينوا السادس عشر هي نوع من الردة حتى عن أفكار سابقه بولس الثاني في موضوع العلاقة مع الإسلام.
لهذا أدعو الجميع إلى فتح هذا الملف ومعالجته بجد وصدق في حوار بناء وصريح، فالمسيحيون العرب كانوا دوما جزء لا يتجزأ من حضارتنا العربية-الإسلامية، ولئن لم يكن الإسلام لهم دينا، فهو لهم ثقافة وتراث. إن الوجود المسيحي جزء لا غنى عنه من ماضينا وحاضرنا المطبوعين بالتنوع والتكامل: وجود مقرر شرعا ودينا، وثابت تاريخيا وحضاريا. ولسنا نفرح ولا نشرح لاندثار هذا الوجود وغياب هذا المكون الحضاري العريق.
إن الفكر العربي والإسلامي مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى التفكير في موضوع الأقليات –دينية كانت أو إثنية- وتقديم اجتهادات تجمع بين الثوابت الدينية والحضارية وبين احترام حقوق الأفراد والجماعات... مراعيا في ذلك الانقلابات الكبرى التي شهدها العالم الحديث –ولا يزال- في جميع المجالات.
فإذا تمهد هذا انتقلت إلى ذكر ملاحظات مختصرة عن هذا الموضوع:
1- يتفاجأ المتتبع أحيانا بمقالات كثيرة في طريقة معالجتها للقضية، خاصة بأوربا: مغالطات بالجملة، وتحوير للحقائق، وجهل بواقع الإسلام والمسلمين.. كل ذلك في إطار واضح من التهويل والتحريض.. وهذا يجعلنا نتفهم الطابع الحذر للفكر الإسلامي المعاصر في تناوله لهذه القضايا، كالتنصير مثلا. فهذا يبين بجلاء أنه بالنسبة لكثير من الغربيين يعتبر "الخلاف الإسلامي- المسيحي" قضية جد مركزية وانشغالا ثابتا.
2- إن أوضاع المسيحيين العرب ليست بهذا السوء الذي يصورها به بعض الكُتاب. فأقباط مصر مثلا أفضل من مسلميها من الناحية الاقتصادية. كما أن أزمة دارفور في السودان كشفت أن حرب الجنوب لم تكن دينية، فأهل دارفور مسلمون. ولذلك فإن أسباب هذه الأزمات تكمن في النواحي السياسية والقبلية والاقتصادية.. ونحوها.
3- يهمل بعض المتحدثين عاملا رئيسا في تراجع المسيحية العربية، وهو ظاهرة الحداثة التي طبعت العالم الأوربي منذ حوالي قرنين، وأدت إلى تراجع المسيحية الأوربية نفسها فيما يعرف بـ "انحسار النصرانية" Déchristianisation. وجاءت العولمة أخيرا فسرّعت هذه الظواهر وعمقتها.
ولما كان المسيحيون العرب سباقين –كما هو معروف- إلى الاحتكاك الثقافي بأوربا منذ بداية القرن التاسع عشر... كان من الطبيعي أن يتعرضوا باكرا لرياح الحداثة والأنوار. ولهذا تساءل أحد الذين كتبوا في الموضع عن ما إذا كانت الدول الغربية تتحمل قسطا مهما من مسؤولية الهجرة المستمرة للمسيحيين العرب إليها، بحكم الإغراء والاستعلاء الحضاريين الذين يمارسهما الغرب على الشرق بجميع من فيه.
هذا ما يضع الموضوع في إطاره الصحيح، فكثير من العرب –مسلمين ومسيحيين- يهاجرون إلى أوربا وأمريكا، وأكثر هذه الهجرات لا علاقة لها بالدين، بل لأسباب اقتصادية وثقافية معروفة (مثل جاذبية نمط الحياة الغربية)... أما المهاجرون لأسباب سياسية أو للاضطهاد، فإن إحصاءات الأمم المتحدة تبين أن الأكثرية الساحقة من اللاجئين في عالم اليوم هم من المسلمين.
4- الكلام عن انقراض المسيحية بالشرق العربي كلام مغلوط، يتعمد أصحابه التهويل لتحريض الرأي العام الأوربي والأمريكي على مزيد من التدخل في المنطقة. بينما الواقع أن الأمر يتعلق فقط بتراجع في نسبة المسيحيين إلى المسلمين –كما بلبنان- لأسباب كثيرة أهمها: الديموغرافيا والهجرة. لذلك فالوجود المسيحي قائم ومستمر، على الأقل في المستقبل المنظور.
5- من الغريب أن يعتبر كاتب مقالة "نحو مسيحية عربية" (في ملف خاص بملاحق جريدة لوموند الفرنسية) أن استمرار النصرانية بالعالم العربي هو ضمانة لعلمانيته ولائكيته. إذ ما مصلحته هو –أو غيره- في ذلك، وما علاقة ذلك بالموضوع.
يبقى أن هذا من القضايا التي على شبابنا من الباحثين دراستها بعمق، وذلك في سبيل الجواب عن سؤال مركزي وكبير: كيف نصحح العلاقات الإسلامية-المسيحية بحيث لا يستغل أحدٌ المسيحيين العرب لأغراضه الخاصة أو الاستعمارية.. وكيف نجعل الوجود المسيحي بيننا، والأمر يتعلق أساسا بالمشرق العربي، عنصر غنى لحضارتنا.. كيف السبيل إلى نموذج حضاري يجمع المسلمين والمسيحيين.. ويشاركون جميعا في بنائه وفي الاستفادة من ثماره.. تماما كما نجحت حضارتنا في الماضي، خاصة في العهد العباسي، في صهر جميع الشعوب والديانات والمذاهب في بوتقة اجتماعية وسياسية وحضارية واحدة..؟؟ إلياس بلكا
Published on November 01, 2013 12:02
October 31, 2013
نقد بعض القراء لسلسلتي في التصوف السلفي.
نقد بعض القراء لسلسلتي في التصوف السلفي:
أرسل الأستاذ البوكيلي هذا التعليق إلي:
أستاذي الفاضل إلياس بلكا، السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته.
إن انفتاحكم على الفكر الصوفي،قراءة وكتابة، و إثارتكم للمسائل التي رأيتم أنه من الواجب البث فيها، مشروع جيد، لكن الحق أن مشروعا من هذا القبيل لا بد له من باحث جمع بين الفقه و التصوف ،و هو جمع بين الفقه و الطريقة...إذ لا يكفي تحصيل علم التصوف من الأوراق لمعرفة الخطاب الصوفي معنا و مقصدا.
لذلك أرى أن الكتابة في التصوف هي كتابة واهمة إن كان صاحبها لم و لا يمارس التصوف.
ردود أخرى:ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليق الأستاذ بدر:
Badr ELhamri "من ذاق عرف .. ومن عرف اغترف" .. أو قل الكتابة في علم القوم أو التصوف عموما، دون تجربة ..، يجعل الحروف باردة .. فليس كل من كتب في الحب عاشق .. مجهودك طيب دكتور إلياس وأملي أن تحدثنا مستقبلا عن ما عرفته بعدما جربت السير صحبة " مول الوقت" ..! مع كامل المحبة.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتعليق الأستاذ مصطفى: [image error]
Mustapha Bougarn لا أتفق مع هذا الرأي، لأن القول بخوض التجربة ركن أساسي قبل ممارسة النقد، يسد الباب على كل ناقد؛ فإن كان البوكيلي يقول بضرورة خوض التجربة الصوفية، فقد يقول سلفي آخر ، بضرورة خوض التجربة السلفية، بمعنى آخر لا يمكن نقد القصيد إلا إذا كنت شاعرا..، ينتج عن هذا القول؛ أن الناقد ينبغي أن يتوفر فيه الشرط النظري و التجريبي، و هذا عسير، أرى أن تجربة النقد ليس من شرطها التجربة و الممارسة العملية، الأساس عندي في الباحث العدة النظرية و العلمية، و إن دخل إلى التجربة فهو يخضوها بنفس الباحث لا بنفس المنتمي إلى الطريقة أو إلى الجماعة و الحركة و الحزب، لتكون نتائج بحثه أكثر تفسيرية ..فيحث الباحث الاكاديمي غير بحث الباحث المنتمي للحزب و الطريقة من الصعب أن ينفك عن أدلوجته..و الله أعلم.
أرسل الأستاذ البوكيلي هذا التعليق إلي:
أستاذي الفاضل إلياس بلكا، السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته.
إن انفتاحكم على الفكر الصوفي،قراءة وكتابة، و إثارتكم للمسائل التي رأيتم أنه من الواجب البث فيها، مشروع جيد، لكن الحق أن مشروعا من هذا القبيل لا بد له من باحث جمع بين الفقه و التصوف ،و هو جمع بين الفقه و الطريقة...إذ لا يكفي تحصيل علم التصوف من الأوراق لمعرفة الخطاب الصوفي معنا و مقصدا.
لذلك أرى أن الكتابة في التصوف هي كتابة واهمة إن كان صاحبها لم و لا يمارس التصوف.
ردود أخرى:ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليق الأستاذ بدر:
Badr ELhamri "من ذاق عرف .. ومن عرف اغترف" .. أو قل الكتابة في علم القوم أو التصوف عموما، دون تجربة ..، يجعل الحروف باردة .. فليس كل من كتب في الحب عاشق .. مجهودك طيب دكتور إلياس وأملي أن تحدثنا مستقبلا عن ما عرفته بعدما جربت السير صحبة " مول الوقت" ..! مع كامل المحبة.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتعليق الأستاذ مصطفى: [image error]
Mustapha Bougarn لا أتفق مع هذا الرأي، لأن القول بخوض التجربة ركن أساسي قبل ممارسة النقد، يسد الباب على كل ناقد؛ فإن كان البوكيلي يقول بضرورة خوض التجربة الصوفية، فقد يقول سلفي آخر ، بضرورة خوض التجربة السلفية، بمعنى آخر لا يمكن نقد القصيد إلا إذا كنت شاعرا..، ينتج عن هذا القول؛ أن الناقد ينبغي أن يتوفر فيه الشرط النظري و التجريبي، و هذا عسير، أرى أن تجربة النقد ليس من شرطها التجربة و الممارسة العملية، الأساس عندي في الباحث العدة النظرية و العلمية، و إن دخل إلى التجربة فهو يخضوها بنفس الباحث لا بنفس المنتمي إلى الطريقة أو إلى الجماعة و الحركة و الحزب، لتكون نتائج بحثه أكثر تفسيرية ..فيحث الباحث الاكاديمي غير بحث الباحث المنتمي للحزب و الطريقة من الصعب أن ينفك عن أدلوجته..و الله أعلم.
Published on October 31, 2013 06:44
October 27, 2013
محاضرتي على الفيديو في مؤتمر: الندوة الدولية الأولى ببرشلونة: نحو تأسيس التنسيق الإسلامي -المسيحي..
محاضرتي على الفيديو في مؤتمر: الندوة الدولية الأولى ببرشلونة / إسبانيا: المسلمون وسبل التعايش مع قيم المجتمعات الأوربية. ديسمبر 2010.
موضوع المداخلة: نحو تأسيس التنسيق الإسلامي -المسيحي بأوربا.
انظر موقع:
http://www.youtube.com/watch?v=lIV3pHz4wGI
موضوع المداخلة: نحو تأسيس التنسيق الإسلامي -المسيحي بأوربا.
انظر موقع:
http://www.youtube.com/watch?v=lIV3pHz4wGI
Published on October 27, 2013 05:49
October 25, 2013
أدب المناجاة (5). أدب المناجاة.. عند ابن الجوزي من خلال كتابه المدهش.
أدب المناجاة (5). أدب المناجاة.. عند ابن الجوزي من خلال كتابه المدهش.
نقلا عن موقع: http://www.bab.com/node/4684 لم يذكر الموقع اسم المؤلف. الإمام أبو الفرج جمال الدين بن علي بن محمد بن جعفر الجوزي البغدادي المولود سنة 508 هـ، والمتوفى سنة 597 هـ (1114 ـ 1201 م) من أئمة حضارتنا وأعلامها المشهورين. ـ والجوزي أوابن الجوزي عربي قرشي تيمي بكري يتصل نسبه بأبي بكر الصديق رضي الله عنه.. وقد ولد ببغداد وعاش بها وظهر نبوغه مبكرا (1) وهو من المكثرين في التأليف، وقد صنف في فنون كثيرة وقد حسب عمره وقسم ما ألفه عليه منذ ولد فكان ماخص كل يوم تسع كراريس (2) وأظنهم عنوا بالكراريس ما يعرف في عصرنا بالورقات أو الصفحات. فهو ـ بهذا ـ تال للطبري وابن حزم.. وربما فاق ابن تيمية وابن القيم في كثرة ما ألـــف. وقد برز ابن الجوزي في علوم كثيرة تفرد بها، وجمع من المصنفات الكبيرة والصغيرة نحوا من ثلاثمائة مصنف، وكتب بيده فيما قيل ـ نحوا من مائتي مصنف. وقد أخذ الفقه عن أبي منصور الجواليقي، وحفظ الوعظ، ووعظ وهو ابن عشرين سنة أو دونها، وحضر مجلس وعظه ألوف كثيرة، كان من بينهم الخلفاء والوزراء والأمراء والعلماء.. فضلا عن العامة.. وقيل إن أقل من كانوا يحضرون في مجلس وعظة عشرة آلاف مستمع.
وقد عرف ابن الجوزي بفن برز فيه وبز فيه وهو فن الوعظ ويعتبر كتابه المدهش(3) العمدة في هذا الباب، والذي يمثل فيه ابن الجوزي قمة النبوغ في هذا الفن، الذي يعد من الفنون الأساسية في بناء الإنسان المسلم وتكوين شخصيته، على أساس رباني لا يتجاوز الدنيا، وإنما يربطها بالآخرة ربطا محكما لا تنفك عنه، تماما مثلما ترتبط القنطرة بالطريق، وترتبط الغاية بالوسيلة. وقد ساعدت الأدوات الثقافية الكثيرة التي يملكها ابن الجوزي فن الوعظ عنده على البلوغ للغاية، والصعود إلى قمة سامقة، قلما يطاوله فيها واعظ من الواعظين.. فعلمه بالحديث، وموهبته الشعرية، وقدرته الأدبية، وعلمه بالتاريخ، وثروته اللغوية، وإلمامه بالجوانب النفسية والاجتماعية المؤثرة في الإنسان، .. كل هذه المواهب جعلته ينجح في فن الوعظ.. وينجح كعالم مخلص يحسن تربية الأمة تربية رفيعة المستوى، جامعة بين الدنيا والآخرة. وكان تفرد ابن الجوزي بفن الوعظ تفردا لم يعرف له مثيل، فلم يسبق إليه، ولم يلحق شأوه فيه، وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته، وحلاوة ترصيعه ونفوذ وعظه، وغوصه على المعاني البديعية، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية، بعبارة سريعة الفهم، بحيث يجمع المعاني الكبيرة في الكلمة اليسيرة (4).
وكتاب المدهش ـ الذي ندرسه في هذه الصفحات ـ دليل كبير على تفرد ابن الجوزي في هذا الفن العظيم.. فن الوعظ..
كتاب المدهش: ولقد أطلق أبو الفرج على كتابه اسم المدهش، وهو محق في ذلك، فهو آية من آيات الله في الوصول إلى لب المعنى، بأدق لفظ وأبلغه وأوجزه، وهو حافل بالمعنويات الدالة على سعة علم الإمام أبي الفرج الجوزي.. إن هذا الكتاب الذي بلغت صفحاته أكثر من خمسين وخمسمائة صفحة من القطع الكبير، بتحقيق الدكتور مراد قباني قد انقسم إلى قسمين بارزين: أولهما: الأبواب الأربعة الأولى، التي تعالج قضايا وثيقة الصلة بالواعظ والوعظ، لكنها ليست مباشرة في فن الوعظ، وفيها حديث عن علوم القرآن الكريم، وأبواب منتخبة من الوجوه والنظائر في المصطلحات والأدوات اللغوية، وباب في تصريف الفقه وموافقة القرآن لها. وكلام في علوم الحديث، وفضل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وثمة كلام في أشياء متفرقة نادرة وطريفة.. والباب الرابع منها خصه لذكر عيون التواريخ والتعريف بالأقاليم وقصص الأنبياء ـ ببلاغة وجيزة ـ حتى انتهى إلى سيرة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام... أما القسم الثاني؛ وهو جوهر الكتاب، فهو القسم الخاص بالمواعظ، وهو يتكون من مائة فصل.. أولها الفصل الخاص بشرح قوله تعالى هو الأول والآخر وآخرها الفصل الخاص بموعظة أولها: يا من أنفاسه محفوظة.. وهو الفصل المائة.. ثم أنهى ابن الجوزي كتابه بخاتمة في ثلاثة فصول أو بتعبير آخر بثلاث مواعظ أولها: الموت مقاتل يقصد المقاتل فما ينفعك أن تقاتل وثانيتها: موعظة أولها: أين الذين سلبوا؟ سلبوا المال ما غلبوا... غلبوا.. عمروا ديارهم فلما تمت خربوا وثالثتها: عباد الله إنما الأيام طرق الجد، والساعات ركائب المجد.. ولم يكن منهج الوعظ وما يوجبه من استحضار للآخرة والموت واستعلاء على الدنيا واستجاشة للعواطف العلوية الموصولة بخالق الكون.. لم يكن هذا المنهج بعيدا عن أية صفحة من صفحات الكتاب، حتى ما كان منها خاصا بقصص الأنبياء أو متعلقا بالتعريف بجانب من جوانب القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة..
إن كتابه المدهش كله صفحة مناجاة لله سبحانه وتعالى، وهو كله قنوت ودعاء وشوق إلى ما عند الله.. ورغبة فيما فوق هذه الدنيا ـ وزهد في الدنيا.. عندما يتحدث ابن الجوزي في قصة الخضر عليه السلام يقول: لما علا شرف الكليم بالتكليم كل شرف.. قال له قومه: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، ولم يقل: فيما أعلم، فابتلي فيما أخبر به وأعلم.. فقام بين يدي الخضر، كما يقوم بين يدي السليم الأعلم.. فابتدأ بسؤال: (هل أتبعك)؟ فتلقاه برد: (لن)... وكم أن موسى من لن.. ـ أمر قومه بالإيمان فقالوا.. لن نؤمن.. وقعوا في التيه فقالوا: لن نصبر ندبوا للجهاد فقالوا لن ندخلها ... طرق باب (أرني) فرده حاجب (لن) (من لن تراني) ... دنا إلى الخضر للتعلم فلفظه بلفظ (لن) ثم زاده من زاد الرد بكف (وكيف تصبر)(5)..! ?
وفي حديثه عن قصة أهل الكهف(6) يقول: كان رقم (كتب في قلوبهم الإيمان) قد علا على كهف قلوب أهل الكهف، فلما نصب ملكهم شرك الشرك، بان لهم خيط الفخ ففروا، وخرجوا من ضيق حصر الحبس إلى الفضاء فضاءلهم، فما راعهم في الطريق إلا راع وافقهم، فرافقهم كلبه، فأخذوا في ضربه، لكنهم ليسوا من ضربه، فصاح لسلط حاله: لا تطردوني لمباينتي جنسكم فإن معبودكم ليس من جنسكم، أنا في قبضة إثاركم أسير.. أسير إن سرتم، وأحرس إن نمتم، فلما دخلوا دار ضيافة العزلة، اضطجعوا على راحة الراحة من أرباب الكفر، فغلب النوم القوم (ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا) ثم يختتم كلامه عن أهل الكهف بقوله: ليس العجب من نائم لم يعرف قدر ما مر من يومه، وإنما العجب من نائم في يقظة عمره أما والله لو عرف الأنام لمـا خلقوا لما غفلوا وناموا لقد خلقوا لما لو أبصرته عيون قلوبهم ساحوا وهاموا ممات ثم قبر ثم حشر وتوبيخ وأهوال عظام ليوم الحشر قد خلقت رجال فصلوا من مخافته وصاموا ونحن إذا أمرنا أو نهينا كأهل الكهف أيقاظ نيام(7) ومن هذين النموذجين نرى صدق ما ذكرناه من أن كتاب المدهش كله إنما هو وقفة دعاء وقنوت، توجه بها ابن الجوزي إلى الله سبحانه وتعالى، وهو ـ في كل سطوره وما بين سطوره ـ سبحات فكر، وصلوات واستغفار وأنات، وصور من الخشوع والخضوع، النابعة من قلب يحترق شوقا، ويتفاعل إيمانا، بكل ما تحمله معاني الشوق إلى الله، ومعاني الإيمان العلوي الخالص.. وهو في النهاية نموذج أدبي شعري ونثري رفيع، يقدم صورة من صور تألق الوعظ بعامة في تراثنا الأدبي الإسلامي. إن عظمة أسلافنا الذين صنعوا حضارتنا كان في هذا المنهج الذي يمزج بين رهبنة الليل وفروسية النهار، ويأخذ من عبوديته الوقود لمعاملاته، ومن استحضار الآخرة الحضور الأزكى والأعلى والأقوى في الدنيا.. لقد كانوا علماء يوجهون علمهم لعمار الدنيا باسم الله، وتحت راية عبوديته، ولم يكن علم الإسلام، ولا علم الدنيا ترفا أو فكرا محضا موجها للاستعلاء، أو المنفعة الشخصية أو الوطنية أو القومية.. ولقد آتاهم الله بهذا المنهج الشمولية، والفقه الصحيح، والعلم الواسع.. كما بارك لهم في عملهم، وأعطاهم قيادة الحضارة البشرية.. وما سقط العلم الإسلامي إلا يوم أن وجهه بعضهم للدنيا وقطعوه عن الأخرة.. ووجهه أخرون ـ بزعمهم ـ للأخرة وقطعوه عن الدنيا.. مع أنهما في الإسلام متلازمان، تلازم الروح والجسد.
فإذا ما انتقلنا إلى القسم الثاني الذي يتكون من مائة فصل، والذي بسطه المؤلف في أكثر من أربع مائة صفحة يتجلى لنا ابن الجوزي إماما في أدب المناجاة والابتهالات.. ففي وقفته عند قوله تعالى هو الأول والآخر وهذا هو عنوان الفصل الأول من القسم الثاني عنده.. يتوجه ابن الجوزي إلى الذات العلية بهذه الابتهالات الفريدة... (8) سبحان من أقام من كل موجود دليلا على عزته، ونصب علم الهدى على باب محبته.. الأكوان كلها تنطق بالدليل على وحدانيته، وكل موافق ومخالف يمشي تحت مشيئته، إن رفعت بصر الفكر ترى دائرة الفلك في قبضته، وتبصر شمس النهار وبدر الدجى يجريان في بحر قدرته، والكواكب قد اصطفت كالمواكب على مناكب تسخير سطوته، فمنها رجوم للشياطين ترميهم فترميهم عن حمى حمايته، ومنها سطور في المهامه يقرؤها المسافر في سفر سفرته. وإن خفضت البصر رأيت الأرض ممسكة بحكمة حكمته.. كل قطر منها محروس بأطواره عن حركته، فإذا ضجت عطاشها ثار السحاب من بركة بركته. ونفخ في صور الرعد لإحياء صور النبات من حضرته، فيبدو نور النور يهتز طربا بخزامى رحمته ومنها قوله أيضا:(9) نظر بعين الاختيار إلى آدم، فحظي بسجود ملائكته، وإلى ابنه شيث فأقامه في منزلته. وإلى إدريس فاحتال بالهامه على جنته، وإلى نوح فنجا من الغرق بسفينته، وإلى هود فعاد على عاد شؤم مخالفته، وإلى صالح فتمخضت صخرة بناقته، وإلى إبراهيم فتبختر في حلة خلته، وإلى إسماعيل فأعان الخليل في بناء كعبته، وإلى لوط فنجاه وأهله من عشيرته، وإلى شعيب فأعطاه الفصاحة في خطبته، وإلى يعقوب فرد حبيبه مع حبيبته، وإلى يوسف فأراه البرهان في همته.
وفي أدب المناجاة في الحج يبدع ابن الجوزي، ويستعرض منازل الحج ومراحله بأدبه الرفيع، الذي يلبس ثوب المناجاة، معتمدا علي الشعر والنثر معا: لله درمنى وما جمعت وبكا الأحبة ليلة النفر ثم اغتدوا فرقا هنا وهنا يتلاحظون بأعين الذكر ما للمضاجع لا تلائمني وكأن قلبي ليس في صدري(10). حج جعفر الصادق فأراد أن يلبي فتغير وجهه، فقيل: مالك يا ابن رسول الله؟ فقال: أريد أن ألبي فأخاف أن أسمع غير الجواب. وقف مطرف وبكر، فقال مطرف: اللهم لا تردهم من أجلي، وقال بكر: ما أشرفه من مقام لولا أني فهيم!! وقام الفضيل بعرفة، فشغله البكاء عن الدعاء، فلما كادت الشمس تغرب قال: واسوأ تاه منك وإن عفوت!!
وفي الفصل الخامس يحدث نفسه ويناجي ربه(11)، فيقول: ما حظى الدينار بنقش اسم الملك حتى صبرت سبيكته على التردد إلى النار، فنفت عنها كل كدر، ثم صبرت على تقطيعها دنانير، ثم على ضربها على السكة، فحينئذ ظهر عليها رقم النقش: كتب في قلوبهم الإيمان لا تطردني فليس لي عنك غنى هذا نفسي إذا أردت الثمنا من طلب الأنفس هجر الألذ. من اهتم بالجوهر نسى العرض، يا صفراء يا بيضاء غـري غيري (يقصد الدنيا).. من أجل هواكم عشقت العشقا قلبي كلف ودمعتي ما ترقى في حبكم يهون ما قد ألقى ما يحصل بالنعيم من لا يشقى
وفي الفصل السادس: أنا المقر على نفسي بالخيانة، أنا الشاهد عليها بالجناية أعف عني وأقلني عثرتي يا عتادي لملمات الزمن لا تعاقبني فقد عاقبني ندم أقلق روحي في البدن لا تطير وسنا عن مقلتي أنت أهديت لها حلو الوسن(12).
وفي ختام الفصل الثامن يتقلب في رجائه ومناجاته بين طرائف الصالحين: يا منفدا ماء الجفون وكنت أنفقه عليه إن لم تكن عيني فأنت أعز من نظرت إليه كانوا إذا ضيق الخوف عليهم الخناق نفسوه بالرجاء، فكان أبو سليمان يقول: إلهي إن طالبتني بذنوبي طالبتك بكرمك، وإن أسكنتني النار بين أعدائك لأخبرنهم أني كنت أحبك.. وكان يحيى بن معاذ يقول: إن قال لي يوم القيامة: عبدي ما غرك بي؟ قلت: إلهي: برك بي..(13). وفي بعض ما ورد من روائع الفصل الثامن عشر يتخيل ابن الجوزي عتاب الله سبحانه وتعالى للإنسان.. فكأنه كما يقول ابن الجوزي يقول له: يا مختار الكون وما يعرف قدر نفسه، أما أسجدت الملائكة بالأمس لك؟ وجعلتهم اليوم في خدمتك، لـما تكبر عليك إبليس، وقد عبدني سنين طويلة ـ طردته.
ويقول ابن الجوزي في الموعظة الثانية والثلاثين: لابد والله من قلق وحرقة، إما في زاوية التعبد أو في هاوية الطرد، إما أن تحرق قلبك بنار الندم على التقصير والشوق إلى لقاء الحبيب، وإلا فنار جهنم أشد حرا... شجاك الفراق فما تصنع أتصبر للبين أم تجزع إذا كنت تبكي وهم جيرة فماذا تقول إذا ودعوا القلق القلق يا من سلب قلبه، والبكاء البكاء يا من عظم ذنبه. كان الشبلي يقول في مناجاته: ليت شعري ما اسمي عندك يا علام الغيوب، وما أنت صانع في ذنوبي ياغفار الذنوب؟ وبم تختم عملي يا مقلب القلوب(14). كان داود الطائي ينادي بالليل: همك عطل كل الهموم، وحالف بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك حال بيني وبين اللذات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب(15). ـ كان لقوم جارية فأخرجوها إلى النخاس فأقامت أياما تبكي، ثم بعثت إلى سادتها تقول: بحرمة الصحبة ردوني فقد ألفتكم.. يا هذا قف في الدياجي وامدد يد الذل، وقل: قد كانت لي خدمة، فعرض تفريط أوجب البعد، فبحرمة قديم الوصل ردوني فقد ألفتكم(16).
ويتألق فن المناجاة عند ابن الجوزي في غير موضع من فصوله الوعظية، وها نحن أولا نراه في وعظيته الثانية والسبعين يقول لربه: اللهم نـور دنيانا بنور من توفيقك، واقطع أيامنا في الاتصال بك، وانظم شتاتنا في سلك طاعتك، فأنت أعلم بتلفيق المقترف، اللهم قو منن أطفال التوبة بلبان الصبر، أرفق بمرضى الهوى في مارستان البلاء، افتح مسامع الأفهام لقبول ما ينفع، سلم سيارة الأفكار من قاطع الطريق، احرس طلائع المجاهدة من خديعة كمين، احفظ شجعان الغرائم من شر هزيمة، وقع على قصص الإنابة بقلم العفو، لا تسلط جاهل الطبع على عالم القلب، لا تبدل نعيم عيش الروح بجحيم حر النفس، لا تمت حي العلم في حي الجهل، أخرجنا إلى نور اليقين من هذا الظلام، لا تجعلنا ممن رأى الصبح فنام، لاتؤاخذنا بقدر ذنوبنا، فإنك قلت: ولا تنسوا الفضل بينكم (17) واعجبا لمن عرفك ثم أحب غيرك، ولمن سمع مناديك ثم تأخر عنك. حرام علي العيش مادمت غضبانا ومالم يعد عني رضاك كما كانا فأحسن فإني قد أسأت ولم تزل تعودني عند الإساءة غفرانا إلهي، لا تعذب نفسا قد عذبها الخوف منك، ولا تخرس لسانا كل مايروي عنك، ولا تقذ بصرا طالما يبكي لك، ولا تخيب رجاء هو منوط بك، إلهي، ضع في ضعفي قوة من منك، ودع في كفي كفي عن غيرك. ارحم عبرة تترقرق على مافاتها منك، برد كبدا تحترق على بعدها عنك(19).
إنها مائة فصل في الابتهال والتضرع والمناجاة دبجها قلم من أروع الأقلام التي أخرجتها حضارتنا الإسلامية عندما كان النبع صافيا، وكان الاتجاه صادقا.. صادقا مع الله.. وصادقا مع النفس.. وصادقا مع الكون والإنسان.. وهكذا قدم الإمام ابن الجوزي من خلال كتابه (المدهش) نموذجا للمسلم الرباني، وللأدب الإسلامي الذي يتألق في الصعود بالإنسان إلى هذا المستوى الكوني الفسيح في مناجاة الله.. ـ وإن كتاب المدهش ـ بكامله ـ قطعة أدبية (نثرية وشعرية) رائعة، تمثل أسمى ما وصل إليه الإبداع الإسلامي في أدب المناجاة.. وهو يمثل لوحة جمالية ذات إيقاعات وألوان منسجمة ومتكاملة، وتخلو من أي شذوذ.. ـ ولقد أبرز لنا هذا الكتاب العظيم كيف تتألق روح المسلم، وكيف تنسجم مع عقله ولسانه وقلمه ولغته العربية البليغة.. ـ ومن خلال هذا الكتاب يدرك المسلم دوره ومكانته، ويدرك أحقية الدين الحق الذي ينتسب إليه... ويرتفع من خلال أدب ابن الجوزي ـ إلى مستوى دينه الرفيع.. بل يندمج بكل كيانه في مناجاة واعية صادقة لله. مبدع الكون، ومن يملك مفاتح الغيب.. أوليس هذا أرفع شرف للإنسان... أن يخاطب الله، ويناجيه، ويدعوه .. كما يناجي الحبيب حبيبه، والعبد سيده: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداعي إذا دعان، فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي، لعلهم يرشدون (البقرة 186).. ـ بلى: إنه أرفع شرف.. وأزكى مكان.. إنه المعراج إلى الله بالروح والقلب والوجدان.،،،،
ــــــــــــــــ الهوامش:
(1) انظر في ترجمته: وفيات الأعيان، وذيل الروضتين، والبداية والنهاية، وابن الوردي، وتذكرة الحفاظ، وغيرها. (2) انظر ترجمته في وفيات الأعيان لابن خلكان. (3) ضبطه وحققه الدكتور مروان قباني، ونشرته دار الكتب العلمية بيروت، وقد اعتمدنا الطبعة الأولى الصادرة سنة 1401 هـ (4) مقدمة تلبيس إبليس نشر دار الكتب العلمية بيروت ط131403 هـ (5) المدهش: الطبعة السابقة ص 106، 107 (6) المدهش: الطبعة السابقة ص 121 (7) المدهش 122 (8) المدهش 139 (9) المدهش 139 (10) المدهش 147 (11) المدهش في 157، 158 (12) المدهش 165 (13) المدهش 173 (14) المدهش 208 (15) المدهش 255 (16) المدهش 264 (17) المدهش ص 332 وجدير بالذكر أنه في ص 274 يقول ابن الجوزي رحمه الله: إنما خلقت الدنيا لتجوزها، لالتحوزها، ولتعبرها لالتعمرها (الفصل الخامس والثلاثون) ونحن لا نقره علـى هذا بل الصحيح عندنا (إنما خلقت الدنيا لتحوزها وتجوزها وتعمرها وتعبرها) فهذا هو التصور الإسلامي للزهد! (18) المدهش 261 (19) سورة البقرة الآية 237 (20) المدهش 414، 415 نشر في مجلة (الأدب الإسلامي)عدد(18)بتاريخ (1419هـ).
Published on October 25, 2013 13:42
October 24, 2013
منى المالكي: انطباعات سيدة جزائرية تزور المغرب لأول مرة .
تقريبا التركيبة البشرية لسكان منطقة المغرب الكبير -أو شمال إفريقيا- واحدة، فهم أساسا: أمازيغ وعرب، مع أقليات من أصول أوربية -خاصة أندلسية- وإفريقية.. ومع الزمن انصهر الجميع في بوتقة واحدة. فتجد العادات والتقاليد متشابهة والطبائع متقاربة.. دون الحديث عن وحدة الدين واللغة.. لكن هذه الوحدة الفريدة من نوعها تشوهت بفعل عوامل كثيرة.. علينا إذن أن نتجاوز ذلك، وأن نعيَ أن المغاربيين شعب واحد، رغم اختلاف الحدود والسياسات.وهذه تجربة سيدة جزائرية في أول زيارة لها إلى المغرب، وهي انطباعات شخصية ورأي شخصي، أعني أنه ليس ضروريا أن نتفق معها في جميع التفاصيل.. لكن الفكرة العامة طيبة.
ولعلّ أحدا يرسل لي تجربة مغربي أو مغربية زار الجزائر أيضا، واكتشف أيضا أنه كان يحمل عن البلد صورة مغلوطة.. فننشر كلا التجربتين هنا.. بهذه المدونة: انطباعات سيدة جزائرية تزور المغرب لأول مرة . لم أكن أعتقد يوما بأن زيارة أقوم بها للمغرب ستزلزلني وتحدث في نفسي كل هذا التأثير. وبأنها ستكون بداية لرحلة شاقة مع ذاتي أراجع فيها بجدّ ما غرسته فينا الخطابات السياسية المكثفة – على مرّ عقود- من أفكار جاهزة وأحكام مقّننة ومفاهيم مغلوطة، وما أنتجته فينا من ردود أفعال ومن انعكاسات شرطية. وعندما وجدتني، أسجل،على غير عادتي، وبتلقائية، هذه الانطباعات، كنت أنوي أن أرجع إليها كما ٌيرجع إلي ألبُوم صور حوى ذكريات جميلة نريد أن نحميها وأن نجنبّها الترهّل بعوامل الزمن. ولم أفكر يوما أن تتعدى كتابتي – بحكم تخصصي – مجال العلوم الفيزيائية أو مجال البحث العلمي… وبعد عودتي إلي الجزائر حاولت أن أنقل لبعض ا لزملاء في الجامعة عيّنة من هذه الانطباعات فاصطدمت بجدار متين من الرفض و التحجّر هو نتاج من الرواسب ذاتها …عندها رأيت من واجبي، وإن لم يكن من اختصاصي، البحث عن وسيلة أخرى لإيصال بعضا من هذه الخواطر….، وأنا أعي بأنني لا املك ناصية الأدب ، و أدرك بان ما كتبته لا يتعدى ذاتيتي الضيقة، وبأن به الكثير من الانبهار قد يصل حدّ المغالاة ، وأنّه لا يرقى إلى ا لدراسة الجادّة والتحليل الموضوعي … وأنا لا أدّعي ذلك ولا أرمي إليه، كل ما أرومه هو أن يشاركني إخواني من الجزائريين والمغاربة جوانب من رحلة حررت نفسي من الكثير من الأغلال التي كانت تكبّل رؤاي و تحجُر على أفكاري و تشدّ إلى الأرض نفسا تتوق إلى التحليق في ملكوت الله و رحابه الواسعة … كنت آنذاك ( صيف 1999) أستاذة تعليم ثانوي و طالبة علم أبحث في ميدان جديد في بلادي هو طرق تدريس المواد العلمية (يدعوه البعض تعليمية العلوم) في وقت كان فيه البحث العلمي عندنا – نظرا للظروف المأساوية التي كنا نمر بها – لغوا و ترفا. .بينما أصبح تطوير المناهج التعليمية ضرورة و أولويّة …وعزمت على الذهاب إلي المغرب، بإيعاز و تشجيع من إخوان مغاربة، للإطلاع على الأشواط الطيبة التي قُُطعت هناك في هذا المجال والاستفادة منها …. وصلت مطار هواري بومدين محمّلة بأفكار جاهزة ….فالمغرب في ذاكرة جيلي هو معقل لقوى الإمبريالية و رمز للرجعية و الاستبداد و قهر الشعوب ، وهو بلد السحر والشعوذة والجوع والفقر المدقع والدروشة والتضليل بالدين، وهو بلد المذلة` وسيدي ولا للا ` والانحناء و الركوع للأشخاص و تقبيل الأيادي. المغرب في ذاكرتنا هو بلد الظلم و الأطماع التوسعية التي غدرت بنا قبل أن تلتئم جراحنا، وقبل أن تجف دماء شهدائنا ، هو بلد الاعتداء الجبان لعام 1963 الذي طعننا في ظهورنا ليئد فرحتنا بالاستقلال و ليحني رؤوسنا التي كانت ترنو إلى التمتع بشمس الانعتاق و الحرية ، و هو قبل ذلك قد خان العهد و خذلنا إذ قبل استقلاله … استقلالا مبتورا.. في حين كان مجاهدونا يعملون على تحرير كلّ منطقة المغرب العربي … المغرب هو التهديد لأخلاق شبابنا بأنواع المناكر والمخدرات و فنون العهر و الموبقات … أردت أن أعيش الرحلة منذ الانطلاق، فكانت على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية المغربية.فاجأتني اللباقة الفائقة للطاقم ورقة المضيفات و خفتهن والنوعية الراقية للخدمات .. كان مقعدي مقابلا لمقعد سيّدة مصحوبة بابنها الصبي و ابنتها الرضيعة ، ابتسمنا لبعضنا عندما بدأت الطفلة تتواصل معي بصوتها و بالتلويح بيديها ،وعندما عرفت من لهجتها أنها من المغرب. بدأت أتفرس في وجهها خلسة و أحدّق في ملامحها و أراقب تصرفاتها…و كأنني ، بدون وعي مني،أحاول أن أطابق في نفسي بين صورتين مختلفتين. راقني كثيرا جمالها الطبيعي ورقتها و عنايتها الفائقة بطفليها . ولم نلبث أن بدأنا نتجاذب أطراف الحديث بتلقائية كبيرة وكأننا نتعارف منذ مدة. هي سيدة من مكناس زوجة جزائري ، كانت تسكن في حي الكاليتوس بضواحي العاصمة- و هو من المناطق التي كانت تعاني الويل في تلك الفترة- هي لم تتحدّث عن هذه المعاناة ، ولا اشتكت من الأيام و الليالي الحالكة التي قهرت سكان هذا الحي ، و كأنّها تعتبر ذلك من السنن الكونية أو لعلها تدخله في باب الابتلاء… .. لكنها تحدّثت عن جارات لها و قريبات لزوجها يلححن عليها بالسؤال ` زوجك كان عصبيا جدا و متمرّدا و قاسيا … ماذا فعلت لتجعليه طيبا هكذا؟ ` ، وكانت تجيب ما استطاعت مطعّمة إجابتها ببعض النصائح…لكن فطنت أنّ سائلتها تبقى تبحث عن السّر و تلحّ لتكشف عنه ….سر آخر يتعدى الصبر والقناعة و حسن المعاشرة و الطاعة و.. سرّ تملكه هي بدون ريب..لكونها مغربيّة ` مروكية` لكنها تتكتّم عليه … ضحكتُ قبل أن تُكمل.. فضحكت و بدأت اسألها عن المغرب و أنا أداعب ابنتها التي انسجمت معي كثيرا .. لمست في هذه السيدة صبر المرآة العربية وشجاعتها وكفاحها وقناعتها وطاعتها لزوجها وإخلاصها له.. وطئت رجلي لأوّل مرّة أرض المملكة المغربية..وقفتُ في محطّة القطار مشدوهة أتأمل من حولي و ما حولي ،وقف قبالتي في الرصيف الآخر رجل ذو أنف كبير و بشرة صفراء و لحية كثيفة و قبّعة…حدّق في طويلا ..تلاقت نظراتنا لثوان .. ساءلت نفسي : فيما يفكّر هذا الرجل و هو ينظر إليّ هكذا ، و كأنه يدعوني أن أدنو منه أكثر لأتحقّق من آدميته. تراه هل تفطّن إلى أنني جزائرية ترى يهوديا لأوّل مرّة ؟ انتابني إحساس غريب. و قوي …مزيج من الأحاسيس المتضاربة… لم املك تحليلها..لكنها هزّت معالما بداخلي و حرّكت أوتارا في أعماقي..و قرعت طبولا في رأسي..و أيقنتُ يومها أنني سأرجع من ّ رحلتي هذه و قد تغيّر فيّ الكثير ..وأحسستُ بالخوف الشديد على نفسي… خوف من أن أفقد اتزانا فكريّا و وجدانيّا .. وإن كان هشّا .. إلّا أنني عانيت الكثير من أجل إرسائه. و أعاني أكثر للمحافظة عليه، وان استدعى ذلك أحيانا كثيرة إخماد صوت نفسي كلّما همست لي أن افتحي أبواب و منافذ قلبك المغلقة بإحكام و أفسحي الطريق لنور الله….و أنّى لي أن أبني توازنا جديدا أكثر استقرارا وأقدر على الصمود و قد نال منّي التعب و كادت الأحداث التي دامت أمدا أن تُصيّرني شبحا يتحرّك آليا و لا يلوي على شيء …. أسكتّ صوت هواجسي و أجلت الإصغاء إليها وقرّرت أن أخوض غمار التجربة بكل عمق . نزلت بفندق `شيلا` و هو فندق راق في مدينة الرباط .. فنفسي الجريحة تاقت إلى شيء من الترف المحظور عليها منذ سنين … وهناك..لم ألبث أن أيقنت أنّ لفظي` سيدي`و `لالاّ ` ليسا من مظاهر الذل التي تكرّس التفاوت الاجتماعي كما لقّنونا ، بل هما من ألفاظ الأدب التي تكثر هنا، فرجل الأعمال النازل بالفندق ينادي لعامل بسيط بلفظ `سيدي ` ، وجميع سائقي التاكسي ، وعمال الفندق والمطاعم يخاطبونني بلفظ ` لاللا` ولا أنكر أن ذلك يداعب وترا حسّاسا في نفسي … أنا التي كنت أستنكر ذلك يشدة… كان يقيم في الفندق مجموعة من الأئمة جاؤوا من فاس لإحياء المولد النبوي الشريف ( العيد علي حد تعبيريهم) في الرباط ، راقبتهم عن بعد كأوّل عينة من المغاربة تصادفني.. أعجبتني أناقة مظهرهم (بجلابيبهم الجميلة مختلفة الألوان ) ونظافتهم ، و شدتني رقتهم و لباقتهم في الكلام، وهزّني إنشادهم و تراتيلهم . صليت العصر في مسجد السنة . داخل المساجد التقيت بفتيات جامعيات تبدو عليهن آيات العفة والذكاء المتوقد، رحبن بي بحرارة و تحدثن معي بالكثير من الحرية، وعبرن بالكثير من التذمر والأسى عن الأوضاع الاجتماعية المتردية في المغرب، وعن طموحاتهن ومشاريعهن وعن الأمل الذي كان يعقده الإخوان المغاربة على بوادر التغييرات الايجابية في الجزائر، قبل النكسة…. في اليوم التالي سألت عمالا من الفندق عن الأماكن السياحية و المعالم الأثرية في الرباط . تمشيت في المدينة العريقة ..يصاحبني احساس بالأمن و الأمان لم أذق طعمه منذ أمد … قطعت مسافات كبيرة مشيا على الأقدام . جلست في أماكن عامة و ساومت بعض السلع. . .تفرست في الوجوه.. ..النظرات صافية والوجوه مبتسمة و الألفاظ مهذبة.. صبر في المعاملة و ` طول بال ` غريبة. تلفت انتباهك سرعة البديهة وروح الدعابة…… أناس يحترمون مواقعهم وحدودهم…. لا تتداخل أطوال الأمواج.. تحس بذاتك و تحس بغيرك… يتحدثون بصوت منخفض و بأدب… هنا لا تطرق أسماعك أصواتا لا تستسيغها ولا تُجبر على تتبع أحاديث لا تحبها… ولا تحدق فيك الأعين بشراهة أو عدوانية…. ودون أن تطلب المساعدة تجد دائما متطوعين لخدمتك و توجيهك بمجرد ما يُلاحظ عليك التردد ( أشنو تبغي أ الشريفة ؟)، يبادرون بعرض و مساعدتهم وان كان طريقك يخالف طريقهم، وان كان هذا يعطّلهم .. وهم ينصحون بالحذر إذا رأوا في الطريق بعض الخطورة عليّ كامرأة (احظي راسك ) و بالاحتراس (سوّلي العيالات) ويرشدون الى الأماكن الجميلة، دون أن ينتظروا جزاء ولا شكورا، فهم يولّون راجعين قبل أن تلتفت إليهم شاكرا ( بلا جميل ) زرت في اليوم التاالي ضريح محمد الخامس رحمه الله بمقاطعة حسان.. و هو معلم رائع…كما زرت شارع التقدم و سوقه الشعبي ، اشتريت ذرى مشوية و زيتونا ( ما أكثر أنواعه هنا و ما أشهاها)، ووقفت لمدة طويلة أمام عشاب أو طبيب شعبي و هو يرغّّب في بضاعته ..انبهرت بمستوى لغته و سعة اطلاعه وسرعته الفائقة في الحديث و براعته في الدعاية لسلعته. انه فعلا تحفة أثرية تجعلك تحس بأنّك تسافر عبر الزمن إلى أسواق في بغداد في قرون ولت . و في السويقة ، استغربت لإقبالي على أكل (الببوش) أي الحلزون و ما كنت أعتقد أنني سأقوم بذلك يوما .. فنظافة الباعة توحي بالثقة ، و حسن معاملتهم تشجّع فضولك و تقضي على ترددك.. سرت بمحاذاة البحر أن وصلت إلى مكان وجدت فيه الناس يستقلون مركبا صغيرا بدرهم واحد , و كل مركب بتسع لستة راكبين، يقطعون عبره نهر` بورقراق` قاصدين الضفة الأخرى حيث مدينة `السلا`.. انتظرت مركبا فارغا ، صعدت فيه ، حييت صاحبه و اتفقت معه أن يقّلني بمفردي.. طلبت من عمي العربي ، و هو شيخ مسنّ من سكان السلا أن بمكنني من التجول عبر طول الوادي و أن يحكي لي عن المنطقة و تاريخها .. استمتعت برفقته و دهشت لسعة إطلاعه وحكمته و قناعته و شكرته على دعوته لي لزيارة أهله و أكل الحوت .. كان ذلك عصر يوم جميل مشمس من ايام شهر جوان .. وقفت في المركب أتأمل روعة المكان.. و حين وصلنا إلى شاطئ الرباط ، لم أقدر على مقاومة نداء البحر.. فقفزت من المركب .. طمأنت عمي العربي .. و لوّحت بيدي مطمئنة جماعة من الشباب سبحوا من الشاطئ ليهموا بإنقاذي..إذ رأوني في الماء بكامل ملابسي … عند رجوعي إلى الفندق فوجئت بوجود فرقة موسيقية أتحفتنا بأغاني شجية من الملحون أدتها بوقار و خلقت جوا من الطرب الراقي . مررت بمحلات راقية مثل `المرجان` و` السلام`، و بقصور رائعة مثل قصر السلطان زايد آل نهيان، وبشواطئ جميلة، ومناظر خلابة و انا أتوجّه إلى (التمارة )، أزور سيدة مغربية كانت دعتني للعشاء عندها ، وهي كاتبة في إدارة متحصلة على ليسانس أدب عربي ،.كان الاستقبال رائعا والمعاملة تلقائية والجو الأسري ممتازا، و كانت الشقة ` من أربعة غرف` جميلة و منظمة بذوق رفيع في حي نظيف و هادئ … لم أكن أتوقع أن مغاربة من طبقة الموظفين البسطاء، يعيشون في هذا المستوى.. واستغربت كثيرا عندما ذكرت لي السيدة ، أنها، بمرتبها، تدفع إيجار البيت وحقوق تمدرس طفليها في مدرسة خاصة..وأحسست – و أنا أقارن بإمكانياتي المادية و بمستوى المعيشة الذي يمكن أن توفره لي- بالكثير من الغبن مطعما بالأسى… في اليوم الثالث حضرت مناقشة أطروحة تخرج في الطب في مستشفي ابن سينا حول مرض الربو للدكتورة ` بشرى المخلوف ` من الراشدية،. ، تعرفت عليها في قطار الدار البيضاء – الرباط الذي اقلني من المطار،دارت بيننا مناقشة ودية و كأننا نتعارف منذ مدة، داخل قاعة المناقشة وجدت جوا إسلاميا ساميا ، وروح الأخوة والتعاون، وكرما فائقا. -كما زرت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم ، وحصلت على مراجع هامة لها علاقة ببحثي وأوصاني أحد المسؤولين هناك بالاتصال بالجنة الوطنية بالجزائر لأبقى على إطلاع على مشاريع المنظمة ونشاطاتها ..و أحسست مرّة أخرى بالغبن الشديد.إذ اكتشفت أننا بالجزائر آخر من يعلم ومن يستفيد من مشاريع المنظمات العربية و الإسلامية والدولية في هذا الميدان ، ، وسبق وان لمست ذلك عند زيارتي لمقرات اليونسكو ولمقر الالكسو بتونس.. -في أغدال ، ذهبت إلى الجامعة أسأل عن الأستاذ ` صالح بن يامنة ` و هوأستاذ مختص في تعليم العلوم الفيزيائية و باحث تشيط و مشرف معروف في هذا الميدان ، لعله يساعدني على فك بعض الألغاز في بحثي و على إيضاح الرؤية .. فقيل لي بأنه أصبح مسؤولا على مديرية الدعم بوزارة التربية. زرته هناك ..على غير موعد .. كان استقباله أكثر من لائق.. وجّهني إلى ذوي الاختصاص في كلية العلوم بالسملالية و المدرسة العليا للأساتذة بمراكش, مساءا حضرت مسرحية ` جار ومجرور`.. شدني جمال السيناريو و حسن الأداء،و الشجاعة في الطرح ، وأعجبني جو المسرح. اذ كان الجمهور متفرجا ممتازا. توجهت الى مدينة فاس عبر القطار.. الطبيعة رائعة.. كل شبر من الأراضي مستغل خير استغلال.. جنات غناء، والخير وفير. .وتحسرت وأنا أعيش ثانية مرارة الإحساس الذي انتابني وأنا أ سافر إلى تونس برا انطلاقا من الجزائر، مرورا بالأراضي الجرداء، التي التهمتها الأشواك، وتلك التي التهمها الاسمنت، وتلك التي تحولت إلي مستنقعات وإلى أماكن لرمي القاذورات…. دخل إلى العربة التي كنت فيها رجل تبدو عليه علامات الوجاهة رفقة زوجته وابنته.. حيّوني بوقار.. بعد مدة خرج الرجل من العربة، وعاد يستدعى زوجته وابنته و يأخذ متاعه … ثمّ رجع بعد قليل .. نظر إليّ بأدب و احترام وقال معتذرا ` اسّمحي ليَ منين بدّلتا المكان ، بحيث أنا كنكمي `.أي أدخّن ..تأثرت كثيرا بهذا الموقف الراقي … أحسست بنوع من الخشوع و أنا أدخل مدينة فاس ..و كأني ألج إليها من باب التاريخ .. كلّ منظر هنا .. كل ركن.. يفوح بعبير الماضي و بعطر الأمجاد.. أمجادنا التي هي أمجادهم .. …واغرورقت عيناي بالدموع و أنا كأنما أدرك للمرة الأولى بانّ لنا نفس الذاكرة .. و أننا نشترك في نفس الأصول .. نفس الأمجاد.. و نتلاقى في بوتقة واحدة في أمس قريب غير بعيد عن يومنا المشؤوم هذا .. أردت أن يكون جامع القرويين أول معلم أزوره….دخلت ا لقصبة .. الأزقة ضيقة غاصة بالمارة..لكن لا تدافع و لا سباب .. لا مشادات ولا اختلاسات .. الرجال يحترمون النساء و يفسحون أمامهن الطريق.. و الباعة يعرضون سلعهم أو خدماتهم بهدوء و براعة … التجار منتشرون في مناطق حسب الحرف : الجزارين ، العطارين ، الدباغين ، النحاسين… دخلت بعض الدكاكين أمتّع عيني بروعة جمال القفاطين المغربية .. وقفت أمام لبّان أستمتع بشرب كأس من ` الرائب` وأنا أصغي بطرب إلى الأصوات المنبعثة من دكاكين الحرفيين.. و صلت إلى جامع القرويين و بداخلي عرس..فهذا المكان المبارك كان و لا يزال منارة للعلم و الدين .. و أعرف في بلادي من يتشرف بأنه نهل العلم من هذا المنبع الأصيل الصافي .. و يذكّر بذلك كلما أراد أن ينبه إلى رفعة مستواه العلمي.. عند عتبة المسجد توقفت للحظة للتأكد .. إذ رأيت الرجال و النساء يدخلون و يخرجون من باب واحدة…وهم يتلاقون في باحة المسجد ، عكس ما هو معمول به عندنا . تنقلت في مختلف أرجاء المكان المقدس ، و صليت المغرب هناك .. أُعجبت بسيدات متقدمات في السن يقرأن القرآن الكريم و يرتلنه بأحكامه . و بفتيات في مقتبل العمر في منتهى الرقة و الجمال يصلين بخشوع ويسألن باهتمام عن أمور الدنيا و الدين .. و دون أدنى مجهود مني قُدّمت لي عدة دعوات لزيارة أخوات في بيوتهن و حتى للإقامة عندهن…خرجت رفقة فتاتين جامعيتين متشوقتين لمعرفة أخبار الجزائر و الجزائريين .. قمنا بالتجوال في أرجاء المدينة القديمة (فاس البالي) و كانت ترن في أذني كلمات من القصيدة الشعبية ( خلخال عويشة ) .. في اليوم التالي خرجت بمفردي عازمة على أن أسيح في المدينة … فلورانس ، مسجد تاجموعت ، مسجد يوسف بن تاشفين ، سيدي حرازم ، مولاي إدريس , منتزه المرينيين ، دار السلاح …. مناظر رائعة.. والمباني فيها الكثير من الانسجام و التناسق، والتواصل مع الماضي . و تعكس الكثير من الذوق و الإحساس بالجمال، و الحس المدني…المغاربة بارعون في البستنة …مرة أخرى أحسست بغصة….و أنا أسترجع في عمراننا مظاهرا للفوضى و التسيب و ا لعنف والتخلف.. ذهبت إلى جامعة` ظهر المهراس` طلبا للاستفادة من أساتذتها و باحثيها في ميدان تخصصي .. فلم يبخلوا عليّ بذلك… ` ما سخيناش بك آختي ` عبارة رقيقة رددها علي الكثيرون من أهل فاس …و يعلم الله مقدار ما أحسست به من ألم و أنا أغادر هذه لبلدة الطيبة. ركبت في حافلة قاصدة الدار البيضاء … جميع الأغاني التي عُرضت علينا طوال الرحلة كانت لمطربين جزائريين، فإضافة إلى أغنية ` يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتولّي` التي تسمعها في كل مكان هنا في المغرب ، وبعض أغاني الراي ،استمعنا إلى أشرطة كاملة لدحمان الحراشي، و إالى أشرطة لرابح درياسة لم أستمع إليها قيل ذلك .. و أدهشني مدى تجاوب الركاب مع هذه الأغاني… زرت `درب غلّف` و السوق المركزي و مشيت في` المعارف` و أكلت الحوت عند ` أمين` .. اطّلعت على الاختلاف الكبير في مستويات المعيشة بين مختلف الأحياء … و مشيت في الأزقة الضيقة .. – ماسحو الأحذية منتشرون في كل مكان ( و كذا الحمالون ) لكن لا ترى عليهم بوادر الذل وهم لا يلحون عليك .. تجولت في أحياء كثيرة تسكنها طبقات اجتماعية متابنية …لم اسمع كلمة فاحشة واحدة …. يتخاطب الناس بينهم بكلام مهذب (أنعام آختي، أنعام آخوي، أ الشريفة، عافاك آختي، نجاك آخوي، بصحة وراحة، الله يسامح، الله يعطيك الستر…). ركبت سيارة أجرة قاصدة ` باب مراكش` .. `أنعام أ الشمالية؟` … أراد السائق أن يعرف الاتجاه الذي أقصده.. و هو يحسبني – كغيره ممن رآني لأول مرة- من الشمال المغربي. وعندما تكلمت حسبني من الشام .. فالجزائريين في اعتقاده (دوزيام فرنسيس) يتحدثون بالفرنسية . و عندما أجبت بالنفي سألني مُستبعدا (ربما لهندامي) : تونسية؟ .. قلت `لا` ..سكت .. و انتظر أن أواصل .. ولمّا طال صمتي .. خمّن ، و كأنّه تذكّر وجود جزيرة نائيّة… `دزيريّة` .. ثمّ أضاف و قد تغيرت نبرات صوته ` فحاال فحال أحنا خوت..`. سائق آخر ، و هو شاب نشيط قال لي `الجزائري مزيان …..لكن غيرأمشي امعاه نيشان…` قصدت باب مراكش..و رأيت أن أقضي ليلة في دار للشّباب .. مكان محترم… هادئ و نظيف و جميل الموقع يرتاده السياح من مختلف الأعمار و الجنسيات.. سمحت لي ليلتي تلك بالاحتكاك بأناس جاؤوا من مختلف بقاع الأرض.. و فُتحت أمامي نافذة على العالم.. و قد جئت من بلد حُرّم على الأجانب منذ سنين طوال… في اليوم التالي ذهبت لزيارة السيد `عبد الجبار معطي` في المدرسة العليا للأساتذة … و هو أستاذ قدير زارنا في الجزائر و كنت أنصت لمحاضراته بكل شغف.. أّعجبت ببراعته في الإلقاء و بسعة أفقه و غزارة معلوماته و إتقانه للغتين العربية و الفرنسية .. ذهبت إليه دون سابق إشعار .. و كان منتهى أملي أن ينفق عليّ بعضا من وقته الثمين ناصحا و موجّها .. فوجدت فيه الأخ الكريم …دعاني للذهاب إلى منزله .. بيت جميل حديث البناء في `سيدي برنوسي` .. الجو الأسري راق .. أحسست منذ الوهلة الأولى أنني بين أهلي و ذويّ..و لن أنسى ما حييت كرم الضيافة الذي حظيت به من قبل زوجته وهي امرأة فاضلة و أم من الطراز الرفيع.. كما لن أنسى عفويتها و نشاطها الفائق و تربيتها الراقية لأبنائها و بناتها ووعيها الكبير بمسؤولياتها… وأثّر في نفسي كثيرا أن لا أحد يلحّ عليك بالسؤال إشباعا لفضول.. بل إنهم لا يسألونك حتى كم تنوي البقاء عندهم.. سؤال لم أجرأ على طرحه على أهل هذا البيت الطيب..بقي معلقا في نفسي لمدّة :` كيف أحظى بهذه المعاملة الأخوية وأنا أعلم بأن هذه الأسرة الكريمة عانت من سلوك بعض الجزائريين- و هم مع الأسف من طبقة مثقفة – ومن جحودهم واستغلالهم ؟`.. لكن هذا السؤال ما لبث أن تلاشى عندما اقتربت منهم أكثر.. .. فهذا الأستاذ مغربي أصيل.. والكرم طبع فيه.. و هولا يحمل ضغينة و لا يعمّم أحكاما .. خاصة عندما يتعلق الأمر بجزائريين.. و لقد لمست هذا في عدّة مناسبات.. المغاربة يحسون بتعاطف كبير و بحنين للجزائر و للجزائريين… حنين الأخ الذي فُصل عنوة عن أخيه…وهم يلتمسون لهم الأعذار ` معليهش مساكين…أحنا فحال فحال` .. واستغربت كثيرا أن أجد هذا التفهم من طرف مغاربة التقيت بهم.. تضرروا كثيرا من معاملات جزائرية… فمنهم من طرد في منتصف السبعينات فاقدا مصدر رزقه و كل ممتلكاته ومُبعدا عن أقرب الناس إليه… و منهم من لديه والد أو قريب قتل أو سجن لعشرات السنين في غياهب الصحراء… تجولت في شوارع ` كازا`.. المدينة التي تجمع متناقضات عجيبة ككبريات المدن .. راقني الجو في ` ماك دونالد`. أكلت و أنا أتأمّل ما حولي و من حولي في المكان الذي يمتد على مرمى البصر.. تبادلت ابتسامات مع أطفال تفيض السعادة من عيونهم و هم يلتهمون بنهم كبير أكلتهم المفضلة في علب رائعة.. ووجدت أفكاري تحلّق في جوّ آخر: أسماء المدارس والشوارع التي مررت بها في المغرب ، باستثناء أسماء الملوك، هي في الغالب أسماء بلدان أو مدن،أو زهور، أو معاني جميلة ( مثل التقدم و المعارف..) ،أو معالم و أحداث.. أو شخصيات تاريخية عريقة تملؤك إحساسا بالاعتزاز و بالامتداد طولا و عرضا…أسماء الشوارع، والمدارس و الجامعات و المطارات في الجزائر.. هي أسماء `ثورية`، تذكرك على الدوام بالمحن و البؤس و الموت و المذابح… تسد الآفاق أمامك… تجعلك تحسّ بالإحباط .. أو بالاعتزاز المبالغ فيه المفرغ من معناه، و الذي يغرس فيك العدوانية و الغرور و الإحساس الكاذب بالتفوق على بقية الشعوب.. و كثيرا ما تذمرت منذ طفولتي من هذه الأسماء و الشعارات التي تغرس فيك توجها (ثوريا) وتشدك إلي الوراء بأغلال من حديد… …ألم يستشهد آباؤنا لنحيا نحن؟ ألا توجد طرق أخرى للاعتراف بتضحياتهم و لتخليد أسمائهم، دون أن تتوجه أذهاننا باستمرار إلى المعارك ودون أن ترتسم لدينا ديكورات الحرب؟ و أذكر أنني في الصف السادس الابتدائي عندما طُلب منّا كتابة موضوع إنشائي يدور حول حب المدرسة كان من بين ما كتبت` … أحلم أن يستبدل اسم مدرستي باسم عالم فذ من الأسلاف مثل ابن سينا أو جابر بن حيان أوبن الهيثم أو ابن باديس لنحتذي حذوهم. .. نحن نحترم الشهداء و ندين لهم بالاستقلال لكننا نريد أن نتجاوز فترة الحرب لنبني و طننا بالعلم و العمل و كان هذا أمل الشهداء .` .. و كانت مدرستي تحمل اسم شهيد لم يحكوا لنا عنه شيئا يوما.. طبعا لم يعجب هذا الاستطراد المعلمة، و عزته إلى وقاحتي المعهودة … فالشهداء هم سرّ وجودنا وعلة حياتنا و منتهى انتمائنا… و الحديث عنهم وعن أمجادهم و بطولاتهم وعن الثورة المظفرة و الحلف الأطلسي و الاستقلال المعجزة.. هو خبزنا اليومي : المكتسبات الثورية..المعارك.. مجاهدون.. شهداء… خَوَنة….تُصاب بدوار و يملؤك إحساس مُحبط يخنقك : إحساس بأن جذورنا تمتد إلي عام 1954, وفي أحسن الأحوال إلي عام 1830 .. واليوم أتساءل إلى أيّ حدّ أثمرت فينا هذه المجهودات التربوية ؟ .. .وإلى أي مدى ساهم هذا التوجيه الثوري للأذهان بجميع إفرازاته في تبني أبناء جيلي لمواقف` ثورية` و في نسج خيوط المأساة التي سحقتنا لأمد طويل ؟ اشتريت تذكرة قطار الدار البيضاء – مراكش .. تذكرة درجة ثانية هذه المرة طلبا لاحتكاك أكبر مع عامة الناس.. داخل القطار شدّني صوت مهذّب واضح منبعث من مكبّر ، يرحب بالمسافرين بلباقة، يعلن عن دخول كل محطة، ويعتذر باستمرار عن كل تأخير و يبرّره. و كالعادة لم أبذل أيّ مجهود للانسجام مع من حولي .. سألتني سيدة جالسة قبالتي عن انطباعاتي حول زيارتي و في مجرى الحديث عبّرت لها عن إعجابي بظاهرة أصادفها لأوّل مرة وهي ارتياد تلاميذ المدارس و طلبة الجامعات ، إناثا و ذكورا، فرادى و جماعات للأماكن العامة والحدائق يراجعون فيها دروسهم بكل جدية – قلت ذلك و أنا أسترجع مناظرا مقزّزة لحدائق عامة في بلادي أكلها الإهمال وتحولت إلى أوكار للفساد بجميع مظاهره- حركت السيدة رأسها مبتسمة و لم تعلّق . وعندما نزلت من القطار استدرك أحد الشباب وهو طالب في السنة الخامسة طب قائلا ` سأشرح لك أسباب هذه الظاهرة .. الصهد (شدة الحر)، وضيق البيوت وانعدام المكتبات` استغربت لتوضيحاته فهو يعلم أنني جزائرية، ويعلم الحساسيات التي بين بلدينا ، ولم يمنعه ذلك من تقديم هذا التفسير حتى لا أنبهر بظاهر الأشياء.. انتزعني من شرودي صوت سيدة جالسة بجانبي و هي تسألني ` هل زرت مسجد الحسن الثاني؟` ..عبّرت لها عن إعجابي بشساعة المكان وجمال التصميم وروعة الموقع ودقة التنفيذ .. لكنني أضفت أن ما لم يعجبني هو اختلاط (أو اقتراب ) مكان العبادة بأماكن اللهو و اللعب … قالت بدون تحمس `ذلك المكان كان سيتسع لإيواء كل المغاربة المحتاجين إلي سكن`، وعندما بقينا لوحدنا في العربة قالت ` لا أقصد من حيث المساحة فقط بل أعني من حيث تكاليف البناء التي دفعت من جيوبنا `.. و استغربت بشدة أن أسمع منها مثل هذا التعليق… من قال بان المغاربة يخافون من ظلهم ولا يقربون السياسة ؟… أم هي رياح الديموقراطية لم تخطئ طريقها إلى المغرب… كان ذلك يوم جمعة.. اكتشفت من حركة الشارع أنّ الموظفين المغاربة لا يعملون وقت الصلاة ( 11سا – 15سا) و أنّ لهم الوقت الكافي للاستعداد للعبادة…. و هم بعد ذلك ينتشرون في الأرض يبتغون فضلا من الله .. كما أن الكثير من الخواص ` تجارا و غيرهم ` يجعلون من يوم الجمعة يوم راحة لهم… نزلت في فندق بسيط لكنه نظيف في ` غليز` و هو ملك للسيد ` بناني` ، رجل محترم كنت قد التقيته و زوجته الطبيبة في فندق `عمور` بفاس .. خرجت لزيارة ` البهجة` المدينة الجميلة الحمراء داخل عربة جميلة يجرّها حصان….الحرارة تلفح الوجوه.. لكن انخفاض الرطوبة يجعلها محتملة .. وصلت إلى جامع الفناء `لفنا` .. ساحة الغرائب ..نزلت… ووقفت لمدّة أتأمّل ما يحدث فيها من عجائب الأمور… كالتفاف جمهور كبير من الرجال و النساء من جميع المستويات مكونين حلقة.. تتربع في الوسط امرأة متوسطة السن تهمس في أذن رجل ببدلة أنيقة و ربطة عنق و هو جالس القرفصاء و يستمع إليها بخشوع…ثم جاء دور رجل آخر.. ثم امرأة … كان الصمت يخيم على المكان … ما لبثت أن غادرت هذا المشهد و اتجهت نحو `بائع لحريرة`.. اعترض طريقي شخص كأنه خرج لتوّه من كتاب أصفر للتاريخ .. فزعت و صرخت عندما وضع أفعى حول عنقي … أسرعت في مشيتي تفاديا لموقف مشابه.. احتسيت صحن `الحريرة` واقفة و أنا مبهوتة لما يحدث أمامي.. مشيت بعدها نحو القلعة..الطريق جميل و شاعري.. تتبعني شاب على دراجة … هرولت في مشيتي.. ثم غيرت منحى طريقي .. لكنه بقي يسير ورائي – لا أنكر أنّ معاكساته كانت مهذّبة و رقيقة و أنه لم ينبس بكلمة مؤِذية – استجمعت كل شجاعتي و وقفت … استدرت نحوه قائلة ` سر في حالك`.. أحنى رأسه و عاد أدراجه دون أدنى تعليق. قصدتُ في اليوم التالي جامعة السملالية حيث لا أعرف أحدا و لا يعرفني احد…سألت عن مخبر التعليمية `ديداكتيك` فوُجّهت إلى السيد ` بوّاب` و كان حينها مديرا.. تأثرت لحسن استقباله.. قادني إلى المخبر.. فرحت لجوُ العمل السائد هناك .. لمست عند هؤلاء الإخوة (أذكر من بينهم السيد فؤاد شفيقي) إقبالا طيبا على البحث في هذا التخصص الجديد. واستغلالا جيدا للإمكانيات المتوفرة لديهم- على قلتها – ومقدرة على توظيف تقنيات البحث و إطلاعا على مختلف الاتجاهات و استفادة من مختلف المناهج… كما وجدت لديهم قناعة بإمكانية التكامل مع الجزائريين و رغبة في تكوين علاقات تعاون معهم ووعيا بضرورة توحيد الرؤى.. وتذكرتُ أنني – وأنا أخطو الخطوات الأولى في هذا الميدان – قد نهلت من مراجع مغربية في علوم التربية و الابستمولوجيا و تعليمية العلوم .. جاد بها عليّ أستاذ فاضل كان آنذاك مستشارا ثقافيا في سفارة المغرب بالجزائر . و أنّ أول من لجأت إليه طالبة يد المساعدة هو الأستاذ محمد كوحيلة من المدرسة العليا للأساتذة بمراكش .. راسلته..فلم يبخل عليّ بآرائه القيمة و توجيهاته و نصائحه التي أنارت طريقي في رسالة الماجستير و أجلت الكثير من الطلاسم… و سأطل ممتنة للأستاذين الجليلين .. حافظة للجميل .. رجعت إلى الفندق..جاء السيد بناني و زوجته و اصطحباني إلى بيتهما الجميل..وهناك تعرفت على أطفالها الأربعة المتقاربين في السن.. كلهم في المرحلة الابتدائية من التعليم.. : فاروق و علي و عمر و هند ( و ليغفروا لي إذا خانتني الذاكرة إنّما لاختيار الأسماء دلالة كبيرة).. أربعة من الملائكة فيهم الكثير من براءة الطفولة و رقتها و تلقائيتها..و روح الدعابة و اتقاد الذكاء و الأدب الجم و التربية الدينية الراقية .. و من سياق الحديث عرفت أنهم يدرسون في مدارس أجنبية (فرنسية و أنجليزية)…لا أنكر استغرابي حينها…إذ أنهم يتخاطبون بلسان عربي مبين.. التعليم الأجنبي هنا.. التكوين الراقي و إتقان اللغات.. لا يطمس الشخصية إذن ..ولا يخلخل بُنى الهوية.. ولا يمنع من التحكم في اللغة الأم و لا يعني التغريب.. – ` المغرب غابة ما تبحثين عنه تجدينه`، عبارة قالها لي احد الأخوة المغاربة المقيمين بالجزائر، أدركت معناها عند نهاية زيارتي هذه… غابة بتنوعها و وفرتها.. لكنّنا لم نسمع إلا عن وجهها المقفر و مناطقها الجرداء…. لم تبلغ بي السذاجة درجة أنني لم أقف على مظاهر لم ترقني ولم يمنعي انبهاري من الإطلاع على وجه آخر للمغرب، لكنه وجه لم يفاجئني هذه المرة لأنه لا يمكن أن يبلغ درجة الفضاعة التي يتوقعها من جاء من الجزائر… و هذه بعض ملامح هذا الوجه : – عايشت الفقر المدقع الذي يهوي بصاحبه إلي الحضيض.. – شباب تعج بهم شوراع الرباط يشمون خرقة داكنة ويترنحون في مشيتهم وهم خطرون لا أحد يلاحقهم ولا يحسون بأنهم مهددون… – يتحدث الكثير من الشباب عن تفشي الرشوة وأنها القاعدة وليست الاستثناء فلا توظيف بدون رشاوى كما أنّ الامتحانات و المسابقات شكلية وهذا يجعلهم– خاصة أصحاب الشهادات منهم- يحسون بإحباط شديد… ولقد عاينت بنفسي بعض مظاهر ذلك في إحدى المصالح الإدارية، إذ لمست تأثير ورقة من 10 دراهم على سرعة الخدمات المقدمة و نوعيتها .. – ` كل واحد داخل سوق رأسه ` و` اشكون أداها فيك `….هذا ما تلتمسه جليا هنا و يجيبك علي الكثير من التساؤلات.. مثل قلة التكافل الاجتماعي في المدن الكبرى و الحرية الكبيرة التي تتمتع بها بعض البنات و المستغلة أحيانا في الفساد ..والظاهرة الجديدة التي انتشرت نسبيا و المتمثلة في زواج المغربيات من أجانب غير مسلمين – وقد يمثل بعضهم دور من أسلم داخل مسجد يدخله للمرة الأولى و الأخيرة- و من هؤلاء أفارقة قادمين من مناطق نائية و مجتمعات بدائية… – استغربت من أشخاص من مختلف المستويات الاجتماعية والثقافية يبدون تفهما بل أحيانا نوعا من التعاطف مع نساء فاسدات – رغم تقدم بعضهن في السن – بحجة أنهن في حاجة مادية…أو هم ينظرون للأمر على أنه ظاهرة طبيعية لم يخلُ منها مجتمع على مرّ العصور… و لهم في ذلك أكثر من طرح.. ذلك رغم نواقيس الخطر التي تدق بقوة .. – استمعت إلي شخصيات في مراكز علمية و إدارية مرموقة تتحدث بعدم استنكار ( حتى لا أقول بقناعة) أدهشني عن خورا ق المنجمين مثل الحاجة` بريكة` في شويطر بمراكش وزبائنها من الطبقة الراقية والمثقفة … و عن صعوبة الحصول على موعد عندها…. وعن صدق تنبؤاتها… – سألت أستاذا متمكّنا وذا كفاءة عالية ` و هو من ا لشاوية` عن نتيجة ترشحه لأحد المناصب الإدارية ، فأجاب بأن أستاذا آخر فاز بالمنصب لانه قريب منه في المؤهلات لكنّه من` الشرفاء `… هممت بإبداء استنكاري الشديد و لكنني أحجمت إذ أنّ النتيجة لم تفاجئه إطلاقا و ` المقياس` لا يضايقه و لا اعتراض له عليه.. بل هو مقرّ به ، مدافع عنه.. قلت فقط ` لكن لا شريف و لا وضيع بالنّسب في الإسلام.. و الشريفُ شريف العمل.. و كلنا عباد الله و إنّ أكرمنا عنده أتقانا.. و هو سبحانه ما جعل محمّدا أبا أحد من رجالنا…و كلّنا من آدم و آدم من تراب..و..` كنت أنظر إليه.. لم يلق كلامي أيّ صدى في نفسه – اللهم إلّا التذمّر- ففهمت أنّ هذه القناعة متجذّرة في نفسه .. ولا يمكن لرأيي أن يغبّر من الأمر شيئا.. دامت زيارتي للمغرب أسبوعين.. اكتشفت أنّ الأسفار هي من أهم مصادر للعلم.. هذا ما تفطن إليه أسلافنا و عملوا به… و أنّ قراءة عشرات الكتب حول المغرب ما كان ليعوّضني عن الاحتكاك و المعاينة و ما كان ليترك في نفسي مثل هذا الأثر . رافقني إلي المطار سيدة مغربية وزوجها، كانا في منتهى الكرم و الرقة…أحسست وأنا أصافحهما ممتنّة مودّعة بأنني أتقيأ مزيجا أسودا مرا.. مزيجا كان رغيفي اليومي خلال سنين طوال. دخل جوفي .. واستقرّ في أعماقي وأصابني بمغص دائم كثيرا ما تحكم في نفسيتي..و شكل رصيدي الكبير من الكبرياء و الغرور والذاتية و الحقد و العدوانية… عندما وطئت قدماي أرض الطائرة انتابني إحساس قوي بالحنين إلي المغرب. منى المالكي الجزائرمنقول عن مدونة: اقرأ
http://femmedumaroc2010.wordpress.com/2010/10/09/%D8%A7%D9%D8%B7%D8%A8%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D8%B3%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B2%D9%D8%B1-%D8%A7%D9%D9%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%D8%A3%D9/
ولعلّ أحدا يرسل لي تجربة مغربي أو مغربية زار الجزائر أيضا، واكتشف أيضا أنه كان يحمل عن البلد صورة مغلوطة.. فننشر كلا التجربتين هنا.. بهذه المدونة: انطباعات سيدة جزائرية تزور المغرب لأول مرة . لم أكن أعتقد يوما بأن زيارة أقوم بها للمغرب ستزلزلني وتحدث في نفسي كل هذا التأثير. وبأنها ستكون بداية لرحلة شاقة مع ذاتي أراجع فيها بجدّ ما غرسته فينا الخطابات السياسية المكثفة – على مرّ عقود- من أفكار جاهزة وأحكام مقّننة ومفاهيم مغلوطة، وما أنتجته فينا من ردود أفعال ومن انعكاسات شرطية. وعندما وجدتني، أسجل،على غير عادتي، وبتلقائية، هذه الانطباعات، كنت أنوي أن أرجع إليها كما ٌيرجع إلي ألبُوم صور حوى ذكريات جميلة نريد أن نحميها وأن نجنبّها الترهّل بعوامل الزمن. ولم أفكر يوما أن تتعدى كتابتي – بحكم تخصصي – مجال العلوم الفيزيائية أو مجال البحث العلمي… وبعد عودتي إلي الجزائر حاولت أن أنقل لبعض ا لزملاء في الجامعة عيّنة من هذه الانطباعات فاصطدمت بجدار متين من الرفض و التحجّر هو نتاج من الرواسب ذاتها …عندها رأيت من واجبي، وإن لم يكن من اختصاصي، البحث عن وسيلة أخرى لإيصال بعضا من هذه الخواطر….، وأنا أعي بأنني لا املك ناصية الأدب ، و أدرك بان ما كتبته لا يتعدى ذاتيتي الضيقة، وبأن به الكثير من الانبهار قد يصل حدّ المغالاة ، وأنّه لا يرقى إلى ا لدراسة الجادّة والتحليل الموضوعي … وأنا لا أدّعي ذلك ولا أرمي إليه، كل ما أرومه هو أن يشاركني إخواني من الجزائريين والمغاربة جوانب من رحلة حررت نفسي من الكثير من الأغلال التي كانت تكبّل رؤاي و تحجُر على أفكاري و تشدّ إلى الأرض نفسا تتوق إلى التحليق في ملكوت الله و رحابه الواسعة … كنت آنذاك ( صيف 1999) أستاذة تعليم ثانوي و طالبة علم أبحث في ميدان جديد في بلادي هو طرق تدريس المواد العلمية (يدعوه البعض تعليمية العلوم) في وقت كان فيه البحث العلمي عندنا – نظرا للظروف المأساوية التي كنا نمر بها – لغوا و ترفا. .بينما أصبح تطوير المناهج التعليمية ضرورة و أولويّة …وعزمت على الذهاب إلي المغرب، بإيعاز و تشجيع من إخوان مغاربة، للإطلاع على الأشواط الطيبة التي قُُطعت هناك في هذا المجال والاستفادة منها …. وصلت مطار هواري بومدين محمّلة بأفكار جاهزة ….فالمغرب في ذاكرة جيلي هو معقل لقوى الإمبريالية و رمز للرجعية و الاستبداد و قهر الشعوب ، وهو بلد السحر والشعوذة والجوع والفقر المدقع والدروشة والتضليل بالدين، وهو بلد المذلة` وسيدي ولا للا ` والانحناء و الركوع للأشخاص و تقبيل الأيادي. المغرب في ذاكرتنا هو بلد الظلم و الأطماع التوسعية التي غدرت بنا قبل أن تلتئم جراحنا، وقبل أن تجف دماء شهدائنا ، هو بلد الاعتداء الجبان لعام 1963 الذي طعننا في ظهورنا ليئد فرحتنا بالاستقلال و ليحني رؤوسنا التي كانت ترنو إلى التمتع بشمس الانعتاق و الحرية ، و هو قبل ذلك قد خان العهد و خذلنا إذ قبل استقلاله … استقلالا مبتورا.. في حين كان مجاهدونا يعملون على تحرير كلّ منطقة المغرب العربي … المغرب هو التهديد لأخلاق شبابنا بأنواع المناكر والمخدرات و فنون العهر و الموبقات … أردت أن أعيش الرحلة منذ الانطلاق، فكانت على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية المغربية.فاجأتني اللباقة الفائقة للطاقم ورقة المضيفات و خفتهن والنوعية الراقية للخدمات .. كان مقعدي مقابلا لمقعد سيّدة مصحوبة بابنها الصبي و ابنتها الرضيعة ، ابتسمنا لبعضنا عندما بدأت الطفلة تتواصل معي بصوتها و بالتلويح بيديها ،وعندما عرفت من لهجتها أنها من المغرب. بدأت أتفرس في وجهها خلسة و أحدّق في ملامحها و أراقب تصرفاتها…و كأنني ، بدون وعي مني،أحاول أن أطابق في نفسي بين صورتين مختلفتين. راقني كثيرا جمالها الطبيعي ورقتها و عنايتها الفائقة بطفليها . ولم نلبث أن بدأنا نتجاذب أطراف الحديث بتلقائية كبيرة وكأننا نتعارف منذ مدة. هي سيدة من مكناس زوجة جزائري ، كانت تسكن في حي الكاليتوس بضواحي العاصمة- و هو من المناطق التي كانت تعاني الويل في تلك الفترة- هي لم تتحدّث عن هذه المعاناة ، ولا اشتكت من الأيام و الليالي الحالكة التي قهرت سكان هذا الحي ، و كأنّها تعتبر ذلك من السنن الكونية أو لعلها تدخله في باب الابتلاء… .. لكنها تحدّثت عن جارات لها و قريبات لزوجها يلححن عليها بالسؤال ` زوجك كان عصبيا جدا و متمرّدا و قاسيا … ماذا فعلت لتجعليه طيبا هكذا؟ ` ، وكانت تجيب ما استطاعت مطعّمة إجابتها ببعض النصائح…لكن فطنت أنّ سائلتها تبقى تبحث عن السّر و تلحّ لتكشف عنه ….سر آخر يتعدى الصبر والقناعة و حسن المعاشرة و الطاعة و.. سرّ تملكه هي بدون ريب..لكونها مغربيّة ` مروكية` لكنها تتكتّم عليه … ضحكتُ قبل أن تُكمل.. فضحكت و بدأت اسألها عن المغرب و أنا أداعب ابنتها التي انسجمت معي كثيرا .. لمست في هذه السيدة صبر المرآة العربية وشجاعتها وكفاحها وقناعتها وطاعتها لزوجها وإخلاصها له.. وطئت رجلي لأوّل مرّة أرض المملكة المغربية..وقفتُ في محطّة القطار مشدوهة أتأمل من حولي و ما حولي ،وقف قبالتي في الرصيف الآخر رجل ذو أنف كبير و بشرة صفراء و لحية كثيفة و قبّعة…حدّق في طويلا ..تلاقت نظراتنا لثوان .. ساءلت نفسي : فيما يفكّر هذا الرجل و هو ينظر إليّ هكذا ، و كأنه يدعوني أن أدنو منه أكثر لأتحقّق من آدميته. تراه هل تفطّن إلى أنني جزائرية ترى يهوديا لأوّل مرّة ؟ انتابني إحساس غريب. و قوي …مزيج من الأحاسيس المتضاربة… لم املك تحليلها..لكنها هزّت معالما بداخلي و حرّكت أوتارا في أعماقي..و قرعت طبولا في رأسي..و أيقنتُ يومها أنني سأرجع من ّ رحلتي هذه و قد تغيّر فيّ الكثير ..وأحسستُ بالخوف الشديد على نفسي… خوف من أن أفقد اتزانا فكريّا و وجدانيّا .. وإن كان هشّا .. إلّا أنني عانيت الكثير من أجل إرسائه. و أعاني أكثر للمحافظة عليه، وان استدعى ذلك أحيانا كثيرة إخماد صوت نفسي كلّما همست لي أن افتحي أبواب و منافذ قلبك المغلقة بإحكام و أفسحي الطريق لنور الله….و أنّى لي أن أبني توازنا جديدا أكثر استقرارا وأقدر على الصمود و قد نال منّي التعب و كادت الأحداث التي دامت أمدا أن تُصيّرني شبحا يتحرّك آليا و لا يلوي على شيء …. أسكتّ صوت هواجسي و أجلت الإصغاء إليها وقرّرت أن أخوض غمار التجربة بكل عمق . نزلت بفندق `شيلا` و هو فندق راق في مدينة الرباط .. فنفسي الجريحة تاقت إلى شيء من الترف المحظور عليها منذ سنين … وهناك..لم ألبث أن أيقنت أنّ لفظي` سيدي`و `لالاّ ` ليسا من مظاهر الذل التي تكرّس التفاوت الاجتماعي كما لقّنونا ، بل هما من ألفاظ الأدب التي تكثر هنا، فرجل الأعمال النازل بالفندق ينادي لعامل بسيط بلفظ `سيدي ` ، وجميع سائقي التاكسي ، وعمال الفندق والمطاعم يخاطبونني بلفظ ` لاللا` ولا أنكر أن ذلك يداعب وترا حسّاسا في نفسي … أنا التي كنت أستنكر ذلك يشدة… كان يقيم في الفندق مجموعة من الأئمة جاؤوا من فاس لإحياء المولد النبوي الشريف ( العيد علي حد تعبيريهم) في الرباط ، راقبتهم عن بعد كأوّل عينة من المغاربة تصادفني.. أعجبتني أناقة مظهرهم (بجلابيبهم الجميلة مختلفة الألوان ) ونظافتهم ، و شدتني رقتهم و لباقتهم في الكلام، وهزّني إنشادهم و تراتيلهم . صليت العصر في مسجد السنة . داخل المساجد التقيت بفتيات جامعيات تبدو عليهن آيات العفة والذكاء المتوقد، رحبن بي بحرارة و تحدثن معي بالكثير من الحرية، وعبرن بالكثير من التذمر والأسى عن الأوضاع الاجتماعية المتردية في المغرب، وعن طموحاتهن ومشاريعهن وعن الأمل الذي كان يعقده الإخوان المغاربة على بوادر التغييرات الايجابية في الجزائر، قبل النكسة…. في اليوم التالي سألت عمالا من الفندق عن الأماكن السياحية و المعالم الأثرية في الرباط . تمشيت في المدينة العريقة ..يصاحبني احساس بالأمن و الأمان لم أذق طعمه منذ أمد … قطعت مسافات كبيرة مشيا على الأقدام . جلست في أماكن عامة و ساومت بعض السلع. . .تفرست في الوجوه.. ..النظرات صافية والوجوه مبتسمة و الألفاظ مهذبة.. صبر في المعاملة و ` طول بال ` غريبة. تلفت انتباهك سرعة البديهة وروح الدعابة…… أناس يحترمون مواقعهم وحدودهم…. لا تتداخل أطوال الأمواج.. تحس بذاتك و تحس بغيرك… يتحدثون بصوت منخفض و بأدب… هنا لا تطرق أسماعك أصواتا لا تستسيغها ولا تُجبر على تتبع أحاديث لا تحبها… ولا تحدق فيك الأعين بشراهة أو عدوانية…. ودون أن تطلب المساعدة تجد دائما متطوعين لخدمتك و توجيهك بمجرد ما يُلاحظ عليك التردد ( أشنو تبغي أ الشريفة ؟)، يبادرون بعرض و مساعدتهم وان كان طريقك يخالف طريقهم، وان كان هذا يعطّلهم .. وهم ينصحون بالحذر إذا رأوا في الطريق بعض الخطورة عليّ كامرأة (احظي راسك ) و بالاحتراس (سوّلي العيالات) ويرشدون الى الأماكن الجميلة، دون أن ينتظروا جزاء ولا شكورا، فهم يولّون راجعين قبل أن تلتفت إليهم شاكرا ( بلا جميل ) زرت في اليوم التاالي ضريح محمد الخامس رحمه الله بمقاطعة حسان.. و هو معلم رائع…كما زرت شارع التقدم و سوقه الشعبي ، اشتريت ذرى مشوية و زيتونا ( ما أكثر أنواعه هنا و ما أشهاها)، ووقفت لمدة طويلة أمام عشاب أو طبيب شعبي و هو يرغّّب في بضاعته ..انبهرت بمستوى لغته و سعة اطلاعه وسرعته الفائقة في الحديث و براعته في الدعاية لسلعته. انه فعلا تحفة أثرية تجعلك تحس بأنّك تسافر عبر الزمن إلى أسواق في بغداد في قرون ولت . و في السويقة ، استغربت لإقبالي على أكل (الببوش) أي الحلزون و ما كنت أعتقد أنني سأقوم بذلك يوما .. فنظافة الباعة توحي بالثقة ، و حسن معاملتهم تشجّع فضولك و تقضي على ترددك.. سرت بمحاذاة البحر أن وصلت إلى مكان وجدت فيه الناس يستقلون مركبا صغيرا بدرهم واحد , و كل مركب بتسع لستة راكبين، يقطعون عبره نهر` بورقراق` قاصدين الضفة الأخرى حيث مدينة `السلا`.. انتظرت مركبا فارغا ، صعدت فيه ، حييت صاحبه و اتفقت معه أن يقّلني بمفردي.. طلبت من عمي العربي ، و هو شيخ مسنّ من سكان السلا أن بمكنني من التجول عبر طول الوادي و أن يحكي لي عن المنطقة و تاريخها .. استمتعت برفقته و دهشت لسعة إطلاعه وحكمته و قناعته و شكرته على دعوته لي لزيارة أهله و أكل الحوت .. كان ذلك عصر يوم جميل مشمس من ايام شهر جوان .. وقفت في المركب أتأمل روعة المكان.. و حين وصلنا إلى شاطئ الرباط ، لم أقدر على مقاومة نداء البحر.. فقفزت من المركب .. طمأنت عمي العربي .. و لوّحت بيدي مطمئنة جماعة من الشباب سبحوا من الشاطئ ليهموا بإنقاذي..إذ رأوني في الماء بكامل ملابسي … عند رجوعي إلى الفندق فوجئت بوجود فرقة موسيقية أتحفتنا بأغاني شجية من الملحون أدتها بوقار و خلقت جوا من الطرب الراقي . مررت بمحلات راقية مثل `المرجان` و` السلام`، و بقصور رائعة مثل قصر السلطان زايد آل نهيان، وبشواطئ جميلة، ومناظر خلابة و انا أتوجّه إلى (التمارة )، أزور سيدة مغربية كانت دعتني للعشاء عندها ، وهي كاتبة في إدارة متحصلة على ليسانس أدب عربي ،.كان الاستقبال رائعا والمعاملة تلقائية والجو الأسري ممتازا، و كانت الشقة ` من أربعة غرف` جميلة و منظمة بذوق رفيع في حي نظيف و هادئ … لم أكن أتوقع أن مغاربة من طبقة الموظفين البسطاء، يعيشون في هذا المستوى.. واستغربت كثيرا عندما ذكرت لي السيدة ، أنها، بمرتبها، تدفع إيجار البيت وحقوق تمدرس طفليها في مدرسة خاصة..وأحسست – و أنا أقارن بإمكانياتي المادية و بمستوى المعيشة الذي يمكن أن توفره لي- بالكثير من الغبن مطعما بالأسى… في اليوم الثالث حضرت مناقشة أطروحة تخرج في الطب في مستشفي ابن سينا حول مرض الربو للدكتورة ` بشرى المخلوف ` من الراشدية،. ، تعرفت عليها في قطار الدار البيضاء – الرباط الذي اقلني من المطار،دارت بيننا مناقشة ودية و كأننا نتعارف منذ مدة، داخل قاعة المناقشة وجدت جوا إسلاميا ساميا ، وروح الأخوة والتعاون، وكرما فائقا. -كما زرت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم ، وحصلت على مراجع هامة لها علاقة ببحثي وأوصاني أحد المسؤولين هناك بالاتصال بالجنة الوطنية بالجزائر لأبقى على إطلاع على مشاريع المنظمة ونشاطاتها ..و أحسست مرّة أخرى بالغبن الشديد.إذ اكتشفت أننا بالجزائر آخر من يعلم ومن يستفيد من مشاريع المنظمات العربية و الإسلامية والدولية في هذا الميدان ، ، وسبق وان لمست ذلك عند زيارتي لمقرات اليونسكو ولمقر الالكسو بتونس.. -في أغدال ، ذهبت إلى الجامعة أسأل عن الأستاذ ` صالح بن يامنة ` و هوأستاذ مختص في تعليم العلوم الفيزيائية و باحث تشيط و مشرف معروف في هذا الميدان ، لعله يساعدني على فك بعض الألغاز في بحثي و على إيضاح الرؤية .. فقيل لي بأنه أصبح مسؤولا على مديرية الدعم بوزارة التربية. زرته هناك ..على غير موعد .. كان استقباله أكثر من لائق.. وجّهني إلى ذوي الاختصاص في كلية العلوم بالسملالية و المدرسة العليا للأساتذة بمراكش, مساءا حضرت مسرحية ` جار ومجرور`.. شدني جمال السيناريو و حسن الأداء،و الشجاعة في الطرح ، وأعجبني جو المسرح. اذ كان الجمهور متفرجا ممتازا. توجهت الى مدينة فاس عبر القطار.. الطبيعة رائعة.. كل شبر من الأراضي مستغل خير استغلال.. جنات غناء، والخير وفير. .وتحسرت وأنا أعيش ثانية مرارة الإحساس الذي انتابني وأنا أ سافر إلى تونس برا انطلاقا من الجزائر، مرورا بالأراضي الجرداء، التي التهمتها الأشواك، وتلك التي التهمها الاسمنت، وتلك التي تحولت إلي مستنقعات وإلى أماكن لرمي القاذورات…. دخل إلى العربة التي كنت فيها رجل تبدو عليه علامات الوجاهة رفقة زوجته وابنته.. حيّوني بوقار.. بعد مدة خرج الرجل من العربة، وعاد يستدعى زوجته وابنته و يأخذ متاعه … ثمّ رجع بعد قليل .. نظر إليّ بأدب و احترام وقال معتذرا ` اسّمحي ليَ منين بدّلتا المكان ، بحيث أنا كنكمي `.أي أدخّن ..تأثرت كثيرا بهذا الموقف الراقي … أحسست بنوع من الخشوع و أنا أدخل مدينة فاس ..و كأني ألج إليها من باب التاريخ .. كلّ منظر هنا .. كل ركن.. يفوح بعبير الماضي و بعطر الأمجاد.. أمجادنا التي هي أمجادهم .. …واغرورقت عيناي بالدموع و أنا كأنما أدرك للمرة الأولى بانّ لنا نفس الذاكرة .. و أننا نشترك في نفس الأصول .. نفس الأمجاد.. و نتلاقى في بوتقة واحدة في أمس قريب غير بعيد عن يومنا المشؤوم هذا .. أردت أن يكون جامع القرويين أول معلم أزوره….دخلت ا لقصبة .. الأزقة ضيقة غاصة بالمارة..لكن لا تدافع و لا سباب .. لا مشادات ولا اختلاسات .. الرجال يحترمون النساء و يفسحون أمامهن الطريق.. و الباعة يعرضون سلعهم أو خدماتهم بهدوء و براعة … التجار منتشرون في مناطق حسب الحرف : الجزارين ، العطارين ، الدباغين ، النحاسين… دخلت بعض الدكاكين أمتّع عيني بروعة جمال القفاطين المغربية .. وقفت أمام لبّان أستمتع بشرب كأس من ` الرائب` وأنا أصغي بطرب إلى الأصوات المنبعثة من دكاكين الحرفيين.. و صلت إلى جامع القرويين و بداخلي عرس..فهذا المكان المبارك كان و لا يزال منارة للعلم و الدين .. و أعرف في بلادي من يتشرف بأنه نهل العلم من هذا المنبع الأصيل الصافي .. و يذكّر بذلك كلما أراد أن ينبه إلى رفعة مستواه العلمي.. عند عتبة المسجد توقفت للحظة للتأكد .. إذ رأيت الرجال و النساء يدخلون و يخرجون من باب واحدة…وهم يتلاقون في باحة المسجد ، عكس ما هو معمول به عندنا . تنقلت في مختلف أرجاء المكان المقدس ، و صليت المغرب هناك .. أُعجبت بسيدات متقدمات في السن يقرأن القرآن الكريم و يرتلنه بأحكامه . و بفتيات في مقتبل العمر في منتهى الرقة و الجمال يصلين بخشوع ويسألن باهتمام عن أمور الدنيا و الدين .. و دون أدنى مجهود مني قُدّمت لي عدة دعوات لزيارة أخوات في بيوتهن و حتى للإقامة عندهن…خرجت رفقة فتاتين جامعيتين متشوقتين لمعرفة أخبار الجزائر و الجزائريين .. قمنا بالتجوال في أرجاء المدينة القديمة (فاس البالي) و كانت ترن في أذني كلمات من القصيدة الشعبية ( خلخال عويشة ) .. في اليوم التالي خرجت بمفردي عازمة على أن أسيح في المدينة … فلورانس ، مسجد تاجموعت ، مسجد يوسف بن تاشفين ، سيدي حرازم ، مولاي إدريس , منتزه المرينيين ، دار السلاح …. مناظر رائعة.. والمباني فيها الكثير من الانسجام و التناسق، والتواصل مع الماضي . و تعكس الكثير من الذوق و الإحساس بالجمال، و الحس المدني…المغاربة بارعون في البستنة …مرة أخرى أحسست بغصة….و أنا أسترجع في عمراننا مظاهرا للفوضى و التسيب و ا لعنف والتخلف.. ذهبت إلى جامعة` ظهر المهراس` طلبا للاستفادة من أساتذتها و باحثيها في ميدان تخصصي .. فلم يبخلوا عليّ بذلك… ` ما سخيناش بك آختي ` عبارة رقيقة رددها علي الكثيرون من أهل فاس …و يعلم الله مقدار ما أحسست به من ألم و أنا أغادر هذه لبلدة الطيبة. ركبت في حافلة قاصدة الدار البيضاء … جميع الأغاني التي عُرضت علينا طوال الرحلة كانت لمطربين جزائريين، فإضافة إلى أغنية ` يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتولّي` التي تسمعها في كل مكان هنا في المغرب ، وبعض أغاني الراي ،استمعنا إلى أشرطة كاملة لدحمان الحراشي، و إالى أشرطة لرابح درياسة لم أستمع إليها قيل ذلك .. و أدهشني مدى تجاوب الركاب مع هذه الأغاني… زرت `درب غلّف` و السوق المركزي و مشيت في` المعارف` و أكلت الحوت عند ` أمين` .. اطّلعت على الاختلاف الكبير في مستويات المعيشة بين مختلف الأحياء … و مشيت في الأزقة الضيقة .. – ماسحو الأحذية منتشرون في كل مكان ( و كذا الحمالون ) لكن لا ترى عليهم بوادر الذل وهم لا يلحون عليك .. تجولت في أحياء كثيرة تسكنها طبقات اجتماعية متابنية …لم اسمع كلمة فاحشة واحدة …. يتخاطب الناس بينهم بكلام مهذب (أنعام آختي، أنعام آخوي، أ الشريفة، عافاك آختي، نجاك آخوي، بصحة وراحة، الله يسامح، الله يعطيك الستر…). ركبت سيارة أجرة قاصدة ` باب مراكش` .. `أنعام أ الشمالية؟` … أراد السائق أن يعرف الاتجاه الذي أقصده.. و هو يحسبني – كغيره ممن رآني لأول مرة- من الشمال المغربي. وعندما تكلمت حسبني من الشام .. فالجزائريين في اعتقاده (دوزيام فرنسيس) يتحدثون بالفرنسية . و عندما أجبت بالنفي سألني مُستبعدا (ربما لهندامي) : تونسية؟ .. قلت `لا` ..سكت .. و انتظر أن أواصل .. ولمّا طال صمتي .. خمّن ، و كأنّه تذكّر وجود جزيرة نائيّة… `دزيريّة` .. ثمّ أضاف و قد تغيرت نبرات صوته ` فحاال فحال أحنا خوت..`. سائق آخر ، و هو شاب نشيط قال لي `الجزائري مزيان …..لكن غيرأمشي امعاه نيشان…` قصدت باب مراكش..و رأيت أن أقضي ليلة في دار للشّباب .. مكان محترم… هادئ و نظيف و جميل الموقع يرتاده السياح من مختلف الأعمار و الجنسيات.. سمحت لي ليلتي تلك بالاحتكاك بأناس جاؤوا من مختلف بقاع الأرض.. و فُتحت أمامي نافذة على العالم.. و قد جئت من بلد حُرّم على الأجانب منذ سنين طوال… في اليوم التالي ذهبت لزيارة السيد `عبد الجبار معطي` في المدرسة العليا للأساتذة … و هو أستاذ قدير زارنا في الجزائر و كنت أنصت لمحاضراته بكل شغف.. أّعجبت ببراعته في الإلقاء و بسعة أفقه و غزارة معلوماته و إتقانه للغتين العربية و الفرنسية .. ذهبت إليه دون سابق إشعار .. و كان منتهى أملي أن ينفق عليّ بعضا من وقته الثمين ناصحا و موجّها .. فوجدت فيه الأخ الكريم …دعاني للذهاب إلى منزله .. بيت جميل حديث البناء في `سيدي برنوسي` .. الجو الأسري راق .. أحسست منذ الوهلة الأولى أنني بين أهلي و ذويّ..و لن أنسى ما حييت كرم الضيافة الذي حظيت به من قبل زوجته وهي امرأة فاضلة و أم من الطراز الرفيع.. كما لن أنسى عفويتها و نشاطها الفائق و تربيتها الراقية لأبنائها و بناتها ووعيها الكبير بمسؤولياتها… وأثّر في نفسي كثيرا أن لا أحد يلحّ عليك بالسؤال إشباعا لفضول.. بل إنهم لا يسألونك حتى كم تنوي البقاء عندهم.. سؤال لم أجرأ على طرحه على أهل هذا البيت الطيب..بقي معلقا في نفسي لمدّة :` كيف أحظى بهذه المعاملة الأخوية وأنا أعلم بأن هذه الأسرة الكريمة عانت من سلوك بعض الجزائريين- و هم مع الأسف من طبقة مثقفة – ومن جحودهم واستغلالهم ؟`.. لكن هذا السؤال ما لبث أن تلاشى عندما اقتربت منهم أكثر.. .. فهذا الأستاذ مغربي أصيل.. والكرم طبع فيه.. و هولا يحمل ضغينة و لا يعمّم أحكاما .. خاصة عندما يتعلق الأمر بجزائريين.. و لقد لمست هذا في عدّة مناسبات.. المغاربة يحسون بتعاطف كبير و بحنين للجزائر و للجزائريين… حنين الأخ الذي فُصل عنوة عن أخيه…وهم يلتمسون لهم الأعذار ` معليهش مساكين…أحنا فحال فحال` .. واستغربت كثيرا أن أجد هذا التفهم من طرف مغاربة التقيت بهم.. تضرروا كثيرا من معاملات جزائرية… فمنهم من طرد في منتصف السبعينات فاقدا مصدر رزقه و كل ممتلكاته ومُبعدا عن أقرب الناس إليه… و منهم من لديه والد أو قريب قتل أو سجن لعشرات السنين في غياهب الصحراء… تجولت في شوارع ` كازا`.. المدينة التي تجمع متناقضات عجيبة ككبريات المدن .. راقني الجو في ` ماك دونالد`. أكلت و أنا أتأمّل ما حولي و من حولي في المكان الذي يمتد على مرمى البصر.. تبادلت ابتسامات مع أطفال تفيض السعادة من عيونهم و هم يلتهمون بنهم كبير أكلتهم المفضلة في علب رائعة.. ووجدت أفكاري تحلّق في جوّ آخر: أسماء المدارس والشوارع التي مررت بها في المغرب ، باستثناء أسماء الملوك، هي في الغالب أسماء بلدان أو مدن،أو زهور، أو معاني جميلة ( مثل التقدم و المعارف..) ،أو معالم و أحداث.. أو شخصيات تاريخية عريقة تملؤك إحساسا بالاعتزاز و بالامتداد طولا و عرضا…أسماء الشوارع، والمدارس و الجامعات و المطارات في الجزائر.. هي أسماء `ثورية`، تذكرك على الدوام بالمحن و البؤس و الموت و المذابح… تسد الآفاق أمامك… تجعلك تحسّ بالإحباط .. أو بالاعتزاز المبالغ فيه المفرغ من معناه، و الذي يغرس فيك العدوانية و الغرور و الإحساس الكاذب بالتفوق على بقية الشعوب.. و كثيرا ما تذمرت منذ طفولتي من هذه الأسماء و الشعارات التي تغرس فيك توجها (ثوريا) وتشدك إلي الوراء بأغلال من حديد… …ألم يستشهد آباؤنا لنحيا نحن؟ ألا توجد طرق أخرى للاعتراف بتضحياتهم و لتخليد أسمائهم، دون أن تتوجه أذهاننا باستمرار إلى المعارك ودون أن ترتسم لدينا ديكورات الحرب؟ و أذكر أنني في الصف السادس الابتدائي عندما طُلب منّا كتابة موضوع إنشائي يدور حول حب المدرسة كان من بين ما كتبت` … أحلم أن يستبدل اسم مدرستي باسم عالم فذ من الأسلاف مثل ابن سينا أو جابر بن حيان أوبن الهيثم أو ابن باديس لنحتذي حذوهم. .. نحن نحترم الشهداء و ندين لهم بالاستقلال لكننا نريد أن نتجاوز فترة الحرب لنبني و طننا بالعلم و العمل و كان هذا أمل الشهداء .` .. و كانت مدرستي تحمل اسم شهيد لم يحكوا لنا عنه شيئا يوما.. طبعا لم يعجب هذا الاستطراد المعلمة، و عزته إلى وقاحتي المعهودة … فالشهداء هم سرّ وجودنا وعلة حياتنا و منتهى انتمائنا… و الحديث عنهم وعن أمجادهم و بطولاتهم وعن الثورة المظفرة و الحلف الأطلسي و الاستقلال المعجزة.. هو خبزنا اليومي : المكتسبات الثورية..المعارك.. مجاهدون.. شهداء… خَوَنة….تُصاب بدوار و يملؤك إحساس مُحبط يخنقك : إحساس بأن جذورنا تمتد إلي عام 1954, وفي أحسن الأحوال إلي عام 1830 .. واليوم أتساءل إلى أيّ حدّ أثمرت فينا هذه المجهودات التربوية ؟ .. .وإلى أي مدى ساهم هذا التوجيه الثوري للأذهان بجميع إفرازاته في تبني أبناء جيلي لمواقف` ثورية` و في نسج خيوط المأساة التي سحقتنا لأمد طويل ؟ اشتريت تذكرة قطار الدار البيضاء – مراكش .. تذكرة درجة ثانية هذه المرة طلبا لاحتكاك أكبر مع عامة الناس.. داخل القطار شدّني صوت مهذّب واضح منبعث من مكبّر ، يرحب بالمسافرين بلباقة، يعلن عن دخول كل محطة، ويعتذر باستمرار عن كل تأخير و يبرّره. و كالعادة لم أبذل أيّ مجهود للانسجام مع من حولي .. سألتني سيدة جالسة قبالتي عن انطباعاتي حول زيارتي و في مجرى الحديث عبّرت لها عن إعجابي بظاهرة أصادفها لأوّل مرة وهي ارتياد تلاميذ المدارس و طلبة الجامعات ، إناثا و ذكورا، فرادى و جماعات للأماكن العامة والحدائق يراجعون فيها دروسهم بكل جدية – قلت ذلك و أنا أسترجع مناظرا مقزّزة لحدائق عامة في بلادي أكلها الإهمال وتحولت إلى أوكار للفساد بجميع مظاهره- حركت السيدة رأسها مبتسمة و لم تعلّق . وعندما نزلت من القطار استدرك أحد الشباب وهو طالب في السنة الخامسة طب قائلا ` سأشرح لك أسباب هذه الظاهرة .. الصهد (شدة الحر)، وضيق البيوت وانعدام المكتبات` استغربت لتوضيحاته فهو يعلم أنني جزائرية، ويعلم الحساسيات التي بين بلدينا ، ولم يمنعه ذلك من تقديم هذا التفسير حتى لا أنبهر بظاهر الأشياء.. انتزعني من شرودي صوت سيدة جالسة بجانبي و هي تسألني ` هل زرت مسجد الحسن الثاني؟` ..عبّرت لها عن إعجابي بشساعة المكان وجمال التصميم وروعة الموقع ودقة التنفيذ .. لكنني أضفت أن ما لم يعجبني هو اختلاط (أو اقتراب ) مكان العبادة بأماكن اللهو و اللعب … قالت بدون تحمس `ذلك المكان كان سيتسع لإيواء كل المغاربة المحتاجين إلي سكن`، وعندما بقينا لوحدنا في العربة قالت ` لا أقصد من حيث المساحة فقط بل أعني من حيث تكاليف البناء التي دفعت من جيوبنا `.. و استغربت بشدة أن أسمع منها مثل هذا التعليق… من قال بان المغاربة يخافون من ظلهم ولا يقربون السياسة ؟… أم هي رياح الديموقراطية لم تخطئ طريقها إلى المغرب… كان ذلك يوم جمعة.. اكتشفت من حركة الشارع أنّ الموظفين المغاربة لا يعملون وقت الصلاة ( 11سا – 15سا) و أنّ لهم الوقت الكافي للاستعداد للعبادة…. و هم بعد ذلك ينتشرون في الأرض يبتغون فضلا من الله .. كما أن الكثير من الخواص ` تجارا و غيرهم ` يجعلون من يوم الجمعة يوم راحة لهم… نزلت في فندق بسيط لكنه نظيف في ` غليز` و هو ملك للسيد ` بناني` ، رجل محترم كنت قد التقيته و زوجته الطبيبة في فندق `عمور` بفاس .. خرجت لزيارة ` البهجة` المدينة الجميلة الحمراء داخل عربة جميلة يجرّها حصان….الحرارة تلفح الوجوه.. لكن انخفاض الرطوبة يجعلها محتملة .. وصلت إلى جامع الفناء `لفنا` .. ساحة الغرائب ..نزلت… ووقفت لمدّة أتأمّل ما يحدث فيها من عجائب الأمور… كالتفاف جمهور كبير من الرجال و النساء من جميع المستويات مكونين حلقة.. تتربع في الوسط امرأة متوسطة السن تهمس في أذن رجل ببدلة أنيقة و ربطة عنق و هو جالس القرفصاء و يستمع إليها بخشوع…ثم جاء دور رجل آخر.. ثم امرأة … كان الصمت يخيم على المكان … ما لبثت أن غادرت هذا المشهد و اتجهت نحو `بائع لحريرة`.. اعترض طريقي شخص كأنه خرج لتوّه من كتاب أصفر للتاريخ .. فزعت و صرخت عندما وضع أفعى حول عنقي … أسرعت في مشيتي تفاديا لموقف مشابه.. احتسيت صحن `الحريرة` واقفة و أنا مبهوتة لما يحدث أمامي.. مشيت بعدها نحو القلعة..الطريق جميل و شاعري.. تتبعني شاب على دراجة … هرولت في مشيتي.. ثم غيرت منحى طريقي .. لكنه بقي يسير ورائي – لا أنكر أنّ معاكساته كانت مهذّبة و رقيقة و أنه لم ينبس بكلمة مؤِذية – استجمعت كل شجاعتي و وقفت … استدرت نحوه قائلة ` سر في حالك`.. أحنى رأسه و عاد أدراجه دون أدنى تعليق. قصدتُ في اليوم التالي جامعة السملالية حيث لا أعرف أحدا و لا يعرفني احد…سألت عن مخبر التعليمية `ديداكتيك` فوُجّهت إلى السيد ` بوّاب` و كان حينها مديرا.. تأثرت لحسن استقباله.. قادني إلى المخبر.. فرحت لجوُ العمل السائد هناك .. لمست عند هؤلاء الإخوة (أذكر من بينهم السيد فؤاد شفيقي) إقبالا طيبا على البحث في هذا التخصص الجديد. واستغلالا جيدا للإمكانيات المتوفرة لديهم- على قلتها – ومقدرة على توظيف تقنيات البحث و إطلاعا على مختلف الاتجاهات و استفادة من مختلف المناهج… كما وجدت لديهم قناعة بإمكانية التكامل مع الجزائريين و رغبة في تكوين علاقات تعاون معهم ووعيا بضرورة توحيد الرؤى.. وتذكرتُ أنني – وأنا أخطو الخطوات الأولى في هذا الميدان – قد نهلت من مراجع مغربية في علوم التربية و الابستمولوجيا و تعليمية العلوم .. جاد بها عليّ أستاذ فاضل كان آنذاك مستشارا ثقافيا في سفارة المغرب بالجزائر . و أنّ أول من لجأت إليه طالبة يد المساعدة هو الأستاذ محمد كوحيلة من المدرسة العليا للأساتذة بمراكش .. راسلته..فلم يبخل عليّ بآرائه القيمة و توجيهاته و نصائحه التي أنارت طريقي في رسالة الماجستير و أجلت الكثير من الطلاسم… و سأطل ممتنة للأستاذين الجليلين .. حافظة للجميل .. رجعت إلى الفندق..جاء السيد بناني و زوجته و اصطحباني إلى بيتهما الجميل..وهناك تعرفت على أطفالها الأربعة المتقاربين في السن.. كلهم في المرحلة الابتدائية من التعليم.. : فاروق و علي و عمر و هند ( و ليغفروا لي إذا خانتني الذاكرة إنّما لاختيار الأسماء دلالة كبيرة).. أربعة من الملائكة فيهم الكثير من براءة الطفولة و رقتها و تلقائيتها..و روح الدعابة و اتقاد الذكاء و الأدب الجم و التربية الدينية الراقية .. و من سياق الحديث عرفت أنهم يدرسون في مدارس أجنبية (فرنسية و أنجليزية)…لا أنكر استغرابي حينها…إذ أنهم يتخاطبون بلسان عربي مبين.. التعليم الأجنبي هنا.. التكوين الراقي و إتقان اللغات.. لا يطمس الشخصية إذن ..ولا يخلخل بُنى الهوية.. ولا يمنع من التحكم في اللغة الأم و لا يعني التغريب.. – ` المغرب غابة ما تبحثين عنه تجدينه`، عبارة قالها لي احد الأخوة المغاربة المقيمين بالجزائر، أدركت معناها عند نهاية زيارتي هذه… غابة بتنوعها و وفرتها.. لكنّنا لم نسمع إلا عن وجهها المقفر و مناطقها الجرداء…. لم تبلغ بي السذاجة درجة أنني لم أقف على مظاهر لم ترقني ولم يمنعي انبهاري من الإطلاع على وجه آخر للمغرب، لكنه وجه لم يفاجئني هذه المرة لأنه لا يمكن أن يبلغ درجة الفضاعة التي يتوقعها من جاء من الجزائر… و هذه بعض ملامح هذا الوجه : – عايشت الفقر المدقع الذي يهوي بصاحبه إلي الحضيض.. – شباب تعج بهم شوراع الرباط يشمون خرقة داكنة ويترنحون في مشيتهم وهم خطرون لا أحد يلاحقهم ولا يحسون بأنهم مهددون… – يتحدث الكثير من الشباب عن تفشي الرشوة وأنها القاعدة وليست الاستثناء فلا توظيف بدون رشاوى كما أنّ الامتحانات و المسابقات شكلية وهذا يجعلهم– خاصة أصحاب الشهادات منهم- يحسون بإحباط شديد… ولقد عاينت بنفسي بعض مظاهر ذلك في إحدى المصالح الإدارية، إذ لمست تأثير ورقة من 10 دراهم على سرعة الخدمات المقدمة و نوعيتها .. – ` كل واحد داخل سوق رأسه ` و` اشكون أداها فيك `….هذا ما تلتمسه جليا هنا و يجيبك علي الكثير من التساؤلات.. مثل قلة التكافل الاجتماعي في المدن الكبرى و الحرية الكبيرة التي تتمتع بها بعض البنات و المستغلة أحيانا في الفساد ..والظاهرة الجديدة التي انتشرت نسبيا و المتمثلة في زواج المغربيات من أجانب غير مسلمين – وقد يمثل بعضهم دور من أسلم داخل مسجد يدخله للمرة الأولى و الأخيرة- و من هؤلاء أفارقة قادمين من مناطق نائية و مجتمعات بدائية… – استغربت من أشخاص من مختلف المستويات الاجتماعية والثقافية يبدون تفهما بل أحيانا نوعا من التعاطف مع نساء فاسدات – رغم تقدم بعضهن في السن – بحجة أنهن في حاجة مادية…أو هم ينظرون للأمر على أنه ظاهرة طبيعية لم يخلُ منها مجتمع على مرّ العصور… و لهم في ذلك أكثر من طرح.. ذلك رغم نواقيس الخطر التي تدق بقوة .. – استمعت إلي شخصيات في مراكز علمية و إدارية مرموقة تتحدث بعدم استنكار ( حتى لا أقول بقناعة) أدهشني عن خورا ق المنجمين مثل الحاجة` بريكة` في شويطر بمراكش وزبائنها من الطبقة الراقية والمثقفة … و عن صعوبة الحصول على موعد عندها…. وعن صدق تنبؤاتها… – سألت أستاذا متمكّنا وذا كفاءة عالية ` و هو من ا لشاوية` عن نتيجة ترشحه لأحد المناصب الإدارية ، فأجاب بأن أستاذا آخر فاز بالمنصب لانه قريب منه في المؤهلات لكنّه من` الشرفاء `… هممت بإبداء استنكاري الشديد و لكنني أحجمت إذ أنّ النتيجة لم تفاجئه إطلاقا و ` المقياس` لا يضايقه و لا اعتراض له عليه.. بل هو مقرّ به ، مدافع عنه.. قلت فقط ` لكن لا شريف و لا وضيع بالنّسب في الإسلام.. و الشريفُ شريف العمل.. و كلنا عباد الله و إنّ أكرمنا عنده أتقانا.. و هو سبحانه ما جعل محمّدا أبا أحد من رجالنا…و كلّنا من آدم و آدم من تراب..و..` كنت أنظر إليه.. لم يلق كلامي أيّ صدى في نفسه – اللهم إلّا التذمّر- ففهمت أنّ هذه القناعة متجذّرة في نفسه .. ولا يمكن لرأيي أن يغبّر من الأمر شيئا.. دامت زيارتي للمغرب أسبوعين.. اكتشفت أنّ الأسفار هي من أهم مصادر للعلم.. هذا ما تفطن إليه أسلافنا و عملوا به… و أنّ قراءة عشرات الكتب حول المغرب ما كان ليعوّضني عن الاحتكاك و المعاينة و ما كان ليترك في نفسي مثل هذا الأثر . رافقني إلي المطار سيدة مغربية وزوجها، كانا في منتهى الكرم و الرقة…أحسست وأنا أصافحهما ممتنّة مودّعة بأنني أتقيأ مزيجا أسودا مرا.. مزيجا كان رغيفي اليومي خلال سنين طوال. دخل جوفي .. واستقرّ في أعماقي وأصابني بمغص دائم كثيرا ما تحكم في نفسيتي..و شكل رصيدي الكبير من الكبرياء و الغرور والذاتية و الحقد و العدوانية… عندما وطئت قدماي أرض الطائرة انتابني إحساس قوي بالحنين إلي المغرب. منى المالكي الجزائرمنقول عن مدونة: اقرأ
http://femmedumaroc2010.wordpress.com/2010/10/09/%D8%A7%D9%D8%B7%D8%A8%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D8%B3%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B2%D9%D8%B1-%D8%A7%D9%D9%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%D8%A3%D9/
Published on October 24, 2013 08:57
October 23, 2013
الابتلاء هو الحكمة الكبرى من الدنيا.
سأحاول في هذه الأسطر القليلة أن أشرح للقارئ الكريم الحكمة الإلهية من خلق العالم ووضع الإنسان فيه. وإذا تبيّنت جيدا فإن كثيرا من الأسئلة والإشكالات سترتفع تلقائيا وبسرعة..الابتلاء هو الحكمة الكبرى من الدنياإلياس بلكا سأحاول في هذه الأسطر القليلة أن أشرح للقارئ الكريم الحكمة الإلهية من خلق العالم ووضع الإنسان فيه. وإذا تبيّنت جيدا فإن كثيرا من الأسئلة والإشكالات سترتفع تلقائيا وبسرعة.. وقد أعود إلى التفصيل في الموضوع أكثر لو رغب في ذلك القراء الأفاضل. الله تبارك وتعالى خلق مخلوقات كثيرة قبل الإنسان، فخلق النجوم والكواكب والبحار والأشجار والصخور والرمال.. ولهذه المخلوقات وظيفة معينة، وهي كلها تعرف ربها وخالقها. لكن هذه جمادات، ولما كانت حكمة الله هي التنوع، فقد خلق الحيوان، وهو أشكال لا تحصى من الطيور والأسماك والزواحف والثدييات. أيضا خلق الله تعالى كائنات أخرى تمتاز على الجماد والحيوان بأنها عاقلة واعية، وهذه الكائنات كثيرة، أهمها: الملائكة. إن الذي يجمع بين هذه العوالم المختلفة من الجماد والحيوان والملائكة هو أنها جميعا مجبورة ومأمورة، فالأرض تجري وفق خط سير محدد بدقة لا تحيد عنه سنتميترا واحدا، والحيوان يتبع غريزته حرفيا، والملك يفعل ما يأمره الله به، ويؤدي وظيفته، ولا يخطر بباله أصلا أن يعصي ربه. هكذا خلق الباري جل جلاله مخلوقات أخرى، هي فوق الجماد والحيوان، فهي عاقلة، لكنها غير مجبورة، بل حرّة مختارة..ونحن نعرف من هذه المخلوقات نوعين: الإنس والجن.، وقد يوجد في الكون الفسيح غيرها. خلق الله الإنسان وركّب فيه العقل من جهة، والغرائز والشهوات النفسية من جهة أخرى.. بحيث دائما يجد نفسه مضطربا بينهما، متأرجحا بين الخير والشر، وهو يشعر أنه قادر على سلوك أحد الطريقين واختيار واحد من الأمرين، قال تعالى:( ونبلوكم بالشر والخير فتنة، وإلينا ترجعون).ثم أنزل الله هذا الإنسان إلى الأرض، ومهّدها له وجعلها تناسب تكوينه الفيزيولوجي والعقلي..وأمره بالسير في الأرض، وسمح له بالاستفادة من خيراتها وجميع ما فيها.. لكنه استثنى أشياء معينة، فحرمها عليه وأخبره بأنه سيحاسبه إذا أخذها. فخلق الله الخنزير وحرّمه على الإنسان، وخلق العنب ومنعه أن يعصره خمرا، وركّب فيه حب النساء وحرمهن عليه جميعا إلا من تزوجها.. وهكذا أدخل الله الإنسان إلى قاعة كبيرة جدا هي قاعة الامتحان، ووضع له عبادا يراقبونه ويكتبون أعماله، ثم حجب الله عالمه وملائكته وجنته وناره.. عن نظر هذا الإنسان، فهو لا يبصر شيئا من هذه العوالم.. تماما كما يحجب الأستاذ الكتاب والدفتر عن التلميذ الممتحن. ثم إن الله تعالى حدّد لهذا الإنسان ولاختباره وقتا معينا لا يتجاوزه. وأخيرا أرسل سبحانه إلى هذا الإنسان من يذكره إذا نسي، ومن يشرح له ظروف الامتحان إذا جهلها. فأما الأرض كلها فهي الحلال، وأما ما استثني منها فهو الحرام، وأما قاعة الامتحان فهي الدنيا، وأما المراقبون فالملائكة، وأما الحجاب فهو الغيب، وأما الوقت المعين فأجل الإنسان، وأما المذكر فالنبي أو الرسول. إنه الابتلاء: فالله هو (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور.) هكذا وُجدنا على الأرض، فنحن في امتحان كبير، وزمننا قصير، وحين نموت جميعا سنعود إلى الله، ويقدم كل واحد منّا إليه صحيفة أعماله وجردا بمنجزاته. فمن نجح كافأه الله بالجنة، ومن رسب أدخله النار. وفي الجنة لا توجد عبادات ولا محرمات، ولا حجب ولا نهايات، وكل شيء مكشوف حتى وجه الله العظيم سنراه، كما لا يوجد موت.. لماذا؟ لأن الامتحان انتهى، وما بقي إلا الجزاء، والجزاء لا ينقضي.. إذ الله سبحانه رب كريم، وهو يحب الإنسان، لذلك يبقيه خالدا إلى جواره أبد الأبدين.. فاللهم ارزقنا جوارك الكريم، وألحقنا بك غير فاتنين ولا مفتونين، ولا حول ولا قوة إلا بك.. إلهنا الرحيم العظيم.
Published on October 23, 2013 13:00
إلياس بلكا's Blog
- إلياس بلكا's profile
- 50 followers
إلياس بلكا isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

