سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (17).. تتمة. المعضلة الروسية.
سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (17).. تتمة.
المعضلة الروسية:
تأليف: إلياس بلكانواصل شرح الموضوع:
ثم جاء القرن العشرون وقامت الثورة البولشيفية بروسيا، وتأسس الاتحاد السوفياتي، وضم إليه بلادا واسعة وشعوبا مسلمة كثيرة. ورفعت الشيوعية شعار محاربة الأديان كافة، فتم إقفال المساجد وإلغاء التعليم الديني.. وكانت فترة حرجة كاد فيها الإسلام يندثر.
وجاء الاحتلال السوفياتي لأفغانستان ليضيف جرحا آخر في تاريخ العلاقات الإسلامية-الروسية. إذ من غير المعقول ولا المقبول أن يستمر هذا التمدد الروسي على حساب المسلمين إلى ما لا نهاية، فظهر الجهاد الأفغاني.. ورغم كل أخطاء هذه المقاومة ورغم بعض الظروف الدولية والإقليمية - السلبية- التي نشأت حولها.. فإنه كان من حق الأفغان بل من واجبهم أن يحملوا السلاح دفاعا عن أرضهم وهويتهم واستقلالهم. وأدى الشعب الأفغاني ثمنا باهظا من دمائه وأملاكه واستقلاله.. لكنه في الأخير انتصر. إنما نكأت هذه الحرب الخاطئة جروحا وأشعلت فتنا بين الروس والمسلمين، وأغضبت العالم الإسلامي الذي أحس بأن الروس اعتدوا عليه في عقر داره دون وجه حق، اللهم إلا الرغبة في السيطرة والتسلط.. فهي إمبريالية روسية قومية في ثياب اشتراكية أممية. وأحس هذا العالم أن أمم الغرب والشرق تتكالب عليه وتتآمر.
ثم انهار الاتحاد السوفياتي فجأة، وظن بعض مسلمي القوقاز أن الفرصة مواتية للاستقلال عن موسكو، فثار بعضهم وتمرد، خاصة من الشيشان.. هكذا ظهرت حرب ثانية بالمنطقة طرفاها الروس وبعض المسلمين.
والحق أن معاناة شعوب القوقاز المسلمة من السيطرة الروسية معاناة تاريخية وحقيقية، لكنني أعتقد أن الشيشان أخطؤوا حين حملوا السلاح في وجه روسيا. لقد أغراهم اضطراب الأوضاع بها وضعفها. ولو تأملوا لعرفوا أن روسيا قد تضعف لكنها لا تنهار. فالثور الكبير قد يضعف لكنه لا يسقط.
لذلك كانت النتيجة أن أبيد هذا الشعب الصغير الذي لم يكن مهيأ لمواجهة قوة جبارة هي روسيا، حتى لو أنه استطاع أن يقف في وجهها زمانا.
لقد كانت حرب الشيشان خطأ بكل المقاييس. فقد قُضي على الشيشان المساكين، فأما العالم العربي-الإسلامي فلم ينجدهم بشيء، ولم يفعل شيئا. وأما الغرب فهو كعادته منافق كبير، بعضه شجع الشيشان على الثورة في البداية ثم خذلهم في النهاية.
وقد تركت هذه الحرب آثارا أخرى لا تزال قائمة، ولا تقل خطورة عن الدماء المهدورة. ولا أقصد بهذا استمرار بعض العمليات العسكرية المحدودة، فالروس يقتلون قائدا شيشانيا هنا، والشيشان يلجؤون لخطف رهائن هناك.. أو نحو ذلك..
بل أعني الشروخ النفسية والثقافية التي حصلت داخل روسيا نفسها، بين مسلمي روسيا ومسيحييها.. فهذا صنع هوة بين المواطنين لا تفيد أحدا.. خاصة أن عموم الشعب في روسيا في العقود الأخيرة لم يكن يحمل عداوة حقيقية للإسلام.
يجب على الفكر العربي والإسلامي المعاصر أن يدرس العلاقة المثلى بين العالمين الإسلامي والسلافي-الروسي، وأن ينتج نظرية حقيقية في هذا الموضوع. وفي رأيي أنه يجب أن تكون أركان هذا الموقف وفق الآتي:
1- لا ينبغي اعتبار روسيا عدوا بأي حال من الأحوال، بل يجب التعامل معها باعتبارها بلدا كبيرا لا يمكن إلغاؤه من خارطة العالم وقواه المؤثرة.
2- يجب على مسلمي روسيا الانخراط في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد انخراطا إيجابيا، لا أعني بهذا الذوبان في المحيط الروسي، بل أن يشعر مسلمو روسيا بالمواطنة ويساهموا فيها.. حتى يكون لهم تأثيرهم في مجريات الحياة العامة الروسية.
3- لا يجب اللجوء للسلاح أبدا ضد روسيا وسلطتها المركزية. فهذا أسلوب ثبت عدم جدواه، بل ثبت أنه يضر المسلمين ولا يفيدهم شيئا. وينبغي أن نفهم الفرق بين أفغانستان وبين داغستان مثلا.. ففي الحالة الأولى عندنا دولة مستقلة غزاها الجيش السوفياتي الأجنبي بقوة السلاح، وجميع الأديان وقوانين العالم تعترف هنا بحق الدفاع عن الوطن. أما في الحالة الثانية، فعندنا جمهوريات مسلمة ضمن الاتحاد الفيديرالي الروسي، فإذا أحس المسلمون هنا بمظالم فالواجب أن يسعوا إلى رفعها بالكفاح السلمي وبالأساليب القانونية وبتقوية مركزهم السياسي والثقافي والعلمي والاقتصادي.. أي بممارسة المواطنة لا بهدمها.
4- إن نجاح الديموقراطية في روسيا نجاح للروس أولا، وللمسلمين ثانيا سواء للذين يعيشون داخل روسيا أو في جوارها.
4- على الدول العربية والإسلامية أن تضع في سياساتها حسابا لروسيا، وأن تعترف لها بما يجوز الاعتراف به من مصالحها السياسية والاقتصادية، وأن تدشن معها شراكة حقيقية على جميع المستويات.. ولا ينبغي أن ننسى أن مسلمي روسيا يقدرون بربع السكان، وأن نسبتهم في تزايد.
لقد جاءت أحداث سوريا المؤلمة لتكشف أننا لا يمكن أن نتجاوز روسيا ولا أن نتجاهلها.. لقد أحزننا كثيرا الموقف الروسي الحالي، وهو موقف غبي في منتهى الغباء ولا أخلاقي بالمرة. لكن هذا لا يمنع أن نعترف بأن العرب لم يبذلوا جهدا حقيقيا في فهم الروس وكيف يفكرون ولا في إقناعهم وكسب موقفهم..
أما الذين لا يعرفون – حين تُذكر أمامهم روسيا- إلا الصياح بالجهاد.. فليتقوا الله في المسلمين ودمائهم المعصومة.. وليفهموا قبل أن يتكلموا، وليقرؤوا قبل أن ينطقوا.. إذ فيهم من لا يعرف أي شيء عن تاريخ روسيا وأوضاعها.. ورغم ذلك يفتي في شؤون مسلميها بفتاوى خطرة ومدمرة.
الخلاصة أنه علينا أن نكسب روسيا، وأن نفرض عليها احترامنا واحترام مصالحنا.. بشراكة استراتيجية ذكية وشاملة.. بعيدا عن لغة الحرب والحقد والصراع.. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
Published on December 24, 2013 12:34
No comments have been added yet.
إلياس بلكا's Blog
- إلياس بلكا's profile
- 50 followers
إلياس بلكا isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

