عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 92

November 24, 2019

يوسف يتيم : دراسة تطبيقية لرواية الجذوة على ضوء المنهج الواقعي

[image error]
بقلم : يوسف عبدالله يتيم
هذه الدراسة نشرت في مجلة الكاتب العربي العدد الرابع من السنة الاولى ديسمبر 1982 دمشق .

□ تمهيد :
تنتمي رواية «الجذوة»* إلى اللون الأدبي المسمى «بالرواية القصيرة» . Novelette وليس إلى الرواية بمعناها الدقيق أي بمعناها الملحمي، فالجذوة رواية من حيث كونها تحتوي على عناصر الرواية من جهة ، عندما تطمح في تقديم بانوراما أو نظرة شاملة لمرحلة أو لمراحل محددة من حياة بعض الشخوص (ولا سيما العامل فرج الشماس وابنه شاهين والحارس مشعل الياس ورحيم غزوان وميرزا عجب والمدير العام) ، حيث تعكس هذه الشخصيات وبشكل متفاوت وبدرجات مختلفة ، متباينة ، مرحلة محددة من مراحل تطور مجتمعنا ، بدءاً بمنتصف الخمسينات، مروراً بالستينات. وقد تجلت تلك المرحلة على مستوى الشخصيات في فرج الشماس، مشعل الياس والمدير العام على وجه التحديد، بينما عبرت – وبحدود معينة – شخصيات مثل شاهين فرج ورحيم غزوان وميرزا عجب – وإلى حد معين، السكرتيرة رجاء عن فترة زمنية في تلك المرحلة بدءاً من منتصف الستينات إلى بداية السبعينات. وغني عن البيان، فإن تلك المرحلة وفي فترات زمنية محددة، كانت حبلى بالأحداث والتحولات النوعية في بنية مجتمع ما بعد اكتشاف النفط ، حيث نشأت علاقات اقتصادية واجتماعية جديدة في أحشاء المجتمع القبلى ــ الإقطاعي الذي تفتتت وتحللت علاقاته بالتدرج وبفعل قوانين التطور الاجتماعي حيث أخذت تنمو العلاقات الرأسمالية المتقدمة تاريخياً على علاقات ذلك المجتمع القبلي الأمر الذي أدى إلى تشكل مجتمع شبه رأسمالي بعد استخراج النفط ، تحددت ملامح تطوره اللاحق على طريق التطور الرأسمالي بشكل أوضح بعد دخول الشركات المتعددة القوميات والبنوك الأجنبية وتزايد مشروعات الإنتاج الرأسمالية واتساع رقعة نشاطها الاقتصادي داخل البلاد. الأمر الذي تمخض عنه نشوء قوى اجتماعية جديدة كالعمال والرأسمالية الوطنية تحالفت نارت لتهشيم أسس المجتمع القبلي القديم وتناقضت فيما بينها تارة أخرى وذلك طبقاً تقارب أو تباعد مصالحها الاقتصادية والاجتماعية، وقد تجلى ذلك التناقض في الصدامات والمعارك الاجتماعية التي عصفت بالمجتمع في الخمسينات والستينات وعلى مشارف السبعينات. وقد طرأت على بنية المجتمع ــ ولاسيما في منتصف السبعينات ــ تغيرات سريعة وجديدة كنتاج لتلك المعارك الاجتماعية خففت نسبياً من هذه الصدامات الاجتماعية السابقة وقد تمثلت تلك التغيرات في الانتعاش النسبي للاقتصاد بشكل عام . وما كان من الممكن تمثل ظواهر الوحدة والصراع بدقة وتجلى قانون تطابق وتناقض علاقات وقوى الإنتاج الرئيسية في المجتمع وانعكاس تلك الظواهر وذلك القانون في الوعي الاجتماعي. إلا بعد انقضاء المرحلة المذكورة أعلاه . (ولسنا هنا بصدد تأريخ تلك المرحلة. وهذه الدراسة لا تطمح إلى أبعد من بحث رواية الجذوة وكذلك وضع مقدمات نظرية عامة، ميتودولوجية لاستيعاب ظاهرة الرواية ووضع بعض الأسس المنهجية لدراسة الظاهرة المذكورة في الحركة الأدبية البحرينية في المرحلة الراهنة) .
ان الاشارة العابرة هنا لظواهر الوحدة والصراع تومىء إلى أن بعض أحداث رواية الجذوة وملامح الشخصية تفصح ــ بهذه الدرجة أو تلك ــ عن تجلي الظاهرة المعنية وبصرف النظر عن وضوح أو غموض ذلك التجلي ودرجات انعكاسه في الوعي الاجتماعي لشخوص الجذوة.
من هنا، واذا ما وضعنا في عين الاعتبار طرح الرواية إلى التعبير عن مرحلة أو مراحل من حياة مجتمعنا، وبجانب تجلي الظاهرة الاجتماعية المشار إليها ويغض النظر عن درجة التجلي تلك . فإننا سنجد في الجذوة ما يتيح لنا القول بطابعها الروائي من جهة. أما من جهة أخرى فسنرى فيما بعد أن الجذوة تنتقي أو تنتزع لقطات سريعة ومكثفة من حياة شخصيات أخرى ظهرت لنا إما في شكل نماذج مكملة للنموذج الأصلي (أي للأب فرج وابنه شاهين) أو في صورة شخصيات هامشية عادية لا تعبر عن مرحلة بأسرها أو عن فئة محددة من الناس وبخصائصها وقسماتها المشتركة وذلك إذا ما وضعنا في عين الاعتبار مبدأ (النمذجة) كعنصر ضروري في بناء العمل الروائي . . هذه الشخصيات هي على وجه التحديد والدقة ــ سعد مختار وعنتر السجان وأبومحمد، والتي لم تربطها روابط عليّة سببية بالحدث الروائي . وسنأتي على ذلك بالتفصيل فيما بعد.
وهذا الأمر يخلق في هذه الرواية القصيرة ميلا للجمع بين خصائص شكلين من أشكال القصة (أي القصة القصيرة والقصة الطويلة). ان الميل العام أو النزوع نحو خلق بانوراما لحياة النماذج عبر الحدث والفعل ، والرغبة الجامحة في تغطية حياة كاملة أو مرحلة معينة من حياة الشخصية ومصيرها التاريخي ، وبصرف النظر عن درجة التحقق والتجسد المادي لتلك الرغبة في العمل الروائي، يشكل سبباً رئيسياً في الانعطاف نحو الرواية القصيرة بشكل عام . كما أن المتتبع عن كثب للاتجاهات الأدبية الأخيرة ، سيجد أن هذه الاتجاهات تبحث عن أشكال وأساليب فنية جديدة في النثر . «لقد أضحى البطل النموذج الملحمي شائعاً على نحو متزايد بحيث أصبحت القصة ــ النثر دون ذلك النموذج غير مقنعة. وهذه هي إحدى أوجه أو سمات الرواية القصيرة المعاصرة . وهي تخلق جاذبية استثنائية خاصة في تصوير الحياة . . في تعقدها ، غناها وتنوعها»(1)** كما يقول الناقد الأكاديمي «سافا دانجلرف» . وهذا هو السبب الآخر للانعطاف نحو الرواية القصيرة في أدب البلدان النامية وبما فيها بلادنا . ولعل من الدواعي البارزة في التوجه نحو الرواية القصيرة هو عدم قدرة القصة القصيرة بمساحتها المألوفة على رصد وتصوير مرحلة أو مراحل متعددة من حياة البطل ــ النموذج وبالتالي على تفريغ التجربة الذاتية والخبرة الحياتية للأديب .
يجيب مؤلف الجذوة ــ محمد عبدالملك ــ على سؤال ما إذا كانت القصة القصيرة قد ضاقت بطموحاته نحو الرواية ، بأن القصة القصيرة ، «ضاقت ليس بطموحاته بقدر ما ضاقت بحمل أعباء النفس . فالفرد منا كما يقول ــ يشعر بالصلب ودبيب المسامير في راحتيه وطرقات حادة تأتي إليه من أكثر من مكان ويواصل «كيف أستطيع أن أقول كل شيء في قصة قصيرة وكيف أقول كل الأشياء دفعة واحدة . . .»،(2) (انتهى كلام المؤلف).
ان الانتقال الى كتابة الرواية ليس بالأمر الهين أو البسيط ، فالمسألة ــ ولا سيما في طور ولادة الرواية ونشوئها في البلد المعني ــ مرهونة بعوامل عدة . أهمها الموهبة الفنية في الكتابة القصصية والروائية . هذا العامل الذي يمكن تلمس بصماته حتى الآن عند كل من أدبائنا الشباب : محمد عبدالملك. عبـدالله خلـيفة ، أمين صالح وخلف احمد خلف ، وذلك دون المبالغة في تضخيم ذلك العامل أو التقليل من شأنه (ان الحديث يدور هنا عن الكتابة الرواية في مرحلة تطور الحركة الأدبية في اللحظة الراهنة أي في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات) ، وبجانب تلك العامل الحاسم توجد عوامل أخرى ليست أقل أهمية من عامل الموهبة الفنية وصدق الانفعال بالحياة، ويأتي على رأس تلك العوامل: الثقافة الأدبية والفنية العالية بما تنطوي عليه من مهارة ومراس وخبرة بالتكتيك الفني ودرجة محددة من الوعي الاجتماعي بحركة تطور المجتمع عامة والقوى الاجتماعية الفاعلة والمؤثرة فيه . . . تطور مجتمعنا بالذات ، والإمساك بقوانين تلك الحركة وظواهر الوحدة والصراع ودرجة تجليهما في المرحلة المعنية ، تآلفهما وتناقضهما الجدليين . اضافة الى تجميع المادة الحياتية ومعرفة كيفية التقاط ما هو هام وجوهري في الحياة الاجتماعية واستبعاد ما هو تفصيلي . . عادي . . رتيب ، عبر اكتشاف الحلقات المهمة والرئيسية في ذلك التفصيلي العادي . . الرتيب ، أي الحلقات المساعدة أو الموصلة وبشكل فني إلى ما هو هام ، نموذجي وجوهري . ومن الواضح أن هناك فرق شاسع بين الإدراك المعرفي ، على المستوى النظري لهذه المهمة الصعبة وبين تجسدها وتجليها المادي الحي المتحقق في العمل الروائي على المستوى التطبيقي .
أن عصرنا الراهن هو عصر التجريد الفني والجمالي . عصر الاكتشاف والخلق الإبداعي ، هذا الأمر يجعل من هذا الفن (أي الرواية القصيرة) شكلا نمونجياً ينبغي أن تتجلى من خلاله عملية التجريد الفني ليس بشكل نمطي . معمم . مجرد من المادة الحياتية أو مفرغ من الحياة كما هي معاشة أو الشخوص الواقعية وصراعات الحياة الحقيقية من جهة ، ولا بعرض ما هو رتيب عادي وتصوير كل شاردة وواردة في حياة البطل ــ النموذج أو التفاصيل الموغلة في ثانويتها.
إن نقطة البدء في الإبداع الروائي هنا ينبغي ان تنطلق من حياة مجتمعنا ذاتها ومن الأحداث والوقائع الحياتية الفعلية ، ودون ذلك لا يمكن أن تتأسس الفكرة الفنية الأولية أو أن تتكامل على شكل صورة فنية . ولا يمكن أن يتأسس الفن الروائي دون أن يكون أديبنا قد مر مسبقاً بتجربة ذاتية وستحصل ذخيرة من الانطباعات المتنوعة ، هذا الأمر الذي سيشكل بالنسبة له مخزوناً من الصور الفنية و أشكالا متعددة من الإبداع الفني . تلك هي نقطة البدء في كتابة الرواية.
بيد أن معرفة الأحداث والوقائع الحياتية لا تكفي وحدها لأن تخلق لنا في العمل الروائي صور فنية دون إشراك الخيال . وهذه صفة هامة للموهبة . ويمكننا أن نتلمس هذه الصفة وبعض خطوطها لدى بعض كتاب القصة القصيرة في البحرين.
إن الإلمام بدقائق التنميط في الفن ومعرفة سبل النمذجة يعد أمراً ضرورياً لا يمكن تخطيه ، تجاوزه أو القفز عليه في كتابة النص الروائي . وعندما يكون أمام كاتب الرواية نموذج واقعي للصورة الفنية التي يطمح في تشكيلها أو إنشائها ، سيشعر حتماً بضرورة وجود خيال مبدع كشرط أساسي وجوهري في بناء العمل الروائي . فالصورة الفنية لا تصف لنا النموذج أو البطل كزيد أو عمرو من الناس . أن الصورة الفنية تكتسب محتوى أغنى وأعمق من شكل البطل أو النموذج الموجود في الحياة الحقيقية والتي تطمح تلك الصورة في عكسه وتصويره . بيد أن ذلك لا ينبغي أن يختلط بفكرة أخرى مناقضة ، تتمثل في الابتعاد عن الحياة وصراعاتها الحقيقية ورسم صور و أشكال مختلفة . . باهتة ، لا هوية لها ، وبعيدة عن تربتها الاجتماعية أو عن المنطق الداخلي للواقع المحلي المعاش .
يقول أحد النقاد في هذا الصدد بأن «الموهبة عند الفنان تعبر عن ذاتها في قدرة صاحبها على التقاط الجوهري والأهم . وعلى تركيز انتباهه على العمليات والوقائع الحياتية الأشمل في إظهارها لمعنى ما يعكس . وامكانية هذا النوع من التعميم موجودة في الحياة نفسها . فالقضية هي أنه توجد في كل ظواهر الواقع (بما في ذلك الإنسان) إلى جانب الملامح الذاتية المتفردة ، سمات عامة توحدها في مجموعات متفاوتة في كبرها . فكل واحد منا هو إنسان ذو قوام خارجي وداخلي خاص به وحده . لكنه توجد في أخلاقنا الى جانب ذلك، ملامح نشترك فيها مع أناس آخرين من نفس مهنتنا ووضعنا الاجتماعي وقوميتنا وأخيراً مع الإنسان بوجه عام . ولهذا السبب تتوفر عند الأديب وهو يتحدث عن إنسان ما محدد ، إمكانية التعميم في صورة ذلك الإنسان ملامح وخصائص يشترك فيها أناس كثيرون أو حتى كل الناس . وهذا التعميم من خلال الصورة الفنية المتفردة يسمى «نمذجة»(3).
أن الواقعية الجديدة وبوصفها منهج حي متطور لا تتحقق في خلع الرمز على فكرة عامة مجردة ولا عن طريق تقريرها وتوضيحها بمثال فردي وصورة مشخصة انما بإظهار العام في المفرد . . . في الخاص ومن خلاله . فالنمطية والتجريد في النمذجة والابتعاد عن تصوير الحياة الحقيقية بكل آلامها ومآسيها . . وبكل أفراحها وأعراسها ، إنما هي نزعة تتوحد مع تيار آخر نقيض لها هـو التسجيلية والتقريرية في تصورهما المشوه لقوانين التعميم والنمذجة في الأدب الواقعي . . ومن هنا تنشأ ضرورة العمل بدأب ودون منافحة أو مواربة لتجاوز التقريرية وضد الشحوب والعبث في الفن على حد سواء ، بهدف إرساء أسس واضحة لتطوير حركتنا الأدبية وانتشالها من المراوحة في مكان واحد وكسر جمودها والتصدي لمحاولات التحجر والانغلاق والتكلس .
إن من الخواص الرئيسية للرواية القصيرة عامة هو أن الأحداث فيها تتطور وتتنامى وفقاً لتسلسلها الزمني المتواصل والنظر للزمن كوحدة غير متقطعة ، وكخاصية موضوعية مستقلة عن وعي الذات عامة وعن وعي الأديب وشخوص عمله الروائي بشكل خاص . ولا يمكن تصور الرواية القصيرة دون وجود ما يسمى بمبدأ «الكرونيكاليتي»، Chronicality (أي عرض الأحداث طبقاً لتسلسلها وتعاقبها وتتاليها الزمني بشكل متواصل)، هذا الجانب الحيوي نجده واضحاً عند كتاب الرواية القصيرة الواقعيين الذين انتهجوا هذا الشكل الفني منذ تورجينيف الى آيتماتوف وكيزين كوليف ، وفالنتين راسبوتين وغيرهم من كتاب الرواية القصيرة الواقعية في مختلف الآداب العالمية المعروفة .
إن انعدام التعلق والترابط الكرونولوجي للزمن الروائي ، أمر يتعذر فهمه بحيث أنه «يستحيل على كاتب الرواية، كما يقول إدوارد مورجان فوستر ، إنكار الزمن في بنية عمله الروائي»(4)، ويواصل الناقد قوله مؤكداً على أن العنصر الأساسي للرواية هو وجود قصة وهذه القصة هي حكاية مؤلفة من أحداث منسقة في تسلسل زمني «وذلك في تعليق له على موضوع الكرونولوجيا في رواية «والتر سكوت»، (جامع الآثار) The Antiquery وفي تقييمه لموضوع الزمن وتفتيت التسلسل الزمني عند الروائية «جيرترود ستين Gertrude Stein» وبصرف النظر عن صحة تعريف فوستر للرواية ، فإن تأكيده على الطابع الكرونولوجي أي التسلسل والتعاقب الزمني لأحداث الرواية ، وهو أمر لا يحتمل الجدل .
إن المصير التاريخي المأساوي لشخصية فرج الشماس في رواية الجذوة تعكس الى حد ما تعقد ظروف المرحلة التاريخية الملموسة. كما أن الأهداف العامة التي تسعى إلى تحقيقها شخصيات الجذوة من البحث عن الحقيقة . والكفاح من أجل الخير ومقاومة الشرور الاجتماعية . هذه الأهداف الإنسانية الرفيعة تجلت لنا في الرواية المذكورة على أنها أهداف بعيدة المنال في الظروف الحالية الراهنة.
إن المصير التراجيدي للشخصية يلعب هنا دوراً خاصاً في فترات التحول الاجتماعي اذ أنه يعكس تعقد وصعوبة المشاكل التي يطرحها الزمن والتاريخ على افضل الناس والتي يتعذر حلها في الوقت الراهن.
هكذا مثلا كان وعي «هاملت» للمأزق المأساوي لوضعه في هذا العالم ، الذي بدا له بشكل سجن ضخم ، حيث أحس بالعالم احساس رجل ذي نزعة انسانية قرر ان يدخل في مواجهة غير متكافئة مع هذا العالم .
هكذا ينبعث لنا موت انسان كفرج الشماس والمصائر التاريخية للشخصيات الأخرى كانهيار لقيم إنسانية هائلة قوامها الصدق ، والعفوية والرغبة الجامحة في نشر الخير الاجتماعي . إن هذا الموت لذلك الانسان وهذا الانهيار لتلك القيم إنما تثير فينا شعوراً بأن هذه القوة العظيمة الهائلة من الأفكار والمشاعر الإنسانية لم تذهب عبثاً . فالمأساة هنا قادرة على أن تعبر عن الإيمان العميق بالإنسان وبمستقبله . «قال لي القمر ما سيقوله لأحفادي ، أن الضوء جميل ، والليل الدامس مقبرة رهيبة. لغة الريح واحدة ايضاً : أن الشر تجتاحه العواصف مع الأيام »(5).
تتناول هذه الدراسة رواية الجذوة من الجوانب التالية : الجانب التفسيري والجانب التحليلي والأساسي التقييمي ، وبما تنطوي عليه تلك الجوانب من تفكيك للرواية وتحليلها لعناصرها الرئيسية والمتمثلة في المقاطع المختلفة . فهي من هذه الناحية تنصب على التكوين البنيوي للنص الروائي من حيث تحديد الشخصيات والحدث أو الأحداث الرئيسية والأسلوب والعلاقات البنيوية المكانية والزمانية وكذلك علاقات التماثل والتناقض. ثم يمتد هذا التناول ليشمل دراسة الرواية المعنية من وجهة النظر الروائية من حيث البؤر والمحاور المتعددة كبؤرة السرد الروائي وبؤرة عنصر التشويق وبؤرة الشخصية وملامحها الرئيسية ومبدأ النمذجة والترتيب الكرونولوجي لأحداث الرواية ودراسة الخبرة الحياتية ومدى التجربة الذاتية ، مع إخضاع تلك الجوانب لمنهج الإبداع الفني، وذلك بهدف تجاوز وتخطي الميل الانطباعي ــ التأثري والنظرات الذاتية والأحادية الجانب في دراسة نص العمل الأدبي وبالتالي تأسيس الخطوات المنهجية الأولى اللازمة والضرورية لمواجهة أزمة النقد المزمنة في حركتنا الأدبية والتي وبدونها سيظل نتاج أدبائنا الشباب عرضة للمزاجية وتغليب الذاتية على المنهج . ولا تدعي هذه الدراسة بأن خطواتها المنهجية قد استكملت مقوماتها في دراسة النص الأدبي ، ذلك لأن المنهج نفسه لا يتأسس دفعة واحدة ودون مقدمات ، إنما عبر المعاناة والمعايشة الحقيقية للنص . . وعبر التطبيق وبما ينطوي عليه من اخفاق تارة والكشف عن حقائق جزئية في النص تارة أخرى . إن المنهج في هذه الحالة غير موجود، ولكنه يتشكل . . يتأسس . . ويشق طريقه الى حيز الوجود .
البحث الأول :
الهيكل العام للعلاقات البنيوية في «الجذوة»:
1 ــ بنية المقاطع من حيث الشكل :
تتألف بنية نص رواية الجذوة من إحدى وعشرين مقطعاً ، وتتعدد في داخل المشهد العام للرواية تنقلات الذاكرة في الزمن . بحيث أن الرواية في بنائها العام هي حصيلة التراكم الكمي لمجموع التداعيات وتنقلات الذاكرة . كما تتعدد هذه التداعيات والتنقلات ليس لتشييد البناء العام للرواية فحسب . إنما لتؤسس الإطار العام لكل مشهد على حدة وضمن المقطع الواحد أيضاً . لنأخذ على سبيل المثال «المقطع الثاني»، وهو اطول مقطع من حيث تعدد الموضوعات وتداعيات الذاكرة عند الراوي في حجمها الكمي . فهذا المقطع يتألف من خمسة وعشرين مشهداً جزئياً تقع في ست صفحات فقط . وهذه المشاهد الخاطفة والتداعيات تأتي إما في صورة ، سؤال وجواب : مثل، س : ما الفرق بين العادي والخارق ج ــ انهم يضحكون من القلب وهذا فعل خارق/ أو في شكل حوار بين متحاورين مستترين كما في المثال التالي :
ــ …………….
ــ لم يمت مخموراً .
ــ كانت آثار ثقوب في ظهره .
ــ المقاول .
ــ لا أعلم ، لم يمت مخموراً .
أو كما في المثال التالي :
ــ هل جاء الى العمل.
ــ لماذا شاهين فرج .
ــ لأنه الرأس .
ــ هو موجود !!
أو على هيئة نبرة الصوت الثالث وتداعي الذكريات وانثيالها في مخيلة الشخصية الرئيسية :
ــ « أنا عشيق زوجة المقاول» ص 10.
ــ «بوسع الإنسان أن يكون خارقاً يوماً ما» ص 12.
ــ «من أجلي لا تشارك» ص 13.
و ــ « بيت لليلة الواحدة . . .».
أو على شكل حوار بين شخصية مستترة ، هي الراوي ، وأخرى غير مستترة ، كما في الحوار التالي :
قال مشعل الياس :
ــ أتحب التغيير .
ــ للأفضل .
ــ سيشاركك الحجرة مهرب .
ــ مخدرات .
ــ شاب من عمرك .
ــ أي شيطان !
ــ ما أسمه
ــ رحيم غزوان . . . الخ
أو في حالة تنقل الذاكرة في الزمان والمكان كما في الصورة التالية :
ــ رحيم غزوان ، يعمل في الطيران/ أول جملة على صفحة 14.
ــ لكنه لا يعمل في الطيران . / آخر جملة على صفحة 15.
ــ قبل سنوات ، أما في السنوات الأخيرة . . . ص 16.
ــ معاً في زنزانة واحدة . ص 16.
أو في اعتماد السرد على لسان الراوي، كما في المثال التالي من نفس المقطع : (هو يعرف الحقيقة «أي رحيم غزوان»، وكل مال حدث . نحن من حارة واحدة ، ذهب اليهم بنفسه ، وعاد معهم بنفسه . أشار إلى البيت . كان ليلا وبرداً . كنت خلف النافذة ، أرقب جري الكلاب ونباحها من وراء النافذة ، سمعت أبي يغني ثم يشخر . داهمني الرجال . . .)
وهكذا تستمر الأسئلة والأجوبة تتدافع ، اللقطات والمشاهد الخاطفة كما لو أنها لقطات ومشاهد سينمائية سريعة التنقل . وتداعيات الذاكرة لا تكف عن الانثيال في المقاطع الأولى والوسطى من الرواية . ثم لا تلبث أن تتضاءل تدريجياً في النهاية ، فيبدأ السرد القصصي في التزايد ، بدءاً من المقطع السادس عشر ، ذلك وإن تخللت المقاطع الأخيرة ، الحوارات وتداعيات الذاكرة أحياناً .
إن المؤلف يقوم هنا بمحاولة تطبيق ما يسمى بالمونتاج الروائي حيث يسعى الى القيام بعملية توحيد وممازجة المشاهد الجزئية للأحداث عن طريق ارسال لقطات سينمائية سريعة التنقل في عملية توصيل المشهد العام للحدث الرئيسي .
إن هذه القضية ترتبط بمسألة ما إذا كان الكاتب يعرف جيداً كيف أن أي تغير في هيكل أو في بنية الرواية وإن أي تنويع في الأسلوب ، سيعمل على تغيير الاستجابة الكلية عند القارئ . فمثلا لنرى كيف أن اديباً كهمنغواي في أحد قصصه (القتلة ــ The Killers) وحيث لجأ إلى أسلوب المونتاج القصصي قد اختلط أسلوبه الواضح والبسيط والواقعي بمشاهد وومضات سينمائية فكان على تلك المشاهد أن تجتمع وتتوحد فيما بينها في عملية توصيل المشهد العام للعالم حسبما يراه الكاتب»(6). إن الصعوبة هنا تكمن في القدرة على توحيد المشاهد الجزئية في توصيل المشهد العام وليس في مسألة مشروعية تطبيق أسلوب المونتاج أو عدم تطبيقه .
2 ــ الِشخصيات :
تتجلى لنا الشخصيات في رواية الجذوة على النحو التالي :
أ ــ شخصيات رئيسية هي : فرج الشماس والمقاول ثم شاهين فرج ورحيم غزوان ، مشعل الياس والمدير العام .
ب ــ شخصيات ثانوية مكملة للنماذج الأصلية وهي: زوجة المقاول وعشيقة شاهين فرج ثم ميرزا عجب والسكرتيرة رجاء وأم شاهين .
ج ــ الشخصيات ذات الأهمية بالنسبة للراوي والمقطوعة الصلة بالحدث الروائي وهي: سعد مختار وابومحمد وعنتر السجان .
3 ــ الحدث الرئيسي :
يتلخص الحدث الرئيسي في أن علاقة تناحرية عدائية تنشأ بين المقاول وبين العامل فرج الشماس ، سنأتي على ذكر أسبابها فيما بعد ، يدفع المقاول بامرأة تصدم فرج الشماس في حادثة سيارة ، يموت من جرائها فرج الشماس بشكل مأساوي . ورغم كثرة شهود العيان ، لا يجرؤ أحد على الشهادة برؤيته للجرم ، وعندما يظهر الشاهد (وهو الرجل الغريب ظاهراً ــ شاهين فرج الابن واقعاً ) ويعلن عن شهادته وعن رؤيته للحادث ومعرفته بالمجرم ، فيدخل هو في السجن وليس المجرم وحيث يتعاطف الشرطي مع الفتاة ويتهم شاهين فرج بالحديث عن أعراض الناس وعلى ذلك يتحول شاهين فرج من شاهد على مقتل والده، إلى متهم بالقذف في عرض المومس التي دهست والده في الحادثة المذكورة .
وهناك في الرواية حدث آخر مماثل للحدث الرئيسي حيث يسقط أحد العمال من احدى طوابق عمارة ، فيموت بنفس الطريقة التي مات بها فرج الشماس . . أي عن طريق الغدر والتخطيط المسبق للجريمة مع الإيحاء في كلا الجريمتين بأن هذا العامل وكذلك فرج الشماس قد وافتهما المنية بشكل طبيعي ، وبسبب كونهما مخموران وليس بحكم التدبير وسبق الإصرار على ارتكاب الجرم .
4 ــ الأسلوب :
يتسم أسلوب الرواية بالبساطة والوضوح التقريري مع استخدام الجمل والعبارات القصيرة والبسيطة التي تسود في مجمل مقاطع الرواية ، إلا فيما ندر حيث تأتي الجمل المركبة والمعقدة في سياق السرد وعلى نحو طفيف . وفي المقاطع الأولى يكثر الحوار وتتعدد التداعيات مع تداخل نسبي للسرد في المقاطع التي يسودها الحوار ويمكن تمثيل ذلك بالصيغة التالية: (حوار/ حوار/ حوار / سرد / حوار / حوار / سرد / حوار / حوار) ، وبالعكس ، ففي المقطع الأخير من الرواية يتزايد السرد ويقل الحوار تدريجياً ويمكن تمثيل ذلك في صيغة:
(سرد / سرد / سرد / حوار / سرد / سرد / حوار / سرد / سرد) .
وفي أثناء الحوار نجد أن الشخصيات تتحدث عن بعضها كحوار مشعل الياس مع شاهين فرج عن والده ، وكذلك حديث المدير العام مع الابن عن الأب وعن نفسه. وأيضاً حديث الأم مع ابنها عن والده ، الأمر الذي يؤكد أن الراوي ( شاهين فرج) ليست لديه المعلومات الكافية عن تاريخ حياة والده .
أما في حالة السرد ، فيتولى الراوي نفسه الحديث عن الشخصيات الأخرى كحديثه ووجهة نظره في ميرزا عجب وفي سعد مختار وعنتر السجان وأبي محمد . أما في حالة مثول الشخوص وحضورها وجهاً لوجه ، فإن الحوار في هذه الحالة، ينعقد مباشرة فيما بينها ودون وساطة شخص ثالث .
أما الصوت الثالث في الرواية فيتجلى لنا على شكل تداعيات في ذاكرة الراوي ، تعود به الى أحداث سابقة وتبرز على هيئة ارتجاع فني Cut-back يفتت ويقطع التسلسل الزمني بإيراد أحداث وصور أو مشاهد وقعت في الزمن الماضي . وتظهر تلك التداعيات في الرواية بين الحين والآخر في جمل وعبارات موضوعة بين هلالين صغيرين . وهذه التداعيات في مجملها تعيد نفسها في ذاكرة الراوي . . بعضها يتمركز في بؤرة الشعور وتومئ إلى ذات الراوي ، وبعضها الآخر يراجع الى هامش الشعور ، بحيث أن صيغتها الدلالية المجسدة في الكلمات والجمل والعبارات المختلفة ، تشير إلى الآخر وليس الى ذات الراوي .
وقد بلغ حاصل التراكمات الكمية 101 تداعياً وذلك فيما يتعلق بالرواية ككل . وإذا ما استثنينا المقاطع الأخيرة من 16 – 21 والتي تشكل في حد ذاتها بؤرة تجمع أو مركز الحدث الروائي وهي التي يتناقص فيها عدد التراكمات الكمية لتداعيات الذاكرة ، فإننا سنجد أن ذلك التراكم يتزايد بشكل ملحوظ في المقطع الثاني والثالث وكذلك في المقطعين الرابع عشر والخامس عشر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رقم المقطع عدد التداعيات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 3
2 – 9
3 – 8
4 – 6
5 – 5
6 – –
7 – –
8 – 7
9 – 2
10 – 7
11 – 4
12 – 4
13 – 6
14 – 13
15 – 9
16- 6
17 – 5
18 – –
19 – 1
20 – 2
21 – 4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع التراكمات الكمية ــ 101
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5 ــ العلاقات البنيوية في نص رواية الجذوة :
أ – علاقات التماثل والتناقض البنيوية :
وتتوزع هذه العلاقات على مستويين: مستوى الحدث ومستوى الشخوص . فعلى مستوى الحدث نجد أن ثمة حدثين متماثلين . . أي وفاة فرج الشماس ووفاة العامل الذي سقط من العمارة . وتتجلى تماثلية الحدثين في العبارات والجمل التالية من المقطع الحادي والعشرون (21):
ــ ميتة الرجل تشبه ميتة أبي .
ــ مدفوع . المقاول نسج الرواية كاملة ، دفع له الأجر ، وأبي . . مخموراً.
ــ نفس الصوت ــ نفس الفم ــ نفس الوجه / و ــ منذ سنوات وهو في غابة السكر . . لماذا الآن .
أن علاقة التماثل المذكورة هي علاقة جوهرية، أما علاقة التباين بين ذينك الحدثين فهي علاقة ثانوية تتمثل في أن فرج الشماس مات على أثر صدمة سيارة بينما مات العامل من جراء إسقاطه من احدى طوابق عمارة . كما أن علاقة التماثل تلك تعني تكرار حدثين متشابهين ينسج إحداها الآخر .
أما على مستوى الشخوص ، فتقع علاقات التماثل بين شخصيتين رئيسيتين هما:
فرج الشماس (الأب) وشاهين فرج (الابن) ، حيث تجمع بينهما روابط وصلات عديدة ليست فقط صلة القرابة . إنما أيضاً التشابه في الموقع الاجتماعي ، فالأول عامل والثاني كذلك ، وأيضاً فيما يتعلق بالتجانس الثقافي وكذلك التقارب على مستوى التكوين النفسي السيكولوجي ، بحيث أن كلا الشخصيتين تنسخ إحداهما الأخرى ، فلا نكاد نتعرف على علاقات التمايز والتفرد بينهما .
ومن أمثلة الصيغ الدلالية الموحية بذلك التماثل بين الشخصيتين المذكورتين ، تلك العبارات والجمل التي ترد بين الحين والآخر في الرواية. فمثلا يقول مشعل الياس لشاهين فرج: «أنت صورة منه»، أي أن شاهين فرج (الابن) نسخة عن أبيه فرج الشماس ص 8 وفي المقطع الثاني ، حيث يطالع الابن صورته في علبة البيرة ويقول « في العلبة وجه أبي» ص 10 وأيضاً عندما يروي المدير العام لشاهين فرج عن مكانة والده بين العمال ، موضحاً تقارب تلك المكانة ، حيث يقول « ــ أنت رأس الجميع و ــ كان أبوك رأسنا» ص 191 / و ــ ما في رأسك في رأسه ص 24 … الخ .
أما علاقات التناقض، فتتجلى على شكل صراع خارجي حاد بين فرج الشماس والمقاول، يتجسد في هيئة تعارض تناحري وصراع بين شخصيتين، ينجم في الظاهر عن دوافع وبواعث شخصية خاصة ويفضي إلى فاجعة مأساوية تمثلت في موت فرج الشماس عن طريق الغدر. ثم لا يلبث هذا الصراع أن يعيد نفسه ويتكرر للمرة الأخرى ، متجلياً في المرة التالية على شكل تناقض بين شاهين فرج (الاين) وبين رحيم غزوان ، ثم تتسع رقعة هذا التناقض لتنتقل من حالة صراع بين شخصين الى صراع عام شامل بين من يصنع الخيرات المادية بعرق الجبين وبيع قوة العمل وبين من يقطف ثمار هذه الخيرات دون جهد . . بين الخير الاجتماعي مجسماً في شخصيات مثل: شاهين فرج ، السكرتيرة رجاء وميرزا عجب وغيرها من شخصيات والتي عكست إلى حد كبير، مشاعر النبل والإنسانية المشوبة بالكبرياء والاباء جنباً إلى جنب مع العفوية والصدق ، الطيبة وصفاء النفس وحب الايثار والرغبة الجامحة في التفاني من جهة وبين الشر الاجتماعي مجسماً في شخصية رحيم غزوان وبما انطوت عليه هذه الشخصية من مظاهر الخنوع والجبن، الجشع والغطرسة والوشاية والغدر، الخسة والدناءة، الأنانية وحب الذات من جهة أخرى .
كما تجلت علاقات التناقض المذكورة على شكل صراع داخلي بين الأفكار والعواطف على مستوى الشخصية الواحدة: ومن أمثلة ذلك الصراع ، التوتر والاضطراب الداخلي عند مشعل الياس، هذا الحارس الذي رغم كراهيته للبنادق والسجون، نجده يرتدي البزة العسكرية ويحرس السجون . فهو يكره البزة ، بينما يضطر في الوقت نفسه الى ارتدائها بحثاً عن لقمة العيش تارة وبفعل الخوف تارة أخرى ، وتنسحب علاقات الصراع الداخلي تلك على المديرالعام أيضاً . . بين تذكره واستعادته للماضي عندما كان فارساً قديماً وبين وضعه في اللحظة الراهنة وبوصفه مديراً عاماً . لنستمع إليه وهو يحادث شاهين فرج : «كنا نسميها فترة النهوض الأولى ، والعسكر يملأون الأرض والسماء ، أحذية أجنبية ، صادقت أباك ، كنا نزحف ، وجهي ووجهه ، من فوقنا كان غبار وجند وخيل . تصور كيف كان يتم التعارف بين جيلنا في الماضي ، في الظلام ارتمت راية ممزقة وسنابك خيل ، أنا لم ازحف صدقني ، ولم أتخل عن إيماني ، لكن الأمور بدت مستحيلة وما يتم من حولي لا يصدر من هذا المكتب» ص 45، وأيضاً عندما يبدي المدير العام تعاطفه مع شاهين فرج حيث يقول :
ــ أنت طيب .
ــ يؤلمني موت أبيك بهذه الطريقة ص 33 .
أي بطريقة الغدر . فالمدير العام يعرف جيداً أن فرج الشماس مات ميتة غير طبيعية إلا أنه يلوذ بالصمت . . دون أن يكون له حول أو قوة ، وكذلك عندما يصفع رحيم غزوان السكرتيرة رجاء على وجهها ، حيث يدافع المدير العام عن نفسه أمام شاهين فرج ، مؤكداً له بأنه ليس هو السبب في كل ما يدور ، لنستمع الى هذا الحوار بين المدير العام وبين شاهين فرج حول رحيم غزوان :
شاهين : يقول بأنك تعطيه الأوامر .
المدير : يكذب .
شاهين : وإنه منفذ لقراراتك . مهدد بالفصل من قبلك .
المدير : يكذب . هل تصدق انساناً يضرب امرأة . أنا المدير العام لكني حائر .
هكذا يقع المدير العام فريسة للصراع الداخلي والتوتر والاضطراب والحيرة ويظل يحوم في أسر ذلك الصراع ، فهو يعرف الحقيقة ، لكنه لا يقوى على البوح بها ويبدي تعاطفه مع قوى الخير ، لكنه لا يجرؤ على مقارعة الشر أو الاصطدام به ، فيظل حبيساً للخوف وللموقع الاجتماعي الذي يتبوؤه في اللحظة الراهنة والمصير التاريخي الذي آلت إليه شخصيته بفعل اصطفافه الاجتماعي الحاضر .
وعلى هذا النحو يبرز لنا الصراع الداخلي على مستوى الشخصية الواحدة وتتكشف لنا علاقات التماثل و التناقض على مستوى الحدث والشخصيات في العمل الروائي المعني .
تجليات المكان في رواية «الجذوة»
تتعدد العلاقات المكانية في رواية الجذوة بتعدد المشاهد الجزئية وتنقلات ذاكرة الراوي في الأماكن المتعددة والعودة إليها مرة أخرى . ففي المقطع الأول نلتقي بمشعل الياس والراوي على ظهر قارب في البحر ، وفي المقطع الثاني تنقلنا ذاكرة الراوي الى الطائرة في الجو حيث تتجه به الى بلاد أخرى ولا يعرف وجهته ، وفي المقطع الثالث تنقلنا الرواية إلى بيت أم شاهين ، وفي المقطع الرابع تعود الذاكرة بالراوي إلى السجن ، وفي المقطع الخامس نتعرف على المصنع حيث الإضراب وعلى مكتب المدير العام حيث يدور الحديث بين شاهين فرج والمدير العام ، وفي المقطع السادس تتعين وجهة الراوي الطريد التي لم تكن واضحة في المقطع الثاني . فتتحدد بشكل أوضح ، فنلتقي به في المنفى أو في الغربة حيث تنثال ذكرياته حول المقهى ، وفي المقطع السابع يتحدد لنا المكان على انه الشارع ، حيث يقع الحدث الرئيسي عندما تدهس السيارة البيضاء فرج الشماس وهو فوق عربته الحمالة، وتتمازج الأماكن في المقطع حيث ننتقل للمرة الأخرى إلى المصنع عندما يهرب رحيم غزوان ويتوارى في المدينة وكذلك في المقطع الثامن، حيث يظل المصنع هو المكان الرئيس، وفي المقطع التاسع نعود مرة أخرى الى مكتب المدير العام، وفي المقطع العاشر تنثال ذكريات الراوي حول «ابومحمد» صاحب المقهى في الغربة في إحدى دول الخليج . وفي المقاطع التالية تتكرر الأماكن ذاتها فتنتقل ذاكرة الراوي بين المخفر والسجن والمصنع . . الخ ٠ وعلى هذا النحو تتعدد تنقلات الذاكرة في المكان براً وبحراً وجواً . . في الوطن وفي المنفى . . في السجن وفي المصنع . . في الشارع وفي المخفر ، وذلك تبعاً للتصميم العام للرواية والتي اعتمدت أساساً تعددية المشاهد الجزئية المختلفة ، الأمر الذي ترتب عليه ، وكنتيجة طبيعية ، الإيغال في تجزئة المكان على النحو المذكور. وربما كانت علاقة المؤلف بالمكان هي علاقة حسية محض تعني بالمكان المحدد ، المعين والملموس دون أن ترقى للعناية بحيز المكان الروائي . وهذه العلاقة تعكس من الناحية الاجتماعية، ارتباط المؤلف والراوي وشخوص الرواية على حد سواء وشدة تعلقهم وانتمائهم لهذا التراب المحلي بالذات ولهذا الشعب ولهذه الأرض بالذات، أما من الناحية الجمالية الفنية، تبقى الأماكن من حيث الصيغة الدلالية، إشارات ومسميات واقعية لا تخضع لنظام الترميز والتجريد الذهني ، فالبحر هو البحر الواقعي الذي لا يومئ إلى أبعد من ذلك والسجن هو السجن بجدرانه الأربعة والمصنع هو المصنع ، والشارع هو الشارع كسائر شوارع المدينة وكذلك الطائرة وهكذا دواليك . ها هنا نجد أن المكان المحدد الملموس والجزئي لا يتحول إلى مكان واسع شامل. إن حل هذه المسألة في الأدب ، يرتبط الى حد كبير، بضرورة استيعاب العلاقة الجدلية القائمة بين الخاص والعام ، بين المكان المحدد الملموس والمكان الروائي بطابعه الشمولي العام ، وذلك ليس بتجريد الأمكنة الجزئية من خواصها الحسية برمتها، ولا والإيغال في تجسيد تعددية تلك الأمكنة، إنما بالاصطفاء الدقيق للمكان ذى الإيحاءات الدلالية والإشارات الرمزية التي تكشف عن الصفات والخواص المشتركة بين الأمكنة المتعددة وبما يتسق مع طبيعة الحدث الروائي . ومن الواضح أن إنجاز هذه المهمة المعقدة ، يستلزم معرفة فلسفية عميقة للمكان على المستوى النظري بشكل عام وقدرة فنية في تجسيد المكان الروائي بشكل فني جمالي على المستوى التطبيقي بشكل خاص .
رواية «الجذوة» وبعض قضايا التكنيك الفني في الإبداع الروائي:
1 ــ تجليات بؤرة السرد الروائي :
لا تعتمد الجذوة في أسلوب سردها الروائي على المؤلف كضمير للمتكلم ، إنما على الراوي كضمير للمتكلم ، والراوي بالنسبة للمؤلف هنا هو ضمير الغائب «هو» أي شاهين فرج . . . بحيث أن السرد الروائي يعول على أسلوب ما يسمى بـ«المؤلف المحيط علماً بالشخصية» ، فالكاتب المؤلف أخذ على عاتقه ، عرض ما يعتمل في ذاكرة الشخصية (شاهين فرج) مع الكشف عن بعض ملامحها وذبذباتها النفسية وكذلك بعض الشخوص الأخرى (كالمدير العام والحارس مشعل الياس)، ولكن دون أن يتمكن من تقصي الدوافع أو البواعث النفسية المحركة لأفعالها وسلوكها. وهذه الطريقة (أي طريقة المؤلف المحيط علماً بالشخصية) يقتصر فيها عمل المؤلف على النفاذ والتغلغل في معرفة ما يدور في ذاكرة إحدى الشخصيات الرئيسية، بينما يجري عرض وتقديم المظاهر السلوكية الخارجية للشخصيات الأخرى وهي هنا على سبيل المثال لا الحصر (زوجة المقاول ، ميرزا عجيب ، أبومحمد . . . الخ) ، بشكل موضوعي أي بطريقة المؤلف ــ المراقب ، وقد عرقلت هذه الطريقة إمكانية التوغل الداخلي لمعرنة الملامح النفسية لدى الشخصية ، ومن هنا فان مؤلف رواية الجذوة اعتمد على محاولة المزج بين طريقتين في السرد الروائي ، أي أسلوب المؤلف ــ المحيط علماً بالشخصية وطريقة المولف ــ المراقب .
وعلى ذلك، فإن «الأنا» المحورية المتكررة في الرواية تفصح على نحو جلي عن ضمير الغائب «هو» أي شاهين فرج ، هذا «الهو» الذي استحال على يد المؤلف إلى «أنا» معبرة عن الآخر وليس من شخصية المؤلف . فالراوي هنا هو ليس المؤلف ، إنما الشخصية الرئيسية الراوية التي تستحضر الماضي عن طريق التداعيات وومضات الفلاش باك الموزعة على المقاطع المختلفة للرواية مستهدفة في ذلك بناء الإطار الكلي والموقف الدرامى العام . إن الخبرة الحياتية هنا ، تتكشف لنا على أنها خبرة الراوي معبر عنها بلسان المؤلف .
وفي رأينا فإن المؤلف اعتمد الطريقتين المذكورتين لاعتبارات محددة . فهو من جهة يبدو عليماً ، مدركاً لجوانب شخصية الراوي ( شاهين فرج ) ، الأمر الذي هيأ له أن يترك هذه الشخصية تتصرف ، تفعل وتنفعل ، تتحرك . . تصارع وتشارك في أحداث الرواية، بل إن المظاهر والقسمات البيولوجية والجسدية للشخصية الراوية تراجعت تماماً الى الظل، الى درجة انك لن تجد أية وصفة أو كلمة أو عبارة تومئ إلى القسمات الجسدية الخارجية لهذه الشخصية . هنا يتحول المؤلف الى كاتب يحيط علماً بالشخصية ويتعرف على عالمها الداخلي ويكشف ذبذباتها وتحولاتها النفسية . وهنا أيضاً تتكشف لنا قدرة المؤلف على تصوير الشخصية وهي تعمل ، فهو لم يخبرنا بشكل تقريري عن شخصية فرج شاهين ، بل بدت لنا هذه الشخصية من خلال أفعالها وتوجهها السلوكي .
وهنا بالضبط تكمن القيمة الفنية في اللجوء إلى طريقة المؤلف المحيط علماً بالشخصية . هذا من جهة ، أما الوجه الآخر للعملة . . فيتجلى لنا في اضطرار المؤلف إلى استخدام أسلوب «المؤلف المراقب» بالنسبة لشخصية فرج الشماس المؤلف هنا ــ عندما يكون غير محيط بالشخصية يتحول إلى مؤلف ــ مراقب يخبرنا أخباراً تقريرياً تسجيلياً عن الشخصية ويصف لنا ملامحها الجسدية ، ولا تتحقق له إمكانية التوغل والنفاذ إلى العالم الداخلي لهذه الشخصية ، إلا في المقطع العشرين من الرواية. لقد ظهرت شخصية فرح الشماس في أغلب مقاطع الرواية الأخرى بشكل استاتيكي، يجري تطويع وصفها عن طريق الأخبار والتقرير وذلك بعكس شخصية الابن شاهين فرج . أن قدرت المؤلف في السرد الروائي تتجلى لنا، ليس عندما يتحول الى مؤلف ــ مراقب للأحداث والشخوص، إنما عندما يترك الشخصية تتحرك في إطار حدث معين ويفسح لها المجال لأن تفعل وتنفعل أن خلال تنامي ذلك الحدث وبلوغه الذروة . لنأخذ على سبيل المثال طريقة المؤلف عندما وضع نفس شخصية فرج الشماس في حدث محدد. حيث تجلت لنا شخصيته الملموسة والمتفردة من جهة ، وتكشفت ملامحها النفسية العامة . . هذه الملامح ، في المقطع المشار إليه ، لم تعبر عن شخصية فرج الشماس وحده فحسب ، وإنما تخطت ذلك إلى الافصاح عن ملامح وقسمات فئة واسعة من الناس ، عن طبقة ، بل أكاد أقول عن شعب بأسره، من جهة أخرى. وهنا أيضاً تتجلى لنا قدرة المؤلف على ربط الخاص بالعام وكشف الصلة بين ما هو عادي عرضي وبين ما هو عام نموذجي. وليت المؤلف دأب على تصوير شخصية فرج الشماس في أغلب مقاطع الرواية على ذلك النحو الذي تجلت فيه هذه الشخصية في المقطع العشرين من الرواية (من ص 101 ــ 105) وسنأتي في مكان آخر على دراسة ذلك لدى التعرض لملامح الشخصية في الجذوة .
وهكذا، تتضح لنا قدرة محمد عبدالملك في السرد الروائي، عندما يكون مؤلفاً عليماً بالشخصية، محيطاً بأبرز خصائصها وبواعثها ودوافعها النفسية، وليس عندما يكون مؤلفاً مراقباً. ويمكننا أن نعثر على جذور هذه المسألة في المجموعات القصصية السابقة .
فمن أمثلة تطبيق المؤلف لأسلوب (المؤلف ــ المراقب)، قصة «الرحلة» من مجموعة «ثقوب في رئة المدينة»، حيث ينيط المؤلف ــ المراقب شخص بدران الحسيني بمهمة السرد القصصي حول الشخصية الرئيسية (مرجان السعيد) فتبرز الشخصية والحال هذه، على نحو ساكن، فهى لا تنطق ولا تتحاور، فلا نكاد نتعرف الا على مظاهرها الخارجية الجسمانية، دون أن يتيح لنا المؤلف إمكانية التوغل والنفاذ في الشخصية وسبر أغوارها. وربما كان سبب ذلك أن المؤلف لم يتعرف عن كثب وبنفسه على الشخصية ، إنما قام بعملية تجميع معلومات عامة حول الشخصية من خلال راو آخر . ومن هنا أيضاً يظهر لنا أن استخدام المؤلف لتلك الطريقة في السرد القصصي، شكل عاملا معوقاً أضعف البناء الفني للشخصية ، أما من أمثلة تطبيق الكاتب لأسلوب «المؤلف المحيط علماً بالشخصية» فيمكن أن نعثر عليه في مجموعة «نحن نحب الشمس» لنقرأ مثلا قصة «في القرن العشرين» فالمؤلف هنا يعرف جيداً شخصية «عثمان أحمد ثاني». وفي حديث شخصي مع الكاتب. أوضح من خلاله أنه كان على معرفة وثيقة بالشخصية المذكورة ، امتدت قرابة ثلاثة عشر سنة. هكذا فإن معرفة الكاتب الضاربة الجذور للشخصية الحقيقية في الحياة اليومية، هي أولى الخطوات وهي المنطلق الرئيسي الذين يمكن الكاتب من تجسيد وتصوير تلك الشخصية وبنائها على نحو فني في العمل الأدبي ، وربما كان هذا هو السبب الجوهري الذي أتاح للقصة المذكورة من بين الكثير من قصص المؤلف ، أن تحقق درجة محددة من النضج الفني والقصصي في الشكل والمضمون . لقد وجد الكاتب نفسه ــ بوعي منه أو بدون وعي ــ أمام أسلوب فني في السرد القصصي مثل عنصراً حيوياً في تعزيز وتقوية واغناء البناء الفني للشخصية في القصة المذكورة .
وهكذا، وبناءٍ على ما تقدم، يمكننا ان نصل الى خلاصة عامة تتمثل في أن الجذوة مثلت في سردها الروائي مزيجاً من طريقتين (أي أسلوب المؤلف ــ المراقب والمؤلف المحيط علماً بالشخصية) بحيث شكل الأسلوب الأول نقطة ضعف وأعاق البناء الفني للشخصية، بينما مثل الأسلوب الثاني عنصراً فعالا في طريقة السرد الروائي وفي البناء الفني للشخصية بشكل عام .
2 ــ انعكاس بؤرة الاهتمام :
المقصود هنا بهذه البؤرة هي الكيفية التي يتجلى فيها عنصر الاهتمام كعنصر رئيسي من عناصر العمل الروائي، والذي يعمل على شد وجذب انتباه القارئ ، إذ أن فضول القارئ وحبه للاستطلاع يعد أمراً مركباً معقداً ، فهو يضع دائماً في مخيلته مجموعة من التساؤلات . . ويطمح لأن تجيب الرواية على مجموعة الأسئلة المطروحة فيها بحيث تأتي الإجابة على تلك الأسئلة على نحو مباشر وتشكل الرواية بأسرها الاجابة الاجمالية العامة من خلال حركة الشخوص وفعلها عبر تنامي الحدث الروائي وبلوغه الأوج أو الذروة . ان الاجابات لا يمكن أن تفصح عن نفسها دفعة واحدة ، ودون مقدمات ، إنما في لحظات معينة في مجرى تطور الحدث الروائي . وهناك مستويات مختلفة متباينة لمختلف الأسئلة المطروحة في الرواية. فليست جميع الأسئلة ذات أهمية واحدة متساوية فثمة أسئلة جوهرية تتصل بالحدث الرئيسي ، وهناك أسئلة هامشية ومكملة للنوع الأول من الأسئلة. أن الجذوة وبوصفها رواية قصيرة لا تحتمل ذلك التزاحم والتعدد والتلون في الأسئلة . إذ أن ثمة فرق شاسع بين الطموح النظري للإجابة على الأسئلة الفلسفية الكبرى وبين التجسيد الفني للاجابات في العمل الروائي وعلى المستوى التطبيقي . فرواية «الجذوة» – أساساً – ومستوى وعي الشخوص ومجرى الحدث فيها ليس من المفترض لها أن تتجاوز الإجابة على أكثر من الأسئلة التالية: من قتل فرج الشماس ؟ ولماذا المقاول بالذات قتل فرج الشماس بالذات ؟ ولماذا اضطر الحارس القروي (مشعل الياس) على ارتداء البزة العسكرية ، وكذلك لماذا لم يواصل المدير العام المسيرة الطويلة ولم انطفأ في قلبه لهيب الجذوة ؟ . هذه هي الأسئلة المحورية في رواية الجذوة ونبضها الجوهري . ويمكن ملاحظة أن الرواية تقدم إجابات محددة واضحة على تلك الأسئلة وفي لحظات معينة من تطور الحدث الروائي وعلى لسان شخصيات الرواية. بيد أن ثمة أسئلة أخرى قام المؤلف باقحامها على شخصيات عمله، دون مراعاة درجة الوعي الاجتماعي الذي تتمتع به تلك الشخوص . لنأخذ على سبيل المثال بروز التساؤل: ما هي الحقيقة ؟ بين الحين والآخر في الرواية . نحن نعرف جيداً أن المؤلف يشير بسؤاله هذا إلى حقيقة جزئية هي: من قتل فرج الشماس ؟ إلا أن تكرار السؤال بصيغة: ما هي الحقيقة ؟ وعلى هذا النحو يفيد بحقيقة أخرى كلية جوهرية ، تتعلق بماهية الوجود البشري ، أن بروز السؤال على هذا النحو الفلسفي ، إنما يشكل قفزة على حجم العمل الروائي المعني وطبيعة الحدث المعطي في الرواية المعني
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 24, 2019 16:01

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الثلاثة الكبار

يحتاج الشباب العربي إلى بعض الكبسولات الثقافية السريعة من أجل قراءة الخطوط الفكرية العريضة في العالم المتقدم، وأسباب تطور قدراته الاجتماعية والسياسية.
 وقد اعتمد الغرب في تطوره حديثاً على ثلاثة مفكرين كبار لعبوا دور النقلة، والانعطافة الفكرية له، وهم تشارلس داروين مكتشف نظرية التطور، وكارل ماركس مكتشف نظرية فائض القيمة، وسيجموند فرويد مكتشف نظرية اللاوعي.
 وليس المهم الآن هو تفنيد بعض جوانب أفكارهم، فقد تجاوزت الأبحاث العديد من أفكارهم، ولكن المهم أنهم وضعوا الأساس الفكري للمناهج العلمية في درس الظاهرات الطبيعية والاجتماعية والنفسية.
 يتحد الثلاثة الكبار هؤلاء في اعتماد الدرس الطويل، والبحث المضني للوصول إلى حقائق التطور في حقول مختلفة، ومترابطة في كونها تكشف جوانب مختلفة من حياة الإنسان.
 وكذلك في اعتمادهم على أنفسهم للوصول إلى هذه الحقائق، حيث كان اعتمادهم على جهدهم الذاتي الخاص، وشقهم طرقاً جديدة كانت مرفوضة من قبل مجتمعاتهم التي عاشوا فيها، بل تمت مناوأتهم ورفض أفكارهم لسنوات طويلة، غير أن تطور العلوم الاجتماعية والطبيعية قد أثبت صحة أفكارهم، وكون بحوثهم تصدر عن نزعات موضوعية وقراءات مدققة في الجوانب التي درسوها.
 تعبر أبحاثهم عن ثلاثة مستويات لقراءة الإنسان، فداروين بحث عن تطور الأنواع، واكتشف ارتباط الكائنات النباتية والحيوانية في سلم من التطور، انطلاقاً من الأسماك التي بدلت عيونها الثلاث إلى عينين، وطورت أجهزة التنفس فيها، إلى الحيوانات البرمائية، إلى الحيوانات الثديية المتعددة.
 توجه داروين إلى بحث سببيات التطور العميقة التي رجح حدوثها في التكيف مع البيئة والصراع بين الأنواع المتخلفة والأنواع المتطورة، كما حدث للإنسان القرد وانتصار الإنسان العاقل عليه.
 في اكتشاف داروين العلمي لتطور الإنسان ظهر عصر جديد من رؤية الحياة البشرية كظاهرات تخضع لقوانين وسببيات عميقة، وبهذا تم إعادة وضع الإنسان إلى بيئته، ورؤية الظروف الموضوعية التي شكلته، من أجل مزيد من التطور الخلاق المستقبلي في قدراته. وهذه العلمية في قراءة التطور البيولوجي انتقلت إلى صعيد التطور الاجتماعي والتاريخي، حيث اكتشف ماركس حلقات التطور التاريخية وأساليب الإنتاج التي مرت بها البشرية، ودرس على مدى ثلاثين سنة أسلوب الأنتاج الحالي وقوانين تطوره في البقعة التاريخية التي نضج فيها، وهي الغرب الحديث. ولكن ماركس لم يأخذ بعين الاعتبار كون الغرب كبقعة تطورية خاصة، لا تستطيع أن تصل إلى نهايتها التحولية، بدون العالم المتخلف التابع لها. وهكذا فإن انتشار أسلوب الإنتاج الرأسمالي عالمياً سيخضع سيرورة طويلة معقدة، لم تكن المواد العلمية المتاحة في زمنه إلا أدلة على الماضي وعلى حقبة الولادة لهذا الأسلوب من الإنتاج. وتعكس طبيعة الاستنتاجات السياسية له مشكلات الفقر والاستغلال للبروليتاريا الصناعية في زمنه. ومن هنا كان لينين يعبر عن مشكلات البلدان المتخلفة في محاولاتها للحاق بالتطور الرأسمالي، وقد بدا له ذلك كمحاولة أخيرة لصنع التاريخ.
 أما فرويد فقد اكتشف قوانين اللاوعي، وهي تلك الطبقة المتوارية من العقل والشعور الإنساني، باعتبارها القعر العميق للنفس، ومن خلال منهج التحليل النفسي، حيث توجه إلى اختراق الطبقات الشعورية الفوقية للوصول إلى جذور الأزمات في الحياة الشعورية وأسباب الاضطرابات. وإذا كان قد اعتبر العامل الجنسي بمثابة العامل الوحيد الكلي، إلا أن هذا لا يقلل من شأن اكتشافه، الذي فتح أفاق الدراسات النفسية العميقة على مصراعيها، وبهذا تكون الأنسانية قد وصلت إلى الاكتشافات الكبرى لفحص جذورها البيولوجية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 24, 2019 13:35

November 23, 2019

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : ثقافةُ الديمقراطيةِ المتكسرة

أفـــــــــــــــــــــــــــق
في زمنيةِ الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين يجري محلياً (وعربياً بشكل ما) تصدع وعي الديمقراطية العربي في السياسة والثقافة ويأتي ذلك بشكل أساسي من تهافت اليسار، فاليسارُ هو الذي يلعب الدور المحوري في تشكيل الأنواع الفكرية والثقافية الوطنية، لأنه يقود التقدم في البلدان النامية.
الانهيارُ الاشتراكي في المركز يكونُ غير واضح، لكن بعض أجندتهِ نجدُها في الصراعاتِ بين أنواع اليسار، فظهور اليسار الطفولي المزايد هو من الجوانب الرئيسية يظهر في بدء إنهيار هذه الثقافة.
تُطرحُ في الجدالات السياسية مزايدةٌ على طرق النضال، ويعلو صوت البندقية الزائف، حيث لا نار ولا دخان، وفجأة تنتشرُ صورُ جيفارا وماو وكاسترو، تغدو هذه الصور لدى اليسار الطفولي ضباباً فكرياً لضرب العقلانية، ولتصعيدِ جملٍ نارية، ويجري الإستهزاء بالطرق العقلانية في النمو السياسي، وما يترتبُ عليها من تحليلاتٍ فكرية للواقع، والغوص في تاريخه، وإكتشاف البنية الاجتماعية له.
يجري النقاشُ حول طرق النضال بأشكالٍ حماسية غير عقلانية تبطنُ رفضَ طرق التحليل الموضوعية، وهذا ينعكس في هلامية الأشكال الفكرية والأدبية والفنية التي تتجمد عند ذلك الصراع السياسي السطحي.
حين نقرأ القصص والقصائد والمقالات نجدُ هيمنةَ التسطيح، والتوجه للموضات الأدبية الفكرية الغربية معاً، مثل تدفق الأشكال السريالية واللامعقول ويتحول هربرت ماركوز إلى مفكر نموذجي ليسار المغامرة، وتحصل الوجودية والبنوية على مؤيدين مهمين.
كان هربرت ماركوز يركز على المجتمع (الصناعي)، وبهذا الشكل المجرد يتمكنُ من تلافي تحليل قوانين المجتمع الرأسمالي الغربي، وتغدو ثيمة ماركوز وجيفارا وماو هي بحد ذاتها موترةً لليسار (السوفيتي) وإبتعاده عن قراءات التحليل الموضوعية الأكثر نفاذاً في تجارب رأسماليات الدول الشرقية التي لعبتْ أدواراً في تأجيج الجمل الثورية ثم في كسرها.
عزف اليسار الطفولي على التطرف يقابلهُ فقرٌ في التحليل والإنتاج الفكري والانتاج الإبداعي عامة، فكان اليسارُ بشقيه يمثلان ضرباً ضد نمو العقلانية وتحولها لتحليلات موضوعية للواقع.
كان ذلك في مصلحة الأبقاء على السطحية في الوعي والعفوية والانتقائية، ومن هنا لائمتْ المقالةُ القصيرةُ هذا الوعي المسطح، التي تتحول في السر إلى بيانات زاعقة، تفتقد عمق السياسة البعيدة المدى.
كما يحدث الآن لورثةِ هذا اليسار المتعثر في أشراكِ الشموليات أي للمذهبيين السياسيين، الذين يعجزون عن دراسة الإسلام وسيرورته التاريخية، وأكتشاف آفاق تطور الأمم الإسلامية فتغدو لديهم المقالة القصيرة الانتقائية الهزيلة الوعي منشوراً زاعقاً في حالة الرافضين وبخوراً حارقاً لدى غير الرافضين، بسبب الرغبة في الحصول على مكاسب سياسية وإجتماعية سريعة.
ووجود هذين الصنفين المذهبيين السياسيين من الوعي المتضادين، والمتماثلين في جوهر سطحيتهما، وبروزهما يعبر عن الاستمرارية في تكوينات الوعي السطحي لدى البرجوازية الصغيرة المتعلمة مع تبدل البنية الاجتماعية. فالخطابُ اليساري السطحي يتلوهُ خطابٌ مذهبي سطحي.
في سيطرة المقالة القصيرة والمنشور وغياب الكتاب التحليلي والأنواع الواسعة من الأدب كالرواية والمسرحية والدارسة النقدية، صفة مشتركة، فهؤلاء المنتجون العجولون هم أناسٌ لا يزرعون بعمق ولكن يريدون ثماراً سريعةً باهرة.
رأسُ المالِ الصغير هذه هي عاداتهُ التاريخية، سواءً في الماركسية وهي تأخذُ أشكالاً طفولية تختزلُ تعقيدَ الاقتصادِ والطبقات وتريدُ القضاءَ بلمح البصر على التشكيلة الرأسمالية العالمية، أو في الوعي الديني وهو يأخذُ قسماتٍ طائفيةً ويتبعُ دولاً شمولية ويريد سحق الأنظمة بمفرقعات الأطفال أو بحلبها وتكوين رأسمال طفيلي ويصير شركة إسلامية مقفلة.
رأس المال الكبير لا يشارك في عمليات إنتاج الوعي والثقافة ويبقى في بنوكه وشركاته الكبيرة ليكون رأس المال العابر للحدود، والذي يعيشُ حالاتٍ دينيةً شكلانية خاصة في المجتمعات الاسلامية غير الديمقراطية.
من هنا فإن اليسارَ المغامرَ بصراخهِ المستمر كان يعطل التحليل، واليسار السوفيتي كان يردُ في حدودِ التقليديةِ النظرية المحنطة في المركز.
في الدول العربية الأخرى ذات الثقل السكان بخلاف دول الخليج يتمكن النتاج الثقافي من النمو الواسع، لكن الفكر النظري التحليلي الكاشف لمسارات التطور هو في حالةِ موت سريرية، والنماذج النادرة متأثرة بمناخ تشويه الأفكار الكبرى التقدمية.
وحين ينهار اليسار فكرياً وسياسياً ينهار الهيكل العظمي للوعي العميق، حيث أخذ هذا اليسار الشرقي على عاتقه أن يكون طليعة للعمال وحفار قبور للرأسمالية معاً، وهي مهمتان مستحيلتان في التاريخ القريب لأن كل مهمة ضد الأخرى.
إنها لغةُ محفوظاتٍ لم تعد قادرة على الفهم والتحليل، وأصبحت مشوشة أكثر فأكثر نظراً لفقدان البوصلة، وصارت التطورات غير مفهومة بالنسبة لها، وحالات الضياع هذه ستطلقُ لغةً ليبرالية إنتقائية مصلحية، أو لغة يساريةً إنتهازية.
إرتبطتْ الثقافةُ البحرينية بقوةٍ بالتيارات السياسية وربما بشكلٍ ميانيكي مباشر، بسبب محدودية البناء الثقافي.
إرتبط تطور الوعي السياسي بالحقبِ الاجتماعية، فالوعي اليساري البحريني نشأ في ظلال تدفق منجزات الليبرالية البسيطة لهيئة الاتحاد الوطني، ولم تستطع هذه الاستمرار بأن تجذر المستويات الثقافية البسيطة التي نشأتْ معها وواصلتها هي.
منذ حراك الاربعينيات حتى الاستقلال إنتعشتْ الأفكارُ الليبرالية بدون جذورٍ عميقة، ونستطيع أن نقول بأنها ثمارُ أصحاب ومثقفي الوكالات التجارية، هؤلاء الذين كانوا بداية البرجوازية التي إبتعدتْ عن النتاج الفكري السياسي، وكان حريق الخمسينيات الناصري قد وضع حداً لتطورها نحو الليبرالية والديمقراطية.
وجاء اليسارُ السوفيتي واليسار الماوي وحركةُ القوميين العرب لترثَ بقايا الجمهور المتحمس للحركة الوطنية. اليسار هو العمود الفقري للمرحلة بسبب ما يمتلكه من منهجيةٍ فكريةٍ تحليلية للواقع والاقتراب من بعض جوانبه الموضوعية، التي تمثلت خاصة في التركيز على وحدة الشعب وتطوير حرياته، لكن الموقفَ تجاه الليبرالية والبرجوازية كان محدوداً.
إن السوفييت مصدري ومنتجي هذا الخط عالمياً لم يحققوا ديمقراطية، وبدت إرادة القوة لديهم هي الحل للتقدم، وكان هذا يمثل تدهوراً في أداة التحليل، ونتائجُها الواقعية وخيمةٌ على الصعيدين العالمي والبحريني.
 لأنه ليس ثمة بديل عن الليبرالية كمحطةٍ رئيسيةٍ إفتتاحية طويلة الأمد لخلق كافةِ أشكال الوعي والتيارات الفكرية في العالم الثالث ومشروعات الدول الديمقراطية.
لكن المشروعَ السوفيتي تغلغلَّ في العالم الثالث بقوة، حيث ثمة تُربٌ لم تحرثْ لنضال ديمقراطي، وهي تربٌ قابلةٌ لكل أشكال الشموليات، فجاءت الشموليات ترثُ بعضها البعض.
 أي أن كل الثقافات السوفيتية والناصرية والقومية كانت نتاجات دول شمولية قطعتْ تطورَ الديمقراطية في بلدانها، وأمكن لها في البحرين أن تتحرك خاصة فيما قبل الاستقلال، أي فيما قبل ظهور رأسمالية الدولة المحلية، لكنها لم تستطع أن تستمر بعد ذلك. فما كان لتلك التيارات أن تنشئ ثقافة ديمقراطية واسعة الانتشار.
فالوجودُ البريطاني أعطاها إمكانيةَ أن تكون مستوردةً للبضائع المادية لا الفكرية السياسية.  وبعض الحريات والحضور الشعبي المدني كانت كافية لتخلق ثقافة ليبرالية ويسارية قبل ظهور رأسمالية الدولة المحلية وبعد ذلك شحبت هذه الإمكانية.
وبغض النظر عن هشاشة الثقافة في البحرين في تلك السنوات إلا أن القوانين الموضوعية للتطور الثقافي الاجتماعي متقاربة في البلدان العربية. فتجد إن إنهيارات الليبرالية واليسار مرتبطة بصعود رأسماليات دولة شمولية في كل بلد، وهي ذاتها المنعشة لوعي الطوائف المُسيّس.
كانت القصص والقصائد والمقالات النقدية والسياسية البحرينية بسيطة، وركزت على موضوعات إجتماعية جزئية، وتراكمت المحاولات حتى غدت في السبعينيات وما بعده تحولات نوعية.
لكن المسارين المعبرين عن التناقض في الوعي اليساري كانا حصيلة البناء الداخلي المضطرب، فاتجاهُ تطوير الحريات والسلام والنمو العقلاني الذي مثلهُ اليسارُ (السوفيتي)، وإتجاه اليسار الماوي الداعي للعنف وحرق المراحل وتصفية البرجوازية، لم يُقابل بعمق في الأطروحات المقابلة للتخلي بشكلٍ عميق عن الشمولية والمركزية السوفيتية، ودعم الليبرالية ودعم البرجوازية الوطنية.
في الثقافة كان الأمر في الاتجاه الأول يؤدي لخلق تراكمات في الآداب والفنون والفكر، والاهتمام بقوانين الأنواع الأدبية والفنية والفكرية والاشتغال عليها، وهذا كان له تطورات في الأدب الواقعي، فيما الاتجاه الآخر عمل على  الأدب الحداثي التجريبي ورفض القوانين الموضوعية في الحياة السياسية وأشكال الوعي. فالسياسة تغدو إنفجاراً، والكتابة تصير هذياناً، وتيارات العنف هي البوصلة، وبالتالي فإن التيارين ومساهماتهما كانت بسيطة لمقاربة الديمقراطية والليبرالية وقوت النقد الشعبي الحاد غالباً.
كانت هزيمةُ الليبرالية هي هزيمةُ الديمقراطية وتطورها في البحرين وفي الشرق عامة، فلقد كان توسعُ الرأسماليةِ يتمُّ بأشكالٍ شمولية، ولا تنفتحُ الطرقُ لظهورِ برجوازيات حرة تلعب الدور الأساسي في الاقتصاد، وبالتالي فإن إنعكاسات ذلك قويةٌ على الوعي والثقافة خاصة.
الرؤى السوفيتية والماويةُ كقائدتين للنضالات الاجتماعية عبّرَ خلافُهما عن صراعٍ قومي، فتكشف طابعاهما الرأسماليان الشموليان، وبهذا لم يستطع تيارا اليسار الأساسيان البحرينيان أن يتوحدا أو ينقدا نفسيهما ويتحررا من القيود التي تكبلهما. المعارك والضربات وغياب الرؤية البعيدة هدمت القوى البسيطة التي تشكلتْ عبرَ عقودٍ صعبة ضارية.
على مستوى الثقافة تطورتْ الواقعيةُ في ميدانِ القصةِ القصيرة والرواية والمسرح، وتنامتْ التجريبيةُ الأدبية خاصة في مجال القصيدة والقصة القصيرة لحيزهما المكثفين القابلين للتجارب ولتداخل السرد بالغنائية، وغدا المسرح غنياً بتجارب مختلفة في ميادين العروض الواقعية والتاريخية والتجريبية، وبرز النقد في عرض التجارب الإبداعية وكشف المسارات القريبة من تأثيرات الواقع، لكنه لم يستمر في تعميق إكتشافه لنمو الأنواع الأدبية والفنية.
حين نرى تداخل الثقافة بالتيارات السياسية الاجتماعية نجد إن التيارين السياسيين البارزين اللذين وهنت قوتهما الاجتماعية، لم يؤثر إنحسارهما على الثقافة التي راحت تستقلُ عن الميدان الاجتماعي السياسي المباشر، وبدأت الأنواعُ المختلفةُ تأخذُ إستقلالَها النسبي.
لكن زخم الحركة الاجتماعية السياسية كان له تأثيره البعيد المدى، خاصةً في إبتعاد بعض التجارب عن خطوطها الأولى وعدم تعميق التجربة ورفد الأجيال الجديدة بمكتسابتها الليبرالية والديمقراطية وتطويرها مع تحولات البنية الاجتماعية وإنقلاب العلاقات فيها.
فالتطور التحديثي الموعود بزخمه الليبرالي العقلاني لم يحدث، وتدهور وضع الحركات الاجتماعية من الناحية الفكرية وعادَ المجتمعُ للوراء في عقليته السياسية، وكانت تبعية (اليسار) للحركات المذهبية السياسية التي إستثمرتْ عمليةَ الانهيار الفكري السياسي في أشكالٍ خطيرة من المغامرات المكلفة على الناس أدت إلى إضطراباتٍ عميقةٍ لم يتم الخروج منها لحد الآن.
لقد بيّن ذلك هشاشة الوعي الذي أعتمد على القفزات لا على النمو الليبرالي الديمقراطي المتدرج، بحيث غدت الجملُ الصاخبة وغياب تجميع القوى التحديثية بديلاً عن التحليلات المعمقة وتأصيل التحررية، ولم تحصل الثقافة هنا على دعم من اليسار الذائب في العفوية والمنفعية ولا على إهتمام من الجمهور السياسي المذهبي المتصاعد الحضور في الحياة الاجتماعية، ولا على مساندة الأجهزة الحكومية.
لقد عادت المقاييسُ القديمةُ للثقافة لما قبل فترة حركة الهيئة، أي للقصة العائلية الساذجة، ولمسرح منوعات التسلية، وتنامى الأدب خاصة في الريف الذي يضجُ بأزمته غير المحلولة ودون أن تتمكن التجارب من إضافة تحول مهم للثقافة الأدبية.
كما فت في عضد الثقافة المشكلات النوعية في الثقافة نفسها، من عولمة هائلة تغلغلت في كل مكان تقود لمزيد من التسطيح ومن عدم الاستفادة من أهميتها الهائلة، وتفاقمت النخبوية وضعف تنامي الواقعية وغياب تحولها لتيار مؤثر في مجتمع تآكلت فيه ثقافته الوطنية ومستويات القراءة.
من الناحية السياسية الاجتماعية قادت العودة للمذهبية السياسية وقد تغلغلت فيها تأثيراتُ المرجعيات الدينية الإقليمية إلى إنتشار الفسيفساء والفرديات الجامحة وتنامي أشكال ما قبل الحداثة، ولهذا فإن إنجازات هيئات جديدة مثل البرلمان لم تتغلغل في الحياة، وتغدو الحلول مرتبطة بطابع الرأسمالية المحلية والخليجية العربية التي يغيبُ عنها الإنتاجُ الوطني الواسع، المؤسس للعقلانية وتماسك وتطور الجمهور.
لهذا فإن عودة ثقافة العنف والإلغاء غدت موروثاً لبعض الحركات السياسية المذهبية، مع عجز رأسماليات شمولية مناطقية متعددة عن العودة للمسار الليبرالي الديمقراطي المنتج الوطني، وهذا جانبٌ مركبٌ يحتاج كذلك لمتابعة القراءة.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 23, 2019 16:21

November 16, 2019

♀المرأة في القصة البحرينية 1 ⇦

يغدو الموقف من المرأة قضية جوهرية في الأدب والأدب القصصي على وجه الخصوص . فذلك معيار هام لمدى تقدمه واستيعابه لتطورات الحياة. لكما كان الأدب أكثر تقدمية كلما استوعب حياتها بشكل أكثر عمقاً وصدقاً. وليس المقصود هنا بتعبير المرآة المرأة الجزئية أو ألمجردة بل هو عموم حركة النساء والنضال الشاق الذي تخوضه النساء بشكل دائب لتغيير حياتهن نحو الحرية والتقدم الشامل.
والمرأة ككائن مضطهد تغدو معياراً هاماً لصعود الأدب وإشارة لإنجازاته فعبر تملك وضعها وكشفه وتحليله العلاقات تغدو الاجتماعية المتخلفة محل تحليل نقدي وتجاوز ابداعي وتسهم هذه المعالجة الفنية الجريئة ـ إن وجدت ـ في تطوير أدوات الأدب نفسه. وتنمي قدرته على معالجة قضايا الإنسان وتشكل القصة القصيرة البحرينية مثالاً ملموساً على هذه الموضوعات ألنظرية وسوف نجد كيف أن القصة تتقدم أثناء معالجتها الجذرية لوضع المرأة وتزداد فنية وجمالاً بسيطرتها على هذا الواقع الاجتماعي. ولابد أن نقول هنا أن المرأة البحرينية كانت مثقلة بقيود النظام الاجتماعي التقليدي عبر القرنين السابقين، وبدأت هذه القيود في التفكك قليلاً قليلاً مع نمو العلاقات الاجتماعية في مناحي الحياة المختلفة. لقد وضع النظام الاجتماعي التقليدي، الأبوي المرأة في الغرف الخلفية من المنزل والحياة، وألقى عليها ظلالاً ثقيلة من الملابس والعادات ورهن ارادتها ووعيها وحياتها كلياً بإرادة الرجل.
لقد اهتم الشعر الشعبي بالمرأة على سبيل المثال ككيان جسدي غائب ومرغوب فيه. لذا فإن الأوصاف المادية المتكررة في الغزل كانت هي السائدة فيه، اما العلاقة العميقة بهذا الكائن فإنها لم تتوفر إلا حينما راحت التغيرات الاقتصادية والاجتماعية تفتت الكيان القديم الجامد، وراحت المرأة تدخل بشكل تدريجي بطيء المدرسة والعمل ومن ثم الحياة العامة. وإذا كانت هذه التغيرات البطيئة بدأت منذ الثلاثينات فإن التغير الهام لم يلحظ إلا في الخمسينات وما بعدها . وقد بدأت القصة القصيرة البحرينية منذ العقد وتشكلت عبر محاولات بسيطة بدأها كتاب بأسماء مستعارة ثم أحمد كمال وعلي سيار اللذان شكلا أول محاولات واضحة. وسوف ندرس بعض قصص على سيار كنموذج لقصص الجيل السابق ثم ننعطف إلى بعض ممثلي الجيل الجديد.
علي سيار
ليست المرأة محوراً من محاور قصص علي سيار، بل يقف الرجل في بؤرة هذه القصص، باعتباره البطل والشخصية الرئيسية والراوي، وصاحب القضية المركزية، أما المرأة فهي النغم الثانوي والخلفية والجزء الذي يوضح مشكلة البطل/الرجل.
القصص لديه غالباً ما يرويا الرجال، فهم الذين يتحدثون عن تجاربهم ومشكلاتهم، وإذا كانت هذه التجارب والمشكلات بطبيعتها عديدة جداً، فإن المرأة تدخل ضمن هذه التجارب والمشكلات ولا تتحول إلى القضية الأساسية.
وسياق قصص علي سيار يقوم على تشكيل حادثة كلاسيكية الأبعاد، فهي تبدأ من أول جملة لتتضح المشكلة وتتنامى إلى أن تصل إلى حل. وغالباً ما يقوم بطلها/الرجل بتغيير الوضع الذي يحياه، فهو يبدأ من نقطة ولكن ينتهي في نقطة مغايرة. وهو يقوم بكتابة تفصيلية عن هذه الحادثة، بحيث يدخل القارئ في اجوائها الملموسة، بل هو يقتطع منها أجزاء بارزة جداً، ويحررها، وقد يقدمها بطريقة مليئة بالمفاجآت والميلودراما، غلا انها مفاجآت معجونة بهموم الحياة ومشكلاتها.
لغة علي سيار القصصية لغة سريعة، يتشابك فيها السرد والحوار والأسئلة، وهي مباشرة، واضحة، تقريرية أحياناً، وبها قدرة على التشويق والاثارة. سوف ندرس قصتين من قصصه لكي نصل إلى وهر رؤيته عن المرأة.
في قصة «شمس لا تشرق كل يوم» تتفجر الأسئلة في بداية القصة، ونرى الشخصية المحورية تكشف لنا عن صراعها مع أهلها، فالراوي الرجل يروي لنا حادثة، لا أن يجعلنا نعيش التجربة دون واسطته.
أن أهله يريدون تزويجه من نعيمة، وهو يرفض بحدة هذا القرار الذي اتخذوه ضد إرادته. ويقول عن نعيمة في ثورة غضبه:
«قلت لهم هذه المرأة بالذات لا أريدها . . انها قبيحة . . في قبح أم إبراهيم الخياطية . . وقلت لهم انها جاهلة . . اجهل من البقرة التي نشرب حليبها كل يوم . . وقلت لهم انها شرسة . . اشرس من كلب الجيران.». مجموعة «السيد» ص 35.
اننا هنا في الواقع لم نعرف هذه المرأة إلا من عين البطل/ الرجل، فلم تتقدم هذه المرأة إلى الحدث القصصي وتتكشف خصائصها. فهي صفات مقررة من قبل الراوي. والذي يحدث أن عائلته تواصل دفعه إلى الزواج من نعيمة لأنها من اسرة غنية، وان هذا الزواج سوف يفيدهم بشكل من الأشكال. نحن لا نعرف بشكل دقيق هذه الدوافع ولا كيف تجلت إرادة الأهل في الضغط على البطل للقبول بهذه المرأة. والذي نعرفه فقط هو ثرثرتهم المتواصلة لكي يتزوج نعيمة. ولكن لم رضخ هل تكفي الثرثرة وحدها لكي يتقدم للزواج من امرأة؟ هل هناك أسباب هامة دفعته للوقوع في هذا الشرك الرهيب؟
وإذا كان هذا هو رأيه فما هو موقف نعيمة؟ وكيف يمكن تقبل شخصاً يرفضها بهذا الأصرار ثم يتزوجها تحت ضغط أهله؟
نعيمة هذه وجود شبحي لا نلمسه، أو كيان عدمي لا أهمية لوجوده، فمتى يقرر الأهل والرجل تقديم هذا الوجود على مذبح المصالح فإن هذا الكيان العدمي يستجيب.
من الخطوة الأولى نكتشف أن رؤية المؤلف رؤية قد اغلفت الشخصية الأخرى في الزواج، وبدت لنا شخصية المرأة غير الموجودة (وهي نعيمة) كشخصية همها تحقيق الزواج لذاتها بغض النظر عن الاحترام للذات. فهي ضمناً تقبل أن تكون هذه الشخصية التابعة في قفص الحريم بغض النظر عما قاله الزوج، وعما أحدثه الأهل من ضغط كي يقبل بها. أي أنها مجرد سلعة بائرة وجدت مشترياً يقبل بها بعد ضغط المحيطين حوله.
كل الصفات الموضحة عنها تكشف جانب البوار، فهي قبيحة، جاهلة، شرسة، فقد راكم المؤلف كل الأبعاد التي تستلب الشخصية حيويتها. ودمج الأبعاد المعرفية والأخلاقية التي تشكلت عبر إرادتها بجانب طبيعي هو «الجمال» لا دخل لها فيه.
وبعد الضغط الذي مارسه الأهل تزوج الرجل من نعيمة وعاش جحيماً. فهو لا يستطيع أن يبقى في البيت مع امرأة لا يحبها، وكذلك يخجل من نظرة الناس إليه. حيث غدا مجرد إدارة الأهل لأجل تنمية بعض الجوانب المنفعية لهم والتي لم نعرف عنها شيئاً.
وأيضا عبر هذا الزواج لا نجد أي فعل للزوجة، لنعيمة، فلا نجد أي ملمس لشخصيتها، ولا نرى حضوراً لكينونتها وفعلها. كل ما نسمعه هو رغبة الزوج في الطلاق والافتراق. وفعلاً ينفذ ذات يوم ما اعتزمه بغض النظر عن زوابع أهله.
وعندما يترك البيت بعد الطلاق مباشرة نلمس مشاعر غريبة لديه يقول:
«مررت في طريقي بنساء كثيرات . . نساء بعضهن لا يفترقن كثيراً عن أم إبراهيم الخياطة واخريات يمشين وكأنهن يرقصن . . [...] ومع كل لفتة امرأة كانت تتثاءب (!) في أعماقي رغبة مجنونة . . فقد كنت أشعر بكل ذرة في جسمي تتواثب كفقاعات المياه الغازية . . » ص 38 . المصدر السابق.
ومن العجيب أنه بعد خروجه العنيف من المنزل تغدو الرغبة الجسدية هي المسيطرة عليه في رؤية للنساء في الشارع. لكن هذا المنظر ليس في الواقع سوى تبير لاستعادة ذكرى (بدرية) وهي امرأة منحرفة كان على علاقة سابقة معها. وهي علاقة مضطربة فنياً. تبدأ من تصوراتها كانت تحبه، وأنها تأثرت عندما قرر الزواج من نعيمة، وطردته بعدها، لكنها لم تكن متأثرة حباً، كما فهم بعد ذلك، بل لأن أحد الجيوب التي كانت تستنزفها قد توقفت.
ونستغرب هنا أيضاً من تفسير الراوي لذلك، فهي على العكس كان ينبغي أن تسعد لأنه سوف يتزوج امرأة غنية وبالتالي يمكنها من أن تستنزفها معاً.
لا بد أن نكتشف قصور فهم الراوي لبدرية هذه وعدم دقته في تفسير رد فعلها. وفعلاً حين يتجه إلى بيتها يكتشف انها غدت شخصية أخرى. لقد دخل ما أسماه الشارع «المثير» حيث حي البغاء، وطرق الباب فوجد المرأة كما عهدها، فانطلق يكشف حكايته لها لكنها قدمت له صورة رجل في اطار أنيق. حدق فيها فرأى شارباً أنيقاً ووجهاً بشوشاً هادئاً أوضحت له أنه إذا زوجها.
وكانت هذه هي صدمته الثانية والأخيرة التي أفاقته من نومته.
اذن فهذه المرأة التي كانت كما يقول الراوي: أنها أول وآخر امرأة خطت اليها قدماي في طريق «الرذيلة» قد صارت شيئاً آخر، اتجهت إلى الطريق المعاكس وهو طريق «الفضيلة» وقمة هذا الطريق تتوج بالزواج، حيث تغدو المرأة ربة بيت، وثمة سيد يكدح خارجه.
القصة كما نرى مكونة من حكايتين، حكاية البطل مع نعيمة وعائلته، وحكاية البطل مع بدرية. وليس ثمة رابط فني حقيقي بين هاتين الحكايتين، أي أن كل واحدة كان يجب أن تصبح هي جسم القصة كله، وان تفترقا فنياً. الرابط الفني الوحيد بينهما هو الراوي وهو في ذات الوقت لنصفي القصة.
هذا الانقسام للقصة أدى الى أن المؤلف لم يقم بالتركيز الضروري على كل حكاية من الحكايتين، فجاءت كل واحدة منهما مبتورة وناقصة، وأدى دمجهما الى ارباك العمل ككل.
فالقسم الأول هو بذاته حكاية كان يمكن أن تتعمق، وتتكشف جوانب خافية منها، بالأخص العلاقة غير الواضحة وغير الملموسة بين البطل ونعيمة. كما كان يمكن أن تتحول العلاقة الثانية بدورها بين البطل وبدرية الى قصة ذات بعد أعمق. ولكن ثمة علاقة فكرية ما بين الحكايتين.
فنعيمة «التي لا نراها» تبيع جسدها في الواقع الى زوج يرفضها نظير مبلغ من المال قد لا تدفعه إليه شخصياً، ولكن يفهم من طبيعة الزواج التجاري الذي انعقد بين الاثنين.
وبدرية «التي نراها» كانت تقوم ببيع جسدها نظير مبالغ من المال، ولكنها ثارت ضد هذا الوضع وقامت بالزواج من الرجل صاحب الصورة.
إذن فبدرية كانت بشكل من الأشكال تؤكد موقف (البطل) في رفضه للعلاقة الممسوخة التي كان يحياها، ومن هنا فلا داع على الاطلاق لأن يذهب اليها، موقفه قد «اكتمل» عندما ثار على عملية المتاجرة بجسده.
ان النقص كامن في الحكايتين: فنحن كنا بحاجة الى تعميق كل حكاية على حدة. ان نكتشف علاقة الراوي بعالم نعيمة وكيف انه لا يصلح له، ونكتشف عالم بدرية وكيف انها فضته وغيرته.
إن الكاتب هنا يقدم نموذجين للمرأة، النموذج الأول الذي لم يحلل بدرجة كافية بل لم يلمس وهو نموذج نعيمة. وسبق أن وضحنا ذلك.
أما النموذج الثاني «بدرية» فهي امرأة مختلفة، كانت مصدراً لمتعة الرجال وقد رفضت أن تبيع هذه المتعة وخرجت من هذا العالم لتكون زوجة لرجل . . ولا نعرف كيف استطاعت أن تقهر العقبات وتتحول . . والراوي يصور الموقف بطريقة أخلاقية خطابية قائلاً:
«هذه المرأة . . وجدت نفسها أخيراً . . اكتشفت ان سوق الخطيئة قد يكون براقاً . . ولكنه ابداً يحز في اللحم ويطحن في العظم».
فهو يتجاوز الواقع الملموس للمرأة في مثل هذا الوضع ولا يحاول اكتشاف أبعاده الاجتماعية، بل يصور الانزلاق باعتباره اغراء من سوق «الخطيئة» وليس بسبب الظروف القاسية ولأن الأمور بمثل هذه البساطة فسرعان ما استردت هذه المرأة عافيتها في غيبة الراوي وتزوجت وصارت سعيدة.
إن عدم اكتشاف الوضع الحقيقي للمرأة هو سمة للقصة، فلا المرأة غير الحاضرة في الحكاية الأولى قد عرفناها، ولا المرأة الحاضرة في الحكاية الثانية، فالسرعة والخفة في معالجة وضعها وظروفها وذاتها، كامنة في كل الجانبين، لتغدو القصة أقرب إلى التنبيه الصحفي بضرورة نبذ الزواج المصلحي وحياة «الخطيئة» ليغدو الإنسان متوازياً في المجتمع.
فأمثال هذه «الأمراض» الاجتماعية هي التي تضر بحركة المجتمع وصحته فالمجتمع في ذاته سليم، ويستطيع الافراد فيه أن يتعافوا، والراوي عبر هذه المحاولة القصصية استطاع أن يكون شخصية سليمة وكذلك المومس السابقة «بدرية» نجت من مرضها وصارت زوجة صالحة.
أما أن هذا المجتمع تابع ومتخلف، وان هذه المشكلات الاجتماعية هي من ضرورات ومتطلبات هذا المجتمع لا يعيش بدونها، واذا حدث ان عولج منها أفراد فإن أفراداً آخرين يقعون فيها وفي غيرها، لكون أساس هذه المشكلات باق لا يتغير، وأن القضية ليست قضية مشكلات اجتماعية منفصلة، بل تكوين اجتماعي خاص يولد في ذاته هذه المشكلات ويطبعها على الأشخاص وبالذات المرأة، فإذا عولجت بدرية من سوق «الخطيئة» فإن هذا السوق متوالد يعيد انتاج ذاته باستمرار، لكون العلاقات الاجتماعية التي يقف فوقها تعيد انتاج ذاتها بشكل دائم، واذا كانت بدرية قد انتهت من هذا الطريق فإن عشرات غيرها يسلكنه وإذا كان البطل لم يبع نفسه فإن عشرات غيره يبيعون أنفسهم، إذن فان الأساس المجهول العميق لهذا الإنتاج غائب عن الصورة.
والقصة رغم عدم غوصها في هذا الأساس إلا أنها ترفض أكبر تجلياته قذارة. فهي تدين بيع الجسد والذات مقابل كمية من النقود، ولكن التركيبة الاجتماعية المتناقضة تصور وكأنها سليمة. انها ضد سوق الخطيئة ولكن ليست ضد السوق.
وفي قصة «السيد» من نفس المجموعة تطالعنا قصة شاب فقير يقع في يد عصابة تهريب مخدرات ويستغل من قبلها في مهنتها الاجرامية حتى يقع في يد الشرطة.
تبدأ القصة بعد أن يسجن بطلها الشاب. انه يسترجع شريط حياته القصير بشكل مكثف وسريع، ويلتقط أهم المحطات فيه. يزعم انه يبدأ هذا الشريط في عيد الأم، كما يصادف أن عيد الأم، هذا يصادف يوم مولده، الأمر الذي يدفعنا حسب تصور الكاتب . . الى العطف على هذا البطل اليتيم، الذي يحتفل العالم كله بيوم الأم فيه بينما هو يفتقد الصدر الحنون الذي طالما رعاه، ويقبع في ركن زنزانة.
هذه الرنة العاطفية هي جزء من طبيعة القص العربي السابق، حيث تعتمد اللغة فيه على اثارة العواطف، ولكن هذه الاطلالة التمهيدية لا علاقة لها بالحدث المراد تصويره.
فالحدث يبدأ منذ تطليق أبيه لأمه. إن أباه يستدعي أمه فجأة، ويتضح للابن من لهجة الأب المغايرة لما عهده منه أن شيئاً خطيراً سوف يحدث. وفعلاً يحدث الانفصال، ويتجه الصبي مع أمه الى بيت جدة.
ولا نجد هنا أي تفصيل هام عن الأب، وسرعان ما تنقطع علاقته بولده، خلافاً لكل العرف الإنساني، كما لا نجد أية نفقة للزوجة المطلقة، خلافاً للشرع. ولعل هذا كله فقط يكون مبرراً لتصوير أن الشقاق والانفصال في الأسر هو الجاني على الأطفال. فنحن نجد الصبي يندفع للعمل لمساعدة أمه، كما تشتغل المرأة ليلاً ونهاراً من أجل اعالة الأسرة. ثم يتحول الصبي الى خادم عند احدى الاسر الغنية، وأخيراً يقع في براثن تاجر يتظاهر بالطيبة وسوء الحال، لكي يقوده الى التهريب ليقع في يد الشرطة.
كما أوضحنا فإن القصص مصاغة بعين المؤلف الرجل، وهي تركز على مصير الراوي باعتباره الهيكل العظمي
للقصة، وتأتي بقية الشخصيات لتدعم هذا الهيكل بقطع صغيرة متعددة من العظام.
لقد بدأنا من الأسرة المكونة من أب وأم باعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع، كما يظهر ذلك في رؤية المؤلف، ومرض هذه الخلية هو بسبب استبداد الرجل الأب وتطليقه للأم وتركه لرعاية ابنه . . ثم نأتي الى المرأة الأم التي عملت بجهد وتضحية من أجل تنشئة ولدها، ولكن عملها يبدو بلا قيمة فالصبي يتجه بنفسه للعمل منذ الصغر دون أن يؤدي عمل أمه المستمر الى وضعه في مدرسة ما.
أن المؤلف يتقصد وضع البطل في هذا المأزق، لكي يبدو ضحية من ضحايا المجتمع، ولكي يقع في يد عصابة التهريب ومن ثم لكي يبرز الارشاد الأخلاقي للحكاية وهو ضرورة تماسك العائلة باعتبارها أساس وضع المجتمع فأي مرض فيها يقود إلى سلسلة من الأمراض الاجتماعية كالأمية والتشرد والاجرام . . الخ .
ورغم محاولة المرأة الأم أن تكون سنداً قوياً للابن إلا انها لا تستطيع فعل شيء هام، لافتقاد دور الأب المؤثر.
إن العلاقة المرجوة لدى المؤلف لكي يسود السلام الاسرة هو التفاهم والود بين الأب والأم وعدم تحكم الرغبات الأنانية في كلا الطرفين.
إذا رأينا في القصة السابقة «شمس لا تشرق كل يوم» أن العلاقة الودية بين الزوج والزوجة هو أساس صحة المجتمع، حيث افتقدها الراوي بزواجه من نعيمة، لكنه وجدها عندما تزوجت بدرية رجلاً أحبته وعاشت بنظافة. وهذه العلاقة تبدو هنا، ولكن بصورة مختلفة، حيث أن الاسرة المنفصلة، ذات التكوين المرضي، هي التي أنتجت الراوي المجرم. ولهذا فان الإصلاح ينطلق حسب رؤية المؤلف من إعادة صياغة الأسرة باتجاه العلاقة الودية بين الرجل والمرأة.
ان سيطرة الرجل في الأسرة تبقى كما هي، ولكن تتحسن عبر عقلية متفتحة، حديثة، بعيدة عن عقلية الرجل التقليدية القادمة من القرون الوسطى، أي أن المؤلف يقوم ببرجزة العلاقات الأسرية، ويدفعها للتخلص من ميراثها الأشد قسوة وتخلفاً.
ان المرض الاجتماعي هو نتاج الاسرة حسب هذه الرؤية، وبالتالي فإن سلامة المجتمع وتطوره ينبنيان على تلك الاسرة. ولكن ما هو أساس الاسرة الاقتصادي والاجتماعي وهل ترتبط الاسرة بتكوينات اجتماعية أوسع هي الطبقات التي هي أساس المادي الفعلي للجماعة البشرية.
لا، ان رؤية المؤلف تفصل الاسرة عن الطبقة، وتفصل الاسرة بالتالي عن النظام الاجتماعي بمميزاته المتعددة، وتجعل من الاسرة جوهراً نقياً قائماً بذاته ومؤسساً للمجتمع.
وبالتالي فإن تطور المجتمع كامن في تطوير الاسرة بالعلم والثقافة، وعبر ذلك يتطور المجتمع.
من هنا فالقصة، كبقية أشكال الوعي، هي مقالة تربوية تثقيفية لتحسين وضع الأسر الفكري والأخلاقي . وهذا الوعي هو الذي سيخلق المجتمع الصالح.
وهنا نرى أن هذه الرؤية تتلافى كون المجتمع المتخلف هو مجتمع تابع مسيطر عليه من قبل الغرب، وبالتالي تستحيل عملية تطويره، وتغيير الأوضاع السيئة فيه دون قطع هذه العلاقة وإعادة تكوين المجتمع.
إن رؤية المؤلف المنبثقة من تجربة الخمسينات تتجه للإصلاح الثقافي والاجتماعي، وتطرح تحسين وضع المرأة وتغيير حياتها عما كانت عليه في المجتمع التقليدي، ولكن هذا التحسين لا يتطرق إلا لمسائل محددة كتغيير طبيعة الزواج الشرقي السيئة وإعطاء مكانة هامة للحب والتفاهم داخل الأسرة.
لكن تبقى في هذه النظرة مسألة سيادة الرجل ومركزية وضعه. وتختفي الكثير من المشكلات الجوهرية في حياة النساء.
محمـــد الماجــد
يتسم موقف محمد الماجد الكاتب الراحل بتركيبة فكرية متناقضة فهو إذ يرفض العالم المحيط رفضاً فردياً يصدر من ذاته الخاصة المنعزلة، لا يتخذ موقفاً إيجابياً تجاهه، ولا يقوم بمحاولة فهمه وتحليله فنياً، انه عالم ينحصر في نفسه ويتجه إلى شتى أشكال قطع الصلة بين الذات والواقع.
إن هذا الواقع المتخلف الرديء مرفوض للكاتب بكليته. يقول في مقالته القصصية «ثلاث أغنيات على فم التاريخ».
بالأمس صرخت في طغاة الغرباء، واليوم اصرخ في طغاة أهلي.
ثم يكمل: بالأمس قرأت اسمي منقوشاً على صفحة الكون/ واليوم رأيت قلبي مزروعاً في عروق الصخر/ ومصلوباً على أسياف الوهن/ وفي محارة عقيمة رأيت، روحي تحتضر/ ورأيت انساني يدفن في حدائق الطغاة/ وعندما رأيت عمري ينخره سوس الجفاف/ لم أر أحداً يزرع البعث في أرضي.
في هذه العبارة الفكرية يسقط موقفه الشخصي على الوضع العربي، أو يستل من هذا الوضع بعض الخصائص ويعزلها عن سياقها وظروفها الملموسة، لكي يماثلها بذاته. أو يجعل موقفه المتشائم اليائس هو طابع المرحلة والعصر. فهو مدفون في حدائق الطغاة ولا يجد أحداً يقوم بالبعث، أي بتغيير ما هو كائن حسب مصطلحات الطبقة الوسطى.
لقد وصل هذا الوعي الاجتماعي الى أزمة، فهو غير قادر على إعادة صياغة الواقع، وهذه الصياغة أضحت بدرجة أساسية من مسئوليات قوى أخرى أكثر جذرية. لكن الماجد غير قادر على تجاوز هذه الرؤية اليائسة.
إن أيديولوجية قامت بالجمع بين البعث القومي والوجودية والرومانسية ذات الموقف المتشائم.
كما أن الماجد لا يكتب قصصاً متنامية في الحقيقة، بقدر ما يكتب خواطره، ولأنه يكتب ما يشبه المذكرات فيغدو هو المتحدث والمتكلم، معبراً عن تجاربه ومشاعره وآرائه بشكل مباشر وفوق البناء القصصي، أنه لا يدع تجليات الحياة وينابيعها تخترق الكتلة الكثيفة لذاته.
لهذا سنجد أن رؤيته للمرأة تتأثر بهذا الموقف الفكري والفني فليست المرأة لديه هي المرأة بتعدد نماذجها وألوانها، ومستوياتها الاجتماعية، بل هي المرأة التي اقترب منها راوي تلك المذكرات، وحتى هذه لم تؤخذ برؤية موضوعية، بل نظر اليها من خلال الحاجة الماسة للراوي لهذه المرأة.
أغلب النماذج هي للساقطات، والبعض القليل جداً من النماذج المضيئة وهي غالباً نماذج رومانسية طهوريه، أشبه بالملائكة. فلديه لا توجد النماذج التي يمتزج فيها الخير بالشر، الجمال بالقبح.
في قصة «العالم يموت في المحرق» نجد رجلاً مثقفاً سئماً يحب امرأة في نفس المدينة، ولكن الظروف المتخلفة تعيق الالتقاء بين الرجل والمرأة وهما في نفس المدينة الصغيرة. وفي لحظة الحدث يرفع السماعة ويتصل بالمرأة ليكتشف انها تدعوه الى بيتها بكل بساطة، فلا يرفض الذهاب اليها بل يقتنص اللذة رغم اشمئزازه وكلماته الرهيبة!
وفي قصة «لا مرفأ للضائعين» يخرج الراوي مع امرأة منحرفة من بيت أخرى وسيطة هي (شواخ) ليمارس الحب مع هذه المرأة التي خرج معها. وفي أثناء السير يتحدثان، والقصة ليست سوى هذا الحوار وحوار البطل الداخلي. على المستوى العلني هو يمدح العاهرة ويغازلها، وعلى المستوى الباطني السري يحتقرها بشدة.
ان هذا النموذج في كلا القصتين نجده من منظار رجل مسطح الوعي، يطلق جملاً صاخبة مدوية براقة لكن لا يقف لحظة من أجل التوغل في هذا النموذج النسائي الذي يريد استهلاكه فقط،
ولنقرأ هذا الحوار:
ــ قلت لي انك تشتغلين . .
ــ خادمة لدى أسرة انجليزية . .
ــ لماذا تبرأت من أهلك؟
ــ لأنني لا أحب القيود!
ــ أنت محترفة! ص 27، من مجموعة الأولى «سيمفونية حزينة».
أن المقطعين الأولين هما حوار الراوي مع المرأة، وفي المقطع الأخير حكم سريع ودامغ على المرأة، فهي ليست سوى «عاهرة محترفة».
إنها امرأة تشتغل خادمة، ولدى احدى الاسر الإنجليزية وهي ظاهرة تشكلت فعلاً أيام ما قبل الاستقلال. ولا شك أن هذه المرأة الفقيرة تجربة جديرة بالاكتشاف، رغم كل أخطائها، لكن الراوي لا يتأنى ولا يقوم بأنسنة هذا الشبح الذي يريد فقط أن يلهو به. وفي قصة «قوس قزح» نجد امرأة تعانق رجلاً مولهاً بحبها ولكنها تفكر بشكل دائم في صديقه.
ولا نجد أي مبررات لهذه الازدواجية الغريبة فلم تعاشر رجلاً لا تحبه وهي تحب آخر كما لا توجد أية قيود اجتماعية أو نفسية تحول دون رفض هذا الرجل والاتجاه الى الرجل الآخر؟
ان الراوي في القصص مشبع بالرغبة في ادانة المرأة وتحقيرها، واعتبارها مستودع الدناءة والانحطاط، ولكن مع ذلك، لا يستطيع إلا أن يجري وراءها.
يقول: الحياة، الموت، الحب، وجسد امرأة، والكتب والدراسة . . كلها أشياء تافهة وجدت لتعذب الإنسان.
ويضيف: أود أن أسلب جميع النساء، وأذهب بهن بعيداً . . بعيداً، لأشعل النار في أجسادهن. ص 22 المصدر السابق.
وفي قصة «السقوط» من المجموعة الثانية «الرحيل الى مدن الفرح» نجد الراوي في حجرة مع مجموعة من الأصدقاء وبينهم امرأة منحرفة ترغب فيه وتدعوه إلا أنه يرفضها.
إن تحويل الجسد الإنساني الى بضاعة هو الأمر الذي يجعل الراوي مشمئزاً ولكن مع هذا هو من المدمنين على شراء هذه البضاعة. انه غير قادر في الحقيقة ــ أي هذا الراوي ــ إلا على تشكيل علاقة جسدية مع المرأة، أما في علاقته العاطفية، علاقة الحب الغنية، فانه عاجز تماماً. فهو بعد أن يقطع علاقته بالعالم ويتمحور في ذاته، يدمر ذاته في الحقيقة، فيعجز عن الحب، الذي هو خروج من الذات المريضة.
وليست هذه المرأة هي النموذج الوحيد في عالم الماجد بل ثمة نموذج آخر طالما احترق الراوي في الكتابة عنه. إن تجربة الراوي مع سناء، امرأة المنطقة الشرقية، تلك الفتاة التي أحبها بقوة، وبيعت في حفل زفاف، على رجل مسن، هي من التجارب المريرة التي استلهمها الراوي في أكثر من قصة. نجدها في «لمن يغني القمر» في المجموعة الأولى وبعض القصص الأخرى التالية.
إن الحب الرومانسي بين الراوي والفتاة يتحطم على صخور التقاليد وبيع المرأة الذهب. ان علاء يذهب للخبر ليعرف ان سناء تزف على ذلك الرجل، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً. سجن الظروف والتقاليد والمال تحول دون انتزاعه للفتاة الصغيرة من براثن الموت. وهو عبر فشله يتراجع ليس عن تغيير الواقع بل حتى عن تحليله فيغرق في الصوفية والخمرة وينسى.
ويحاول الراوي في القصص التالية أن يبحث عن علاقة حب عميقة مع المرأة فلا يجدها. انه دائماً في لهفة وألم من أجل هذه العلاقة لكنه لا نجده يقيم علاقات إلا مع نساء القاع. وحتى هذه العلاقة الجسدية «الناجحة» نجده يتراجع عنها، شاعراً بان مرضاً منه ينتقل الى المرأة. فهو يصور نفسه كحوت يأكل القمر لذا تتحول المرأة معه الى «جثة» كما في «احتياطات أمن ضد تسلل الحب الى مدن الجفاف» من المجموعة الثانية ص 46.
أن الراوي بعد أن يأس من الواقع، وانكمشت صلاته به، لم يجد أمامه سوى العلاقة بالمرأة. فهذه العلاقة يستحيل أن ينسحب منها. ولكنه جاء الى المرأة مشحوناً بكل ذاته النرجسية اليائسة، فعجز عن إقامة علاقة صحية معها. لهذا استطاع أن يقيم علاقة جسدية ناجحة في بادئ الأمر، لكن حتى هذه العلاقة البيولوجية تصدعت. فلم يجد الراوي أمامه سوى التفكير بالانتحار.
ومع ذلك فإننا نجد لدى الماجد أول الخطوات لتلمس وضع المرأة، وهي خطوة صغيرة جداً ولكنها مفيدة.
لقد افتتح علي سيار المشهد القصصي فظهر المجتمع المليء بالمشكلات والأمراض، وعبر رؤيته المثالية فانه وجد العلاج في تحسين حالة العائلة والزواج ووضع المرأة، أنه لا يقوم بتحليل البنية الاجتماعية وتناقضاتها، بل يعتبرها أبدية، لكنها بحاجة الى شيء من الإصلاح والتربية، الذي يجب أن يتركز على التربية.
لكن الماجد يدين البنية كلها، هذه التركيبة المظلمة، بشكل صارخ وانسحابي، انه يكتشف اللمسات الأولى للتروس على الجسد البشر. وبالأخص في تشويه المرأة. لكنه غير قادر على تحليل هذه الآلة الطاحنة لكون موقفه الفرد المتضخم يمنعه من ذلك. ولهذا لا يرى إلا (...) التي تمس القشرة الخارجية لذاته.
نبشت المحاولات القصصية السابقة وبالأخص محاولة علي سيار في مناخ اجتماعي وفكري مغاير للكتابات القصصية التي ظهرت مع الموجة الأدبية الجديدة التي نشأت منذ أواسط الستينيات لتشكل جيلا ادبيا و إبداعيا مغايرا لما سبق.
إن الجيل الذي نبت من الطبقات الشعبية وحمل زخمها، قد ربط الحركة الأدبية المحلية بالأدب العربي والعالمي بشكل أعمق مما كان لدى البدايات الأولى، وكان لا بد، عبر هذا الزخم الفكري والفني، أن تتطور الأداة وتتكسر اشكالها الضعيفة لتتيح لصوت أكثر قوة بالتقدم إلى مسرح القصة.
إن القصة القصيرة البحرينية عموما راحت تتشكل ، فصارت القصة حدثا وشخصيات متنامية في واقع يمور بالصراع والتغيير. وراحت بنية القصة الفنية تستجيب لمتطلبات اكتشاف الواقع والانسان، فراحت تحاول حسب حجم بنيتها الصغيرة ان تستوعب الأشياء وتعيد النظر فيها.
ولهذا أصبحت المرأة، عبر هذا التطور الفكري والفني، مكتشفة بصورة أوسع واكثر جذرية، بل صارت بعض النساء يمارسن الكتابة القصصية ويجعلن من المرأة بؤرة لعالمهن القصصي.
محمد عبدالملك
عند محمد عبدالملك نجد نساء عديدات كثيرات. وعبر مجموعاته المختلفة هناك تمثل خاص لهن. ان حيز النساء عموما لديه اضيق من الرجال، أن الرجال هم في بؤرة سرده القصصي، فعبر سيطرة أسلوب الراوي/ المؤلف لديه، نجده يتابع ما يجري في الحارة باهتمام شديد، يتتبع شخصياتها واحداثها، ويروي للقراء، ما يدور في هذه الحارة الحقيقية. وهذه الطريقة الفنية تتيح للكاتب تناول ما يطرحه الواقع من مواد، سواء عبر نماذج الشخصيات المحطمة المسحوقة من البسطاء أو عبر المقاومين من المثقفين. ولأن الحياة عادة لا تطرح في حياتها اليومية الظاهرة إلا نماذج الرجال فإن الرجل سيطر على اللوحة القصصية لدى الكاتب.
لكن مع تطور التجربة الإبداعية والاجتماعية نرى صعود المرأة في عالمه.
في قصة «ذلك الشتاء» نقرأ حكاية لامرأة بسيطة تموت بالسل وسوء التغذية. والراوي في هذه القصة هو المؤلف عندما كان صغيرا حيث يتذكر علاقته بخالته نورة.
في البدء يقبل الشتاء وتتلبد الغيوم في السماء وتتربص هذه الكتل السوداء بالأرض. وكان ذلك «هو الشتاء الأخير». وهي جملة تؤكد أن شخصا ما سيموت. ان الخالة نورة امرأة بسيطة ظلت تكدح أربعين عاما. وفي ذلك الشتاء الأخير غاب الصفاء والفرح من وجهها وبرزت وجنتاها كفراغات مخيفة. وهي تنهض منذ السادسة صباحا وتعمل حتى المساء، وتسير حافية القدمين. وفي الليل تقص الحكايات للأطفال ومنهم الراوي. ثم تلتهب وتمرض فيخرجها الراوي من الحارة الفقيرة نحو المستشفى. وفي المستشفى يصطدم الراوي اول صدماته حيث تهمل الخالة وتموت.
المستشفى ليس جهازا لخدمة البشر وتقديم العلاج هنا بل هو معبر سهل الآخرة، واجهزته وجدرانه اللامعة والبلاط النظيف كلها قنوات لذلك العالم الخفي القريب. يقول: «أحسست أن جريمة ما تتم في هذا العالم الآن امامي، وان كل من حولي يساهم ويستمتع بهذه الجريمة» ص 61 من مجموعة «نحن نحب الشمس». التناقض بين الحارة والمستشفى حاد. الفقراء في مواجهة جهاز للموت. المرأة الكادحة لا تلقى أي اهتمام وتحتضر.
الراوي يركز في القصة على علاقته هو بالمرأة، بالخالة نورة، انه يصف كيف كان يلعب في الشتاء، وكيف كان الشتاء جميلا وبريئا في تلك السنوات من الطفولة، وعبر تحدثه عن نفسه نلتقي بالخالة، أننا لا نجد تاريخها هي، وحكايتها الموغلة في الزمن، لذا فإن الراوي الرجل يقدم هنا جانبا من تاريخه، ولكن عبر تقديمه لهذا التاريخ تغدو المرأة جزءا منه.
ثمة ماض عميق لهذه المرأة، لكننا لم نتعرف عليه. فابتعدنا عن خلجاتها النفسية وملامحها، وجاء الراوي ليثبت حضوره أكثر من الشخصية المحورية.
ولكننا في هذه القصة نجد نكهة جديدة مغايرة للمرأة لقد استحضر الأدب هنا شخصية مختلفة عن المرأة السابقة، فظهرت امرأة منبثقة من صفوف الناس التعبة، التي تؤمن بشتى الخرافات والتي تعمل طويلا وتموت دون رعاية.
وفي قصة «أول الحب» من مجموعة «ثقوب في رئة المدينة» نشاهد الراوي وهو يحاول ان يقيم علاقة حب مع فتاة رائعة كما يقول، وهو متردد كثيرا في إقامة هذه العلاقة. القصة مكونة من لحظتين، اللحظة الأولى هي اللقاء الأول بينهما، يقول عنها حينئذ «تتحدث ومن شفتيها تتفتح الكلمات ازهارا برية صغيرة». «الأطفال، الناس في حديثها يتوقون للحرية، وهم بسطاء وتلدهم المدن والحارات من حيث جاءت».
هنا نجد تفتحا أولا للمرأة الجديدة . انها فتاة عاملة ومتفتحة ومهمومة بقضايا الناس. ولكننا نرى هذه الفتاة خلال عيون الراوي، أي اننا لم نتوغل في ذاتها وحركتها هي، بل نطالعها من خلال عدسته. ولهذا عندما يعود للبيت ويظل عدة شهور يفكر بها، دون أن يفعل شيئا تنقطع علاقتنا بها. وبعد هذه المدة الطويلة يتقدم اليها وفعلا يراها على الشارع، وكأنها جالسة تنتظره. وهي مستغربة من اختفائه. وفي اللقاء الثاني يلتحم الراوي بزهرة في علاقة حب، لا نعرف أي شيء مهم عنها، بل ان الراوي يقدم لنا زهرة من الخارج.
لكن هذه القصة تشير الى جريان الحياة الاجتماعية، وانهيار ليس القيود العتيقة، بل أيضا نهوض المرأة كي تؤدي دورا تحويليا في الحياة وتنشر قيما جديدة. ليس هدف المرأة هنا هو الزواج وتأسيس اسرة، كما كان الامر يتجلى عند علي سيار، أو اللذة، ما لدى الماجد، بل صارت القضية هنا هي إعادة تكوين الحياة، لتكون جديرة بالمرأة والرجل معا في علاقة إنسانية راقية.
وفي قصة «الحزين يغني» من مجموعة «السياج» نجد القاص يتوغل اكثر في الحارة الشعبية ليأخذ النماذج المهمشة ويسلط الضوء عليها.
إن أهم شخصيتين في القصة هما المغني وشريفة. والمغني شاب يائس ليس محلا للحب، فقد تراكمت فوق جسده وعمره ارزاء ومشكلات لاحد لها. فهو ذو حدبة، وفمه يخلو من الاسنان، كما انه متشرد وعاطل ويعيش على خدمة الاعراس وحمل المرايا وتسخين الطبول كما انه أمي. من هنا فطموحه للمرأة شبه مستحيل. ولكنه يحاول لكي يصل الى قلب شريفة، أما شريفة هذه فنحن لا نعرف شيئا هاما عنها، فهي من عائلة العريس، وهي مكتنزة باللحم والشحم وجسدها اشبه بالسفينة.
يحاول الحزين، هذا المغني المجهول، ان يرفع صوته ويشق الزحام ويثبت ذاته، لقد نفض الشاب الفقير الاردية السائدة وإخراج ذاته المبدعة من ركام التحقير الذل، فيغني، لتعجب به شريفة.
أنها تستهزئ به، لكنه يثبت انه فوق الاستهزاء فلا تملك إلا أن تشعر بشيء جديد في ذاتها.
تنطلق هذه القصة أيضا من المرأة الرجل، فهو صاحب الفاعلية أما فهي متلقية للأفعال. ولا تساهم شريفة بشيء، ولا نعرف هل استطاعت هذه المرأة أن تكسر الحواجز الاجتماعية والنفسية بينها وبين ذلك المتشرد؟ ان القصة تترك الأفق مفتوحا لشتى الاحتمالات، مؤكدة فقط ان بإمكان المقهورين المهمشين أن يغيروا الحياة.
أما في قصة «هوس» من نفس المجموعة السابقة فهي تقدم شخصية نسائية مضحكة، أنها تدور حول شبيكة عجب وهي فتاة مهووسة بالزواج وتندفع لصديقاتها من اجل ان يبحثوا لها عن زوج، وتحاول أن تلفت نظر الموظفين العاملين معها في الوزارة، فتلبس موضات عدة، من الشكل الحديث الى الحجاب، متأثرة بكل كلمة تقال عنها، دون أن تملك أية قدرة على الاستقلال. وفي النهاية تبكي بشدة لأنها لم تستطع ان ترضي المحيطين بها رغم كل ما فعلت.
إنها نموذج آخر للمرأة. نموذج يمثل التفاهة والسطحية، الذي يشعر في النهاية بفشل طريقه هذا.
إننا في هذه النماذج القليلة التي تناولناها من قصص محمد عبدالملك (وهي عديدة) نكتشف أنها نماذج تم تناولها عب رؤية المؤلف، عبر رؤية الراوي السائد في القصص، فالمرأة ينظر إليها من خلال عين البطل الرجل، سواء عبر شكل الحب والعطف كما فعل الراوي تجاه خالته نوره، أو عبر شكل العشق كما فعل الراوي أيضا تجاه «زهرة» الممرضة المكافحة، أو عبر شكل السخرية كما فعل المؤلف تجاه شخصية «سبيكة عجب».
أن المرأة تبدو لديه من خلال رؤية خارجية، فلا ننتقل إليها لنكتشف وجودها هي، صراعاتها وآلامها.
وتختلف هذه الرؤية عن الرؤية السابقة لكونها تتصل بأعماق الحياة الاجتماعية المحيطة، بهدف إعادة تغيير هذه الحياة الرديئة، التي تدمر الشخصية سواء كانت رجلا أو امرأة. إن واقع الحياة المتخلف هو الذي يجعل المغني الحزين في القاع، وعندما يثور عليه، فإن أيضا يثور على تخلف المرأة ليرفعها إلى مستوى جديد . .
أمين صالح : وعي جديد للمرأة
في رؤية أمين صالح للمرأة، لا يوجد فرق اجتماعي بين الرجل والمرأة، سوى ان المرأة كائن جميل، ليست هناك قيود على حريتها وتحركها، أنها كائن فاعل مغير تماما مثل الرجل.
إن الواقع الذي ترزح تحته المرأة والرجل هو واقع متناقض، فيه السجون والقيود والتجار والبغايا، وفيه الناس والثوار والمشكلون لعالم مختلف. إن هذا الواقع هو عالم رأسمالي غربي في مناخه العام، يقع بكل ثقله على الإنسان الذي يرفضه.
في قصة «الفراشات» من المجموعة التي تحمل ذات الاسم هناك امرأة تطل من الشرفة تنتظر زوجها المسجون. تحدق في الحانة التي يتزاحم فيها البحارة، وتلقي نظرة على الفتاة المجنونة التي تسرح في الشوارع ثم تعود لعالمها، ووالى تذكر زوجها.
وزوجها كاتب رقيق يكتب في الظلام حتى لا يزعجها، يحبها وتحبه، ويحلمان بعالم رائع سعيد. لكن الأصابع الحديدية تمتد مفرقة بينهما.
هنا نجد أن علاقة الرجل بالمرأة قد تحررت من شوائبها واوحالها لتغدو علاقة حب، خارج الزنازين الاجتماعية والفكرية.
وهذه القصة تضفر بين جوانب فنية متعددة، فمن استخدام السرد إلى توظيف الرسائل والأحلام لتتشكل بنية فنية موحية.
ونجد رؤية أمين صالح للعالم المتجسد بشكل واضح من خلال موتيف المغني المتسكع أن اغانيه وهو يبحث في براميل القمامة، تجسد مدنا فردوسية، لا يسمح بالدخول فيها للنائحات والأرامل واليتامى والهائمين بالحب العذري والصوفيين والفقراء. فقد تم في هذه المدن الاحلام إلغاء أشكال العجز الحياتي والطقوس القديمة، ليكون الإنسان سعيدا وحرا.
في قصة «ارتجافات عناقيد الماء في الهواء» نجد المرأة الشخصية المحورية في الحدث. ان أسماء امرأة فقيرة بسيطة لديها ابن اسمه عبدالله. إن القصة تستحضر الموروث العربي المعروف وتعصرنه. فالماضي مجرد استلهام واستحضار للعلاقة التاريخية بين أسماء وعبدالله بن الزبير.
إنها امرأة معاصرة تنشر الغسيل وتذهب الى الدكاكين لشراء أغراض البيت. والواقع المحيط بأسماء هو الواقع الرأسمالي بكل قسوته. «أينما تذهب تجد مصرفيا أو تاجر اعمال أو شرطيا يجذب اجفان الخواء بقسوة . . أينما تذهب تجد عاملا مسرحا بعد بتر عضو من جسده، أو عاشقا يحمل جسده الذي يغص باللهفة لمرأى انثى . .الخ» المجموعة السابقة ص 26.
وأسماء تعامل عبدالله كطفل، أو أن العلاقة بين الأم والابن، هي علاقة أم بطفلها، فهي تلقمه ثديها كي يرضع. ثم يتفجر الموقف القصصي باندماج عبدالله في الحركة العمالية ومشاركته في الإضراب.
أن الشرطة تتدخل وتصطدم بالعمال. فيخاف عبدالله ويجبن. وفي منولوجه تلحظ سمة المرحلة «أضحت البنادق خنادق وفنادق نعاقر فيها خيبتنا ونضحك ملء أفواهنا رمل» ص 28.
لكن الأم تهزه، وتحرضه لكي لا ينهار في مستنقع اليأس فينهض مجددا يواصل المعركة التي لم تتوقف.
في قصة «النافذة» نرى العلاقة بين الرجل السيد والمرأة الخادمة كعلاقة صراعية ضارية، تتحدد بشكل تعبيري، فالسيد الرجل يعصر المرأة ويحولها إلى أداة تامة.
ويشكل الهواء الموجود خارج بيت هذا الرجل السيد النقيض «النقي» العالم الرجل المسيطر الخانق. فهذا الهواء هو الذي يعلمها الانطلاق والحياة والصحة. كذلك يجسد «النهر» هذه العلاقة بشكل آخر.
السيد يشتهيها ويستعبدها ويطلقها تعمل في البيت بصورة متواصلة. نجد هذه العلاقة تتجلى بشكل مباشر وصارخ عبر أوامره التالية: «انزعي حذائي. قبلي اظافر رجلي. ادخليه في جوفك (...) هاك اسناني نظفيها جيدا. دائما اراك تصلين. لماذا؟ لمن تتوجهين . . آه الخوف . . تخافين . . هذا افضل» ص 38.
هذه العلاقة الاضطهادية توضح التناقض الجوهري الذي لا يقبل الحل بين السيد والخادمة، وهو تناقض اجتماعي وليس تناقضا بين ذكر وانثى، وإذا كانت الانثى في موقع الاضطهاد فهذا بسبب وظيفتها.
ورغم التجريدية التي يصور بها الكاتب هذه العلاقة، وجانب «التغريب» الذي تتشكل فيه، فإنها تجوهر العلاقة التي لا تعرف الانسجام بين الرجل المضطهد والمرأة المضطهدة. أي تجعلها في أقصى تجليها وهو العالم الغربي المتطور.
وسوف ندرس بتمعن هنا القصة القصيرة الطويلة وهي «مواكب لساكنات التلال» كي نرى بتوضيح أكبر موقع المرأة في هذه التجربة الفنية.
منهج امين صالح الفني مغاير للمناهج الفنية المحلية والعربية، فهو يصوغ القصة من مادة واقعية بشكل فانتازي. فهي ــ أي المادة ــ مع احتفاظها بدلالات طبقية حادة إلا أنها لا تتشكل عبر مجتمع ما، بل هي تمتد على الواقع الطبقي المتناقض في كل تلويناتها المعاصرة. انها لا تنطبق على هذا البلد أو ذاك، بل على التكوين الرأسمالي في اكثر أشكاله تطورا ولا تستبعد الاطلال على التكوين المتلف أيضا وبشكل لمحات. والمنهج مع دلالاته الموضوعية الكاشفة لجوهر الصراع، إلا أنه حر وذاتي في تركيباته وتوليفاته المتعددة، خاضعا للوعي النقدي والتداعي الحر.
المؤلف هو خالق هذا العالم الحر، المتوالد، المتغير، المتنامي أشكالا غريبة ومدهشة، معبأ بروح السخرية والنكتة والمأساة. ورغم هذه الحرية فانه يتجه الى جوهر التناقض الاجتماعي، الى لب الصراع في عالم اليوم، موصلا الصراع الى اقصى نتائجه.
لهذا فإن البنية الطبقية الرأسمالية التي نجدها عند علي سيار هي أقصى أمنيات الأبطال، والتي هي بحاجة فقط الى إصلاحات أخلاقية وتربوية لكي تتنقح، وعند عبدالملك الى تغيرات هامة تتعلق بوضع المسحوقين والمحطمين كي تكون أكثر إنسانية، فإنها عند امين صالح مدمرة، محطمة، بفعل وأحلام الشخصيات التي تصنع هذه البنية مجددا.
هنا تجد اعترافا صارما بالواقع الاجتماعي العام وتحطيما فنيا له، لكون المنهج الفني الذي تضافرت فيه روح الثورة بالفنتازيا خلق كشفا وتعرية وتجاوزا في ذات الوقت.
ولأن هذا المنهج يدمر البنية عبر فانتازيا حرة تراجيدية وكوميدية معا، فإن المرأة تجد نفسها في هذا العالم متحررة من أغلالها الاجتماعية والنفسية ومقيدة فيها أيضا.
وفي المشهد الافتتاحي لقصة «مواكب لساكنات التلال» نرى رجالا يتقدمون حاملين مصابيحهن وقد تركوا أهلهم في الاكواخ متوغلين نحو النساء الساكنات التلال، والتربة تتوالد اشكالا من الأحياء كأنها في طقس ربيعي احتفالي.
ونستطيع أن نجد في هذا المشهد الافتتاحي السينمائي كل الخريطة الاجتماعية والطبيعة المحتفلة بعرس التغيير والولادة: من قافلة البجع المنطلقة من جوف التربة مشكلة كرنفالا ناريا الى الفدائي العربي ذي الساق المبتورة والذي يطلق رصاصاته في الهواء احتفاء . . الى الدجاجة التي تبيض بيضا يفقس قبائل محتفلة بالليل والنهار. كل هذا الاحتفاء الرجالي والطبيعي هو من أجل النساء، من أجل الأرامل المجللات بالسواد، من أجل النساء الذين يتضوعن حبا.
وبعد هذه الافتتاحية سنجد عدة حكايات ذات خط واحد. فما هي هذه الحكايات وهذا الخيط؟
نبدأ الحكاية الأولى: انها قصة حارس هو سيد المنطقة وسيد الليل، الذي سحق البراغيث والكلاب وجن جنونه من اجل امتلاك امرأة جميلة، راح يراقبها من ثقب في جدار والشهوة تقلقل جسده. يتبعها في النهار ويراقبها في السوق ويرصد ارتجاجات جسدها المثير. «حتى العباءة كانت عاجزة عن صد غارات عينية المتقدتين» (عبر تعبير العباءة نجد المحلية الشديدة) وبعد ان يخرج زوجها لعمله في الليل يهرول الى الفجوة ويتوجع. زوجها عامل في مصنع. رجل بسيط وطيب، يشارك العمال في ابتهاجاتهم النضالية، لكنه لا يتزعم.
المرأة تحلم. والحلم ضفيرة أخرى في هذا العالم الفني تنمو بحرية تامة، ما قد يقع بعد سنين، قد يقع الآن ليس حواجز بين الواقع والحلم، فهذا الأخير هو واقع قادم مستحضر.
المرأة تتدثر بالبنفسج وترسو قرب الشمس تعيش مع شعوب تحارب الحرب ولا تستغل بعضها، أنها على مستوى الحلم تندمج مع شعوب حرة، وعلى مستوى الواقع تعود الى جزيرة معزولة موحشة تحرسها خفافيش عمياء. ص 12.
الحدث القصصي يجمع بين هجوم الحارس على المرأة واغتصابها، وسقوط رافعة على جسد الزوج. فعلان، متباينان، في الشكل، متوحدان في المحتوى، يجريان عبر سرد متقطع لنكتشف عبرهما بنية اجتماعية واحدة تدمر الجسد الإنساني وتغتصبه، سواء كان امرأة في بيت أو عاملا في مصنع . .
الحكاية الثانية: هي حكاية لاعب سيرك ممتاز اصطاده ثلاثة رجال هم ممثلو الطبقة السائدة: جنرال، واعظ، رأسمالي. ثلاثة وجوه أساسية تمثل الطبقة ووظائفها المختلفة. انها شخصية واحدة في هذا الواقع الفني، لكن تتعدد أشكال وجودها وعملها. الجنرال يذهب الى عمله بدبابة داهسا أكثر من شخص! الواعظ يكره قوم المستنقعات والقرى، يمتطي بغلة سريعة مهووسة بالتوابل تنطلق كبرق. الرأسمالي يعشق الخزائن. وقد اتفق الثلاثة على استخدام لاعب السيرك أثناء حفلاتهم الحمراء. ثم سجنوه هناك. فراحت زوجته تبحث عنه وعندما عرفت بمقتله صنعت ثلاثة توابيت لأولئك الرجال الثلاثة. وبهذا انتقلت المرأة من دور الارملة الباكية الى دور الثائرة.
الحكاية الثالثة: عن خادمة تعمل في بيت رجل غني. وسبق أن لاحظنا وجود هذا الموتيف في قصة أخرى. ولكنها أكثر غنى وفكاهة سوداء فالابن يستغلها في عادته السرية، والزوج ولأنه لا يستطيع أن ينام معها يقيدها ويجلدها بالسوط. وقد وجدت الخادمة حريتها في الراعي الذي ضربته هذه العائلة عندما أرادها. لهذا قامت الخادمة بأغلاق الباب على العائلة واشعلت النيران في البيت!
الحكاية الرابعة: عن امرأة مومس تعيش في برميل تحتضن عاملا مغتربا تشرد وعمل في المدينة الغنية فلفظته بعد أن استهلكته.
هؤلاء النسوة الأربع يقدمن نموذجا مغايرا للمرأة، انما المرأة الرافضة للبنية الضاغطة على الإنسان تحمل سكينا لقطع الرقاب، وتستعد للإجهاز على قوى الشر، وتقدم حليبها غذاء للمشردين والمطحونين.
منيرة الفاضل
تدور الكثير من قصص منيرة الفاضل حول المرأة وتجربتها في الحياة. والبؤرة التي تدور عليها هذه التجربة هي الحياة العاطفية والحب. إن فهم هذا المحور سيعني رؤية تجارب الابطال والبطلات المختلفة المتشابكة المتصارعة في هذا العالم.
ان المرأة تخطو في قصصها خطواتها الأولى نحو الحرية، ونحو خروج المرأة من عالم الحرية في جسدها الى البحث المضنى عن علاقة صحية وحقيقية مع الرجل.
إننا نجد في قصص منيرة الفاضل العلاقة العاطفية في بؤرة الاهتمام، والمرأة تسعى للعلاقة العاطفية بأقصى تجلياتها. لكن نجد ان هذه العلاقة تبقى الى حد كبير في حدها الأدنى عند مستوى الجسد، وإقامة العلاقات الجسدية العابرة الم
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 16, 2019 15:31 Tags: المرأة-في-القصة-البحرينية

♀دليل المرأة الذكية للوحدة الوطنية ⇦

لاتزال المرأة عموماً مثل كثير من الرجال كذلك لا تعرف شيئاً كثيراً عن الاتجاهات السياسية والدينية، لكن المرأة بسبب ظروف الأسر المنزلى والذكوري والسياسى والاجتماعي العام لها، فإنها أقل فهماً للمصطلحات السياسية والاجتماعية التي يتداولها الرجالُ في جمعياتهم وتجمعاتهم دون أن تحظى النساء الكثيرات بمعرفة ما يدور في هذه اللقاءات المطولة التي يقرر فيها الرجالُ دون النساء مصير الحياة السياسية، وهذه الحياة السياسية هي التي تقرر في النهاية الحصص والمقاعد والهيمنة الذكورية في المجتمع، وتشكل المستوى المتدني للنساء وحقوق النساء الضائعة.
فكلما اختفت النساء عن الممارسة السياسية والاجتماعية وقبعن في بيوتهن سهل على الرجال من مختلف الأصناف السياسية/ الذكورية التحكم في مقاليد السلطة، وتوزيع الحقوق عليهم، وفرض الواجبات الكثيرة على النساء!
فالرجال يطرحون الوحدة الوطنية بين الطوائف في حين أن الوحدة المنزلية، الأساس لتلك الوحدة، غائبة بسبب النزاعات الطويلة بين الرجال والنساء!
ولهذا فلو حضرت النساءُ وبكثافةٍ ومن مختلف الطوائف والكتل، فى اجتماعات سياسية واجتماعات نقابية، لاستطعن فرض أصواتهن على الرجال، وإجبارهم على الوحدة من أجل الأطفال والبيوت التعبة من الأقساط والأسعار..
يتصور الكثير من النساء أن القضايا السياسية هي فقط هموم رجالية، وأن السياسة هى فقط قضايا الأحزاب والحرب والكوارث، وليست هي أيضا قضايا الحدائق ورياض الأطفال والسلام، وحرية المرأة في الخروج والعمل، وهي كذلك الالتزام الأخلاقي بالعائلة والوطن. لا تعنى التجمعات السياسية الذكورية غالباً بالعمل النسائي وانتشاره، لأن الرجال يفكرون في ظروفهم ومصالحهم، وهناك منهم اناس شديدو الأنانية فلا يريدون للمرأة أن تخرج كلياً من البيت، وهناك منهم أناس لا يفكرون فيها سوى كراقصة أو كمصنع للذرية!
والكتل الدينية تتحدث كثيراً عن ضرورة الفضيلة الشديدة للمرأة، ولا يتطرقون بمثل هذا الحماس لفضيلة الرجل، ولكنهم لا يرون الفضيلة إلا فى العزلة لها، سواء كانت في البيت أو وراء الجدران واللباس، وليس في تمتع المرأة بالعمل، والدخل الجيد، والاحتكاك الصلب والأخلاقي مع الرجال.
والفضيلة لا تنبت للمرأة عبر غياب التجربة والاحتكاك، بل من خلال العمل والمعاناة والتجارب، حين تصبح إنساناً لا أنثى دمية جميلة في البيت ومع أول صدمة تتشقق!
لهذا كله تبقى المرأة هي أساس الوحدة الوطنية، أساس قوة العائلة، والسلام، وكراهية الفتن والحروب، هي التي تستطيع القفز على الحواجز الطائفية التي أقامها بعض الرجال، وجعلوا الأولاد والبنات في المدارس يتصارعون ويخافون من بعضهم البعض.
والمرأة تظن أن هذه الحواجز هي بسبب التيارات «الإسلامية»، وأن هذه التيارات هي سبب عدم وصول المرأة إلى البرلمان والمكانة السياسية التي تتطلع إليها.
والمسألة هنا تعود إلى تاريخ اجتماعي شرقي خاص، وليس إلى الإسلام بشكل مجرد، أي أن الوعي النسائي هنا بحاجة إلى فهم للتاريخ والفكر الإسلاميين، فهؤلاء الدينيون المذهبيون السياسيون المحافظون لا يمثلون النهضة الإسلامية والحريات الإسلامية بقدر ما يمثلون وعياً مذهبياً مسيساً تمت السيطرة عليه خلال القرون السابقة، من قبل السلطات الذكورية والإقطاعية السائدة والتى كيفت المذاهب الفقهية لمصالحها، بمعنى أنها غيبت ما يفيد المرأة من الشريعة وثبتت جوانب نصوصية لصالحها.
مع غياب المرأة عن التحولات السياسية وبشكل جماهيري تغيب الوحدة داخل الأسرة وداخل المجتمع.
وغياب المرأة عن الأعمال والصناعة والحرف والسياسة يشجع القوى المحافظة على جلب العمالة الأجنبية والتصرف بخيرات المجتمع حسب أهوائها.
ولهذا فإن الفضيلة ليست هي فضيلة الثياب بل فضيلة الصراع! إنها الفضائل التي تأتي من انغماس النساء في الأعمال وفي النضال وفي المكاتب والمصانع والفنادق، فالموقف الأخلاقي الرفيع لا يأتي من الجهل بل من المقاومة والتمرس فى خنادق العمل والفكر. والمرأة حين تُجرد من فهمها للدين، والسياسة والعمل، والصراع الاجتماعي تعجز عن الدفاع عن مصالحها.
ليس المهم هو وصول بعض النساء إلى البرلمان، بل المهم هو جذب النساء بشكل كبير إلى ميدان الإنتاج والسياسة والفكر والوعي، فالبرلمان ليس سوى ثمرة لتصاعد دور النساء في مختلف شئون الحياة، هو تتويج نضالهن في القواعد الشعبية، في النقابات، وفي الجمعيات، وفي الفكر والثقافة والفنون.
وما دام الرجل مهيمناً على عقل المرأة ونفسها، وهي تؤدي دورها ككائن ثانوي، كجمهور مغيب عن الندوات والقراءة والفنون والجدل والعمل، مستعد فقط للزينة والزواج، كائن همه الأول الحصول على المنافع والمناصب، فإن وجود المرأة السياسي في البرلمان لن يكون كبيراً أو حتى موجوداً.
وحتى لو وجدت نساء، فهذا ليس دليلاً على وجود المرأة كتيار اجتماعي عريض.
النساء في مثل هذه الحالة سيمثلن أنفسهن، وسيمثلن شريحة إدارية مستفيدة تقول «نعم» دائماً.
إذا لم تصعد المرأة سياسياً ككائن سياسي مستقل، له مشاكله الخاصة العميقة المحورية، فذلك يعني أنها سوف تُستغل من قبل تكتلات الرجال الأنانية المسيطرة. وحتى الآن فإن النساء بشكل عام عاجزات عن الاستقلال السياسي والفكري عن التنظيمات الذكورية/التقليدية، والعجز عن الاستقلال هو الذي يفكك العائلة ويفكك الوطن.
أي أن هذه القوة الجماهيرية الكبيرة القابعة في البيوت، وفي الخرافة، وفي أسر الثقافة التقليدية والتلفزيونية التغريبية، وفي فضيلة الثياب وفضائل الحبس الاجتماعى، يغدو تحريرها هو إعادة للحمة الوطنية على مستوى العائلة وعلى مستوى الحياة الاجتماعية، فدخول المرأة بكثافة إلى العمل والصراع الاجتماعي والسياسي والثقافي هو الذي سيشكل الشعب بشكل جديد، سيجعل العانة أكثر تطوراً من حيث الوعي الصحي والنفسي والجنسي والفكري، ستغدو النساء لسن خامات يمكن خداعهن بسهولة، بل سيتمرسن بفنون الخداع ويكشفنها.
والخداع على مستويات عدة، على مستوى خداع الزواج، ومستوى خداع الشعار الديني، والخداع على مستوى الشعار السياسي، وكل أشكال هذه الخدع تنصب في عدم إطلاق طاقات النساء الحرة، ومنع قدراتهن من التفجر: حركةً جسدية حرة، وانفعالات نفسية ثرة، وحركة اجتماعية وسياسية تنصب على تحرير المرأة لا على خداعها واستعبادها!
مقاومة المرأة لكثرة النسل وعدم نوعيته هو فعل ديمقراطي سيتراكم على مدى السنين، حيث لا يُقاد الناس في باصات ليصوتوا لمستغليهم!
مقاومة المرأة لنشر العمالة الأجنبية بلا رقيب ولا حسيب، واستغناؤها عن الخادمات والاستهلاك البذخي، هو نضال ديمقراطي سيتجسد في عائلات أكثر قوة وأكثر وعياً.
نضال المرأة لتثقيف أبنائها وبناتها هو نضال ديمقراطي يتكرس في مرشحين أكثر استيعاباً لهموم الشعب وقضاياه، وفي ناخبين أكثر تبصراً واستخداماً لأوراقهم الانتخابية في الصناديق/المستقبل!
نضال المرأة الفكري والثقافي سيبصرها بالكتل السياسية، ويعطيها القدرة على أن تميز بين الاستخدام الرنان الكاذب للشعارات، والنضال الحقيقي على الأرض من أحلها ومن أجل وطن لا يتعرض فيه أبناؤها لسلق الدماغ ولسلق الجيوب والمصير!
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 16, 2019 15:30

♀خطورة الوعي السلبي للمرأة ⇦

كان يفترض مع التحولات السياسية أن تزداد عمليات الانفتاح الاجتماعي، ويتم الابتعاد عن قضايا الحريات الشخصية، ولكن حدث على العكس توجه للتقليل من هذه الحرية، الأمر الذي سيحولنا – إذا استمر هذا الخط - إلى فتح باب المجابهات الداخلية.
ويعتمد المحافظون المتوجهون في هذا المسار على الأقسام المتخلفة من السكان في وعيها، والتي تصور الحريات باعتيارها كارثة أخلاقية وانحرافات اجتماعية، وتفصل هذه القضايا الأخلاقية والأسرية عن قضية الحرية المترابطة، حيث ان أي مساس بالحرية فى جانب من جوانبها ينعكس على الجوانب الآخرى.
والخطورة في تفاقم مثل هذه المسائل هو أننا نتجه بعيدأ عن القضايا المحورية فى قضايانا الوطنية، وننزلق في سراديب جانبية مقفلة، وهي قضايا لم يستطع الخطباء على مدى آلاف السنين أن يحلوها، وهي مسائل باتت في عهدة الضميروالحرية الفردية والمسئولية الشخصية .
يستند المحافظون إلى وعي بعض الأقسام النسائية التي تتأثر حياتها الشخصية بهذه المسائل ومسائل الحرية الشخصية غالباً ما يستفيد منها الرجال وتحرم منها النساء، ويقوم الرجال عادة بتكييف مسائل الحرية على مزاجهم وكيفهم الشخصي، فهم يريدون الحرية ولكن لهم وليس للنساء، فيتمتعون ويسافرون وينطلقون كيفما
شاءوا لا تسألهم زوجاتهم عن هذه الحرية الواسعة، وإذا سألنهم قالوا إننا رجال!
من هنا تبحث هؤلاء النسوة عن وسائل للجم هذه الحرية الذاتية النهمة، فلا يجدنها إلا في آراء بعض المحافظين، الذين يستغلون هذه المستويات المتفاوتة من الحرية، وتذمر النساء، لكي يلجموا الحريات العامة، ولكي يدخلوا في حيوات الناس الشخصية، ويفرضوا مقاييسهم الاجتماعية.
كان انتشار حركات المحافظين قد اعتمد في الغرب نفسه على هذه الأقسام الاجتماعية، وعلى جمهور نسائي معين، يوى في الحرية الذكورية الواسعة خطورة على بقاء الأسر، ولكن المحافظين التفوا بعد ذلك على هؤلاء النسوة وفرضوا عليهن قوانين مجحفة وابقوا اللامساواة بين الرجال والنساء وبصورة أسوأ من السابق.
ولهذا فإن حل المشكلات الأسرية ونقص الحرية في المنزل للإناث لا يحل بتشكيل دكتاتورية فى الحياة العامة، أو بإطلاق يد الرقابة في ضمائر الناس، وبمراقبة ما يشربون وما يأكلون وكيف يفرحون ويغنون وماذا يلبسون.. وكأننا ونحن نطلق موجة الحرية السياسية من الباب نقوم بسحبها من الشباك الاجتماعي.
إن المرأة هي التي سوف تعاني أكثر من غيرها من المحافظة الاجتماعية والسياسية، التي ستنقلب على تراجع المساواة لها، وتفاقم مشكلاتها في الأحوال الشخصية المختلفة، خاصة مع جماعات غير متبصرة سياسيا ودينياً، وليس لديها برنامج للنهضة والتطور.
وعلى العكس، فإن على المرأة أن تدخل هذه القضية من بابها، وهى المطالبة بمزيد من الحريات الشخصية والعامة المتساوية، التي تعطيها الحق في نقد الرجال وتشريح سلوكهم الخاطئ أو المضاد للحرية.
وكلما ازدادت الحرية كلما انعكست ثمارها على المرأة على المدى الطويل، سواء بوجود مواقع فكرية وسياسية للمرأة، أو بتطور منابرها المستقلة، وباكتشاف مشكلاتها والبحث عن حلول واقعية وسليمة ومباشرة لها، ومن خلال وحدة الحركة النسائية وبالتعاون مع الحركة الديمقراطية في البلد بمختلف اتجاهاتها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 16, 2019 15:29 Tags: خطورة-الوعي-السلبي-للمرأة

♀المرأة بين السلبية والمبادرة ⇦

ليس هناك فرق سياسي بين (جنس) المرأة والرجل، فلا تغدو الأنوثة أو الذكورة ميزة، بل ما يحدد الفرق هو نوع الوعي الذي يحمله كل منهما، ولهذا فإن لا ميزة لدخول النساء أو الرجال إلى البرلمان، بل الميزة هي فيما يضيفه كل منهما إلى قائمة العمل الوطني والتراكم الديمقراطي!
ولهذا فإن هؤلاء اللواتي يعتقدن فقط كونهن من النساء يعطيهن أفضلية في العمل السياسي، أو أنه بساط الريح الموصل إلى كراسي المجلس المنتخب، فإن ذلك من الأوهام التي يكرسها المجتمع المخملي.
فلا كتب الطبخ الزاهية التي يؤلفنها ولا أحاديث الصالونات ولا الاشتراك في مجلات الموضة والفساتين والعطور، هي ما يجعلهن ذواتاً سياسية متصدرة بل ما يكرس حضورهن هو نشاطهن السياسي النضالي في صفوف الناس دفاعاً عن العاطلين والفقراء والمدن المختنقة بالتلوث والفساد!
ولهذا فإن انتظارهن للفرصة الذهبية قبيل الانتخابات للظهور بآخر التسريحات هو مضيعة وقت، ولا علاقة له بالنشاط البرلماني، إذا لم يبدأن الركض السياسي منذ الأن، وما دامت العقبات الذكورية الدكتاتورية، تضع لهن شتى الحواجز الكبيرة متحدية سمنتهن السياسية المترهلة منذ عصر الحريم.
ولأن وجود المرأة المرشحة ليس ميزة بحد ذاته، فإن حضور المرأة الكفاحي مثلها مثل الرجل، هو الذي يعطيها تلك الميزة، أي نشاطها الذي لا يتوقف، ولا يرتبط بمواسم انتخابية وإعلانية وتجارية، بل يرتبط بوجود قضايا نذرن أنفسهن لحلها، وبوجود أهداف يسعين للوصول إليها، بغض النظر عن العقبات الماراثونية التي يضعها الوعي الذكوري الاستبدادي، لسيادته في المنزل والشارع والمجلس، وفي التاريخ المكتوب كله!
ومن هنا فإن هذا الحضور النضالي عبر الزمن السابق والراهن واللاحق هو وحده الذي يمكن أن يؤهلهن ليكن عضوات يعتمد عليهن الناس في الصراع من أجل برلمان متقدم، يقدم العمل والتعليم الحقيقي والطب الحقيقي والهواء النقى للمواطن.
وعليه فإن العملية الانتخابية يفترض أن تكون موجودة منذ زمن بعيد، في هذا الحضور النسائي للدفاع عن قضايا البيئة والسلع غير المغشوشة وضد الأجور الهابطة دوماً، وضد التمييز ضد المرأة والتي يقوم بعض النسوة للتصدي لها فعلاً.
لكن المعارك الانتخابية تحتاج إلى أكثر من هذه الأشغال الإصلاحية الصغيرة، تريد نضالاً سياسياً وسط الجمهور، تحتاج إلى الوصول إلى الحارات الفقيرة، ومعرفة دسائس المرتشين وحرامية المال العام الذين يريدون القفز على كراسي المجلس المنتخب منذ الآن، عليهن الوصول إلى النساء داخل بيوتهن والحديث معهن عن حقوقهن الضائعة، وأن يذهبن إلى مجالس الرجال ويقدمن جدولاً إصلاحياً ومسودات قوانين ضد الرشوة والإسكان السياسي، ومن أجل رفع الأجور وتطوير التعليم وتنظيف الحارات من المخدرات، والفقر والمطبات.
عليهن ألا ينتظرن وقت المعركة ولا إعلان النتائج بل أن يكون العمل لتغيير حياة الناس يسري في دمائهن، وعروقهن السياسية الوطنية، ويمكنك أن تناضلي في البرادة، والشارع والندوة، والجريدة، ومع الصديقات والمعارف والأهل، وإذا كانت لك قضية فإن الكرسي ليس مهماً بل هو وسيلة للوصول الرسمي لصياغة القرارات وتغيير القوانين، ويمكنك أن تعملي على تغيير هذه القوانين داخل وخارج البرلمان، مع أطفالك وجاراتك، وإذا كان ذلك موجوداً فإن النساء والرجال سوف يرفعونك إلى أن تواصلي المعركة داخل المجلس المنتخب.
إن الاعتماد على التيارات الأصلاحية وشق الطريق الشخصي - الموضوعي داخلها، برجالها ونسائها، هو الذي يؤهل الإنسان لأن يكون مُشرعاً .
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 16, 2019 15:28 Tags: المرأة-بين-السلبية-والمبادرة

♀النساء وقضية الأنا ⇦

لا نطرح هنا قضية المرأة بشكل عام ومجرد، بل نناقش قضية النساء اللواتي ينضممن إلى الحركة الديمقراطية والتحديثية في الخليج العربي، ومن المعروف أن صعوبة التحديث لا تتعلق بالنساء، بل أساساً بأن الرجال هم كذلك تابعون للجماعات التقليدية، وتغدو الجمعيات السياسية ذكورية غير قادرة على تكوين قوى نسائية ديمقراطية عميقة.
ولهذا فإن بروز نساء قيادات تحديثيات يواجه بصعوبات كثيرة حادة، فلكي تكون النساء طليعة سياسية واجتماعية، عليهن أن يواجهن عقبات قبلية وأبوية ورجعية في كل بيت وميدان، ومن هنا يغدو تشكل خطاب نسائي تحرري وعقلاني وذي مرونة أمرا محفوفا بالكثير من الصعاب.
كما أن بروز نساء قياديات في الحياة السياسية والاجتماعية أمر صعب، لأنه يتطلب من المرأة في هذا المجال الكثير من صفات التواضع والعمق الفكري وبعد النظر والدبلوماسية، فالمرأة هنا في موقعها القيادي تترأس ذكوراً، يرفضون ضمناً هذا التبوؤ، فلا بد أن تستند القيادة هنا على احترام كبير إلى الآخر، سواء كان امرأة أم رجلاً، قادةً أم بسطاء، رؤساء أم مرؤوسين، مالكين أم أجراء، فدون احترام المرأة القيادية للعرف العام والتقاليد الاجتماعية والسياسية، وبالتالي انخراطها في التقاليد الديمقراطية الحقيقية، وتجاهل الرؤساء و المرؤوسين والموظفين البسطاء، دون ذلك يستحيل أن تتشكل امرأة قيادية في أي موقع.
إن عدم قدرة بعض النساء على الصعود إلى موقف القيادي الديمقراطي، عبر تمتعهن بصفات الهدوء السياسي، وضبط النفس، ومهارة الأداء الإداري، يعرض الكثير من صفاتهن الإيجابية الكبيرة الرائعة إلى التغييب سواء من خلال المنافسات الإدارية أو من خلال الحسد الشخصي.
فى المجتمعات التى يهيمن عليها الاستبداد الذكوري لا يُنظر إلا إلى أخطاء المرء، وخاصة أخطاء المرأة . فيتم التغاضي عن أخطاء الذكور غير الساحقة، أما أي خطاً بسيط للمرأة فإنه يُضخم ويُبرز بشكل كبير. ولهذا فإن مسئولية المرأة الطليعية والتحديثية مضاعفة، فعليها أن تتبنى خطاب المساواة والتحديث مع الكثير من ضبط النفس ومراعاة التقاليد.
وإذا هيمنت قضية الأنا على مثل هذه المرأة، وليست المهمة التي تعمل من أجلها، فإن المشكلات الكبيرة تغدو متلاحقة على مثل هنا النموذج.
ونظراً لحداثتنا في هذه التجربة، تجربة حضور المرأة في العمل القيادي الاجتماعي والسياسي الطليعى، وندرة تكون المرأة فى هذا المجال، فإن التطرف سواء من قبل المرأة أو من قبل الإداريين الرجال، يصبُ كله في ميدان التخلف والتدهور الاجتماعي.
نحن بحاجة فى هذه الأرض الصعبة إلى الكثير من النضج، وعدم طرح مشكلاتنا وحساسياتنا الشخصية، خاصة الأنثوية المتفجرة، وبضرورة احترام تقاليد العمل بحيث تتحول المرأة إلى قيادية كبيرة، وزعيمة، ووزيرة، وهذا لا يتحقق دون ان تجمع المرأة بين تقاليد الأنوثة الشديدة الرقة، وفن المهارة الدبلوماسية والدهاء السياسي.
إن الإصلاحات السياسية البحرينية الراهنة تفتح للمرأة آفاقاً كبيرة للتطور، ولكن عليها من جانب آخر أن تطور مهاراتها السياسية والفكرية والثقافية، فقد حصل الرجال على خبرة واسعة في هذه المجالات، نظراً لعقود من السبق الاجتماعي، ووجود فرص الحرية الشخصية لهم، ولا بأس أن تصبر المرأة على اكتساب مثل هذه الخبرات وتتعلم كيف تجمع بين خصال صعبة ولكن لا مجال للصعود السياسي والاجتماعي دونها.
وليس أسوأ من خصلة معادية لهذه المكانة وفي هذه الحياة الاجتماعية ذات المسئولية العالية، من العاطفية الشديدة، وتمكن روح المزاج والفردية الكبيرة، كما أن روح الجرأة والمبادرة وخدمة الناس والتطور بحماس، أمور مطلوبة كذلك والتوفيق بين هذين الرأسين بالعقل هو الحل أو الحلال التحديثي.
تفاوت غريب في الأحكام الشرعية
ليس الحكم بحجاب المرأة إلا أحد الأحكام الشرعية المختلف عليها كثيراً والمفسرة تفسيرات مختلفة من قبل الفقهاء، ولكن هذا الحكم المختلف عليه هو من الأحكام القليلة التي فسرتها جماعة دينية بشكل وحيد وأصرت عليه إصراراً غريبا، في حين أن أحكاماً شرعية كثيرة تجاهلتها هذه الجماعة أو فسرتها تفسيراً؛ فيه شيء من المرونة أو الصمت.
فهناك الحكم الشرعي بقطع يد السارق، أو رجم الزاني وتحليل العبودية ورفض الربا، وغير ذلك من الأحكام الشرعية، التي رُئيت في ضوء جديد تم تفسيره عبر الاجتهادات المرنة والمذاهب الميسرة، حيث تشكلت قراءات اعتمدت الاجتهاد ورؤية المصالح العامة للمسلمين.
وهذا يعني وجود خط معتدل مرن توجه نحو ظاهرات اجتماعية معقدة ومركبة تشكلت في عصور سابقة، فقرأ ما هو مفيد ومتطور للأمم الإسلامية، بحيث تؤدي هذه التفسيرات الجديدة إلى عدم تخلف هذه الأمم واستغلالها .
أي لقد أخذ المشرعون المجتهدون المصالح العامة لجماعة المسلمين وأهمية أن تنمو المصارف تحت ملكية وهيمنة جماعة المسلمين هذه، أي قاموا بقراءة الأحكام الشرعية على ضوء العصر، بدلاً من أن تتوجه الفوائد وتتراكم في مناطق أخرى وتحرم الأمم الإسلامية من ثمارها، على الرغم من أن هذا الواقع غير متحقق، فلا تزال البنوك تحت شتى اللافتات العربية والإسلامية في خدمة الغرب (المسيحي واليهودي) بدرجة خاصة، فقد توجه التأويل الشرعي الجديد لخدمة
مصالح هذه الفئات الغنية المرتبطة بالرأسمال الأجنبي، دون أن يلتفت إلى غياب هذه الرساميل عن أسواق الأمم الإسلامية؛ واندفاعها نحو الأرباح العليا بغض النظر عن مصدرها.
أو مثل عدم تطبيقهم الحكم الشرعي بقطع يد السارق وتحويل القطع إلى سجن متفاوت المدة حسب طبيعة السرقة وعدد المال المسروق وما إذا كانت سرقة مخففة أو مشددة، فمن غير المعقول تماثل الحكم في سرقة قطعة رغيف وسرقة خزنة، ولكن هذا التفسير الذي راه أيضا فقهاء قدامى، لم يقرأ لماذا يسرق الفقراء أصلاً، أو لماذا تزني المرأة، أو لماذا يزوّر شخص في ورقة صغيرة وآخرٌ في أملاك الدولة.
فقد ارتبط العديد من الأحكام التفسيرية والاجتهادات بمصالح العديد من المفسرين والفقهاء والجماعات الدينية، فمناخ علاقة الفقهاء بالدول ذات الشأن هو الذي يوجه الأحكام وجهة معينة، ويبعدها عن وجهات أخرى، قد تكون ممكنة شرعياً.
وهكذا نرى أن الأحكام الموجهة ضد سرقات الفقراء على مدى التاريخ (الإسلامي) الذي حكم فيه اللصوص الحكام، كانت احكاماً رهيبة، ينتفي منها الحكم الشرعي العميق، في حين أن سرقاتهم أموال الأمة كانت لا تُذكر أولا يُركز عليها في الفقه التابع للسلطان.
ولهذا نرى حدتهم في حكم الحجاب لا يبتعد كثيراً عن هذا المناخ الذي يقوم فيه البعض بتبرير أنظمة متخلفة تجعل رجال ونساء المسلمين محجوبين عن العقل والتقدم الصناعي والاجتماعي والعلمي.
فهذا الحكم لا يسأل ماذا تعمل هؤلاء النسوة ولماذا يعيش قطاعٌ كبيرٌ منهن في بطالة وأمية وأمراض السمنة والسكري وضغط الدم، نظراً لحجبهن في البيوت، وهل بقاء المسلمات بهذا الشكل مفيد لتحرر الأمم الإسلامية من هيمنة الأقوياء؟
ولماذا نركز على الأشكال، وليس في تقوية عقول النساء وتطورهن الثقافي والاجتماعي ليجيء الحجاب الذي يحجز الرذيلة من أعماق النفس وصلابة الموقف الأخلاقي.
بل لا بد من رؤية جديدة لحياة المرأة، تجعل الفضيلة تتكون من اشتغالها واستقلالها الاقتصادي، فوجود العمل وارتفاع الوعي بشتى أشكاله هو الذي يؤسس فضيلة للمرأة كما للرجل.
يقوم ذلك الوعي الفقهي برؤية جزء مقطوع الصلة بجذور القضايا وبحركة المسلمين؛ مؤيداً أنظمة متخلفة تقوم بإحضار شتى أنواع النساء للعمل في بلاد المسلمين وتحجر على المرأة المسلمة العمل والحرية الشخصية والتطور الأخلاقي ونمو المسئولية في ذاتها، التي تأتي من صلابتها في مواجهة عالم الشر وليس في الانكفاء والعزلة والتحجب.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 16, 2019 15:27 Tags: النساء-وقضية-الأنا

♀النساء وضعف الخبرة السياسية ⇦

مثل العاملين تتعرض النساء لخداع العالم الذكوري السياسي المسيطر الماكر، وينطلي على بعضهن ذلك بسهولة، نظراً لفقدان الخبرة السياسية، وعدم التعرض لمحن السجون والتنظيمات والحُكم بذات الاتساع الذي يتعرض له الرجال.
وتعيش أغلبُ السياسيات النسائيات في عالم تقليدي، أما أن يكون شديد الحموضة أو وردياً خلاباً.
إن ضعف التفكير الجدلي، وغياب التفحص في التناقضات للمنظمات السياسية التي يسيطر عليها الذكور المحافظون غالباً، والمظلة الدينية التقليدية التي تظلل رؤوسهن، وعالم السحر الذي يؤمن به بقوة، كل هذه تمنع أن يزحن سيطرة الرجال التقليدين عن أفقهن السياسي.
ومن هنا فإن إيمانهن بالدجل الديني والقومي يكون كبيراً، فرغم أن أغلبية العالم الحديث قد أعلنت قطيعتها مع الأنظمة والتنظيمات الشمولية والدينية الشرقية نظراً لسوء دور هذه الأنظمة ليس فقط في غياب الديمقراطية ورفضها للوطنية والعقلانية بل كذلك لدورها في استغلال النساء الجنسي بدرجة أساسية، إلا أن هؤلاء النسوة لهن حب جارف لهذه الشبكة العنكبوتية من المتخلفين العاجزين حتى عن اللحاق بأنظمة الاستغلال السيئة الغربية أو عن فهم عظمة الإسلام.
لكن هذا ليس عجيباً إذا عرفنا أن الأنظمة الشرقية ابعدت النساء طويلاً عن ميادين العمل الإنتاجية، منذ أن كن رقيقاً وجوارٍ وربات بيوت ممنوعات من الخروج ومتخصصات في المطابخ والأسرة ورواية الخرافات للأطفال.
وحتى عندما جاءت التجاربُ الحديثة والتأثراتُ بالحداثة فإن التنظيمات والدول السياسية الشرقية لم تعترف بالنساء مشاركات في هذه التجارب، وعرقلتْ دخولهن إلى ميدان السياسة طويلاً، لأن هذا الميدان يكشفُ للنساء المعسكرات الاجتماعية بدقة ويدخلهن حومة الصراع من أجل حقوقهن المغتصبة على مدى القرون.
كانت التنظيماتُ الذكورية السياسية المحافظة عموماً تحول الصراع مع السلطات الاستعمارية والتابعة كصراعٍ مجرد، كانت كلمات مثل(الحرية الوطنية)، و(سقوط الاستعمار)، و(سيادة الشعب أو الأمة)، شعارات عامة، كأن لا دخل لها بخروج المرأة للعمل، أو منع الزواج والطلاق التعسفيين، شعارات ظلت بعيدة عن مطبخ المرأة الذي تحترق فيه وتملأ الغازات دواخلها وتجعلها الولادات المستمرة كائناً لا وجود له في الوقت الذي تصنعُ فيه الوجود.
وعندما تجسدت بعضُ الأنظمة الوطنية العربية وحققت للنساء بعضاً من المكاسب المحدودة، وخلقتْ بعضَ القوميات والرائدات، كانت أغلبية النساء في جهل وأمية، وحين عصفت الزوابعُ بهذه الأنظمة نظراً لعدم جذريتها في التغيير الاجتماعي، وخاصة ما تعلق بالنساء والعاملين، جاءت أنظمة دينية اسوأ، وحتى بعض الحريات التي حققتها النساء في الزمان القومي التحرري، جرى اختطافها من قبل الدينيين المعادين بقوة لعالم المرأة الحر.
ليس لشيء سوى أن آلة الدولة الدينية أكثر استغلالاً وأقل حداثة.
وقد أصيبت نسوة بخيبة أمل حين لم تدافع بعض القيادات الدينية عن حقوقهن، نظراً لتخلف هذه القيادات عن فهم الإسلام والعصر، وطالبتهن بالخضوع للقوانين المتخلفة المتعلقة بالزواج والإرث وحقوق الأسرة عامة، واتضح أن هذه القيادات لا تختلف عن قيادات الدول الرجعية.
وينطبق على هؤلاء النسوة ما ينطبق على الرجال الحداثيين غير المطلعين على تاريخ أمتهم، فهم يريدون الايجابي المنجز المستورد من الغرب، وليس الذي يناضلون له داخل واقعهم الإسلامي العربي الخاص، أي أن عليهم أن يقاموا المحافظين في السلطتين السياسية والدينية، بكافة المنجزات التي تحققت في النصوص والتجارب العربية والعالمية، ويشقوا لهم طريقهم الحر الخاص.
فغلبة المحافظين عليهم تأتي من توظيفهم نصوص الدين التي يجعلونها قيوداً للمسلمين ويأولونها كيفما شاءت مصالحهم، وليس في مسارها الموضوعي.
تشعر أغلبية النسوة السياسات بالتضاد مع أحكام الدين كما يترجمها المحافظون، الذين يمسكون سلطة تفسير النصوص، وأقلية من النسوة لا تحس بذلك خاصة في مجال السياسة العامة، فالمحافظون يظهرون هنا في هذا المجال المجرد بأنهم قيادات حرية وطنية، لكن ما نفع أوطان حرة ونساؤها مستعبدات؟
أليس تخلف النساء والجور عليهن وإنتاجهن أطفالاً معوقين حضارياً هو فتح الباب مجدداً للسيطرة الخارجية والداخلية؟
لا تستقيم الحرية في الشارع وتـُمنع في البيوت.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 16, 2019 15:26 Tags: النساء-وضعف-الخبرة-السياسية

♀ نضال النساء في البحرين ⇦

أتاح نظام الإنتاج التقليدي في الخليج والجزيرة العربية إمكانيات متعددة لكي تشارك النساء في العمل، وكانت الحياة البدوية تتطلبُ قيامَ النساءِ بأعمالٍ كثيرة، ولم تكن البيوت سوى خيام وكانت الحياة الاجتماعية إنتقالية.
ولم تتأسس الهيمنة الذكورية المتشددة إلا في القرى والمدن، التي عرفتْ حياةً إجتماعية محافظة مستقرة طويلة، وخاصة في بيوت الفئات الوسطى والغنية.
وأعطى نظامُ الغوصِ كنظامٍ فريد من الإنتاج البشري أربعة شهور لكي تقوم النساء بدور التحكم الواسع في الحياة العملية الضرورية. فالمرأةُ بالإضافةِ إلى إشرافِها على المنزل، تقومُ بمهمام العمل الضرورية من إستكمال مهام الزرع والصيد والأعمال البحرية، وحين يأتي الرجال من موسم الغوص تعود النساء لأعمال البيوت.
وفي مجال الفنون الشعبية ذات الأهمية الجماهيرية قامت النساءُ بدورٍ بارز.
لم تجرِ دراساتٌ محددةٌ بهذا الشأن فهذا نمط عام، لكن من المؤكد بأن النقصَ الكبير في قوة العمل الإجتماعية لغياب الرجال والشباب، يستدعي إنتشار العمل النسائي، ولكن كان هذا نمطاً عاماً عبر التاريخ، وما الغوص سوى ظرف إستثنائي، ثم أنه لا يلغي هيمنة الرجال على النساء، ولا يزيل ظروف الإستغلال والسيطرة، وهي نمط ضروري لقرون، بسبب تقسيم العمل ونظام المُلكية، ويمكن أن تنشأ فيه كذلك علاقاتٌ طيبة بين الرجال والنساء، حسب طبيعة كل أسرة ومواقف أفرادها، ويغدو شكلاً من أشكال الحماية الإجتماعية حيناً وشكلاً للهيمنة والأنانية حيناً آخر، قوة بناء للأفراد أو نسيجاً مهلهلاً للآفات.
لكن إنهيار نظام الغوص الذي سبب تراجع مكانة النساء عامة ونساء الريف خاصة، ترافق مع تنامي السيطرة البريطانية التي عوضتْ بعضَ الشيء في مجال حقوق النساء، فهي سيطرةٌ مدنيةٌ بحاجةٍ إلى تطورٍ للتعليم وللخدمات المختلفة، وهذه تحتاج إلى حضور النساء في المدن خاصة.
بدأ التعليم الذكوري أولاً وأخذ يتوسع ومنذ سنة 1928 ظهرت أول مدرسة للبنات، مقتصرةً لحد الصف السادس الإبتدائي الذي كان ذا قوة تعليمية كبيرة، ومن خريجاته ظهرت قيادات نسائية.
وقد ترافق مع هذا نشؤُ فئاتٍ وسطى من التجارة فظهرت نزعةٌ ليبرالية دعمتْ هذا التحرر المحدود لنساء المدن. فكان تنامي أعداد النساء في التعليم يترافق مع ظهور الأندية وهي التجمعات الفكرية الاجتماعية المحدودة المسموح بها وقتذاك، مع بعض الحرية الصحفية الأكثر محدودية والتي تقدمُ بعضَ متنفساتِ الحرية الشخصية وليست الاجتماعية والسياسية للعائلة المتوسطة.
كان طابعُ الموادِ الأدبية والمنزلية المقدمة في التعليم، وإستمرارُ العائلةِ الأبوية التقليدية، وديمومةُ قوانين الفقه القديمة، وضعفُ حركة التحرر الوطني المحلية، لا تجعل من الممكن تطور وعي النساء الديمقراطي بسهولة، وعلى العكس فإن حركةَ التحرر الوطني تشكلتْ من خلال رؤى فكريةٍ ذكورية تقليدية غالبة، وكانت المجابهةُ مع الإستعمارِ تُعمَّم حتى في مجالِ رفض الديمقراطية الغربية، فتجعلُ الصراعَ مع الراهن المتخلف بصورةٍ سياسية شعارية تختزلُ الحريةَ الوطنية في حريةِ الذكور، مما إنعكس على تخلفِ حركة التحرر هذه وضخامة الشمولية الذكورية داخلها.
ولهذا فإن الأنواعَ الفكريةَ والأدبية التي نشأتْ بخفوتٍ منذ الأربعينيات لم تشهدْ حضوراً نسائياً، إلا بشكلٍ فردي إستثنائي في الخمسينيات ولم يكن لها تأثير لطبيعة المستوى وغياب التواصل. لكن تنامي حركة التحرر وجذبها لأغلبيةِ السكانِ فكك العديدَ من الأسوار الإجتماعية في المدن، لينتظر الريف الوقت الراهن ليقوم بتحرره الإجتماعي الواسع.
كانت الحياةُ التحديثيةُ التي شكلها الإنكليز هي بحدِ ذاتِها تخلقُ حرياتٍ موضوعية في البلد، كتنامي الإهتمام بالصحة ومقاومة الأمراض التي أدت إلى ظهور مهنة التمريض النسائية، وإلى إنتشار الأسواق الحديثة والاهتمام بالأزياء المعاصرة، وإلى ظهور دور السينما التي خصصتْ يومين للنساء، وكان ذلك مظهراً إنفصالياً لكنه كان مؤثراً في نشر الاهتمام بالفنون والثقافة لدى النساء والعائلات بشكل عام.
بصعوبةٍ كبيرة تنامتْ عناصرُ الحرية الاجتماعية والسياسية في حياة النساء البحرينيات، لقد أعطى التعليمُ بعضَ الحراك الاجتماعي للنساء عبر المعرفة، وبدأت الحياة السياسية تدفع مجموعات صغيرة من النساء للمشاركة سواء في التصويت في إنتخابات الخمسينيات أم في مظاهراتها، ثم حلتْ فترةٌ من الجمود الإجتماعي بين الخمسينيات والستينيات، كان يجري فيها حراكٌ متوار، وسادت الأعمال ذات (الطابع الخيري).
لقد نشطّتْ الفئاتُ الحديثة والمنظماتُ السياسية السريةُ الوعيَّ الاجتماعي، فتنامت تلك المشاركة النسائية النخبوية، وتجسدتْ المشاركةُ النسائية بتشكيلِ الجمعيات في مختلف المناطق، متدرجة من الأشكال البسيطة من المشاركة الإجتماعية إلى بروز الأهداف السياسية، وهو أمرٌ يعكسُ حجمَ القيود التي لا تتكبلُ بها النساءُ فقط بل الرجال كذلك. ولهذا فإن عمليةَ النضالِ الديمقراطية مشتركةٌ متداخلةٌ متصاعدة بين الجنسين.
‬ظهرتْ الجمعياتُ النسائية بالصورة التاريخية التالية: ‮ ‬جمعية نهضة فتاة البحرين‮ ‬تأسست عام‮ ‬1955‮،‮ ‬وجمعية رعاية الطفل والأمومة‮ ‬تأسست عام‮ ‬1960‮‬،‮ ‬وجمعية أوال النسائية‮ تأسست عام‮ ‬1970‮،‮ ‬جمعية الرفاع الثقافية الخيرية‮ ‬تأسست عام‮ ‬1970‮،‮ ‬جمعية فتاة الريف‮ ‬تأسست عام‮ ‬1970‮،‮ ‬وجمعية النساء الدولية‮ تأسست عام‮ ‬1974.‬
يعبر هذا النمو التاريخي عن حراك الوعي الاجتماعي العفوي من قبل النخب النسائية المتعددة المواقع والإتجاهات لتغيير وضع النساء بشكل متنوع، أغلبه جزئي، أولاً عبر التنوير الثقافي وتغيير جوانب من الحياة الاجتماعية ثم عبر ظهور الوعي السياسي، أي بربط قضية تطور النساء بالحريات العامة، وهو شكلٌ أضفتهُ في السبعينيات الناشطات في المنظمات السياسية.
وبدلاً من الأهداف العامة غير الواضحة بدأتْ اللغةُ السياسية للمنظمات السياسية تدخلُ حيزَ التفكير الاجتماعي للنساء، فظهرت أهدافٌ جديدة هامة وهي: مساواة المرأة والرجل في‮ ‬كافة الحقوق والواجبات‮، و‬مساواة المرأة العاملة والمستخدمة للرجل من حيث الأجور والإجازات ورعاية الأطفال وحقوق الأمومة وغيرها، و‬سن قانون للأحوال الشخصية،‮ ‬يأخذ بعين الاعتبار المكاسب التي‮ ‬حققتها المرأة في‮ ‬العديد من البلدان العربية والأجنبية‮.
إن تحول هذه الأهداف‬ إلى نضال عملي هو أمرٌ شديدُ الصعوبة على مستوى العقود السابقة، فهذه يتطلب قوة إنتاج نسائية كبيرة، لكن كان نمو العمل النسائي محدوداً ففي النصف الثاني من 1965 كان عدد البحرينيات الموظفات يبلغ: 995، ووصل في عام 1971 إلى 8418 إمرأة.
وفي العقود الأخيرة بدأت هذه الأرقام تتغير:
( ارتفعت معدلات مساهمة المرأة في القوى العاملة فبلغت 25.9 في المئة حيث وصل عدد القوة العاملة النسائية 32769 نسمة. وتشير إحصائيات عام 2001 إلى إرتفاع نسبة العاملات في القطاع الخاص الى48.61 في المئة من مجموع العاملين وهي نسبة مساوية تقريباً لنسبة العاملات في القطاع الحكومي. وتشير دراسة قامت بها باحثة مصرية إلى أن نسبة العمالة النسائية تبلغ 32% بالنسبة لتعداد السكان بالبحرين.
هذا التطور العملي تضافر مع تطور ثقافي متصاعد:
(في العام 2001 سجلتْ المرأةُ الحاصلةُ على تعليمٍ ثانوي فأعلى نسبةَ: 70.15 في المئة من إجمالي عدد النساء مقابل 69.96 في المئةِ من الرجال. كما فاقتْ نسبةُ النساءِ الحاصلاتِ على مؤهلٍ جامعي (بكالوريوس/ ليسانس) نسبةَ الرجال حيث بلغت 14.34 في المئة مقابل 13.03 في المئة للرجال. وفي العام ذاته بلغ إجمالي الحاصلات على مؤهلٍ جامعي عال(الماجستير والدكتوراه) 765 امرأة مقابل 2072 رجلاً. كما انخفضتْ نسبةُ الأمية بين النساء إلى 17 في المئة.).
جرى هذا التطور بشكل بطيء وصعب وأخذ عقوداً طويلة، لكون التعليم حتى الإبتدائي للنساء لم يكن سهلاً، ومن ثم فإن الارتقاء للتعليم الجامعي بهذا الشكل الواسع كان أكثر صعوبة، إضافة للنمو الأكثر إشكاليةً الذي يتكون في ميدان العمل الذي تصاعد في الوظائف المهنية ثم بشكل أقل في مراكز الإنتاج الصناعي.
لكن كل هذا التطور الذي قاومهُ الرجالُ المحافظون والقوى الاجتماعية القديمة والقوانين العتيقة في المذاهب والنظام السياسي، لم يُنتجْ ثماراً كبيرة على النساء في الحقوق الاجتماعية والسياسية، بسبب سيطرة المفاهيم المحافظة على وعي النساء أنفسهن، وقلة النخب النسائية المقاتلة في هذا السبيل، وهيمنة الوعي الذكوري الشمولي في المنظمات السياسية كذلك.
تعتبر جمعية فتاة الريف عن المعاناة الرهيبة التي تعرضتْ وتتعرضُ لها النساء البحرينيات في أدغال الحياة الاجتماعية عموماً وفي غابة الريف خصوصاً.
(‬سرن في‮ ‬درب مليء بمشاهد التحدي،‮ ‬فكنّ‮ ‬ينتزعن الشوك ويوزعن الورود،‮ ‬ويصافحن المرأة البحرينية الأمية ويصنعن منها إنساناً‮ ‬يجيدُ القراءةَ والكتابة ويفكُ طلاسم الحروف ويتقن الحساب،‮ ‬كن كفراشات الحديقة،‮ ‬يتنقلن في‮ ‬أرجاء حدائق الوطن،‮ ‬لينتزعن بعد‮ ‬30‮ ‬عاماً‮ ‬من الحضور والتجوال والنشاط في‮ ‬حقول العطاء وغابات الإنجازات الخالدة صكَ إعترافٍ رسمي‮ ‬بشرعية‮ ''‬ممارسة الدور‮'' ‬وحق‮ ''‬أداء الواجب‮''‬،‮ ‬وهن اللواتي‮ ‬ظفرن بالنصر مبكراً‮ ‬جداً‮ ‬يوم تغلبتْ فيهن إرادةُ التطلعِ والتحرير على صخورِ الممانعات والحواجز الإسمنتية التي‮ ‬كانت تتخذُ أشكالاً‮ ‬عدة،‮ ‬حتى لقد طوى المناصرون عنهم كشحاً‮ ‬مخافة الإدانة والغمز واللمز وإلصاق التهم والتصنيفات الجاهزة‮). ‬
هذا الكلام الرقيق الشاعري يحتاج لرؤية تضاريس الواقع الحقيقية اليومية، ولنأخذ بعض اللمحات السريعة حول هذا الواقع. في سنة 1960 جاءت باحثةٌ من الدنمارك لتعاين وضع النساء البحرينيات في الريف، وأختارت إحدى القرى من أجل هذا البحث الميداني، ولم تُقبل الباحثة بادئ ذي بدء فهي إمرأة ثم هي مسيحية، ثم أنها سوف تعيش لوحدها في منزل، لكن الترتيبات العليا ذللت هذه العقبات.
ودراسة الباحثة هني هنسن واسعة فهي تتعلق بالتقاليد الدينية والاجتماعية ولكن ما يهمنا هنا حركة النساء وحقوقهن، وتقول بأن النساء هن ممنوعات من الخروج من حدود القرية إلا بأذن الرجال، ويلبسن (المشمر) وهو لباس يغطيهن بشكل كامل، فالقرية تغدو مكان عزل النساء. وخروج المرأة من القرية يحتاج إلى محرم وهو الرجل سواء كان الزوج أو الأخ. وتستطيع المرأة أن تنتقل داخل القرية لتزويد الأسرة بإحتياجاتها من الخشب والماء من أجل الطهي. لكن هذا التحرك تقلص بسبب بدء توصيل خدمة المياه للبيوت. لكن نظام العزل بما يصاحبه من أمية وغياب التعليم والحقوق لم يمنع النساء من إيجاد مجتمع خاص بهن، عبر الإنغماس في الظاهرات الدينية وتكوين إحتفالات خاصة بهن عبر أجواء الحكي والشعر، (سار الستينيات: المرأة في قرية سار البحرينية بعيون هيني هنسن الدنيماركية، بقلم د.عبدالله يتيم).
ليس ثمة شيء اسمه الحقوق النسائية حينئذٍ، لكن الهيمنة الذكورية الكلية، والهيمنة السياسية الحكومية العامة، لم تمنعا عملية التحرر الرجالية النسائية المشتركة، فقد كان النظام الزراعي في طريقهِ للتفكك، من حيث هو علاقات إنتاج، ومن حيث هو نظام أبوي، فالاقتصادُ الحديث جذبَ الشبابَ، وهؤلاء لم يغيروا الهيمنة الذكورية لكن بدأت هذه تتزحزح لأن هذه الأجيال بدأت تتغير قليلاً مع عملية الإنفتاح. وقامتْ موجاتُ التعليمِ الذكوري أولاً ثم النسائي بعد ذلك بسنوات، بزحزحةِ تلك القيود الواسعة قليلاً في نظامِ الأسرةِ الأبوي المطلق، الذي لا يعرفُ الديمقراطيةَ في علاقاتهِ الداخلية من حيث سيادةِ طرفٍ وتمتعهِ بأغلبِ الحقوق والإمتيازات، وغياب هذه الحقوق عن الطرف الآخر.
لم تستطع الحركاتُ الديمقراطيةُ السياسية أن تتغلغلَ في الحياة الاجتماعية خاصة الريفية منها، وقد لمنسا بعض اللافحات الحارقة لدى جمعية نهضة فتاة الريف، فهذه الحركاتُ ضعيفةٌ عموماً هنا، وتلعب المظلةُ الدينيةُ المحافظة دورَها في تكييف العلاقات الاجتماعية لمصلحة الذكور عبر الإرث الديني وأدلجته من خلال أصواتها.
كانت القوى السياسيةُ الحكوميةُ والمذهبيةُ المحافظةُ تعملُ معاً في سنواتِ السبعينيات التي بدأتْ تلوحُ فيها بوادرُ تغييرِ القوانين السياسية والاجتماعية بعد الإستقلال، فكان الأتفاقُ على مجلسٍ وطني منتخب، وعلى حق المواطنين في الإنتخاب، لكن كلمة(المواطنون) هذه تم الأتفاق على أنها تعني (الرجال) فقط من قبل التيارات الحكومية والدينية. فحدثت الإنتخاباتُ الأولى الحديثة في البلد مع تغييبِ دور النساء، وكانت التياراتُ الحكومية والدينية الريفية خاصةً تمتلكُ الأكثريةَ لفرضِ قرار التغييب ذاك.
إن عناصرَ الوعي الديمقراطي الوطني توقفتْ هنا بحلِ المجلس الوطني، ثم بتضخمِ دور الحكومة السياسي وثقلها الإقتصادي شبه الكلي، فتدهورتْ تلك العناصرُ الديمقرطيةُ بشكلٍ واسع بعد حل المجلس وسيطرة قانون أمن الدولة، وهي أجواءٌ عاشتْ فيها بقوة وتوسع القوى المحافظة المذهبية، مما أدى إلى تدهور حقوق النساء بشكلٍ أكبر من السابق، وتدهورت عناصرُ الوعي الوطني البحريني عموماً، بدلاً من بوادر تناميها التي لاحت مع الومضة الديمقراطية الوطنية العامة في بداية السبعينيات.
وحتى في أثناء الومضة الديمقراطية السبعينية فإن حركات النساء لم ترضخ للتصور الذكوري المهيمن العام، فتقدمت جمعيتا النهضة وأوال النسائيتين بعريضة ترفض ذلك التغييب وتفسير مصطلح المواطنين على أنهم الرجال فقط!
أدت فترةُ التغييبِ الديمقراطي السياسي، إلى مضاعفاتٍ على القوى الشعبية التي تعاني أكثر من غيرها وهي العمال والنساء. فانتشرتْ التفسيراتُ المحافظةُ الشموليةُ للإسلام، فتراجعتْ مستوياتُ الجماعاتِ النسائية وقبلتْ بالعديدِ مما كانت ترفضهُ سابقاً من علاقات زوجية وإجتماعية وفكرية.
كان بروزُ الحركاتِ الدينيةِ ذا جانبين متعارضين، فهو يؤدي لحراكٍ سياسي إفتقدهُ المجتمعُ بسببِ القوانين المعرقلةِ للحريات، ولكنه في ذات الوقت يعيدُ المجتمعَ من حيث الوعي السياسي للوراء، فيحدثُ تقدمٌ من خلال آراءٍ محافظةٍ متخلفةٍ على أصعدةٍ مختلفة.
لقد إنضمت نساءٌ كثيراتٌ لهذا الحراكِ السياسي الديني، الذي كان الشكلُ الوحيدُ من الوجود الإجتماعي في زمنِ قانونِ أمن الدولة، وبرزَ هذا الشكلُ بقوةٍ بعد زوال هذا القانون وبدء التغيير على صعيد الحكم.
لقد عبّر الميثاقُ الوطني عن محاولةِ إستعادةِ التوازن بين الاتجاهاتِ التحديثية والاتجاهاتِ الدينية المحافظة، وعن إعطاءِ الفرصِ مجدداً للتوجهاتِ الوطنية والعصرية لتعيدَ علاقاتها بالجمهور، لكن المؤسسات السياسيةَ المنبثقة عن هذا التحول السياسي من برلمان وبلديات عكستْ مستوى الوعي المشلول للعقودِ السابقة، الوعي الذي فصمَ وحدةَ الشعب، وأعاد مسائلَ سياسية وإجتماعية تعودُ للعقود الأولى من القرن العشرين في البلد. هذا كان تعبيراً عن أن التراكمات الديمقراطيةَ التحديثيةَ المضروبة لم تستطعْ أن تنمو عبر قوى سياسية ذات حضور جماهيري.
لقد اكتشفَ العمالُ والنساءُ خاصةً هذا التناقض على الأرض الاجتماعية السياسية. هذا التناقضُ يجعلُ من النساء، وهم هنا بؤرةُ القضيةِ، قوةَ تصويت لا غير، أي قوة دفع للمرشحين الرجال المحافظين، الذين لن يناضلوا من أجل قضاياهن. وهكذا فحين تحقق الحضورُ الديني المذهبي السياسي في المؤسسات المُنتخبة، لم تُطرح قضايا النساء وحقوقهن.
لقد اتخذ القوسُ المذهبي السياسي الاجتماعي دائرةً ضمتْ قوى خضعتْ للوعي المحافظِ السياسي وأجندتهِ في العديدِ من الدوائر الاجتماعية، فركزت على الصراع السياسي المجرد، وهو صراعُ نخبٍ ذكوريةٍ يمينية للوصولِ إلى المناصب السياسية والهيمنة على الجمهور لطرحِ مشروعٍ مذهبي تقسيمي للشعب، وبالتالي للعمال والنساء.
من هنا صُدمت القطاعاتُ النسائية (الطليعية) من التناقض بين أقوالِ الرجال السياسيين وأفعالهم، بدءً من شطبهن من القوائم ثم هيمنة الرجال المطلقة على المقاعد، ثم تنحية قضاياهن وتركها في الظل.
هذا أدى إلى تفعيلِ نشاطِ النساء المستقل وجعلهن ينتبهن لكونهن إستخدمن كأدوات.
وبدايةً كانت التحركاتُ من الشارع هي الأكثرُ إشعالاً للموقف النسائي فيما سُمي بلجنة العريضة النسائية، وطُرحت فيها العديدُ من المطالب الرئيسية والملحة والقضايا النسائية المستقلة التي تؤرقُ جمهورُ النساءِ كقطاعٍ له مشكلاته الخاصة كذلك.
كانت صرخةُ النساءِ مدويةً بتناقض ممارسة الرجال المحافظين: (إن الوعودَ الإنتخابية التي قطعها عددٌ من المرشحين للبرلمان تبخرتْ بعد أن نالوا عضوية المجلس)، وبعدها عادتْ النساءُ لطرح قضاياهن البسيطة بعد ذلك التحليق العالي، فكانت قضيةُ إصدار قانون للأحوال الشخصية أهم هذه القضايا. إن سيطرة الاتجاهات المحافظة على النساء وعلى أحوالِ الأسرةِ هي الاتجاه الغالب عبر التاريخ الديني الإسلامي بعد أن تركَ رجالُ الدينِ الصراعَ مع الحكومات الفاسدة، وتخصصوا في الهيمنةِ على النساءِ والثقافة الشخصية للمسلمين. ويغدو تحررُ النساءِ في تصورهِم هدماً للعائلة، وليس تطويراً لها من الظلماتِ الاجتماعية ولضرورةِ مراقبة أنانيات الرجال لبناء عائلة سليمة حقاً. ومن هنا كان إيجادُ قانونٍ موحد للأحوال الشخصية يمثلُ تحولاً نضالياً وطنياً ديمقراطياً بحرينياً. لكنه تحولَ إلى شقين مما عبّرَ عن مستويين مختلفين لوضعِ النساء وعن إشكاليةٍ حقوقية وطنية وعن العجز من توحيد الحركة الديمقراطية السياسية البحرينية.
حتى إصدار قانونٍ موحد عجزتْ عنه الحركةُ النسائية، فبدا تخلفها رهيباً هنا، وعادت لقضايا الدفاع عن الحقوق العامة والتفصيلية للنساء كالعمل ضد إلغاء أشكال التمييز الموجهة ضد النساء، وتغيير طابع المحاكم والقضاة في شؤون العائلة المختلفة، والدفاع عن حقوق المطلقات وغير هذا من قضايا.
قيامُ إتحادٍ نسائي يمثلُ وحدةَ النساء في البلد كان خطوةً على طريق بلورة إرادة سياسية للمرأة، كما كان قيام المجلس الأعلى للمرأة خطوة إصلاحية أخرى كبيرة على الصعيد الرسمي، لكن مستوى حضور النساء في الإنتاج، وفي المنظمات السياسية، وفي التنظيمات النقابية، وفي الحياة الاجتماعية الفكرية عامة، الأقل بكثير من أعدادهن في المجتمع يشيرُ إلى أن إنتزاعَ الحقوقِ النسائية لا يتمُ من خلال نُخبٍ صغيرة ومن خلالِ نساءٍ نادراتٍ يصلن إلى المجالس المنتخبة رغم أهمية هذه الخطوة، لكن يحدثُ ذلك من خلالِ حضورهن الاجتماعي السياسي الكبير في مختلفِ أوجهِ الحياة، بالدفاع عن مطالبهن الخاصة، ومطالب التغيير الوطني الديمقراطي العام كذلك.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 16, 2019 15:22 Tags: نضال-النساء-في-البحرين