عبـــــــدالله خلــــــــيفة : ثقافةُ الديمقراطيةِ المتكسرة
أفـــــــــــــــــــــــــــق
في زمنيةِ الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين يجري محلياً (وعربياً بشكل ما) تصدع وعي الديمقراطية العربي في السياسة والثقافة ويأتي ذلك بشكل أساسي من تهافت اليسار، فاليسارُ هو الذي يلعب الدور المحوري في تشكيل الأنواع الفكرية والثقافية الوطنية، لأنه يقود التقدم في البلدان النامية.
الانهيارُ الاشتراكي في المركز يكونُ غير واضح، لكن بعض أجندتهِ نجدُها في الصراعاتِ بين أنواع اليسار، فظهور اليسار الطفولي المزايد هو من الجوانب الرئيسية يظهر في بدء إنهيار هذه الثقافة.
تُطرحُ في الجدالات السياسية مزايدةٌ على طرق النضال، ويعلو صوت البندقية الزائف، حيث لا نار ولا دخان، وفجأة تنتشرُ صورُ جيفارا وماو وكاسترو، تغدو هذه الصور لدى اليسار الطفولي ضباباً فكرياً لضرب العقلانية، ولتصعيدِ جملٍ نارية، ويجري الإستهزاء بالطرق العقلانية في النمو السياسي، وما يترتبُ عليها من تحليلاتٍ فكرية للواقع، والغوص في تاريخه، وإكتشاف البنية الاجتماعية له.
يجري النقاشُ حول طرق النضال بأشكالٍ حماسية غير عقلانية تبطنُ رفضَ طرق التحليل الموضوعية، وهذا ينعكس في هلامية الأشكال الفكرية والأدبية والفنية التي تتجمد عند ذلك الصراع السياسي السطحي.
حين نقرأ القصص والقصائد والمقالات نجدُ هيمنةَ التسطيح، والتوجه للموضات الأدبية الفكرية الغربية معاً، مثل تدفق الأشكال السريالية واللامعقول ويتحول هربرت ماركوز إلى مفكر نموذجي ليسار المغامرة، وتحصل الوجودية والبنوية على مؤيدين مهمين.
كان هربرت ماركوز يركز على المجتمع (الصناعي)، وبهذا الشكل المجرد يتمكنُ من تلافي تحليل قوانين المجتمع الرأسمالي الغربي، وتغدو ثيمة ماركوز وجيفارا وماو هي بحد ذاتها موترةً لليسار (السوفيتي) وإبتعاده عن قراءات التحليل الموضوعية الأكثر نفاذاً في تجارب رأسماليات الدول الشرقية التي لعبتْ أدواراً في تأجيج الجمل الثورية ثم في كسرها.
عزف اليسار الطفولي على التطرف يقابلهُ فقرٌ في التحليل والإنتاج الفكري والانتاج الإبداعي عامة، فكان اليسارُ بشقيه يمثلان ضرباً ضد نمو العقلانية وتحولها لتحليلات موضوعية للواقع.
كان ذلك في مصلحة الأبقاء على السطحية في الوعي والعفوية والانتقائية، ومن هنا لائمتْ المقالةُ القصيرةُ هذا الوعي المسطح، التي تتحول في السر إلى بيانات زاعقة، تفتقد عمق السياسة البعيدة المدى.
كما يحدث الآن لورثةِ هذا اليسار المتعثر في أشراكِ الشموليات أي للمذهبيين السياسيين، الذين يعجزون عن دراسة الإسلام وسيرورته التاريخية، وأكتشاف آفاق تطور الأمم الإسلامية فتغدو لديهم المقالة القصيرة الانتقائية الهزيلة الوعي منشوراً زاعقاً في حالة الرافضين وبخوراً حارقاً لدى غير الرافضين، بسبب الرغبة في الحصول على مكاسب سياسية وإجتماعية سريعة.
ووجود هذين الصنفين المذهبيين السياسيين من الوعي المتضادين، والمتماثلين في جوهر سطحيتهما، وبروزهما يعبر عن الاستمرارية في تكوينات الوعي السطحي لدى البرجوازية الصغيرة المتعلمة مع تبدل البنية الاجتماعية. فالخطابُ اليساري السطحي يتلوهُ خطابٌ مذهبي سطحي.
في سيطرة المقالة القصيرة والمنشور وغياب الكتاب التحليلي والأنواع الواسعة من الأدب كالرواية والمسرحية والدارسة النقدية، صفة مشتركة، فهؤلاء المنتجون العجولون هم أناسٌ لا يزرعون بعمق ولكن يريدون ثماراً سريعةً باهرة.
رأسُ المالِ الصغير هذه هي عاداتهُ التاريخية، سواءً في الماركسية وهي تأخذُ أشكالاً طفولية تختزلُ تعقيدَ الاقتصادِ والطبقات وتريدُ القضاءَ بلمح البصر على التشكيلة الرأسمالية العالمية، أو في الوعي الديني وهو يأخذُ قسماتٍ طائفيةً ويتبعُ دولاً شمولية ويريد سحق الأنظمة بمفرقعات الأطفال أو بحلبها وتكوين رأسمال طفيلي ويصير شركة إسلامية مقفلة.
رأس المال الكبير لا يشارك في عمليات إنتاج الوعي والثقافة ويبقى في بنوكه وشركاته الكبيرة ليكون رأس المال العابر للحدود، والذي يعيشُ حالاتٍ دينيةً شكلانية خاصة في المجتمعات الاسلامية غير الديمقراطية.
من هنا فإن اليسارَ المغامرَ بصراخهِ المستمر كان يعطل التحليل، واليسار السوفيتي كان يردُ في حدودِ التقليديةِ النظرية المحنطة في المركز.
في الدول العربية الأخرى ذات الثقل السكان بخلاف دول الخليج يتمكن النتاج الثقافي من النمو الواسع، لكن الفكر النظري التحليلي الكاشف لمسارات التطور هو في حالةِ موت سريرية، والنماذج النادرة متأثرة بمناخ تشويه الأفكار الكبرى التقدمية.
وحين ينهار اليسار فكرياً وسياسياً ينهار الهيكل العظمي للوعي العميق، حيث أخذ هذا اليسار الشرقي على عاتقه أن يكون طليعة للعمال وحفار قبور للرأسمالية معاً، وهي مهمتان مستحيلتان في التاريخ القريب لأن كل مهمة ضد الأخرى.
إنها لغةُ محفوظاتٍ لم تعد قادرة على الفهم والتحليل، وأصبحت مشوشة أكثر فأكثر نظراً لفقدان البوصلة، وصارت التطورات غير مفهومة بالنسبة لها، وحالات الضياع هذه ستطلقُ لغةً ليبرالية إنتقائية مصلحية، أو لغة يساريةً إنتهازية.
إرتبطتْ الثقافةُ البحرينية بقوةٍ بالتيارات السياسية وربما بشكلٍ ميانيكي مباشر، بسبب محدودية البناء الثقافي.
إرتبط تطور الوعي السياسي بالحقبِ الاجتماعية، فالوعي اليساري البحريني نشأ في ظلال تدفق منجزات الليبرالية البسيطة لهيئة الاتحاد الوطني، ولم تستطع هذه الاستمرار بأن تجذر المستويات الثقافية البسيطة التي نشأتْ معها وواصلتها هي.
منذ حراك الاربعينيات حتى الاستقلال إنتعشتْ الأفكارُ الليبرالية بدون جذورٍ عميقة، ونستطيع أن نقول بأنها ثمارُ أصحاب ومثقفي الوكالات التجارية، هؤلاء الذين كانوا بداية البرجوازية التي إبتعدتْ عن النتاج الفكري السياسي، وكان حريق الخمسينيات الناصري قد وضع حداً لتطورها نحو الليبرالية والديمقراطية.
وجاء اليسارُ السوفيتي واليسار الماوي وحركةُ القوميين العرب لترثَ بقايا الجمهور المتحمس للحركة الوطنية. اليسار هو العمود الفقري للمرحلة بسبب ما يمتلكه من منهجيةٍ فكريةٍ تحليلية للواقع والاقتراب من بعض جوانبه الموضوعية، التي تمثلت خاصة في التركيز على وحدة الشعب وتطوير حرياته، لكن الموقفَ تجاه الليبرالية والبرجوازية كان محدوداً.
إن السوفييت مصدري ومنتجي هذا الخط عالمياً لم يحققوا ديمقراطية، وبدت إرادة القوة لديهم هي الحل للتقدم، وكان هذا يمثل تدهوراً في أداة التحليل، ونتائجُها الواقعية وخيمةٌ على الصعيدين العالمي والبحريني.
لأنه ليس ثمة بديل عن الليبرالية كمحطةٍ رئيسيةٍ إفتتاحية طويلة الأمد لخلق كافةِ أشكال الوعي والتيارات الفكرية في العالم الثالث ومشروعات الدول الديمقراطية.
لكن المشروعَ السوفيتي تغلغلَّ في العالم الثالث بقوة، حيث ثمة تُربٌ لم تحرثْ لنضال ديمقراطي، وهي تربٌ قابلةٌ لكل أشكال الشموليات، فجاءت الشموليات ترثُ بعضها البعض.
أي أن كل الثقافات السوفيتية والناصرية والقومية كانت نتاجات دول شمولية قطعتْ تطورَ الديمقراطية في بلدانها، وأمكن لها في البحرين أن تتحرك خاصة فيما قبل الاستقلال، أي فيما قبل ظهور رأسمالية الدولة المحلية، لكنها لم تستطع أن تستمر بعد ذلك. فما كان لتلك التيارات أن تنشئ ثقافة ديمقراطية واسعة الانتشار.
فالوجودُ البريطاني أعطاها إمكانيةَ أن تكون مستوردةً للبضائع المادية لا الفكرية السياسية. وبعض الحريات والحضور الشعبي المدني كانت كافية لتخلق ثقافة ليبرالية ويسارية قبل ظهور رأسمالية الدولة المحلية وبعد ذلك شحبت هذه الإمكانية.
وبغض النظر عن هشاشة الثقافة في البحرين في تلك السنوات إلا أن القوانين الموضوعية للتطور الثقافي الاجتماعي متقاربة في البلدان العربية. فتجد إن إنهيارات الليبرالية واليسار مرتبطة بصعود رأسماليات دولة شمولية في كل بلد، وهي ذاتها المنعشة لوعي الطوائف المُسيّس.
كانت القصص والقصائد والمقالات النقدية والسياسية البحرينية بسيطة، وركزت على موضوعات إجتماعية جزئية، وتراكمت المحاولات حتى غدت في السبعينيات وما بعده تحولات نوعية.
لكن المسارين المعبرين عن التناقض في الوعي اليساري كانا حصيلة البناء الداخلي المضطرب، فاتجاهُ تطوير الحريات والسلام والنمو العقلاني الذي مثلهُ اليسارُ (السوفيتي)، وإتجاه اليسار الماوي الداعي للعنف وحرق المراحل وتصفية البرجوازية، لم يُقابل بعمق في الأطروحات المقابلة للتخلي بشكلٍ عميق عن الشمولية والمركزية السوفيتية، ودعم الليبرالية ودعم البرجوازية الوطنية.
في الثقافة كان الأمر في الاتجاه الأول يؤدي لخلق تراكمات في الآداب والفنون والفكر، والاهتمام بقوانين الأنواع الأدبية والفنية والفكرية والاشتغال عليها، وهذا كان له تطورات في الأدب الواقعي، فيما الاتجاه الآخر عمل على الأدب الحداثي التجريبي ورفض القوانين الموضوعية في الحياة السياسية وأشكال الوعي. فالسياسة تغدو إنفجاراً، والكتابة تصير هذياناً، وتيارات العنف هي البوصلة، وبالتالي فإن التيارين ومساهماتهما كانت بسيطة لمقاربة الديمقراطية والليبرالية وقوت النقد الشعبي الحاد غالباً.
كانت هزيمةُ الليبرالية هي هزيمةُ الديمقراطية وتطورها في البحرين وفي الشرق عامة، فلقد كان توسعُ الرأسماليةِ يتمُّ بأشكالٍ شمولية، ولا تنفتحُ الطرقُ لظهورِ برجوازيات حرة تلعب الدور الأساسي في الاقتصاد، وبالتالي فإن إنعكاسات ذلك قويةٌ على الوعي والثقافة خاصة.
الرؤى السوفيتية والماويةُ كقائدتين للنضالات الاجتماعية عبّرَ خلافُهما عن صراعٍ قومي، فتكشف طابعاهما الرأسماليان الشموليان، وبهذا لم يستطع تيارا اليسار الأساسيان البحرينيان أن يتوحدا أو ينقدا نفسيهما ويتحررا من القيود التي تكبلهما. المعارك والضربات وغياب الرؤية البعيدة هدمت القوى البسيطة التي تشكلتْ عبرَ عقودٍ صعبة ضارية.
على مستوى الثقافة تطورتْ الواقعيةُ في ميدانِ القصةِ القصيرة والرواية والمسرح، وتنامتْ التجريبيةُ الأدبية خاصة في مجال القصيدة والقصة القصيرة لحيزهما المكثفين القابلين للتجارب ولتداخل السرد بالغنائية، وغدا المسرح غنياً بتجارب مختلفة في ميادين العروض الواقعية والتاريخية والتجريبية، وبرز النقد في عرض التجارب الإبداعية وكشف المسارات القريبة من تأثيرات الواقع، لكنه لم يستمر في تعميق إكتشافه لنمو الأنواع الأدبية والفنية.
حين نرى تداخل الثقافة بالتيارات السياسية الاجتماعية نجد إن التيارين السياسيين البارزين اللذين وهنت قوتهما الاجتماعية، لم يؤثر إنحسارهما على الثقافة التي راحت تستقلُ عن الميدان الاجتماعي السياسي المباشر، وبدأت الأنواعُ المختلفةُ تأخذُ إستقلالَها النسبي.
لكن زخم الحركة الاجتماعية السياسية كان له تأثيره البعيد المدى، خاصةً في إبتعاد بعض التجارب عن خطوطها الأولى وعدم تعميق التجربة ورفد الأجيال الجديدة بمكتسابتها الليبرالية والديمقراطية وتطويرها مع تحولات البنية الاجتماعية وإنقلاب العلاقات فيها.
فالتطور التحديثي الموعود بزخمه الليبرالي العقلاني لم يحدث، وتدهور وضع الحركات الاجتماعية من الناحية الفكرية وعادَ المجتمعُ للوراء في عقليته السياسية، وكانت تبعية (اليسار) للحركات المذهبية السياسية التي إستثمرتْ عمليةَ الانهيار الفكري السياسي في أشكالٍ خطيرة من المغامرات المكلفة على الناس أدت إلى إضطراباتٍ عميقةٍ لم يتم الخروج منها لحد الآن.
لقد بيّن ذلك هشاشة الوعي الذي أعتمد على القفزات لا على النمو الليبرالي الديمقراطي المتدرج، بحيث غدت الجملُ الصاخبة وغياب تجميع القوى التحديثية بديلاً عن التحليلات المعمقة وتأصيل التحررية، ولم تحصل الثقافة هنا على دعم من اليسار الذائب في العفوية والمنفعية ولا على إهتمام من الجمهور السياسي المذهبي المتصاعد الحضور في الحياة الاجتماعية، ولا على مساندة الأجهزة الحكومية.
لقد عادت المقاييسُ القديمةُ للثقافة لما قبل فترة حركة الهيئة، أي للقصة العائلية الساذجة، ولمسرح منوعات التسلية، وتنامى الأدب خاصة في الريف الذي يضجُ بأزمته غير المحلولة ودون أن تتمكن التجارب من إضافة تحول مهم للثقافة الأدبية.
كما فت في عضد الثقافة المشكلات النوعية في الثقافة نفسها، من عولمة هائلة تغلغلت في كل مكان تقود لمزيد من التسطيح ومن عدم الاستفادة من أهميتها الهائلة، وتفاقمت النخبوية وضعف تنامي الواقعية وغياب تحولها لتيار مؤثر في مجتمع تآكلت فيه ثقافته الوطنية ومستويات القراءة.
من الناحية السياسية الاجتماعية قادت العودة للمذهبية السياسية وقد تغلغلت فيها تأثيراتُ المرجعيات الدينية الإقليمية إلى إنتشار الفسيفساء والفرديات الجامحة وتنامي أشكال ما قبل الحداثة، ولهذا فإن إنجازات هيئات جديدة مثل البرلمان لم تتغلغل في الحياة، وتغدو الحلول مرتبطة بطابع الرأسمالية المحلية والخليجية العربية التي يغيبُ عنها الإنتاجُ الوطني الواسع، المؤسس للعقلانية وتماسك وتطور الجمهور.
لهذا فإن عودة ثقافة العنف والإلغاء غدت موروثاً لبعض الحركات السياسية المذهبية، مع عجز رأسماليات شمولية مناطقية متعددة عن العودة للمسار الليبرالي الديمقراطي المنتج الوطني، وهذا جانبٌ مركبٌ يحتاج كذلك لمتابعة القراءة.
في زمنيةِ الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين يجري محلياً (وعربياً بشكل ما) تصدع وعي الديمقراطية العربي في السياسة والثقافة ويأتي ذلك بشكل أساسي من تهافت اليسار، فاليسارُ هو الذي يلعب الدور المحوري في تشكيل الأنواع الفكرية والثقافية الوطنية، لأنه يقود التقدم في البلدان النامية.
الانهيارُ الاشتراكي في المركز يكونُ غير واضح، لكن بعض أجندتهِ نجدُها في الصراعاتِ بين أنواع اليسار، فظهور اليسار الطفولي المزايد هو من الجوانب الرئيسية يظهر في بدء إنهيار هذه الثقافة.
تُطرحُ في الجدالات السياسية مزايدةٌ على طرق النضال، ويعلو صوت البندقية الزائف، حيث لا نار ولا دخان، وفجأة تنتشرُ صورُ جيفارا وماو وكاسترو، تغدو هذه الصور لدى اليسار الطفولي ضباباً فكرياً لضرب العقلانية، ولتصعيدِ جملٍ نارية، ويجري الإستهزاء بالطرق العقلانية في النمو السياسي، وما يترتبُ عليها من تحليلاتٍ فكرية للواقع، والغوص في تاريخه، وإكتشاف البنية الاجتماعية له.
يجري النقاشُ حول طرق النضال بأشكالٍ حماسية غير عقلانية تبطنُ رفضَ طرق التحليل الموضوعية، وهذا ينعكس في هلامية الأشكال الفكرية والأدبية والفنية التي تتجمد عند ذلك الصراع السياسي السطحي.
حين نقرأ القصص والقصائد والمقالات نجدُ هيمنةَ التسطيح، والتوجه للموضات الأدبية الفكرية الغربية معاً، مثل تدفق الأشكال السريالية واللامعقول ويتحول هربرت ماركوز إلى مفكر نموذجي ليسار المغامرة، وتحصل الوجودية والبنوية على مؤيدين مهمين.
كان هربرت ماركوز يركز على المجتمع (الصناعي)، وبهذا الشكل المجرد يتمكنُ من تلافي تحليل قوانين المجتمع الرأسمالي الغربي، وتغدو ثيمة ماركوز وجيفارا وماو هي بحد ذاتها موترةً لليسار (السوفيتي) وإبتعاده عن قراءات التحليل الموضوعية الأكثر نفاذاً في تجارب رأسماليات الدول الشرقية التي لعبتْ أدواراً في تأجيج الجمل الثورية ثم في كسرها.
عزف اليسار الطفولي على التطرف يقابلهُ فقرٌ في التحليل والإنتاج الفكري والانتاج الإبداعي عامة، فكان اليسارُ بشقيه يمثلان ضرباً ضد نمو العقلانية وتحولها لتحليلات موضوعية للواقع.
كان ذلك في مصلحة الأبقاء على السطحية في الوعي والعفوية والانتقائية، ومن هنا لائمتْ المقالةُ القصيرةُ هذا الوعي المسطح، التي تتحول في السر إلى بيانات زاعقة، تفتقد عمق السياسة البعيدة المدى.
كما يحدث الآن لورثةِ هذا اليسار المتعثر في أشراكِ الشموليات أي للمذهبيين السياسيين، الذين يعجزون عن دراسة الإسلام وسيرورته التاريخية، وأكتشاف آفاق تطور الأمم الإسلامية فتغدو لديهم المقالة القصيرة الانتقائية الهزيلة الوعي منشوراً زاعقاً في حالة الرافضين وبخوراً حارقاً لدى غير الرافضين، بسبب الرغبة في الحصول على مكاسب سياسية وإجتماعية سريعة.
ووجود هذين الصنفين المذهبيين السياسيين من الوعي المتضادين، والمتماثلين في جوهر سطحيتهما، وبروزهما يعبر عن الاستمرارية في تكوينات الوعي السطحي لدى البرجوازية الصغيرة المتعلمة مع تبدل البنية الاجتماعية. فالخطابُ اليساري السطحي يتلوهُ خطابٌ مذهبي سطحي.
في سيطرة المقالة القصيرة والمنشور وغياب الكتاب التحليلي والأنواع الواسعة من الأدب كالرواية والمسرحية والدارسة النقدية، صفة مشتركة، فهؤلاء المنتجون العجولون هم أناسٌ لا يزرعون بعمق ولكن يريدون ثماراً سريعةً باهرة.
رأسُ المالِ الصغير هذه هي عاداتهُ التاريخية، سواءً في الماركسية وهي تأخذُ أشكالاً طفولية تختزلُ تعقيدَ الاقتصادِ والطبقات وتريدُ القضاءَ بلمح البصر على التشكيلة الرأسمالية العالمية، أو في الوعي الديني وهو يأخذُ قسماتٍ طائفيةً ويتبعُ دولاً شمولية ويريد سحق الأنظمة بمفرقعات الأطفال أو بحلبها وتكوين رأسمال طفيلي ويصير شركة إسلامية مقفلة.
رأس المال الكبير لا يشارك في عمليات إنتاج الوعي والثقافة ويبقى في بنوكه وشركاته الكبيرة ليكون رأس المال العابر للحدود، والذي يعيشُ حالاتٍ دينيةً شكلانية خاصة في المجتمعات الاسلامية غير الديمقراطية.
من هنا فإن اليسارَ المغامرَ بصراخهِ المستمر كان يعطل التحليل، واليسار السوفيتي كان يردُ في حدودِ التقليديةِ النظرية المحنطة في المركز.
في الدول العربية الأخرى ذات الثقل السكان بخلاف دول الخليج يتمكن النتاج الثقافي من النمو الواسع، لكن الفكر النظري التحليلي الكاشف لمسارات التطور هو في حالةِ موت سريرية، والنماذج النادرة متأثرة بمناخ تشويه الأفكار الكبرى التقدمية.
وحين ينهار اليسار فكرياً وسياسياً ينهار الهيكل العظمي للوعي العميق، حيث أخذ هذا اليسار الشرقي على عاتقه أن يكون طليعة للعمال وحفار قبور للرأسمالية معاً، وهي مهمتان مستحيلتان في التاريخ القريب لأن كل مهمة ضد الأخرى.
إنها لغةُ محفوظاتٍ لم تعد قادرة على الفهم والتحليل، وأصبحت مشوشة أكثر فأكثر نظراً لفقدان البوصلة، وصارت التطورات غير مفهومة بالنسبة لها، وحالات الضياع هذه ستطلقُ لغةً ليبرالية إنتقائية مصلحية، أو لغة يساريةً إنتهازية.
إرتبطتْ الثقافةُ البحرينية بقوةٍ بالتيارات السياسية وربما بشكلٍ ميانيكي مباشر، بسبب محدودية البناء الثقافي.
إرتبط تطور الوعي السياسي بالحقبِ الاجتماعية، فالوعي اليساري البحريني نشأ في ظلال تدفق منجزات الليبرالية البسيطة لهيئة الاتحاد الوطني، ولم تستطع هذه الاستمرار بأن تجذر المستويات الثقافية البسيطة التي نشأتْ معها وواصلتها هي.
منذ حراك الاربعينيات حتى الاستقلال إنتعشتْ الأفكارُ الليبرالية بدون جذورٍ عميقة، ونستطيع أن نقول بأنها ثمارُ أصحاب ومثقفي الوكالات التجارية، هؤلاء الذين كانوا بداية البرجوازية التي إبتعدتْ عن النتاج الفكري السياسي، وكان حريق الخمسينيات الناصري قد وضع حداً لتطورها نحو الليبرالية والديمقراطية.
وجاء اليسارُ السوفيتي واليسار الماوي وحركةُ القوميين العرب لترثَ بقايا الجمهور المتحمس للحركة الوطنية. اليسار هو العمود الفقري للمرحلة بسبب ما يمتلكه من منهجيةٍ فكريةٍ تحليلية للواقع والاقتراب من بعض جوانبه الموضوعية، التي تمثلت خاصة في التركيز على وحدة الشعب وتطوير حرياته، لكن الموقفَ تجاه الليبرالية والبرجوازية كان محدوداً.
إن السوفييت مصدري ومنتجي هذا الخط عالمياً لم يحققوا ديمقراطية، وبدت إرادة القوة لديهم هي الحل للتقدم، وكان هذا يمثل تدهوراً في أداة التحليل، ونتائجُها الواقعية وخيمةٌ على الصعيدين العالمي والبحريني.
لأنه ليس ثمة بديل عن الليبرالية كمحطةٍ رئيسيةٍ إفتتاحية طويلة الأمد لخلق كافةِ أشكال الوعي والتيارات الفكرية في العالم الثالث ومشروعات الدول الديمقراطية.
لكن المشروعَ السوفيتي تغلغلَّ في العالم الثالث بقوة، حيث ثمة تُربٌ لم تحرثْ لنضال ديمقراطي، وهي تربٌ قابلةٌ لكل أشكال الشموليات، فجاءت الشموليات ترثُ بعضها البعض.
أي أن كل الثقافات السوفيتية والناصرية والقومية كانت نتاجات دول شمولية قطعتْ تطورَ الديمقراطية في بلدانها، وأمكن لها في البحرين أن تتحرك خاصة فيما قبل الاستقلال، أي فيما قبل ظهور رأسمالية الدولة المحلية، لكنها لم تستطع أن تستمر بعد ذلك. فما كان لتلك التيارات أن تنشئ ثقافة ديمقراطية واسعة الانتشار.
فالوجودُ البريطاني أعطاها إمكانيةَ أن تكون مستوردةً للبضائع المادية لا الفكرية السياسية. وبعض الحريات والحضور الشعبي المدني كانت كافية لتخلق ثقافة ليبرالية ويسارية قبل ظهور رأسمالية الدولة المحلية وبعد ذلك شحبت هذه الإمكانية.
وبغض النظر عن هشاشة الثقافة في البحرين في تلك السنوات إلا أن القوانين الموضوعية للتطور الثقافي الاجتماعي متقاربة في البلدان العربية. فتجد إن إنهيارات الليبرالية واليسار مرتبطة بصعود رأسماليات دولة شمولية في كل بلد، وهي ذاتها المنعشة لوعي الطوائف المُسيّس.
كانت القصص والقصائد والمقالات النقدية والسياسية البحرينية بسيطة، وركزت على موضوعات إجتماعية جزئية، وتراكمت المحاولات حتى غدت في السبعينيات وما بعده تحولات نوعية.
لكن المسارين المعبرين عن التناقض في الوعي اليساري كانا حصيلة البناء الداخلي المضطرب، فاتجاهُ تطوير الحريات والسلام والنمو العقلاني الذي مثلهُ اليسارُ (السوفيتي)، وإتجاه اليسار الماوي الداعي للعنف وحرق المراحل وتصفية البرجوازية، لم يُقابل بعمق في الأطروحات المقابلة للتخلي بشكلٍ عميق عن الشمولية والمركزية السوفيتية، ودعم الليبرالية ودعم البرجوازية الوطنية.
في الثقافة كان الأمر في الاتجاه الأول يؤدي لخلق تراكمات في الآداب والفنون والفكر، والاهتمام بقوانين الأنواع الأدبية والفنية والفكرية والاشتغال عليها، وهذا كان له تطورات في الأدب الواقعي، فيما الاتجاه الآخر عمل على الأدب الحداثي التجريبي ورفض القوانين الموضوعية في الحياة السياسية وأشكال الوعي. فالسياسة تغدو إنفجاراً، والكتابة تصير هذياناً، وتيارات العنف هي البوصلة، وبالتالي فإن التيارين ومساهماتهما كانت بسيطة لمقاربة الديمقراطية والليبرالية وقوت النقد الشعبي الحاد غالباً.
كانت هزيمةُ الليبرالية هي هزيمةُ الديمقراطية وتطورها في البحرين وفي الشرق عامة، فلقد كان توسعُ الرأسماليةِ يتمُّ بأشكالٍ شمولية، ولا تنفتحُ الطرقُ لظهورِ برجوازيات حرة تلعب الدور الأساسي في الاقتصاد، وبالتالي فإن إنعكاسات ذلك قويةٌ على الوعي والثقافة خاصة.
الرؤى السوفيتية والماويةُ كقائدتين للنضالات الاجتماعية عبّرَ خلافُهما عن صراعٍ قومي، فتكشف طابعاهما الرأسماليان الشموليان، وبهذا لم يستطع تيارا اليسار الأساسيان البحرينيان أن يتوحدا أو ينقدا نفسيهما ويتحررا من القيود التي تكبلهما. المعارك والضربات وغياب الرؤية البعيدة هدمت القوى البسيطة التي تشكلتْ عبرَ عقودٍ صعبة ضارية.
على مستوى الثقافة تطورتْ الواقعيةُ في ميدانِ القصةِ القصيرة والرواية والمسرح، وتنامتْ التجريبيةُ الأدبية خاصة في مجال القصيدة والقصة القصيرة لحيزهما المكثفين القابلين للتجارب ولتداخل السرد بالغنائية، وغدا المسرح غنياً بتجارب مختلفة في ميادين العروض الواقعية والتاريخية والتجريبية، وبرز النقد في عرض التجارب الإبداعية وكشف المسارات القريبة من تأثيرات الواقع، لكنه لم يستمر في تعميق إكتشافه لنمو الأنواع الأدبية والفنية.
حين نرى تداخل الثقافة بالتيارات السياسية الاجتماعية نجد إن التيارين السياسيين البارزين اللذين وهنت قوتهما الاجتماعية، لم يؤثر إنحسارهما على الثقافة التي راحت تستقلُ عن الميدان الاجتماعي السياسي المباشر، وبدأت الأنواعُ المختلفةُ تأخذُ إستقلالَها النسبي.
لكن زخم الحركة الاجتماعية السياسية كان له تأثيره البعيد المدى، خاصةً في إبتعاد بعض التجارب عن خطوطها الأولى وعدم تعميق التجربة ورفد الأجيال الجديدة بمكتسابتها الليبرالية والديمقراطية وتطويرها مع تحولات البنية الاجتماعية وإنقلاب العلاقات فيها.
فالتطور التحديثي الموعود بزخمه الليبرالي العقلاني لم يحدث، وتدهور وضع الحركات الاجتماعية من الناحية الفكرية وعادَ المجتمعُ للوراء في عقليته السياسية، وكانت تبعية (اليسار) للحركات المذهبية السياسية التي إستثمرتْ عمليةَ الانهيار الفكري السياسي في أشكالٍ خطيرة من المغامرات المكلفة على الناس أدت إلى إضطراباتٍ عميقةٍ لم يتم الخروج منها لحد الآن.
لقد بيّن ذلك هشاشة الوعي الذي أعتمد على القفزات لا على النمو الليبرالي الديمقراطي المتدرج، بحيث غدت الجملُ الصاخبة وغياب تجميع القوى التحديثية بديلاً عن التحليلات المعمقة وتأصيل التحررية، ولم تحصل الثقافة هنا على دعم من اليسار الذائب في العفوية والمنفعية ولا على إهتمام من الجمهور السياسي المذهبي المتصاعد الحضور في الحياة الاجتماعية، ولا على مساندة الأجهزة الحكومية.
لقد عادت المقاييسُ القديمةُ للثقافة لما قبل فترة حركة الهيئة، أي للقصة العائلية الساذجة، ولمسرح منوعات التسلية، وتنامى الأدب خاصة في الريف الذي يضجُ بأزمته غير المحلولة ودون أن تتمكن التجارب من إضافة تحول مهم للثقافة الأدبية.
كما فت في عضد الثقافة المشكلات النوعية في الثقافة نفسها، من عولمة هائلة تغلغلت في كل مكان تقود لمزيد من التسطيح ومن عدم الاستفادة من أهميتها الهائلة، وتفاقمت النخبوية وضعف تنامي الواقعية وغياب تحولها لتيار مؤثر في مجتمع تآكلت فيه ثقافته الوطنية ومستويات القراءة.
من الناحية السياسية الاجتماعية قادت العودة للمذهبية السياسية وقد تغلغلت فيها تأثيراتُ المرجعيات الدينية الإقليمية إلى إنتشار الفسيفساء والفرديات الجامحة وتنامي أشكال ما قبل الحداثة، ولهذا فإن إنجازات هيئات جديدة مثل البرلمان لم تتغلغل في الحياة، وتغدو الحلول مرتبطة بطابع الرأسمالية المحلية والخليجية العربية التي يغيبُ عنها الإنتاجُ الوطني الواسع، المؤسس للعقلانية وتماسك وتطور الجمهور.
لهذا فإن عودة ثقافة العنف والإلغاء غدت موروثاً لبعض الحركات السياسية المذهبية، مع عجز رأسماليات شمولية مناطقية متعددة عن العودة للمسار الليبرالي الديمقراطي المنتج الوطني، وهذا جانبٌ مركبٌ يحتاج كذلك لمتابعة القراءة.
Published on November 23, 2019 16:21
No comments have been added yet.


