يوسف يتيم : دراسة تطبيقية لرواية الجذوة على ضوء المنهج الواقعي
      [image error]
بقلم : يوسف عبدالله يتيم
هذه الدراسة نشرت في مجلة الكاتب العربي العدد الرابع من السنة الاولى ديسمبر 1982 دمشق .
□ تمهيد :
تنتمي رواية «الجذوة»* إلى اللون الأدبي المسمى «بالرواية القصيرة» . Novelette وليس إلى الرواية بمعناها الدقيق أي بمعناها الملحمي، فالجذوة رواية من حيث كونها تحتوي على عناصر الرواية من جهة ، عندما تطمح في تقديم بانوراما أو نظرة شاملة لمرحلة أو لمراحل محددة من حياة بعض الشخوص (ولا سيما العامل فرج الشماس وابنه شاهين والحارس مشعل الياس ورحيم غزوان وميرزا عجب والمدير العام) ، حيث تعكس هذه الشخصيات وبشكل متفاوت وبدرجات مختلفة ، متباينة ، مرحلة محددة من مراحل تطور مجتمعنا ، بدءاً بمنتصف الخمسينات، مروراً بالستينات. وقد تجلت تلك المرحلة على مستوى الشخصيات في فرج الشماس، مشعل الياس والمدير العام على وجه التحديد، بينما عبرت – وبحدود معينة – شخصيات مثل شاهين فرج ورحيم غزوان وميرزا عجب – وإلى حد معين، السكرتيرة رجاء عن فترة زمنية في تلك المرحلة بدءاً من منتصف الستينات إلى بداية السبعينات. وغني عن البيان، فإن تلك المرحلة وفي فترات زمنية محددة، كانت حبلى بالأحداث والتحولات النوعية في بنية مجتمع ما بعد اكتشاف النفط ، حيث نشأت علاقات اقتصادية واجتماعية جديدة في أحشاء المجتمع القبلى ــ الإقطاعي الذي تفتتت وتحللت علاقاته بالتدرج وبفعل قوانين التطور الاجتماعي حيث أخذت تنمو العلاقات الرأسمالية المتقدمة تاريخياً على علاقات ذلك المجتمع القبلي الأمر الذي أدى إلى تشكل مجتمع شبه رأسمالي بعد استخراج النفط ، تحددت ملامح تطوره اللاحق على طريق التطور الرأسمالي بشكل أوضح بعد دخول الشركات المتعددة القوميات والبنوك الأجنبية وتزايد مشروعات الإنتاج الرأسمالية واتساع رقعة نشاطها الاقتصادي داخل البلاد. الأمر الذي تمخض عنه نشوء قوى اجتماعية جديدة كالعمال والرأسمالية الوطنية تحالفت نارت لتهشيم أسس المجتمع القبلي القديم وتناقضت فيما بينها تارة أخرى وذلك طبقاً تقارب أو تباعد مصالحها الاقتصادية والاجتماعية، وقد تجلى ذلك التناقض في الصدامات والمعارك الاجتماعية التي عصفت بالمجتمع في الخمسينات والستينات وعلى مشارف السبعينات. وقد طرأت على بنية المجتمع ــ ولاسيما في منتصف السبعينات ــ تغيرات سريعة وجديدة كنتاج لتلك المعارك الاجتماعية خففت نسبياً من هذه الصدامات الاجتماعية السابقة وقد تمثلت تلك التغيرات في الانتعاش النسبي للاقتصاد بشكل عام . وما كان من الممكن تمثل ظواهر الوحدة والصراع بدقة وتجلى قانون تطابق وتناقض علاقات وقوى الإنتاج الرئيسية في المجتمع وانعكاس تلك الظواهر وذلك القانون في الوعي الاجتماعي. إلا بعد انقضاء المرحلة المذكورة أعلاه . (ولسنا هنا بصدد تأريخ تلك المرحلة. وهذه الدراسة لا تطمح إلى أبعد من بحث رواية الجذوة وكذلك وضع مقدمات نظرية عامة، ميتودولوجية لاستيعاب ظاهرة الرواية ووضع بعض الأسس المنهجية لدراسة الظاهرة المذكورة في الحركة الأدبية البحرينية في المرحلة الراهنة) .
ان الاشارة العابرة هنا لظواهر الوحدة والصراع تومىء إلى أن بعض أحداث رواية الجذوة وملامح الشخصية تفصح ــ بهذه الدرجة أو تلك ــ عن تجلي الظاهرة المعنية وبصرف النظر عن وضوح أو غموض ذلك التجلي ودرجات انعكاسه في الوعي الاجتماعي لشخوص الجذوة.
من هنا، واذا ما وضعنا في عين الاعتبار طرح الرواية إلى التعبير عن مرحلة أو مراحل من حياة مجتمعنا، وبجانب تجلي الظاهرة الاجتماعية المشار إليها ويغض النظر عن درجة التجلي تلك . فإننا سنجد في الجذوة ما يتيح لنا القول بطابعها الروائي من جهة. أما من جهة أخرى فسنرى فيما بعد أن الجذوة تنتقي أو تنتزع لقطات سريعة ومكثفة من حياة شخصيات أخرى ظهرت لنا إما في شكل نماذج مكملة للنموذج الأصلي (أي للأب فرج وابنه شاهين) أو في صورة شخصيات هامشية عادية لا تعبر عن مرحلة بأسرها أو عن فئة محددة من الناس وبخصائصها وقسماتها المشتركة وذلك إذا ما وضعنا في عين الاعتبار مبدأ (النمذجة) كعنصر ضروري في بناء العمل الروائي . . هذه الشخصيات هي على وجه التحديد والدقة ــ سعد مختار وعنتر السجان وأبومحمد، والتي لم تربطها روابط عليّة سببية بالحدث الروائي . وسنأتي على ذلك بالتفصيل فيما بعد.
وهذا الأمر يخلق في هذه الرواية القصيرة ميلا للجمع بين خصائص شكلين من أشكال القصة (أي القصة القصيرة والقصة الطويلة). ان الميل العام أو النزوع نحو خلق بانوراما لحياة النماذج عبر الحدث والفعل ، والرغبة الجامحة في تغطية حياة كاملة أو مرحلة معينة من حياة الشخصية ومصيرها التاريخي ، وبصرف النظر عن درجة التحقق والتجسد المادي لتلك الرغبة في العمل الروائي، يشكل سبباً رئيسياً في الانعطاف نحو الرواية القصيرة بشكل عام . كما أن المتتبع عن كثب للاتجاهات الأدبية الأخيرة ، سيجد أن هذه الاتجاهات تبحث عن أشكال وأساليب فنية جديدة في النثر . «لقد أضحى البطل النموذج الملحمي شائعاً على نحو متزايد بحيث أصبحت القصة ــ النثر دون ذلك النموذج غير مقنعة. وهذه هي إحدى أوجه أو سمات الرواية القصيرة المعاصرة . وهي تخلق جاذبية استثنائية خاصة في تصوير الحياة . . في تعقدها ، غناها وتنوعها»(1)** كما يقول الناقد الأكاديمي «سافا دانجلرف» . وهذا هو السبب الآخر للانعطاف نحو الرواية القصيرة في أدب البلدان النامية وبما فيها بلادنا . ولعل من الدواعي البارزة في التوجه نحو الرواية القصيرة هو عدم قدرة القصة القصيرة بمساحتها المألوفة على رصد وتصوير مرحلة أو مراحل متعددة من حياة البطل ــ النموذج وبالتالي على تفريغ التجربة الذاتية والخبرة الحياتية للأديب .
يجيب مؤلف الجذوة ــ محمد عبدالملك ــ على سؤال ما إذا كانت القصة القصيرة قد ضاقت بطموحاته نحو الرواية ، بأن القصة القصيرة ، «ضاقت ليس بطموحاته بقدر ما ضاقت بحمل أعباء النفس . فالفرد منا كما يقول ــ يشعر بالصلب ودبيب المسامير في راحتيه وطرقات حادة تأتي إليه من أكثر من مكان ويواصل «كيف أستطيع أن أقول كل شيء في قصة قصيرة وكيف أقول كل الأشياء دفعة واحدة . . .»،(2) (انتهى كلام المؤلف).
ان الانتقال الى كتابة الرواية ليس بالأمر الهين أو البسيط ، فالمسألة ــ ولا سيما في طور ولادة الرواية ونشوئها في البلد المعني ــ مرهونة بعوامل عدة . أهمها الموهبة الفنية في الكتابة القصصية والروائية . هذا العامل الذي يمكن تلمس بصماته حتى الآن عند كل من أدبائنا الشباب : محمد عبدالملك. عبـدالله خلـيفة ، أمين صالح وخلف احمد خلف ، وذلك دون المبالغة في تضخيم ذلك العامل أو التقليل من شأنه (ان الحديث يدور هنا عن الكتابة الرواية في مرحلة تطور الحركة الأدبية في اللحظة الراهنة أي في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات) ، وبجانب تلك العامل الحاسم توجد عوامل أخرى ليست أقل أهمية من عامل الموهبة الفنية وصدق الانفعال بالحياة، ويأتي على رأس تلك العوامل: الثقافة الأدبية والفنية العالية بما تنطوي عليه من مهارة ومراس وخبرة بالتكتيك الفني ودرجة محددة من الوعي الاجتماعي بحركة تطور المجتمع عامة والقوى الاجتماعية الفاعلة والمؤثرة فيه . . . تطور مجتمعنا بالذات ، والإمساك بقوانين تلك الحركة وظواهر الوحدة والصراع ودرجة تجليهما في المرحلة المعنية ، تآلفهما وتناقضهما الجدليين . اضافة الى تجميع المادة الحياتية ومعرفة كيفية التقاط ما هو هام وجوهري في الحياة الاجتماعية واستبعاد ما هو تفصيلي . . عادي . . رتيب ، عبر اكتشاف الحلقات المهمة والرئيسية في ذلك التفصيلي العادي . . الرتيب ، أي الحلقات المساعدة أو الموصلة وبشكل فني إلى ما هو هام ، نموذجي وجوهري . ومن الواضح أن هناك فرق شاسع بين الإدراك المعرفي ، على المستوى النظري لهذه المهمة الصعبة وبين تجسدها وتجليها المادي الحي المتحقق في العمل الروائي على المستوى التطبيقي .
أن عصرنا الراهن هو عصر التجريد الفني والجمالي . عصر الاكتشاف والخلق الإبداعي ، هذا الأمر يجعل من هذا الفن (أي الرواية القصيرة) شكلا نمونجياً ينبغي أن تتجلى من خلاله عملية التجريد الفني ليس بشكل نمطي . معمم . مجرد من المادة الحياتية أو مفرغ من الحياة كما هي معاشة أو الشخوص الواقعية وصراعات الحياة الحقيقية من جهة ، ولا بعرض ما هو رتيب عادي وتصوير كل شاردة وواردة في حياة البطل ــ النموذج أو التفاصيل الموغلة في ثانويتها.
إن نقطة البدء في الإبداع الروائي هنا ينبغي ان تنطلق من حياة مجتمعنا ذاتها ومن الأحداث والوقائع الحياتية الفعلية ، ودون ذلك لا يمكن أن تتأسس الفكرة الفنية الأولية أو أن تتكامل على شكل صورة فنية . ولا يمكن أن يتأسس الفن الروائي دون أن يكون أديبنا قد مر مسبقاً بتجربة ذاتية وستحصل ذخيرة من الانطباعات المتنوعة ، هذا الأمر الذي سيشكل بالنسبة له مخزوناً من الصور الفنية و أشكالا متعددة من الإبداع الفني . تلك هي نقطة البدء في كتابة الرواية.
بيد أن معرفة الأحداث والوقائع الحياتية لا تكفي وحدها لأن تخلق لنا في العمل الروائي صور فنية دون إشراك الخيال . وهذه صفة هامة للموهبة . ويمكننا أن نتلمس هذه الصفة وبعض خطوطها لدى بعض كتاب القصة القصيرة في البحرين.
إن الإلمام بدقائق التنميط في الفن ومعرفة سبل النمذجة يعد أمراً ضرورياً لا يمكن تخطيه ، تجاوزه أو القفز عليه في كتابة النص الروائي . وعندما يكون أمام كاتب الرواية نموذج واقعي للصورة الفنية التي يطمح في تشكيلها أو إنشائها ، سيشعر حتماً بضرورة وجود خيال مبدع كشرط أساسي وجوهري في بناء العمل الروائي . فالصورة الفنية لا تصف لنا النموذج أو البطل كزيد أو عمرو من الناس . أن الصورة الفنية تكتسب محتوى أغنى وأعمق من شكل البطل أو النموذج الموجود في الحياة الحقيقية والتي تطمح تلك الصورة في عكسه وتصويره . بيد أن ذلك لا ينبغي أن يختلط بفكرة أخرى مناقضة ، تتمثل في الابتعاد عن الحياة وصراعاتها الحقيقية ورسم صور و أشكال مختلفة . . باهتة ، لا هوية لها ، وبعيدة عن تربتها الاجتماعية أو عن المنطق الداخلي للواقع المحلي المعاش .
يقول أحد النقاد في هذا الصدد بأن «الموهبة عند الفنان تعبر عن ذاتها في قدرة صاحبها على التقاط الجوهري والأهم . وعلى تركيز انتباهه على العمليات والوقائع الحياتية الأشمل في إظهارها لمعنى ما يعكس . وامكانية هذا النوع من التعميم موجودة في الحياة نفسها . فالقضية هي أنه توجد في كل ظواهر الواقع (بما في ذلك الإنسان) إلى جانب الملامح الذاتية المتفردة ، سمات عامة توحدها في مجموعات متفاوتة في كبرها . فكل واحد منا هو إنسان ذو قوام خارجي وداخلي خاص به وحده . لكنه توجد في أخلاقنا الى جانب ذلك، ملامح نشترك فيها مع أناس آخرين من نفس مهنتنا ووضعنا الاجتماعي وقوميتنا وأخيراً مع الإنسان بوجه عام . ولهذا السبب تتوفر عند الأديب وهو يتحدث عن إنسان ما محدد ، إمكانية التعميم في صورة ذلك الإنسان ملامح وخصائص يشترك فيها أناس كثيرون أو حتى كل الناس . وهذا التعميم من خلال الصورة الفنية المتفردة يسمى «نمذجة»(3).
أن الواقعية الجديدة وبوصفها منهج حي متطور لا تتحقق في خلع الرمز على فكرة عامة مجردة ولا عن طريق تقريرها وتوضيحها بمثال فردي وصورة مشخصة انما بإظهار العام في المفرد . . . في الخاص ومن خلاله . فالنمطية والتجريد في النمذجة والابتعاد عن تصوير الحياة الحقيقية بكل آلامها ومآسيها . . وبكل أفراحها وأعراسها ، إنما هي نزعة تتوحد مع تيار آخر نقيض لها هـو التسجيلية والتقريرية في تصورهما المشوه لقوانين التعميم والنمذجة في الأدب الواقعي . . ومن هنا تنشأ ضرورة العمل بدأب ودون منافحة أو مواربة لتجاوز التقريرية وضد الشحوب والعبث في الفن على حد سواء ، بهدف إرساء أسس واضحة لتطوير حركتنا الأدبية وانتشالها من المراوحة في مكان واحد وكسر جمودها والتصدي لمحاولات التحجر والانغلاق والتكلس .
إن من الخواص الرئيسية للرواية القصيرة عامة هو أن الأحداث فيها تتطور وتتنامى وفقاً لتسلسلها الزمني المتواصل والنظر للزمن كوحدة غير متقطعة ، وكخاصية موضوعية مستقلة عن وعي الذات عامة وعن وعي الأديب وشخوص عمله الروائي بشكل خاص . ولا يمكن تصور الرواية القصيرة دون وجود ما يسمى بمبدأ «الكرونيكاليتي»، Chronicality (أي عرض الأحداث طبقاً لتسلسلها وتعاقبها وتتاليها الزمني بشكل متواصل)، هذا الجانب الحيوي نجده واضحاً عند كتاب الرواية القصيرة الواقعيين الذين انتهجوا هذا الشكل الفني منذ تورجينيف الى آيتماتوف وكيزين كوليف ، وفالنتين راسبوتين وغيرهم من كتاب الرواية القصيرة الواقعية في مختلف الآداب العالمية المعروفة .
إن انعدام التعلق والترابط الكرونولوجي للزمن الروائي ، أمر يتعذر فهمه بحيث أنه «يستحيل على كاتب الرواية، كما يقول إدوارد مورجان فوستر ، إنكار الزمن في بنية عمله الروائي»(4)، ويواصل الناقد قوله مؤكداً على أن العنصر الأساسي للرواية هو وجود قصة وهذه القصة هي حكاية مؤلفة من أحداث منسقة في تسلسل زمني «وذلك في تعليق له على موضوع الكرونولوجيا في رواية «والتر سكوت»، (جامع الآثار) The Antiquery وفي تقييمه لموضوع الزمن وتفتيت التسلسل الزمني عند الروائية «جيرترود ستين Gertrude Stein» وبصرف النظر عن صحة تعريف فوستر للرواية ، فإن تأكيده على الطابع الكرونولوجي أي التسلسل والتعاقب الزمني لأحداث الرواية ، وهو أمر لا يحتمل الجدل .
إن المصير التاريخي المأساوي لشخصية فرج الشماس في رواية الجذوة تعكس الى حد ما تعقد ظروف المرحلة التاريخية الملموسة. كما أن الأهداف العامة التي تسعى إلى تحقيقها شخصيات الجذوة من البحث عن الحقيقة . والكفاح من أجل الخير ومقاومة الشرور الاجتماعية . هذه الأهداف الإنسانية الرفيعة تجلت لنا في الرواية المذكورة على أنها أهداف بعيدة المنال في الظروف الحالية الراهنة.
إن المصير التراجيدي للشخصية يلعب هنا دوراً خاصاً في فترات التحول الاجتماعي اذ أنه يعكس تعقد وصعوبة المشاكل التي يطرحها الزمن والتاريخ على افضل الناس والتي يتعذر حلها في الوقت الراهن.
هكذا مثلا كان وعي «هاملت» للمأزق المأساوي لوضعه في هذا العالم ، الذي بدا له بشكل سجن ضخم ، حيث أحس بالعالم احساس رجل ذي نزعة انسانية قرر ان يدخل في مواجهة غير متكافئة مع هذا العالم .
هكذا ينبعث لنا موت انسان كفرج الشماس والمصائر التاريخية للشخصيات الأخرى كانهيار لقيم إنسانية هائلة قوامها الصدق ، والعفوية والرغبة الجامحة في نشر الخير الاجتماعي . إن هذا الموت لذلك الانسان وهذا الانهيار لتلك القيم إنما تثير فينا شعوراً بأن هذه القوة العظيمة الهائلة من الأفكار والمشاعر الإنسانية لم تذهب عبثاً . فالمأساة هنا قادرة على أن تعبر عن الإيمان العميق بالإنسان وبمستقبله . «قال لي القمر ما سيقوله لأحفادي ، أن الضوء جميل ، والليل الدامس مقبرة رهيبة. لغة الريح واحدة ايضاً : أن الشر تجتاحه العواصف مع الأيام »(5).
تتناول هذه الدراسة رواية الجذوة من الجوانب التالية : الجانب التفسيري والجانب التحليلي والأساسي التقييمي ، وبما تنطوي عليه تلك الجوانب من تفكيك للرواية وتحليلها لعناصرها الرئيسية والمتمثلة في المقاطع المختلفة . فهي من هذه الناحية تنصب على التكوين البنيوي للنص الروائي من حيث تحديد الشخصيات والحدث أو الأحداث الرئيسية والأسلوب والعلاقات البنيوية المكانية والزمانية وكذلك علاقات التماثل والتناقض. ثم يمتد هذا التناول ليشمل دراسة الرواية المعنية من وجهة النظر الروائية من حيث البؤر والمحاور المتعددة كبؤرة السرد الروائي وبؤرة عنصر التشويق وبؤرة الشخصية وملامحها الرئيسية ومبدأ النمذجة والترتيب الكرونولوجي لأحداث الرواية ودراسة الخبرة الحياتية ومدى التجربة الذاتية ، مع إخضاع تلك الجوانب لمنهج الإبداع الفني، وذلك بهدف تجاوز وتخطي الميل الانطباعي ــ التأثري والنظرات الذاتية والأحادية الجانب في دراسة نص العمل الأدبي وبالتالي تأسيس الخطوات المنهجية الأولى اللازمة والضرورية لمواجهة أزمة النقد المزمنة في حركتنا الأدبية والتي وبدونها سيظل نتاج أدبائنا الشباب عرضة للمزاجية وتغليب الذاتية على المنهج . ولا تدعي هذه الدراسة بأن خطواتها المنهجية قد استكملت مقوماتها في دراسة النص الأدبي ، ذلك لأن المنهج نفسه لا يتأسس دفعة واحدة ودون مقدمات ، إنما عبر المعاناة والمعايشة الحقيقية للنص . . وعبر التطبيق وبما ينطوي عليه من اخفاق تارة والكشف عن حقائق جزئية في النص تارة أخرى . إن المنهج في هذه الحالة غير موجود، ولكنه يتشكل . . يتأسس . . ويشق طريقه الى حيز الوجود .
□ البحث الأول :
الهيكل العام للعلاقات البنيوية في «الجذوة»:
1 ــ بنية المقاطع من حيث الشكل :
تتألف بنية نص رواية الجذوة من إحدى وعشرين مقطعاً ، وتتعدد في داخل المشهد العام للرواية تنقلات الذاكرة في الزمن . بحيث أن الرواية في بنائها العام هي حصيلة التراكم الكمي لمجموع التداعيات وتنقلات الذاكرة . كما تتعدد هذه التداعيات والتنقلات ليس لتشييد البناء العام للرواية فحسب . إنما لتؤسس الإطار العام لكل مشهد على حدة وضمن المقطع الواحد أيضاً . لنأخذ على سبيل المثال «المقطع الثاني»، وهو اطول مقطع من حيث تعدد الموضوعات وتداعيات الذاكرة عند الراوي في حجمها الكمي . فهذا المقطع يتألف من خمسة وعشرين مشهداً جزئياً تقع في ست صفحات فقط . وهذه المشاهد الخاطفة والتداعيات تأتي إما في صورة ، سؤال وجواب : مثل، س : ما الفرق بين العادي والخارق ج ــ انهم يضحكون من القلب وهذا فعل خارق/ أو في شكل حوار بين متحاورين مستترين كما في المثال التالي :
ــ …………….
ــ لم يمت مخموراً .
ــ كانت آثار ثقوب في ظهره .
ــ المقاول .
ــ لا أعلم ، لم يمت مخموراً .
أو كما في المثال التالي :
ــ هل جاء الى العمل.
ــ لماذا شاهين فرج .
ــ لأنه الرأس .
ــ هو موجود !!
أو على هيئة نبرة الصوت الثالث وتداعي الذكريات وانثيالها في مخيلة الشخصية الرئيسية :
ــ « أنا عشيق زوجة المقاول» ص 10.
ــ «بوسع الإنسان أن يكون خارقاً يوماً ما» ص 12.
ــ «من أجلي لا تشارك» ص 13.
و ــ « بيت لليلة الواحدة . . .».
أو على شكل حوار بين شخصية مستترة ، هي الراوي ، وأخرى غير مستترة ، كما في الحوار التالي :
قال مشعل الياس :
ــ أتحب التغيير .
ــ للأفضل .
ــ سيشاركك الحجرة مهرب .
ــ مخدرات .
ــ شاب من عمرك .
ــ أي شيطان !
ــ ما أسمه
ــ رحيم غزوان . . . الخ
أو في حالة تنقل الذاكرة في الزمان والمكان كما في الصورة التالية :
ــ رحيم غزوان ، يعمل في الطيران/ أول جملة على صفحة 14.
ــ لكنه لا يعمل في الطيران . / آخر جملة على صفحة 15.
ــ قبل سنوات ، أما في السنوات الأخيرة . . . ص 16.
ــ معاً في زنزانة واحدة . ص 16.
أو في اعتماد السرد على لسان الراوي، كما في المثال التالي من نفس المقطع : (هو يعرف الحقيقة «أي رحيم غزوان»، وكل مال حدث . نحن من حارة واحدة ، ذهب اليهم بنفسه ، وعاد معهم بنفسه . أشار إلى البيت . كان ليلا وبرداً . كنت خلف النافذة ، أرقب جري الكلاب ونباحها من وراء النافذة ، سمعت أبي يغني ثم يشخر . داهمني الرجال . . .)
وهكذا تستمر الأسئلة والأجوبة تتدافع ، اللقطات والمشاهد الخاطفة كما لو أنها لقطات ومشاهد سينمائية سريعة التنقل . وتداعيات الذاكرة لا تكف عن الانثيال في المقاطع الأولى والوسطى من الرواية . ثم لا تلبث أن تتضاءل تدريجياً في النهاية ، فيبدأ السرد القصصي في التزايد ، بدءاً من المقطع السادس عشر ، ذلك وإن تخللت المقاطع الأخيرة ، الحوارات وتداعيات الذاكرة أحياناً .
إن المؤلف يقوم هنا بمحاولة تطبيق ما يسمى بالمونتاج الروائي حيث يسعى الى القيام بعملية توحيد وممازجة المشاهد الجزئية للأحداث عن طريق ارسال لقطات سينمائية سريعة التنقل في عملية توصيل المشهد العام للحدث الرئيسي .
إن هذه القضية ترتبط بمسألة ما إذا كان الكاتب يعرف جيداً كيف أن أي تغير في هيكل أو في بنية الرواية وإن أي تنويع في الأسلوب ، سيعمل على تغيير الاستجابة الكلية عند القارئ . فمثلا لنرى كيف أن اديباً كهمنغواي في أحد قصصه (القتلة ــ The Killers) وحيث لجأ إلى أسلوب المونتاج القصصي قد اختلط أسلوبه الواضح والبسيط والواقعي بمشاهد وومضات سينمائية فكان على تلك المشاهد أن تجتمع وتتوحد فيما بينها في عملية توصيل المشهد العام للعالم حسبما يراه الكاتب»(6). إن الصعوبة هنا تكمن في القدرة على توحيد المشاهد الجزئية في توصيل المشهد العام وليس في مسألة مشروعية تطبيق أسلوب المونتاج أو عدم تطبيقه .
2 ــ الِشخصيات :
تتجلى لنا الشخصيات في رواية الجذوة على النحو التالي :
أ ــ شخصيات رئيسية هي : فرج الشماس والمقاول ثم شاهين فرج ورحيم غزوان ، مشعل الياس والمدير العام .
ب ــ شخصيات ثانوية مكملة للنماذج الأصلية وهي: زوجة المقاول وعشيقة شاهين فرج ثم ميرزا عجب والسكرتيرة رجاء وأم شاهين .
ج ــ الشخصيات ذات الأهمية بالنسبة للراوي والمقطوعة الصلة بالحدث الروائي وهي: سعد مختار وابومحمد وعنتر السجان .
3 ــ الحدث الرئيسي :
يتلخص الحدث الرئيسي في أن علاقة تناحرية عدائية تنشأ بين المقاول وبين العامل فرج الشماس ، سنأتي على ذكر أسبابها فيما بعد ، يدفع المقاول بامرأة تصدم فرج الشماس في حادثة سيارة ، يموت من جرائها فرج الشماس بشكل مأساوي . ورغم كثرة شهود العيان ، لا يجرؤ أحد على الشهادة برؤيته للجرم ، وعندما يظهر الشاهد (وهو الرجل الغريب ظاهراً ــ شاهين فرج الابن واقعاً ) ويعلن عن شهادته وعن رؤيته للحادث ومعرفته بالمجرم ، فيدخل هو في السجن وليس المجرم وحيث يتعاطف الشرطي مع الفتاة ويتهم شاهين فرج بالحديث عن أعراض الناس وعلى ذلك يتحول شاهين فرج من شاهد على مقتل والده، إلى متهم بالقذف في عرض المومس التي دهست والده في الحادثة المذكورة .
وهناك في الرواية حدث آخر مماثل للحدث الرئيسي حيث يسقط أحد العمال من احدى طوابق عمارة ، فيموت بنفس الطريقة التي مات بها فرج الشماس . . أي عن طريق الغدر والتخطيط المسبق للجريمة مع الإيحاء في كلا الجريمتين بأن هذا العامل وكذلك فرج الشماس قد وافتهما المنية بشكل طبيعي ، وبسبب كونهما مخموران وليس بحكم التدبير وسبق الإصرار على ارتكاب الجرم .
4 ــ الأسلوب :
يتسم أسلوب الرواية بالبساطة والوضوح التقريري مع استخدام الجمل والعبارات القصيرة والبسيطة التي تسود في مجمل مقاطع الرواية ، إلا فيما ندر حيث تأتي الجمل المركبة والمعقدة في سياق السرد وعلى نحو طفيف . وفي المقاطع الأولى يكثر الحوار وتتعدد التداعيات مع تداخل نسبي للسرد في المقاطع التي يسودها الحوار ويمكن تمثيل ذلك بالصيغة التالية: (حوار/ حوار/ حوار / سرد / حوار / حوار / سرد / حوار / حوار) ، وبالعكس ، ففي المقطع الأخير من الرواية يتزايد السرد ويقل الحوار تدريجياً ويمكن تمثيل ذلك في صيغة:
(سرد / سرد / سرد / حوار / سرد / سرد / حوار / سرد / سرد) .
وفي أثناء الحوار نجد أن الشخصيات تتحدث عن بعضها كحوار مشعل الياس مع شاهين فرج عن والده ، وكذلك حديث المدير العام مع الابن عن الأب وعن نفسه. وأيضاً حديث الأم مع ابنها عن والده ، الأمر الذي يؤكد أن الراوي ( شاهين فرج) ليست لديه المعلومات الكافية عن تاريخ حياة والده .
أما في حالة السرد ، فيتولى الراوي نفسه الحديث عن الشخصيات الأخرى كحديثه ووجهة نظره في ميرزا عجب وفي سعد مختار وعنتر السجان وأبي محمد . أما في حالة مثول الشخوص وحضورها وجهاً لوجه ، فإن الحوار في هذه الحالة، ينعقد مباشرة فيما بينها ودون وساطة شخص ثالث .
أما الصوت الثالث في الرواية فيتجلى لنا على شكل تداعيات في ذاكرة الراوي ، تعود به الى أحداث سابقة وتبرز على هيئة ارتجاع فني Cut-back يفتت ويقطع التسلسل الزمني بإيراد أحداث وصور أو مشاهد وقعت في الزمن الماضي . وتظهر تلك التداعيات في الرواية بين الحين والآخر في جمل وعبارات موضوعة بين هلالين صغيرين . وهذه التداعيات في مجملها تعيد نفسها في ذاكرة الراوي . . بعضها يتمركز في بؤرة الشعور وتومئ إلى ذات الراوي ، وبعضها الآخر يراجع الى هامش الشعور ، بحيث أن صيغتها الدلالية المجسدة في الكلمات والجمل والعبارات المختلفة ، تشير إلى الآخر وليس الى ذات الراوي .
وقد بلغ حاصل التراكمات الكمية 101 تداعياً وذلك فيما يتعلق بالرواية ككل . وإذا ما استثنينا المقاطع الأخيرة من 16 – 21 والتي تشكل في حد ذاتها بؤرة تجمع أو مركز الحدث الروائي وهي التي يتناقص فيها عدد التراكمات الكمية لتداعيات الذاكرة ، فإننا سنجد أن ذلك التراكم يتزايد بشكل ملحوظ في المقطع الثاني والثالث وكذلك في المقطعين الرابع عشر والخامس عشر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رقم المقطع عدد التداعيات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 3
2 – 9
3 – 8
4 – 6
5 – 5
6 – –
7 – –
8 – 7
9 – 2
10 – 7
11 – 4
12 – 4
13 – 6
14 – 13
15 – 9
16- 6
17 – 5
18 – –
19 – 1
20 – 2
21 – 4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع التراكمات الكمية ــ 101
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5 ــ العلاقات البنيوية في نص رواية الجذوة :
أ – علاقات التماثل والتناقض البنيوية :
وتتوزع هذه العلاقات على مستويين: مستوى الحدث ومستوى الشخوص . فعلى مستوى الحدث نجد أن ثمة حدثين متماثلين . . أي وفاة فرج الشماس ووفاة العامل الذي سقط من العمارة . وتتجلى تماثلية الحدثين في العبارات والجمل التالية من المقطع الحادي والعشرون (21):
ــ ميتة الرجل تشبه ميتة أبي .
ــ مدفوع . المقاول نسج الرواية كاملة ، دفع له الأجر ، وأبي . . مخموراً.
ــ نفس الصوت ــ نفس الفم ــ نفس الوجه / و ــ منذ سنوات وهو في غابة السكر . . لماذا الآن .
أن علاقة التماثل المذكورة هي علاقة جوهرية، أما علاقة التباين بين ذينك الحدثين فهي علاقة ثانوية تتمثل في أن فرج الشماس مات على أثر صدمة سيارة بينما مات العامل من جراء إسقاطه من احدى طوابق عمارة . كما أن علاقة التماثل تلك تعني تكرار حدثين متشابهين ينسج إحداها الآخر .
أما على مستوى الشخوص ، فتقع علاقات التماثل بين شخصيتين رئيسيتين هما:
فرج الشماس (الأب) وشاهين فرج (الابن) ، حيث تجمع بينهما روابط وصلات عديدة ليست فقط صلة القرابة . إنما أيضاً التشابه في الموقع الاجتماعي ، فالأول عامل والثاني كذلك ، وأيضاً فيما يتعلق بالتجانس الثقافي وكذلك التقارب على مستوى التكوين النفسي السيكولوجي ، بحيث أن كلا الشخصيتين تنسخ إحداهما الأخرى ، فلا نكاد نتعرف على علاقات التمايز والتفرد بينهما .
ومن أمثلة الصيغ الدلالية الموحية بذلك التماثل بين الشخصيتين المذكورتين ، تلك العبارات والجمل التي ترد بين الحين والآخر في الرواية. فمثلا يقول مشعل الياس لشاهين فرج: «أنت صورة منه»، أي أن شاهين فرج (الابن) نسخة عن أبيه فرج الشماس ص 8 وفي المقطع الثاني ، حيث يطالع الابن صورته في علبة البيرة ويقول « في العلبة وجه أبي» ص 10 وأيضاً عندما يروي المدير العام لشاهين فرج عن مكانة والده بين العمال ، موضحاً تقارب تلك المكانة ، حيث يقول « ــ أنت رأس الجميع و ــ كان أبوك رأسنا» ص 191 / و ــ ما في رأسك في رأسه ص 24 … الخ .
أما علاقات التناقض، فتتجلى على شكل صراع خارجي حاد بين فرج الشماس والمقاول، يتجسد في هيئة تعارض تناحري وصراع بين شخصيتين، ينجم في الظاهر عن دوافع وبواعث شخصية خاصة ويفضي إلى فاجعة مأساوية تمثلت في موت فرج الشماس عن طريق الغدر. ثم لا يلبث هذا الصراع أن يعيد نفسه ويتكرر للمرة الأخرى ، متجلياً في المرة التالية على شكل تناقض بين شاهين فرج (الاين) وبين رحيم غزوان ، ثم تتسع رقعة هذا التناقض لتنتقل من حالة صراع بين شخصين الى صراع عام شامل بين من يصنع الخيرات المادية بعرق الجبين وبيع قوة العمل وبين من يقطف ثمار هذه الخيرات دون جهد . . بين الخير الاجتماعي مجسماً في شخصيات مثل: شاهين فرج ، السكرتيرة رجاء وميرزا عجب وغيرها من شخصيات والتي عكست إلى حد كبير، مشاعر النبل والإنسانية المشوبة بالكبرياء والاباء جنباً إلى جنب مع العفوية والصدق ، الطيبة وصفاء النفس وحب الايثار والرغبة الجامحة في التفاني من جهة وبين الشر الاجتماعي مجسماً في شخصية رحيم غزوان وبما انطوت عليه هذه الشخصية من مظاهر الخنوع والجبن، الجشع والغطرسة والوشاية والغدر، الخسة والدناءة، الأنانية وحب الذات من جهة أخرى .
كما تجلت علاقات التناقض المذكورة على شكل صراع داخلي بين الأفكار والعواطف على مستوى الشخصية الواحدة: ومن أمثلة ذلك الصراع ، التوتر والاضطراب الداخلي عند مشعل الياس، هذا الحارس الذي رغم كراهيته للبنادق والسجون، نجده يرتدي البزة العسكرية ويحرس السجون . فهو يكره البزة ، بينما يضطر في الوقت نفسه الى ارتدائها بحثاً عن لقمة العيش تارة وبفعل الخوف تارة أخرى ، وتنسحب علاقات الصراع الداخلي تلك على المديرالعام أيضاً . . بين تذكره واستعادته للماضي عندما كان فارساً قديماً وبين وضعه في اللحظة الراهنة وبوصفه مديراً عاماً . لنستمع إليه وهو يحادث شاهين فرج : «كنا نسميها فترة النهوض الأولى ، والعسكر يملأون الأرض والسماء ، أحذية أجنبية ، صادقت أباك ، كنا نزحف ، وجهي ووجهه ، من فوقنا كان غبار وجند وخيل . تصور كيف كان يتم التعارف بين جيلنا في الماضي ، في الظلام ارتمت راية ممزقة وسنابك خيل ، أنا لم ازحف صدقني ، ولم أتخل عن إيماني ، لكن الأمور بدت مستحيلة وما يتم من حولي لا يصدر من هذا المكتب» ص 45، وأيضاً عندما يبدي المدير العام تعاطفه مع شاهين فرج حيث يقول :
ــ أنت طيب .
ــ يؤلمني موت أبيك بهذه الطريقة ص 33 .
أي بطريقة الغدر . فالمدير العام يعرف جيداً أن فرج الشماس مات ميتة غير طبيعية إلا أنه يلوذ بالصمت . . دون أن يكون له حول أو قوة ، وكذلك عندما يصفع رحيم غزوان السكرتيرة رجاء على وجهها ، حيث يدافع المدير العام عن نفسه أمام شاهين فرج ، مؤكداً له بأنه ليس هو السبب في كل ما يدور ، لنستمع الى هذا الحوار بين المدير العام وبين شاهين فرج حول رحيم غزوان :
شاهين : يقول بأنك تعطيه الأوامر .
المدير : يكذب .
شاهين : وإنه منفذ لقراراتك . مهدد بالفصل من قبلك .
المدير : يكذب . هل تصدق انساناً يضرب امرأة . أنا المدير العام لكني حائر .
هكذا يقع المدير العام فريسة للصراع الداخلي والتوتر والاضطراب والحيرة ويظل يحوم في أسر ذلك الصراع ، فهو يعرف الحقيقة ، لكنه لا يقوى على البوح بها ويبدي تعاطفه مع قوى الخير ، لكنه لا يجرؤ على مقارعة الشر أو الاصطدام به ، فيظل حبيساً للخوف وللموقع الاجتماعي الذي يتبوؤه في اللحظة الراهنة والمصير التاريخي الذي آلت إليه شخصيته بفعل اصطفافه الاجتماعي الحاضر .
وعلى هذا النحو يبرز لنا الصراع الداخلي على مستوى الشخصية الواحدة وتتكشف لنا علاقات التماثل و التناقض على مستوى الحدث والشخصيات في العمل الروائي المعني .
تجليات المكان في رواية «الجذوة»
تتعدد العلاقات المكانية في رواية الجذوة بتعدد المشاهد الجزئية وتنقلات ذاكرة الراوي في الأماكن المتعددة والعودة إليها مرة أخرى . ففي المقطع الأول نلتقي بمشعل الياس والراوي على ظهر قارب في البحر ، وفي المقطع الثاني تنقلنا ذاكرة الراوي الى الطائرة في الجو حيث تتجه به الى بلاد أخرى ولا يعرف وجهته ، وفي المقطع الثالث تنقلنا الرواية إلى بيت أم شاهين ، وفي المقطع الرابع تعود الذاكرة بالراوي إلى السجن ، وفي المقطع الخامس نتعرف على المصنع حيث الإضراب وعلى مكتب المدير العام حيث يدور الحديث بين شاهين فرج والمدير العام ، وفي المقطع السادس تتعين وجهة الراوي الطريد التي لم تكن واضحة في المقطع الثاني . فتتحدد بشكل أوضح ، فنلتقي به في المنفى أو في الغربة حيث تنثال ذكرياته حول المقهى ، وفي المقطع السابع يتحدد لنا المكان على انه الشارع ، حيث يقع الحدث الرئيسي عندما تدهس السيارة البيضاء فرج الشماس وهو فوق عربته الحمالة، وتتمازج الأماكن في المقطع حيث ننتقل للمرة الأخرى إلى المصنع عندما يهرب رحيم غزوان ويتوارى في المدينة وكذلك في المقطع الثامن، حيث يظل المصنع هو المكان الرئيس، وفي المقطع التاسع نعود مرة أخرى الى مكتب المدير العام، وفي المقطع العاشر تنثال ذكريات الراوي حول «ابومحمد» صاحب المقهى في الغربة في إحدى دول الخليج . وفي المقاطع التالية تتكرر الأماكن ذاتها فتنتقل ذاكرة الراوي بين المخفر والسجن والمصنع . . الخ ٠ وعلى هذا النحو تتعدد تنقلات الذاكرة في المكان براً وبحراً وجواً . . في الوطن وفي المنفى . . في السجن وفي المصنع . . في الشارع وفي المخفر ، وذلك تبعاً للتصميم العام للرواية والتي اعتمدت أساساً تعددية المشاهد الجزئية المختلفة ، الأمر الذي ترتب عليه ، وكنتيجة طبيعية ، الإيغال في تجزئة المكان على النحو المذكور. وربما كانت علاقة المؤلف بالمكان هي علاقة حسية محض تعني بالمكان المحدد ، المعين والملموس دون أن ترقى للعناية بحيز المكان الروائي . وهذه العلاقة تعكس من الناحية الاجتماعية، ارتباط المؤلف والراوي وشخوص الرواية على حد سواء وشدة تعلقهم وانتمائهم لهذا التراب المحلي بالذات ولهذا الشعب ولهذه الأرض بالذات، أما من الناحية الجمالية الفنية، تبقى الأماكن من حيث الصيغة الدلالية، إشارات ومسميات واقعية لا تخضع لنظام الترميز والتجريد الذهني ، فالبحر هو البحر الواقعي الذي لا يومئ إلى أبعد من ذلك والسجن هو السجن بجدرانه الأربعة والمصنع هو المصنع ، والشارع هو الشارع كسائر شوارع المدينة وكذلك الطائرة وهكذا دواليك . ها هنا نجد أن المكان المحدد الملموس والجزئي لا يتحول إلى مكان واسع شامل. إن حل هذه المسألة في الأدب ، يرتبط الى حد كبير، بضرورة استيعاب العلاقة الجدلية القائمة بين الخاص والعام ، بين المكان المحدد الملموس والمكان الروائي بطابعه الشمولي العام ، وذلك ليس بتجريد الأمكنة الجزئية من خواصها الحسية برمتها، ولا والإيغال في تجسيد تعددية تلك الأمكنة، إنما بالاصطفاء الدقيق للمكان ذى الإيحاءات الدلالية والإشارات الرمزية التي تكشف عن الصفات والخواص المشتركة بين الأمكنة المتعددة وبما يتسق مع طبيعة الحدث الروائي . ومن الواضح أن إنجاز هذه المهمة المعقدة ، يستلزم معرفة فلسفية عميقة للمكان على المستوى النظري بشكل عام وقدرة فنية في تجسيد المكان الروائي بشكل فني جمالي على المستوى التطبيقي بشكل خاص .
رواية «الجذوة» وبعض قضايا التكنيك الفني في الإبداع الروائي:
1 ــ تجليات بؤرة السرد الروائي :
لا تعتمد الجذوة في أسلوب سردها الروائي على المؤلف كضمير للمتكلم ، إنما على الراوي كضمير للمتكلم ، والراوي بالنسبة للمؤلف هنا هو ضمير الغائب «هو» أي شاهين فرج . . . بحيث أن السرد الروائي يعول على أسلوب ما يسمى بـ«المؤلف المحيط علماً بالشخصية» ، فالكاتب المؤلف أخذ على عاتقه ، عرض ما يعتمل في ذاكرة الشخصية (شاهين فرج) مع الكشف عن بعض ملامحها وذبذباتها النفسية وكذلك بعض الشخوص الأخرى (كالمدير العام والحارس مشعل الياس)، ولكن دون أن يتمكن من تقصي الدوافع أو البواعث النفسية المحركة لأفعالها وسلوكها. وهذه الطريقة (أي طريقة المؤلف المحيط علماً بالشخصية) يقتصر فيها عمل المؤلف على النفاذ والتغلغل في معرفة ما يدور في ذاكرة إحدى الشخصيات الرئيسية، بينما يجري عرض وتقديم المظاهر السلوكية الخارجية للشخصيات الأخرى وهي هنا على سبيل المثال لا الحصر (زوجة المقاول ، ميرزا عجيب ، أبومحمد . . . الخ) ، بشكل موضوعي أي بطريقة المؤلف ــ المراقب ، وقد عرقلت هذه الطريقة إمكانية التوغل الداخلي لمعرنة الملامح النفسية لدى الشخصية ، ومن هنا فان مؤلف رواية الجذوة اعتمد على محاولة المزج بين طريقتين في السرد الروائي ، أي أسلوب المؤلف ــ المحيط علماً بالشخصية وطريقة المولف ــ المراقب .
وعلى ذلك، فإن «الأنا» المحورية المتكررة في الرواية تفصح على نحو جلي عن ضمير الغائب «هو» أي شاهين فرج ، هذا «الهو» الذي استحال على يد المؤلف إلى «أنا» معبرة عن الآخر وليس من شخصية المؤلف . فالراوي هنا هو ليس المؤلف ، إنما الشخصية الرئيسية الراوية التي تستحضر الماضي عن طريق التداعيات وومضات الفلاش باك الموزعة على المقاطع المختلفة للرواية مستهدفة في ذلك بناء الإطار الكلي والموقف الدرامى العام . إن الخبرة الحياتية هنا ، تتكشف لنا على أنها خبرة الراوي معبر عنها بلسان المؤلف .
وفي رأينا فإن المؤلف اعتمد الطريقتين المذكورتين لاعتبارات محددة . فهو من جهة يبدو عليماً ، مدركاً لجوانب شخصية الراوي ( شاهين فرج ) ، الأمر الذي هيأ له أن يترك هذه الشخصية تتصرف ، تفعل وتنفعل ، تتحرك . . تصارع وتشارك في أحداث الرواية، بل إن المظاهر والقسمات البيولوجية والجسدية للشخصية الراوية تراجعت تماماً الى الظل، الى درجة انك لن تجد أية وصفة أو كلمة أو عبارة تومئ إلى القسمات الجسدية الخارجية لهذه الشخصية . هنا يتحول المؤلف الى كاتب يحيط علماً بالشخصية ويتعرف على عالمها الداخلي ويكشف ذبذباتها وتحولاتها النفسية . وهنا أيضاً تتكشف لنا قدرة المؤلف على تصوير الشخصية وهي تعمل ، فهو لم يخبرنا بشكل تقريري عن شخصية فرج شاهين ، بل بدت لنا هذه الشخصية من خلال أفعالها وتوجهها السلوكي .
وهنا بالضبط تكمن القيمة الفنية في اللجوء إلى طريقة المؤلف المحيط علماً بالشخصية . هذا من جهة ، أما الوجه الآخر للعملة . . فيتجلى لنا في اضطرار المؤلف إلى استخدام أسلوب «المؤلف المراقب» بالنسبة لشخصية فرج الشماس المؤلف هنا ــ عندما يكون غير محيط بالشخصية يتحول إلى مؤلف ــ مراقب يخبرنا أخباراً تقريرياً تسجيلياً عن الشخصية ويصف لنا ملامحها الجسدية ، ولا تتحقق له إمكانية التوغل والنفاذ إلى العالم الداخلي لهذه الشخصية ، إلا في المقطع العشرين من الرواية. لقد ظهرت شخصية فرح الشماس في أغلب مقاطع الرواية الأخرى بشكل استاتيكي، يجري تطويع وصفها عن طريق الأخبار والتقرير وذلك بعكس شخصية الابن شاهين فرج . أن قدرت المؤلف في السرد الروائي تتجلى لنا، ليس عندما يتحول الى مؤلف ــ مراقب للأحداث والشخوص، إنما عندما يترك الشخصية تتحرك في إطار حدث معين ويفسح لها المجال لأن تفعل وتنفعل أن خلال تنامي ذلك الحدث وبلوغه الذروة . لنأخذ على سبيل المثال طريقة المؤلف عندما وضع نفس شخصية فرج الشماس في حدث محدد. حيث تجلت لنا شخصيته الملموسة والمتفردة من جهة ، وتكشفت ملامحها النفسية العامة . . هذه الملامح ، في المقطع المشار إليه ، لم تعبر عن شخصية فرج الشماس وحده فحسب ، وإنما تخطت ذلك إلى الافصاح عن ملامح وقسمات فئة واسعة من الناس ، عن طبقة ، بل أكاد أقول عن شعب بأسره، من جهة أخرى. وهنا أيضاً تتجلى لنا قدرة المؤلف على ربط الخاص بالعام وكشف الصلة بين ما هو عادي عرضي وبين ما هو عام نموذجي. وليت المؤلف دأب على تصوير شخصية فرج الشماس في أغلب مقاطع الرواية على ذلك النحو الذي تجلت فيه هذه الشخصية في المقطع العشرين من الرواية (من ص 101 ــ 105) وسنأتي في مكان آخر على دراسة ذلك لدى التعرض لملامح الشخصية في الجذوة .
وهكذا، تتضح لنا قدرة محمد عبدالملك في السرد الروائي، عندما يكون مؤلفاً عليماً بالشخصية، محيطاً بأبرز خصائصها وبواعثها ودوافعها النفسية، وليس عندما يكون مؤلفاً مراقباً. ويمكننا أن نعثر على جذور هذه المسألة في المجموعات القصصية السابقة .
فمن أمثلة تطبيق المؤلف لأسلوب (المؤلف ــ المراقب)، قصة «الرحلة» من مجموعة «ثقوب في رئة المدينة»، حيث ينيط المؤلف ــ المراقب شخص بدران الحسيني بمهمة السرد القصصي حول الشخصية الرئيسية (مرجان السعيد) فتبرز الشخصية والحال هذه، على نحو ساكن، فهى لا تنطق ولا تتحاور، فلا نكاد نتعرف الا على مظاهرها الخارجية الجسمانية، دون أن يتيح لنا المؤلف إمكانية التوغل والنفاذ في الشخصية وسبر أغوارها. وربما كان سبب ذلك أن المؤلف لم يتعرف عن كثب وبنفسه على الشخصية ، إنما قام بعملية تجميع معلومات عامة حول الشخصية من خلال راو آخر . ومن هنا أيضاً يظهر لنا أن استخدام المؤلف لتلك الطريقة في السرد القصصي، شكل عاملا معوقاً أضعف البناء الفني للشخصية ، أما من أمثلة تطبيق الكاتب لأسلوب «المؤلف المحيط علماً بالشخصية» فيمكن أن نعثر عليه في مجموعة «نحن نحب الشمس» لنقرأ مثلا قصة «في القرن العشرين» فالمؤلف هنا يعرف جيداً شخصية «عثمان أحمد ثاني». وفي حديث شخصي مع الكاتب. أوضح من خلاله أنه كان على معرفة وثيقة بالشخصية المذكورة ، امتدت قرابة ثلاثة عشر سنة. هكذا فإن معرفة الكاتب الضاربة الجذور للشخصية الحقيقية في الحياة اليومية، هي أولى الخطوات وهي المنطلق الرئيسي الذين يمكن الكاتب من تجسيد وتصوير تلك الشخصية وبنائها على نحو فني في العمل الأدبي ، وربما كان هذا هو السبب الجوهري الذي أتاح للقصة المذكورة من بين الكثير من قصص المؤلف ، أن تحقق درجة محددة من النضج الفني والقصصي في الشكل والمضمون . لقد وجد الكاتب نفسه ــ بوعي منه أو بدون وعي ــ أمام أسلوب فني في السرد القصصي مثل عنصراً حيوياً في تعزيز وتقوية واغناء البناء الفني للشخصية في القصة المذكورة .
وهكذا، وبناءٍ على ما تقدم، يمكننا ان نصل الى خلاصة عامة تتمثل في أن الجذوة مثلت في سردها الروائي مزيجاً من طريقتين (أي أسلوب المؤلف ــ المراقب والمؤلف المحيط علماً بالشخصية) بحيث شكل الأسلوب الأول نقطة ضعف وأعاق البناء الفني للشخصية، بينما مثل الأسلوب الثاني عنصراً فعالا في طريقة السرد الروائي وفي البناء الفني للشخصية بشكل عام .
2 ــ انعكاس بؤرة الاهتمام :
المقصود هنا بهذه البؤرة هي الكيفية التي يتجلى فيها عنصر الاهتمام كعنصر رئيسي من عناصر العمل الروائي، والذي يعمل على شد وجذب انتباه القارئ ، إذ أن فضول القارئ وحبه للاستطلاع يعد أمراً مركباً معقداً ، فهو يضع دائماً في مخيلته مجموعة من التساؤلات . . ويطمح لأن تجيب الرواية على مجموعة الأسئلة المطروحة فيها بحيث تأتي الإجابة على تلك الأسئلة على نحو مباشر وتشكل الرواية بأسرها الاجابة الاجمالية العامة من خلال حركة الشخوص وفعلها عبر تنامي الحدث الروائي وبلوغه الأوج أو الذروة . ان الاجابات لا يمكن أن تفصح عن نفسها دفعة واحدة ، ودون مقدمات ، إنما في لحظات معينة في مجرى تطور الحدث الروائي . وهناك مستويات مختلفة متباينة لمختلف الأسئلة المطروحة في الرواية. فليست جميع الأسئلة ذات أهمية واحدة متساوية فثمة أسئلة جوهرية تتصل بالحدث الرئيسي ، وهناك أسئلة هامشية ومكملة للنوع الأول من الأسئلة. أن الجذوة وبوصفها رواية قصيرة لا تحتمل ذلك التزاحم والتعدد والتلون في الأسئلة . إذ أن ثمة فرق شاسع بين الطموح النظري للإجابة على الأسئلة الفلسفية الكبرى وبين التجسيد الفني للاجابات في العمل الروائي وعلى المستوى التطبيقي . فرواية «الجذوة» – أساساً – ومستوى وعي الشخوص ومجرى الحدث فيها ليس من المفترض لها أن تتجاوز الإجابة على أكثر من الأسئلة التالية: من قتل فرج الشماس ؟ ولماذا المقاول بالذات قتل فرج الشماس بالذات ؟ ولماذا اضطر الحارس القروي (مشعل الياس) على ارتداء البزة العسكرية ، وكذلك لماذا لم يواصل المدير العام المسيرة الطويلة ولم انطفأ في قلبه لهيب الجذوة ؟ . هذه هي الأسئلة المحورية في رواية الجذوة ونبضها الجوهري . ويمكن ملاحظة أن الرواية تقدم إجابات محددة واضحة على تلك الأسئلة وفي لحظات معينة من تطور الحدث الروائي وعلى لسان شخصيات الرواية. بيد أن ثمة أسئلة أخرى قام المؤلف باقحامها على شخصيات عمله، دون مراعاة درجة الوعي الاجتماعي الذي تتمتع به تلك الشخوص . لنأخذ على سبيل المثال بروز التساؤل: ما هي الحقيقة ؟ بين الحين والآخر في الرواية . نحن نعرف جيداً أن المؤلف يشير بسؤاله هذا إلى حقيقة جزئية هي: من قتل فرج الشماس ؟ إلا أن تكرار السؤال بصيغة: ما هي الحقيقة ؟ وعلى هذا النحو يفيد بحقيقة أخرى كلية جوهرية ، تتعلق بماهية الوجود البشري ، أن بروز السؤال على هذا النحو الفلسفي ، إنما يشكل قفزة على حجم العمل الروائي المعني وطبيعة الحدث المعطي في الرواية المعني
    
    
    بقلم : يوسف عبدالله يتيم
هذه الدراسة نشرت في مجلة الكاتب العربي العدد الرابع من السنة الاولى ديسمبر 1982 دمشق .
□ تمهيد :
تنتمي رواية «الجذوة»* إلى اللون الأدبي المسمى «بالرواية القصيرة» . Novelette وليس إلى الرواية بمعناها الدقيق أي بمعناها الملحمي، فالجذوة رواية من حيث كونها تحتوي على عناصر الرواية من جهة ، عندما تطمح في تقديم بانوراما أو نظرة شاملة لمرحلة أو لمراحل محددة من حياة بعض الشخوص (ولا سيما العامل فرج الشماس وابنه شاهين والحارس مشعل الياس ورحيم غزوان وميرزا عجب والمدير العام) ، حيث تعكس هذه الشخصيات وبشكل متفاوت وبدرجات مختلفة ، متباينة ، مرحلة محددة من مراحل تطور مجتمعنا ، بدءاً بمنتصف الخمسينات، مروراً بالستينات. وقد تجلت تلك المرحلة على مستوى الشخصيات في فرج الشماس، مشعل الياس والمدير العام على وجه التحديد، بينما عبرت – وبحدود معينة – شخصيات مثل شاهين فرج ورحيم غزوان وميرزا عجب – وإلى حد معين، السكرتيرة رجاء عن فترة زمنية في تلك المرحلة بدءاً من منتصف الستينات إلى بداية السبعينات. وغني عن البيان، فإن تلك المرحلة وفي فترات زمنية محددة، كانت حبلى بالأحداث والتحولات النوعية في بنية مجتمع ما بعد اكتشاف النفط ، حيث نشأت علاقات اقتصادية واجتماعية جديدة في أحشاء المجتمع القبلى ــ الإقطاعي الذي تفتتت وتحللت علاقاته بالتدرج وبفعل قوانين التطور الاجتماعي حيث أخذت تنمو العلاقات الرأسمالية المتقدمة تاريخياً على علاقات ذلك المجتمع القبلي الأمر الذي أدى إلى تشكل مجتمع شبه رأسمالي بعد استخراج النفط ، تحددت ملامح تطوره اللاحق على طريق التطور الرأسمالي بشكل أوضح بعد دخول الشركات المتعددة القوميات والبنوك الأجنبية وتزايد مشروعات الإنتاج الرأسمالية واتساع رقعة نشاطها الاقتصادي داخل البلاد. الأمر الذي تمخض عنه نشوء قوى اجتماعية جديدة كالعمال والرأسمالية الوطنية تحالفت نارت لتهشيم أسس المجتمع القبلي القديم وتناقضت فيما بينها تارة أخرى وذلك طبقاً تقارب أو تباعد مصالحها الاقتصادية والاجتماعية، وقد تجلى ذلك التناقض في الصدامات والمعارك الاجتماعية التي عصفت بالمجتمع في الخمسينات والستينات وعلى مشارف السبعينات. وقد طرأت على بنية المجتمع ــ ولاسيما في منتصف السبعينات ــ تغيرات سريعة وجديدة كنتاج لتلك المعارك الاجتماعية خففت نسبياً من هذه الصدامات الاجتماعية السابقة وقد تمثلت تلك التغيرات في الانتعاش النسبي للاقتصاد بشكل عام . وما كان من الممكن تمثل ظواهر الوحدة والصراع بدقة وتجلى قانون تطابق وتناقض علاقات وقوى الإنتاج الرئيسية في المجتمع وانعكاس تلك الظواهر وذلك القانون في الوعي الاجتماعي. إلا بعد انقضاء المرحلة المذكورة أعلاه . (ولسنا هنا بصدد تأريخ تلك المرحلة. وهذه الدراسة لا تطمح إلى أبعد من بحث رواية الجذوة وكذلك وضع مقدمات نظرية عامة، ميتودولوجية لاستيعاب ظاهرة الرواية ووضع بعض الأسس المنهجية لدراسة الظاهرة المذكورة في الحركة الأدبية البحرينية في المرحلة الراهنة) .
ان الاشارة العابرة هنا لظواهر الوحدة والصراع تومىء إلى أن بعض أحداث رواية الجذوة وملامح الشخصية تفصح ــ بهذه الدرجة أو تلك ــ عن تجلي الظاهرة المعنية وبصرف النظر عن وضوح أو غموض ذلك التجلي ودرجات انعكاسه في الوعي الاجتماعي لشخوص الجذوة.
من هنا، واذا ما وضعنا في عين الاعتبار طرح الرواية إلى التعبير عن مرحلة أو مراحل من حياة مجتمعنا، وبجانب تجلي الظاهرة الاجتماعية المشار إليها ويغض النظر عن درجة التجلي تلك . فإننا سنجد في الجذوة ما يتيح لنا القول بطابعها الروائي من جهة. أما من جهة أخرى فسنرى فيما بعد أن الجذوة تنتقي أو تنتزع لقطات سريعة ومكثفة من حياة شخصيات أخرى ظهرت لنا إما في شكل نماذج مكملة للنموذج الأصلي (أي للأب فرج وابنه شاهين) أو في صورة شخصيات هامشية عادية لا تعبر عن مرحلة بأسرها أو عن فئة محددة من الناس وبخصائصها وقسماتها المشتركة وذلك إذا ما وضعنا في عين الاعتبار مبدأ (النمذجة) كعنصر ضروري في بناء العمل الروائي . . هذه الشخصيات هي على وجه التحديد والدقة ــ سعد مختار وعنتر السجان وأبومحمد، والتي لم تربطها روابط عليّة سببية بالحدث الروائي . وسنأتي على ذلك بالتفصيل فيما بعد.
وهذا الأمر يخلق في هذه الرواية القصيرة ميلا للجمع بين خصائص شكلين من أشكال القصة (أي القصة القصيرة والقصة الطويلة). ان الميل العام أو النزوع نحو خلق بانوراما لحياة النماذج عبر الحدث والفعل ، والرغبة الجامحة في تغطية حياة كاملة أو مرحلة معينة من حياة الشخصية ومصيرها التاريخي ، وبصرف النظر عن درجة التحقق والتجسد المادي لتلك الرغبة في العمل الروائي، يشكل سبباً رئيسياً في الانعطاف نحو الرواية القصيرة بشكل عام . كما أن المتتبع عن كثب للاتجاهات الأدبية الأخيرة ، سيجد أن هذه الاتجاهات تبحث عن أشكال وأساليب فنية جديدة في النثر . «لقد أضحى البطل النموذج الملحمي شائعاً على نحو متزايد بحيث أصبحت القصة ــ النثر دون ذلك النموذج غير مقنعة. وهذه هي إحدى أوجه أو سمات الرواية القصيرة المعاصرة . وهي تخلق جاذبية استثنائية خاصة في تصوير الحياة . . في تعقدها ، غناها وتنوعها»(1)** كما يقول الناقد الأكاديمي «سافا دانجلرف» . وهذا هو السبب الآخر للانعطاف نحو الرواية القصيرة في أدب البلدان النامية وبما فيها بلادنا . ولعل من الدواعي البارزة في التوجه نحو الرواية القصيرة هو عدم قدرة القصة القصيرة بمساحتها المألوفة على رصد وتصوير مرحلة أو مراحل متعددة من حياة البطل ــ النموذج وبالتالي على تفريغ التجربة الذاتية والخبرة الحياتية للأديب .
يجيب مؤلف الجذوة ــ محمد عبدالملك ــ على سؤال ما إذا كانت القصة القصيرة قد ضاقت بطموحاته نحو الرواية ، بأن القصة القصيرة ، «ضاقت ليس بطموحاته بقدر ما ضاقت بحمل أعباء النفس . فالفرد منا كما يقول ــ يشعر بالصلب ودبيب المسامير في راحتيه وطرقات حادة تأتي إليه من أكثر من مكان ويواصل «كيف أستطيع أن أقول كل شيء في قصة قصيرة وكيف أقول كل الأشياء دفعة واحدة . . .»،(2) (انتهى كلام المؤلف).
ان الانتقال الى كتابة الرواية ليس بالأمر الهين أو البسيط ، فالمسألة ــ ولا سيما في طور ولادة الرواية ونشوئها في البلد المعني ــ مرهونة بعوامل عدة . أهمها الموهبة الفنية في الكتابة القصصية والروائية . هذا العامل الذي يمكن تلمس بصماته حتى الآن عند كل من أدبائنا الشباب : محمد عبدالملك. عبـدالله خلـيفة ، أمين صالح وخلف احمد خلف ، وذلك دون المبالغة في تضخيم ذلك العامل أو التقليل من شأنه (ان الحديث يدور هنا عن الكتابة الرواية في مرحلة تطور الحركة الأدبية في اللحظة الراهنة أي في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات) ، وبجانب تلك العامل الحاسم توجد عوامل أخرى ليست أقل أهمية من عامل الموهبة الفنية وصدق الانفعال بالحياة، ويأتي على رأس تلك العوامل: الثقافة الأدبية والفنية العالية بما تنطوي عليه من مهارة ومراس وخبرة بالتكتيك الفني ودرجة محددة من الوعي الاجتماعي بحركة تطور المجتمع عامة والقوى الاجتماعية الفاعلة والمؤثرة فيه . . . تطور مجتمعنا بالذات ، والإمساك بقوانين تلك الحركة وظواهر الوحدة والصراع ودرجة تجليهما في المرحلة المعنية ، تآلفهما وتناقضهما الجدليين . اضافة الى تجميع المادة الحياتية ومعرفة كيفية التقاط ما هو هام وجوهري في الحياة الاجتماعية واستبعاد ما هو تفصيلي . . عادي . . رتيب ، عبر اكتشاف الحلقات المهمة والرئيسية في ذلك التفصيلي العادي . . الرتيب ، أي الحلقات المساعدة أو الموصلة وبشكل فني إلى ما هو هام ، نموذجي وجوهري . ومن الواضح أن هناك فرق شاسع بين الإدراك المعرفي ، على المستوى النظري لهذه المهمة الصعبة وبين تجسدها وتجليها المادي الحي المتحقق في العمل الروائي على المستوى التطبيقي .
أن عصرنا الراهن هو عصر التجريد الفني والجمالي . عصر الاكتشاف والخلق الإبداعي ، هذا الأمر يجعل من هذا الفن (أي الرواية القصيرة) شكلا نمونجياً ينبغي أن تتجلى من خلاله عملية التجريد الفني ليس بشكل نمطي . معمم . مجرد من المادة الحياتية أو مفرغ من الحياة كما هي معاشة أو الشخوص الواقعية وصراعات الحياة الحقيقية من جهة ، ولا بعرض ما هو رتيب عادي وتصوير كل شاردة وواردة في حياة البطل ــ النموذج أو التفاصيل الموغلة في ثانويتها.
إن نقطة البدء في الإبداع الروائي هنا ينبغي ان تنطلق من حياة مجتمعنا ذاتها ومن الأحداث والوقائع الحياتية الفعلية ، ودون ذلك لا يمكن أن تتأسس الفكرة الفنية الأولية أو أن تتكامل على شكل صورة فنية . ولا يمكن أن يتأسس الفن الروائي دون أن يكون أديبنا قد مر مسبقاً بتجربة ذاتية وستحصل ذخيرة من الانطباعات المتنوعة ، هذا الأمر الذي سيشكل بالنسبة له مخزوناً من الصور الفنية و أشكالا متعددة من الإبداع الفني . تلك هي نقطة البدء في كتابة الرواية.
بيد أن معرفة الأحداث والوقائع الحياتية لا تكفي وحدها لأن تخلق لنا في العمل الروائي صور فنية دون إشراك الخيال . وهذه صفة هامة للموهبة . ويمكننا أن نتلمس هذه الصفة وبعض خطوطها لدى بعض كتاب القصة القصيرة في البحرين.
إن الإلمام بدقائق التنميط في الفن ومعرفة سبل النمذجة يعد أمراً ضرورياً لا يمكن تخطيه ، تجاوزه أو القفز عليه في كتابة النص الروائي . وعندما يكون أمام كاتب الرواية نموذج واقعي للصورة الفنية التي يطمح في تشكيلها أو إنشائها ، سيشعر حتماً بضرورة وجود خيال مبدع كشرط أساسي وجوهري في بناء العمل الروائي . فالصورة الفنية لا تصف لنا النموذج أو البطل كزيد أو عمرو من الناس . أن الصورة الفنية تكتسب محتوى أغنى وأعمق من شكل البطل أو النموذج الموجود في الحياة الحقيقية والتي تطمح تلك الصورة في عكسه وتصويره . بيد أن ذلك لا ينبغي أن يختلط بفكرة أخرى مناقضة ، تتمثل في الابتعاد عن الحياة وصراعاتها الحقيقية ورسم صور و أشكال مختلفة . . باهتة ، لا هوية لها ، وبعيدة عن تربتها الاجتماعية أو عن المنطق الداخلي للواقع المحلي المعاش .
يقول أحد النقاد في هذا الصدد بأن «الموهبة عند الفنان تعبر عن ذاتها في قدرة صاحبها على التقاط الجوهري والأهم . وعلى تركيز انتباهه على العمليات والوقائع الحياتية الأشمل في إظهارها لمعنى ما يعكس . وامكانية هذا النوع من التعميم موجودة في الحياة نفسها . فالقضية هي أنه توجد في كل ظواهر الواقع (بما في ذلك الإنسان) إلى جانب الملامح الذاتية المتفردة ، سمات عامة توحدها في مجموعات متفاوتة في كبرها . فكل واحد منا هو إنسان ذو قوام خارجي وداخلي خاص به وحده . لكنه توجد في أخلاقنا الى جانب ذلك، ملامح نشترك فيها مع أناس آخرين من نفس مهنتنا ووضعنا الاجتماعي وقوميتنا وأخيراً مع الإنسان بوجه عام . ولهذا السبب تتوفر عند الأديب وهو يتحدث عن إنسان ما محدد ، إمكانية التعميم في صورة ذلك الإنسان ملامح وخصائص يشترك فيها أناس كثيرون أو حتى كل الناس . وهذا التعميم من خلال الصورة الفنية المتفردة يسمى «نمذجة»(3).
أن الواقعية الجديدة وبوصفها منهج حي متطور لا تتحقق في خلع الرمز على فكرة عامة مجردة ولا عن طريق تقريرها وتوضيحها بمثال فردي وصورة مشخصة انما بإظهار العام في المفرد . . . في الخاص ومن خلاله . فالنمطية والتجريد في النمذجة والابتعاد عن تصوير الحياة الحقيقية بكل آلامها ومآسيها . . وبكل أفراحها وأعراسها ، إنما هي نزعة تتوحد مع تيار آخر نقيض لها هـو التسجيلية والتقريرية في تصورهما المشوه لقوانين التعميم والنمذجة في الأدب الواقعي . . ومن هنا تنشأ ضرورة العمل بدأب ودون منافحة أو مواربة لتجاوز التقريرية وضد الشحوب والعبث في الفن على حد سواء ، بهدف إرساء أسس واضحة لتطوير حركتنا الأدبية وانتشالها من المراوحة في مكان واحد وكسر جمودها والتصدي لمحاولات التحجر والانغلاق والتكلس .
إن من الخواص الرئيسية للرواية القصيرة عامة هو أن الأحداث فيها تتطور وتتنامى وفقاً لتسلسلها الزمني المتواصل والنظر للزمن كوحدة غير متقطعة ، وكخاصية موضوعية مستقلة عن وعي الذات عامة وعن وعي الأديب وشخوص عمله الروائي بشكل خاص . ولا يمكن تصور الرواية القصيرة دون وجود ما يسمى بمبدأ «الكرونيكاليتي»، Chronicality (أي عرض الأحداث طبقاً لتسلسلها وتعاقبها وتتاليها الزمني بشكل متواصل)، هذا الجانب الحيوي نجده واضحاً عند كتاب الرواية القصيرة الواقعيين الذين انتهجوا هذا الشكل الفني منذ تورجينيف الى آيتماتوف وكيزين كوليف ، وفالنتين راسبوتين وغيرهم من كتاب الرواية القصيرة الواقعية في مختلف الآداب العالمية المعروفة .
إن انعدام التعلق والترابط الكرونولوجي للزمن الروائي ، أمر يتعذر فهمه بحيث أنه «يستحيل على كاتب الرواية، كما يقول إدوارد مورجان فوستر ، إنكار الزمن في بنية عمله الروائي»(4)، ويواصل الناقد قوله مؤكداً على أن العنصر الأساسي للرواية هو وجود قصة وهذه القصة هي حكاية مؤلفة من أحداث منسقة في تسلسل زمني «وذلك في تعليق له على موضوع الكرونولوجيا في رواية «والتر سكوت»، (جامع الآثار) The Antiquery وفي تقييمه لموضوع الزمن وتفتيت التسلسل الزمني عند الروائية «جيرترود ستين Gertrude Stein» وبصرف النظر عن صحة تعريف فوستر للرواية ، فإن تأكيده على الطابع الكرونولوجي أي التسلسل والتعاقب الزمني لأحداث الرواية ، وهو أمر لا يحتمل الجدل .
إن المصير التاريخي المأساوي لشخصية فرج الشماس في رواية الجذوة تعكس الى حد ما تعقد ظروف المرحلة التاريخية الملموسة. كما أن الأهداف العامة التي تسعى إلى تحقيقها شخصيات الجذوة من البحث عن الحقيقة . والكفاح من أجل الخير ومقاومة الشرور الاجتماعية . هذه الأهداف الإنسانية الرفيعة تجلت لنا في الرواية المذكورة على أنها أهداف بعيدة المنال في الظروف الحالية الراهنة.
إن المصير التراجيدي للشخصية يلعب هنا دوراً خاصاً في فترات التحول الاجتماعي اذ أنه يعكس تعقد وصعوبة المشاكل التي يطرحها الزمن والتاريخ على افضل الناس والتي يتعذر حلها في الوقت الراهن.
هكذا مثلا كان وعي «هاملت» للمأزق المأساوي لوضعه في هذا العالم ، الذي بدا له بشكل سجن ضخم ، حيث أحس بالعالم احساس رجل ذي نزعة انسانية قرر ان يدخل في مواجهة غير متكافئة مع هذا العالم .
هكذا ينبعث لنا موت انسان كفرج الشماس والمصائر التاريخية للشخصيات الأخرى كانهيار لقيم إنسانية هائلة قوامها الصدق ، والعفوية والرغبة الجامحة في نشر الخير الاجتماعي . إن هذا الموت لذلك الانسان وهذا الانهيار لتلك القيم إنما تثير فينا شعوراً بأن هذه القوة العظيمة الهائلة من الأفكار والمشاعر الإنسانية لم تذهب عبثاً . فالمأساة هنا قادرة على أن تعبر عن الإيمان العميق بالإنسان وبمستقبله . «قال لي القمر ما سيقوله لأحفادي ، أن الضوء جميل ، والليل الدامس مقبرة رهيبة. لغة الريح واحدة ايضاً : أن الشر تجتاحه العواصف مع الأيام »(5).
تتناول هذه الدراسة رواية الجذوة من الجوانب التالية : الجانب التفسيري والجانب التحليلي والأساسي التقييمي ، وبما تنطوي عليه تلك الجوانب من تفكيك للرواية وتحليلها لعناصرها الرئيسية والمتمثلة في المقاطع المختلفة . فهي من هذه الناحية تنصب على التكوين البنيوي للنص الروائي من حيث تحديد الشخصيات والحدث أو الأحداث الرئيسية والأسلوب والعلاقات البنيوية المكانية والزمانية وكذلك علاقات التماثل والتناقض. ثم يمتد هذا التناول ليشمل دراسة الرواية المعنية من وجهة النظر الروائية من حيث البؤر والمحاور المتعددة كبؤرة السرد الروائي وبؤرة عنصر التشويق وبؤرة الشخصية وملامحها الرئيسية ومبدأ النمذجة والترتيب الكرونولوجي لأحداث الرواية ودراسة الخبرة الحياتية ومدى التجربة الذاتية ، مع إخضاع تلك الجوانب لمنهج الإبداع الفني، وذلك بهدف تجاوز وتخطي الميل الانطباعي ــ التأثري والنظرات الذاتية والأحادية الجانب في دراسة نص العمل الأدبي وبالتالي تأسيس الخطوات المنهجية الأولى اللازمة والضرورية لمواجهة أزمة النقد المزمنة في حركتنا الأدبية والتي وبدونها سيظل نتاج أدبائنا الشباب عرضة للمزاجية وتغليب الذاتية على المنهج . ولا تدعي هذه الدراسة بأن خطواتها المنهجية قد استكملت مقوماتها في دراسة النص الأدبي ، ذلك لأن المنهج نفسه لا يتأسس دفعة واحدة ودون مقدمات ، إنما عبر المعاناة والمعايشة الحقيقية للنص . . وعبر التطبيق وبما ينطوي عليه من اخفاق تارة والكشف عن حقائق جزئية في النص تارة أخرى . إن المنهج في هذه الحالة غير موجود، ولكنه يتشكل . . يتأسس . . ويشق طريقه الى حيز الوجود .
□ البحث الأول :
الهيكل العام للعلاقات البنيوية في «الجذوة»:
1 ــ بنية المقاطع من حيث الشكل :
تتألف بنية نص رواية الجذوة من إحدى وعشرين مقطعاً ، وتتعدد في داخل المشهد العام للرواية تنقلات الذاكرة في الزمن . بحيث أن الرواية في بنائها العام هي حصيلة التراكم الكمي لمجموع التداعيات وتنقلات الذاكرة . كما تتعدد هذه التداعيات والتنقلات ليس لتشييد البناء العام للرواية فحسب . إنما لتؤسس الإطار العام لكل مشهد على حدة وضمن المقطع الواحد أيضاً . لنأخذ على سبيل المثال «المقطع الثاني»، وهو اطول مقطع من حيث تعدد الموضوعات وتداعيات الذاكرة عند الراوي في حجمها الكمي . فهذا المقطع يتألف من خمسة وعشرين مشهداً جزئياً تقع في ست صفحات فقط . وهذه المشاهد الخاطفة والتداعيات تأتي إما في صورة ، سؤال وجواب : مثل، س : ما الفرق بين العادي والخارق ج ــ انهم يضحكون من القلب وهذا فعل خارق/ أو في شكل حوار بين متحاورين مستترين كما في المثال التالي :
ــ …………….
ــ لم يمت مخموراً .
ــ كانت آثار ثقوب في ظهره .
ــ المقاول .
ــ لا أعلم ، لم يمت مخموراً .
أو كما في المثال التالي :
ــ هل جاء الى العمل.
ــ لماذا شاهين فرج .
ــ لأنه الرأس .
ــ هو موجود !!
أو على هيئة نبرة الصوت الثالث وتداعي الذكريات وانثيالها في مخيلة الشخصية الرئيسية :
ــ « أنا عشيق زوجة المقاول» ص 10.
ــ «بوسع الإنسان أن يكون خارقاً يوماً ما» ص 12.
ــ «من أجلي لا تشارك» ص 13.
و ــ « بيت لليلة الواحدة . . .».
أو على شكل حوار بين شخصية مستترة ، هي الراوي ، وأخرى غير مستترة ، كما في الحوار التالي :
قال مشعل الياس :
ــ أتحب التغيير .
ــ للأفضل .
ــ سيشاركك الحجرة مهرب .
ــ مخدرات .
ــ شاب من عمرك .
ــ أي شيطان !
ــ ما أسمه
ــ رحيم غزوان . . . الخ
أو في حالة تنقل الذاكرة في الزمان والمكان كما في الصورة التالية :
ــ رحيم غزوان ، يعمل في الطيران/ أول جملة على صفحة 14.
ــ لكنه لا يعمل في الطيران . / آخر جملة على صفحة 15.
ــ قبل سنوات ، أما في السنوات الأخيرة . . . ص 16.
ــ معاً في زنزانة واحدة . ص 16.
أو في اعتماد السرد على لسان الراوي، كما في المثال التالي من نفس المقطع : (هو يعرف الحقيقة «أي رحيم غزوان»، وكل مال حدث . نحن من حارة واحدة ، ذهب اليهم بنفسه ، وعاد معهم بنفسه . أشار إلى البيت . كان ليلا وبرداً . كنت خلف النافذة ، أرقب جري الكلاب ونباحها من وراء النافذة ، سمعت أبي يغني ثم يشخر . داهمني الرجال . . .)
وهكذا تستمر الأسئلة والأجوبة تتدافع ، اللقطات والمشاهد الخاطفة كما لو أنها لقطات ومشاهد سينمائية سريعة التنقل . وتداعيات الذاكرة لا تكف عن الانثيال في المقاطع الأولى والوسطى من الرواية . ثم لا تلبث أن تتضاءل تدريجياً في النهاية ، فيبدأ السرد القصصي في التزايد ، بدءاً من المقطع السادس عشر ، ذلك وإن تخللت المقاطع الأخيرة ، الحوارات وتداعيات الذاكرة أحياناً .
إن المؤلف يقوم هنا بمحاولة تطبيق ما يسمى بالمونتاج الروائي حيث يسعى الى القيام بعملية توحيد وممازجة المشاهد الجزئية للأحداث عن طريق ارسال لقطات سينمائية سريعة التنقل في عملية توصيل المشهد العام للحدث الرئيسي .
إن هذه القضية ترتبط بمسألة ما إذا كان الكاتب يعرف جيداً كيف أن أي تغير في هيكل أو في بنية الرواية وإن أي تنويع في الأسلوب ، سيعمل على تغيير الاستجابة الكلية عند القارئ . فمثلا لنرى كيف أن اديباً كهمنغواي في أحد قصصه (القتلة ــ The Killers) وحيث لجأ إلى أسلوب المونتاج القصصي قد اختلط أسلوبه الواضح والبسيط والواقعي بمشاهد وومضات سينمائية فكان على تلك المشاهد أن تجتمع وتتوحد فيما بينها في عملية توصيل المشهد العام للعالم حسبما يراه الكاتب»(6). إن الصعوبة هنا تكمن في القدرة على توحيد المشاهد الجزئية في توصيل المشهد العام وليس في مسألة مشروعية تطبيق أسلوب المونتاج أو عدم تطبيقه .
2 ــ الِشخصيات :
تتجلى لنا الشخصيات في رواية الجذوة على النحو التالي :
أ ــ شخصيات رئيسية هي : فرج الشماس والمقاول ثم شاهين فرج ورحيم غزوان ، مشعل الياس والمدير العام .
ب ــ شخصيات ثانوية مكملة للنماذج الأصلية وهي: زوجة المقاول وعشيقة شاهين فرج ثم ميرزا عجب والسكرتيرة رجاء وأم شاهين .
ج ــ الشخصيات ذات الأهمية بالنسبة للراوي والمقطوعة الصلة بالحدث الروائي وهي: سعد مختار وابومحمد وعنتر السجان .
3 ــ الحدث الرئيسي :
يتلخص الحدث الرئيسي في أن علاقة تناحرية عدائية تنشأ بين المقاول وبين العامل فرج الشماس ، سنأتي على ذكر أسبابها فيما بعد ، يدفع المقاول بامرأة تصدم فرج الشماس في حادثة سيارة ، يموت من جرائها فرج الشماس بشكل مأساوي . ورغم كثرة شهود العيان ، لا يجرؤ أحد على الشهادة برؤيته للجرم ، وعندما يظهر الشاهد (وهو الرجل الغريب ظاهراً ــ شاهين فرج الابن واقعاً ) ويعلن عن شهادته وعن رؤيته للحادث ومعرفته بالمجرم ، فيدخل هو في السجن وليس المجرم وحيث يتعاطف الشرطي مع الفتاة ويتهم شاهين فرج بالحديث عن أعراض الناس وعلى ذلك يتحول شاهين فرج من شاهد على مقتل والده، إلى متهم بالقذف في عرض المومس التي دهست والده في الحادثة المذكورة .
وهناك في الرواية حدث آخر مماثل للحدث الرئيسي حيث يسقط أحد العمال من احدى طوابق عمارة ، فيموت بنفس الطريقة التي مات بها فرج الشماس . . أي عن طريق الغدر والتخطيط المسبق للجريمة مع الإيحاء في كلا الجريمتين بأن هذا العامل وكذلك فرج الشماس قد وافتهما المنية بشكل طبيعي ، وبسبب كونهما مخموران وليس بحكم التدبير وسبق الإصرار على ارتكاب الجرم .
4 ــ الأسلوب :
يتسم أسلوب الرواية بالبساطة والوضوح التقريري مع استخدام الجمل والعبارات القصيرة والبسيطة التي تسود في مجمل مقاطع الرواية ، إلا فيما ندر حيث تأتي الجمل المركبة والمعقدة في سياق السرد وعلى نحو طفيف . وفي المقاطع الأولى يكثر الحوار وتتعدد التداعيات مع تداخل نسبي للسرد في المقاطع التي يسودها الحوار ويمكن تمثيل ذلك بالصيغة التالية: (حوار/ حوار/ حوار / سرد / حوار / حوار / سرد / حوار / حوار) ، وبالعكس ، ففي المقطع الأخير من الرواية يتزايد السرد ويقل الحوار تدريجياً ويمكن تمثيل ذلك في صيغة:
(سرد / سرد / سرد / حوار / سرد / سرد / حوار / سرد / سرد) .
وفي أثناء الحوار نجد أن الشخصيات تتحدث عن بعضها كحوار مشعل الياس مع شاهين فرج عن والده ، وكذلك حديث المدير العام مع الابن عن الأب وعن نفسه. وأيضاً حديث الأم مع ابنها عن والده ، الأمر الذي يؤكد أن الراوي ( شاهين فرج) ليست لديه المعلومات الكافية عن تاريخ حياة والده .
أما في حالة السرد ، فيتولى الراوي نفسه الحديث عن الشخصيات الأخرى كحديثه ووجهة نظره في ميرزا عجب وفي سعد مختار وعنتر السجان وأبي محمد . أما في حالة مثول الشخوص وحضورها وجهاً لوجه ، فإن الحوار في هذه الحالة، ينعقد مباشرة فيما بينها ودون وساطة شخص ثالث .
أما الصوت الثالث في الرواية فيتجلى لنا على شكل تداعيات في ذاكرة الراوي ، تعود به الى أحداث سابقة وتبرز على هيئة ارتجاع فني Cut-back يفتت ويقطع التسلسل الزمني بإيراد أحداث وصور أو مشاهد وقعت في الزمن الماضي . وتظهر تلك التداعيات في الرواية بين الحين والآخر في جمل وعبارات موضوعة بين هلالين صغيرين . وهذه التداعيات في مجملها تعيد نفسها في ذاكرة الراوي . . بعضها يتمركز في بؤرة الشعور وتومئ إلى ذات الراوي ، وبعضها الآخر يراجع الى هامش الشعور ، بحيث أن صيغتها الدلالية المجسدة في الكلمات والجمل والعبارات المختلفة ، تشير إلى الآخر وليس الى ذات الراوي .
وقد بلغ حاصل التراكمات الكمية 101 تداعياً وذلك فيما يتعلق بالرواية ككل . وإذا ما استثنينا المقاطع الأخيرة من 16 – 21 والتي تشكل في حد ذاتها بؤرة تجمع أو مركز الحدث الروائي وهي التي يتناقص فيها عدد التراكمات الكمية لتداعيات الذاكرة ، فإننا سنجد أن ذلك التراكم يتزايد بشكل ملحوظ في المقطع الثاني والثالث وكذلك في المقطعين الرابع عشر والخامس عشر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رقم المقطع عدد التداعيات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 3
2 – 9
3 – 8
4 – 6
5 – 5
6 – –
7 – –
8 – 7
9 – 2
10 – 7
11 – 4
12 – 4
13 – 6
14 – 13
15 – 9
16- 6
17 – 5
18 – –
19 – 1
20 – 2
21 – 4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع التراكمات الكمية ــ 101
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5 ــ العلاقات البنيوية في نص رواية الجذوة :
أ – علاقات التماثل والتناقض البنيوية :
وتتوزع هذه العلاقات على مستويين: مستوى الحدث ومستوى الشخوص . فعلى مستوى الحدث نجد أن ثمة حدثين متماثلين . . أي وفاة فرج الشماس ووفاة العامل الذي سقط من العمارة . وتتجلى تماثلية الحدثين في العبارات والجمل التالية من المقطع الحادي والعشرون (21):
ــ ميتة الرجل تشبه ميتة أبي .
ــ مدفوع . المقاول نسج الرواية كاملة ، دفع له الأجر ، وأبي . . مخموراً.
ــ نفس الصوت ــ نفس الفم ــ نفس الوجه / و ــ منذ سنوات وهو في غابة السكر . . لماذا الآن .
أن علاقة التماثل المذكورة هي علاقة جوهرية، أما علاقة التباين بين ذينك الحدثين فهي علاقة ثانوية تتمثل في أن فرج الشماس مات على أثر صدمة سيارة بينما مات العامل من جراء إسقاطه من احدى طوابق عمارة . كما أن علاقة التماثل تلك تعني تكرار حدثين متشابهين ينسج إحداها الآخر .
أما على مستوى الشخوص ، فتقع علاقات التماثل بين شخصيتين رئيسيتين هما:
فرج الشماس (الأب) وشاهين فرج (الابن) ، حيث تجمع بينهما روابط وصلات عديدة ليست فقط صلة القرابة . إنما أيضاً التشابه في الموقع الاجتماعي ، فالأول عامل والثاني كذلك ، وأيضاً فيما يتعلق بالتجانس الثقافي وكذلك التقارب على مستوى التكوين النفسي السيكولوجي ، بحيث أن كلا الشخصيتين تنسخ إحداهما الأخرى ، فلا نكاد نتعرف على علاقات التمايز والتفرد بينهما .
ومن أمثلة الصيغ الدلالية الموحية بذلك التماثل بين الشخصيتين المذكورتين ، تلك العبارات والجمل التي ترد بين الحين والآخر في الرواية. فمثلا يقول مشعل الياس لشاهين فرج: «أنت صورة منه»، أي أن شاهين فرج (الابن) نسخة عن أبيه فرج الشماس ص 8 وفي المقطع الثاني ، حيث يطالع الابن صورته في علبة البيرة ويقول « في العلبة وجه أبي» ص 10 وأيضاً عندما يروي المدير العام لشاهين فرج عن مكانة والده بين العمال ، موضحاً تقارب تلك المكانة ، حيث يقول « ــ أنت رأس الجميع و ــ كان أبوك رأسنا» ص 191 / و ــ ما في رأسك في رأسه ص 24 … الخ .
أما علاقات التناقض، فتتجلى على شكل صراع خارجي حاد بين فرج الشماس والمقاول، يتجسد في هيئة تعارض تناحري وصراع بين شخصيتين، ينجم في الظاهر عن دوافع وبواعث شخصية خاصة ويفضي إلى فاجعة مأساوية تمثلت في موت فرج الشماس عن طريق الغدر. ثم لا يلبث هذا الصراع أن يعيد نفسه ويتكرر للمرة الأخرى ، متجلياً في المرة التالية على شكل تناقض بين شاهين فرج (الاين) وبين رحيم غزوان ، ثم تتسع رقعة هذا التناقض لتنتقل من حالة صراع بين شخصين الى صراع عام شامل بين من يصنع الخيرات المادية بعرق الجبين وبيع قوة العمل وبين من يقطف ثمار هذه الخيرات دون جهد . . بين الخير الاجتماعي مجسماً في شخصيات مثل: شاهين فرج ، السكرتيرة رجاء وميرزا عجب وغيرها من شخصيات والتي عكست إلى حد كبير، مشاعر النبل والإنسانية المشوبة بالكبرياء والاباء جنباً إلى جنب مع العفوية والصدق ، الطيبة وصفاء النفس وحب الايثار والرغبة الجامحة في التفاني من جهة وبين الشر الاجتماعي مجسماً في شخصية رحيم غزوان وبما انطوت عليه هذه الشخصية من مظاهر الخنوع والجبن، الجشع والغطرسة والوشاية والغدر، الخسة والدناءة، الأنانية وحب الذات من جهة أخرى .
كما تجلت علاقات التناقض المذكورة على شكل صراع داخلي بين الأفكار والعواطف على مستوى الشخصية الواحدة: ومن أمثلة ذلك الصراع ، التوتر والاضطراب الداخلي عند مشعل الياس، هذا الحارس الذي رغم كراهيته للبنادق والسجون، نجده يرتدي البزة العسكرية ويحرس السجون . فهو يكره البزة ، بينما يضطر في الوقت نفسه الى ارتدائها بحثاً عن لقمة العيش تارة وبفعل الخوف تارة أخرى ، وتنسحب علاقات الصراع الداخلي تلك على المديرالعام أيضاً . . بين تذكره واستعادته للماضي عندما كان فارساً قديماً وبين وضعه في اللحظة الراهنة وبوصفه مديراً عاماً . لنستمع إليه وهو يحادث شاهين فرج : «كنا نسميها فترة النهوض الأولى ، والعسكر يملأون الأرض والسماء ، أحذية أجنبية ، صادقت أباك ، كنا نزحف ، وجهي ووجهه ، من فوقنا كان غبار وجند وخيل . تصور كيف كان يتم التعارف بين جيلنا في الماضي ، في الظلام ارتمت راية ممزقة وسنابك خيل ، أنا لم ازحف صدقني ، ولم أتخل عن إيماني ، لكن الأمور بدت مستحيلة وما يتم من حولي لا يصدر من هذا المكتب» ص 45، وأيضاً عندما يبدي المدير العام تعاطفه مع شاهين فرج حيث يقول :
ــ أنت طيب .
ــ يؤلمني موت أبيك بهذه الطريقة ص 33 .
أي بطريقة الغدر . فالمدير العام يعرف جيداً أن فرج الشماس مات ميتة غير طبيعية إلا أنه يلوذ بالصمت . . دون أن يكون له حول أو قوة ، وكذلك عندما يصفع رحيم غزوان السكرتيرة رجاء على وجهها ، حيث يدافع المدير العام عن نفسه أمام شاهين فرج ، مؤكداً له بأنه ليس هو السبب في كل ما يدور ، لنستمع الى هذا الحوار بين المدير العام وبين شاهين فرج حول رحيم غزوان :
شاهين : يقول بأنك تعطيه الأوامر .
المدير : يكذب .
شاهين : وإنه منفذ لقراراتك . مهدد بالفصل من قبلك .
المدير : يكذب . هل تصدق انساناً يضرب امرأة . أنا المدير العام لكني حائر .
هكذا يقع المدير العام فريسة للصراع الداخلي والتوتر والاضطراب والحيرة ويظل يحوم في أسر ذلك الصراع ، فهو يعرف الحقيقة ، لكنه لا يقوى على البوح بها ويبدي تعاطفه مع قوى الخير ، لكنه لا يجرؤ على مقارعة الشر أو الاصطدام به ، فيظل حبيساً للخوف وللموقع الاجتماعي الذي يتبوؤه في اللحظة الراهنة والمصير التاريخي الذي آلت إليه شخصيته بفعل اصطفافه الاجتماعي الحاضر .
وعلى هذا النحو يبرز لنا الصراع الداخلي على مستوى الشخصية الواحدة وتتكشف لنا علاقات التماثل و التناقض على مستوى الحدث والشخصيات في العمل الروائي المعني .
تجليات المكان في رواية «الجذوة»
تتعدد العلاقات المكانية في رواية الجذوة بتعدد المشاهد الجزئية وتنقلات ذاكرة الراوي في الأماكن المتعددة والعودة إليها مرة أخرى . ففي المقطع الأول نلتقي بمشعل الياس والراوي على ظهر قارب في البحر ، وفي المقطع الثاني تنقلنا ذاكرة الراوي الى الطائرة في الجو حيث تتجه به الى بلاد أخرى ولا يعرف وجهته ، وفي المقطع الثالث تنقلنا الرواية إلى بيت أم شاهين ، وفي المقطع الرابع تعود الذاكرة بالراوي إلى السجن ، وفي المقطع الخامس نتعرف على المصنع حيث الإضراب وعلى مكتب المدير العام حيث يدور الحديث بين شاهين فرج والمدير العام ، وفي المقطع السادس تتعين وجهة الراوي الطريد التي لم تكن واضحة في المقطع الثاني . فتتحدد بشكل أوضح ، فنلتقي به في المنفى أو في الغربة حيث تنثال ذكرياته حول المقهى ، وفي المقطع السابع يتحدد لنا المكان على انه الشارع ، حيث يقع الحدث الرئيسي عندما تدهس السيارة البيضاء فرج الشماس وهو فوق عربته الحمالة، وتتمازج الأماكن في المقطع حيث ننتقل للمرة الأخرى إلى المصنع عندما يهرب رحيم غزوان ويتوارى في المدينة وكذلك في المقطع الثامن، حيث يظل المصنع هو المكان الرئيس، وفي المقطع التاسع نعود مرة أخرى الى مكتب المدير العام، وفي المقطع العاشر تنثال ذكريات الراوي حول «ابومحمد» صاحب المقهى في الغربة في إحدى دول الخليج . وفي المقاطع التالية تتكرر الأماكن ذاتها فتنتقل ذاكرة الراوي بين المخفر والسجن والمصنع . . الخ ٠ وعلى هذا النحو تتعدد تنقلات الذاكرة في المكان براً وبحراً وجواً . . في الوطن وفي المنفى . . في السجن وفي المصنع . . في الشارع وفي المخفر ، وذلك تبعاً للتصميم العام للرواية والتي اعتمدت أساساً تعددية المشاهد الجزئية المختلفة ، الأمر الذي ترتب عليه ، وكنتيجة طبيعية ، الإيغال في تجزئة المكان على النحو المذكور. وربما كانت علاقة المؤلف بالمكان هي علاقة حسية محض تعني بالمكان المحدد ، المعين والملموس دون أن ترقى للعناية بحيز المكان الروائي . وهذه العلاقة تعكس من الناحية الاجتماعية، ارتباط المؤلف والراوي وشخوص الرواية على حد سواء وشدة تعلقهم وانتمائهم لهذا التراب المحلي بالذات ولهذا الشعب ولهذه الأرض بالذات، أما من الناحية الجمالية الفنية، تبقى الأماكن من حيث الصيغة الدلالية، إشارات ومسميات واقعية لا تخضع لنظام الترميز والتجريد الذهني ، فالبحر هو البحر الواقعي الذي لا يومئ إلى أبعد من ذلك والسجن هو السجن بجدرانه الأربعة والمصنع هو المصنع ، والشارع هو الشارع كسائر شوارع المدينة وكذلك الطائرة وهكذا دواليك . ها هنا نجد أن المكان المحدد الملموس والجزئي لا يتحول إلى مكان واسع شامل. إن حل هذه المسألة في الأدب ، يرتبط الى حد كبير، بضرورة استيعاب العلاقة الجدلية القائمة بين الخاص والعام ، بين المكان المحدد الملموس والمكان الروائي بطابعه الشمولي العام ، وذلك ليس بتجريد الأمكنة الجزئية من خواصها الحسية برمتها، ولا والإيغال في تجسيد تعددية تلك الأمكنة، إنما بالاصطفاء الدقيق للمكان ذى الإيحاءات الدلالية والإشارات الرمزية التي تكشف عن الصفات والخواص المشتركة بين الأمكنة المتعددة وبما يتسق مع طبيعة الحدث الروائي . ومن الواضح أن إنجاز هذه المهمة المعقدة ، يستلزم معرفة فلسفية عميقة للمكان على المستوى النظري بشكل عام وقدرة فنية في تجسيد المكان الروائي بشكل فني جمالي على المستوى التطبيقي بشكل خاص .
رواية «الجذوة» وبعض قضايا التكنيك الفني في الإبداع الروائي:
1 ــ تجليات بؤرة السرد الروائي :
لا تعتمد الجذوة في أسلوب سردها الروائي على المؤلف كضمير للمتكلم ، إنما على الراوي كضمير للمتكلم ، والراوي بالنسبة للمؤلف هنا هو ضمير الغائب «هو» أي شاهين فرج . . . بحيث أن السرد الروائي يعول على أسلوب ما يسمى بـ«المؤلف المحيط علماً بالشخصية» ، فالكاتب المؤلف أخذ على عاتقه ، عرض ما يعتمل في ذاكرة الشخصية (شاهين فرج) مع الكشف عن بعض ملامحها وذبذباتها النفسية وكذلك بعض الشخوص الأخرى (كالمدير العام والحارس مشعل الياس)، ولكن دون أن يتمكن من تقصي الدوافع أو البواعث النفسية المحركة لأفعالها وسلوكها. وهذه الطريقة (أي طريقة المؤلف المحيط علماً بالشخصية) يقتصر فيها عمل المؤلف على النفاذ والتغلغل في معرفة ما يدور في ذاكرة إحدى الشخصيات الرئيسية، بينما يجري عرض وتقديم المظاهر السلوكية الخارجية للشخصيات الأخرى وهي هنا على سبيل المثال لا الحصر (زوجة المقاول ، ميرزا عجيب ، أبومحمد . . . الخ) ، بشكل موضوعي أي بطريقة المؤلف ــ المراقب ، وقد عرقلت هذه الطريقة إمكانية التوغل الداخلي لمعرنة الملامح النفسية لدى الشخصية ، ومن هنا فان مؤلف رواية الجذوة اعتمد على محاولة المزج بين طريقتين في السرد الروائي ، أي أسلوب المؤلف ــ المحيط علماً بالشخصية وطريقة المولف ــ المراقب .
وعلى ذلك، فإن «الأنا» المحورية المتكررة في الرواية تفصح على نحو جلي عن ضمير الغائب «هو» أي شاهين فرج ، هذا «الهو» الذي استحال على يد المؤلف إلى «أنا» معبرة عن الآخر وليس من شخصية المؤلف . فالراوي هنا هو ليس المؤلف ، إنما الشخصية الرئيسية الراوية التي تستحضر الماضي عن طريق التداعيات وومضات الفلاش باك الموزعة على المقاطع المختلفة للرواية مستهدفة في ذلك بناء الإطار الكلي والموقف الدرامى العام . إن الخبرة الحياتية هنا ، تتكشف لنا على أنها خبرة الراوي معبر عنها بلسان المؤلف .
وفي رأينا فإن المؤلف اعتمد الطريقتين المذكورتين لاعتبارات محددة . فهو من جهة يبدو عليماً ، مدركاً لجوانب شخصية الراوي ( شاهين فرج ) ، الأمر الذي هيأ له أن يترك هذه الشخصية تتصرف ، تفعل وتنفعل ، تتحرك . . تصارع وتشارك في أحداث الرواية، بل إن المظاهر والقسمات البيولوجية والجسدية للشخصية الراوية تراجعت تماماً الى الظل، الى درجة انك لن تجد أية وصفة أو كلمة أو عبارة تومئ إلى القسمات الجسدية الخارجية لهذه الشخصية . هنا يتحول المؤلف الى كاتب يحيط علماً بالشخصية ويتعرف على عالمها الداخلي ويكشف ذبذباتها وتحولاتها النفسية . وهنا أيضاً تتكشف لنا قدرة المؤلف على تصوير الشخصية وهي تعمل ، فهو لم يخبرنا بشكل تقريري عن شخصية فرج شاهين ، بل بدت لنا هذه الشخصية من خلال أفعالها وتوجهها السلوكي .
وهنا بالضبط تكمن القيمة الفنية في اللجوء إلى طريقة المؤلف المحيط علماً بالشخصية . هذا من جهة ، أما الوجه الآخر للعملة . . فيتجلى لنا في اضطرار المؤلف إلى استخدام أسلوب «المؤلف المراقب» بالنسبة لشخصية فرج الشماس المؤلف هنا ــ عندما يكون غير محيط بالشخصية يتحول إلى مؤلف ــ مراقب يخبرنا أخباراً تقريرياً تسجيلياً عن الشخصية ويصف لنا ملامحها الجسدية ، ولا تتحقق له إمكانية التوغل والنفاذ إلى العالم الداخلي لهذه الشخصية ، إلا في المقطع العشرين من الرواية. لقد ظهرت شخصية فرح الشماس في أغلب مقاطع الرواية الأخرى بشكل استاتيكي، يجري تطويع وصفها عن طريق الأخبار والتقرير وذلك بعكس شخصية الابن شاهين فرج . أن قدرت المؤلف في السرد الروائي تتجلى لنا، ليس عندما يتحول الى مؤلف ــ مراقب للأحداث والشخوص، إنما عندما يترك الشخصية تتحرك في إطار حدث معين ويفسح لها المجال لأن تفعل وتنفعل أن خلال تنامي ذلك الحدث وبلوغه الذروة . لنأخذ على سبيل المثال طريقة المؤلف عندما وضع نفس شخصية فرج الشماس في حدث محدد. حيث تجلت لنا شخصيته الملموسة والمتفردة من جهة ، وتكشفت ملامحها النفسية العامة . . هذه الملامح ، في المقطع المشار إليه ، لم تعبر عن شخصية فرج الشماس وحده فحسب ، وإنما تخطت ذلك إلى الافصاح عن ملامح وقسمات فئة واسعة من الناس ، عن طبقة ، بل أكاد أقول عن شعب بأسره، من جهة أخرى. وهنا أيضاً تتجلى لنا قدرة المؤلف على ربط الخاص بالعام وكشف الصلة بين ما هو عادي عرضي وبين ما هو عام نموذجي. وليت المؤلف دأب على تصوير شخصية فرج الشماس في أغلب مقاطع الرواية على ذلك النحو الذي تجلت فيه هذه الشخصية في المقطع العشرين من الرواية (من ص 101 ــ 105) وسنأتي في مكان آخر على دراسة ذلك لدى التعرض لملامح الشخصية في الجذوة .
وهكذا، تتضح لنا قدرة محمد عبدالملك في السرد الروائي، عندما يكون مؤلفاً عليماً بالشخصية، محيطاً بأبرز خصائصها وبواعثها ودوافعها النفسية، وليس عندما يكون مؤلفاً مراقباً. ويمكننا أن نعثر على جذور هذه المسألة في المجموعات القصصية السابقة .
فمن أمثلة تطبيق المؤلف لأسلوب (المؤلف ــ المراقب)، قصة «الرحلة» من مجموعة «ثقوب في رئة المدينة»، حيث ينيط المؤلف ــ المراقب شخص بدران الحسيني بمهمة السرد القصصي حول الشخصية الرئيسية (مرجان السعيد) فتبرز الشخصية والحال هذه، على نحو ساكن، فهى لا تنطق ولا تتحاور، فلا نكاد نتعرف الا على مظاهرها الخارجية الجسمانية، دون أن يتيح لنا المؤلف إمكانية التوغل والنفاذ في الشخصية وسبر أغوارها. وربما كان سبب ذلك أن المؤلف لم يتعرف عن كثب وبنفسه على الشخصية ، إنما قام بعملية تجميع معلومات عامة حول الشخصية من خلال راو آخر . ومن هنا أيضاً يظهر لنا أن استخدام المؤلف لتلك الطريقة في السرد القصصي، شكل عاملا معوقاً أضعف البناء الفني للشخصية ، أما من أمثلة تطبيق الكاتب لأسلوب «المؤلف المحيط علماً بالشخصية» فيمكن أن نعثر عليه في مجموعة «نحن نحب الشمس» لنقرأ مثلا قصة «في القرن العشرين» فالمؤلف هنا يعرف جيداً شخصية «عثمان أحمد ثاني». وفي حديث شخصي مع الكاتب. أوضح من خلاله أنه كان على معرفة وثيقة بالشخصية المذكورة ، امتدت قرابة ثلاثة عشر سنة. هكذا فإن معرفة الكاتب الضاربة الجذور للشخصية الحقيقية في الحياة اليومية، هي أولى الخطوات وهي المنطلق الرئيسي الذين يمكن الكاتب من تجسيد وتصوير تلك الشخصية وبنائها على نحو فني في العمل الأدبي ، وربما كان هذا هو السبب الجوهري الذي أتاح للقصة المذكورة من بين الكثير من قصص المؤلف ، أن تحقق درجة محددة من النضج الفني والقصصي في الشكل والمضمون . لقد وجد الكاتب نفسه ــ بوعي منه أو بدون وعي ــ أمام أسلوب فني في السرد القصصي مثل عنصراً حيوياً في تعزيز وتقوية واغناء البناء الفني للشخصية في القصة المذكورة .
وهكذا، وبناءٍ على ما تقدم، يمكننا ان نصل الى خلاصة عامة تتمثل في أن الجذوة مثلت في سردها الروائي مزيجاً من طريقتين (أي أسلوب المؤلف ــ المراقب والمؤلف المحيط علماً بالشخصية) بحيث شكل الأسلوب الأول نقطة ضعف وأعاق البناء الفني للشخصية، بينما مثل الأسلوب الثاني عنصراً فعالا في طريقة السرد الروائي وفي البناء الفني للشخصية بشكل عام .
2 ــ انعكاس بؤرة الاهتمام :
المقصود هنا بهذه البؤرة هي الكيفية التي يتجلى فيها عنصر الاهتمام كعنصر رئيسي من عناصر العمل الروائي، والذي يعمل على شد وجذب انتباه القارئ ، إذ أن فضول القارئ وحبه للاستطلاع يعد أمراً مركباً معقداً ، فهو يضع دائماً في مخيلته مجموعة من التساؤلات . . ويطمح لأن تجيب الرواية على مجموعة الأسئلة المطروحة فيها بحيث تأتي الإجابة على تلك الأسئلة على نحو مباشر وتشكل الرواية بأسرها الاجابة الاجمالية العامة من خلال حركة الشخوص وفعلها عبر تنامي الحدث الروائي وبلوغه الأوج أو الذروة . ان الاجابات لا يمكن أن تفصح عن نفسها دفعة واحدة ، ودون مقدمات ، إنما في لحظات معينة في مجرى تطور الحدث الروائي . وهناك مستويات مختلفة متباينة لمختلف الأسئلة المطروحة في الرواية. فليست جميع الأسئلة ذات أهمية واحدة متساوية فثمة أسئلة جوهرية تتصل بالحدث الرئيسي ، وهناك أسئلة هامشية ومكملة للنوع الأول من الأسئلة. أن الجذوة وبوصفها رواية قصيرة لا تحتمل ذلك التزاحم والتعدد والتلون في الأسئلة . إذ أن ثمة فرق شاسع بين الطموح النظري للإجابة على الأسئلة الفلسفية الكبرى وبين التجسيد الفني للاجابات في العمل الروائي وعلى المستوى التطبيقي . فرواية «الجذوة» – أساساً – ومستوى وعي الشخوص ومجرى الحدث فيها ليس من المفترض لها أن تتجاوز الإجابة على أكثر من الأسئلة التالية: من قتل فرج الشماس ؟ ولماذا المقاول بالذات قتل فرج الشماس بالذات ؟ ولماذا اضطر الحارس القروي (مشعل الياس) على ارتداء البزة العسكرية ، وكذلك لماذا لم يواصل المدير العام المسيرة الطويلة ولم انطفأ في قلبه لهيب الجذوة ؟ . هذه هي الأسئلة المحورية في رواية الجذوة ونبضها الجوهري . ويمكن ملاحظة أن الرواية تقدم إجابات محددة واضحة على تلك الأسئلة وفي لحظات معينة من تطور الحدث الروائي وعلى لسان شخصيات الرواية. بيد أن ثمة أسئلة أخرى قام المؤلف باقحامها على شخصيات عمله، دون مراعاة درجة الوعي الاجتماعي الذي تتمتع به تلك الشخوص . لنأخذ على سبيل المثال بروز التساؤل: ما هي الحقيقة ؟ بين الحين والآخر في الرواية . نحن نعرف جيداً أن المؤلف يشير بسؤاله هذا إلى حقيقة جزئية هي: من قتل فرج الشماس ؟ إلا أن تكرار السؤال بصيغة: ما هي الحقيقة ؟ وعلى هذا النحو يفيد بحقيقة أخرى كلية جوهرية ، تتعلق بماهية الوجود البشري ، أن بروز السؤال على هذا النحو الفلسفي ، إنما يشكل قفزة على حجم العمل الروائي المعني وطبيعة الحدث المعطي في الرواية المعني
        Published on November 24, 2019 16:01
    
No comments have been added yet.
	
		  
  


