عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 91

December 14, 2019

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : منعطفٌ تاريخي للعرب ‏‏

لا أحد يستطيع الآن بعد تضحيات الشعوب العربية في كل مكان، بأشكالٍ ملحمية، تقتربُ من الأساطير، أن يلوم أو ينتقد هذه الأمة العظيمة، وأنها مقصرة في وجودِها، وأنها لم تقدرْ أن تستوعب وتحتضن كل إبداعات الحرية والتضحية، ومن لا ينحن مقدراً لها، ومن لا يرقص فرحاً لبطولاتها، ومن لا يُذهل من إبداعات اللحم الذي يكسرُ الشوكَ، ويثني الجبالَ فهو لا يشهد ولا يعيش.
إن المبدعين يقفون إجلالاً ويتطلعون لتضحياتهم في كتابة الحروف النار ونسج الكلمات البحار وكأنها قطرة في محيط العجائب النضالية العربية. فكيف يمكن أن يمدح أحدٌ عمله وهو يرى الناس تجود بأعز ما لديها؟
لا يمكن لنا بعد هذه الملاحم المسجلة بالدم على النيل والصحارى العربية العطشى والمدن والبلدات والقرى إلا أن نتواضع ونخجل ونقول لقد قصرنا ويئسنا سنين وأن الإنسان العادي الذي صاغ الملاحم في بضعة أقطار هي النسيجِ الرئيسي للأمةِ إن كتابتها أعظم، وسطورها أكثر خصوبة.
والإبداع لابد أن يزدهر بشكل أروع رغم انغلاق بعض الأسواق وصمت دور النشر وذبول المطابع وتعثر السوق، في حين يتطلب ازدهار النضال فيضاناً للنشر كما يتطلب الموقف الملحمي.
لكن تعاظم ملاحم الحرية العربية يغنينا والتضحيات تعلمنا وبخل دور النشر لا يهمنا.
هل هناك أمةٌ ابدعتْ دماً وحروفاً مثل هذا؟
فلننحن إجلالاً لهؤلاء البسطاء وعرفاناً بتضحياتهم.
الثورات العربية غيرت كل شيء، ولن يعد ثمة دولة أو جماعة سياسية ستبقى كما كانت، مهما تظاهرت بالهدوء، ومهما قالت إن العاصفة لا تعنيني.
ليست الثورات العربية مثل ثورات القرن الثامن عشر والتاسع عشر الأوروبيين، رغم المقاربة بينهما في بدء صعود الطبقات الوسطى لتشكيل مجتمعات ديمقراطية، فتلك الثورات التي رفعت شعارات الاخاء والمساواة والتنوير، تجاوزتها الإنسانية المعاصرة، بعد عقود طويلة من التحديث والتصنيع والاستعمار وحروب الاستقلال، وقد أضحت أسس الديمقراطية الاجتماعية أكثر وضوحاً، وغدت برامج الطبقات المختلفة مميزة، فلا يمكن أن تسود شعارات مجردة، وكل طيف من الطبقات لها برامجها لأن مصالحها غدت واضحة، والتجربة الحزبية غدت ذات تاريخ طويل.
لكن رغم هذا التاريخ فالشعوب العربية متخلفة وهي ربما أقل تطوراً من ذلك التاريخ الأوروبي، حيث هنا أمية هائلة، وحريات النساء أقل بكثير، والتصنيع طابعه مختلف، وثمة انفصام لأقطار عديدة عن التطور، ومازالت الأقطار المركزية تصارع من أجل أن تبلور التجارب الديمقراطية، والقوى الماضوية تصارع للبقاء والعودة.
لكن الملحمة موجودة ومكتوبة بالدم، وتاريخ التضحيات كتب بقوة وفتح صفحة جديدة لا يمكن أن تعود إلى الوراء، وغدت مهرجاناً للبشرية.
ليس في الأمة العربية مثل جان جاك روسو وفولتير وديدرو وهيجل المشاهير العالميين ففيها أكثر وأعمق، ولكن على نحو قطري أو عربي محدود، فإبداعات العرب خلال القرن الأخير كانت هائلة، وإبداعها في الأدب ليس له نظير ولكن هي مسألة التخلف والأنظمة القديمة المحتكرة للثروات، والآن لابد أن تظهر هذه الإبداعات وتنتشر جماهيرياً وعالمياً، والديمقراطية تعني أن تصل هذه الثقافة إلى الأجهزة الجماهيرية، فهذه الإبداعات وهؤلاء المفكرون هم من عبدوا لهذه التحولات.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 14, 2019 05:22

December 13, 2019

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : نقادٌ مذعورون

كان ينبغي للنقاد أن لا يخافوا من أعمالِ الروائي، ولكن التصادم بين مساراتِ الطبقاتِ الشعبية والوسطى يتمظهرُ في الرواية والفكر.

فالروائي ابنُ الحارات والثورات حاملُ زخمِ الحراكِ الشعبي لعقودٍ يجسدُهُ في شخوصٍ عاصفةٍ تقتحم الشواطئ وضفافَ المدن، ولكن النقد الذي نشأ في الجامعات غير العلمية ومكاتب المجلات والصحف الحكومية ليس من شأنه قراءة نضالات الطبقات العاملة ولا حتى تحولات الفئات الوسطى نحو التغيير، ولكن الكتابة الروائية مثل بحر الناس تشكلُّ مداً عصياً على الجَزر.

يقوم النقادُ المحنطون في يباسٍ نظري أغلبهُ مستورد بالاهتمام بظاهراتٍ ثانوية، وأعمال هامشية لا تثيرُ جدلاً صراعياً ديمقراطياً في المجتمع، ويُنزلون عليها فلسفاتٍ هي إسقاطاتٌ وليست اكتشافاتٌ وتحليلات لما تمورُ به المجتمعاتُ من عصفٍ اجتماعي هو أغلبه رجوعٌ للوراء وتدهور للحداثةِ والعقلانيةِ وتراكم للمشكلات المالية والعجز والبذخ من جهة والفقر المتسع من جهةٍ أخرى.

من أين يُحضرُ النقادُ هذه الأعمالَ الهامشية ويُشغلون بها ثللاً صغيرة؟ فلا أحد يدري، لكن الروايات الكبرى تفرضُ نفسها، والروائي المطارد سابقاً، والروائي المنفي في بلده لاحقاً، يفرضُ أعمالَه التي يقرأها الناس، فتتهاوى أسوارُ النقد المحاصِر.

لكن الروائي يخطفه المقعد الوثير، والراتب الحكومي الكبير، وتلك الاطلالات الشعريةُ والعواصف الاجتماعية الرومانسية والشخصيات الثورية النادرة تختفي، وعلى النقاد المذعورين من النضال أن يغمدوا أنصالَهم في جسدِ الروائي البيروقراطي وأعماله، ساحبين منها ذلك الألقَ الوطني النضالي الكبير.

ولهذا فإن الوطن الحقيقي لا الروائي هو الذي يمشي على سكةِ الحرب الأهلية، فلم يقبل البلدُ بصراعٍ ديمقراطي في الرواية فظهر الصراعُ الدموي على الأرض وتكاثرتْ شخصياتُ الحطام في الخرائب والمنافي.

هو مثل المفكر الذي لم يعد يفكر فيما يَشغلُ الناس، ومهمته أن يبتكرَ لهم قضايا ماتت منذ زمن بعيد، والصراعات الاقتصادية الاجتماعية الطاحنة في الواقع ليست في بؤرة إهتمامه، فالبُنى الرأسماليةُ العربية الحكومية العسكرية المتخلفة التي انهارت في المحيط العربي لم تزل لديها بعض الفوائض النفطية في دول الجزيرة العربية، فهنا إمكانياتٌ للترف الفكري والمؤتمرات التي لا تتوقف كل أسبوع لمناقشة قضايا ليست قضايا الأزمات الحقيقية، وكون العربة الخليجية هي العربة التالية في سكة القطار العربي الضائع بين القفار.

ولهذا فإن المفكر يراها سائرة إلى الأمام بقوة، مثل الروائي العربي الشمالي الذي ترك شخوصه الشعبية تضيع ولم يعثر على شخصيات حية بين المكاتب ولم يَعُد للحارات والذي قاد الشراع في العاصفة تحطم على صخور البيروقراطية العسكرية.

غيابُ الشجاعة الأدبية ترافق مع موت الفكر والنقد، فالفكرُ الذي كان واعداً في السبعينيات انشغل بالقضايا العامة العربية بأشكال تحليلية سياسية عامة ليست فيها دراسات للبُنى الاقتصادية الاجتماعية، وتتيح له هذه التعميات والمجردات أن يتلاعب على حبال السياسة والمواقف الاجتماعية حتى يتحلل الفكر الذي لا ينمو سوى بالصراع مع الواقع وتحليل بناه الاجتماعية السياسية، واتخاذ موقف في الصراع الاجتماعي لتغيير رأسماليات حكومية بيروقراطية غير قادرة على السير في عالم الحداثة الديمقراطية المعاصرة.

المفكر دوره هو تحويل هذا الانسداد التاريخي إلى اكتشاف وانفتاح وتغيير، متجاوزاً الخرائط الاجتماعية الملموسة إلى قوانين التطور التاريخية، ودور المؤتمرات السياسية العلمية هو رؤية الآفاق البعيدة وليس اليوميات السياسية التي هي مجرد مادة صغيرة للتعميمات والتقييم البعيد.

تكرار أزمات النماذج هو مؤشرٌ لتكرار السنياريوهات العاصفة وخسائرها سواء في الشمال العربي أو الجنوب.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 13, 2019 05:31

December 11, 2019

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : وردة الشهيد

[image error]
أذكره ذلك الفتى القادم من بغداد ، الذي جاء بأحلام الشعر والغد الجميل وكلمات الحب والحمام.
أذكره بطلعته الوسيمة ، وشعره الأسود الفاحم الكث ، ووجهه الأسمر المشرق ، كطفل دخل إلى غابة متوحشة ، وقبل ذلك كنت أراه مع فتيات القرى والمدن في لوريات دائرة الأشغال يحمل الحصى والتراب والحطب ، ويشتغل بين حشود العمال الكهول ، أولئك الذين بقوا من طوفان الغوص والبحر كأشلاء ممزقة ، كقدر شعبنا البسيط أن يسبح في دائرة العوز والبقاء ..
لماذا حمل الفتى أحلامه الكبيرة ، وسافر وتغرب ليجيء بحلم الشعر والوطن ، ليغدو شاعرا لم يكتمل ، كجميع مشاريعنا في النضال التي تتأرجح بين الممكن والمستحيل ..
[سعيد العويناتي] هذا الفتى القروي ، المدني ، العالمي ، الشاعر ، الناثر ، الصحفي ، الشهيد ، جاءنا مثل غيمة ورحل ، مثل عصفور ذو زغب وقتل ، مثل كل شهدائنا الذين تركوا روائحهم وذكرياتهم وأحلامهم في عظامنا ، وذابوا في السفن والمدن.
أذكره وهو بكل صدره المفتوح للغد والأمل ، لم يشيخ ، ولم يكتمل ، باق هناك في روحي ، لم ينزع قمصانه ولا ألقى أوراقه ، بسنه المكسور الأمامية ، بابتسامته الغريبة ، ولكنته وهو يلقي الشعر في ناد بـ[البلاد القديم] ، ولايزال الضؤ يترجرج بالظلام ، ودروب القرية مفتوحة لإجتماعات الفرح والدم ، وهو سعيد بأنه يمتلك كل المشاريع للغد.
أذكره في مثل هذه الأوقات المختلجة برعشة الشتاء ، بين النخيل وعند البحر ، ووجهه كأنه يتحد بالسواحل والتراب ، عبر مشروعاته الكثيرة للتغيير ، والتحديث ، والنضال مع الناس من رفع الأجور حتى إدخال الشعر في كل بيت.
كان طازجا ورقيقا وجلده الغض لايحتمل حتى الكلمات الجارحة ، وقد كيرنا وشخنا ، وامتلأت أجسادنا بالنصال والندوب ، وهو لايزال شابا فتيا متحدا بالصواري والحقول.
شاعرا أبديا في جسد الوطن ، خارج الجروح والسيوف ، معطيا ذاته وكلماته لكل بيت ، ونحن تعبنا وهو لم يتعب ، صامد في دائرته الشفافة ، الخالدة ، فأعجب كيف يتحول الشهيد ويكبر ، وكل مرحلة تعطيه عطرا ولونا ، فتغدو الشهادة مراقبة لنا ولضعفنا ولتخاذلنا وهزائمنا ، محرضة إيانا على الصمود والنضال والإزدهار مادة ومعنى.
كل الشهداء الذين مروا بنا ، ملأوا حديقة الوطن والأرض بالأزهار ، كل منهم وردة ناضجة بالرواء والماء ، كل منهم مشروع لم يكتمل في الحياة وأكتمل في الخلود ، كل منهم عطر أتحد بالشمس والهواء وتغلغل في الروح والدماء.
ليتهم كانوا معنا الآن ، ليروا كيف أن تضحياتهم لم تذهب هباء ، وأن كل شعرة من جسد ، وبيت من شعر ، وكل منشور فسفوري ألقي في زقاق ، وكل عظم تحطم ، وكل كلمة إنفجرت بها الحناجر على الجسر ، وكل صرخة أم ثكلى ، وكل نبض إنتفض ، كلها ، كلها ساهمت في بزوغ فجر الوطن وتحولاته ، في ميلاد مؤسساته الشعبية الديمقراطية ، في قدسية أسم البحرين ،وتحوله إلى حمامة فوق خريطة العالم ..
أراه الآن سعيدا بقافلتنا التي كانت منهكة ، ممزقة ، تائهة في الرمال والرمضاء ، والتي وصلت إلى نبع صاف ، إلى ماء عذب وفرح ومهرجان ..
لازلنا نحبك ياسعيد. لازلتم أيها الشهداء في مآقينا ، تشربون الحرية معنا ، وتسقون أجسادنا ماء التضحية والفداء ، وتناضلون بغيابكم العظيم وحضوركم الأبدي.

 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 11, 2019 13:49

December 8, 2019

عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏: المصادر الثلاثة للأمة

إن نمو الدول العربية والإسلامية يؤدي إلى بروزِ خصائصِها التراثيةِ والهيكليةِ الاقتصاديةِ القديمة ولتلاقحِ هذه الخصائص مع المؤثراتِ الخارجيةِ العالمية، التي تعكسُ هي الأخرى تحولاتٍ إنسانية عميقة كونية.



وفي تاريخِها الحديث تصارعتْ المصادرُ الثلاثةُ لتكوينِ حركاتِها الاجتماعية وهي: الليبرالية والماركسية والإسلام، وهي المصادرُ التي ظلتْ متصارعةً ينفي بعضها بعضا، رغم كونها هي مكوناتُ التحولِ النهضوي لتبلورِها وتقدمها كشعوب.



علينا أن نفتحَ قوساً حول مسمى الدين وليس جوهره، فالشعوبُ العربيةُ الإسلامية تضمُ أدياناً أخرى، هي كذلك تدخلُ في مكونات المحتوى الديني بتاريخهِ الضاربِ في التاريخ خاصة الدينين المسيحي واليهودي.



رغم النفي في المراحل التكوينية الحديثة الأولى، وبفضله في مراحل أخرى، فقد كان للمصدرين الفكريين المستوردين الليبرالية والماركسية، دور في إضفاءِ ملامح جديدة على هذه الشعوب وتوجيهها لمساراتِ تقدمٍ كبيرة.



لكن كيف يمكنُ لجسمين فكريين مستوردين أن يلعبا هذين الدورين الخلاقين؟ وما هي الأسباب لهذا النمو ثم للانتكاسة التالية المروعة؟ هل هناك عواملٌ سحريةٌ جعلتْ منهما قوتي تغييرٍ ثم أرجعتهما إلى الخلفية السياسية؟



كيف تنموان في عصرِ التبعيةِ الاستعمارية ثم تخفتان في زمن “الحريات” القومية والوطنية؟ في حين يعكسُ الإسلامُ مسيرةً مختلفة، فهو على العكس منهما محجم في زمنِ تلك التبعية متنام في زمنية الاستقلال؟



كان زمنُ الاستعمار يفتقدُ الآلةَ الاقتصادية الاجتماعية الحكومية الشاملة المهيمنة على المجتمعاتِ العربية والإسلامية، فكانت المجتمعاتُ تبدأ بالنهوض من الصفر عبر تعددٍ للملكيات، وكان الغربُ المسيطر المباشر تفيدهُ عملياتُ نموِها الاقتصادية وتوسيعُ الإنتاجاتِ خاصةً للمواد الزراعية والخامات التي يشتريها بأثمان بخسة، وكانت هذه النهضاتُ التي تجري في العديد من هذه الأقطار بأشكالٍ متفاوتةٍ وبحسب مناطقها ودرجاتِ تطورها، تؤدي إلى ازدهارِ القوى الاجتماعية المختلفة، قياساً للعصر العثماني بطبيعةِ الحال، فكان توسعُ قوى التجار والعمال والمزارعين، وكانت الفيوضُ الاقتصاديةُ تنمي المدن، وتنشئ قوى تحديثيةً تستلهمُ النموذجَ الغربي سلباً أو إيجابا، محاكاة أو نقضا تجاوزيا.



كذلك تنامت الصلاتُ الثقافية بين الدولِ العربية والإسلامية والعالم الحديث، وتجددتْ الأشكالُ الفكريةُ والتعبيرية، وراحت هذه الأشكالُ تستعيدُ علاقاتِها بالواقع وتطرحُ عملياتِ تجديدهِ وتحرره.



كانت الصلاتُ مع الغرب المسيطر مفيدةً من جوانب عديدة، وأشاعتْ بعضَ أجواءِ الغرب نفسه، ونقلتْ بعضاً من ليبراليتهِ وحرياته.



وفي هذه الأجواءِ المشتركة، والتداخلاتِ التعاونية الصراعية، تمكنت الفكرتان الكبريان للعصر الغربي الحديث وهما الماركسية والليبرالية من التوغل في هذه الأقطار والحصول على عقول الكثيرين من المثقفين وبعض العمال مستندتين إلى ركائز اجتماعية ضعيفة لهما، في حين كان الإسلامُ يهجعُ تحت سيطراتِ الأجهزة التقليدية والدول التابعة المُهمشة.



إن النقلَ من الغرب استدعي من قِبلِ القوى الاجتماعية العربية الإسلامية التحديثية المتضادة، تجارا وعمالا، لهم مصالحٌ مختلفةٌ وأوضاعٌ متباينة، وفي أجواءٍ من تفاقمِ الصراعاتِ في الغرب نفسه، بين رأسماليين وعمال، وعبر انفصامِ جزءٍ من الغرب في تجربة تحولية مضادة لبنيتهِ وقيمهِ الفكرية والسياسية، تحت اسم “الاشتراكية” أو الفاشية. وهي الصراعاتُ التي تغلغلتْ في الأقطار العربية كذلك بحكمِ أن البنيةَ الغربيةَ الثقافيةَ الهشةَ التي دخلتْ وكونتْ شعاراتِها وطيوفَها في الأجسامِ العربية، تحركتْ وتمازجتْ مع قوى المثقفين والتجار والعمال العرب، ومع أوضاعِهم ومشكلاتِهم ومستوياتِ تلقيهم لها ولطبيعةِ ممارساتهم داخل المجتمعات العربية.



وهكذا فقد جرى في زمنِ التخاصبِ مع الغربِ الديمقراطي – الاستعماري، تكوين النزعتين الكبريين على درجاتٍ مختلفةٍ بين الأقطار العربية، وكانت الماركسيةُ والليبراليةُ تخضعان بدءًا من الآن لقوانين البُنى الاجتماعية العربية الشرقية، أكثر من الأصول التي أنجبتهما، وبالتالي فقد كانت تلك البُنى التقليدية تستعيدُ تكويناتها الاقتصادية – السياسية الماضوية، وتخضع تلك الشريحة الثقافية السياسية المستوردة لقوانين هذه البنى الاجتماعية المتجهة للاستقلال عن المركز الغربي.



إن النزعتين الليبرالية والماركسية العربيتين، حيث قدمتا من تلك المصادر لم تقطعا الوشائج كثيراً بتلك المصادر لأسبابٍ كثيرة، كما أنهما تصارعتا مضعفةً كلُ واحدةٍ منهما الأخرى، وهذا اعتمد على طبيعة النقل وجذوره المحلية وأدواته المعرفية الضعيفة.



إن الشحوب المتواصل لليبراليات العربية في ذلك التاريخ المتنامي استقلالاً وحركاتٍ شموليةً، سيصلُ إلى ذروتهِ فيما بعد حين تصلُ الليبراليةُ العربيةُ إلى ما يشبه الموت، وهذا سيجري في سياقاتِ هذه الأقطار كلاً على حدة، وعبر التداخل المفيد أو المضر.



إن الاستعمارَ والقوى الاستقلالية العربية الحكومية ونشوء “الاشتراكية” العالمية كنظام، كلها لعبتْ أدوارَها المختلفةَ المشتركةَ في إجهاضِ الليبرالية، وتصعيد القوى الفكرية والسياسية الشمولية من ماركسية ومذاهب دينية في ذلك الوقت بشكل متفاوت.



وفيما كانت الليبراليةُ والماركسيةُ تنموان في البداية على وعي ديمقراطي، أخذتْ الماركسيةُ تحتلُ المشهدَ التحديثي العربي وتزيحُ الليبراليةَ، وراحتْ القوى السياسيةُ والاجتماعيةُ في أغلبِ الشرق تنشىءُ دولَها الرأسماليةَ الحكومية، أي نماذج متعددة من رأسمالية الدولة، وهنا يحدثُ اللقاءُ بين المعسكرِ الاشتراكي والدول العربية المستقلة عبر تصعيدِ نموذجِ رأسماليةِ الدولة وتصعيد نموذج الدولة الشمولية.



إن احتلالَ الماركسية للمشهدِ السياسي المعبرِ عن الطبقاتِ العاملة العربية الإسلامية، كان يأتي من خلالِ الانزياحِ عن الثقافةِ الليبراليةِ سواءً كانت في مصادرِها الأصليةِ في دولِ الغرب أم كانت من خلالِ تأثيراتِها التي تكونتْ في الدول العربية، وبسببِ عجزِ الليبرالية عن تصعيد التنمية بسرعةٍ كبيرة ومواجهة التدخلات الأجنبية.



ولا نقصد هنا التأثيرات العابرة واللقاءات السياسية التكتيكية، كما سنرى لاحقاً من سيرةِ القائدِ الماركسي العربي خالد بكداش، بل نقصدُ عمليةَ التلاقحِ العميقةِ المفقودةِ بين الماركسية والليبرالية العربيتين، التي تتولدُ على إثرِها موجاتٌ من المعارفِ والنضالاتِ المشتركة.



فقد كان نموذجُ رأسمالية الدولة يصعدُ بقوةٍ عالميا تحت مُسمى الاشتراكية، وكان غيابُ الليبراليةِ الديمقراطية داخلهِ وغيابُ الحريات، يجعلانه رافضاً لأجسامِها السياسيةِ الغربية وتطبيقاتها وأطيافِها في بقية العالم. كان هذا تعبيراً عن عملقة البيروقراطية والتسريع الاقتصادي والنظرة الفكرية والواحدية المبنية على تلك الضخامة غير العقلانية لرأسمالية الدولة، ومن هنا حدوث التلاقي بين الشموليتين الروسية والعربية التقدميتين.



هذا الانفكاكُ العالمي بين الماركسيةِ والليبرالية لا يمنع من اللقاءات التكتيكية في ذلك الحين، فقد ظهرتْ نسخةٌ متوحشةٌ من الرأسمالية هي الفاشية، مهددة كلاً من الفكرتين الكبريين العالميتين، لكن على الرغم من التعاون الخلاق بينهما وتحطيم الوحش الضاري، فإن التعاون الحقيقي لم يحدث، وكان هذا التعاون ينتظر زمنية نشوء القطاع الخاص في رأسمالية الدول الشرقية لاحقاً، حين يتبين سراب الاشتراكية داخل رأسمالية الدولة الشمولية.



أعطي عصرُ النهضة العربية إمكانيتين كبيرتين لنمو الليبرالية والماركسية، بسبب غيابِ رأسمالية الدولة في الدول العربية، ودخلتْ النزعتان في تعاونٍ عبر فترةٍ وجيزة ثم في الصراع المفتوح.



وبهذا فقد حدثتْ تأثيراتٌ كبيرةٌ للماركسية بتلك المواصفات داخل الدول العربية والإسلامية، عبر تمدد الأحزاب الشيوعية والاشتراكية وامتلاء الساحة السياسية بهما بعد الحرب العالمية الثانية خاصة، وحدث ذلك التداخلُ بين نمو رأسماليات الدول العربية وتلك الفكرة، وإذا كانت الأحزابُ الشيوعيةُ العربيةُ قد أخذتْ كليةً هذه الفكرةَ بحذافيرِها الشرقية، من دون أن تقدر على تنفيذها في أي قطر عربي مهم وكبير، فإن الاتجاهات القومية العربية الإسلامية قامت باستيحاء جوانب منها، وطبقتها في بلدانٍ عربيةٍ كبيرة ومهمة.



وهنا تم تذويب الليبرالية العربية فنجد ان أحزابها كالوفد المصري والاستقلال والأهالي وهيئة الاتحاد الوطني، تزول أو أن تبقى مُهمشة، حسب طبيعة كل دولة وتجربتها، فالوفد يتلاشى والاستقلال في المملكة المغربية يبقى بضعفٍ حتى يستعيدَ مكانتَهُ حين تطورت الحريات والقطاع الخاص.



وعموماً كان صعودُ رأسماليات الدول مغذياً لصعود الماركسية في بعض الأقطار، ومهمشاً لليبراليةِ في هذه الدول، وجاء بعد ذلك صعودُ رأسمالياتِ الدولة في أقطار الخليج مكرسةً المذهبيةَ السياسية وتداخلتْ التطوراتُ والاتجاهاتُ في صراعاتٍ وتحالفات معقدة.



وفي هذه الفترة كانت التجاربُ العالميةُ لرأسماليةِ الدولةِ في المعسكر الاشتراكي تتعرضُ للتآكلِ وبدأت ترى أن هذا القطاعَ الكلي المهيمنَ يتوجه لأزمةٍ عميقة، وتم طرح حلول لها بجمودٍ وبأشكالٍ مجزأة، وعبر مقاربةِ القطاعِ العام للسوق، وقد تم ذلك لكن لم تُفلحْ هذه المقاربة مع السوق في حلِ التخلفِ التقني وتدهور قوى الإنتاج عموماً، كذلك كان المركزُ الرئيسي لرأسمالية الدولة عالمياً وهو الاتحاد السوفيتي، ينفقُ على الخارج الكثيرَ من فوائض إنتاجه، في دعم تجارب أخرى تقومُ على أسسهِ السياسية والفكرية.



ولكن بعض الدول التي تقومُ على هذه الأسس والموجودة في أوروبا وبمقاربةٍ كبيرةٍ للعالم الغربي الرأسمالي الديمقراطي، راحتْ تخرجُ من هذا السياق الشرقي الشمولي نظراً لمستوى تطور القوى الاجتماعية والبشرية فيها. ثم انتقلت الأزمة للمركز وكان الانفجار!



إن قوى الماركسية الشمولية المؤثثة بذلك الإنتاجِ الفكري الروسي والتي تشكلتْ في الدول العربية والإسلامية جاءتها ضرباتٌ عنيفة مختلفة من الأنظمةِ العسكرية ومن الدول التقليدية، والتي امتلأت خزائنها بالفوائض النفطية، فوجود قوتين سياسيتين شعبيتين شموليتين لا يمكن أن يستمر في أي نظام، ولا بد أن تكسر إحداهما الأخرى، فإذا كانت كلتاهما تحديثيتين خسرت الحداثة كما في مصر والعراق والجزائر والسودان وغيرها، وإذا كانتا تقليديتين توسعَ التخلفُ كما في اليمن. ولكن يمكن لقوى ليبرالية وماركسية وإسلامية، ديمقراطية كلها، سواءً كانت في الحكم أوالمعارضة أن تتعايش وتخلق تقدماً كبيراً.



أجهضتْ أغلبيةُ الأنظمةِ العربيةِ الليبراليةَ والماركسيةَ معاً، وكان حسابُ الخسائرِ يتمثلُ في غيابِ الليبرالية الوطنية، فحين رجعتْ بعد الدهس الطويل وبدء نهوضِ القطاعاتِ الخاصة والخفوتِ المحدود لنموذج رأسمالية الدولة، كانت الليبرالية هذه هزيلةً وذات قشور، قد دخلها الفساد، وعاشتْ على الأرزاقِ الحكومية، وأصيبتْ برعبٍ شديد فهي تخافُ الاستثمارات الصناعية الكبيرة والجرأة السياسية، وتلتصقُ بأي نشاطٍ اقتصادي سريع الأرباح، وتحولها إلى الخارج، وتلوثت بالوعي الديني التقليدي بدلاً من أن تعيد إنتاجه.



وكذلك تم فقدان الماركسية الوطنية، فبين السجون والقمع أو بين الاستيراد الفكري، ذَبُـلت الهياكلُ الفكريةُ الغائصةُ وسطَ قضايا الشعب، وعاشتْ على النصوصيةِ المجلوبة ولم تخلقْ ماركسيةً منتجةً تحليليةً تمدُ خيوطَها مع القوى العادية في المجتمع وتحاورُ الإسلامَ خاصة وتعيدُ إنتاجَهُ، كما تحاورُ الليبراليةَ وتعيدُ إنتاجَها في زمنٍ مختلفٍ وفي بناها المستقلة – المشتركة معها في المعركة الموحدة للنهضة.



إن الأداتين المنهجيتين الكبريين في الوعي العربي: الليبرالية والماركسية، تم شللهما لزمنٍ معين، عبر ذلك التنامي الواسع للشموليات المختلفة، وعبر هذه السوقية الاقتصادية غير الإنتاجية، وكان البديلُ الجاهز عبر العصور هو المذهبيات المحافظة، المذهبيات النصوصية الجافة التي هجنتَها القوى الإستغلاليةُ بعد إنتهاءِ عصرِ الخلفاء الراشدين.



ونجد في زمن ازدهار النزعتين السابقتين كيف أن المذهبيات المحافظة، كانت في عزلة، بسببِ ضخامةِ التخلف الذي أُحيطت به خاصة في عصر الدولة العثمانية، فظهرت قواها مفككةً شاحبة حسب تطور الاقطار ومستوياتها، وتجلى ذلك بتباين المواقف المذهبية، من محافظة صارمة إلى تجديدية خافتة، وصعدت أنظمةُ الدولِ المستقلةِ التي لم تتخل كلها عن هذه المذهبية المحافظة كأداةٍ أساسية في السيطرة على الشعوب، موجهةً إياها لإزالة النزعتين السياسيتين الكبريين الماركسية والليبرالية، بتدرج محسوب نظراً لخطورة الأولى وضعف الثانية، وأدى هذا إلى ظهور الأحزاب السياسية المذهبية لأول مرة في التاريخ العربي الإسلامي، حيث كانت (الفرق) هي الشكل البارز في التاريخ السابق.



كان ظهورُ الحزب الديني الإسلامي عامة مضاداً للتراكم الحضاري العربي الإسلامي السابق، عبر إنجازاته الماركسية والليبرالية، فهو رجوعٌ للوراء، وتفكيكٌ للشعوب والأمم الإسلامية التي توحدتْ عبر النضال السابق، وهدر للتراكمية الديمقراطية الضئيلة المتحققة، فيضع نفسه في خدمة القوى المحافظة والاستعمارية التي تريد ضرب التجارب العربية الإسلامية التحررية المتصاعدة، فدخلت المنطقة في مرحلة التفكيك والانهيارات الداخلية ومحاربة الميراث العقلاني المحدود السابق.



لقد توحدتْ المذهبياتُ السياسية مع أنظمةِ رأسماليةِ الدولة في كل بلد، أو غدتْ هي المعارضةُ المُفككة لوطنيةِ كل دولة، وأقامت حواجزَ مع المصدرين السابقين، ولم تستثمر المصدرين لتنامي التقدم في الأمة.



بطبيعة الحال لم تعِ المنظومتان الماركسية والليبرالية أهمية تصاعد العنصر الديني الإسلامي في هذه اللوحة المركبة، وأُخذ كمؤامرة بشكل مطلق.



في المرحلة الراهنة أخذتْ تتكشفُ الضرورةُ الموضوعيةُ لتلاقي هذه المصادرِ الثلاثة لتكوينِ العرب السياسي في العصر الحديث، وهي المعبرة عن أغلبية الطبقات العربية، وهي إذا كانت نتاجُ ثوراتٍ ثلاثٍ عبر التاريخ: الإسلام ،والليبرالية، والماركسية، فقد صادرتْ هذه العملياتِ الديمقراطيةَ فيها الهيمنةُ الإقطاعيةُ في ظرفٍ، والاستعمارُ المباشرُ في ظرفٍ آخر، ورأسماليةُ الدولِ في ظرفٍ ثالث.



وهذه أمورٌ تشيرُ إلى التعقدِ التاريخي لتكوينِ الأمةِ العربية، ولإسراعِها في العصر القديم للقفزة فوق الظروف الشديدة التخلف، ولإسراعِها في العصر الحديث للاستعانة بمصادر سريعةٍ جاهزة للتقدم والتوحد، من دون أن تمتلكَ قواعدَ قويةً لذلك، وهي اليوم قادرة على أن تجمع ما هو مُفكك، وأن تغتني بالصراعات الديمقراطية، حيث الوحدة أقوى من الاختلاف، لأحداث تراكمات نهضوية جديدة، في أبنيتها الفكرية الداخلية وفي علاقاتها المشتركة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 08, 2019 14:35

December 6, 2019

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : من تجربة اليسار العراقي

في كتابه (سفر ومحطات) يقدمُ لنا المناضلُ العراقي شوكت خزندار موادَ تجربةٍ ضخمة، وليس هذا بغريبٍ على العراقيين الذين إهتموا بتجربتهم السياسية إهتماماً كبيراً رغم الإهمال الطويل الذي جرى لها في عقود سابقة، بسببِ كونها تجربة غنية بالملاحم النضالية وبالأخطاء الجسيمة كذلك وتعكس مستوى من مستويات تطور اليسار العربي في أكثر أشكاله درامية وخصوبة.
كوّنَ الباحثُ المؤلفُ مادتَهُ من عصارةِ حياته، فكان يجمع خيوطها الطيفية من الذكريات والمراجعات، ثم وجد في خضم الصراعات إن مادة تاريخ حزبه؛ الحزب الشيوعي العراقي، هي نفسها تتعرضُ للتشويه والتأويلات المختلفة وللحرق والإزالة.
إستطاع أن يكّونَ هذه المادةَ التي تغدو هي بحدِ ذاتها شهادة نضال، بسببِ إصرارهِ على البقاءِ في التنظيم رغم كل العواصف، وجمع مواد التاريخ من خلال الوثائق، فوجوده في إدارة مهمات التنظيم من طباعة وأرشفة وتنظيم للاجتماعات وللجان التحقيق وغيرها جعلته في قلب الأحداث وفهم القادة والأعضاء ومسار تاريخ الحزب حسب إجتهاده.
وتم ذلك منذ بداية الخمسينيات حتى الثمانينيات من القرن العشرين، وهي فترةُ عقودٍ إشتغلَّ فيها بشكلٍ يومي داخل العراق وخارجه عبر السفر في البلدان العربية والاتحاد السوفيتي وأوربا، وقريباً من قيادة التنظيم وقواعده، فشهدَ صعوده وشهد هبوطه، شاركَ في السجون التي تسلطت عليه، وراقب حملات القمع التي قام بها الحزبُ ضد الآخرين كذلك، عملَ لإنتاجِ ورقهِ المضيءِ لتبصير الناس بأوضاعهم وحقوقهم، ووأوقف كتباً ومنشوارت هجمت عليها رقاباتُ الأنظمة ورقابة حزبه كذلك.
إنه راوٍ موضوعي بأسلوب ابن البلد الصنايعي، ويقدمُ روايتَهُ التي جمعها بذلك الصبر الأسطوري كمادةٍ قابلة لمختلفِ الطعون، بل يقومُ بعرضِها قبل النشر ليعلق عليها بعضُ رفاقه مؤيدين أو منتقدين عباراته، ويحملُها كلَ هجومه الضاري على قيادة الحزب خاصة الأمين العام السابق لهذا الحزب وهو الأستاذ عزيز محمد وأمينه العام الحالي كذلك الأستاذ حميد موسى وهما معروفان في الساحة السياسية العربية والعالمية.
إن موضوعيته الروائية تكمنُ في تقديمهِ المادةَ الخامَ التي جرتْ فيها الأحداث، وهو فيها شاهد عيان فإذا لم يكن شاهد عيان لا يقوم بعرضها إلا من خلال راوٍ آخر محدد الأسم.
يعرضُ في هذه المذكرات شخصياتٍ شهيرةً كعبدالكريم قاسم وصدام حسين وعبدالسلام عارف إضافة طبعاً لقيادات الحزب الشيوعي العراقي.
وهو ينطلقُ من هذه الإيديولوجية الماركسية – اللينينية التي ثبتَّ تناقضها التركيبي، دون أن يهتم بهذا التناقض التركيبي، والكتاب كُتب قبلَ وبعد إنهيار الاتحاد السوفيتي والرأسماليات الحكومية الشرقية الأخرى.
وهو كشغيلٍ ومالكٍ صغيرٍ عاشَ في ظروفِ العاملين بعيشهم الصعب المحدود وفي تفتح هذا العيش خاصة حين يرتبط بقوى الدولةِ ذات الموارد، وعبر المادة الفكرية الأسلوبية المتاحة لهذه الفئات، وبالتالي فإن ما يرويه هو المادة الخام النضالية التي من الممكن الاستفادة منها لدرس هذه التجربة وما يماثلها كذلك من تجارب.
إن المنطلقَ الفكري يحددُ طبيعةَ المادةَ المعروضة، بل هو يحددُ التجربةَ وتناقضاتها، غيرَ المرئية لمثل هذا الوعي، فهو يبقى على سطوحِ هذه المادة، ويعرضُ تأزماتها وسيرورتها كأخطاءِ قياداتٍ إنتهازية، حادت عن (الحقيقة) المتمثلة بذلك المنطلق الماركسي – اللينيني، وليس أن وعيَهُ لم يقرأ تناقضات الواقع والطبقات والفئات وصراعها.
(الحقيقة) بدأت من لينين وثورته (الإشتراكية) وأقتبسها قائدٌ آخر هو فهد وحاولَ إعادةَ تطبيقها في الواقع العراقي، والاشتراكية قادمة من كارل ماركس بأوربا، يقول الأستاذ شوكت خازندار في تحديده للتجربة الإشتراكية:
(صحيح كان في الاتحاد السوفياتي بطالة مقنعة ولكن في النهاية الكل يعمل ولم نجد إنساناً تحت خط الفقر. ولم نجد أيضاً في الاتحاد السوفياتي مواطن(؟) يبحث عن وجبة طعامه داخل القمامة كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية؟!)، ص222، دار الكنوز، بيروت.
قراءةُ المناضلِ العراقي تقفُ فوق سطوح الظواهر، وسنحاول هنا أن نقرأ تناقضات هذا الوعي عبر هذه العروض للأمثلة مخترقينها نحو السببيات البعيدة، فالعديد من الأفكار تقف عند الظاهر، المرئي المحدود، فكان ينبغي للنص أن يتساءل عن الأسباب العميقة لسقوط (الاشتراكية) ولماذا زالت قيادة العمال ولم يزل الإستغلال وإستمرت هيمنة الإدارات الحكومية البيروقراطية التي تعالت داخل التجربة السوفيتية وتحولت إلى القوارض الداخلية لفائض القيمة العام وحولته إلى منشآت رأسمالية خاصة. كانت السمات الإيجابية التحويلية (الإشتراكية) في بدايات التجربة وبعدئذ ذابت هذه القيادة وذابت الجماعية والسوفيتيات. ولا بد أن نقرأ لاحقاً هذا التداخل بين التجربتين العراقية والسوفيتية، بين ما هو وطني وماهو عالمي، وكيف قادت عمليتا الترابط والتداخل إلى نخر التجربتين معاً.
إذن لم يقتبسْ فهد الاشتراكيةَ لكنه إقتبسَ مشروع الرأسمالية الحكومية الروسية، (حسب شعاره لا نريد إشتراكية ديمقراطية بل نريد شيوعية)، ولنقلْ بشكلٍ آخر إن فئاتٍ وسطى وعاملة عراقية وعربية وعالمية إقتبست هذا الهيكلَ الرأسمالي العام في ذلك الظرف التاريخ الملتبس الدقيق، وأرادت تطبيقه في بلدان أخرى، وجرى ذلك في هذا الحراك التاريخي التعجيلي بنشر الرأسمالية بوسائل سياسية فإدارية حكومية.
يعبرُ مصطلحُ الماركسية – اللينينية عن هذا التركيب المتضاد، الذي أعتبرهُ كاتبُ كتابِ(سفر ومحطات) مفتاحَ فهمٍ وعرضٍ لتجربة الحزب الشيوعي العراقي، لكنه مفتاح كشف تناقضات التجربة ككلِ أيضاً.
فالماركسيةُ في قمتِها الغربيةِ، أي في نضجِها، أداةُ تحليلٍ موضوعية، ولكن اللينينيةَ إنتقائية، ذاتية، شكلتْ شموليةً سياسيةً قافزةً على التحليل الماركسي للمجتمعات الشرقية.
وقد قادت الأحداثُ التاريخيةُ الأليمة المريرة إلى كشفِ التناقض بين المصطلحين، ليس على المستوى الروسي فحسب، بل على المستوى العراقي، وعلى المستوى العالمي كذلك.
لقد أجرتْ الأحداثُ نفسُها عمليةَ التفكيك، لكن العديدَ من العقولِ المناضلة لم تقمْ بذلك، ولهذا نعودُ إلى المنهجيةِ الأولى وقد تمت تنقيتها من بعض الشوائبِ الاستبدادية الشرقية، مستفيدين كذلك من الجوانبِ الإيجابيةِ من التجربةِ الروسية السوفيتية وبقية منظومة الرأسماليات الحكومية ومن التجاربِ النضالية التي عاشت في مناخها وتأثرت بها إيجاباً وسلباً.
ولكن حين يضيع هذا الخيطُ الأساسي فإن موادَ التجربةِ المُفَّكرِ فيها تضيع، وتضطربُ، وأهم هذه المواد هي مادة من يقودُ الحزبَ، وهو هنا الحزب الشيوعي العراقي؟
إن من يقود هو هذه الفئة الوسطى، هذه الخلية الاجتماعية المُسماة برجوازية صغيرة، وهي التي تتلبسُ معاناةَ العمال والعامة وتريدُ أن تحلَ مشكلاتِها، لكن من خلال سيطرتِها ودكتاتوريِتها هي، لكنها تقولُ إنها دكتاتورية العمال.
ولهذا فإن الحراكَ هو حراكُ هذه الفئة، ويختلف مسارُ قيادةِ البرجوازيةِ الصغيرةِ النهضويةِ اليسارية في الاتحاد السوفيتي عن مسارهِ في العراق، لكنهما يتلاقيان، فقد سبقتْ التجربةُ الروسيةُ وكونتْ نظاماً يُحتذى ويَغمرُ بالمساعدات، وهو نظامٌ غيَّرَ البنيةَ الإقطاعيةَ المتخلفة وشكَّل حداثةً كبيرةً من خلال ذلك النظام الرأسمالي الحكومي، وأراد أن يقودَ النظامَ العالمي، غير معترفٍ بأنهُ جزءٌ من النظام الرأسمالي العالمي ومن الجزء النامي فيه.
هو شكلٌ صاعدٌ من الرأسماليةِ العالمية وتوجه لمقاربتِها بسرعة من ضمن قوانينه ومستواه، وهو شكلٌ أولي من إشتراكيةٍ غيرِ مكتملةٍ ظهرتْ قبل الولادة الطبيعية. أي هو طفولةٌ لإشتراكيةٍ مخنوقةٍ بسبب الدكتاتورية وتخلف قوى الإنتاج التي قامَ عليها.
فتكون ذلك في رأسماليةٍ حكومية تناقضتْ بها السبلُ حتى تمزقت من الداخل.
وأخذ الشيوعيون في العالم الثالث وبعض القوى السياسية الغربية هذا النموذج وجُعل مؤسساً طليعياً. وغدت سياساته الداخلية والخارجية جزءٌ لا ينفصل من النموذج، هذا جزءٌ من وعي طبيعي في ذلك الزمن، ولكن غير الطبيعي هو الإستمرار فيه.
ويعرضُ لنا شوكت خزندار مادةً وفيرةً عن هذه التناقضات في الماضي، وأغلبها تصوير لتبعية هذه الفئة المناضلة العراقية للقيادة الروسية، وهو تعبيرٌ عن مصالح هذه الفئة في الانحياز للقوى الحاكمة السائدة في أغلب المراحل.
ثمة جماعة في التنظيم قاربت الموضوعية في رؤيتها وهي جماعةُ(إتحاد الشغيلة)،(1954) التي رأتْ إن النضالَ والبقاءَ في النظام الملكي وتطويره ديمقراطياً بشكلٍ متصاعد ورفض المغامرات السياسية، هو السبيل الصحيح والعقلاني للحزب.
لكن المؤلفَ والجماعات الأخرى صبوا جام نقدهم عليها وحطموها.
ثمة عوامل عديدة لذلك أهمها تصاعد الدور الروسي داخل الحزب، ودور الجماعات القومية والمذهبية في كراهية نظام ذي علاقة قوية بالغرب وغياب قائد عقلاني في النظام الملكي نفسه، وبعدها تفجرَ العنفُ والانقلابات المتعددة حتى وصل العراق إلى فسيفساء سياسية.
صار الحزب يتبع البوصلة الروسية، فكان عبدالكريم قاسم الزعيم الموتور مقبولاً في خريطتها المعقدة عالمياً، والموجهة لزحزحة مصالح الغرب إلى حد معين فقط، وينتبه المؤلف لهذا المأزق الحزبي ويطرح ضرورة تجاوز نظام قاسم وإستبداله بنظام (إشتراكي).
لكن الحزب صار مع السائد والغالب، عالمياً، ووطنياً، فتتوجه الفئةُ الوسطى فيه للاستفادةِ من منحِ ومساعدةِ الحليف، كما تستفيدُ من نظامِ قاسم، الذي تلاعبَ بكلِ القوى السياسية وبقي الحزب الشيوعي يدافع عنه حتى اللحظة الأخيرة بحماقةٍ كبيرة.
وهذه كانت إحدى لحظاتِ الإستنزافِ الكبيرة التي سيكون لها دور في حرق أرضه الخضراء وتصحرها القادم.
راحتْ الفئةُ العليا من الحزبِ تتبعَ قانونَ وجودِها الموضوعي، قانونَ البرجوازيةِ الصغيرة التي تمشي مع الغالبِ السائد وبشرط أن يكون هو المفيد، حتى إذا ذهبَ تبحثُ عن آخر وتلتصقُ به وهكذا دواليك.
وقد تحولتْ القيادةُ السوفيتية إلى رأسماليةٍ حكومية كبرى بعد أن كانت برجوازية صغيرة في بدءِ النظام، وراحتْ تتفسخُ من الداخل بسبب ذلك، فتخلقُ برجوازيات صغيرة وأنظمةً إستغلاليةً في قوالب (الإشتراكية) ومن خلال هذه العلاقات تتشكلُ صلاتٌ ومصالحٌ وفوائدٌ ضمن عالم التبعية (الاشتراكية)، وتغدو الثورة الحقيقية مُجهَّز عليها مسبقاً، والمبادرات النضالية المستقلة متوقفة.
إن هيمنة البرجوازية الصغيرة داخل الحزب الشيوعي العراقي تنمو لتكون برجوازية كبيرة. هذا هو قانونُ الحركةِ الاجتماعية، وفي ظلِ بنيتي الحراك التاريخي المتداخل، بنية المصدر الروسي السوفيتي، والبنية العراقية، اللتين يتفاوت بين تطورهما الزمن، فالبرجوازيةُ الصغيرةُ الروسية بدأت سيطرتَها في بدءِ النظام السوفيتي وأزاحت قيادة العمال، التي ظهرتْ مع تفجر الثورة وبتضحياتهم الكبيرة، وبالتالي قامت تلك الفئة بصناعة إيديولوجية مركبة متناقضة، شمولية، خصيصاً لنظامٍ رأسمالي حكومي، أسمها الماركسية – اللينينية، تعبرُ عن قفزةِ التغيير في الشرق وبأدواتٍ شعبوية دكتاتورية، لكن التركيب هذا كما قلنا يتفككُ بسببِ تناقضاتِ البنية الاجتماعية السوفيتية وحراكها بين ماقبل الرأسمالية وما بعد تأسيسها وتطورها، وتنتقل أصداءُ وشظايا هذه التناقضات للأحزاب الشقيقة ولحركة التحرر الوطني، التي لا تعي بشكل واسع هذه التناقضات في المركز.
ومن هنا فإن السيد شوكت خزندار الذي يؤرخُ لتجربةِ الحزب الشيوعي العراقي يعالجُ من موقعهِ أصداءَ وآثارَ هذه التناقضات دون أن يتغلغلَ لفهم جذورها بين الكيان الحزبي الذي يعيشه والمركز الذي غدا هو الموجه وينقل رؤيته ومشكلاتها إلى الأطراف.
ففجأة بعد وقوف الحزب الشيوعي العراقي المطول مع نظام دكتاتوري فردي مريض هو نظام عبدالكريم قاسم يؤيدُ عمليةَ تصفية للحزب الشيوعي ويقبل أن يذوبَ في كيان أسمه الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة عبدالسلام عارف وأخيه عبدالرحمن، هذا التنظيم الفضفاض العاجز عن أي فعل نضالي.
روجت السياسةُ السوفيتيةُ في هذه السنوات لنمو الأنظمة الرأسمالية الحكومية الوطنية الأقل جذرية منها في عمليات التغيير، وهي سياسةٌ مفيدةٌ إيجابية في حينها لو ركزت على الديمقراطية في هذه الأنظمة وتطورها داخلها كذلك، لكن هذا أمرٌ يخالف طبيعة الرأسمالية الحكومية الروسية نفسها. إذ لم يكن بإمكانها أن تؤيدَ طبيعة ديمقراطية في أنظمةٍ وطنيةٍ تماثلها في السيطرة على المُلكية العامة، فكان لا بد أن تماثلها في شموليتها، ومن هنا طرحتْ القيادةُ السوفيتية وقتذاك تقييماً زائفاً لهذه الأنظمة بإعتبارها أنظمة لا رأسمالية، وهو كما يشير الباحث وغيره تعبير تلفيقي. ولم تقبل أن يتحول نظام مثل العراق إلى نظام (إشتراكي سوفيتي) على طريقتِها لما يمثله ذلك من صراعاتٍ حادةٍ هائلة في المنطقة تجرها لحرب عالمية، فهنا مراكز النفط، أما بلدان مثل اليمن الجنوبي والحبشة فلا تمثل مراكز هائلة للصراع العالمي.
هكذا أخذت التجاربُ والأحزابُ تتكيف حسب أهداف وعلاقات المركز، وتغدو البرجوازية الصغيرة في الحزب العراقي تابعة للبرجوازية الروسية الحكومية، وتنمو في سياقِ التبعية، وتتوقفُ مشارطُ التحليل العميق لديها للواقع المحلي، في كلِ ظرفٍ سياسي رئيسي، كفتراتِ عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف ثم في عهدي البكر وصدام، فغدا عهدُ البعثِ عهدَ الجبهةِ الوطنية، حيث تقزم الحزب الشيوعي وتقلص ثم قُمع بشدة ثم نجا بنفسه من هذه المصيدة الكبرى عبر إستشعار حس الخطر لدى قيادته.
تدهورتْ القيادةُ البرجوازيةُ الحكوميةُ الروسية وتعفنتْ من الداخل، وقامتْ بمغامراتٍ خطيرة على مستويات كثيرة أنهكتْ الاقتصاد ومعيشة الشعب ودهورت الإنتاج، وبطبيعة الحال لا يمكن لقيادة مثل هذه أن تتبصرَ المنزلقَ الخطيرَ الذي يقومُ بهِ صدامُ حسين، فتدعو للانقضاضِ عليه وإزالتهِ وهو في بدءِ تكوينهِ، بل شجعتْ صعودَهُ وغذته.
ثم على إنقاض القيادة الروسية (السوفيتية) ظهرت قيادةٌ أخرى تخلصت من الكثير من هذه الأعباء الاقتصادية والسياسية الخارجية والداخلية، وأوضحت نفسها كنظام رأسمالي عادي.
قامت الحروبُ التي خاضتها القياداتُ الروسية والعراقية في إفغانستان وإيران وفي شمال العراق ثم الكويت بتفجير التناقضات الداخلية في البلدين وتعرية طابعيهما الضارين، وغدت الحربُ كما قيل قاطرة التاريخ لكن للوراء هذه المرة.
لم يستطع المؤلفُ شوكت خازندار أن يربط بين النظامين، ويكشف طبيعة ما سُمي بالنظام الاشتراكي، العالمي والوطني، وغاص في حيثيات التجرب العراقية التفصيلية كأخطاء عزيز محمد وقيادته بحيث مضى في تفاصيل كثيرة أغلبها عام وبعضها شخصي، لكن للأمانة كان الكاتب موثقاً طارحاً الأدلة وحيثيات تفصيلية دقيقة لا تهم بصورة خاصة إلا العراقيين، وكان هذا تعبيراً عن النقص التحليلي الفكري للتجربة، فهو يقف عند سطوح التاريخ العراقي السياسي، بدون كشف الطبقات والفئات والأفكار التي تؤسس كل ذلكويتوجه مطولاً نحو الأشخاص.
وعموماً فإن درس مثل هذا التاريخ هو لتعميق تحليل التجربة السياسية العراقية والعربية عامة، وتقديم حيثيات كبيرة للأجيال من أجل أن تدرس تاريخها، وتنحت مادة مؤثقة عن قادة أحياء وأموات قدموا الكثير من حياتهم لأجل الناس، بغض النظر عن مدى توفيقهم في هذا، وقدموا ذلك في ظروف قاسية معقدة متشابكة، ولكن لا بد فيها من التأصيل والفرز وتطوير نظرية النضال العربي التقدمي.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 06, 2019 07:53

December 3, 2019

عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏: ツ كلمتا البرقِ الخــُلبِ

 ツ كلمتا البرقِ الخــُلبِ
في التراث تجسد صورة (البرق الخلب) حالات الإنسان المزهو بنفسه مثل السحابة الكبيرة التي تطلقُ البروقَ ثم لا تـُسقط مطراً.
وهي حالة كثير من الناس يتصورون ان بإمكانهم أن يكونوا نجوماً في سماء المعرفة والفكر، فيعتمدوا على التظاهر الخارجي، مثل الممثل الفاشل الذي هو غير قادر على صنع المشاعر الداخلية في أغوار نفسه، فيتظاهر بحركات خارجية تعكس فقره الروحي.
والسبب قوة الطموح وقلة الدرس، فهو ليس لديه وقت للقراءات العميقة، ومكابدة البحث، وعناء الصقل الداخلي، ونحت الأفكار في الدماغ، إما لعادات اجتماعية سيئة وإما لنقص في القدرات الجسمية، ومع هذا فهو يرى الناس كالأقزام، ويرى المنتجين الكبار محدودين صغاراً، وهي خصال سيئة تزيده تشوها لكنه لا يراها في نفسه بل في الآخرين.
وأدت ظروف التنافس والفردية الطاغية وسيادة عالم المظاهر وانتشار الدكتاتوريات المقزمة للبشر، إلى صعود هذه الظاهرة واستشراء شراء الأقزام وتصعيدهم على المسارح الاستعراضية السياسية والاجتماعية المختلفة.
حين كان العصابي الاجتماعي مع البشر العاديين، يصارع ما يصارعون، ويتألم مما يتألمون، كان لديه بعض المواهب، وكانت مشاعره تتألق للدفاع عن الوطن أو الناس، كان يحفظ بعض الشعارات، ويقرأ بعض الإنتاج، ولم يكن متواضعاً وهو مع هذا الحشد المضحي، بل يرى نفسه مغايراً، ولا يرضى بأي نقد، وهو عصبي المزاج، يعكس نفساً متورمة، لها حدود حمراء تتفجر بالصراخ والنداءات الحادة حين تلامس تلك الحدود أي ريشة قدح أو نقد.
وإذ كثيرون من المتورمين يتساقطون عاجزين عن دفع ضريبة العمل السياسي الذي يتطلب النقد والبحث وكون المشتغل به فردا مثل سائر الأفراد، فإن المتورم الأكثر تركيباً، والأكبر طموحاً، الذي يمتلك بعض المهارات، يواصل الصعود في عالم الأنوار، عالم البروق.
في حالة الكتابة يتعلق بالشعارات والحالات العامة المجردة التي ليست فيها قدرات تحليلية عميقة، يستند إلى جزئيات فيها بعض الصحة والبقع الفاقعة والصواريخ المبهرة، ويمضي بها وقتاً ولكن غير قادر على الاستمرار فيها وجعلها تتغلغل في المجتمع، ومتابعة تصوير نماذجه من العامة والمثقفين الذين كان يحفل بهم، ويتابع نماذجهم، فيروح في عالم كتابي غنائي غامض، ينسحبُ من خلاله من عالم الكادحين الذين كان يتغنى بنضالهم، ويسجل عذاباتهم، ولا يحفل بالتناقض بين ما كان بالأمس وما صار اليوم.
لا تهمهُ مساحة التناقض، وهوة الاختلاف، وعظم القصور الداخلي، وضرورة مراجعة النفس، ونقد الذات على الهوان، وكون الأشياء المادية لا تساوي شيئاً أمام عظمة النفس، وأن المهم والعظيم هو بقاء الذات مشعة ومستمرة في صنع المطر لا في تشكيل الاستعراضات المبهرجة والبروق الخلبية.
لا يستطيع أن يستمر في كتابة الحقيقة، فكتابة الحقيقة لها أثمان: تعبٌ في القراءة، وبساطة مع الناس، وتواضع أمام الرموز الإنسانية الكبيرة، وشفر الأسلحة في تعرية نماذج الفساد، وظاهراته الاستغلالية المتصاعدة، وتوسيع البصيرة في رؤية الأحداث الغامضة، لكنه لا يستطيع ذلك.
فقد يلجأ هنا إلى صوفية تجعلهُ متوارياً، مغمغماً بلفظيات فاقعة مبهرجة، مجعجعاً بثورياته في المطلق والمجرد والغامض، أو إلى إنشائية اجتماعية أو سياسية مباشرة يسودها الاستعلاء وتجريح الآخرين وتقزيمهم وهي تصدر عن نظرات ضحلة لا تتغلغل في الظاهرات الاجتماعية والسياسية المعقدة، لكن عبر الصواريخ اللغوية والادعاءات الأدبية، يستر جزءا من عري ظاهر.
ولابد له من مدح الواقع القائم الذي يستفيد منه، متحولاً هنا إلى عالم موضوعي، يدرك المراهقة اليسارية وخطورتها ويخفف من وطأتها على الكفاح الشعبي، ويغدو هو الوطني البارز الذي يعرف مسار الحق، ويوجه الجماعات الطائشة كافة إلى طريق الصواب.
ورغم أن نظرته حولاء، ويقرب النار من قرصه في الانتقادات الصغيرة كافة، والمدائح الكبيرة، ويستدير في أي لحظة و”يتشقلب”، ويكشف عن الإنجازات الخطيرة، فإنه يرى أنه أعظم من فكر ونظر.
وتتعقد الحالة النفسية إذا كانت مثل هذه الإنشائيات تتشكل من أجل لقمة العيش، فهي تصير تواضعاً من العملاق، وإهانة لقدراته الكبيرة من أن يخدم البسطاء و(الأغبياء)، فإذا كانت زحفاً في عالم الفساد وضروب التزلف والنفاق السياسي، فلابد من تصويرها على أنها قمة البحث والعروض النقدية والكشف لصالح الأمة والشعب.
لا تتشكل هنا حالة خصب مع ابتعاد النموذج عن الأرض وعن الناس، حيث اصبحت فقاعة تطير في الهواء، تطلق بروقها الحارقة على المشاهدين، وتعيد تشكيل الإنسان والحضارة.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 03, 2019 05:34

December 1, 2019

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : ملاحظات حول مجموعة ــ الفراشات لأمين صالح

هذه الدراسة نشرت في مجلة الكاتب العربي العدد الرابع من السنة الاولى ديسمبر 1982 دمشق .

[image error]


هذه هي المجموعة الثانية للقاص أمين صالح الصادرة عن دار الغد بالبحرين، والتي تعتبر امتداداً وتعميقاً للخط الذي شقه لنفسه في ميدان القصة . اننا لن تعتبر هذا الامتداد تطوراً وقفزة إلى الأمام ، بل سنجد فيه استمراراً لأزمة هذا العالم الأدبي الفكرية والفنية .
إن إطلاق النعوت الفضفاضة والتعبيرات الشعرية والمصطلحات الغريبة غير المفهومة . لن تؤدي إلا إلى عزلة أكثر لهذا الأدب وتفاقم أكبر لموقفه الصعب، وعرقلة تطور الكاتب. علينا أن نتحاور كأصدقاء، لنكتشف مواقع ضعفنا ونساعد بعضنا البعض، في غيبة النقد العلمي . وهذا النقد ليس منافسية وصراعاً لتدمير الوحدة الأدبية، بل هو لتعميقها، واكتشاف مواقعنا على نحو أفضل وتوجيه كلماتنا للتأثير المشترك في الواقع.
سوف نناقش هذه المجموعة من زاويتين، الزاوية الأولى هي زاوية البناء ومدى قدرة الكاتب على خلق بناء قصصي متماسك. ولا يعني هنا أن الرؤية المتجسدة في هذه الأعمال ــ‏ سواء المتماسكة أم الضعيفة ــ إيجابية، فقط أننا بتركيزنا على هذا الجانب نستطلع جوانب التشكيل المختلفة حتى نعثر على جوانب الخلل التي تقودنا الى خلفية هذا التشكيل وأسباب جفافه وضعفه. الزاوية الثانية هي زاوية الرؤية أو تناقضها، هذه الرؤية التي تؤدي إلى التشكيل بهذه الصورة. أي أننا ننتقل من الشكل إلى المضمون ونرى علاقة التأثير بينهما.
بين التداعيات والقصة القصيرة :
العديد من قصص المجموعة عبارة عن صور متناثرة لم يستطع الكاتب أن يخلق المعيار الفني الذي يوحدها ويعطيها الدلالات المبتغاة. انها تداعيات ربما وحدتها أحاسيس ما، لكن لم تأخذ فرصة النضوج الكافية للتبلور في هيكل حدثي متناسق، فانطلقت الصور المقطوعة؛ والتعبيرات المباشرة في كل اتجاه.
أن التداعي والانطباعات حينما تتحول الى انطلاق عفوي، لا تضبطها الهندسة الفكرية يتبعثر المحور الذي يربط كل الجزئيات ويوحدها . ليست المسألة مسألة التخطيط والمنطق الحسابي، ولكن ذاك التفاعل الخلاق بين الوعي والعفوية، بين المنطق والتدفق.
سوف ننتقل مباشرة من النظرية الى التطبيق .
في (انفعالات طفل محاصر) نجد عشرات الصور المبعثرة والتداعيات لكن لا نجد هيكلا حدثياً نامياً . 
في البدء تطالعنا صورة الراوي والفتاة التي تجلس قربه . ليس بينهما وبين البحر سوى جدار سميك . بينهما حب ولكنه حب خارج على القانون، وهو حب سخي، تلاحقه معاطف المخبرين و . . . و. . . يخرجان من المقهى، يستلهمان الماضي والمستقبل، وكانا مأخوذين بسحر العرائس، ولكن يعود الحصار فجأة ويعود الجدار السميك .
ثم ننتقل إلى صورة أخرى، لا تأتي كتوليفة وتركيب؛ بل كقطع في البناء. فثمة غرفة موصدة وخالية إلا من طائرات تقذف قنابلها في لحظات خاطفة، نجد عيناً في الأرض وأخرى في الرأس . الطفل المحاصر يحصي أصابعه فيجدها سبعة .
الصور الثانية جاءت ولم تحدث تركيباً بنيوياً، انفصلت عن الصورة الأخرى؛ وتأتي الصورة الثالثة أولا كأقوال تقريرية (أعشق الريح والخليج والوقت الآتي والرمل والبحر والمراكب)، تقريرية لأنها لم تتجسد تصويرياً، فنحن نبغي الخليج ولكن أين هو؟ وهذه الانفلاتات التقريرية تأتي لتزيد الفصل بين الصور، وليس لها من قيمة بنائية . والكاتب مولع بهذه الجمل غير القصصية وهي جزء من حالة عدم النضوج الفني للقصة.
ثم نرى امرأة أيضاً. تبقى بذات الحالة التجريدية الأولى . ( ساعدها ثمرة شهية لها طلعة بهية يعشقها كل الأطفال )، الكاتب لا يبني، يبقى بحالة التداعي الأولى، لا يطور من هذه المرأة، لا يجسدها بشكل خاص وحميمي، لكي يحولها من أوصاف عامة تنطبق على أشياء كثيرة إلى إنسان ذي ملامح . اللغة الناعمة الملمس المنتقاة، تقيده . لا ينتقل إلى الإنسان، إلى تركيب صورة تكشف أعماقه.
يقفز إلى الملهى الليلي ويدع تقريريته تتحدث . فهو يمقت الرقص الشرقي في العلب الليلية وامتهان الأجساد ويكره مدير الملهى واللوطيين والمخصيين وأصحاب المصارف . لقد جاءت هذه الصورة أيضاً بلا توليف، فلا تطور جانباً حدثياً سابقاً . بل تنقلنا إلى أشخاص جداد وموقع جديد مضيعة الفرصة للتركيز على الأشخاص السابقين . إن هذا الانتقال لا يضيف فنياً أي شيء . ويمكن الانتقال أيضاً إلى أصحاب المزارع والقصور والقضاة وغيرهم ولكن ما فائدة ذلك بنائياً؟
النقلة الأخرى الى شخصية ( أبي ذر). ودائماً تكون الأوصاف العامة ذات الرنين الشعري، كدقات الطبل، هي المدخل إلى الشخصية أو الحدث . أنه لا يدخل لها ببساطة، لأنه يكره أن ينزل إلى الملموس والعادي، فلغته يجت أن تكون محلقة، مجردة، فهي عبء يعانيه، وليست أداة تساعده لخلق الشخصيات والأفكار .
أبوذر يرسم وطناً دامعاً ويكاتب عالماً مجرداً هو الوطن والأمهات . إن هذه المكاتبة لا قيمة لها،  تبقى شعاراً، لأنه لا بد من أم ما، خاصة، تتم إليها المكاتية. عندئذ مع وجه ذي قسمات معينة تتشكل علاقة حدثية قصصية، والعلاقة لها شروط أيضاً . أهم هذه الشروط صلتها بالصور السابقة وتناميها في الصور اللاحقة .  فالمسألة ليست اعتباطية فثمة قوانين للابداع.
وأبوذر يطبع قبلة على جبين فتاة كانت تزوره خلسة . ولكنها تختفي . انه يصورها كعادته مركزاً على تعبير (المطر المالح) لا الانسان الرائع .
أبوذر يدخل هكذا بلا مقدمات . الصور الأولى لم تشيده، عبارة عن كلمات لم تتآزر وتتشكل في بناء عضوي . والإحساس بالاضطهاد أو الحصار لا يشكل هيكلا . فكل صورة لها قيمة في ذاتها، وليس في العلاقة بينها، والعيب هو في هذه الصورة لأنها مبنية بشكل «ميتافيزيقي»، أعني أنها منفصلة وساكنة، وليست جدلية؛ مرتبطة ببعضها البعض، مؤثرة ومتأثرة، خالقة بذلك لوحة عامة.
وفي المقطع الخامس نقرأ مانشيتات إخبارية لا علاقة لها بالصور والبناء السابق . إن الحديث عن الشهداء والاعتقال لا يكفي ليشكل قصة فما بالك بقصة ثورية، في ضوء عدم الاهتمام بالتكنيك القصصي أولا ؟
وتكملة لهذا المقطع  نعثر على صورة . يصادف الراوي قاطع طريق . القاطع يقدم أكلا قليلا، وكان كلاهما جائعين؛ فلم يشبعا . تحدث عن نفسه فأوضح أنه يحارب عصابه احتكرت مياه الشرب عن الأهالي، فيسلب مواشيها وعربات المياه، ثم يوزعها على الناس .  وهو منكر لذاته أيضاً، فيراوغ عن قول اسمه .
هذه صورة لا علاقة لها بالحدث أيضاً . وسندرس في جانب آخر دلالة قاطع الطريق هذا.
أما في المقطع السادس فيخرج الكاتب عن الموضوع تماماً . يصور لنا حكاية رجل يبيع ذراعه الوحيدة بعشرة فروش . ان من الممكن كتابة عشرات المقاطع مثل هذه ولكن ما وظيفتها ؟ ما الإضافات التي تقدمها للبناء ؟
وفي المقطع السابع نقرأ نداءات متكررة الى المرأة المطهمة بالنار والماء . وهي بلا قيمة فنية، وتبدأ الصورة حين تزمجر الذئاب في وجه أبي ذر، وهو ممدد ومقيد على الأرض . الدماء تغادر جسمة والذئاب تلحس ما تبقى .
ولا يطور هذه الصورة بل ينطلق في تداعياته وانثيالاته، يرتفع ويتوغل في الوقت، ويمضي معه .
وفي المقطع الثامن استمرار لهذه التداعيات . الجمل الناعمة، الشاعرية، لكن قصصياً، الفارغة .
وفي المقطع الثامن يصل أبوذر إلى موقع لا ماء فيه ولا شجر . ولكن قبل أن يكمل أو ينشىء الصورة يزوغ إلى التداعيات والاقتباسات ثانية . يكتب عن سفر الرؤيا . ولا يتم مسيرة «بطله».
نرى أن الكاتب لا يتحول إلى قصاص، يمتلك كيفية البناء القصصي، فهو لم يقم بإنضاج الفكرة/الصورة لكي تصل الى معمار محدد المعالم، فقبل أن تتشكل وتكون بناءها، أجهضها وأخرجها الى «النور» .
ولأن البناء غير مكتمل تنهمر العبارات المباشرة وترفع اللافتات، فلم تنصهر هذه الشعارات في لحمة الحدث، بل بقيت كدليل على التسرع وعدم إتقان التكنيك.
وجانب آخر من عدم الاكتمال هذا نجده كما قلنا في عزل الصور عن بعضها البعض، فالنظرة التركيبية هي وحدها التي ستحيل هذه الشظايا إلى منظومة . أن (شخصية) أبي ذر كان يمكن أن تتحول إلى محور، فتتجمع حولها كل الجزئيات غير المنجذبة إلى مركز .
إن الكاتب أضاع الشخصية من التاريخ والواقع المعاصر . لأنه بكل بساطة لم يرسم شخصية . فهو لم يجهد نفسه تكنيكياً من أجل خلق هذه الشخصية، واستساغ لعبة التداعيات والأجزاء المبعثرة والجمل الشاعرية؛ ونسي واجبه كخالق للشخصية، فتلاشت الشخصية والقصة والشعر معاً .
اللغة الجميلة البعيدة عن اليومي لها دور في الاتجاه إلى التجريد، فالكلمات تتدافع بقانونها المستقل غير موظفة لبناء الحدث، وحينئذ تفرض شروطها عليه . هي تبقى كغاية؛ بدلا من أن يكون الحفاظ على جمالها يأتي بالدرجة الأولى من خلال دورها ووظيفتها في البناء .
✶ (العواء) أيضاً عجزت عن التشكل كقصة .  ثمة بطل يوحد الصور المبعثرة، وهو الراوي، وهذا التوحيد ليس المعمار المطلوب، فهذا الراوي لا يختلف عن صوت المؤلف . فكأن الكاتب يفكر ويحلم و يمشي .
نرى أولا صورة المقهى، يبدأ الكاتب كالعادة بعبارات كبيرة، فلا يخلق حدثاً منذ أول كلمة، بل يفتتح المشهد بأبهة الكلمات الفخمة ( توقفنا عند حدود الكلمات المنطوقة والمهربة). ( لنكتشف لغة أخرى بلون أحداق الشمس) .
رواد المقهى أجادوا لغة الكلام فصمتوا . لذا يقرأ أحدهم ملصقاً سرياً . ثم يقفز كهل ويقوم برقصة عنيفة تمثل بدوياً أنهكه البحث عن خيمة وعشب .
خيبة الراوي تتجلى في الشارع البارد أيضاً . يطارده عواء فيفزع ويجري. تحتويه الغرف الخالية . ليس فيها سوى ذكرى حبيبة، وهي ليست حبيبة حقيقية بل مجرد نداءات تطلق الى شيء غير محدد بالمرة . فالمرأة لدى الكاتب ــ عبارة جميلة وليست انساناً ــ عنصر المرأة لا يتضافر مع الصورة السابقة لكي تنمو حدثياً، بل هي تداعيات يجمعها احساس بالضجر والخواء .
الصورة الأخرى التالية تشكل نمواً؛ وهي صورة الصديق الذي قرأ الملصق وهو ملقى في سرداب قذر تمزقه الطعنات . وهذا النمو تجسيد لبشاعة الواقع المحيط بالبطل وليس أكثر من ذلك . بمعنى أنه لا يتشكل مع المرأة والبطل ليشكل علاقة قصصية . وبدلا من هذا التشكيل ينطلق في حديث مباشر لغيمة «ثورية». حديث غير عضوي، مجرد استطراد للملصق .
و بشكل مفاجئ يدخل الجنود أيضاً مسرح التداعي . تحدث مجزرة فيأتي صوت من بعيد هو العواء . لم يكن تردده سابقاً إلا إيذاناً بمجيئه هذه المرة ولكن بشكله المجسم في هيئة جنود وعلى شكل أسلحة . وهذا الصوت ليس وحده، فثمة صوت آخر ؛ هو الأغنية . اللغة المضادة للعنف .
يرقد الراوي، هناك أصابع خشنة تتجول في جسده وجروحه .
مقطع الحوار التالي يدل على تغير موقف الراوي، على انتقاله إلى الغناء، ولكن بغموض؛ فليس ثمة تغلغل في نفسه؛ أو كشف للابن الذي يخاطبه، عبارات مبهمة لا تروي شيئاً .
أما النداء الأخير الى المرأة/العبارة فيكشف موت الراوية أو استشهاده، وذلك سيان .
إن هذه الصورة الباهتة، التي تفتقد إلى الحرارة العاطفية والتشكيل المتفجر حيوية، لا تشكل قصة . إن الصراع بين هؤلاء الأشباح والمضطهدين نراه في قصص عديدة، ولكنه ليس مشجباً يعلق عليه الكاتب كسله الفني، لا بد من تشكيل بنية ذات علاقة عميقة، تميز هذه القصة عن تلك، تخلق أبطالا لهم شيء محدد خصوصي، يعطيهم نكهة، ويعطي علاقتهم مناخاً متميزاً .
لكن الكاتب ينثر تداعياته، مقهى، امرأة، غيمة، جنود، منزل، غير قادر على خلق علاقة حدثية بين هذه العناصر . مضيفاً إلى هذا التبعثر جواً مجرداً يعمق هذا التبعثر.
✶ قصة (ولم ينته هذا الحلم البلوري) تختلف بعض الشيء عن المحاولتين السابقتين؛ فالمجموعة المتناثرة من الصور نجد أنها تتألف وتتضافر حول البطل وهو الرجل البرجوازي وخادمته . هذا الرجل وهذه المرأة يؤلفان نقيضين، أي قطبين متنافرين في الصراع الاجتماعي . ومن خلال «شخصيتيهما» ومن خلال الصراع بينهما ينمو المحور ويتشكل .
هو رجل مذعور ووحيد في منزله . وهي امرأة تعمل وتقرأ . في انطلاقة المذعور من البيت يقابل (صديقه) وزوجته. وحين يشتهي المرأة لا يتردد بينما يقف الصديق مغطياً عينيه المفتوحتين . ولكن حين يشتهى الخادمة ترفض وتقاوم.
هذه هي العلاقة المحورية لدينا، الرجل رغم كثرة المقاطع عنه ظل غريباً، بعيداً مجرد رمز ك/ س/ مثلا، وهو رجل بملامح غربية . فهو لم يتشكل بمناخنا وتربتنا الوطنية، تشكل من قراءات القاص، ليس كنتاج للواقع المحلي، والخادمة أيضاً هي رمز لا شك أنها تتمتع بمزية المقاومة، ولكن لم تخرج عن كونها شيئاً مجرداً، وليست إنسانة، فنبع البطلين واحد.
لن نناقش الأسباب الفكرية وراء هذه الظاهرة الآن، بل سنقتصر على رؤية التشكيل . وبهذا الصدد نقول: إن العلاقة الرئيسية لم يمعمقها الكاتب نفسياً واجتماعياً. لم يركز على ذات البطل لينتزع ملامحها وخصائصها الجوهرية، وليكشف من ثم أساسها الاجتماعي؛ ليتشكل البطل كشخصية حيه ــ وكذلك البطلة . إن الكاتب لا يزال يبعثر أجزاء القصة، غير قادر على لحم الأجزاء بمهارة . وبدلا من إتقان التكنيك يلخص بعض قراءاته وينثرها في القصة . فهنا مقتطع من سيناريو وهناك مقطع من قصيدة لشاعر فرنسي وأيضاً مشهد من فيلم ! هذه «التوظيفات» لا قيمة لها على الإطلاق . لأنها لا تضيف شيئاً لتعميق رؤيتنا للشخصية أو لتطور الحدث بالإضافة إلى أن ثمة صوراً أخرى لا تقوم بهذه الوظيفة أيضاً، رغم صلتها بالحدث . كأمثلة : منظر المصنع؛ المحكمة، الجنود . هذه كلها تدلل على أن الكاتب لا يختار الزوايا الهامة والدقيقة لاكتشاف شخصياته، لأن رؤيته لا تتركز على (الإنسان) بالدرجة الأولى .
✶ (ايزادورا . . دعوة للمشاركة)، هذه ليست قصة، ثمة امرأة راقصة ذات اسم معروف، لكننا نجهلها في الحقيقة. لم يصهرها القاص في حدث ساخن؛ فنرى أعماقها وطبقتها الاجتماعية وصراعها. الصورة عبارة عن منظرين صغيرين لا أبعاد لهما. الرجل الغربي البرجوازي في القصة السابقة تحل مكانه امرأة غربية. وليس ثمة صدى لواقعنا، فنحن ضيوف غرباء على المنظر .
المرأة لا تفعل شيئاً سوى أن تتعرى وترقص تحت رذاذ المطر، ثم يلقى القبض عليها قبل أن يحضنها حبيبها.
هذه الصورة قطعت إلى ثلاثة مشاهد، وهناك أيضاً استشهاد بأحد أقوال راقصة عاصرت ايزادورا ولحسن الحظ وضع الاستشهاد خارج القصة هذه المرة . تقطيع الصورة الصغيرة الى ثلاثة مشاهد ترينا سيطرة الشكل على وعي الكاتب . الفكرة ظلت باهتة، لكن الشكل ظل يتمتع بالاهتمام الأول .
✶ يصل الكاتب في العديد من القصص إلى التماسك الشكلي، فتتشكل عضوية موحدة، وتتآزر العناصر المختلفة لتبلور فكرة .
في (النافذة) تبقى ملامح الصراع ذاتها. الخادمة هي المرأة المضطهدة التي تعاني يومياً شراسة السيد ووقاحته. تفتح النافذة فيستقبلها الهواء ويدعوها للطيران . والطفل يضحك أمامها فتحاول أن تقلده فلا تستطيع، والنهر يدعوها لتتعلم الكفاح فلا تقدر أن تفعل شيئاً، ويبقى السيد سيداً وتبقى الخادمة عبدة . . وتغلق النافذة.
هنا ليس ثمة شيء زائد، كافة العناصر البشرية والطبيعية تؤدي دورها في انسجام عضوي، ولكن هناك اشياء ناقصة . يتضح في القصة دور العوامل الطبيعية كالهواء والنهر في إعطاء المرأة صورة أخرى لوضعها من أجل أن تغيره . أيضاً (الطفل) وهو عنصر رومانسي في أدب أمين، يومئ لها نحو الطريق ولكنها عاجزة عن الضحك والسير . إن هذه العوامل تتشكل كرموز، وليس كعلاقات بشرية مع المرأة . القاص يقطع صلتها بالناس، بالحياة الاجتماعية الغنية، ويترك لها علاقة شاحبة مجردة؛ وعليها أن تثور من خلالها. أن اضاءة تاريخها بشكل ومضات سريعة، ووضعها في إطارها الاجتماعي، قد يكشف محدودية قدراتها للتطور؛ وقد يفتح لها أفاقاً جديدة . 
القاص بوضعه «البشر» في ثلاجات يريدهم أن يزخروا بالنار . فقط في حالة ذوبان الجليد واكتشاف الكاتب للمناطق الحارة في منطقتنا، سوف تتشكل نفسية حية لهؤلاء الشخصيات المطمورة بذاك التشكيل المدمر لقدراتهم وإمكاناتهم .
ملاحظات صغيرة :
 نستطيع أن نحدد ملاحظات أخرى على التشكيل نكمل بها الصورة :
أولا : هناك تباين بين عنصرين مختلفين وهما عنصرا التجريد والمباشرة . فبقطع جذور الشخصيات عن واقعها الملموس، وافراغها من محتواها الاجتماعي، يتضاءل التوجه الثوري للعمل الأدبي وتضعف مهمته التحريضية، فتظهر العبارات المباشرة تعوضاً عن نقص في البناء والتوصيل.
ثانياً : الاهتمام بالشعر والسينما يأتي ضد القصة، فهذان الفنان لا يندغمان في التكنيك القصصي، بل يظلان طافحين فوق السطح، ولهذا يكون لهما أثر مدمر على التشكيل القصصي، أن أي وسائل تستخدم يجب أن تساعد الشخصية والحدث في التكون والتطور وأن تذوب في الهيكل العام للقصة لا أن تكون مفردات طافية على وجه القصة .
ثالثاً : ثمة تناقض في هذه القصص، وهو التناقض بين «الحالة الشعرية» والوعي «الموضوعي» الذي تتطلبه الكتابة القصصية، فتلك الحالة تعطي غنائية ونطلاقاً غير مخطط الصور؛ وهذا الوعي يتطلب تخطيطاً وبناء فكرياً لخلق شخصيات في حركة وفعل . والقاص حينما يثبت قدماً في القصة وقدماً أخرى في الشعر تختلط الحالتين في عمله، فلا يكون قصة أو قصيدة .
رابعاً : الكاتب في محاولته للوصول إلى العام والجوهري يخفق تماماً، لأنه يضع طريق الوصول اليه دون المرور بالملموس والثانوي .
إن تصوير الحدث والشخصية بعمومية وإطلاق يؤدي إلى عدم واقعيتها، أن الواقعية تتطلب مزجاً بين الملموس والمجرد، بين الثانوي والجوهري، وبدون هذا المزج نتحول الى مدرسة أخرى .
المناخ الغربي :
قاد تجريد الشخصيات والأحداث من واقعها المحلي والعربي، الكاتب إلى سيطرة أجواء قراءاته ومشاهداته لنتاج الثقافة الغربية . كان التصور السابق أن القاص بقطع الجذور الاجتماعية والوطنية لكائناته الفنية انه يجعلها مطلقة، مجردة، غير محددة الجهات، ولكن اتضح أن ثمة واقعاً آخر يجذبها ويجعلها تدور في فلكه،  فغدت هذه الكائنات تعيش في أجواء غربية . فانقطعت عن واقعها الذي تستمد منه الماء والضوء .
ستتناول عناصر مختلفة لرؤية هذا المناخ .
❖ (هنالك امرأة تطل من الشرفة وترمق البحارة الذين يتزاحمون داخل وخارج الحانة . .  ص 5)
❖ (. . ومدير الملهى يفتح زجاجة الشمبانيا في تخب زوجته التي تعاقر اللوطيين والمخصيين وأصحاب المصارف جهراً . ص 13).
❖ كان بضعة رجال يرتدون ملابس عسكرية غريبة؛ منهمكين في صنع صليب خشبي ص 33). 
❖ ( الغرفة خالية ، بدون أثاث أو لوحات عصرية أو تماثيل افريقية ص 42).
❖ (عارية ورذاذ المطر يداعبها ويعانقها). 
❖ ( ضباب شفاف يدور حولي . امرأة بيضاء قادمة نحوي . ص 50).
ليست المسألة مسألة كلمات مثل «الحانة»، «الصليب» ، «التماثيل الافريقية» فحسب، ولكنه جو شامل يغطي معظم مساحة المجموعة . المرأة في قصة «الفراشات» تظل بلا نكهة شعبية، فهي ترمق بحارة في حانة ذات مواصفات غربية . تظل المرأة باهتة وغريبة، ليس لأنه مسخ شخصيتها فحسب، بل لأنه وضعها في مناخ غير مناخها . لم تلتهب بنار أرضنا، رغم أن زوجها سجين، ظلت في غرفتها الباردة وشرفتها البعيدة ولم تر حاراتنا وحاناتنا . هذا الجو الناعم الغربي جعلها غير واقعية فماتت . 
البطل البرجوازي في (ولم ينته هذا الحلم البلوري) هو من قراءات القاص وتأثراته بالثقافة الغربية، فهذه الشخصية لا يجمعها جامع باناسنا، حيث أن الكاتب شكلها في جو غربي صرف . علاقته بالخادمة، واقع السهرة، لقطة الفيلم الفرنسي، مضاجعته للزوجة أمام زوجها، منظر المحكمة ووجود عنصر المحلفين، مقطع من قصيدة لشاعر فرنسي .  هذه العناصر المتعددة «تغرب» الموضوع والحدث .  اضافة الى عنصر التجريد المتفاعل معها، فهذا كله يساهم في إخراج القصة من التربة المحلية .
مناخ القصص يميل عادة إلى البرودة، والمطر ليس قليلا؛ أما الصيف والحرارة الشديدة ــ وهي السمة الغالبة في مناخنا ــ  فقلما نعثر لها على أثر .
والشخصيات هي مثل و«تجنسكي» و«ايزادورا» حيث البروز الأكثر وضوحاً لسيطرة القراءة لا الواقع، وسيطرة موضوعات لا تمثل هاجساً لإنساننا . تتلاشى ملامح الخليج بتراثه ورجاله ونسائه ونضاله وأجوائه، لا أثر للزنج والغواصين وعمال البترول . بل هي وجوه شاحبة وخطوط مجردة وأجواء غربية .
الموقف المأزوم :
أن تأثر الكاتب بالثقافة الغربية ليس الا تأثراً بمواقف معينة في هذه الثقافة، وهي تلك المواقف المأزومة ذات التوجه البرجوازي والبرجوازي الصغير .
في (نجنسكي . . حنجرة الرعد) نكتشف بعض جوانب هذا الوقف .
نجنسكي يرقص رقصة الحرب . يمثلها بحركة جسده . اللغة الشفافة تمثل الحركة الخارجية وسطح الموقف . نجنسكي يركض وينزف ملحاً . يغادر نجنسكي خندقاً ‏ــ  قبراً إلى خندق ‏ــ‏ قبر آخر . ثمة جنود وضباط يخطبون بحماس وقتلى .
القاص صور ساحة حرب، ولكن لم يتغلغل إلى أية أبعاد اجتماعية وراءها.  فبالنسبة إليه يقف المعتدي والمعتدى عليه على صعيد واحد . المناضل كالفاشي، لا فرق، هي مجرد حرب لا أبعاد لها . الراقص، والكاتب؛ ضد هذه المجزرة ولكن من سببها ؟ وما هي أسبابها ؟ أنه لا يجيب، فقط يتعرى، متخلياً عن توجيه الاتهام الى عدو محدد ، متجهاً الى لعن الزيف ومن أجل البراءة . هذا الموقف الهروبي يتستر بالمجردات، فيبدأ درجة درجة صاعداً نحو الجنون والانفصال عن الواقع والبشر .
تجاه الحرب يرقص عارياً، وتجاه متعهد حفلاته يغمغم في ذاته . ليس لديه موقف حقيقي تجاه الإثنين، وفي هذا الفراغ المرعب وانعدام الوعي للنضال ضد الشرور الاجتماعية وخالقيها يفتح له الكاتب باباً عريضاً وهو باب الصوفية تجليه الأول من خلال الرعد الذي يبحث عن حنجرة له . أنه لا يصل إلى حالة فقدان العقل حتى يتحد في هذه اللحظة، بل يستمر في تحديه للناس . الصالة غاصة بالجمهور وهو واقف كالتمثال لمدة نصف ساعة . ثم أخذ ينزع ملابسه قطعة قطعة. الجمهور ينسحب . زوجته تبكي، فلا يجد الا الطفلة يراقصها. يتمنى أن يظل الأطفال أطفالا حتى الممات، معبراً بهذا عن فشله وأزمة طريقه .
ويتعمق بهذا طريق الصوفية والجنون . ولا يصور القاص هذا الطريق كأزمة بل كتطور خطير وعملقة للبطل . أن الله نار في رأسه !!
نبذه الناس فانطلق في الهواء والفراغ فاحترق والتقى بالرعد حنجرته . الكاتب حول الأزمة إلى موقف عظيم والانهيار الى تألق،‏ والهروب الى بطولة .
وعوضاً عن كشف موقف نجنسكي وجذوره الاجتماعية الضاربة في تربة طبقية قلقة، يقوم بوضع أكاليل الغار على هذا الانحدار .
لغة الشعر المستخدمة والتمثيل الصامت والعناوين الجانبية والأقواس كلها عجزت أن تحول هذه الصور الي عمل حي رائع . لأنها ارتكزت على موقف طمس القضايا الحقيقية لتمجيد بطل فردي لا يمتلك أياً من مميزات البطولة .
ولكن ليس هذا وحده مما يشكل موقف الكاتب فهناك جوانب أخرى فيه . في قصة (انفعالات طفل محاصر) رأينا وجود قاطع طريق . انه ليس قاطع طريق حقيقة بل هو شخص متمرد على امتيازات الأغنياء واستغلالهم . يعطي البطل جزءاً من طعامه القليل ويكشف له عن مهنته . وهي أنه يحارب عصابات من الأغنياء احتكرت مياه الشرب عن الأهالي فيسلب مواشيها وعرباتها المحملة بالماء ثم يقوم بتوزيعها على الأهالي . وحين سأله عن اسمه راوغ وتحدث عن الحصاد وأغاني الراعيات ورؤيا الأنبياء.
هذه «الشخصية» تمثل إضافات أخرى إلى نجنسكي، فإذا كان ذاك في موقف غائم ضد المعسكرين المتصارعين دون وعي عميق، فإن هذا يقف بشكل أكثر وضوحاً وتطوراً ولكن بطريقة تمردية وفردية . وتختلط في وعيه الاحلام الجميلة والمشاعر الدينية . وهو بهذا نموذج آخر لذات التركيبة الاجتماعية .
في (هذا فرحي . . اغتالوه وهو طائر) نجد صوراً عديدة وكلاماً إنشائياً ولكن لا نعثر على قصة، البطل يحلم وهو في المهد بأنه طائر يقطف نهود جنيات البحر؛ ولكن الواقع يؤكد لغة أخرى، فبين المقهى والمقهى قتيل جائع؛ ومقصلة تمضغ رأس طفلة . انه شخص مأزوم، نفسيته تضطرب بين الرفض والاستسلام . والكاتب لا يصور هذه الأزمة ويبينها في حدث متكامل بل هو كالبطل لا يستطيع أن ينضج أزمة بطله، ويعرضها من خلال معادل ما، بل يلقيها وهي في حالة الاجهاض هذه .
وتتحول هذه الأزمة في كلمات خاطفة إلى صرخات ومحاولات للقضاء على الصحراء المحتضنة للأعداء والسجون والكلاب ومؤسسات الإبادة . الآن يعود حاملا بندقيته مع رفاقه ليعلن الغزو .  في لحظة أخرى نراه يبحث عن لبن الأم . لم يجد سوى ملصقات واعلانات . الأم ، المرأة ، كانت مسجونة في قفص وأحياناً يعرضونها في السيرك وفي البرلمانات . قال الصديق : العنف باب الأبجدية . تبقى المسافة بينه بين الصحراء وتغدو الأم قتيلة .
إذا كان نجنسكي ضد الحروب بشكل مطلق . فهذا البطل في قصتنا هذه مع العنف بشكل مطلق، انه ينزل إلى المدينة مع رفاقه معلنين بدء الغزو ولكن لا يتم من ذلك شيء . ليس ثمة عمل صغير يعملة، في ضوء هذا الحصار الشكلي الذي قيد فيه .
إن هذا التناقض في الموقف بسبب اضطراب الرؤية وانعدام الانسجام في أساسها الاجتماعي . وهذا الاضطراب لا نلاحظه فقط في الرؤية الفكرية بل وفي التشكيل الفني أيضاً . حيث الاضطراب في البناء وبروز الخلفية السينمائية والشكلية .
الاضطراب في المضمون يقود إلى الاضطراب في الشكل . فالقاص بملاحقته البعيدة لواقع غير واقعه يشحب المضمون الفكري لعمله، فيصاب بالجفاف، فلا يبقى سوى ملاحقة الأشكال الجديدة، مع الرغبة الدائمة غير المجدية لتحطيم استقلالية الأنواع الأدبية، هذا كله يؤدي إلى أزمة العمل ككل .
الرجوع الى الينابيع؛ الى الوطن والناس، برؤية تبحث عن علاقاته وبشره، مع الاستفادة من التكنيك الجديد للتغلغل أكثر في الحياة والارتباط أكثر بصناع الحياة الحقيقيين لا الوهميين، هذه فحسب تضع الشروط الأساسية لحل التناقض بين الشكل والمضمون في أدب القاص .
✶ نلاحظ الأثر السيء للأسلوب في قصة (ارتجافات عناقيد الماء في الهواء)، القصة متماسكة، صورها تخلق أثراً هاماً موحداً؛ والكاتب يوظف حادثة أسماء وابنها عبدالله بن الزبير التاريخية ليعطيها دلالات جديدة معاصرة ومضيئة .
يقترب من خلق «أسماء» كشخصية حية ولكنه يتوقف في منتصف الطريق، فالأسلوب ببلاغته الشعرية يجعله على سطح الشخصية والموقف، تجذبه الصور الجميلة فتتولد من البحر الجنيات والزنابق بينما لا تلد الشخصية شيئاً . الصور لم تساهم في التغلغل في الذات، وهنا يقيد الشكل المضمون ويكبحه .
الكاتب يبتعد في أحيان عديدة عن التجريدات فيصور أسماء كامرأة عادية تنشر الغسيل وتشتري الخبز وعبدالله كعامل يضرب مع المضربين . وللأسف فهذا الصعود الحقيقي إلى الشخصية يضيع في غمرة عبادة الجملة ذات الرنين الموسيقي، وبسبب التوجه المباشر أيضاً. أخذنا مونولوج عبدالله تحت سقف الحانة كمثال،  فماذا سنجد ؟
(نخب الانتفاضة المطعونة . في الظهر، نخب النتائج، نخب الشواطئ ، التي استهلكت بكارتها فعربدت ثم نامت مفتوحة الساقين، أضحت البنادق خنادق وفنادق نعاقر فيها خيبتنا ونضحك ملء أفواهنا رمل …).
إن هذا ليس بمونولوج فهو تعبيرات عامة واضحة ليس فيها من صور البطل الشخصية وذكرياته وتداعياته شيئاً، فيها الصدى الجميل وفيها الطرح المباشر رغم أنه لا علاقة له بالحدث . فالقضية قضية اضراب فاشل وليست انتفاضة مطعونة في الظهر .  فأين هذه الانتفاضة في القصة؟ ومن طعنها ؟
بدلا من مسك الخيوط الفنية و تنمية الشخصية بأعطاء لمحات نفسية تحولها الى لحم ودم ينجرف الكاتب مع شلال الخطابة فيأسره التدفق اللغوي فيضعف التغلغل في الشخصية والواقع بالتالي .
يأخذنا للتفاعل المتبادل بين الشكل والمضمون، نرى شحوب هدف العمل الأدبي، نتيجة التجريد و«التغريب»، ولهذا تتركز اهتمامات الكاتب في تطوير الشكل، وهذا التطوير نتاج الثقافة الغربية وفنونها.  وبالأخص الفرنسية، ولكن القاص في محاولاته للوصول الى مضمون أعمق، وفي لحظات اقترابه من واقعنا، يكبح الشكل الذي اعتاد عليه هذا التطور .
وهنا ضرورة وجود حلقة «كسر» لهذا الشكل . ولكن ذلك يتطلب تعميقاً للنظرة وتغييراً لاهتمامات عديدة . يتطلب عناية بالتكنيك القصصي، وكسر الجو الغربي . هذا يعني تغلغلا في الواقع المحلي، والدخول الى تاريخ المنطقة وتراثها وحكاياتها الخ . . 
ان مشاكل القصة عند أمين هي ذاتها مشاكل القصة العراقية في الستينات. يقول برهان الخطيب في مقالته (الاتجاه الواقعي في القصة العراقية القصيرة) «كثير من قصاصي الستينات كان يكتب بهذه الطريقة الحرة، وهذا الأسلوب كما نرى نموذج لخضوع الكاتب لمؤثرات خارجة عن عمله، فإن مسايرة الإيقاع اللفظي هنا لا تقود إلا إلى الابتعاد عن خط الموضوعة.» _ راجع الأقلام ؛ العدد 12، 1980 .
ليس هذا فحسب بل غلبة الفكرة المنتشرة في الأدب الفرنسي المعاصر وهي فكرة اتحاد النثر بالشعر، والاتجاه نحو صهر كافة الأنواع الأدبية في كل واحد، نجد صداها لدى أمين .
أن الأنواع الأدبية من الممكن أن تستفيد من بعضها البعض أما الصهر فغير ممكن ومدمر لكل الأنواع الأدبية .
الحصيلة :
بعد جولتنا في هذه المجموعة ما هي خلاصة الموضوع ؟
أولا ــ‏ نرى أن العديد من القصص ما هي إلا محاولات لم تتشكل في هيكل ما . وهذا التبعثر في الصور نجده لسببين . الأول: الكاتب لم يقم بانضاج فكرته الأولية بحيث ترسم من خلال تقنية القصة فحدثت لها عملية إجهاض . الثاني: وقوف هذه المحاولات بين الغنائية والتشكيل الموضوعي القصصي، بسبب أفكار الكاتب المتأثرة بتيارات معينة في الأدب الفرنسي .
ثائياً ــ‏ في حالة تشكيل القصة فنياً نجد تحول شخصياتها إلى خطوط مجردة تعيش في بيئة غير بيئتنا وتتنفس هواء غير هوائنا . الكاتب لا تملكه رغبة ملحة في تجسيد تجربة شعبه وأرضه .
ثالثاً ــ ‏ بهذا يقف الكاتب على العكس من المدارس الواقعية بمختلف تشكيلاتها، فهو لا يقوم باكتشاف واقعه وقوانين تطور هذا الواقع، بل ينفصل عنه، فلا نجد «الإنسان» في قصصه لأنه ينطلق من التعالي على الواقع الذي يشكله .
رابعاً ــ‏ تعويضاً عن افتقار المضمون إلى حرارة الواقع والحياة تتركز ابداعات القاص في استخدام وسائل تكنيكية عديدة، ومعظم هذه الاستخدامات تأتي غير مصهورة في البنية القصصية .
خامساً ‏ــ أن ثمة تبعية في الموقف من الثقافة الغربية وعالم الكاتب الفنى يحتاج إلى موقف نقدي تجاه هذه الثقافة كشرط أساسي لتطوره . وما دامت هذه التبعية ملازمة له فسيكون بعيداً عن الواقعية، سواء كانت نقدية أم اشتراكية، قديمة أم حديثة، لأن الواقعية تعني اكتشاف القوانين الموضوعية لتطور بلده وشعبه، وليس في نقل النتاج الثقافي الغربي وشكليته المتغيرة دوماً تعبيراً عن أزمة مغايرة لواقعنا وتطورنا وثقافتنا .
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 01, 2019 14:00

November 26, 2019

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : في الأزمة الفكرية التقدمية

أفــــــــــــــــــــــــــق
لم يتابع نشطاء جبهة التحرير الوطني البحرانية وكذلك مناضلو الجبهة الشعبية عمليات التخلخل العميقة في المعسكر الاشتراكي بصورة علمية، فهم انتقلوا من تأييد عمليات الإصلاحات التي قام بها جورباتشوف في الاتحاد السوفيتي التي لم تكن أبعادها مفهومة حتى لجورباتشوف نفسه، إلى رفضها المطلق حين تبينت أبعادها التفكيكية لجسم الاتحاد السوفيتي، باعتبار جورباتشوف عميلاً غربياً، وقد طفحت مثل هذه(الأفكار) على ألسنة القيادات وبعض القواعد، وهي كلها مذهولة كبقية أفراد البشر في الكرة الأرضية، من هذا الانهيار. لم يحدث أي تحليل موسع، أو قراءات فكرية عميقة لعمليات التغييرات الكبرى هذه، ليس فقط لطابع كوادر الجبهتين اللتين اتصف عملهما بالتركيز على الشعارات السياسية الرائجة، بل لأن نشاطهما في تلك السنوات الانفجارية الروسية، قد وصل إلى الإنهاك السياسي الكبير، بعد تضحيات جسام في السجون والنشاط السري والمنافي منذ الخمسينيات، وما عاد في قدرة القيادات سوى المساهمة في أي نشاط يطفح على السطح. وكان انهيار الاتحاد السوفيتي يترافق مع نمو الحركات المذهبية السياسية في البحرين والعالم الإسلامي عموماً، وكان المظهران المتناقضان في الواقع يعبران عن جوهر واحد، هو نهوض الأمم الشرقية في عالم الصراع الكبير مع مركز السيطرة على الكرة الأرضية المتمثل في الغرب الرأسمالي. فالأمة الروسية في الواقع كانت تقوم عبر جورباتشوف بهدم (رأسمالية الدولة الشمولية) أو الرأسمالية الحكومية المركزية، والتي اتخذت في عيون الشيوعيين العرب مظهر النموذج الوحيد للاشتراكية، وهذا النموذج يصل في وعيهم أو لا وعيهم بدرجة خاصة، إلى المثال الديني المقدس، فرفضه أو التشكيك فيه يصل إلى درجة الخيانة، أو الكفر، لأن عالم منظوماتهم الفكرية، يقوم على مجموعة مقدسات، هي فكر لينين الطاهر المقدس، والاتحاد السوفيتي المزار، أو الصين في رواية أخرى، ورمز الجنة الأرضية، والأب الحاني والشقيق الأكبر. لكن طبقات الأمة الروسية كانت قد وصلت إلى مرحلة استنزاف بسب النظام البيروقراطي الحكومي، الذي قام بتحولات هائلة ولكنه وصل إلى الأزمة العميقة. وظهرت برجوازيات حكومية استنزفت الموارد وأوصلت نفسها الى سدة الحكم مبعدةً العمال من مركز الاهتمام الاجتماعي. كان هذا يعني على المستوى العالمي(أزمة الماركسية-اللينينية)، فهذا الفكر تصور قدرته على نقل روسيا والبشرية كلها إلى الاشتراكية الخالية من الطبقات وذات القدرة الهائلة على الثورة العلمية والتقنية، لكن في عمق التجربة الروسية الفكرية كان هناك حدسٌ بأن هذا الفكر هو واجهة للقومية الروسية في عملية ثورتها القومية النهضوية، وإن ما كان انجازاً ودوراً عالمياً تحررياً، بدأ يتحول إلى عبء، فروسيا التي ساعدت شعوب آسيا على الانتقال من العبودية والإقطاع إلى النهضة الحديثة، وفرت لها رافعة جاهزة لعملية نقل القرى وعالم العبيد والأمية والحرف إلى عالم الصناعات الكبرى والكهربة والتعليم الشامل الخ.. إضافةً إلى المساعدات الهائلة لدول المعسكر (الاشتراكي) ولحركات التحرر الوطني.. إن عمليات تفكيك الاتحاد السوفيتي وسحب روسيا من المنظومة الثورية العالمية، وعدم الصرف على خمول المعسكر الاشتراكي، قراراتٌ جذرية اتخذتها قوى الرأسمالية البيروقراطية والأجهزة العسكرية والاستخباراتية الروسية، فيما وراء ظهر جورباتشوف ومجموعته، التي تصورت أن ثمة إمكانية لعملية انتقال من المجتمع الاشتراكي الاستبدادي إلى المجتمع الاشتراكي الديمقراطي. وهذا التوصيف الحالم من قبل جورباتشوف، ينقصه عدم فهم طبيعة النظام الرأسمالي الحكومي الذي كان يتربع على قمته، بمعنى أن فهمه للماركسية لم يكن ماركسياً، وبمعنى آخر أيضاً بأن (الماركسية-اللينينية) كانت وعياً قومياً رأسمالياً روسياً تشكل بأدوات السيطرة الحكومية الشمولية. وكان إدخال الانتخابات وأدوات العمل الديمقراطي على هذا الكيان يعني وصول هذه البرجوازيات البيروقراطية في كل بلد من بلدان الاتحاد السوفيتي إلى السلطة، وبالتالي هدم الاتحاد السوفيتي الذي أقيم على تحالف مفترض وهمي بين العمال والفلاحين، أي أن هذه الطبقات المنتجة أُبعدت عن السلطة خلال عقود الدكتاتورية الفردية السابقة، وهي التي قامت عبر تضحيات عملها وثماره بتصعيد تلك السلطات البيروقراطية وخلق منجزات التحديث الهائلة، وبالتالي فإن هذه الجماهير راحت فكرتها الاشتراكية التضحوية تتحطم سياسياً فتعود لما قبل الماركسية اللينينية، أي للدين والوعي القومي وهما الشكلان من الوعي المنتشران والسائدان المتواريان.

لم تفهم أممُ آسيا خاصة في روسيا والصين وفيتنام أن تحولاتها تجري نحو الرأسمالية الحديثة، وقد وجدت في(الماركسية – اللينينية) ضالتها للحفاظ على هويتها القومية المتوارية وعلى جهاز الحكم المركزي القائد والمسيطر عبر التاريخ. ولكن تطور القوى المنتجة بعد إنشاء الصناعات الثقيلة واجه صعوبات هائلة من ذلك الجهاز الحكومي الذي كان قائداً وحيداً في التنمية، فاستدعت الضرورات تفكيكه ونشر الصناعات الخاصة ولتطوير قوى الإنتاج المتخلفة عن مستوى الغرب واليابان في حمى تطور الأسواق والاستيلاء عليها. إن الأحزاب الشيوعية والمنظمات التقدمية العربية لم تفهم طبيعة التحولات هذه، وكان لايزال الشكل النضالي المساواتي التقشفي البروليتاري مهيمناً على الوعي العام، في حين تم نخره من قبل التطلعات البرجوازية الداخلية، التي راحت تتغلغلُ في القيادات والأعضاء. وكما حدث في القيادة السوفيتية ذلك التناقض بين القمة والقاعدة، بين الوعي القومي والديني الإداري المسيطر وبين مـُثل الاشتراكية القديمة المسحوقة، بين الأنانية القيادية وانتفاخ الزعامات المغرورة بدورها، وبين الانضباط والطاعة الثورية لدى القواعد المتردية أحوالها، كما حدث ذلك في الاتحاد السوفيتي وخرّب التجربة النضالية الوطنية الشعبية، فقد حدث ذلك في الأحزاب الشيوعية والتجمعات التقدمية العربية المختلفة. فالكلام عن المبادئ والقيم النضالية والتضحية تم خرقه ببيروقراطية الإدارات وأنانيتها السياسية والاجتماعية، فالتضحية تكون من نصيب القواعد والمكاسب تكون لجانب القيادات. السجون والتعذيب والبطالة والفقر تكون من نصيب الأعضاء البسطاء، وعضوية القيادة الخالدة والكراسي البرلمانية والبيوت والسفرات والثروة تكون من نصيب القيادات. ولكن إذا كان هذا التناقض الاجتماعي قد حز في التكوين السياسي وأبعد قوى العمال والفلاحين عن هذه الأجسام، فإن هشاشة التكوين الفكري الذي تجسد في القبول السطحي بـ (الماركسية – اللينينية) كان هو العامل الأكبر في الأزمة الفكرية. فكان العقل (التقدمي) يستوردُ الموادَ الفكرية وينقلها في جسمه السياسي، ويغدو موقفه الوطني هو تعليق سياسي مُبسّط عما يدور في بلده. إن عدم قدرته على التحليل هو وليد هذه العقلية الاستيرادية، وتتحول هذه المواد إلى مواد مقدسة، يسود فيها الحفظ والترتيل الديني، وتشعُ حولها الطهارة، ثم تنقلب مع اكتشاف الفساد في مراكز القيادة، أو اكتشاف الضعف والتخلف عن التطور فيها، إلى صدمة روحية. إن الإيمان العاطفي المطلق ينقلب إلى كفر كعادة الوعي الديني، وانتقاله بين المتضادات التي يعجز عن القيام بالتركيب فيها، فيجري التنصل من الأفكار أو الارتداد إلى الشائع والشائع دائماً هو الوعي الديني والوعي القومي. وهما الشكلان الأساسيان من الوعي في نمو الأمم في مراحل الإقطاع والرأسمالية. وبهذا فإن الوعي التقدمي الذي كان يجزم بوجود الاشتراكية يتخلى كلياً عنها. فيهتف بأن لا وجود سوى للرأسمالية والمصالح الخاصة! أو أن بعض قطاعاته ترى الرأسمالية كخيار أفضل من التجمعات الدينية المحافظة التي تمثل خطراً على النهضة، أو أن الزعيم المغمور يتمرد على الزعيم الرسمي الخ.. في حين تتوجه القواعد الشعبية التي لاتزال تهجسُ بمـُثل المساواة إلى البقاء في الأكليشيهات القديمة، فتظهر أمثولة المهدي هنا بأن لينين عائد، وإنه حي، ويعود بعضها للعبادات الدينية كليةً متصوراً بطرق تفكيره الشكلية أن هذا هو الإسلام. ويحافظ بعضها كلية على الماركسية اللينينية بشكلها النصوصي القديم ويزاوجها أحياناً مع ابتهلات دينية ما لتأكيد طابعه المحلي. والبعض النادر يواصل الحفر والاكتشاف بأن الدول(الاشتراكية) نمط خاص من رأسماليات الدول في العالم المتخلف، وإن الماركسية منهج في البحث ونظرة كونية ويجب إبعادها عن التطابق مع تجربة البلدان الشرقية التنموية السياسية الخاصة المرحلية. وفي حين أن منتجي هذا الوعي الأخير قليلين بين التقدميين يكثر منتجو أشكال الوعي الأخرى، ولذلك أسباب عميقة داخل أبنية الجماعات التقدمية المختلفة.

إن الخيط النضالي الديمقراطي الشعبي لا ينقطع في الأجسام التقدمية العربية مهما كان هذا الخيط واهياً في المراحل الانعطافية الصعبة، فهو وليد تضحيات جسام، والدوائر الشعبية المختلفة تراها تحافظ على هذا الخيط حتى وهي تختلف عنه، داخل ممارساتها الدينية، بسبب حدسها الطبقي، فضياع تنظيم تقدمي هو فائدة كبيرة لقوى الاستغلال التي «تدهس« أجورَها وأحلامها الاجتماعية. لكن قوى الاستغلال الشمولية تعمل بقوة على شطب هذا الخيط من التاريخ، أو على الأقل الاحتفاظ به كتحفة فنية. فالمساهمة في فصل القيادة عن القواعد، وحفر الانقسام المذهبي، وتفتيت الأجسام السياسية الخ.. هي من أدوات الرأسمالية الحكومية العربية في تكريس دورها المطلق في الاقتصاد ونهب فوائضه. أما القوى الدينية المختلفة ففي أقصى تجربة لها هي تعمل على رأسمالية حكومية مركزية مسيطرة على الجمهور، لتقوم بالدور نفسه ولكن مع أحجبة إسلامية ولحى طويلة. لكن التقدميين وحدهم قادرون الآن على فهم تجربة رأسمالية الدولة وتعزيزها ونقدها وتطويرها، كشكل من الثورة الاقتصادية المركزية المساندة بقطاع خاص مستقل وبعالم من التعددية السياسية، وهو أمر يحدد طبيعة التحالف بين التقدميين والليبراليين والدينيين المنتقلين للديمقراطية. لكن هذه البلورة السياسية للنظام المراد تشكيله تصطدم بتلك الفسيفسائية التقدمية، التي دمرت أخطاءها الفكرية، بسبب عدم فهمها تجربة سياسية، هي تجربة الدول «الاشتراكية«. فهي تخلت عن المادية الجدلية والمادية التاريخية في سبيل دكتاتورية البروليتاريا، وكأن الفكر المادي الجدلي لا يقوم إلا على الدكتاتورية الاجتماعية! في حين أن الفكر ذاته وُجد في الغرب وتطور في الغرب من دون الحاجة إلى تلك الدكتاتورية. إن الشرقيين الشموليين يعكسون ميراثهم الديني والاجتماعي على النظريات العلمية، لكن الآن تتطلب دقة المواقف وتركيبها استخدام المناهج وتحليل الحياة بها، فيتطلب الموقف إنتاجاً وليس نقلاً. إن الماركسية الاستيرادية السابقة تعجز عن القيام بتحليلات مُعمّقة للبناء الاجتماعي في كل بلد عربي، ولهذا فإن المواقف التقدمية تقوم بالعودة إلى تراث المنطقة والتغلغل فيه، فتصبح هذه المواقف التقدمية عربية وإسلامية ومسيحية وعائدة كذلك للتراث الحضاري القديم، لا بمعنى تشرب طرق تفكيرها الغيبية ومنظومات عباداتها، بل رؤية دورها الاجتماعي النضالي كخلفية مهمة للفكر التقدمي العربي المعاصر وكجذور متميزة للمنطقة، وهي عمليات تحتاج إلى تزاوج بين البحوث العلمية والعمليات النضالية اليومية. ولهذا فإن التقدميين قادرون على الغوص في تراث كل طائفة دينية، ورؤية العناصر الكفاحية فيه، ودراسة مـُـثـُل هذا التراث، وإبعاد المنتمين إليه عن التحجر في أشكاله المتيبسة وعن التعصب، وتوعيتهم بالأبعاد المغيبة العظيمة في هذا التراث، وتطويرهم وتوحيدهم لمهمات الأمة والشعب والإنسانية. إن هذه المستويات المركبة من التفكير والسلوك، تتطلب أعضاءً على مستوى كبير من العمق الفكري والمسئولية السياسية والنشاط، ولكن حين تتحول التنظيمات التقدمية إلى كم تحصيلي من الأعضاء السابقين من المراحل السابقة( يعكس الانهيار أكثر من المقاومة)، تفقد قدرتها على التحول إلى أداة قادرة على فعل شيء مميز في هذه المرحلة المعقدة. والأزمة التنظيمية هي تعبيرٌ مركب كذلك عن مجمل الأزمات وخاصة الأزمة الفكرية، فالأزمة الفكرية هي نتاج كل التحليلات السابقة، وهي تؤدي إلى الشلل السياسي الذي يهدم كل فكر.
في عودة التقدميين البحرينيين من الخارج تولد انحرافان؛ انحراف نحو اليمين يضع أغلب الأوراق في يد الإقطاع السياسي، وانحراف يساري يضع أغلب الأوراق في يد الإقطاع الديني. وحين ينفي الخارجُ التقدمي المسيطر الداخلَ التقدمي نلمحُ ثنائيةَ القاعدة البيروقراطية التي شحبت قدراتها على التحليل والممارسة، ولكنها تفرض منظومتها على القواعد المضحية للحصول على مكاسب شخصية. لكن هذا يتبدى بشكلين إيديولوجيين خادعين، أي عبر انحرافين متضادين في الشكل متحدين في الجوهر، فالأول يركز على مماشاة (الإصلاح) وعدم نقده وتحليله، وبالتالي مسايرة خطواته من دون وجهة نظر نقدية، والثاني يرفضه ويعتبره خدعةً ويواصل مماشاة القوى المذهبية التقليدية القائدة للنزاع المذهبي. أي أن الاثنين يتوخيان الدعم عبر قوى الإقطاع أو التقليديين. إن الموالاة والمعارضة إذن ليستا لتكوين تيار تقدمي مستقل بل لوصول أقطاب التقدميين المعارضين القادمين من الخارج إلى مناصب وامتيازات ثم إلى كراسي البرلمان أن استمر تدعيمهما بالانتخاب أو التعيين. ولم تفعل قواعد التقدميين أي شيء جدي وكبير لوقف هذه المأساة، فنظراً للتكتيكات المتبعة في غمر الجمعيات بكل لون، وتذويب العناصر المضحية في شوربة سياسية، أمكن للبيروقراطية المسيطرة أن تشتت العناصر المناضلة وأن تضيع جهودها، وتمزق القواعد التقدمية التي جرى العسفُ عليها واضطهادها وتشتيتها خلال عقود. وبهذا فإن إمكانية إنتاج فكر تقدمي مستقل عبر هذا الاضطهاد المزدوج تغدو مسألة غير ممكنة. إن تراث نصف قرن ضاع في بضع شهور. فعاد التيار المهلهل من التقدميين بمختلف تجلياتهم إلى إرث الإقطاع. إن مسألة الأوضاع السياسية تبقى مسألة رؤوس فردية من الذكور المتناطحين، فهذه الرؤوس هي التي تسود .. لقد ضاع تراث التقدميين البحرينيين على مستوى تجميع المادة السابقة وعلى مستوى درسها وقراءتها بموضوعية هذا الزمان وليس بخطابية وعاطفية ذلك الزمان. وعوضاً عن إنتاج وعي وطني ديمقراطي جماهيري تخشب اليسار في أطروحاته القديمة، وحين جاء خلال هذه السنين سيطر عليه الانحرافان السابقان ومنعاه من إنتاج مثل هذا الوعي الوطني الديمقراطي التوحيدي. في الانتخابات القادمة ونتائجها ستغوص البلدُ أكثر في الأزمة التي ستغدو شاملة، وستقوم القوى المذهبية السياسية بتفكيك البلد في مختلف طوابق بنائه الاجتماعي. إن التغييرات السياسية تتطلبِرافات والبدء بشكل نقدي جديد.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 26, 2019 03:34

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : فصيلٌ جديدٌ لا يعترفُ بالحداثة وقوانينها

أفــــــــــــــق

 


فيما تمثل الانظمةُ العربيةُ التقليدية هيمنةَ البيروقراطيات، فإن القوى الدينية تمثل هيمنةَ النصوصِ والعلاقاتِ الاجتماعية، أي الهيمنة على الجماهير الشعبية البسيطة التي أغلبها أمي، وتأبيد العلاقات الاجتماعية المحافظة التي تعيشها.

يبدو هذا فيما تقولهُ القوى الدينيةُ السياسية عبر مصطلح المدنية، رافضةً من خلاله مصطلحَ العَلمانية الواضح القاطع.

مصطلحُ المدنيةِ يتيحُ لها استغلالَ العقائد الدينية في تشكيل الأحزاب وفي الدعاية السياسية وفي الوصول إلى السلطات.

هي تدرك مناورتها ورغبتها في الهيمنة على الحكم، ولهذا تقول (مدنية) سامحةً لنفسِها باستغلال الأديان المعترف بها لدى الجميع بشكل استثماري خاص بها، ومن أجل الحفاظ على العلاقات المحافظة في حياة الناس واستغلالها وإبقائها. هنا ستكون الشموليات مرتكزة على المحافظة الاجتماعية أساساً وستُضافُ إليها الهيمنة على الأجهزة الحكومية فتكون أكبر شموليةً من السابقين.

الأديانُ ميراثٌ عبادي حتمي للسكان، وليس اختيارات سياسية وفكرية، فالمسلم من عائلة مسلمة يظهر مسلماً بالضرورة، والمسيحي يظهر مسيحياً بالضرورة.

إن المؤمن وغير المؤمن يشتركان هنا في مشتركات الدين من أشكال العادات الاجتماعية الجوهرية كأشكالِ الزواج أو الختان بالنسبة إلى المسلمين، أو الجنازة والدفن وأشكال البيع والشراء وغيرها.

تختلف الأشكال العبادية والمشاركة أو عدم المشاركة في العبادات، لكن هذه المشاركة لا تتيح شيئاً سياسياً مختلفاً. فهي لا تدخل في السياسة ونضالاتها وأهدافها من داخل مبناها الأصيل.

فالمحافظ والتقدمي يشتركان في صلاة واحدة، والحاكم الجائر والمواطن المُعذَّب يشتركان في صلاة واحدة.

إن الأشكال العبادية الجوهرية ليس فيها علاقة صميمة بالسياسة، وهذا ما حيّر المسلمين في العصر الأول بعد الخلافة الراشدة، حيث تحيروا كيف يصنفون مرتكبَ الكبيرة، وما حكم الحاكم الظالم هل هو كافر؟

عدم فصلهم بين هذه الأسئلة والأجوبة وبين السياسة، جعلهم يعمقون خلافاتهم الدينية داخل السياسة، بدلاً من أن يكتشفوا أن خلافاتهم اجتماعية وليست دينية، فالحاكم الظالم هو مؤمن لكنه سيئ الإدارة.

لكن عمليات الإدخال القسرية لوعيهم الديني داخل أشكال الصراعات الاجتماعية جعلتهم ينقسمون إلى مذاهب كثيرة جداً. وهذا ما أتاح للحاكم الظالم المُنتَقَد أن يبقى طويلاً.

وقد بدأ الإحساسُ مؤخراً بهذه الضرورة، وظهر ذلك على شكل القول بالدولة (المدنية).

هنا نجد أن الجماعات الدينية في مأزقٍ تاريخي، هو بسبب التطور الاقتصادي الاجتماعي المحدود في العالم الإسلامي والمنعكس على وعي الشعوب.

فهي تريد أن تستثمر فرصتها في الحكم لكنها في ذات الوقت جماعات دينية مفككة للدول، ففي سوريا هناك العديد من المذاهب الإسلامية الكبيرة وعدة أديان مختلفة وعدة قوميات، وهي تعبر تمثل جماعة دينية، مغايرة لجماعات دينية أخرى، فلابد أن تحمل هذا المضمون لطبيعة السلطة من الوزراء والمسئولين الذين سوف تختارهم من بين صفوفها بشكل كبير، وهم الذين سوف يجلسون في وزارات الدفاع والداخلية والخارجية والاقتصاد والتعليم، ويديرون البلد من خلالها.

ولن يقوم الحزب الديني السياسي بطبيعة تركيبه إذا كان سنياً بإدخال المسيحيين في الأجهزة الحكومية بقوة، وإذا فعلَ فسوف يجعلُ وجودَهم رمزياً فحسب. وبالتالي فسوف تتكرس طبقية شمولية من داخل سيطرة طائفةِ تعيد إنتاج الاستبداد السابق وتقوي مراكزها في الأمن والدفاع والمخابرات وتتابع ما يقوم به المعارضون ضدها، وتعود القصة السابقة.

وهذا ما فعله الأمويون حين كرسوا سيطرة طائفة واحدة وجاء العباسيون وعمقوا سيطرتها، وتفكك المسلمون في كلِ اتجاه!

دولة مدنية طائفية هي ما يقوله هؤلاء السادة مدبجو البرامج الخيالية المؤدلجة طبقياً لحزب (الانبعاث) الإسلامي، ذي العقلية الناسخة في إعادة إنتاج الشموليات.

وليس لدى المذهبيين السياسيين من كل الطوائف بل الأديان الأخرى كذلك شيء مميزً حاسم يجعل من تطبيق هذا المذهب أو ذاك ثورة اجتماعية تنزل المن والعسل على المؤمنين الجائعين.

ليس في الكلام المذهبي السياسي والديني عامة شيء سحري يجعل المشكلات المثقل بها السكان من بطالةٍ وفقرٍ وجوع أن تتبخر وكأنها لم تكن.

ما يحتاج إليه السكان قوى ذات عقليات سياسية عميقة في فهم المشكلات الشعبية والإخلاص في حلها.

وهذا الإصرار على الحدة المذهبية ليس سوى استثمار للتعصب في الجمهور العادي، من أجل السلطات.

إن الأحزاب الدينية وقد حصرت نفسها في الوعي الديني المحافظ فمثلت طوائف تصعب عليها ممارسة الديمقراطية والحكم، فهي سوف تشق الطبقات المدنية، فإذا كانت قيادتها تنتمي إلى رأسمالية علوية فإن المشروعات والوظائف ستتوجه إلى هؤلاء، مثلما فعلت الأنظمة السابقة. وهذا يؤدي إلى صراعها مع بقية الأقسام في الطبقة نفسها، بدلاً من تشكل تحالفً بينها يقود مشروعات وطنية نظيفة مطورة للبلد، إضافة لصراعات مع القوى السكانية الأخرى.

فكيف سيكون الحكم المدني الطائفي هذا؟

ولهذا نرى خلافات مصرية حادة على كتابة دستور لم تُكتب مادة واحدة بعد منه، فيما تجاوزت المرونة التونسية المادة الأولى من الدستور بالقبول بها كما كانت في العهد العَلماني البورقيبي السابق!

إذاً الأحزاب الدينية تقود جماعاتها وطوائفها والبلدان التي سوف تحكمها إلى مشكلات خطِرة، والأجدى العودة إلى قوانين الحداثة الأساسية: (الديمقراطية وهي التداول السلمي للسلطة، والعَلمانية وهي فصل الدين عن السياسة، والعقلانية وهي حرية الوعي والبحث والفكر). وبهذا تتكون التجارب الديمقراطية العربية الجدية الواعدة على أسسٍ موضوعية، أما العودة إلى الوراء والبدء من التاريخ الأموي فهو كارثة. فلا يوجد كتالوج خاص للتطور لإحدى الديانات مختلف عن البشرية غير هذا الطريق الذي قطعتهُ الأممُ الأخرى وعليهم أن يبدأوا بشكل صحيح وإلا كانت الكوارث وتمزيق ما بقي من هذه البلدان.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 26, 2019 03:25

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : روحُ الأمة!

 أفــــــــــــــــــــــــــق


حين يُقال بأن الإسلامَ يعبرُ عن روح الأمة والحداثة لا تعبر عنها نعودُ إلى لغة قديمة للعرب القدامى وللقرن التاسع عشر خاصة لدى الفلسفة الألمانية القومية العنصرية.
 ما هي روح الأمة هذه؟ هي تعبيرٌ مجردٌ لا يحدد سمات معينة.
هل فترةُ الخلفاء الراشدين تعبرُ عن روح الأمة وعصر الإمبراطورية العثمانية يعبرُ عن روح الأمة معاً؟
لماذا وجد العربُ والمسلمون في عهد الخلفاء الراشدين الوامض برنامجاً حضارياً قابلاً للاستعادة والتطوير حسب العصور بينما لم يجدوا ذلك في عهد الأتراك العثمانيين المحنط الطويل؟
إنها مسائل سياسية وإجتماعية محددة تتعلق بقيام دولة شعبية وتوزيع الخيرات.
إنها مسائلٌ تتعلقُ بديمقراطيةٍ غائرة لم تحصل على تجديدات وإستمرارية لها في الكثير من حقب التاريخ الإسلامية التي جاءتْ بعد ذلك!
نستطيع أن نقول بأن ضخامة الفتوحات في عهد دولة بني أمية لا تقارب هذه(الروح) لكن شخصيات سياسية وفكرية كبيرة مثل عمر بن عبدالعزيز أو جعفر بن محمد(الصادق) أو الخليفة يزيد الناقص، كانت أقرب تمثيلاً لتلك الروح.
ضخامة الفتوحات وما حدث فيها من إسالة دماء والكثير من جلب العبيد والجواري لا تبقى في التاريخ المضيء للمسلمين فيما يمثلها نضالٌ قامَ به معتزلةٌ مثقفون وعامة يبحثون عن بيت المال العام الضائع.
ولهذا فإن كلمات مجردة مثل روح، لا تعبر عن المضمون النضالي الطويل للعرب، لأنها تبقى غامضة، متعددة التفاسير لدرجة أنها تحوي السلبي والإيجابي معاً، العنيف المدمر والسلمي البناء، فيما أنها تقصد كل  ما هو مضيء ونضالي وديمقراطي ونهضوي وإنساني من تلك الأعمال المتراكمة الكثيرة الطويلة عبر التاريخ والتي تبدو كخيط دقيق وسط تكوينات هائلة!
وتتباين الرؤى حول روح الأمة كلما ازداد التطور الاجتماعي الفكري تعقيداً وتباينت طرق التطور بين القوى الاجتماعية والفكرية المختلفة.
الشعر الغزلي والشعر الصوفي والمجون والدروشة وتيارات الفلسفة ومدارس الفقه تعبر عن دورب مختلفة للجماعات، فمن يمثل تلك الروح الغامضة الموحدة؟
كانت كلمات مثل(روح) وغريزة، و(طبيعة) الأمة، قد إنتشرت في الفلسفات المثالية الغربية معبرة عن تعدد الطرق لنمو الأمم الغربية. الأممُ التي تطورت في الصناعة والحداثة وأستعمرتْ وأزدهرت تلاشت لديها مثل تلك الكلمات، وظهرت طبقات ذات مطالب وبرامج مختلفة.
الأمم التي لم تتطور كثيراً في التحولات الصناعية والديمقراطية كالألمان والإيطاليين إنتشرت فيها تلك الكلمات الروحية ذات الرؤى التجريدية، ثم تحولت لفلسفات قومية تعصبية حربية ومشت فوق مستنقعات الجثث والأرواح الواسعة.
مثقفون عرب معاصرون أخذوا تلك الكلمات ودمجوها في الدين والقومية والفلسفة والأدب، تعبيراً عن رفضهم لتنوع الأمة إجتماعياً، وأسسوا الأحزاب القومية والوطنية والدينية الكلية الشمولية.
في بعض الدول الإسلامية غدت هذه الكلمات أساساً لصعود مجمعات(الروحانيين) الرافضين للحداثة وتنوع الأمة الاجتماعي الديمقراطي.
كانت(الروحانية) في الفلسفات الصوفية تعبيراً عن الابتعاد عن الطمع والتهالك على المتع والأموال، وتنظيفاً للأجساد من تلوث الأنانية والسرقات، لكن الكلمة صار لها معنى آخر في عملية التسييس والأدلجة الاستغلالية المتصاعدة وهو الابتعاد عن الديمقراطية الغربية، ورفضاً لتنوع الأمة الطبقي، فالذين ليس لديهم قوت يومهم يجب أن لا يخلقوا قواهم السياسية ويفكروا في المادة عيشاً وفلسفة، بينما أصحاب السيطرة على الخيرات العامة والمادة، هم الذين يهيمنون على السياسة وعلى الأرواح، فلم يعد يعبر عن الشعوب سوى الروحانيين الذين لم يتخلوا عن الطمع الدنيوي والتهالك على الأموال!
المعنى القومي الحديث الشمولي سافر عبر ألمانيا وإيطاليا للبلدان الإسلامية فظهرت جماعاتٌ تقول أنها هي فقط معبرة عن روح الإسلام، وروح الأمة، وأن الحداثيين والديمقراطيين والليبراليين متغربون لأنهم يدخلون الصراعات في جسم الأمة النقي.
ولا يزال بعض السياسين والقوميين والدينيين يردد هذه الكلمات المطلقة، فقد أختزلَ الكلَ في ذاته.
لم يستطع العرب والمسلمون تشكيل تيارات تحديثية ديمقراطية في تراثهم وواقعهم تعبرُ عن مصالح الشعوب والأمة، ولهذا ظلت العناصرُ تلك كعناصر قليلةٍ رمزية لهم، ورُحِّلَ بعضها للنجومِ والكواكب والمُثُلِ والغيب والأبراج، فصارتْ العناصرُ الروحية تلك هي مصدر الضياء والعون والحظوظ حيث لا قوانين للمجتمعات، وبقيت للعصر الحديث، التي عادت فيه عناصرُ النضال الواقعية تحفرُ الأراضي الصلدةَ الصعبة للحياة وهي بعد لم تصبح سائدة لأسباب كثيرة، فيما قوى الماضي لا زالت قوية في الذاكرة والاقتصاد والسياسة رافضة التنوع والديمقراطية وتوزيع المال العام على الشعوب.
 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 26, 2019 03:18