عبـــــــدالله خلــــــــيفة : من تجربة اليسار العراقي
في كتابه (سفر ومحطات) يقدمُ لنا المناضلُ العراقي شوكت خزندار موادَ تجربةٍ ضخمة، وليس هذا بغريبٍ على العراقيين الذين إهتموا بتجربتهم السياسية إهتماماً كبيراً رغم الإهمال الطويل الذي جرى لها في عقود سابقة، بسببِ كونها تجربة غنية بالملاحم النضالية وبالأخطاء الجسيمة كذلك وتعكس مستوى من مستويات تطور اليسار العربي في أكثر أشكاله درامية وخصوبة.
كوّنَ الباحثُ المؤلفُ مادتَهُ من عصارةِ حياته، فكان يجمع خيوطها الطيفية من الذكريات والمراجعات، ثم وجد في خضم الصراعات إن مادة تاريخ حزبه؛ الحزب الشيوعي العراقي، هي نفسها تتعرضُ للتشويه والتأويلات المختلفة وللحرق والإزالة.
إستطاع أن يكّونَ هذه المادةَ التي تغدو هي بحدِ ذاتها شهادة نضال، بسببِ إصرارهِ على البقاءِ في التنظيم رغم كل العواصف، وجمع مواد التاريخ من خلال الوثائق، فوجوده في إدارة مهمات التنظيم من طباعة وأرشفة وتنظيم للاجتماعات وللجان التحقيق وغيرها جعلته في قلب الأحداث وفهم القادة والأعضاء ومسار تاريخ الحزب حسب إجتهاده.
وتم ذلك منذ بداية الخمسينيات حتى الثمانينيات من القرن العشرين، وهي فترةُ عقودٍ إشتغلَّ فيها بشكلٍ يومي داخل العراق وخارجه عبر السفر في البلدان العربية والاتحاد السوفيتي وأوربا، وقريباً من قيادة التنظيم وقواعده، فشهدَ صعوده وشهد هبوطه، شاركَ في السجون التي تسلطت عليه، وراقب حملات القمع التي قام بها الحزبُ ضد الآخرين كذلك، عملَ لإنتاجِ ورقهِ المضيءِ لتبصير الناس بأوضاعهم وحقوقهم، ووأوقف كتباً ومنشوارت هجمت عليها رقاباتُ الأنظمة ورقابة حزبه كذلك.
إنه راوٍ موضوعي بأسلوب ابن البلد الصنايعي، ويقدمُ روايتَهُ التي جمعها بذلك الصبر الأسطوري كمادةٍ قابلة لمختلفِ الطعون، بل يقومُ بعرضِها قبل النشر ليعلق عليها بعضُ رفاقه مؤيدين أو منتقدين عباراته، ويحملُها كلَ هجومه الضاري على قيادة الحزب خاصة الأمين العام السابق لهذا الحزب وهو الأستاذ عزيز محمد وأمينه العام الحالي كذلك الأستاذ حميد موسى وهما معروفان في الساحة السياسية العربية والعالمية.
إن موضوعيته الروائية تكمنُ في تقديمهِ المادةَ الخامَ التي جرتْ فيها الأحداث، وهو فيها شاهد عيان فإذا لم يكن شاهد عيان لا يقوم بعرضها إلا من خلال راوٍ آخر محدد الأسم.
يعرضُ في هذه المذكرات شخصياتٍ شهيرةً كعبدالكريم قاسم وصدام حسين وعبدالسلام عارف إضافة طبعاً لقيادات الحزب الشيوعي العراقي.
وهو ينطلقُ من هذه الإيديولوجية الماركسية – اللينينية التي ثبتَّ تناقضها التركيبي، دون أن يهتم بهذا التناقض التركيبي، والكتاب كُتب قبلَ وبعد إنهيار الاتحاد السوفيتي والرأسماليات الحكومية الشرقية الأخرى.
وهو كشغيلٍ ومالكٍ صغيرٍ عاشَ في ظروفِ العاملين بعيشهم الصعب المحدود وفي تفتح هذا العيش خاصة حين يرتبط بقوى الدولةِ ذات الموارد، وعبر المادة الفكرية الأسلوبية المتاحة لهذه الفئات، وبالتالي فإن ما يرويه هو المادة الخام النضالية التي من الممكن الاستفادة منها لدرس هذه التجربة وما يماثلها كذلك من تجارب.
إن المنطلقَ الفكري يحددُ طبيعةَ المادةَ المعروضة، بل هو يحددُ التجربةَ وتناقضاتها، غيرَ المرئية لمثل هذا الوعي، فهو يبقى على سطوحِ هذه المادة، ويعرضُ تأزماتها وسيرورتها كأخطاءِ قياداتٍ إنتهازية، حادت عن (الحقيقة) المتمثلة بذلك المنطلق الماركسي – اللينيني، وليس أن وعيَهُ لم يقرأ تناقضات الواقع والطبقات والفئات وصراعها.
(الحقيقة) بدأت من لينين وثورته (الإشتراكية) وأقتبسها قائدٌ آخر هو فهد وحاولَ إعادةَ تطبيقها في الواقع العراقي، والاشتراكية قادمة من كارل ماركس بأوربا، يقول الأستاذ شوكت خازندار في تحديده للتجربة الإشتراكية:
(صحيح كان في الاتحاد السوفياتي بطالة مقنعة ولكن في النهاية الكل يعمل ولم نجد إنساناً تحت خط الفقر. ولم نجد أيضاً في الاتحاد السوفياتي مواطن(؟) يبحث عن وجبة طعامه داخل القمامة كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية؟!)، ص222، دار الكنوز، بيروت.
قراءةُ المناضلِ العراقي تقفُ فوق سطوح الظواهر، وسنحاول هنا أن نقرأ تناقضات هذا الوعي عبر هذه العروض للأمثلة مخترقينها نحو السببيات البعيدة، فالعديد من الأفكار تقف عند الظاهر، المرئي المحدود، فكان ينبغي للنص أن يتساءل عن الأسباب العميقة لسقوط (الاشتراكية) ولماذا زالت قيادة العمال ولم يزل الإستغلال وإستمرت هيمنة الإدارات الحكومية البيروقراطية التي تعالت داخل التجربة السوفيتية وتحولت إلى القوارض الداخلية لفائض القيمة العام وحولته إلى منشآت رأسمالية خاصة. كانت السمات الإيجابية التحويلية (الإشتراكية) في بدايات التجربة وبعدئذ ذابت هذه القيادة وذابت الجماعية والسوفيتيات. ولا بد أن نقرأ لاحقاً هذا التداخل بين التجربتين العراقية والسوفيتية، بين ما هو وطني وماهو عالمي، وكيف قادت عمليتا الترابط والتداخل إلى نخر التجربتين معاً.
إذن لم يقتبسْ فهد الاشتراكيةَ لكنه إقتبسَ مشروع الرأسمالية الحكومية الروسية، (حسب شعاره لا نريد إشتراكية ديمقراطية بل نريد شيوعية)، ولنقلْ بشكلٍ آخر إن فئاتٍ وسطى وعاملة عراقية وعربية وعالمية إقتبست هذا الهيكلَ الرأسمالي العام في ذلك الظرف التاريخ الملتبس الدقيق، وأرادت تطبيقه في بلدان أخرى، وجرى ذلك في هذا الحراك التاريخي التعجيلي بنشر الرأسمالية بوسائل سياسية فإدارية حكومية.
يعبرُ مصطلحُ الماركسية – اللينينية عن هذا التركيب المتضاد، الذي أعتبرهُ كاتبُ كتابِ(سفر ومحطات) مفتاحَ فهمٍ وعرضٍ لتجربة الحزب الشيوعي العراقي، لكنه مفتاح كشف تناقضات التجربة ككلِ أيضاً.
فالماركسيةُ في قمتِها الغربيةِ، أي في نضجِها، أداةُ تحليلٍ موضوعية، ولكن اللينينيةَ إنتقائية، ذاتية، شكلتْ شموليةً سياسيةً قافزةً على التحليل الماركسي للمجتمعات الشرقية.
وقد قادت الأحداثُ التاريخيةُ الأليمة المريرة إلى كشفِ التناقض بين المصطلحين، ليس على المستوى الروسي فحسب، بل على المستوى العراقي، وعلى المستوى العالمي كذلك.
لقد أجرتْ الأحداثُ نفسُها عمليةَ التفكيك، لكن العديدَ من العقولِ المناضلة لم تقمْ بذلك، ولهذا نعودُ إلى المنهجيةِ الأولى وقد تمت تنقيتها من بعض الشوائبِ الاستبدادية الشرقية، مستفيدين كذلك من الجوانبِ الإيجابيةِ من التجربةِ الروسية السوفيتية وبقية منظومة الرأسماليات الحكومية ومن التجاربِ النضالية التي عاشت في مناخها وتأثرت بها إيجاباً وسلباً.
ولكن حين يضيع هذا الخيطُ الأساسي فإن موادَ التجربةِ المُفَّكرِ فيها تضيع، وتضطربُ، وأهم هذه المواد هي مادة من يقودُ الحزبَ، وهو هنا الحزب الشيوعي العراقي؟
إن من يقود هو هذه الفئة الوسطى، هذه الخلية الاجتماعية المُسماة برجوازية صغيرة، وهي التي تتلبسُ معاناةَ العمال والعامة وتريدُ أن تحلَ مشكلاتِها، لكن من خلال سيطرتِها ودكتاتوريِتها هي، لكنها تقولُ إنها دكتاتورية العمال.
ولهذا فإن الحراكَ هو حراكُ هذه الفئة، ويختلف مسارُ قيادةِ البرجوازيةِ الصغيرةِ النهضويةِ اليسارية في الاتحاد السوفيتي عن مسارهِ في العراق، لكنهما يتلاقيان، فقد سبقتْ التجربةُ الروسيةُ وكونتْ نظاماً يُحتذى ويَغمرُ بالمساعدات، وهو نظامٌ غيَّرَ البنيةَ الإقطاعيةَ المتخلفة وشكَّل حداثةً كبيرةً من خلال ذلك النظام الرأسمالي الحكومي، وأراد أن يقودَ النظامَ العالمي، غير معترفٍ بأنهُ جزءٌ من النظام الرأسمالي العالمي ومن الجزء النامي فيه.
هو شكلٌ صاعدٌ من الرأسماليةِ العالمية وتوجه لمقاربتِها بسرعة من ضمن قوانينه ومستواه، وهو شكلٌ أولي من إشتراكيةٍ غيرِ مكتملةٍ ظهرتْ قبل الولادة الطبيعية. أي هو طفولةٌ لإشتراكيةٍ مخنوقةٍ بسبب الدكتاتورية وتخلف قوى الإنتاج التي قامَ عليها.
فتكون ذلك في رأسماليةٍ حكومية تناقضتْ بها السبلُ حتى تمزقت من الداخل.
وأخذ الشيوعيون في العالم الثالث وبعض القوى السياسية الغربية هذا النموذج وجُعل مؤسساً طليعياً. وغدت سياساته الداخلية والخارجية جزءٌ لا ينفصل من النموذج، هذا جزءٌ من وعي طبيعي في ذلك الزمن، ولكن غير الطبيعي هو الإستمرار فيه.
ويعرضُ لنا شوكت خزندار مادةً وفيرةً عن هذه التناقضات في الماضي، وأغلبها تصوير لتبعية هذه الفئة المناضلة العراقية للقيادة الروسية، وهو تعبيرٌ عن مصالح هذه الفئة في الانحياز للقوى الحاكمة السائدة في أغلب المراحل.
ثمة جماعة في التنظيم قاربت الموضوعية في رؤيتها وهي جماعةُ(إتحاد الشغيلة)،(1954) التي رأتْ إن النضالَ والبقاءَ في النظام الملكي وتطويره ديمقراطياً بشكلٍ متصاعد ورفض المغامرات السياسية، هو السبيل الصحيح والعقلاني للحزب.
لكن المؤلفَ والجماعات الأخرى صبوا جام نقدهم عليها وحطموها.
ثمة عوامل عديدة لذلك أهمها تصاعد الدور الروسي داخل الحزب، ودور الجماعات القومية والمذهبية في كراهية نظام ذي علاقة قوية بالغرب وغياب قائد عقلاني في النظام الملكي نفسه، وبعدها تفجرَ العنفُ والانقلابات المتعددة حتى وصل العراق إلى فسيفساء سياسية.
صار الحزب يتبع البوصلة الروسية، فكان عبدالكريم قاسم الزعيم الموتور مقبولاً في خريطتها المعقدة عالمياً، والموجهة لزحزحة مصالح الغرب إلى حد معين فقط، وينتبه المؤلف لهذا المأزق الحزبي ويطرح ضرورة تجاوز نظام قاسم وإستبداله بنظام (إشتراكي).
لكن الحزب صار مع السائد والغالب، عالمياً، ووطنياً، فتتوجه الفئةُ الوسطى فيه للاستفادةِ من منحِ ومساعدةِ الحليف، كما تستفيدُ من نظامِ قاسم، الذي تلاعبَ بكلِ القوى السياسية وبقي الحزب الشيوعي يدافع عنه حتى اللحظة الأخيرة بحماقةٍ كبيرة.
وهذه كانت إحدى لحظاتِ الإستنزافِ الكبيرة التي سيكون لها دور في حرق أرضه الخضراء وتصحرها القادم.
راحتْ الفئةُ العليا من الحزبِ تتبعَ قانونَ وجودِها الموضوعي، قانونَ البرجوازيةِ الصغيرة التي تمشي مع الغالبِ السائد وبشرط أن يكون هو المفيد، حتى إذا ذهبَ تبحثُ عن آخر وتلتصقُ به وهكذا دواليك.
وقد تحولتْ القيادةُ السوفيتية إلى رأسماليةٍ حكومية كبرى بعد أن كانت برجوازية صغيرة في بدءِ النظام، وراحتْ تتفسخُ من الداخل بسبب ذلك، فتخلقُ برجوازيات صغيرة وأنظمةً إستغلاليةً في قوالب (الإشتراكية) ومن خلال هذه العلاقات تتشكلُ صلاتٌ ومصالحٌ وفوائدٌ ضمن عالم التبعية (الاشتراكية)، وتغدو الثورة الحقيقية مُجهَّز عليها مسبقاً، والمبادرات النضالية المستقلة متوقفة.
إن هيمنة البرجوازية الصغيرة داخل الحزب الشيوعي العراقي تنمو لتكون برجوازية كبيرة. هذا هو قانونُ الحركةِ الاجتماعية، وفي ظلِ بنيتي الحراك التاريخي المتداخل، بنية المصدر الروسي السوفيتي، والبنية العراقية، اللتين يتفاوت بين تطورهما الزمن، فالبرجوازيةُ الصغيرةُ الروسية بدأت سيطرتَها في بدءِ النظام السوفيتي وأزاحت قيادة العمال، التي ظهرتْ مع تفجر الثورة وبتضحياتهم الكبيرة، وبالتالي قامت تلك الفئة بصناعة إيديولوجية مركبة متناقضة، شمولية، خصيصاً لنظامٍ رأسمالي حكومي، أسمها الماركسية – اللينينية، تعبرُ عن قفزةِ التغيير في الشرق وبأدواتٍ شعبوية دكتاتورية، لكن التركيب هذا كما قلنا يتفككُ بسببِ تناقضاتِ البنية الاجتماعية السوفيتية وحراكها بين ماقبل الرأسمالية وما بعد تأسيسها وتطورها، وتنتقل أصداءُ وشظايا هذه التناقضات للأحزاب الشقيقة ولحركة التحرر الوطني، التي لا تعي بشكل واسع هذه التناقضات في المركز.
ومن هنا فإن السيد شوكت خزندار الذي يؤرخُ لتجربةِ الحزب الشيوعي العراقي يعالجُ من موقعهِ أصداءَ وآثارَ هذه التناقضات دون أن يتغلغلَ لفهم جذورها بين الكيان الحزبي الذي يعيشه والمركز الذي غدا هو الموجه وينقل رؤيته ومشكلاتها إلى الأطراف.
ففجأة بعد وقوف الحزب الشيوعي العراقي المطول مع نظام دكتاتوري فردي مريض هو نظام عبدالكريم قاسم يؤيدُ عمليةَ تصفية للحزب الشيوعي ويقبل أن يذوبَ في كيان أسمه الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة عبدالسلام عارف وأخيه عبدالرحمن، هذا التنظيم الفضفاض العاجز عن أي فعل نضالي.
روجت السياسةُ السوفيتيةُ في هذه السنوات لنمو الأنظمة الرأسمالية الحكومية الوطنية الأقل جذرية منها في عمليات التغيير، وهي سياسةٌ مفيدةٌ إيجابية في حينها لو ركزت على الديمقراطية في هذه الأنظمة وتطورها داخلها كذلك، لكن هذا أمرٌ يخالف طبيعة الرأسمالية الحكومية الروسية نفسها. إذ لم يكن بإمكانها أن تؤيدَ طبيعة ديمقراطية في أنظمةٍ وطنيةٍ تماثلها في السيطرة على المُلكية العامة، فكان لا بد أن تماثلها في شموليتها، ومن هنا طرحتْ القيادةُ السوفيتية وقتذاك تقييماً زائفاً لهذه الأنظمة بإعتبارها أنظمة لا رأسمالية، وهو كما يشير الباحث وغيره تعبير تلفيقي. ولم تقبل أن يتحول نظام مثل العراق إلى نظام (إشتراكي سوفيتي) على طريقتِها لما يمثله ذلك من صراعاتٍ حادةٍ هائلة في المنطقة تجرها لحرب عالمية، فهنا مراكز النفط، أما بلدان مثل اليمن الجنوبي والحبشة فلا تمثل مراكز هائلة للصراع العالمي.
هكذا أخذت التجاربُ والأحزابُ تتكيف حسب أهداف وعلاقات المركز، وتغدو البرجوازية الصغيرة في الحزب العراقي تابعة للبرجوازية الروسية الحكومية، وتنمو في سياقِ التبعية، وتتوقفُ مشارطُ التحليل العميق لديها للواقع المحلي، في كلِ ظرفٍ سياسي رئيسي، كفتراتِ عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف ثم في عهدي البكر وصدام، فغدا عهدُ البعثِ عهدَ الجبهةِ الوطنية، حيث تقزم الحزب الشيوعي وتقلص ثم قُمع بشدة ثم نجا بنفسه من هذه المصيدة الكبرى عبر إستشعار حس الخطر لدى قيادته.
تدهورتْ القيادةُ البرجوازيةُ الحكوميةُ الروسية وتعفنتْ من الداخل، وقامتْ بمغامراتٍ خطيرة على مستويات كثيرة أنهكتْ الاقتصاد ومعيشة الشعب ودهورت الإنتاج، وبطبيعة الحال لا يمكن لقيادة مثل هذه أن تتبصرَ المنزلقَ الخطيرَ الذي يقومُ بهِ صدامُ حسين، فتدعو للانقضاضِ عليه وإزالتهِ وهو في بدءِ تكوينهِ، بل شجعتْ صعودَهُ وغذته.
ثم على إنقاض القيادة الروسية (السوفيتية) ظهرت قيادةٌ أخرى تخلصت من الكثير من هذه الأعباء الاقتصادية والسياسية الخارجية والداخلية، وأوضحت نفسها كنظام رأسمالي عادي.
قامت الحروبُ التي خاضتها القياداتُ الروسية والعراقية في إفغانستان وإيران وفي شمال العراق ثم الكويت بتفجير التناقضات الداخلية في البلدين وتعرية طابعيهما الضارين، وغدت الحربُ كما قيل قاطرة التاريخ لكن للوراء هذه المرة.
لم يستطع المؤلفُ شوكت خازندار أن يربط بين النظامين، ويكشف طبيعة ما سُمي بالنظام الاشتراكي، العالمي والوطني، وغاص في حيثيات التجرب العراقية التفصيلية كأخطاء عزيز محمد وقيادته بحيث مضى في تفاصيل كثيرة أغلبها عام وبعضها شخصي، لكن للأمانة كان الكاتب موثقاً طارحاً الأدلة وحيثيات تفصيلية دقيقة لا تهم بصورة خاصة إلا العراقيين، وكان هذا تعبيراً عن النقص التحليلي الفكري للتجربة، فهو يقف عند سطوح التاريخ العراقي السياسي، بدون كشف الطبقات والفئات والأفكار التي تؤسس كل ذلكويتوجه مطولاً نحو الأشخاص.
وعموماً فإن درس مثل هذا التاريخ هو لتعميق تحليل التجربة السياسية العراقية والعربية عامة، وتقديم حيثيات كبيرة للأجيال من أجل أن تدرس تاريخها، وتنحت مادة مؤثقة عن قادة أحياء وأموات قدموا الكثير من حياتهم لأجل الناس، بغض النظر عن مدى توفيقهم في هذا، وقدموا ذلك في ظروف قاسية معقدة متشابكة، ولكن لا بد فيها من التأصيل والفرز وتطوير نظرية النضال العربي التقدمي.
كوّنَ الباحثُ المؤلفُ مادتَهُ من عصارةِ حياته، فكان يجمع خيوطها الطيفية من الذكريات والمراجعات، ثم وجد في خضم الصراعات إن مادة تاريخ حزبه؛ الحزب الشيوعي العراقي، هي نفسها تتعرضُ للتشويه والتأويلات المختلفة وللحرق والإزالة.
إستطاع أن يكّونَ هذه المادةَ التي تغدو هي بحدِ ذاتها شهادة نضال، بسببِ إصرارهِ على البقاءِ في التنظيم رغم كل العواصف، وجمع مواد التاريخ من خلال الوثائق، فوجوده في إدارة مهمات التنظيم من طباعة وأرشفة وتنظيم للاجتماعات وللجان التحقيق وغيرها جعلته في قلب الأحداث وفهم القادة والأعضاء ومسار تاريخ الحزب حسب إجتهاده.
وتم ذلك منذ بداية الخمسينيات حتى الثمانينيات من القرن العشرين، وهي فترةُ عقودٍ إشتغلَّ فيها بشكلٍ يومي داخل العراق وخارجه عبر السفر في البلدان العربية والاتحاد السوفيتي وأوربا، وقريباً من قيادة التنظيم وقواعده، فشهدَ صعوده وشهد هبوطه، شاركَ في السجون التي تسلطت عليه، وراقب حملات القمع التي قام بها الحزبُ ضد الآخرين كذلك، عملَ لإنتاجِ ورقهِ المضيءِ لتبصير الناس بأوضاعهم وحقوقهم، ووأوقف كتباً ومنشوارت هجمت عليها رقاباتُ الأنظمة ورقابة حزبه كذلك.
إنه راوٍ موضوعي بأسلوب ابن البلد الصنايعي، ويقدمُ روايتَهُ التي جمعها بذلك الصبر الأسطوري كمادةٍ قابلة لمختلفِ الطعون، بل يقومُ بعرضِها قبل النشر ليعلق عليها بعضُ رفاقه مؤيدين أو منتقدين عباراته، ويحملُها كلَ هجومه الضاري على قيادة الحزب خاصة الأمين العام السابق لهذا الحزب وهو الأستاذ عزيز محمد وأمينه العام الحالي كذلك الأستاذ حميد موسى وهما معروفان في الساحة السياسية العربية والعالمية.
إن موضوعيته الروائية تكمنُ في تقديمهِ المادةَ الخامَ التي جرتْ فيها الأحداث، وهو فيها شاهد عيان فإذا لم يكن شاهد عيان لا يقوم بعرضها إلا من خلال راوٍ آخر محدد الأسم.
يعرضُ في هذه المذكرات شخصياتٍ شهيرةً كعبدالكريم قاسم وصدام حسين وعبدالسلام عارف إضافة طبعاً لقيادات الحزب الشيوعي العراقي.
وهو ينطلقُ من هذه الإيديولوجية الماركسية – اللينينية التي ثبتَّ تناقضها التركيبي، دون أن يهتم بهذا التناقض التركيبي، والكتاب كُتب قبلَ وبعد إنهيار الاتحاد السوفيتي والرأسماليات الحكومية الشرقية الأخرى.
وهو كشغيلٍ ومالكٍ صغيرٍ عاشَ في ظروفِ العاملين بعيشهم الصعب المحدود وفي تفتح هذا العيش خاصة حين يرتبط بقوى الدولةِ ذات الموارد، وعبر المادة الفكرية الأسلوبية المتاحة لهذه الفئات، وبالتالي فإن ما يرويه هو المادة الخام النضالية التي من الممكن الاستفادة منها لدرس هذه التجربة وما يماثلها كذلك من تجارب.
إن المنطلقَ الفكري يحددُ طبيعةَ المادةَ المعروضة، بل هو يحددُ التجربةَ وتناقضاتها، غيرَ المرئية لمثل هذا الوعي، فهو يبقى على سطوحِ هذه المادة، ويعرضُ تأزماتها وسيرورتها كأخطاءِ قياداتٍ إنتهازية، حادت عن (الحقيقة) المتمثلة بذلك المنطلق الماركسي – اللينيني، وليس أن وعيَهُ لم يقرأ تناقضات الواقع والطبقات والفئات وصراعها.
(الحقيقة) بدأت من لينين وثورته (الإشتراكية) وأقتبسها قائدٌ آخر هو فهد وحاولَ إعادةَ تطبيقها في الواقع العراقي، والاشتراكية قادمة من كارل ماركس بأوربا، يقول الأستاذ شوكت خازندار في تحديده للتجربة الإشتراكية:
(صحيح كان في الاتحاد السوفياتي بطالة مقنعة ولكن في النهاية الكل يعمل ولم نجد إنساناً تحت خط الفقر. ولم نجد أيضاً في الاتحاد السوفياتي مواطن(؟) يبحث عن وجبة طعامه داخل القمامة كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية؟!)، ص222، دار الكنوز، بيروت.
قراءةُ المناضلِ العراقي تقفُ فوق سطوح الظواهر، وسنحاول هنا أن نقرأ تناقضات هذا الوعي عبر هذه العروض للأمثلة مخترقينها نحو السببيات البعيدة، فالعديد من الأفكار تقف عند الظاهر، المرئي المحدود، فكان ينبغي للنص أن يتساءل عن الأسباب العميقة لسقوط (الاشتراكية) ولماذا زالت قيادة العمال ولم يزل الإستغلال وإستمرت هيمنة الإدارات الحكومية البيروقراطية التي تعالت داخل التجربة السوفيتية وتحولت إلى القوارض الداخلية لفائض القيمة العام وحولته إلى منشآت رأسمالية خاصة. كانت السمات الإيجابية التحويلية (الإشتراكية) في بدايات التجربة وبعدئذ ذابت هذه القيادة وذابت الجماعية والسوفيتيات. ولا بد أن نقرأ لاحقاً هذا التداخل بين التجربتين العراقية والسوفيتية، بين ما هو وطني وماهو عالمي، وكيف قادت عمليتا الترابط والتداخل إلى نخر التجربتين معاً.
إذن لم يقتبسْ فهد الاشتراكيةَ لكنه إقتبسَ مشروع الرأسمالية الحكومية الروسية، (حسب شعاره لا نريد إشتراكية ديمقراطية بل نريد شيوعية)، ولنقلْ بشكلٍ آخر إن فئاتٍ وسطى وعاملة عراقية وعربية وعالمية إقتبست هذا الهيكلَ الرأسمالي العام في ذلك الظرف التاريخ الملتبس الدقيق، وأرادت تطبيقه في بلدان أخرى، وجرى ذلك في هذا الحراك التاريخي التعجيلي بنشر الرأسمالية بوسائل سياسية فإدارية حكومية.
يعبرُ مصطلحُ الماركسية – اللينينية عن هذا التركيب المتضاد، الذي أعتبرهُ كاتبُ كتابِ(سفر ومحطات) مفتاحَ فهمٍ وعرضٍ لتجربة الحزب الشيوعي العراقي، لكنه مفتاح كشف تناقضات التجربة ككلِ أيضاً.
فالماركسيةُ في قمتِها الغربيةِ، أي في نضجِها، أداةُ تحليلٍ موضوعية، ولكن اللينينيةَ إنتقائية، ذاتية، شكلتْ شموليةً سياسيةً قافزةً على التحليل الماركسي للمجتمعات الشرقية.
وقد قادت الأحداثُ التاريخيةُ الأليمة المريرة إلى كشفِ التناقض بين المصطلحين، ليس على المستوى الروسي فحسب، بل على المستوى العراقي، وعلى المستوى العالمي كذلك.
لقد أجرتْ الأحداثُ نفسُها عمليةَ التفكيك، لكن العديدَ من العقولِ المناضلة لم تقمْ بذلك، ولهذا نعودُ إلى المنهجيةِ الأولى وقد تمت تنقيتها من بعض الشوائبِ الاستبدادية الشرقية، مستفيدين كذلك من الجوانبِ الإيجابيةِ من التجربةِ الروسية السوفيتية وبقية منظومة الرأسماليات الحكومية ومن التجاربِ النضالية التي عاشت في مناخها وتأثرت بها إيجاباً وسلباً.
ولكن حين يضيع هذا الخيطُ الأساسي فإن موادَ التجربةِ المُفَّكرِ فيها تضيع، وتضطربُ، وأهم هذه المواد هي مادة من يقودُ الحزبَ، وهو هنا الحزب الشيوعي العراقي؟
إن من يقود هو هذه الفئة الوسطى، هذه الخلية الاجتماعية المُسماة برجوازية صغيرة، وهي التي تتلبسُ معاناةَ العمال والعامة وتريدُ أن تحلَ مشكلاتِها، لكن من خلال سيطرتِها ودكتاتوريِتها هي، لكنها تقولُ إنها دكتاتورية العمال.
ولهذا فإن الحراكَ هو حراكُ هذه الفئة، ويختلف مسارُ قيادةِ البرجوازيةِ الصغيرةِ النهضويةِ اليسارية في الاتحاد السوفيتي عن مسارهِ في العراق، لكنهما يتلاقيان، فقد سبقتْ التجربةُ الروسيةُ وكونتْ نظاماً يُحتذى ويَغمرُ بالمساعدات، وهو نظامٌ غيَّرَ البنيةَ الإقطاعيةَ المتخلفة وشكَّل حداثةً كبيرةً من خلال ذلك النظام الرأسمالي الحكومي، وأراد أن يقودَ النظامَ العالمي، غير معترفٍ بأنهُ جزءٌ من النظام الرأسمالي العالمي ومن الجزء النامي فيه.
هو شكلٌ صاعدٌ من الرأسماليةِ العالمية وتوجه لمقاربتِها بسرعة من ضمن قوانينه ومستواه، وهو شكلٌ أولي من إشتراكيةٍ غيرِ مكتملةٍ ظهرتْ قبل الولادة الطبيعية. أي هو طفولةٌ لإشتراكيةٍ مخنوقةٍ بسبب الدكتاتورية وتخلف قوى الإنتاج التي قامَ عليها.
فتكون ذلك في رأسماليةٍ حكومية تناقضتْ بها السبلُ حتى تمزقت من الداخل.
وأخذ الشيوعيون في العالم الثالث وبعض القوى السياسية الغربية هذا النموذج وجُعل مؤسساً طليعياً. وغدت سياساته الداخلية والخارجية جزءٌ لا ينفصل من النموذج، هذا جزءٌ من وعي طبيعي في ذلك الزمن، ولكن غير الطبيعي هو الإستمرار فيه.
ويعرضُ لنا شوكت خزندار مادةً وفيرةً عن هذه التناقضات في الماضي، وأغلبها تصوير لتبعية هذه الفئة المناضلة العراقية للقيادة الروسية، وهو تعبيرٌ عن مصالح هذه الفئة في الانحياز للقوى الحاكمة السائدة في أغلب المراحل.
ثمة جماعة في التنظيم قاربت الموضوعية في رؤيتها وهي جماعةُ(إتحاد الشغيلة)،(1954) التي رأتْ إن النضالَ والبقاءَ في النظام الملكي وتطويره ديمقراطياً بشكلٍ متصاعد ورفض المغامرات السياسية، هو السبيل الصحيح والعقلاني للحزب.
لكن المؤلفَ والجماعات الأخرى صبوا جام نقدهم عليها وحطموها.
ثمة عوامل عديدة لذلك أهمها تصاعد الدور الروسي داخل الحزب، ودور الجماعات القومية والمذهبية في كراهية نظام ذي علاقة قوية بالغرب وغياب قائد عقلاني في النظام الملكي نفسه، وبعدها تفجرَ العنفُ والانقلابات المتعددة حتى وصل العراق إلى فسيفساء سياسية.
صار الحزب يتبع البوصلة الروسية، فكان عبدالكريم قاسم الزعيم الموتور مقبولاً في خريطتها المعقدة عالمياً، والموجهة لزحزحة مصالح الغرب إلى حد معين فقط، وينتبه المؤلف لهذا المأزق الحزبي ويطرح ضرورة تجاوز نظام قاسم وإستبداله بنظام (إشتراكي).
لكن الحزب صار مع السائد والغالب، عالمياً، ووطنياً، فتتوجه الفئةُ الوسطى فيه للاستفادةِ من منحِ ومساعدةِ الحليف، كما تستفيدُ من نظامِ قاسم، الذي تلاعبَ بكلِ القوى السياسية وبقي الحزب الشيوعي يدافع عنه حتى اللحظة الأخيرة بحماقةٍ كبيرة.
وهذه كانت إحدى لحظاتِ الإستنزافِ الكبيرة التي سيكون لها دور في حرق أرضه الخضراء وتصحرها القادم.
راحتْ الفئةُ العليا من الحزبِ تتبعَ قانونَ وجودِها الموضوعي، قانونَ البرجوازيةِ الصغيرة التي تمشي مع الغالبِ السائد وبشرط أن يكون هو المفيد، حتى إذا ذهبَ تبحثُ عن آخر وتلتصقُ به وهكذا دواليك.
وقد تحولتْ القيادةُ السوفيتية إلى رأسماليةٍ حكومية كبرى بعد أن كانت برجوازية صغيرة في بدءِ النظام، وراحتْ تتفسخُ من الداخل بسبب ذلك، فتخلقُ برجوازيات صغيرة وأنظمةً إستغلاليةً في قوالب (الإشتراكية) ومن خلال هذه العلاقات تتشكلُ صلاتٌ ومصالحٌ وفوائدٌ ضمن عالم التبعية (الاشتراكية)، وتغدو الثورة الحقيقية مُجهَّز عليها مسبقاً، والمبادرات النضالية المستقلة متوقفة.
إن هيمنة البرجوازية الصغيرة داخل الحزب الشيوعي العراقي تنمو لتكون برجوازية كبيرة. هذا هو قانونُ الحركةِ الاجتماعية، وفي ظلِ بنيتي الحراك التاريخي المتداخل، بنية المصدر الروسي السوفيتي، والبنية العراقية، اللتين يتفاوت بين تطورهما الزمن، فالبرجوازيةُ الصغيرةُ الروسية بدأت سيطرتَها في بدءِ النظام السوفيتي وأزاحت قيادة العمال، التي ظهرتْ مع تفجر الثورة وبتضحياتهم الكبيرة، وبالتالي قامت تلك الفئة بصناعة إيديولوجية مركبة متناقضة، شمولية، خصيصاً لنظامٍ رأسمالي حكومي، أسمها الماركسية – اللينينية، تعبرُ عن قفزةِ التغيير في الشرق وبأدواتٍ شعبوية دكتاتورية، لكن التركيب هذا كما قلنا يتفككُ بسببِ تناقضاتِ البنية الاجتماعية السوفيتية وحراكها بين ماقبل الرأسمالية وما بعد تأسيسها وتطورها، وتنتقل أصداءُ وشظايا هذه التناقضات للأحزاب الشقيقة ولحركة التحرر الوطني، التي لا تعي بشكل واسع هذه التناقضات في المركز.
ومن هنا فإن السيد شوكت خزندار الذي يؤرخُ لتجربةِ الحزب الشيوعي العراقي يعالجُ من موقعهِ أصداءَ وآثارَ هذه التناقضات دون أن يتغلغلَ لفهم جذورها بين الكيان الحزبي الذي يعيشه والمركز الذي غدا هو الموجه وينقل رؤيته ومشكلاتها إلى الأطراف.
ففجأة بعد وقوف الحزب الشيوعي العراقي المطول مع نظام دكتاتوري فردي مريض هو نظام عبدالكريم قاسم يؤيدُ عمليةَ تصفية للحزب الشيوعي ويقبل أن يذوبَ في كيان أسمه الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة عبدالسلام عارف وأخيه عبدالرحمن، هذا التنظيم الفضفاض العاجز عن أي فعل نضالي.
روجت السياسةُ السوفيتيةُ في هذه السنوات لنمو الأنظمة الرأسمالية الحكومية الوطنية الأقل جذرية منها في عمليات التغيير، وهي سياسةٌ مفيدةٌ إيجابية في حينها لو ركزت على الديمقراطية في هذه الأنظمة وتطورها داخلها كذلك، لكن هذا أمرٌ يخالف طبيعة الرأسمالية الحكومية الروسية نفسها. إذ لم يكن بإمكانها أن تؤيدَ طبيعة ديمقراطية في أنظمةٍ وطنيةٍ تماثلها في السيطرة على المُلكية العامة، فكان لا بد أن تماثلها في شموليتها، ومن هنا طرحتْ القيادةُ السوفيتية وقتذاك تقييماً زائفاً لهذه الأنظمة بإعتبارها أنظمة لا رأسمالية، وهو كما يشير الباحث وغيره تعبير تلفيقي. ولم تقبل أن يتحول نظام مثل العراق إلى نظام (إشتراكي سوفيتي) على طريقتِها لما يمثله ذلك من صراعاتٍ حادةٍ هائلة في المنطقة تجرها لحرب عالمية، فهنا مراكز النفط، أما بلدان مثل اليمن الجنوبي والحبشة فلا تمثل مراكز هائلة للصراع العالمي.
هكذا أخذت التجاربُ والأحزابُ تتكيف حسب أهداف وعلاقات المركز، وتغدو البرجوازية الصغيرة في الحزب العراقي تابعة للبرجوازية الروسية الحكومية، وتنمو في سياقِ التبعية، وتتوقفُ مشارطُ التحليل العميق لديها للواقع المحلي، في كلِ ظرفٍ سياسي رئيسي، كفتراتِ عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف ثم في عهدي البكر وصدام، فغدا عهدُ البعثِ عهدَ الجبهةِ الوطنية، حيث تقزم الحزب الشيوعي وتقلص ثم قُمع بشدة ثم نجا بنفسه من هذه المصيدة الكبرى عبر إستشعار حس الخطر لدى قيادته.
تدهورتْ القيادةُ البرجوازيةُ الحكوميةُ الروسية وتعفنتْ من الداخل، وقامتْ بمغامراتٍ خطيرة على مستويات كثيرة أنهكتْ الاقتصاد ومعيشة الشعب ودهورت الإنتاج، وبطبيعة الحال لا يمكن لقيادة مثل هذه أن تتبصرَ المنزلقَ الخطيرَ الذي يقومُ بهِ صدامُ حسين، فتدعو للانقضاضِ عليه وإزالتهِ وهو في بدءِ تكوينهِ، بل شجعتْ صعودَهُ وغذته.
ثم على إنقاض القيادة الروسية (السوفيتية) ظهرت قيادةٌ أخرى تخلصت من الكثير من هذه الأعباء الاقتصادية والسياسية الخارجية والداخلية، وأوضحت نفسها كنظام رأسمالي عادي.
قامت الحروبُ التي خاضتها القياداتُ الروسية والعراقية في إفغانستان وإيران وفي شمال العراق ثم الكويت بتفجير التناقضات الداخلية في البلدين وتعرية طابعيهما الضارين، وغدت الحربُ كما قيل قاطرة التاريخ لكن للوراء هذه المرة.
لم يستطع المؤلفُ شوكت خازندار أن يربط بين النظامين، ويكشف طبيعة ما سُمي بالنظام الاشتراكي، العالمي والوطني، وغاص في حيثيات التجرب العراقية التفصيلية كأخطاء عزيز محمد وقيادته بحيث مضى في تفاصيل كثيرة أغلبها عام وبعضها شخصي، لكن للأمانة كان الكاتب موثقاً طارحاً الأدلة وحيثيات تفصيلية دقيقة لا تهم بصورة خاصة إلا العراقيين، وكان هذا تعبيراً عن النقص التحليلي الفكري للتجربة، فهو يقف عند سطوح التاريخ العراقي السياسي، بدون كشف الطبقات والفئات والأفكار التي تؤسس كل ذلكويتوجه مطولاً نحو الأشخاص.
وعموماً فإن درس مثل هذا التاريخ هو لتعميق تحليل التجربة السياسية العراقية والعربية عامة، وتقديم حيثيات كبيرة للأجيال من أجل أن تدرس تاريخها، وتنحت مادة مؤثقة عن قادة أحياء وأموات قدموا الكثير من حياتهم لأجل الناس، بغض النظر عن مدى توفيقهم في هذا، وقدموا ذلك في ظروف قاسية معقدة متشابكة، ولكن لا بد فيها من التأصيل والفرز وتطوير نظرية النضال العربي التقدمي.
Published on December 06, 2019 07:53
No comments have been added yet.


