عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 89
January 8, 2020
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الإصلاحيون الإيرانيون
تداخلتْ التياراتُ السياسيةُ والاجتماعية لدرجةٍ شديدة في إيران، وقد رفعتْ تسمياتٍ ومصطلحات إيديولوجية لا تعكس حقيقتها الطبقية، وأدى ذلك إلى صعوباتٍ في فهم هذا الصراعِ الاجتماعي السياسي المركب ك: المتشددون والإصلاحيون، المحافظون والثوريون، وخط الإمام، وغير هذا من مصطلحات للطبقة المسيطرة في إيران المتصارعة.
إن إيران وهي تمرُ ككلِ دولِ الشرق في التحولِ والتنمية والاستقلال مضتْ تسيرُ بصعوبةٍ من الإقطاع للرأسمالية، ولعبَ جهازُ الدولةِ دورَ القيادة، وتجسدَ ذلك عبر توسعِ الملكيةِ العامة، التي تظلُّ خاصةً للطبقةِ المسيطرة، فهي أسمياً تعودُ للشعب، ثم قامَ المذهبُ الديني بتجاوزِ الدولةِ ولعبَ دورها، فوقعَ الكائنان المادي السياسي والإيديولوجي في صراعٍٍ حادٍ متشابك، وهو ما كان يتجنبُ الوقوعَ فيه الآياتُ العظمى.
المذهب لدى آيات الله العظمى يغدو محافظاً معبراً عن هيمنةِ الإقطاعِ بشكلٍ واسعٍ، لكن تجري فيه عمليات تغيير موائمة مع العصر ببطءٍ شديد، ويغدو كما قلنا أقرب للواقعية السياسية وللعلمانية، لكن الثورة أبعدتْ الآيات العظمى، ونزلتْ البرجوازيةُ الصغيرةُ تقودُ الحياةَ الإيرانيةَ بشكلٍ عاصف.
إن دخولَ هذه الطبقة للصراعِ الاجتماعي لا يعني القطع المطلق مع وعي الآياتِ العظمى، خاصةً في مجالاتِ الرؤيةِ الاجتماعية لأحوالِ الأسرةِ وقيمِ وتاريخِ المذهب وللمبنى الفكري عامة، لكنها تقتحمُ الميدانَ السياسي وتطرحُ مقولاتٍ إيديولوجيةً جديدة، بعضُها ينبعُ من المذهب وبعضُها لا ينبع.
ومع سيطرة هذه الطبقة على جهاز الدولة، تكون قد جمعتْ بُنيتي الإقطاعِ والرأسماليةِ معاً، لكنها ليستْ رأسماليةً على الطراز الحر الغربي، بل على الطرازِ الشرقي الحكومي الاستبدادي، فهي تقومُ بالسيطرةِ على حراكِ الناس الاجتماعي وأحوالهم الشخصية والعقلية، فتغدو إستبداداً إقطاعياً، وهي في ذات الوقت تبني إقتصاداً رأسمالياً حكومياً وهذا يخلقُ ليبرالية بحدودِها الدنيا؛ شركات عامة وخاصة وعلاقات بضائعية ورأسمالية تتغلغلُ في الحياة المُهيَّمن عليها من قبل الدينِ المحافظ المؤدلجِ لخدمةِ الطبقةِ المسيطرة، فهذا الحراكُ المزودجُ المتناقضُ بين الإقطاع والرأسمالية، يخلقُ مجموعةً كبيرةً من الصراعات داخل الطبقة الحاكمة وداخل النظام.
هنا يحدث صراعٌ كبيرٌ على الفائض الاقتصادي بدرجةٍ أساسية، فنرى موجةَ رفسنجاني بفترتي رئاستهِ تنتجُ الفئات الأولى الكبيرة المستفيدة، وتنحي الفئات البرجوازية الصغيرة التي شاركتْ في إنتاجِ فكرِ الثورة وعملها على الأرض وقدمتْ التضحيات وتصعدُ القوى الأكثر غنى والأشد قوة.
و(خطُ الإمامِ) يعني خط هذه البرجوازية الصغيرة المتذبذبةِ بين الإقطاعِ والرأسمالية، بين القراءةِ الدينية المحافظة وبين الحداثةِ، بين الاستبداد والحرية، بين هيمنةِ القطاع العام الكلي وبين حرية القطاع الخاص، بين القومية المتعصبة وبين الأممية الإسلامية والإنسانية، بين قمع الشعب وإطلاق سراحه، بين النصوصية والعقلانية بين اليمين واليسار، بين هيمنة العسكر وإنتصار الديمقراطية.
إن الصراعَ على الفائضِ الاقتصادي يتجسدُ في الأولوياتِ المحددةِ للقطاع العام. ففي فترةٍ تكونُ الأولويةُ لتنميةِ القطاعِ العام الاقتصادي الكبير والقطاع العسكري، وهي الفترةُ التي صعدَ فيها ما يُسمى بـــ(اليسار)، لكنها الفترة التي صعدت فيها الفئاتُ البرجوازيةُ الكبيرة داخل النظام ويمثلها رفسنجاني، وجاءتْ فترةٌ أخرى يمثلها خاتمي، وهي عودةِ لتيارِ البرجوازية الصغيرة المتشكل من اليساريين والليبراليين الدينيين وهي الجماعات التي نُحيت في فترة رفسنجاني والتي دخلت السنوات الأولى للثورة بشكلٍ حماسي حادٍ وشاركتْ في دعائمِ النظام من شرطةٍ سرية وبناء دعائي ديني مطلق ثم أكتوتْ بما أسستهُ حين تطور وعيها نحو الليبرالية.
هناك تداخلٌ بين هذه الفئاتِ الوسطى والصغيرة من الطبقةِ الحاكمة، فموجةُ النمو الاقتصادي الرأسمالي الحكومي وسعَّت العلاقات التجاريةَ والثقافية بالغرب، وحصل تطورٌ كبيرٌ للعلاقاتِ البضاعية والمالية الرأسمالية، مما يعبرُ عن توجيهِ جزءٍ مهمٍ من الفوائض الاقتصادية نحو البناء السلمي.
وهذا التصاعدُ للعلاقاتِ الرأسماليةِ من جهةٍ أخرى يولدُ مشكلاتٍ كبيرةً للجماهير الشعبية عبر تصاعدِ نفوذ الأغنياء والمؤسسات الاستغلالية المختلفة، مما يجعل هذه الجماهير تبحث عن (الإشتراكيين) واليسار الديني وهذا مايستغلهُ اليمينُ المتطرف!
بين اليمينِ الكبيرِ عند رفسنجاني واليمينِ الصغير عند خاتمي نمتْ العلاقاتُ الرأسماليةُ التحديثية، وراحتْ تضربُ القيدَ الإقطاعي بدون نجاحٍ في إزالتهِ، لكونها قامتْ على أسسهِ الفكرية والسياسية.
إن العلاقات الرأسمالية مربوطةٌ ومحكومةٌ بالهيمنةِ السياسية الإيديولوجية الإقطاعية، فالمضمون الاجتماعي المتصاعد يصطدمُ بالشكلِ المعرقل.
إن الشكلَ المعرقل يتجسد في الدستور، وهيمنة المرشد، وفي الإيديولوجية البرجوازية الصغيرة المتناقضة، وفي البرلمانية المنسوجة على قامةِ الطبقة الحاكمة، وفي شعارِ ولاية الفقيه، والعداء للغربِ الديمقراطي والاشتراكية.
وفي الجوهر يعبرُ ذلك عن سيطرةِ رجالِ دينٍ محافظين خائفين من الحداثةِ يتمسكون بالماضي الإقطاعي حيث الذوبان الكلي للجمهور في هيمنة السلطة، ولكن الحداثةَ تفككُ هذه الهيمنةَ وتحررُ العمالَ والنساءَ والعقولَ من النصوصية الحرفية، دون أن تخرج عن الحضور التاريخي للمذهب بطبيعة الحال لكن قصر النظر الإيديولوجي يتوهم ذلك، فلا يستطيع رجلُ الدين التقليدي أن يتطور فكرياً وفقهياً، بدون أن يتركَ السلطة السياسية فخروجهُ منها يمثل تطوره لكنه لا يعي ذلك ويقاومهُ لأن القضيةَ غدت قضية طبقة لا قضية شرائح إجتماعية، ومن هنا يصارع الليبراليين الذين هم معه في السلطة لأنهم يزحزحونه منها فيطردهم ثم يقمعهم.
لا بد من تحديد الوجوه والدلالات الحقيقية للإصلاحيين ومنافسيهم المحافظين في إيران، من أجل وضوح الرؤية وتجاوز هذا الصراع بين الليبرالية والإقطاع، وهو صراعٌ يعيشه كلُ المسلمين، حسب درجاتِ تطورِ بلدانهم، وتقومُ الرأسمالية الحكومية بتصعيدهِ إلى مستوياتٍ جديدة حسب القوى المتنفذة على أجهزة السلطة.
لقد رأينا موجتي الليبرالية الحاكمة في إيران عبر هاشمي رفسنجاني وخاتمي، والفروق بينهما وهي فروقُ سنواتٍ مهمةٍ في عمرِ الثورة المتصارعة في تركيبها المعقد المتناقض، لقد تم في السنوات الأولى إبعاد قوى الليبرالية الدينية غير الواعية والمتحمسة للدكتاتورية الدينية في البداية، ثم راحتْ تبحثُ وتستقلُ برؤيتِها وتصارع القوى المحافظة في نقاطٍ معينة مهمة، ثم دخلت السلطة ثانية وحاولتْ تجريبَ مصطلحاتِها الحداثيةِ الدينية المأزومة.
ونتعرفُ هنا أولاً على آراء السيد بهزاد نبوي، وهو شخصيةٌ مهمةٌ من شخصياتِ الليبراليين الدينيين، شَغلَ مناصبَ حكوميةً مهمةً وصار رئيسُ البرلمان في فترةٍ سابقة، ونائبُ رئيسِ الحكومة في الثمانينيات والتسعينيات، وكان من نفسِ موجةِ الحدة العاطفية في بداية الثورة وفي موجةِ إعتقال الرهائن الأمريكيين في السفارة ولعبَ دوراً في المفاوضات لإطلاق سراح الرهائن ثم صارَ خصماً للمحافظين وأُودعَ السجنُ أخيراً في أحداثِ الثورة الخضراء.
اعتمدت آراؤه على الثنائية المتصارعة، أي الثنائية الدينية الليبرالية، غير المكتملتين المتضادتين، يقول:
(والشعار الثاني الذي تبنتهُ الثورةُ هو شعار «الحرية» ويعني، الحرية السياسية والاجتماعية وحرية التعبير والصحافة في إطار الدستور. إننا نؤمنُ بالدستور ونحترم أصوله. فلهذا نعارضُ ولا نقبلُ بوجهة نظر أولئك الذين يضعون الحرية والهرج والمرج في خانة واحدة. إن الحرية التي يطالب خاتمي والاصلاحيون بها هي الحريات المصرح بها في الدستور.)، من مقابلة فكرية لجريدة الشرق الأوسط،(9 يناير 2004).
تعتمدُ نضاليةُ الإصلاحيين داخلَ مؤسساتِ الدولةِ والمجتمع على الوثائق التي سنتها الطبقةُ الحاكمةُ، وهي التي تجعلُ الحريةَ للجماعاتِ الدينيةِ المحافظة عموماً، وتمنعُ بقيةَ القوى السياسية والاجتماعية من الترشح والفوز خاصة في المؤسسة البرلمانية.
وبهذا فإن بهزاد نبوي يعملُ في هذه الدائرة، وبهذا تغدو الحرية طبقيةً ضيقة ومصطلحاتها من مصطلحات الطبقة المسيطرة. يعتمد وعي السيد بهزاد على التعميماتِ الفكرية الغائمة مثل الثورة، والدستور، والثورة الإسلامية، والشعب.
فأي ثورةٍ يتحدثُ عنها؟ أهي ثورةُ الشعب العادية التي سيطرت عليها الطبقةُ الدينيةُ وكرستها لمصالحِها؟ وأي إسلام يتم الحديث عنه؟ أهو إسلامُ الأغلبية الشعبية أم إسلامُ النخبِ الحاكمة الإستغلالية؟ يقول:
(وخلال سنوات الحرب وبسببِ الظروفِ الخاصة التي عاشتها بلادنا، ومعارضة بعض ممن كانوا يعارضون، منذ بداية الثورة تطبيقَ بعضِ الشعاراتِ لم نتمكن من تطبيق شعارات الثورة الاصلية بل حصلت انحرافات هنا وهناك. والحركة الاصلاحية لا تطالب الا بتطبيق شعارات الثورة وعدم خرق الدستور من قبل أصحاب السلطة).
لم يقم الإصلاحيون بتحديد هذه (الثورة). فماذا تريد هذه الثورة وأية قوى تريد إبعادها وأية قوى تريد تكريسها؟ إن لغة التعميميات لا توضح هذا. لقد رأينا هذه (الثورةَ) وهي تبعدُ ممثلي الأغلبية الشعبيةِ العاملةِ وتكرسُ النخبَ الدينية المعبرة عن الإقطاع الريفي بدرجةٍ أساسية، فحتى ممثلي الفئات الوسطى المدنية تم إبعادهم، والإصلاحيون يشعرون إنهم من هذه القوى الوسطى، لكنهم يتحايلون على قوى الإقطاع الممسكة بقوةٍ بمؤسسات النظام السياسية والعسكرية ويريدون تضييعَ الحدود بين الطبقات وتمييع المصطلحات؟!
لقد تعاون الليبراليون الدينيون مع المحافظين الدينيين على تشكيلِ دكتاتوريةٍ عامةٍ أقصتْ أغلبيةَ الشعبِ الثائرِ الذي رفعهم لسدةِ الحكم جاهلاً بطبيعتِهم الطبقية، ثم توهمَّ الليبراليون الدينيون إن السلطةَ غائمةٌ سائحةٌ يمكنهم من الإستيلاءِ عليها بمثلِ هذه اللغةِ المائعةِ إيديويولجياً وسياسياً.
وقد حدد الدستورُ طبيعةَ هذه السلطة الإقطاعية المذهبية القومية وهيمنتها الكلية على المجتمع. فتقومُ مفرداتُ الليبراليين الدينيين تلك بتمويهِ طبيعةِ الدولةِ العضوضة التي هي إستمرار للدول الإسلامية الإقطاعية الطائفية القديمة والحالية مع تطوراتٍ عصريةٍ في الصناعة والأكسسورات الحديثة المختلفة.
ويواصلُ السيد نبوي عرضَ أفكاره:
(إن اهتمام الثورة لم يكن مركزاً على إلتزام أو عدم التزام هذه المواطنة أو تلك بالحجاب الكامل، بل أن هناك اهتمامات أكثر أهميةً مثل صيانة حقوق الشعب وضمان إحترام السلطة للحريات القانونية للشعب.).
يريد السيد نبوي هنا أن يجزىءَ سلطة الدكتاتورية السياسية، فهل تنفصلُ السيطرةُ على النساءِ عن السيطرةِ على بقية الشعب؟ ألا يتخذ الإقطاعيون مسائلَ مثل الحجاب للهيمنةِ الكليةِ السياسية على النساء؟ وكيف يمكن تنفيذ حقوق الشعب بدون تعدديةٍ سياسيةٍ وحريات وفصل للسلطات ويتم التدخل حتى في حرية الإنسان لإختيار ثيابه؟
إن السلطةَ الشموليةَ المحافظةَ هي سلطةٌ كلية، تتجسدُ في هيمنةٍ ذكورية مطلقة، وتحدد حركية النساء وحقوقهن ولباسهن من خلال قراراتها، وهي سلطةٌ شموليةُ تمنعُ الفلاحين من إستعادةِ أراضيهم أو المشاركة بها، وهي سلطةٌ تقررُ توجيه ممتلكات الدولة حسب مشروعات الطبقة الحاكمة في كلِ حقبة سياسية.
وفي الظرفِ الذي يتكلمُ به السيدُ نبوي ويقومُ فيه بانتقاداتٍ خفيفة، ويحاولُ التعبير عن تعدديةٍ موهومة، غير موجودة، ثمة رياحٌ ليبرالية في مؤسساتِ الحكم حيث هيمن خاتمي ولغتهُ في توسيع الحريات الليبرالية المحاصرة داخل النظام، لكن ذلك لم ينجحْ وجاءت عاصفةٌ محافظة.
لهذا إذن إن الحديثَ عن العمومياتِ خاصةً في عمومية الإسلام يرتكبُ خطيئةً أصلية، حيث لا بد من القول إن الإسلام المُجَّسد عبر هذه الممارسة هو إسلامُ المسيطرين على المالِ العام وعلى رؤوسِ النساءِ وعلى أكلِ الفلاح وعلى فمِ العامل المغلق.
يتجمد وعي الإصلاحيين الإيرانيين في المسائل الحداثية الكبرى للعصر وخاصةً في مسألة العلمانية. فيقومُ بمناوراتٍ إيديولوجية وسياسية حولها.
نتابعُ أفكارَ السيد بهزاد نبوي المسئولَ السياسي الكبيرَ السابق والذي حُكم عليه بالحبسِ خمس سنوات في الثورةِ الخضراء، يقول:
(أود أن أقول أولاً بأنني لستُ من العلمانيين، بل اعتقدُ بالحكومة الدينية، ونظام ولاية الفقيه هو أحدُ وجوهِ الحكومة الدينية. في الفقهِ الشيعي هناك بعضُ الفقهاءِ وعددهم ليس كبيراً ممن يؤمنون بنظرية ولايةِ الفقيهِ وكان الامامُ الراحلُ الخميني واحداً منهم. ونظراً الى انه كان قائدُ الثورة ونظرةُ ولاية الفقيه كانت نظرتهُ حول الحكومة فإننا بسببِ إيمانِنا به وبسياساته، قبلنا بولايةِ الفقيه في إطارِها الدستوري)، السابق.
تحددُ هذه العبارة تاريخيةً مبهمةً لكننا نستطيعُ أن نوضحَ أشياءَ فيها، فتشيرُ كلماتُ الضميرِ الجماعي في (قَبلنا) وغيرها، إلى الكتل التحديثية (الثورية) و(اليسارية) و(الليبرالية) التي قَبلتْ بقيادةِ الإقطاع الديني، بعد الضرباتِ الموجهةِ للبرجوازيةِ الوطنية بعد مصدق، حيث غدا هذا الإقطاعُ هو الجسم السياسي المتنامي في حضن المجتمع والذي له تاريخٌ سابق طويل، وحاولت قيادة الخميني الجمعَ بين المحافظين الدينيين وأولئك الليبراليين الرافضين خاصة للعلمانية، وتم إلتحاقُ هذه النخبِ بهذه القيادةِ الدينيةِ التي جذبت الجسمَ الدينيَّ الواسعَ للسيطرةِ على أجهزةِ الدولة والحياة الاجتماعية.
لقد عبَّرتْ الكتلُ الليبراليةُ واليسارية واليسارية المتطرفة عن هذا الفشلِ في تثقيفِ الشعبِ وتنويرهِ وعدم إتخاذ مواقف صائبة عميقة خلال العقود السابقة، عبر إعتمادِها على نقلِ الموديلات النظرية السياسية الخارجية، والأخطر كان إعتمادُ بعضِها على العنف المسلح المغامر، مما أدى إلى حرق وتحجيم هذه الكتل على درجاتٍ مختلفة.
ولهذا كانت ولايةُ الفقيه هي تعبيرٌ عن إفشالٍ لإصلاحية آيات الله العظمى المتدرجة وقفزٌ عليها، كما أنها تذويبٌ للمنظماتِ الليبرالية واليسارية وعدم الإعتراف بها عملياً، أي هي شكلُ الدكتاتورية الإيديولوجية السياسية الحاكمة.
وبطبيعةِ الحال لا بدَ أن يكونَ هذا الشعارُ السياسي غيرَ مقبولٍ للغالبية من رجال الدين الشيعة نظراً لجرهِ إيران إلى مغامراتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ محفوفةٍ بالمخاطر كما أثبتَّ التطورُ ذلك، لكنهم لم يناقشوه ويحللوه.
ويشيرُ تعبيرُ السيد نبوي هنا إلى ذيليةِ هؤلاء الليبراليين الدينيين في العمليةِ التاريخيةِ، وقبولهم بالدكتاتورية الصاعدة، وعدم فهمهم للعملياتِ التاريخيةِ التي جرتْ للإيرانيين وللمسلمين عامة.
إن لحظةَ قيادةِ البرجوازية الصغيرة من قبل دينيي الثورة، للصراع الصعبِ المفتوحِ والمجهول تدفعُها لمقاربةِ الليبراليين، إنها لا تُظهرُ هنا في لحظةِ التشكيلِ المتلهبة كلَ شخصيتها، فهي لا تزالُ في القاع الاجتماعي ولم تتناثرْ عليها الثرواتُ بعد، وهي بحاجةٍ لهم، ويمكن أن تتقاربَ مع سماتٍ معينة كالحرية والشعب والدستور وغيرها لكنها تؤسسُ الدولةَ وبناءَها الاقتصادي، فترتفعُ الفئاتُ الوسطى الأكبر عن تلك البرجوازيةِ الصغيرة التي تجسدتْ في الأئمةِ البسطاءِ الفقراءِ، وفي المثقفين الشعبيين المضحين، ولكن حراكَ الحداثةِ لديها لا يجعلها تنطلقُ في الحرية والعلمانية والديمقراطية الحقيقية، فلجامُ الإقطاعِ يوقفُها ويضغطُ على فمِها وعقلها، فهي تنتفخُ عبرَ مؤسسساتِ الرأسمالية الحكومية التي يحددُ خطوطَها العريضةَ الإقطاعُ الديني بأهدافه.
والليبراليةُ الدينيةُ تريدُ الاستمرارَ في هذا التحول البنائي الرأسمالي الحكومي نحو الرأسمالية الحرة والانتخابات الحقيقية والديمقراطية والحريات، لكنها وقعتْ في القبضةِ العامةِ للمؤسساتِ المعبرةِ عن القوةِ الأساسية في هذه الطبقة الحاكمة وهي قوة المحافظين المعبرين عن ذلك الإقطاع الديني التاريخي الموروث الذي خنقَ الثورةَ الإسلاميةَ الأولى وشكلَّ الدولَ العضوضة على صفحات التاريخ الواسعة.
الحبلُ الأولُ من ذلك اللجامِ هو إلغاءُ العلمانية في دولةِ المحافظين، وهي المعبرةُ عن حاجاتِ الأغلبيةِ الشعبيةِ المسلمةِ خاصةً في الإنفكاكِ من «سيطرةِ» الإقطاعين السياسي والديني، الموسومة بأسم الإسلام.
يقول السيد نبوي:
(وبالطبع فان مبدأ ولاية الفقيه في الدستور يجب ألا يكون في التناقض مع بقيةِ المبادئ والاصول الدستورية. أي أن لا يأتي فوق الاستقلال والحرية والجمهورية الاسلامية. إن ولاية الفقيه التي نقبلُ بها ليستْ سلطةً فوق سلطة القانون والدستور. إن المادة 110 في الدستور حددتْ بشكلٍ واضحٍ حدودَ وابعاد صلاحيات وسلطات الولي الفقيه) السابق.
إن مبدأ ولايةِ الفقيه لم يكن في تضادٍ مع الدستور بل هو رتبَ موادَهُ لتكريسِ ذاتهِ فيه، وجعلَ الوليَّ الفقيه مهيمناً عبر مؤسساتٍ خاضعةٍ له، وهي كلها تعبرُ عن هذه البيروقراطية الدينية العسكرية المالية الحاكمة، وليستْ عن هذه التعبيرات المجردة: الشعب، والأمة والمسلمين الخ.
يفهم الليبراليون الدينيون الحقبة الراهنة كما تشاء إسقاطاتهم الفكرية، وأمانيهم الحالمة، لكن مفردات الواقع الحقيقية لها أسنان قوية سوف تعضهم بقوة شديدة.
بدأ خطُ الاعتدالِ الإصلاحي يتكسر بدءً من إبعاد آية الله حسين منتظري، لقد عبر ذلك عن تصاعدِ القوى الحكومية المتنفذة، أي جماعات البيروقراطية الاقتصادية العسكرية التي صارتْ هي المهيمنة على جهاز الدولة والمجتمع.
وفي هذا الإبعاد غدتْ المرجعيةُ السياسيةُ مرة أخرى أقوى من المرجعية الكبرى الفقهية المتخصصة، ووجهتْ الحياةَ العامةَ نحو مغامراتٍ جديدة.
لنقلْ بأن آيات الله العظمى كانت هي الحافظةُ للتطورِ التدريجي للشعبِ الفارسي المنتمي للشيعةِ ولإيران عامةً، إنها تتداخلُ مع الأنظمةِ المحافظة ولا شك، لكن مجالَ المذهب يبقى له إستقلاليته الخاصة المُصّانة والقابلة للتجديد والبحث والاجتهاد.
هي موسوعةُ المذهبِ الحافرةِ عبرَ عقودِ السنين، وتراكم الاحكام والاجتهاد والمعبرة عن شعيراتِ تطورِ الشعبِ بتراثهِ وبتناقضاتهِ ومشكلاتهِ وتخلفهِ وبحثه عن التطور والعدالة.
ولكن الجماعات السياسية المذهبية تمثلُ قفزات وشطحات وإجتهادات، تصيبُ وتخيب، وفي صوابِها مكسبٌ وفي أخطائها مشكلات كبيرة. لكونها لم تغصْ في تراث الشعب الديني مثل المرجعيات ويحركها الصراعُ السياسي اليومي، وتكتيكاتهُ المحدودةُ الرؤيةِ غالباً والخطرة، وإذا كان الفقيهُ يحتاجُ زمناً طويلاً ليُرجحَ حكماً في مسألةٍ بسيطة، فإن السياسيَّ مطالبٌ بالحكم الفوري والخطير المتقلب في قضايا مصيرية، وإذا كان ذلك متصلاً بالدين فهو يغدو مشكلةً محفوفة بالمخاطر. وهذا يعبرُ عن التضاد الكبير بين الفقه والسياسة. ولهذا كان الإمامُ الخميني رافضاً لتكوين الأحزاب السياسية الدينية لفترةٍ طويلة كما يروي الشيخُ رفسنجاني في كتابه (حياتي).
ومن هنا توجهتْ المرجعياتُ الكبرى للاحجامِ عن التدخل بالسياسةِ المباشرة، تاركةً للسياسيين الخوضَ في غمارِها اليومي المتقلب، وهي تتأنى وتدقق وتدرس، ويرتبطُ الحكمُ هنا بمصير الملايين حياةً أو موتاً!
ويرينا المرجعيةُ الكبرى السيدُ السيستاني نموذجاً في ذلك، وهو الذي يستطيع أن يزلزلَ الأرضَ بتوجيهاتٍ سياسية مباشرة.
وبطبيعة الحال فإن أغلبيةَ المرجعيات محافظة، ولكن يتشكلُ فيها بصورةٍ نادرةٍ المجددون كذلك، وعلى مدى التطورات الحاصلة في الحياةِ وفي وعي الناس، تتحددُ تلك الإنجازات الجديدة ومدى نموها داخل بُنى المذهب.
وفي الشأن الإيراني فإن المرجعيات الكبرى لم تَغبْ عن الصراع الخطير، لكنها مستمرة في العمل الذي عكفتْ عليه خلالَ عقود، وهي تمسكُ الجذورَ التحتيةَ العميقةَ للشعب، وما المؤسساتُ السياسيةُ إلا أشكالٌ مؤقتةٌ تعكس صراعات الكتل السياسية والاجتماعية المختلفة العابرة.
إن التطورات الاجتماعيةَ الفوقيةَ لم تغيرْ طابع الحياة المحافظ، لكن نظرية ولاية الفقيه أقحمتْ الدينَ في النظام الحاكم، والسياسة لا تعرفُ سوى هيمنةٍ واحدية، وهذا ورطَّ المذهبَ الرسمي الحاكم كذلك على مستوى الأحكام الاجتماعية وليس السياسية فقط، مما جعلَ قسماً من الجمهور يضجُ بالشكوى، وقد وصلت هجرة المثقفين إلى مليوني ونصف شخص من إيران إلى الغرب.
لقد برزتْ معارضةُ المرجعيات الكبرى في تصاعدِ أحكامِها الفكرية العامة. لقد قالَ بعضُ المحافظين الدينيين؛ (أن لا ولايةَ مطلقةً في غيبةِ الإمام المهدي، وأن شرعيةَ النظام الإسلامي لا تقومُ إلا بظهوره، وأن التسليمَ لنظام الجمهورية الإسلامية بالشرعية الإسلامية انتقاصٌ من الشرع نفسه).
إن النظامَ السياسيَّ عبر هذا الرأي الديني من بعض المرجعيات الكبرى، يتحولُ إلى مجردِ إجتهادٍ غيرِ مقدس، وبالتالي فإن معارضته شرعية وتغييره مفتوح، وقد إستخدمتْ هذه المرحعياتُ مفردات المذهب بدون أن تدخلَ في السياسةِ المباشرة!
هذه الأحكامُ تدخلنُا في التعدديةِ الدينية ، وهي بابٌ للديمقراطية، فلا يجوز أن يفرضَ توجهٌ ما رأيه الديني الكلي، إن الآيات العظام للمذهب تعودُ تدريجياً لمكانتِها الكبرى في الحياة الاجتماعية الشيعية، وفكرة ولاية الفقيه تتآكلُ تدريجياً في الداخل.
ومن هنا فإن الإصلاحيين الإيرانيين الذين سايروا الفكرة وروجوا لها يشعرون بالإحراج الفكري، لكن هذا ليس خاتمة المطاف، فهم لم يفهموا الفكرة كشموليةٍ سياسية، وأرادوا أن يزيلوها عملياً وينقضوها في الممارسة السياسية وهم الذين أيدوها!
يقول السيد بهزاد نبوي في الحوار السابق ذكره:
(ولايةُ الفقيهِ كما جاءتْ في الدستور لا تتعارضُ مع الديمقراطية، وكون الولي الفقيه شخصية غير حزبية لا تنتمي إلى خطٍ سياسي معين، يجعلهُ رمزاً للوحدةِ الوطنية وسيادة الشعب. وكما أن رئيسَ الجمهورية مسؤولٌ أمام الشعب، فإن الولي الفقيه مسؤولٌ أيضاً، إن قراءتنا مختلفةٌ عن قراءةِ أولئكَ الذين يعتبرون الولي الفقيه سلطاناً مستبداً يفعلُ بما يشاء ومن غير الممكن مساءلته).
يتجاهل السيد بهزاد هنا المعاني الحقيقيةَ للدستور الإيراني، الذي يجعل من الولي الفقيه الحاكم الأساسي الذي يشكلُ الطبقةَ الحاكمة بتكويناتِها المختلفةِ المتغيرةِ عبر تنامي الصراع الاجتماعي، فهو الرئيسُ أو الحاكم المطلق كما يجري في العالم الثالث، والذين يختارونه يتم تعيينهم من قبله في الدورة الثانية كما هو الفقيه الولي الراهن، ولنقلْ بأن الشمولية في الطبقة تصاعدت عن السنوات الأولى، مع تنامي غنى وعسكرة الطبقة الحاكمة، حتى لم تقبل بمرجعيات أكثر علماً بل بالمرجعية الأكثر تعبيراً عن أقسام الطبقة الحاكمة المركزية. ومن الممكن أن يتحولَ منصبُ الولي إلى منصبٍ متوارث، لأن الجمهوريات تتحولُ إلى مَلكيات في العالم الإسلامي.
سنرى إن الاستبداد الذي ينفيه السيد نبوي يُطبقُ عليه، هو نفسه، وإن ولايةَ الفقيه ليست فقهاً فقط بل حكومة سياسية صارمة.
ما هي أسباب إنهيار التحالف بين الدينيين الشموليين والليبراليين الدينيين الإيرانيين في إيران؟
لماذا لم تستطع شعارات الليبراليين هؤلاء باعتماد العقلانية وتطوير الحريات أن تتوسع ثم أن تنتصر؟
كان التحالف لا يستند على أسس موضوعية، أولاً من حيث الوعي بالإسلام الذي تشكل لدى الحركة الليبرالية الوطنية في إيران خلال العقود السابقة.
فهم كانوا أنفسهم جزءً من البنية الاقطاعية الفكرية، فلم تستطع المذهبية الاجتماعية السياسية أن تغير ما جرى خلال الألف السنة السابقة من حياة المجتمعات الإسلامية، بالهيمنة المطلقة للرجال على النساء، والهيمنة المطلقة للحكام على المحكومين، وهيمنة الإقطاع الزراعي على الفلاحين، وهيمنة النصوص المحافظة الدينية على إمكانيات العقلانية.
قامت القوى المحافظة السياسية على مدى قرون بتجميدِ حالِ المسلمين، ولم تقمْ القوى الليبراليةُ الصغيرةُ الإيرانية في القرن العشرين بتشكيلِ تيارٍ هامٍ عميق بين الجمهور، من حيث الاصطفاف مع الحداثة وقسماتها الجوهرية وهي العلمانية والديمقراطية والحرية والعقلانية، وتعكزتْ على الوعي الديني المحافظ، وذلك بطبيعةِ الإنتاجِ المادي الإيراني وبسببِ ضعف المُلكيات الخاصة الصناعية، وكانت قسماتُ الفئاتِ الوسطى تجاريةً كاسحة، وكان صوتُ (البازار) هو الداعم لرجالِ الدين المحافظين.
وحين إنتصرت الثورةُ الشعبية تم توسيع المُلكية الحكومية المتعددة الوجوه وهيمنتْ على الاقتصاد الوطني، وعمقتْ في جزءٍ كبير منها الوعي الديني المحافظ في حين كان الوعي الليبرالي التنويريي لدى رفسنجاني وخاتمي مُحاصراً ولا يقوم على أسسٍ علمانية، مثل المُلكية الصناعية التي غدتْ في أيدي البيروقراطية الحكومية وجاء التخصيصُ في بعض الجوانب لصالحِ هذه البيروقراطية وإستيلائها على الثروة العامة.
هكذا لم توجدْ برجوازيةٌ صناعيةٌ حرة، وتم الهيمنة على العمالِ من قبلِ نفس المُلكية العامة والشرطة، ولهذا وجدَ الليبراليون أنفسَهم بلا قواعد ماديةٍ وإجتماعية تستطيع أن تطورَ مفردات الحداثةِ والحرية والعلمانية داخل السلطة الدينية. وبدا عجزُهم الاقتصادي متجسداً في ضعفِ مصطلحاتِهم السياسيةِ المتذبذبة، ومع تضخمِ الطبقةِ المسيطرة وأجنحتِها العسكرية خاصة، حدث هجومٌ معاكسٌ على بذورِ الليبرالية، فنمو الحريات السياسية والفكرية والاجتماعية يعني إنهيار سلطتها.
ومثَّلتْ معركةُ الانتخاباتِ الرئاسية ذروةً للصراعِ بين الجناحين، والتي تمتْ في ساحةِ ذاتِ الطبقةِ وبمصطلحاتِها وبأدواتِ سلطتِها وتشريعها، وبالتالي فإن الجناحَ الليبراليَّ الديني لا يَقدرُ أصلاً على نقضِ النظام المحافظ الإقطاعي ورأسماليته الحكومية العسكرية الخطرة، فهو مشاركٌ في غنائمِ هذه السلطة، وهو واقعٌ في ثقافتِها، التي لا يمكن أن تتشكلَ بدون نضالٍ صناعي مستقلٍ حر وبنشؤِ طبقةٍ صناعيةٍ حرة وبقطاعٍ عام سلمي مُسيطر عليه من قبل الشعب وبوجودِ عمالٍ أحرار.
وبالتالي فإنه ليس أن مفرداتِ هذه الليبرالية الدينية متناقضةٌ وفاشلةٌ وعاجزةٌ عن تنامي تجذرِها في الواقعِ وإستقلالِها عن ثقافةِ الإقطاع والتعبيرِ عن برجوازيةٍ حرة، وعن شعبٍ حر، بل أن أجسادَ هؤلاء الليبراليين الدينيين ذاتها معرضةٌ للقتل والسجن ومختلف أنواع التصفيات.
فالعديدُ من الليبراليين الدينيين بدأت قوى القمع تستأصلهم، فسيد مصطفى تاج زاده تم تلفيق تهم له كي لا يترشح للانتخابات وهاشم آقاجري أُعتقل على أساسِ الإساءة للدين. ونستطيعُ أن نأخذَ المثقفَ الليبرالي الديني البارز سعيد حجاريان الذي كان من مؤسسي جهاز المخابرات بعد الثورة! وأشتغلَ بنشاطٍ كبير في فاعلياتِها، ثم غيّرَ تفكيرَهُ وأدانَ التجاوزات وعمليات التعذيب وقمع المناضلين التي يقوم بها زملاؤه، فُسددتْ رصاصةٌ إلى رأسه!
وهناك المئاتُ من هؤلاء الدينيين الليبراليين الذين أنهالتْ على رؤوسِهم العصي، وأُجبروا على إعترافاتٍ خسيسة تعودُ بنا لزمن محاكم التفتيش، فأكتشفوا ثقافةَ التلفيق التي وقعوا فيها خلال عقود، وكيف جروا الشعب لطريقٍ مسدود ووضعوا المنطقةَ على حافةِ بركانٍ هتلري.
إن كبارَ ناشطي إيديولوجية الليبرالية الدينية، وأحياناً تُطرح بأسم(اليسار الإسلامي)، كموسوي هم أكثر الناس الذين تعرضوا لفشلِ مشروعِهم السياسي رغم إنهم على رأسِ السلطة وأيدتهم جماهيرٌ غفيرة، بسببِِ أن ليس لديهم مشروع ديمقراطي حقيقي، ولا يزالون يناورون ويتذبذبون بين الإقطاع والليبرالية، بين فهمِ الإسلام بشكلٍ دكتاتوري، وفهم الإسلام بشكلٍ ديمقراطي علماني، بين تبعيتهم للقطاعِ العام الشمولي وبين تقزيمِهم للقطاعِ الخاص المُحَّاصر، بين تأييدِهم تأييدهم لنظامٍ سياسي ديني محافظ شمولي وتلعثمِهم بنظامٍ ديمقراطي علماني حر.
أما القيادي البارز والمثقف الذي تتبعنا كلماته المبهمة وشعاراته المتذبذبة (بهزاد نبوي)، فقد عُذب وحُكم عليه بالسجن لمدةِ خمس سنوات.
وهذا كله بسببِ أن هؤلاء المثقفين دخلوا في جوفِ السلطةِ الدينية الشمولية وأرادوا تغييرَها بذلك الشكل المتذبذب، وخلقوا ثغرةً في صفوفِها، وحاولوا توسيعَ الثغرةِ فحدثَ الهجومُ المعاكسُ ضدهم حين اقتربوا من مفاتيح السلطة الحقيقية!
إن إيران وهي تمرُ ككلِ دولِ الشرق في التحولِ والتنمية والاستقلال مضتْ تسيرُ بصعوبةٍ من الإقطاع للرأسمالية، ولعبَ جهازُ الدولةِ دورَ القيادة، وتجسدَ ذلك عبر توسعِ الملكيةِ العامة، التي تظلُّ خاصةً للطبقةِ المسيطرة، فهي أسمياً تعودُ للشعب، ثم قامَ المذهبُ الديني بتجاوزِ الدولةِ ولعبَ دورها، فوقعَ الكائنان المادي السياسي والإيديولوجي في صراعٍٍ حادٍ متشابك، وهو ما كان يتجنبُ الوقوعَ فيه الآياتُ العظمى.
المذهب لدى آيات الله العظمى يغدو محافظاً معبراً عن هيمنةِ الإقطاعِ بشكلٍ واسعٍ، لكن تجري فيه عمليات تغيير موائمة مع العصر ببطءٍ شديد، ويغدو كما قلنا أقرب للواقعية السياسية وللعلمانية، لكن الثورة أبعدتْ الآيات العظمى، ونزلتْ البرجوازيةُ الصغيرةُ تقودُ الحياةَ الإيرانيةَ بشكلٍ عاصف.
إن دخولَ هذه الطبقة للصراعِ الاجتماعي لا يعني القطع المطلق مع وعي الآياتِ العظمى، خاصةً في مجالاتِ الرؤيةِ الاجتماعية لأحوالِ الأسرةِ وقيمِ وتاريخِ المذهب وللمبنى الفكري عامة، لكنها تقتحمُ الميدانَ السياسي وتطرحُ مقولاتٍ إيديولوجيةً جديدة، بعضُها ينبعُ من المذهب وبعضُها لا ينبع.
ومع سيطرة هذه الطبقة على جهاز الدولة، تكون قد جمعتْ بُنيتي الإقطاعِ والرأسماليةِ معاً، لكنها ليستْ رأسماليةً على الطراز الحر الغربي، بل على الطرازِ الشرقي الحكومي الاستبدادي، فهي تقومُ بالسيطرةِ على حراكِ الناس الاجتماعي وأحوالهم الشخصية والعقلية، فتغدو إستبداداً إقطاعياً، وهي في ذات الوقت تبني إقتصاداً رأسمالياً حكومياً وهذا يخلقُ ليبرالية بحدودِها الدنيا؛ شركات عامة وخاصة وعلاقات بضائعية ورأسمالية تتغلغلُ في الحياة المُهيَّمن عليها من قبل الدينِ المحافظ المؤدلجِ لخدمةِ الطبقةِ المسيطرة، فهذا الحراكُ المزودجُ المتناقضُ بين الإقطاع والرأسمالية، يخلقُ مجموعةً كبيرةً من الصراعات داخل الطبقة الحاكمة وداخل النظام.
هنا يحدث صراعٌ كبيرٌ على الفائض الاقتصادي بدرجةٍ أساسية، فنرى موجةَ رفسنجاني بفترتي رئاستهِ تنتجُ الفئات الأولى الكبيرة المستفيدة، وتنحي الفئات البرجوازية الصغيرة التي شاركتْ في إنتاجِ فكرِ الثورة وعملها على الأرض وقدمتْ التضحيات وتصعدُ القوى الأكثر غنى والأشد قوة.
و(خطُ الإمامِ) يعني خط هذه البرجوازية الصغيرة المتذبذبةِ بين الإقطاعِ والرأسمالية، بين القراءةِ الدينية المحافظة وبين الحداثةِ، بين الاستبداد والحرية، بين هيمنةِ القطاع العام الكلي وبين حرية القطاع الخاص، بين القومية المتعصبة وبين الأممية الإسلامية والإنسانية، بين قمع الشعب وإطلاق سراحه، بين النصوصية والعقلانية بين اليمين واليسار، بين هيمنة العسكر وإنتصار الديمقراطية.
إن الصراعَ على الفائضِ الاقتصادي يتجسدُ في الأولوياتِ المحددةِ للقطاع العام. ففي فترةٍ تكونُ الأولويةُ لتنميةِ القطاعِ العام الاقتصادي الكبير والقطاع العسكري، وهي الفترةُ التي صعدَ فيها ما يُسمى بـــ(اليسار)، لكنها الفترة التي صعدت فيها الفئاتُ البرجوازيةُ الكبيرة داخل النظام ويمثلها رفسنجاني، وجاءتْ فترةٌ أخرى يمثلها خاتمي، وهي عودةِ لتيارِ البرجوازية الصغيرة المتشكل من اليساريين والليبراليين الدينيين وهي الجماعات التي نُحيت في فترة رفسنجاني والتي دخلت السنوات الأولى للثورة بشكلٍ حماسي حادٍ وشاركتْ في دعائمِ النظام من شرطةٍ سرية وبناء دعائي ديني مطلق ثم أكتوتْ بما أسستهُ حين تطور وعيها نحو الليبرالية.
هناك تداخلٌ بين هذه الفئاتِ الوسطى والصغيرة من الطبقةِ الحاكمة، فموجةُ النمو الاقتصادي الرأسمالي الحكومي وسعَّت العلاقات التجاريةَ والثقافية بالغرب، وحصل تطورٌ كبيرٌ للعلاقاتِ البضاعية والمالية الرأسمالية، مما يعبرُ عن توجيهِ جزءٍ مهمٍ من الفوائض الاقتصادية نحو البناء السلمي.
وهذا التصاعدُ للعلاقاتِ الرأسماليةِ من جهةٍ أخرى يولدُ مشكلاتٍ كبيرةً للجماهير الشعبية عبر تصاعدِ نفوذ الأغنياء والمؤسسات الاستغلالية المختلفة، مما يجعل هذه الجماهير تبحث عن (الإشتراكيين) واليسار الديني وهذا مايستغلهُ اليمينُ المتطرف!
بين اليمينِ الكبيرِ عند رفسنجاني واليمينِ الصغير عند خاتمي نمتْ العلاقاتُ الرأسماليةُ التحديثية، وراحتْ تضربُ القيدَ الإقطاعي بدون نجاحٍ في إزالتهِ، لكونها قامتْ على أسسهِ الفكرية والسياسية.
إن العلاقات الرأسمالية مربوطةٌ ومحكومةٌ بالهيمنةِ السياسية الإيديولوجية الإقطاعية، فالمضمون الاجتماعي المتصاعد يصطدمُ بالشكلِ المعرقل.
إن الشكلَ المعرقل يتجسد في الدستور، وهيمنة المرشد، وفي الإيديولوجية البرجوازية الصغيرة المتناقضة، وفي البرلمانية المنسوجة على قامةِ الطبقة الحاكمة، وفي شعارِ ولاية الفقيه، والعداء للغربِ الديمقراطي والاشتراكية.
وفي الجوهر يعبرُ ذلك عن سيطرةِ رجالِ دينٍ محافظين خائفين من الحداثةِ يتمسكون بالماضي الإقطاعي حيث الذوبان الكلي للجمهور في هيمنة السلطة، ولكن الحداثةَ تفككُ هذه الهيمنةَ وتحررُ العمالَ والنساءَ والعقولَ من النصوصية الحرفية، دون أن تخرج عن الحضور التاريخي للمذهب بطبيعة الحال لكن قصر النظر الإيديولوجي يتوهم ذلك، فلا يستطيع رجلُ الدين التقليدي أن يتطور فكرياً وفقهياً، بدون أن يتركَ السلطة السياسية فخروجهُ منها يمثل تطوره لكنه لا يعي ذلك ويقاومهُ لأن القضيةَ غدت قضية طبقة لا قضية شرائح إجتماعية، ومن هنا يصارع الليبراليين الذين هم معه في السلطة لأنهم يزحزحونه منها فيطردهم ثم يقمعهم.
لا بد من تحديد الوجوه والدلالات الحقيقية للإصلاحيين ومنافسيهم المحافظين في إيران، من أجل وضوح الرؤية وتجاوز هذا الصراع بين الليبرالية والإقطاع، وهو صراعٌ يعيشه كلُ المسلمين، حسب درجاتِ تطورِ بلدانهم، وتقومُ الرأسمالية الحكومية بتصعيدهِ إلى مستوياتٍ جديدة حسب القوى المتنفذة على أجهزة السلطة.
لقد رأينا موجتي الليبرالية الحاكمة في إيران عبر هاشمي رفسنجاني وخاتمي، والفروق بينهما وهي فروقُ سنواتٍ مهمةٍ في عمرِ الثورة المتصارعة في تركيبها المعقد المتناقض، لقد تم في السنوات الأولى إبعاد قوى الليبرالية الدينية غير الواعية والمتحمسة للدكتاتورية الدينية في البداية، ثم راحتْ تبحثُ وتستقلُ برؤيتِها وتصارع القوى المحافظة في نقاطٍ معينة مهمة، ثم دخلت السلطة ثانية وحاولتْ تجريبَ مصطلحاتِها الحداثيةِ الدينية المأزومة.
ونتعرفُ هنا أولاً على آراء السيد بهزاد نبوي، وهو شخصيةٌ مهمةٌ من شخصياتِ الليبراليين الدينيين، شَغلَ مناصبَ حكوميةً مهمةً وصار رئيسُ البرلمان في فترةٍ سابقة، ونائبُ رئيسِ الحكومة في الثمانينيات والتسعينيات، وكان من نفسِ موجةِ الحدة العاطفية في بداية الثورة وفي موجةِ إعتقال الرهائن الأمريكيين في السفارة ولعبَ دوراً في المفاوضات لإطلاق سراح الرهائن ثم صارَ خصماً للمحافظين وأُودعَ السجنُ أخيراً في أحداثِ الثورة الخضراء.
اعتمدت آراؤه على الثنائية المتصارعة، أي الثنائية الدينية الليبرالية، غير المكتملتين المتضادتين، يقول:
(والشعار الثاني الذي تبنتهُ الثورةُ هو شعار «الحرية» ويعني، الحرية السياسية والاجتماعية وحرية التعبير والصحافة في إطار الدستور. إننا نؤمنُ بالدستور ونحترم أصوله. فلهذا نعارضُ ولا نقبلُ بوجهة نظر أولئك الذين يضعون الحرية والهرج والمرج في خانة واحدة. إن الحرية التي يطالب خاتمي والاصلاحيون بها هي الحريات المصرح بها في الدستور.)، من مقابلة فكرية لجريدة الشرق الأوسط،(9 يناير 2004).
تعتمدُ نضاليةُ الإصلاحيين داخلَ مؤسساتِ الدولةِ والمجتمع على الوثائق التي سنتها الطبقةُ الحاكمةُ، وهي التي تجعلُ الحريةَ للجماعاتِ الدينيةِ المحافظة عموماً، وتمنعُ بقيةَ القوى السياسية والاجتماعية من الترشح والفوز خاصة في المؤسسة البرلمانية.
وبهذا فإن بهزاد نبوي يعملُ في هذه الدائرة، وبهذا تغدو الحرية طبقيةً ضيقة ومصطلحاتها من مصطلحات الطبقة المسيطرة. يعتمد وعي السيد بهزاد على التعميماتِ الفكرية الغائمة مثل الثورة، والدستور، والثورة الإسلامية، والشعب.
فأي ثورةٍ يتحدثُ عنها؟ أهي ثورةُ الشعب العادية التي سيطرت عليها الطبقةُ الدينيةُ وكرستها لمصالحِها؟ وأي إسلام يتم الحديث عنه؟ أهو إسلامُ الأغلبية الشعبية أم إسلامُ النخبِ الحاكمة الإستغلالية؟ يقول:
(وخلال سنوات الحرب وبسببِ الظروفِ الخاصة التي عاشتها بلادنا، ومعارضة بعض ممن كانوا يعارضون، منذ بداية الثورة تطبيقَ بعضِ الشعاراتِ لم نتمكن من تطبيق شعارات الثورة الاصلية بل حصلت انحرافات هنا وهناك. والحركة الاصلاحية لا تطالب الا بتطبيق شعارات الثورة وعدم خرق الدستور من قبل أصحاب السلطة).
لم يقم الإصلاحيون بتحديد هذه (الثورة). فماذا تريد هذه الثورة وأية قوى تريد إبعادها وأية قوى تريد تكريسها؟ إن لغة التعميميات لا توضح هذا. لقد رأينا هذه (الثورةَ) وهي تبعدُ ممثلي الأغلبية الشعبيةِ العاملةِ وتكرسُ النخبَ الدينية المعبرة عن الإقطاع الريفي بدرجةٍ أساسية، فحتى ممثلي الفئات الوسطى المدنية تم إبعادهم، والإصلاحيون يشعرون إنهم من هذه القوى الوسطى، لكنهم يتحايلون على قوى الإقطاع الممسكة بقوةٍ بمؤسسات النظام السياسية والعسكرية ويريدون تضييعَ الحدود بين الطبقات وتمييع المصطلحات؟!
لقد تعاون الليبراليون الدينيون مع المحافظين الدينيين على تشكيلِ دكتاتوريةٍ عامةٍ أقصتْ أغلبيةَ الشعبِ الثائرِ الذي رفعهم لسدةِ الحكم جاهلاً بطبيعتِهم الطبقية، ثم توهمَّ الليبراليون الدينيون إن السلطةَ غائمةٌ سائحةٌ يمكنهم من الإستيلاءِ عليها بمثلِ هذه اللغةِ المائعةِ إيديويولجياً وسياسياً.
وقد حدد الدستورُ طبيعةَ هذه السلطة الإقطاعية المذهبية القومية وهيمنتها الكلية على المجتمع. فتقومُ مفرداتُ الليبراليين الدينيين تلك بتمويهِ طبيعةِ الدولةِ العضوضة التي هي إستمرار للدول الإسلامية الإقطاعية الطائفية القديمة والحالية مع تطوراتٍ عصريةٍ في الصناعة والأكسسورات الحديثة المختلفة.
ويواصلُ السيد نبوي عرضَ أفكاره:
(إن اهتمام الثورة لم يكن مركزاً على إلتزام أو عدم التزام هذه المواطنة أو تلك بالحجاب الكامل، بل أن هناك اهتمامات أكثر أهميةً مثل صيانة حقوق الشعب وضمان إحترام السلطة للحريات القانونية للشعب.).
يريد السيد نبوي هنا أن يجزىءَ سلطة الدكتاتورية السياسية، فهل تنفصلُ السيطرةُ على النساءِ عن السيطرةِ على بقية الشعب؟ ألا يتخذ الإقطاعيون مسائلَ مثل الحجاب للهيمنةِ الكليةِ السياسية على النساء؟ وكيف يمكن تنفيذ حقوق الشعب بدون تعدديةٍ سياسيةٍ وحريات وفصل للسلطات ويتم التدخل حتى في حرية الإنسان لإختيار ثيابه؟
إن السلطةَ الشموليةَ المحافظةَ هي سلطةٌ كلية، تتجسدُ في هيمنةٍ ذكورية مطلقة، وتحدد حركية النساء وحقوقهن ولباسهن من خلال قراراتها، وهي سلطةٌ شموليةُ تمنعُ الفلاحين من إستعادةِ أراضيهم أو المشاركة بها، وهي سلطةٌ تقررُ توجيه ممتلكات الدولة حسب مشروعات الطبقة الحاكمة في كلِ حقبة سياسية.
وفي الظرفِ الذي يتكلمُ به السيدُ نبوي ويقومُ فيه بانتقاداتٍ خفيفة، ويحاولُ التعبير عن تعدديةٍ موهومة، غير موجودة، ثمة رياحٌ ليبرالية في مؤسساتِ الحكم حيث هيمن خاتمي ولغتهُ في توسيع الحريات الليبرالية المحاصرة داخل النظام، لكن ذلك لم ينجحْ وجاءت عاصفةٌ محافظة.
لهذا إذن إن الحديثَ عن العمومياتِ خاصةً في عمومية الإسلام يرتكبُ خطيئةً أصلية، حيث لا بد من القول إن الإسلام المُجَّسد عبر هذه الممارسة هو إسلامُ المسيطرين على المالِ العام وعلى رؤوسِ النساءِ وعلى أكلِ الفلاح وعلى فمِ العامل المغلق.
يتجمد وعي الإصلاحيين الإيرانيين في المسائل الحداثية الكبرى للعصر وخاصةً في مسألة العلمانية. فيقومُ بمناوراتٍ إيديولوجية وسياسية حولها.
نتابعُ أفكارَ السيد بهزاد نبوي المسئولَ السياسي الكبيرَ السابق والذي حُكم عليه بالحبسِ خمس سنوات في الثورةِ الخضراء، يقول:
(أود أن أقول أولاً بأنني لستُ من العلمانيين، بل اعتقدُ بالحكومة الدينية، ونظام ولاية الفقيه هو أحدُ وجوهِ الحكومة الدينية. في الفقهِ الشيعي هناك بعضُ الفقهاءِ وعددهم ليس كبيراً ممن يؤمنون بنظرية ولايةِ الفقيهِ وكان الامامُ الراحلُ الخميني واحداً منهم. ونظراً الى انه كان قائدُ الثورة ونظرةُ ولاية الفقيه كانت نظرتهُ حول الحكومة فإننا بسببِ إيمانِنا به وبسياساته، قبلنا بولايةِ الفقيه في إطارِها الدستوري)، السابق.
تحددُ هذه العبارة تاريخيةً مبهمةً لكننا نستطيعُ أن نوضحَ أشياءَ فيها، فتشيرُ كلماتُ الضميرِ الجماعي في (قَبلنا) وغيرها، إلى الكتل التحديثية (الثورية) و(اليسارية) و(الليبرالية) التي قَبلتْ بقيادةِ الإقطاع الديني، بعد الضرباتِ الموجهةِ للبرجوازيةِ الوطنية بعد مصدق، حيث غدا هذا الإقطاعُ هو الجسم السياسي المتنامي في حضن المجتمع والذي له تاريخٌ سابق طويل، وحاولت قيادة الخميني الجمعَ بين المحافظين الدينيين وأولئك الليبراليين الرافضين خاصة للعلمانية، وتم إلتحاقُ هذه النخبِ بهذه القيادةِ الدينيةِ التي جذبت الجسمَ الدينيَّ الواسعَ للسيطرةِ على أجهزةِ الدولة والحياة الاجتماعية.
لقد عبَّرتْ الكتلُ الليبراليةُ واليسارية واليسارية المتطرفة عن هذا الفشلِ في تثقيفِ الشعبِ وتنويرهِ وعدم إتخاذ مواقف صائبة عميقة خلال العقود السابقة، عبر إعتمادِها على نقلِ الموديلات النظرية السياسية الخارجية، والأخطر كان إعتمادُ بعضِها على العنف المسلح المغامر، مما أدى إلى حرق وتحجيم هذه الكتل على درجاتٍ مختلفة.
ولهذا كانت ولايةُ الفقيه هي تعبيرٌ عن إفشالٍ لإصلاحية آيات الله العظمى المتدرجة وقفزٌ عليها، كما أنها تذويبٌ للمنظماتِ الليبرالية واليسارية وعدم الإعتراف بها عملياً، أي هي شكلُ الدكتاتورية الإيديولوجية السياسية الحاكمة.
وبطبيعةِ الحال لا بدَ أن يكونَ هذا الشعارُ السياسي غيرَ مقبولٍ للغالبية من رجال الدين الشيعة نظراً لجرهِ إيران إلى مغامراتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ محفوفةٍ بالمخاطر كما أثبتَّ التطورُ ذلك، لكنهم لم يناقشوه ويحللوه.
ويشيرُ تعبيرُ السيد نبوي هنا إلى ذيليةِ هؤلاء الليبراليين الدينيين في العمليةِ التاريخيةِ، وقبولهم بالدكتاتورية الصاعدة، وعدم فهمهم للعملياتِ التاريخيةِ التي جرتْ للإيرانيين وللمسلمين عامة.
إن لحظةَ قيادةِ البرجوازية الصغيرة من قبل دينيي الثورة، للصراع الصعبِ المفتوحِ والمجهول تدفعُها لمقاربةِ الليبراليين، إنها لا تُظهرُ هنا في لحظةِ التشكيلِ المتلهبة كلَ شخصيتها، فهي لا تزالُ في القاع الاجتماعي ولم تتناثرْ عليها الثرواتُ بعد، وهي بحاجةٍ لهم، ويمكن أن تتقاربَ مع سماتٍ معينة كالحرية والشعب والدستور وغيرها لكنها تؤسسُ الدولةَ وبناءَها الاقتصادي، فترتفعُ الفئاتُ الوسطى الأكبر عن تلك البرجوازيةِ الصغيرة التي تجسدتْ في الأئمةِ البسطاءِ الفقراءِ، وفي المثقفين الشعبيين المضحين، ولكن حراكَ الحداثةِ لديها لا يجعلها تنطلقُ في الحرية والعلمانية والديمقراطية الحقيقية، فلجامُ الإقطاعِ يوقفُها ويضغطُ على فمِها وعقلها، فهي تنتفخُ عبرَ مؤسسساتِ الرأسمالية الحكومية التي يحددُ خطوطَها العريضةَ الإقطاعُ الديني بأهدافه.
والليبراليةُ الدينيةُ تريدُ الاستمرارَ في هذا التحول البنائي الرأسمالي الحكومي نحو الرأسمالية الحرة والانتخابات الحقيقية والديمقراطية والحريات، لكنها وقعتْ في القبضةِ العامةِ للمؤسساتِ المعبرةِ عن القوةِ الأساسية في هذه الطبقة الحاكمة وهي قوة المحافظين المعبرين عن ذلك الإقطاع الديني التاريخي الموروث الذي خنقَ الثورةَ الإسلاميةَ الأولى وشكلَّ الدولَ العضوضة على صفحات التاريخ الواسعة.
الحبلُ الأولُ من ذلك اللجامِ هو إلغاءُ العلمانية في دولةِ المحافظين، وهي المعبرةُ عن حاجاتِ الأغلبيةِ الشعبيةِ المسلمةِ خاصةً في الإنفكاكِ من «سيطرةِ» الإقطاعين السياسي والديني، الموسومة بأسم الإسلام.
يقول السيد نبوي:
(وبالطبع فان مبدأ ولاية الفقيه في الدستور يجب ألا يكون في التناقض مع بقيةِ المبادئ والاصول الدستورية. أي أن لا يأتي فوق الاستقلال والحرية والجمهورية الاسلامية. إن ولاية الفقيه التي نقبلُ بها ليستْ سلطةً فوق سلطة القانون والدستور. إن المادة 110 في الدستور حددتْ بشكلٍ واضحٍ حدودَ وابعاد صلاحيات وسلطات الولي الفقيه) السابق.
إن مبدأ ولايةِ الفقيه لم يكن في تضادٍ مع الدستور بل هو رتبَ موادَهُ لتكريسِ ذاتهِ فيه، وجعلَ الوليَّ الفقيه مهيمناً عبر مؤسساتٍ خاضعةٍ له، وهي كلها تعبرُ عن هذه البيروقراطية الدينية العسكرية المالية الحاكمة، وليستْ عن هذه التعبيرات المجردة: الشعب، والأمة والمسلمين الخ.
يفهم الليبراليون الدينيون الحقبة الراهنة كما تشاء إسقاطاتهم الفكرية، وأمانيهم الحالمة، لكن مفردات الواقع الحقيقية لها أسنان قوية سوف تعضهم بقوة شديدة.
بدأ خطُ الاعتدالِ الإصلاحي يتكسر بدءً من إبعاد آية الله حسين منتظري، لقد عبر ذلك عن تصاعدِ القوى الحكومية المتنفذة، أي جماعات البيروقراطية الاقتصادية العسكرية التي صارتْ هي المهيمنة على جهاز الدولة والمجتمع.
وفي هذا الإبعاد غدتْ المرجعيةُ السياسيةُ مرة أخرى أقوى من المرجعية الكبرى الفقهية المتخصصة، ووجهتْ الحياةَ العامةَ نحو مغامراتٍ جديدة.
لنقلْ بأن آيات الله العظمى كانت هي الحافظةُ للتطورِ التدريجي للشعبِ الفارسي المنتمي للشيعةِ ولإيران عامةً، إنها تتداخلُ مع الأنظمةِ المحافظة ولا شك، لكن مجالَ المذهب يبقى له إستقلاليته الخاصة المُصّانة والقابلة للتجديد والبحث والاجتهاد.
هي موسوعةُ المذهبِ الحافرةِ عبرَ عقودِ السنين، وتراكم الاحكام والاجتهاد والمعبرة عن شعيراتِ تطورِ الشعبِ بتراثهِ وبتناقضاتهِ ومشكلاتهِ وتخلفهِ وبحثه عن التطور والعدالة.
ولكن الجماعات السياسية المذهبية تمثلُ قفزات وشطحات وإجتهادات، تصيبُ وتخيب، وفي صوابِها مكسبٌ وفي أخطائها مشكلات كبيرة. لكونها لم تغصْ في تراث الشعب الديني مثل المرجعيات ويحركها الصراعُ السياسي اليومي، وتكتيكاتهُ المحدودةُ الرؤيةِ غالباً والخطرة، وإذا كان الفقيهُ يحتاجُ زمناً طويلاً ليُرجحَ حكماً في مسألةٍ بسيطة، فإن السياسيَّ مطالبٌ بالحكم الفوري والخطير المتقلب في قضايا مصيرية، وإذا كان ذلك متصلاً بالدين فهو يغدو مشكلةً محفوفة بالمخاطر. وهذا يعبرُ عن التضاد الكبير بين الفقه والسياسة. ولهذا كان الإمامُ الخميني رافضاً لتكوين الأحزاب السياسية الدينية لفترةٍ طويلة كما يروي الشيخُ رفسنجاني في كتابه (حياتي).
ومن هنا توجهتْ المرجعياتُ الكبرى للاحجامِ عن التدخل بالسياسةِ المباشرة، تاركةً للسياسيين الخوضَ في غمارِها اليومي المتقلب، وهي تتأنى وتدقق وتدرس، ويرتبطُ الحكمُ هنا بمصير الملايين حياةً أو موتاً!
ويرينا المرجعيةُ الكبرى السيدُ السيستاني نموذجاً في ذلك، وهو الذي يستطيع أن يزلزلَ الأرضَ بتوجيهاتٍ سياسية مباشرة.
وبطبيعة الحال فإن أغلبيةَ المرجعيات محافظة، ولكن يتشكلُ فيها بصورةٍ نادرةٍ المجددون كذلك، وعلى مدى التطورات الحاصلة في الحياةِ وفي وعي الناس، تتحددُ تلك الإنجازات الجديدة ومدى نموها داخل بُنى المذهب.
وفي الشأن الإيراني فإن المرجعيات الكبرى لم تَغبْ عن الصراع الخطير، لكنها مستمرة في العمل الذي عكفتْ عليه خلالَ عقود، وهي تمسكُ الجذورَ التحتيةَ العميقةَ للشعب، وما المؤسساتُ السياسيةُ إلا أشكالٌ مؤقتةٌ تعكس صراعات الكتل السياسية والاجتماعية المختلفة العابرة.
إن التطورات الاجتماعيةَ الفوقيةَ لم تغيرْ طابع الحياة المحافظ، لكن نظرية ولاية الفقيه أقحمتْ الدينَ في النظام الحاكم، والسياسة لا تعرفُ سوى هيمنةٍ واحدية، وهذا ورطَّ المذهبَ الرسمي الحاكم كذلك على مستوى الأحكام الاجتماعية وليس السياسية فقط، مما جعلَ قسماً من الجمهور يضجُ بالشكوى، وقد وصلت هجرة المثقفين إلى مليوني ونصف شخص من إيران إلى الغرب.
لقد برزتْ معارضةُ المرجعيات الكبرى في تصاعدِ أحكامِها الفكرية العامة. لقد قالَ بعضُ المحافظين الدينيين؛ (أن لا ولايةَ مطلقةً في غيبةِ الإمام المهدي، وأن شرعيةَ النظام الإسلامي لا تقومُ إلا بظهوره، وأن التسليمَ لنظام الجمهورية الإسلامية بالشرعية الإسلامية انتقاصٌ من الشرع نفسه).
إن النظامَ السياسيَّ عبر هذا الرأي الديني من بعض المرجعيات الكبرى، يتحولُ إلى مجردِ إجتهادٍ غيرِ مقدس، وبالتالي فإن معارضته شرعية وتغييره مفتوح، وقد إستخدمتْ هذه المرحعياتُ مفردات المذهب بدون أن تدخلَ في السياسةِ المباشرة!
هذه الأحكامُ تدخلنُا في التعدديةِ الدينية ، وهي بابٌ للديمقراطية، فلا يجوز أن يفرضَ توجهٌ ما رأيه الديني الكلي، إن الآيات العظام للمذهب تعودُ تدريجياً لمكانتِها الكبرى في الحياة الاجتماعية الشيعية، وفكرة ولاية الفقيه تتآكلُ تدريجياً في الداخل.
ومن هنا فإن الإصلاحيين الإيرانيين الذين سايروا الفكرة وروجوا لها يشعرون بالإحراج الفكري، لكن هذا ليس خاتمة المطاف، فهم لم يفهموا الفكرة كشموليةٍ سياسية، وأرادوا أن يزيلوها عملياً وينقضوها في الممارسة السياسية وهم الذين أيدوها!
يقول السيد بهزاد نبوي في الحوار السابق ذكره:
(ولايةُ الفقيهِ كما جاءتْ في الدستور لا تتعارضُ مع الديمقراطية، وكون الولي الفقيه شخصية غير حزبية لا تنتمي إلى خطٍ سياسي معين، يجعلهُ رمزاً للوحدةِ الوطنية وسيادة الشعب. وكما أن رئيسَ الجمهورية مسؤولٌ أمام الشعب، فإن الولي الفقيه مسؤولٌ أيضاً، إن قراءتنا مختلفةٌ عن قراءةِ أولئكَ الذين يعتبرون الولي الفقيه سلطاناً مستبداً يفعلُ بما يشاء ومن غير الممكن مساءلته).
يتجاهل السيد بهزاد هنا المعاني الحقيقيةَ للدستور الإيراني، الذي يجعل من الولي الفقيه الحاكم الأساسي الذي يشكلُ الطبقةَ الحاكمة بتكويناتِها المختلفةِ المتغيرةِ عبر تنامي الصراع الاجتماعي، فهو الرئيسُ أو الحاكم المطلق كما يجري في العالم الثالث، والذين يختارونه يتم تعيينهم من قبله في الدورة الثانية كما هو الفقيه الولي الراهن، ولنقلْ بأن الشمولية في الطبقة تصاعدت عن السنوات الأولى، مع تنامي غنى وعسكرة الطبقة الحاكمة، حتى لم تقبل بمرجعيات أكثر علماً بل بالمرجعية الأكثر تعبيراً عن أقسام الطبقة الحاكمة المركزية. ومن الممكن أن يتحولَ منصبُ الولي إلى منصبٍ متوارث، لأن الجمهوريات تتحولُ إلى مَلكيات في العالم الإسلامي.
سنرى إن الاستبداد الذي ينفيه السيد نبوي يُطبقُ عليه، هو نفسه، وإن ولايةَ الفقيه ليست فقهاً فقط بل حكومة سياسية صارمة.
ما هي أسباب إنهيار التحالف بين الدينيين الشموليين والليبراليين الدينيين الإيرانيين في إيران؟
لماذا لم تستطع شعارات الليبراليين هؤلاء باعتماد العقلانية وتطوير الحريات أن تتوسع ثم أن تنتصر؟
كان التحالف لا يستند على أسس موضوعية، أولاً من حيث الوعي بالإسلام الذي تشكل لدى الحركة الليبرالية الوطنية في إيران خلال العقود السابقة.
فهم كانوا أنفسهم جزءً من البنية الاقطاعية الفكرية، فلم تستطع المذهبية الاجتماعية السياسية أن تغير ما جرى خلال الألف السنة السابقة من حياة المجتمعات الإسلامية، بالهيمنة المطلقة للرجال على النساء، والهيمنة المطلقة للحكام على المحكومين، وهيمنة الإقطاع الزراعي على الفلاحين، وهيمنة النصوص المحافظة الدينية على إمكانيات العقلانية.
قامت القوى المحافظة السياسية على مدى قرون بتجميدِ حالِ المسلمين، ولم تقمْ القوى الليبراليةُ الصغيرةُ الإيرانية في القرن العشرين بتشكيلِ تيارٍ هامٍ عميق بين الجمهور، من حيث الاصطفاف مع الحداثة وقسماتها الجوهرية وهي العلمانية والديمقراطية والحرية والعقلانية، وتعكزتْ على الوعي الديني المحافظ، وذلك بطبيعةِ الإنتاجِ المادي الإيراني وبسببِ ضعف المُلكيات الخاصة الصناعية، وكانت قسماتُ الفئاتِ الوسطى تجاريةً كاسحة، وكان صوتُ (البازار) هو الداعم لرجالِ الدين المحافظين.
وحين إنتصرت الثورةُ الشعبية تم توسيع المُلكية الحكومية المتعددة الوجوه وهيمنتْ على الاقتصاد الوطني، وعمقتْ في جزءٍ كبير منها الوعي الديني المحافظ في حين كان الوعي الليبرالي التنويريي لدى رفسنجاني وخاتمي مُحاصراً ولا يقوم على أسسٍ علمانية، مثل المُلكية الصناعية التي غدتْ في أيدي البيروقراطية الحكومية وجاء التخصيصُ في بعض الجوانب لصالحِ هذه البيروقراطية وإستيلائها على الثروة العامة.
هكذا لم توجدْ برجوازيةٌ صناعيةٌ حرة، وتم الهيمنة على العمالِ من قبلِ نفس المُلكية العامة والشرطة، ولهذا وجدَ الليبراليون أنفسَهم بلا قواعد ماديةٍ وإجتماعية تستطيع أن تطورَ مفردات الحداثةِ والحرية والعلمانية داخل السلطة الدينية. وبدا عجزُهم الاقتصادي متجسداً في ضعفِ مصطلحاتِهم السياسيةِ المتذبذبة، ومع تضخمِ الطبقةِ المسيطرة وأجنحتِها العسكرية خاصة، حدث هجومٌ معاكسٌ على بذورِ الليبرالية، فنمو الحريات السياسية والفكرية والاجتماعية يعني إنهيار سلطتها.
ومثَّلتْ معركةُ الانتخاباتِ الرئاسية ذروةً للصراعِ بين الجناحين، والتي تمتْ في ساحةِ ذاتِ الطبقةِ وبمصطلحاتِها وبأدواتِ سلطتِها وتشريعها، وبالتالي فإن الجناحَ الليبراليَّ الديني لا يَقدرُ أصلاً على نقضِ النظام المحافظ الإقطاعي ورأسماليته الحكومية العسكرية الخطرة، فهو مشاركٌ في غنائمِ هذه السلطة، وهو واقعٌ في ثقافتِها، التي لا يمكن أن تتشكلَ بدون نضالٍ صناعي مستقلٍ حر وبنشؤِ طبقةٍ صناعيةٍ حرة وبقطاعٍ عام سلمي مُسيطر عليه من قبل الشعب وبوجودِ عمالٍ أحرار.
وبالتالي فإنه ليس أن مفرداتِ هذه الليبرالية الدينية متناقضةٌ وفاشلةٌ وعاجزةٌ عن تنامي تجذرِها في الواقعِ وإستقلالِها عن ثقافةِ الإقطاع والتعبيرِ عن برجوازيةٍ حرة، وعن شعبٍ حر، بل أن أجسادَ هؤلاء الليبراليين الدينيين ذاتها معرضةٌ للقتل والسجن ومختلف أنواع التصفيات.
فالعديدُ من الليبراليين الدينيين بدأت قوى القمع تستأصلهم، فسيد مصطفى تاج زاده تم تلفيق تهم له كي لا يترشح للانتخابات وهاشم آقاجري أُعتقل على أساسِ الإساءة للدين. ونستطيعُ أن نأخذَ المثقفَ الليبرالي الديني البارز سعيد حجاريان الذي كان من مؤسسي جهاز المخابرات بعد الثورة! وأشتغلَ بنشاطٍ كبير في فاعلياتِها، ثم غيّرَ تفكيرَهُ وأدانَ التجاوزات وعمليات التعذيب وقمع المناضلين التي يقوم بها زملاؤه، فُسددتْ رصاصةٌ إلى رأسه!
وهناك المئاتُ من هؤلاء الدينيين الليبراليين الذين أنهالتْ على رؤوسِهم العصي، وأُجبروا على إعترافاتٍ خسيسة تعودُ بنا لزمن محاكم التفتيش، فأكتشفوا ثقافةَ التلفيق التي وقعوا فيها خلال عقود، وكيف جروا الشعب لطريقٍ مسدود ووضعوا المنطقةَ على حافةِ بركانٍ هتلري.
إن كبارَ ناشطي إيديولوجية الليبرالية الدينية، وأحياناً تُطرح بأسم(اليسار الإسلامي)، كموسوي هم أكثر الناس الذين تعرضوا لفشلِ مشروعِهم السياسي رغم إنهم على رأسِ السلطة وأيدتهم جماهيرٌ غفيرة، بسببِِ أن ليس لديهم مشروع ديمقراطي حقيقي، ولا يزالون يناورون ويتذبذبون بين الإقطاع والليبرالية، بين فهمِ الإسلام بشكلٍ دكتاتوري، وفهم الإسلام بشكلٍ ديمقراطي علماني، بين تبعيتهم للقطاعِ العام الشمولي وبين تقزيمِهم للقطاعِ الخاص المُحَّاصر، بين تأييدِهم تأييدهم لنظامٍ سياسي ديني محافظ شمولي وتلعثمِهم بنظامٍ ديمقراطي علماني حر.
أما القيادي البارز والمثقف الذي تتبعنا كلماته المبهمة وشعاراته المتذبذبة (بهزاد نبوي)، فقد عُذب وحُكم عليه بالسجن لمدةِ خمس سنوات.
وهذا كله بسببِ أن هؤلاء المثقفين دخلوا في جوفِ السلطةِ الدينية الشمولية وأرادوا تغييرَها بذلك الشكل المتذبذب، وخلقوا ثغرةً في صفوفِها، وحاولوا توسيعَ الثغرةِ فحدثَ الهجومُ المعاكسُ ضدهم حين اقتربوا من مفاتيح السلطة الحقيقية!
Published on January 08, 2020 12:19
January 7, 2020
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : العمل والعمال والمصنع
العمالُ والطائفيةُ: أثرُ القومية
تخلخلُ الطبقاتِ العاملة في المنطقة واكبهُ نمو الثروة النفطيةِ بتغيير أسعارها ولعبَ ذلك دوراً رئيسياً في التحولات سواءَ كان نمواً إصلاحياً أو اضطرابات سياسية.
لقد قادت منطقةُ الشام ومصر الدولَ العربيةَ في عمليةِ النهضة الليبرالية القومية التي توقفتْ بسبب سيطرة الموديلات العسكرية الشمولية.
وبهذا فقد بدأت منطقةُ العراق والخليج وإيران بقيادةِ المشرق، والتي كانت أقلَ تطوراً اجتماعياً وسياسياً، وذاتَ جذورٍ مذهبية سياسية لم يتم تجاوزها، ومن خلال مستوياتٍ مختلفة فيها.
هذه المنطقةُ لم تستطع عبر تاريخِها السابق أن تصعدَ الوعي القومي – الوطني لكي يكون بديلاً عن الوعي الطائفي السياسي، فظهر ذلك في إيران وأجزاء من العراق بشكلِ المذهبية الشيعية، وفي العراق والجزيرة العربية بشكلِ المذهبية السنية.
ونظراً للضعف الديمقراطي الاجتماعي السياسي الطويل في هذه المنطقة فقد قامت الدكتاتورياتُ بحرق المراحل لقفزاتٍ فوضوية تقود إلى الوراء، وذلك عبر مغامرات البعث العراقي والحزب الجمهوري الإيراني، وقد مثلتْ هاتان التجربتان هزاتٍ عنيفةً وخلخلتْ الأنسجةَ الوطنية الخفيفة التي كانت تُغزلُ خلال عقود.
الوعي القومي الفارسي أو الوعي الوطني القومي العراقي لم يُجابْهَ واقعَهُ بموضوعية، ولعبتْ الشمولياتُ الحكومية، وخاصة المَلكيات المنتفخة بذواتها وبمحدودة الرؤية السياسية الاجتماعية لها بحيث اعتبرت نفسَها الكلَ المنقذ المهيمن وقتذاك، أدوارَها في تسلمِ فئات البرجوازية الصغيرة العسكرية والدينية المغامرة الأمورَ في دولتين هامتين في المنطقة التي صعد دورُها بفضل الثروة النفطية، فالمَلكياتُ في إيران والعراق لم توسع قواعدَها وتتحالف مع البرجوازياتِ الوطنية والقوى العمالية الديمقراطية، وتركت للقوى المغامرة التلاعبَ بمشاعر الشعوب القومية والدينية، وحين قفزتْ هذه إلى السلطات اتضحَ خواؤها الفكري السياسي وغيابُ البرنامج التحديثي الديمقراطي، مما أدى إلى توسع المغامرات الكارثية على الشعوب وإلى الصراع بينها، وإشاعة الكثير من التمزق بين المسلمين، والقضاء على بذور التحديث الوطني في الجماعات السياسية في المنطقة، بحيث كسرت الطائفيةُ صلابةَ التنظيمات القديمةِ التي حوتْ بعضَ البذور العقلانية الوطنية وصعدتْ بتوسع في التنظيمات الطائفيةِ الجديدة التي أعادتْ طريقة القوميين الفوضوية الخمسينية العتيقة من حيث التنظيم الهلامي والفكر الغائب واستخدام العنف.
التنظيماتُ الهلاميةُ التي تضم بفوضويةٍ بعضَ العامة والمهمّشين والصغار تعبيرٌ عن ضرب الوعي السياسي العقلاني واستخدام المؤامرات وتوجيه المجتمعات نحو المزالق والقفزات، ولكن جرى ذلك في بلدان تفجرت الثروة فيها، عبر استغلال المناطق الفقيرة وفقدان التربية السياسية الديمقراطية.
لم تستطع إيران والعراق فهم وإدارةِ الهدف القومي أو الوطني لهما، فالُبنى العائدةُ إلى العصور الوسطى، والمتجسدةُ في كثرةِ الجماعات القومية ذاتِ المظهر الديني، وبغياب ثقافةٍ ديمقرطية نهضوية تشكلها وتحدثها، جعلتهما يتوجهان إلى الحلولِ العسكرية لتجاوز تلك الاختلالات العميقة. ولكن هذه الحلول فجرتْ الكيانين بحراكِ هذه الجماعات الطائفية التي هي مظهرُ الوعي القومي العقلاني الغائب، وفي إيران تم لجمُ هذا الصراعَ بعنفِ الجيش وفي العراق تفجرّ هذا الصراع بغيابِ الجيش.
وقد قام المجتمعان الإيراني والعراقي خاصة مع تقاربهما بنشر الطائفية السياسية وكان لها أثرٌ كبير، وخاصة داخل المجتمعات الأقل منهما تطوراً تاريخياً، وكما تضررت الطبقاتُ العمالية، وخاصة في المجتمعين من مسار التطور نحو الفاشية، حيث فقدت أرواحَها وأعمالها وهاجرت بالملايين خارج البلدين، فقد تم استغلال السكان بظروفٍ مادية أسوأ، وبتحويل المنشآت الاقتصادية إلى معسكراتٍ حربية، وجلب عمال أجانب بأجور أدنى وبغياب مختلف الحقوق، بل تم تجنيد بعضهم في الأعمال الحربية.
كما حولت القوى المتنفذةُ الاستغلالية المذاهبَ إلى أداةِ تفكيكِ لصفوف العمال والناس، ولم تكتفِ بذلك بل واصلت مشروعاتَها العسكرية الخطيرة نحو امتلاك القنابل النووية وجلب القوى الغربية العسكرية للمنطقة.
وأثر ذلك على منطقة الخليج بتعميق الطائفية السياسية وبتر العلاقات بين الأمم الإسلامية، ولم توجد في منطقة الخليج والجزيرة العربية سياسات بعيدة النظر تستوعبُ مدى مخاطر التحولات في الدولتين المجنونتين في مساريهما السياسيين، لتغييرِ أحوال الطبقات العاملة وخلق سياسات اقتصادية عقلانية بعيدة النظر تصعدُ الانتاج الوطني عبر المؤسسات الوطنية والعمال الوطنيين والعرب.
لهذا فإن الجنون الطائفي السياسي تسربَ من هذه الاختلالات فتوجهت الموارد إلى الاستهلاك الواسع الحكومي والبذخي وتناقصت الأجور الفعلية مع التصاعد الجنوني في الأسعار والإيجارات، والتوسع الهائل في المؤسسات الاقتصادية المختلفة غير الانتاجية والمعبرة عن فئاتٍ صغيرة في أغلبها، والتي جلبت عمالاً أجانب بأجور متدنية طردت العمالَ الوطنيين وإمكانيات زيادتهم.
العمالُ والطائفية: إبعاد التحديثيين
نشأت مؤسسةُ المصنع في العالم العربي الإسلامي بشكل غير تاريخي متدرجٍ ممتد في الشبكة الاجتماعية الثقافية، بل كطفرةٍ داخلية واستيراد، فخضعت للخيارت الذاتية للأفراد والجماعات والدول.
اعتمدت هذه المؤسسةُ على العلاقة الصراعية التعاونية بين الرأسماليين والعمال، وعبرتْ عن انتقالها من التعسف والاستغلال المطلق إلى التعاون والديمقراطية الاقتصادية والسياسية، وعبرت عن تاريخ غرب أوروبي خاص، احتاجَ لعقود طويلة ليتجذر في غرب أوروبا نفسها ثم انتشر بصعوبة في بقية الغرب.
نشأةُ المصنعِ في المشرق العربي الإسلامي نشأةٌ مختلفة، ولم تكن تحولاً استراتيجياً حتى ظهر المصنعُ بشكل مصنع تكرير النفط.
ظهورُ المصنع في المشرق بهذه الصورة كان علاقة صراعية تعاونية مع الغرب، تمثلت به ما ظهر في نشأة المصنع في الغرب والتسلسل التاريخي له من تعسفٍ واستغلال ساحق حتى وصل الى تعاون ديمقراطي.
لكن الجماعات السياسية المشرقية لم تفهم هذا الحضور الثنائي الصراعي، فقد تصورتهُ ملكية أجنبية على أرضها في البداية ثم تصورتْهُ ملكيةً وطنية خالصة لمن يسودُ الدولَ المشرقية المستقلة.
هذه الخلية الانتاجية المهمة التي اسمها مصنع التكرير واكبتها خليتان أخريتان هما الحزب الرأسمالي والحزب العمالي.
لقد أعطى مصنعُ التكرير وهمَ العلو والطيرانِ على الواقع المتخلف، فخلال ومضة من عمر الزمن كان المالكون له قادرين على امتلاك السيارة والقطار والطائرة والتحليق في الفضاء السياسي.
لقد توهموا الحداثةَ والمساواة مع مكتشف النفط ومستخرجه ومصدره ومستغله أبشع استغلال حينذاك وهو الذي يمتلكُ شبكةَ التصنيع والتحديث والمواصلات والعلوم.
إن التحولات المفاجئة التي خلقتها فوائضُ النفط أوهمت الخليةَ الرأسماليةَ المبكرة إنها قادرة على المغامرة السياسية، سواء بتأميم النفط أو بتحرر البلدان من الغرب. تجلى هذا في روسيا ولدى مصدق أو في العراق. وقد تحول الوهمُ لديها إلى كوارث وطنية.
كما تحول ذلك في الخلية العمالية إلى وهم آخر هو إمكانية التخلص من الرأسماليين، وهذا قاد الى صناعة إيديولوجيات الطيران السياسي فوق الخرائط الموضوعية.
المصنعُ الغربي الذي تجاوز الثنائيةَ الصراعية المطلقة بعد عقودٍ طويلة احتاج لشبكات اقتصادية واجتماعية وتعليمية كثيفة لم تتشكل إلا من خلال الصراعات العنيفة بين طبقتي الانتاج، لكن العلاقات التي تطورتْ ديمقراطياً أتاحت تجنب الحروب والخسائر البشرية المنتجة وتلاشي الثروة المادية.
ولكن المصنعَ المشرقي النفطي خاصة اعتمد على التحليق فوق الظروف معتمداً على الوفرة المالية التي يتيحها معملُ التكرير الذي لم يستطع أن ينتج مصانع حقيقيةً مغايرة للنفط ومشتقاته، بل واصل امتداده في مصانع خامات له، معبراً بهذا عن عدم قدرته على خلق ثورة صناعية حقيقية، وجسّدَ توسعاً استهلاكياً ورساميل عقارية ومصرفية وخدماتية متسربة للأمان المالي وتاركةً الوطن العربي في جوع تنموي.
الطبقات التي تملكتْ معامل التكرير أزاحتْ الرأسماليين والعمالَ معاً، وتوجهت الفوائضُ لجوانب تحديثية مظهرية، وراكمت الطبقاتُ الرأسمالية البيروقراطية الفوائضَ لديها ولم تعد لقوى الإنتاج أي للرأسمالية الخاصة والعمال، وأنتجت حشوداً من البرجوازيات الصغيرة التي اعتقدت قدرتها الكلية وازاحت كل القوى وبهذا تتالت المشروعاتُ السياسية القومية والشيوعية والطائفية أخيراً الكاسحة.
لم تعد الفوائضُ لهياكل الإنتاج وتضخمتْ الجوانب الاقتصادية الاجتماعية الثانوية، فثمة ملايين المتاجر للاستهلاك ولا مصنعاً واحداً لصنع سيارة أو طائرة.
بتهميش الطبقتين المنتجين الرأسمالية والعمالية تم تكرار الوعي الطائفي الذي يكرسُ البقاءَ في العصر الإقطاعي بما فيه من تفتيت البلدان والجماعات والأحزاب والطبقات.
ولهذا يشكل الوعي الطائفي السياسي الأخير الراهن محاولة أخرى لإبعاد التحديث الديمقراطي العلماني وفرض شموليات طائفية محافظة، ولهذا يلعب النفطُ أو مؤسسةُ تكريره دور تصعيد هذه الجماعات وإشاعتها ودعم فصائلها من فوائض النفط والغاز، بقصد الحفاظ على الطابع المحافظ للدول العربية الإسلامية وعدم انتقالها للحداثة الحقيقية.
إن مؤسسةَ التكرير النفطي لم تجعل المصنع رائداً واسعاً تحويلياً وبالتالي رفضت حضور الطبقتين المنتجتين وغذت وعيهما بالأوهام، والكرة التاريخية في ملعبهما وبضرورة استعادة دوريهما.
العمال والطائفية: ظرف عام
يُفترض أن تكون الطبقات العاملة هي أكثر القوى الاجتماعية ابتعادا عن مزالق التعصب القومي والشمولية الطائفية المحافظة، ولكنها انزلقت كغيرِها من القوى الاجتماعية في نفس المسار الذي عقّدَ وأسَّن وطيَّف التطورَ الوطني الديمقراطي في كل بلد عربي إسلامي.
إنها قوى تعيشُ في ظروف قاسية وفي أعمال بسيطة خاصة عمال القطاع الخاص، حيث كثرة متنوعة من المؤسسات التي تعمل في مستويات مختلفة، وبإرادات كيفية في مسائل الأجور وظروف العمل.
إن تعقد مسارات التطور السياسي الاجتماعي في بلداننا وخاصة دول الخليج والمشرق العربي الإسلامي عامة يتمثل في عدم نضج التطور التاريخي السياسي، وغياب النضج هذا هو الذي أسّس قواعدَ الرجوع المتعثر للماضي.
تكوّن الطبقتين المحوريتين في الديمقراطية الحديثة وهما البرجوازية والعمال جُوبه بعقباتٍ اقتصادية واجتماعية وثقافية كبيرة، فزمنُ الاستعمار شهد صعود هاتين الطبقتين بحكمِ جوانب الليبرالية التي أشاعتها الدولُ الغربيةُ للهيمنة على المواد الخام المتوجهة إليها، رغم رثاثة أوضاع الشغيلة في المؤسسات النفطية والاقتصادية الأخرى، والتي كانت تقبلُ أي أجور متدنية وهي النازحة من الأرياف الفقيرة والمهن البحرية والحِرفية المختلفة وبلا تجارب نقابية وسياسية، لكن كانت تتواجد جوانب من الحريات التي ساعدت على تطور الوعي النقابي والسياسي المحدود، فقد كانت الدول الغربية تريد من الدول العربية والإسلامية نسخَ تجربتِها لكن بدون توفير أسسها الموضوعية سوى فتاتٍ منها.
توفير الأسس التحديثية الغربية من صناعات متطورة وقوى اجتماعية منبثقة منها، وحريات مواكبة، هو هدفٌ ظلَّ مثل السراب في حين كان الواقع هو العودة للوراء، والمضي نحو المجتمعاتِ التقليدية الطائفية! والأخطر نحو المجتمعات الدينية المتقاتلة ضد بعضها بعضا كما يجري حالياً!
وهكذا قامت الانقلابات العسكرية والأيديولوجية بتزييفِ الوعي الثوري، وإحلال الماضي الطائفي بديلاً عن المعاصرةِ العلمانية الديمقراطية، فكانت الانقلابات تنحدر نحو الطوائف عبر رفض الحكومات المختلفة المنبثقة منها أو المختلفة معها، للنموذج الديمقراطي العَلماني، فالحكومات عبرت عن قوى ارستقراطية عليا في طوائف غدتْ هي روابطُها وقلاعها في ظل رفضها للنمو الديمقراطي العصري، ووجدت نفسَها بتفاقم امتيازاتها وتراكماتها المالية غير قادرة على الديمقراطية، فكان أن شجعتْ القوى الطائفية للعمل السياسي الواسع، أو أن العسكريين الكبار تحالفوا مع رجال الدين الكبار من أجل حَرف التطور السياسي نحو ضباب اجتماعي يُصعّدُ الصراعَ الحربي بين الأمم والقوميات الدينية المختلفة بدلاً من عقلانية الصراع السلمي الديمقراطي الداخلي.
كان العمال أكبر الضحايا من جملة التطورات العاصفة، فارتفاع قيم وسائل المعيشة المختلفة، ساير الازدهار الزائفَ للعولمة، حيث كل السلع الجديدة معروضة إضافة إلى ثورة وسائل الاتصال والبناء والديكور، لكن المشترين قلةٌ في ظل أن مجالاتِ العمل محدودة، وقابلة للاختراق الواسع من قبل العمال الأجانب الذين هم ضحايا عماليون على مستوى القارات، لكنهم يزاحمون رفاقهم الوطنيين، ويطردونهم خارج السوق، واتسعت الاختراقاتُ للأسواق الوطنية عبر تفجر حروب إقليمية، أو عبر صراعات طائفية حادة.
وهذه المسارات عبرت عن رفض الدول العربية والإسلامية المستقلة السير على النموذج الديمقراطي الحديث، وتوجهها للسوق المعاصرة ببُنى وهياكل إقطاعية سياسية وأيديولوجية. فحمايةُ السوق الوطنية وإنتاج رأسمالية وطنية قوية وبعمالها الوطنيين المتطورين هو صلب التطور السياسي الديمقراطي المعاصر، لأنه لا ديمقراطية وحرية وطنية مع عمال عاطلين ومتخلفين، لكن هذا معدوم عبر هيمنة الرأسماليات الحكومية واهتمامها بأرباحها، فيما القوى الرأسمالية المحلية المُحاصَرة تلجأُ للعمال الأجانب ومستويات متخلفة من القوى من أجل البقاء في الأسواق المشتعلة.
وكل هذا يؤدي لتآكل الأسواق وتوجه الفوائض من أرباح المؤسسات الحكومية والخاصة، أو من العمال الأجانب، إلى الخارج لتنمية رأسماليات أخرى وراء الحدود! فيما تزداد العروضُ في الأسواق الوطنية تأزماً ويتدهور الطلب.
هذه الارتباكات في السوق تصعد الوعي الديني المحافظ، حيث يغيب الفهم العقلاني وإدراك الأسباب ويغدو الغيب تعويذة سحرية لحل كل المشكلات العصية، فالجمهور العمالي يعود لوعيه الطائفي وهو يرى السلعَ والأجور تتبخر من بين يديه العاملتين بقوة، فيلوذ بنصوصه الدينية وعباداته، لكي تنجيه من ظروف مادية تعصره كل يوم، وهي جوانب تساير الطبقات العليا المسيطرة على الفوائض والسياسات غير الديمقراطية والإعلام والمؤسسات الدينية، في مختلف البلدان العربية والإسلامية، فتتصادم مع بعضها بعضا بدلاً من تكوين منظومات اقتصادية حديثة متعاونة وتقود الصراعاتُ والحروب للمزيد من الانهيارات والطائفية واللاعقلانية السياسية.
العمال والطائفية: وحدةُ المصنع
تتكرس الوحدة الوطنية ليس في الشوارع بل في المصانع أساساً.
المصانعُ هي الخلية الرئيسية لإنتاج الوحدة الوطنية والعقلانية السياسية.
العلاقات الصراعية بين الرأسماليين والعمال تؤدي تاريخياً لتأطيرها ضمن الوحدة الصراعية، وبدونها تتعرض المجتمعات والتجارب السياسية للتمزق والفشل والعودة مجدداً إليها.
إن أرباب العمل لا تدفعهم إلى المشروع الصناعي نزعاتٌ خيرية بل البحث عن أرباح متصاعدة وسريعة لو أمكن.
إن أوضاعَ السوق والمتاح المفيد من المشروعات هي المحركات السريعة للمخاطرة برأسمالهم، وهذا الوعي المباشر النفعي هو ما يتكرس غالباً وطويلا في الفهم التجاري السائد، وكلما كانت دورةُ رأسِ المال سريعةً ومفيدة وخالية من المخاطر الاجتماعية والسياسية كان ذلك هو الأفضل.
أما تغيير الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاهتمام بطبيعة العمال الفكرية والوطنية فهي خارج الوعي النفعي المباشر، ولكن تلك الأوضاع وطبيعة العمال الوطنية هي أمور جوهرية تؤثر في مصائر المصنع والحياة الاقتصادية عامة.
ورب العمل الكائن الاقتصادي النفعي المباشر يتطور ويفهم الأوضاع التاريخية التي تؤدي لازدهارِ بنية اقتصادية معينة وانهيار بنية اقتصادية أخرى.
فالعمال ليسوا كمّاً بشرياً بل هم طبقةٌ شديدة الأهمية والضرورة للمصنع، وبدونها وبدون تطورها وإعادة إنتاجها في الأجيال القادمة، لا آفاق تاريخية له.
تفجرت الأزماتُ الوطنيةُ والتاريخية في البلدان المختلفة حين تفجرت الأزمات في المصانع بدايةً، فعملياتُ التسريحِ الواسعة، أو الاعتماد الكثيف على العمال الأجانب بدون خطط للتطور الوطني، كانت هي المصادر الأساسية للأزمات السياسية الطاحنة عبر العقود.
أرباب العمل في تسريحهم للعمال أو في تفضيلهم للعمال ذوي الأجور الشديدة الانخفاض الأجانب كانوا يلغون الوحدةَ الوطنية في المصنع.
هذه الأوضاع أدت للقلاقل الاجتماعية السياسية الطويلة وغالباً ما يرون الربيع العربي بدون هذه السببيات الجوهرية. فقد اختلت الوحداتُ الوطنية على مستويات المعامل والمناجم والممتلكات الحكومية الاقتصادية أساساً وفاضت على المجتمعات.
المنجمُ يقدم مواد ثمينة للشركة الحكومية ويقدم أجوراً شديدة الانخفاض للعمال وتقوم القوى الوسيطة: المقاولون والإدارات الحكومية والبنوك الحكومية والخاصة، بالاستفادة الكبرى من الفوائض الاقتصادية، بحيث تتحول المنطقة المنجمية أو الصناعية، إلى حزامِ فقرٍ وحين يتكاثر الأبناءُ بدون قدرة على الدخول في المناجم والمصانع والاشتغال في مهن هامشية كما حدث لبوعزيزي، فيؤدي ذلك لقيام قوى غير منتجة خاصة الأحزاب باستغلال الأزمة والصعود للسلطات، ولكن المنجم يُتركُ في فقرهِ ولعدمِ تغيير العلاقات داخله ويُطلب منه الاستمرار في الانتاج داخل نفس الخريطة الاقتصادية الاجتماعية المتخلفة!
وذلك لأن عمالَ المنجم وأرباب العمل لم يتفاوضوا هم ويشكلوا وحدةً سياسية وطنية ويحددوا دور المصنع أو المنجم في الحياة الاقتصادية السياسية المشتركة وكيفية تطور الشبكة الصناعية العمالية التعليمية في النطاق الوطني بأسره بحيث لا تعتمد على الوسطاء الطفيليين وبحيث تتكاثر المصانعُ من خلال الفوائض النقدية ويتم تطويرها التقني المواكب للعصر.
الوحدة الوطنية هي من خلال هذا الصراع التوحيدي الرأسمالي العمالي فيقوم انقسام الجماعاتِ على أساس موقعها في الانتاج وليس على أساس عقيدتها الدينية، وعلى اختلاف مفاهيمها في كيفية توزيع الفوائض الاقتصادية، وكيفية تطوير القواعد الاقتصادية الوطنية، ومحاربة البطالة والفقر وضعف المدارس الصناعية وعادات البذخ والكسل والإدمان الجماهيرية، فثمة نقاط مشتركة وثمة اختلافات، وهذا يجري عن طريق تيارات سياسية تبلور هذه الاختلافات وتعمل أعمالاً مشتركة أو أعمالاً فردية في ظل الاختلاف الوطني التعاوني تحت قبة البرلمان.
الوعي النفعي المباشر للطبقات يظهر من خلال النزعات العفوية الصراعية المؤثرة على تطور المنتجين، وعبر تركِ قوى سياسية تستغللا هذه الصراعات لمصالحها الذاتية، ولهذا فإن حزبي أرباب العمل والعمال يكونان مهمين في حضورهما التاريخي القائم على إنتاج المعرفة الاقتصادية السياسية الاجتماعية لكلا الجانبين، ولوجودِ المصانع ومستقبلها الاجتماعي والتقني وعلاقاتها بالأسواق وبالمواد الخام المتجددة وعلاقاتها بالعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية وبتطور القوى المنتجة، وعبر الارتفاع عن هذا الوعي النفعي المباشر لكلا الفريقين، هذا يهتم بأرباحه لأقصى درجة وذاك يهتم بأجوره لأقصى درجة.
العمالُ والطائفية وتخاذلُ التحديثيين
الطائفيةُ السياسية هي ضربةٌ عميقةٌ قوية للطبقات العاملة حيث تفكك صفوفَ الشعب والعمال وتقضي على توجهاتها الوطنية وتطور الوعي العقلاني.
حتى على مستوى المنشأة العمالية يقوم الطائفيون السياسيون بمنع الاصطفاف العمالي لتحسين الأجور ومجابهة الاستغلال الفاحش ومشكلات الفصل التعسفي وبيع القطاعات العامة وغيرها من المشكلات التي وقفت الطبقات العاملة معها غير قادرة على فعل شيء بعد أن فقدت ورقتها المحورية وهي الوحدة والوطنية، وبالتالي فإن وقوفها ضد استغلال العمال الأجانب الفاحش غير الإنساني تغدو مستحيلة.
النشأةُ الانحرافيةُ جاءتْ من تأييد استيلاء الإقطاع المذهبي المتنوع على دول مهمة في المنطقة، وكانت الدول الرأسمالية الحكومية في روسيا والصين وغيرهما قد وصلت إلى انكشاف طابعها الطبقي الاستغلالي وأنها لا علاقةَ لها بالتعبير عن الطبقات العاملة.
ولهذا فإن الانزلاق لهوةٍ أعمق وهي تأييد الإقطاع الديني الإيراني مثلتْ تتويجاً لكارثة الوعي التحديثي الزائف، الذي عاد إلى التعبير عن فئاتٍ صغيرة برجوازية وأفراد جعلت مصالحها الذاتية فوق مصالح الطبقات العاملة وتاريخ منظماتها السياسية والنقابية.
كان هذا التآكلُ غيرَ ملاحظٍ على النظام السوري في السبعينيات وما بعدها، ولكن انهيار الرأسماليات الحكومية الشمولية في الشرق قد أدى إلى انكشاف هذه المضامين المخفية على الكثيرين حتى غدت ظاهرات خطيرة جسيمة، وقفزت للفاشية المرعبة، ولكن القوى الباقية في هذه التحولات والانهيارات لم تعالج مثل هذه التحولات الكارثية على الشعوب وخاصة جذورها وأسبابها البعيدة.
وبقيت القوى المعبرة سابقاً عن اليسار غير قادرة على إنتاج رؤية لكل تاريخ اليسار في الشرق وانحرافات الأنظمة، وكشف طابعها الطبقي وسيرورتها التاريخية، ووضعت رؤوسَها في رمالِ الشرقِ المتحركة نحو المزيد من الانهيارات.
عدم المعالجات الفكرية السياسية لعقودٍ سابقة تركت الجماهير تجرب وتتراجع لمستويات تفكيرها المذهبية العادية المحافظة، والقوى اليسارية والقومية تواكبُ حراكَ الجماهير المذهبي في كل بلد وتضع نفسها في مواقع متناقضة مع أفكارها ومع بعضها البعض، ثم تجدُ نفسَها خارج التاريخ الحي.
إنها كانت بداياتُ أخطاء أدت لكوارث متتالية، والسكوتُ عن ممارساتِ أنظمة قمعية على المستوى القاري يقود لسكوت على المستوى القومي والوطني.
في عمق هذه المسألة كان تأييدُ حراك الطوائف هو بدايةُ الكارثة، فلم تقاوم أغلبُ العناصر الصغيرة الباقية من التيارات المتحللة اليسارية والقومية هذا الانهيار الفكري السياسي، وكانت اللافتةُ الكارثية التي يرفعونها: (لابد أن تكونَ مع شعبك)، ولكن لم تكن ثمة شعوب، كانت مجموعاتٌ من طوائف تغامرُ بالشعوب، وتزجُ بالناس العاديين تحت مثل هذه الشعارات والأساليب والتنظيمات الخاطئة، وتدفعهم للكثير من المشكلات الجديدة عوضاً أن تحل مشكلات الواقع الحقيقي، وقضايا الشعوب.
لكن المشكلات العميقة لا تتوقف وتزداد ليس على مستوى بلد واحد بل على مستوى بلدان متجاورة ثم على مستوى المنطقة، ثم تتعاضدُ هذه مع مشكلاتِ غياب الديمقراطية في البلدان الكبيرة التي لم تحلْ قضايا الديمقراطية والاعتراف الحقيقي بوجود الطبقات العاملة كطبقاتٍ مستقلة عن الرأسماليات الحكومية الشمولية منتجة الرأسماليات السوداء.
فمن مشكلاتٍ وطنية في بلد صرنا نواجه مشكلات قاريةً تدفعنا أكثر وأكثر لما يشبهُ الحربَ العالمية. خسرت الطبقاتُ الشعبيةُ المختلفة على مدى هذا الانهيار الاجتماعي السياسي قدراتها الفكرية وقوة مناهجها التي كانت دليل عملها، وأداة تحليلها للواقع بشكل موضوعي، فغرقتْ القوى السياسية في العضوية الكمية، ولم يعد ثمة فروق بين أعضائها والجمهور المذهبي العادي، وغدت النفعيةُ هي أساسها فكللا ما يحطمُ الأنظمةَ هو مقبول، حتى لو كانت الاستعانة بتياراتٍ رجعية طائفية ممزقةٍ للعرب والمسلمين والبشر تدفعهم للحروب الضارية. وصار النقيضُ موجوداً كذلك، حيث يقول آخرون إن كل ما يقوي الأنظمة هو مقبول حتى لو سكتنا عن أخطائها الجسيمة ومشكلاتها العميقة وأيدنا طوائفنا!
وهذه الانتهازية المتضادة هي واحدةٌ في جوهرها غير المسئول فهي إغراق بلداننا في التطاحن والانهيار، فليس من المقبول رفع شعارات التحطيم وليس من المقبول رفع شعارات التأييد الكلي، ولكن من الضروري قراءة مسارات التطور ومعالجة المشكلات للطبقات المختلفة وتطوير الأنظمة كلها باتجاه الديمقراطية والعلمانية والعقلانية والوطنية، وليس الوقوف بجانب هذه الطائفة أو تلك أو هذا النظام أو ذاك بل بتعاون كل عناصر التطور الديمقراطي وهزيمتها لقوى الطوائف السياسية التمزيقية وإنقاذ بلداننا من الطائفيات والحروب.
ومن هنا فإن بقاء مثل هذا التفكير خاصة في الجماعات التحديثية المتحللة والنقابية الطائفية هو جرلا البلدان للتمزق المناطقي ونشر الحروب وقد اشتعلت الساحات العربية والإسلامية بمشاعل اللهب أمام أبصارنا بدون داعٍ لاثبات الأدلة.
هزيمة القوى الطائفية السياسية والذيول السياسية للرأسماليات الحكومية الشمولية هي النقطة الأولى الرئيسية كيفما كان شكلها وشعاراتها ومواقعها، وإذا صدأت القوى اليسارية والقومية ونخرها سوس الطائفية فهي تتحملُ نتائجَ مواقفها وخياناتها لمبادئها، ولا يعني أنها خاتمة المطاف في التاريخ الوطني والتاريخ الإنساني.
العمال والطائفية.. اختطاف العمال
جاءت مرحلةُ الجمهوريات الدينية كقفزات إلى الوراء في التاريخ الحديث للمسلمين، فالقوى التي قفزتْ لم تصبر على إحداث التراكم الرأسمالي الطويل لتغيير طابع القوى المنتجة والاقتراب من التطور العالمي الحديث.
وهذا ما أدى إلى أن تكون قوى الاستعجال من الأرياف تفرض قفزاتها على المدن السياسية القائدة التي تاهتْ بين التطور والفساد.
الجمهوريات العربية كانت أقرب للتحديث العلماني المبسط الشعاري لكنها فقدت الصفتين الضروريتين المكملتين لرفع الجمهور إلى مستوى تطور العصر وهما الديمقراطية والعقلانية، فواصلت الإبقاء على البُنى التقليدية المتخلفة، وأشكالها الإيديولوجية التفكيكية في فهم الدين والحياة.
لهذا كانت الجمهوريات الدينية قفزات إلى الوراء فهي عوضاً عن أن تكمل مسيرات الأنظمة التحديثية تخلت عن قسماتها المتكاملة الإجبارية لهذا العصر.
تشير مرحلة الجمهوريات الدينية إلى أنساق الفوضى في الاقتصاديات والاعتماد على رأس المال الديني الاحتيالي الذي تكون في بعض الرساميل النفطية غير الديمقراطية وتوسع في المصارف والشركات وهيمن على أموال المدخرين وقادها إلى أحلام الغنى الوهمية وإلى الأعمال الدموية والفوضوية واضطراب الأسواق والدول.
الخداعُ الديني يكمن إيديولوجيا في الادعاء بالانتماء إلى المرحلة الجمهورية المؤسِّسة لفجر الإسلام، في حين إنها تعود إلى مرحلة أسرِ الأشراف التي استولت على الحكم في أعقابِ ذلك والتي هيمنت على العالم الإسلامي المُفتت، ولهذا فالطابع الطائفي السياسي يكمن في كونها أحزاباً طائفية مُفتِّتة، ولا تحمل طابعَ التوحيد.
هنا لم تستطع الفئات البرجوازية الصغيرة والوسطى من تكوين رأسمالٍ صناعي قويٍّ يعيدُ تشكيل المجتمعات، مثلما هي مضطربةٌ بين المذهب السياسي والإسلام التوحيدي العاجزة عن الوصول إليه، فالتفكك بحد ذاته مقولات اقتصادية اجتماعية كنقصِ وسائل المواصلات وربط أجزاء المجتمع وتحويل المهّمشين العاطلين والحرفيين المنهارين ونساء البيوت والمغتربين إلى عمال صناعات كبرى، ولغياب ثقافة التحديث التراكمية لدى المسلمين وبقية قوى العالم المتحضرة.
أي أن المذهبيات السياسية جزء من عالم الإقطاع، عالمِ الجزئياتِ الصغيرة الاجتماعية والسياسية، وتجاوزه يحتاج إلى التوحيد الاقتصادي الكبير والأشكال السياسية التعاونية الواسعة.
الحصول على رأس المال الكبير والقفز إليه يظهر في العودة الغريبة إلى الصناديق المالية الغربية ذات الشروط القاسية والربوية، وهي المُهاجمة خلال عقود بسبب ذلك!
كذلك فإن محاولات نشر النموذج الجمهوري العنفي الفوضوي اللاعقلاني في التاريخ العربي الإسلامي في بلدان الخليج العربي مرةً عبر النموذج الإيراني، ومرة عبر النموذج الإخواني، يتوجه لاستغلال الثغرات الاجتماعية والسياسية في تطور هذه الدول والحصول على رأسِ المال الكبير المُفتَقد.
في حين إنه من الممكن التعاون التوحيدي العربي الإسلامي عبر العلاقات الاقتصادية المفيدة لكل الأطراف، لخلق تعاون واسع يطور القوى المنتجة في البشر والمصانع والعلوم.
لكن هذا يتطلب العودة إلى نقد المذهبيات السياسية كتعبير عن المغامرةِ وإنتاج الفوضى السياسية، أي إعادة النظر في تاريخ المسلمين بشكلٍ موضوعي وليس بأشكال طائفية مؤدلجة لقوى ما قبل رأسمالية، وهذا ما يؤدي إلى الارتفاع عن الأطر الضيقة للطوائف، واحترام التكوين التاريخي لها، وكذلك الارتفاع إلى مستوى تجارب البشر الحديثة في تجاوز الأشكال الضيقة لعالم الطوائف.
إن الصناعات الكبرى تتطلب ذلك ولهذا فإن الجمهوريات الدينية المحافظة تعتمد على مدخرات العمال ونشاطهم الكثيف خلال عقود ثم تسيطر على وعيهم وتقودهم إلى مغامرات بدلاً من أن توحدهم مع بقية العمال العرب والمسلمين وتوحدهم مع بقية التكوينات الاجتماعية في بلدانهم لتكوين تلك الصناعات التي لا تتكون إلا في شروط اجتماعية واقتصادية وثقافية متطور.
تخلخلُ الطبقاتِ العاملة في المنطقة واكبهُ نمو الثروة النفطيةِ بتغيير أسعارها ولعبَ ذلك دوراً رئيسياً في التحولات سواءَ كان نمواً إصلاحياً أو اضطرابات سياسية.
لقد قادت منطقةُ الشام ومصر الدولَ العربيةَ في عمليةِ النهضة الليبرالية القومية التي توقفتْ بسبب سيطرة الموديلات العسكرية الشمولية.
وبهذا فقد بدأت منطقةُ العراق والخليج وإيران بقيادةِ المشرق، والتي كانت أقلَ تطوراً اجتماعياً وسياسياً، وذاتَ جذورٍ مذهبية سياسية لم يتم تجاوزها، ومن خلال مستوياتٍ مختلفة فيها.
هذه المنطقةُ لم تستطع عبر تاريخِها السابق أن تصعدَ الوعي القومي – الوطني لكي يكون بديلاً عن الوعي الطائفي السياسي، فظهر ذلك في إيران وأجزاء من العراق بشكلِ المذهبية الشيعية، وفي العراق والجزيرة العربية بشكلِ المذهبية السنية.
ونظراً للضعف الديمقراطي الاجتماعي السياسي الطويل في هذه المنطقة فقد قامت الدكتاتورياتُ بحرق المراحل لقفزاتٍ فوضوية تقود إلى الوراء، وذلك عبر مغامرات البعث العراقي والحزب الجمهوري الإيراني، وقد مثلتْ هاتان التجربتان هزاتٍ عنيفةً وخلخلتْ الأنسجةَ الوطنية الخفيفة التي كانت تُغزلُ خلال عقود.
الوعي القومي الفارسي أو الوعي الوطني القومي العراقي لم يُجابْهَ واقعَهُ بموضوعية، ولعبتْ الشمولياتُ الحكومية، وخاصة المَلكيات المنتفخة بذواتها وبمحدودة الرؤية السياسية الاجتماعية لها بحيث اعتبرت نفسَها الكلَ المنقذ المهيمن وقتذاك، أدوارَها في تسلمِ فئات البرجوازية الصغيرة العسكرية والدينية المغامرة الأمورَ في دولتين هامتين في المنطقة التي صعد دورُها بفضل الثروة النفطية، فالمَلكياتُ في إيران والعراق لم توسع قواعدَها وتتحالف مع البرجوازياتِ الوطنية والقوى العمالية الديمقراطية، وتركت للقوى المغامرة التلاعبَ بمشاعر الشعوب القومية والدينية، وحين قفزتْ هذه إلى السلطات اتضحَ خواؤها الفكري السياسي وغيابُ البرنامج التحديثي الديمقراطي، مما أدى إلى توسع المغامرات الكارثية على الشعوب وإلى الصراع بينها، وإشاعة الكثير من التمزق بين المسلمين، والقضاء على بذور التحديث الوطني في الجماعات السياسية في المنطقة، بحيث كسرت الطائفيةُ صلابةَ التنظيمات القديمةِ التي حوتْ بعضَ البذور العقلانية الوطنية وصعدتْ بتوسع في التنظيمات الطائفيةِ الجديدة التي أعادتْ طريقة القوميين الفوضوية الخمسينية العتيقة من حيث التنظيم الهلامي والفكر الغائب واستخدام العنف.
التنظيماتُ الهلاميةُ التي تضم بفوضويةٍ بعضَ العامة والمهمّشين والصغار تعبيرٌ عن ضرب الوعي السياسي العقلاني واستخدام المؤامرات وتوجيه المجتمعات نحو المزالق والقفزات، ولكن جرى ذلك في بلدان تفجرت الثروة فيها، عبر استغلال المناطق الفقيرة وفقدان التربية السياسية الديمقراطية.
لم تستطع إيران والعراق فهم وإدارةِ الهدف القومي أو الوطني لهما، فالُبنى العائدةُ إلى العصور الوسطى، والمتجسدةُ في كثرةِ الجماعات القومية ذاتِ المظهر الديني، وبغياب ثقافةٍ ديمقرطية نهضوية تشكلها وتحدثها، جعلتهما يتوجهان إلى الحلولِ العسكرية لتجاوز تلك الاختلالات العميقة. ولكن هذه الحلول فجرتْ الكيانين بحراكِ هذه الجماعات الطائفية التي هي مظهرُ الوعي القومي العقلاني الغائب، وفي إيران تم لجمُ هذا الصراعَ بعنفِ الجيش وفي العراق تفجرّ هذا الصراع بغيابِ الجيش.
وقد قام المجتمعان الإيراني والعراقي خاصة مع تقاربهما بنشر الطائفية السياسية وكان لها أثرٌ كبير، وخاصة داخل المجتمعات الأقل منهما تطوراً تاريخياً، وكما تضررت الطبقاتُ العمالية، وخاصة في المجتمعين من مسار التطور نحو الفاشية، حيث فقدت أرواحَها وأعمالها وهاجرت بالملايين خارج البلدين، فقد تم استغلال السكان بظروفٍ مادية أسوأ، وبتحويل المنشآت الاقتصادية إلى معسكراتٍ حربية، وجلب عمال أجانب بأجور أدنى وبغياب مختلف الحقوق، بل تم تجنيد بعضهم في الأعمال الحربية.
كما حولت القوى المتنفذةُ الاستغلالية المذاهبَ إلى أداةِ تفكيكِ لصفوف العمال والناس، ولم تكتفِ بذلك بل واصلت مشروعاتَها العسكرية الخطيرة نحو امتلاك القنابل النووية وجلب القوى الغربية العسكرية للمنطقة.
وأثر ذلك على منطقة الخليج بتعميق الطائفية السياسية وبتر العلاقات بين الأمم الإسلامية، ولم توجد في منطقة الخليج والجزيرة العربية سياسات بعيدة النظر تستوعبُ مدى مخاطر التحولات في الدولتين المجنونتين في مساريهما السياسيين، لتغييرِ أحوال الطبقات العاملة وخلق سياسات اقتصادية عقلانية بعيدة النظر تصعدُ الانتاج الوطني عبر المؤسسات الوطنية والعمال الوطنيين والعرب.
لهذا فإن الجنون الطائفي السياسي تسربَ من هذه الاختلالات فتوجهت الموارد إلى الاستهلاك الواسع الحكومي والبذخي وتناقصت الأجور الفعلية مع التصاعد الجنوني في الأسعار والإيجارات، والتوسع الهائل في المؤسسات الاقتصادية المختلفة غير الانتاجية والمعبرة عن فئاتٍ صغيرة في أغلبها، والتي جلبت عمالاً أجانب بأجور متدنية طردت العمالَ الوطنيين وإمكانيات زيادتهم.
العمالُ والطائفية: إبعاد التحديثيين
نشأت مؤسسةُ المصنع في العالم العربي الإسلامي بشكل غير تاريخي متدرجٍ ممتد في الشبكة الاجتماعية الثقافية، بل كطفرةٍ داخلية واستيراد، فخضعت للخيارت الذاتية للأفراد والجماعات والدول.
اعتمدت هذه المؤسسةُ على العلاقة الصراعية التعاونية بين الرأسماليين والعمال، وعبرتْ عن انتقالها من التعسف والاستغلال المطلق إلى التعاون والديمقراطية الاقتصادية والسياسية، وعبرت عن تاريخ غرب أوروبي خاص، احتاجَ لعقود طويلة ليتجذر في غرب أوروبا نفسها ثم انتشر بصعوبة في بقية الغرب.
نشأةُ المصنعِ في المشرق العربي الإسلامي نشأةٌ مختلفة، ولم تكن تحولاً استراتيجياً حتى ظهر المصنعُ بشكل مصنع تكرير النفط.
ظهورُ المصنع في المشرق بهذه الصورة كان علاقة صراعية تعاونية مع الغرب، تمثلت به ما ظهر في نشأة المصنع في الغرب والتسلسل التاريخي له من تعسفٍ واستغلال ساحق حتى وصل الى تعاون ديمقراطي.
لكن الجماعات السياسية المشرقية لم تفهم هذا الحضور الثنائي الصراعي، فقد تصورتهُ ملكية أجنبية على أرضها في البداية ثم تصورتْهُ ملكيةً وطنية خالصة لمن يسودُ الدولَ المشرقية المستقلة.
هذه الخلية الانتاجية المهمة التي اسمها مصنع التكرير واكبتها خليتان أخريتان هما الحزب الرأسمالي والحزب العمالي.
لقد أعطى مصنعُ التكرير وهمَ العلو والطيرانِ على الواقع المتخلف، فخلال ومضة من عمر الزمن كان المالكون له قادرين على امتلاك السيارة والقطار والطائرة والتحليق في الفضاء السياسي.
لقد توهموا الحداثةَ والمساواة مع مكتشف النفط ومستخرجه ومصدره ومستغله أبشع استغلال حينذاك وهو الذي يمتلكُ شبكةَ التصنيع والتحديث والمواصلات والعلوم.
إن التحولات المفاجئة التي خلقتها فوائضُ النفط أوهمت الخليةَ الرأسماليةَ المبكرة إنها قادرة على المغامرة السياسية، سواء بتأميم النفط أو بتحرر البلدان من الغرب. تجلى هذا في روسيا ولدى مصدق أو في العراق. وقد تحول الوهمُ لديها إلى كوارث وطنية.
كما تحول ذلك في الخلية العمالية إلى وهم آخر هو إمكانية التخلص من الرأسماليين، وهذا قاد الى صناعة إيديولوجيات الطيران السياسي فوق الخرائط الموضوعية.
المصنعُ الغربي الذي تجاوز الثنائيةَ الصراعية المطلقة بعد عقودٍ طويلة احتاج لشبكات اقتصادية واجتماعية وتعليمية كثيفة لم تتشكل إلا من خلال الصراعات العنيفة بين طبقتي الانتاج، لكن العلاقات التي تطورتْ ديمقراطياً أتاحت تجنب الحروب والخسائر البشرية المنتجة وتلاشي الثروة المادية.
ولكن المصنعَ المشرقي النفطي خاصة اعتمد على التحليق فوق الظروف معتمداً على الوفرة المالية التي يتيحها معملُ التكرير الذي لم يستطع أن ينتج مصانع حقيقيةً مغايرة للنفط ومشتقاته، بل واصل امتداده في مصانع خامات له، معبراً بهذا عن عدم قدرته على خلق ثورة صناعية حقيقية، وجسّدَ توسعاً استهلاكياً ورساميل عقارية ومصرفية وخدماتية متسربة للأمان المالي وتاركةً الوطن العربي في جوع تنموي.
الطبقات التي تملكتْ معامل التكرير أزاحتْ الرأسماليين والعمالَ معاً، وتوجهت الفوائضُ لجوانب تحديثية مظهرية، وراكمت الطبقاتُ الرأسمالية البيروقراطية الفوائضَ لديها ولم تعد لقوى الإنتاج أي للرأسمالية الخاصة والعمال، وأنتجت حشوداً من البرجوازيات الصغيرة التي اعتقدت قدرتها الكلية وازاحت كل القوى وبهذا تتالت المشروعاتُ السياسية القومية والشيوعية والطائفية أخيراً الكاسحة.
لم تعد الفوائضُ لهياكل الإنتاج وتضخمتْ الجوانب الاقتصادية الاجتماعية الثانوية، فثمة ملايين المتاجر للاستهلاك ولا مصنعاً واحداً لصنع سيارة أو طائرة.
بتهميش الطبقتين المنتجين الرأسمالية والعمالية تم تكرار الوعي الطائفي الذي يكرسُ البقاءَ في العصر الإقطاعي بما فيه من تفتيت البلدان والجماعات والأحزاب والطبقات.
ولهذا يشكل الوعي الطائفي السياسي الأخير الراهن محاولة أخرى لإبعاد التحديث الديمقراطي العلماني وفرض شموليات طائفية محافظة، ولهذا يلعب النفطُ أو مؤسسةُ تكريره دور تصعيد هذه الجماعات وإشاعتها ودعم فصائلها من فوائض النفط والغاز، بقصد الحفاظ على الطابع المحافظ للدول العربية الإسلامية وعدم انتقالها للحداثة الحقيقية.
إن مؤسسةَ التكرير النفطي لم تجعل المصنع رائداً واسعاً تحويلياً وبالتالي رفضت حضور الطبقتين المنتجتين وغذت وعيهما بالأوهام، والكرة التاريخية في ملعبهما وبضرورة استعادة دوريهما.
العمال والطائفية: ظرف عام
يُفترض أن تكون الطبقات العاملة هي أكثر القوى الاجتماعية ابتعادا عن مزالق التعصب القومي والشمولية الطائفية المحافظة، ولكنها انزلقت كغيرِها من القوى الاجتماعية في نفس المسار الذي عقّدَ وأسَّن وطيَّف التطورَ الوطني الديمقراطي في كل بلد عربي إسلامي.
إنها قوى تعيشُ في ظروف قاسية وفي أعمال بسيطة خاصة عمال القطاع الخاص، حيث كثرة متنوعة من المؤسسات التي تعمل في مستويات مختلفة، وبإرادات كيفية في مسائل الأجور وظروف العمل.
إن تعقد مسارات التطور السياسي الاجتماعي في بلداننا وخاصة دول الخليج والمشرق العربي الإسلامي عامة يتمثل في عدم نضج التطور التاريخي السياسي، وغياب النضج هذا هو الذي أسّس قواعدَ الرجوع المتعثر للماضي.
تكوّن الطبقتين المحوريتين في الديمقراطية الحديثة وهما البرجوازية والعمال جُوبه بعقباتٍ اقتصادية واجتماعية وثقافية كبيرة، فزمنُ الاستعمار شهد صعود هاتين الطبقتين بحكمِ جوانب الليبرالية التي أشاعتها الدولُ الغربيةُ للهيمنة على المواد الخام المتوجهة إليها، رغم رثاثة أوضاع الشغيلة في المؤسسات النفطية والاقتصادية الأخرى، والتي كانت تقبلُ أي أجور متدنية وهي النازحة من الأرياف الفقيرة والمهن البحرية والحِرفية المختلفة وبلا تجارب نقابية وسياسية، لكن كانت تتواجد جوانب من الحريات التي ساعدت على تطور الوعي النقابي والسياسي المحدود، فقد كانت الدول الغربية تريد من الدول العربية والإسلامية نسخَ تجربتِها لكن بدون توفير أسسها الموضوعية سوى فتاتٍ منها.
توفير الأسس التحديثية الغربية من صناعات متطورة وقوى اجتماعية منبثقة منها، وحريات مواكبة، هو هدفٌ ظلَّ مثل السراب في حين كان الواقع هو العودة للوراء، والمضي نحو المجتمعاتِ التقليدية الطائفية! والأخطر نحو المجتمعات الدينية المتقاتلة ضد بعضها بعضا كما يجري حالياً!
وهكذا قامت الانقلابات العسكرية والأيديولوجية بتزييفِ الوعي الثوري، وإحلال الماضي الطائفي بديلاً عن المعاصرةِ العلمانية الديمقراطية، فكانت الانقلابات تنحدر نحو الطوائف عبر رفض الحكومات المختلفة المنبثقة منها أو المختلفة معها، للنموذج الديمقراطي العَلماني، فالحكومات عبرت عن قوى ارستقراطية عليا في طوائف غدتْ هي روابطُها وقلاعها في ظل رفضها للنمو الديمقراطي العصري، ووجدت نفسَها بتفاقم امتيازاتها وتراكماتها المالية غير قادرة على الديمقراطية، فكان أن شجعتْ القوى الطائفية للعمل السياسي الواسع، أو أن العسكريين الكبار تحالفوا مع رجال الدين الكبار من أجل حَرف التطور السياسي نحو ضباب اجتماعي يُصعّدُ الصراعَ الحربي بين الأمم والقوميات الدينية المختلفة بدلاً من عقلانية الصراع السلمي الديمقراطي الداخلي.
كان العمال أكبر الضحايا من جملة التطورات العاصفة، فارتفاع قيم وسائل المعيشة المختلفة، ساير الازدهار الزائفَ للعولمة، حيث كل السلع الجديدة معروضة إضافة إلى ثورة وسائل الاتصال والبناء والديكور، لكن المشترين قلةٌ في ظل أن مجالاتِ العمل محدودة، وقابلة للاختراق الواسع من قبل العمال الأجانب الذين هم ضحايا عماليون على مستوى القارات، لكنهم يزاحمون رفاقهم الوطنيين، ويطردونهم خارج السوق، واتسعت الاختراقاتُ للأسواق الوطنية عبر تفجر حروب إقليمية، أو عبر صراعات طائفية حادة.
وهذه المسارات عبرت عن رفض الدول العربية والإسلامية المستقلة السير على النموذج الديمقراطي الحديث، وتوجهها للسوق المعاصرة ببُنى وهياكل إقطاعية سياسية وأيديولوجية. فحمايةُ السوق الوطنية وإنتاج رأسمالية وطنية قوية وبعمالها الوطنيين المتطورين هو صلب التطور السياسي الديمقراطي المعاصر، لأنه لا ديمقراطية وحرية وطنية مع عمال عاطلين ومتخلفين، لكن هذا معدوم عبر هيمنة الرأسماليات الحكومية واهتمامها بأرباحها، فيما القوى الرأسمالية المحلية المُحاصَرة تلجأُ للعمال الأجانب ومستويات متخلفة من القوى من أجل البقاء في الأسواق المشتعلة.
وكل هذا يؤدي لتآكل الأسواق وتوجه الفوائض من أرباح المؤسسات الحكومية والخاصة، أو من العمال الأجانب، إلى الخارج لتنمية رأسماليات أخرى وراء الحدود! فيما تزداد العروضُ في الأسواق الوطنية تأزماً ويتدهور الطلب.
هذه الارتباكات في السوق تصعد الوعي الديني المحافظ، حيث يغيب الفهم العقلاني وإدراك الأسباب ويغدو الغيب تعويذة سحرية لحل كل المشكلات العصية، فالجمهور العمالي يعود لوعيه الطائفي وهو يرى السلعَ والأجور تتبخر من بين يديه العاملتين بقوة، فيلوذ بنصوصه الدينية وعباداته، لكي تنجيه من ظروف مادية تعصره كل يوم، وهي جوانب تساير الطبقات العليا المسيطرة على الفوائض والسياسات غير الديمقراطية والإعلام والمؤسسات الدينية، في مختلف البلدان العربية والإسلامية، فتتصادم مع بعضها بعضا بدلاً من تكوين منظومات اقتصادية حديثة متعاونة وتقود الصراعاتُ والحروب للمزيد من الانهيارات والطائفية واللاعقلانية السياسية.
العمال والطائفية: وحدةُ المصنع
تتكرس الوحدة الوطنية ليس في الشوارع بل في المصانع أساساً.
المصانعُ هي الخلية الرئيسية لإنتاج الوحدة الوطنية والعقلانية السياسية.
العلاقات الصراعية بين الرأسماليين والعمال تؤدي تاريخياً لتأطيرها ضمن الوحدة الصراعية، وبدونها تتعرض المجتمعات والتجارب السياسية للتمزق والفشل والعودة مجدداً إليها.
إن أرباب العمل لا تدفعهم إلى المشروع الصناعي نزعاتٌ خيرية بل البحث عن أرباح متصاعدة وسريعة لو أمكن.
إن أوضاعَ السوق والمتاح المفيد من المشروعات هي المحركات السريعة للمخاطرة برأسمالهم، وهذا الوعي المباشر النفعي هو ما يتكرس غالباً وطويلا في الفهم التجاري السائد، وكلما كانت دورةُ رأسِ المال سريعةً ومفيدة وخالية من المخاطر الاجتماعية والسياسية كان ذلك هو الأفضل.
أما تغيير الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاهتمام بطبيعة العمال الفكرية والوطنية فهي خارج الوعي النفعي المباشر، ولكن تلك الأوضاع وطبيعة العمال الوطنية هي أمور جوهرية تؤثر في مصائر المصنع والحياة الاقتصادية عامة.
ورب العمل الكائن الاقتصادي النفعي المباشر يتطور ويفهم الأوضاع التاريخية التي تؤدي لازدهارِ بنية اقتصادية معينة وانهيار بنية اقتصادية أخرى.
فالعمال ليسوا كمّاً بشرياً بل هم طبقةٌ شديدة الأهمية والضرورة للمصنع، وبدونها وبدون تطورها وإعادة إنتاجها في الأجيال القادمة، لا آفاق تاريخية له.
تفجرت الأزماتُ الوطنيةُ والتاريخية في البلدان المختلفة حين تفجرت الأزمات في المصانع بدايةً، فعملياتُ التسريحِ الواسعة، أو الاعتماد الكثيف على العمال الأجانب بدون خطط للتطور الوطني، كانت هي المصادر الأساسية للأزمات السياسية الطاحنة عبر العقود.
أرباب العمل في تسريحهم للعمال أو في تفضيلهم للعمال ذوي الأجور الشديدة الانخفاض الأجانب كانوا يلغون الوحدةَ الوطنية في المصنع.
هذه الأوضاع أدت للقلاقل الاجتماعية السياسية الطويلة وغالباً ما يرون الربيع العربي بدون هذه السببيات الجوهرية. فقد اختلت الوحداتُ الوطنية على مستويات المعامل والمناجم والممتلكات الحكومية الاقتصادية أساساً وفاضت على المجتمعات.
المنجمُ يقدم مواد ثمينة للشركة الحكومية ويقدم أجوراً شديدة الانخفاض للعمال وتقوم القوى الوسيطة: المقاولون والإدارات الحكومية والبنوك الحكومية والخاصة، بالاستفادة الكبرى من الفوائض الاقتصادية، بحيث تتحول المنطقة المنجمية أو الصناعية، إلى حزامِ فقرٍ وحين يتكاثر الأبناءُ بدون قدرة على الدخول في المناجم والمصانع والاشتغال في مهن هامشية كما حدث لبوعزيزي، فيؤدي ذلك لقيام قوى غير منتجة خاصة الأحزاب باستغلال الأزمة والصعود للسلطات، ولكن المنجم يُتركُ في فقرهِ ولعدمِ تغيير العلاقات داخله ويُطلب منه الاستمرار في الانتاج داخل نفس الخريطة الاقتصادية الاجتماعية المتخلفة!
وذلك لأن عمالَ المنجم وأرباب العمل لم يتفاوضوا هم ويشكلوا وحدةً سياسية وطنية ويحددوا دور المصنع أو المنجم في الحياة الاقتصادية السياسية المشتركة وكيفية تطور الشبكة الصناعية العمالية التعليمية في النطاق الوطني بأسره بحيث لا تعتمد على الوسطاء الطفيليين وبحيث تتكاثر المصانعُ من خلال الفوائض النقدية ويتم تطويرها التقني المواكب للعصر.
الوحدة الوطنية هي من خلال هذا الصراع التوحيدي الرأسمالي العمالي فيقوم انقسام الجماعاتِ على أساس موقعها في الانتاج وليس على أساس عقيدتها الدينية، وعلى اختلاف مفاهيمها في كيفية توزيع الفوائض الاقتصادية، وكيفية تطوير القواعد الاقتصادية الوطنية، ومحاربة البطالة والفقر وضعف المدارس الصناعية وعادات البذخ والكسل والإدمان الجماهيرية، فثمة نقاط مشتركة وثمة اختلافات، وهذا يجري عن طريق تيارات سياسية تبلور هذه الاختلافات وتعمل أعمالاً مشتركة أو أعمالاً فردية في ظل الاختلاف الوطني التعاوني تحت قبة البرلمان.
الوعي النفعي المباشر للطبقات يظهر من خلال النزعات العفوية الصراعية المؤثرة على تطور المنتجين، وعبر تركِ قوى سياسية تستغللا هذه الصراعات لمصالحها الذاتية، ولهذا فإن حزبي أرباب العمل والعمال يكونان مهمين في حضورهما التاريخي القائم على إنتاج المعرفة الاقتصادية السياسية الاجتماعية لكلا الجانبين، ولوجودِ المصانع ومستقبلها الاجتماعي والتقني وعلاقاتها بالأسواق وبالمواد الخام المتجددة وعلاقاتها بالعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية وبتطور القوى المنتجة، وعبر الارتفاع عن هذا الوعي النفعي المباشر لكلا الفريقين، هذا يهتم بأرباحه لأقصى درجة وذاك يهتم بأجوره لأقصى درجة.
العمالُ والطائفية وتخاذلُ التحديثيين
الطائفيةُ السياسية هي ضربةٌ عميقةٌ قوية للطبقات العاملة حيث تفكك صفوفَ الشعب والعمال وتقضي على توجهاتها الوطنية وتطور الوعي العقلاني.
حتى على مستوى المنشأة العمالية يقوم الطائفيون السياسيون بمنع الاصطفاف العمالي لتحسين الأجور ومجابهة الاستغلال الفاحش ومشكلات الفصل التعسفي وبيع القطاعات العامة وغيرها من المشكلات التي وقفت الطبقات العاملة معها غير قادرة على فعل شيء بعد أن فقدت ورقتها المحورية وهي الوحدة والوطنية، وبالتالي فإن وقوفها ضد استغلال العمال الأجانب الفاحش غير الإنساني تغدو مستحيلة.
النشأةُ الانحرافيةُ جاءتْ من تأييد استيلاء الإقطاع المذهبي المتنوع على دول مهمة في المنطقة، وكانت الدول الرأسمالية الحكومية في روسيا والصين وغيرهما قد وصلت إلى انكشاف طابعها الطبقي الاستغلالي وأنها لا علاقةَ لها بالتعبير عن الطبقات العاملة.
ولهذا فإن الانزلاق لهوةٍ أعمق وهي تأييد الإقطاع الديني الإيراني مثلتْ تتويجاً لكارثة الوعي التحديثي الزائف، الذي عاد إلى التعبير عن فئاتٍ صغيرة برجوازية وأفراد جعلت مصالحها الذاتية فوق مصالح الطبقات العاملة وتاريخ منظماتها السياسية والنقابية.
كان هذا التآكلُ غيرَ ملاحظٍ على النظام السوري في السبعينيات وما بعدها، ولكن انهيار الرأسماليات الحكومية الشمولية في الشرق قد أدى إلى انكشاف هذه المضامين المخفية على الكثيرين حتى غدت ظاهرات خطيرة جسيمة، وقفزت للفاشية المرعبة، ولكن القوى الباقية في هذه التحولات والانهيارات لم تعالج مثل هذه التحولات الكارثية على الشعوب وخاصة جذورها وأسبابها البعيدة.
وبقيت القوى المعبرة سابقاً عن اليسار غير قادرة على إنتاج رؤية لكل تاريخ اليسار في الشرق وانحرافات الأنظمة، وكشف طابعها الطبقي وسيرورتها التاريخية، ووضعت رؤوسَها في رمالِ الشرقِ المتحركة نحو المزيد من الانهيارات.
عدم المعالجات الفكرية السياسية لعقودٍ سابقة تركت الجماهير تجرب وتتراجع لمستويات تفكيرها المذهبية العادية المحافظة، والقوى اليسارية والقومية تواكبُ حراكَ الجماهير المذهبي في كل بلد وتضع نفسها في مواقع متناقضة مع أفكارها ومع بعضها البعض، ثم تجدُ نفسَها خارج التاريخ الحي.
إنها كانت بداياتُ أخطاء أدت لكوارث متتالية، والسكوتُ عن ممارساتِ أنظمة قمعية على المستوى القاري يقود لسكوت على المستوى القومي والوطني.
في عمق هذه المسألة كان تأييدُ حراك الطوائف هو بدايةُ الكارثة، فلم تقاوم أغلبُ العناصر الصغيرة الباقية من التيارات المتحللة اليسارية والقومية هذا الانهيار الفكري السياسي، وكانت اللافتةُ الكارثية التي يرفعونها: (لابد أن تكونَ مع شعبك)، ولكن لم تكن ثمة شعوب، كانت مجموعاتٌ من طوائف تغامرُ بالشعوب، وتزجُ بالناس العاديين تحت مثل هذه الشعارات والأساليب والتنظيمات الخاطئة، وتدفعهم للكثير من المشكلات الجديدة عوضاً أن تحل مشكلات الواقع الحقيقي، وقضايا الشعوب.
لكن المشكلات العميقة لا تتوقف وتزداد ليس على مستوى بلد واحد بل على مستوى بلدان متجاورة ثم على مستوى المنطقة، ثم تتعاضدُ هذه مع مشكلاتِ غياب الديمقراطية في البلدان الكبيرة التي لم تحلْ قضايا الديمقراطية والاعتراف الحقيقي بوجود الطبقات العاملة كطبقاتٍ مستقلة عن الرأسماليات الحكومية الشمولية منتجة الرأسماليات السوداء.
فمن مشكلاتٍ وطنية في بلد صرنا نواجه مشكلات قاريةً تدفعنا أكثر وأكثر لما يشبهُ الحربَ العالمية. خسرت الطبقاتُ الشعبيةُ المختلفة على مدى هذا الانهيار الاجتماعي السياسي قدراتها الفكرية وقوة مناهجها التي كانت دليل عملها، وأداة تحليلها للواقع بشكل موضوعي، فغرقتْ القوى السياسية في العضوية الكمية، ولم يعد ثمة فروق بين أعضائها والجمهور المذهبي العادي، وغدت النفعيةُ هي أساسها فكللا ما يحطمُ الأنظمةَ هو مقبول، حتى لو كانت الاستعانة بتياراتٍ رجعية طائفية ممزقةٍ للعرب والمسلمين والبشر تدفعهم للحروب الضارية. وصار النقيضُ موجوداً كذلك، حيث يقول آخرون إن كل ما يقوي الأنظمة هو مقبول حتى لو سكتنا عن أخطائها الجسيمة ومشكلاتها العميقة وأيدنا طوائفنا!
وهذه الانتهازية المتضادة هي واحدةٌ في جوهرها غير المسئول فهي إغراق بلداننا في التطاحن والانهيار، فليس من المقبول رفع شعارات التحطيم وليس من المقبول رفع شعارات التأييد الكلي، ولكن من الضروري قراءة مسارات التطور ومعالجة المشكلات للطبقات المختلفة وتطوير الأنظمة كلها باتجاه الديمقراطية والعلمانية والعقلانية والوطنية، وليس الوقوف بجانب هذه الطائفة أو تلك أو هذا النظام أو ذاك بل بتعاون كل عناصر التطور الديمقراطي وهزيمتها لقوى الطوائف السياسية التمزيقية وإنقاذ بلداننا من الطائفيات والحروب.
ومن هنا فإن بقاء مثل هذا التفكير خاصة في الجماعات التحديثية المتحللة والنقابية الطائفية هو جرلا البلدان للتمزق المناطقي ونشر الحروب وقد اشتعلت الساحات العربية والإسلامية بمشاعل اللهب أمام أبصارنا بدون داعٍ لاثبات الأدلة.
هزيمة القوى الطائفية السياسية والذيول السياسية للرأسماليات الحكومية الشمولية هي النقطة الأولى الرئيسية كيفما كان شكلها وشعاراتها ومواقعها، وإذا صدأت القوى اليسارية والقومية ونخرها سوس الطائفية فهي تتحملُ نتائجَ مواقفها وخياناتها لمبادئها، ولا يعني أنها خاتمة المطاف في التاريخ الوطني والتاريخ الإنساني.
العمال والطائفية.. اختطاف العمال
جاءت مرحلةُ الجمهوريات الدينية كقفزات إلى الوراء في التاريخ الحديث للمسلمين، فالقوى التي قفزتْ لم تصبر على إحداث التراكم الرأسمالي الطويل لتغيير طابع القوى المنتجة والاقتراب من التطور العالمي الحديث.
وهذا ما أدى إلى أن تكون قوى الاستعجال من الأرياف تفرض قفزاتها على المدن السياسية القائدة التي تاهتْ بين التطور والفساد.
الجمهوريات العربية كانت أقرب للتحديث العلماني المبسط الشعاري لكنها فقدت الصفتين الضروريتين المكملتين لرفع الجمهور إلى مستوى تطور العصر وهما الديمقراطية والعقلانية، فواصلت الإبقاء على البُنى التقليدية المتخلفة، وأشكالها الإيديولوجية التفكيكية في فهم الدين والحياة.
لهذا كانت الجمهوريات الدينية قفزات إلى الوراء فهي عوضاً عن أن تكمل مسيرات الأنظمة التحديثية تخلت عن قسماتها المتكاملة الإجبارية لهذا العصر.
تشير مرحلة الجمهوريات الدينية إلى أنساق الفوضى في الاقتصاديات والاعتماد على رأس المال الديني الاحتيالي الذي تكون في بعض الرساميل النفطية غير الديمقراطية وتوسع في المصارف والشركات وهيمن على أموال المدخرين وقادها إلى أحلام الغنى الوهمية وإلى الأعمال الدموية والفوضوية واضطراب الأسواق والدول.
الخداعُ الديني يكمن إيديولوجيا في الادعاء بالانتماء إلى المرحلة الجمهورية المؤسِّسة لفجر الإسلام، في حين إنها تعود إلى مرحلة أسرِ الأشراف التي استولت على الحكم في أعقابِ ذلك والتي هيمنت على العالم الإسلامي المُفتت، ولهذا فالطابع الطائفي السياسي يكمن في كونها أحزاباً طائفية مُفتِّتة، ولا تحمل طابعَ التوحيد.
هنا لم تستطع الفئات البرجوازية الصغيرة والوسطى من تكوين رأسمالٍ صناعي قويٍّ يعيدُ تشكيل المجتمعات، مثلما هي مضطربةٌ بين المذهب السياسي والإسلام التوحيدي العاجزة عن الوصول إليه، فالتفكك بحد ذاته مقولات اقتصادية اجتماعية كنقصِ وسائل المواصلات وربط أجزاء المجتمع وتحويل المهّمشين العاطلين والحرفيين المنهارين ونساء البيوت والمغتربين إلى عمال صناعات كبرى، ولغياب ثقافة التحديث التراكمية لدى المسلمين وبقية قوى العالم المتحضرة.
أي أن المذهبيات السياسية جزء من عالم الإقطاع، عالمِ الجزئياتِ الصغيرة الاجتماعية والسياسية، وتجاوزه يحتاج إلى التوحيد الاقتصادي الكبير والأشكال السياسية التعاونية الواسعة.
الحصول على رأس المال الكبير والقفز إليه يظهر في العودة الغريبة إلى الصناديق المالية الغربية ذات الشروط القاسية والربوية، وهي المُهاجمة خلال عقود بسبب ذلك!
كذلك فإن محاولات نشر النموذج الجمهوري العنفي الفوضوي اللاعقلاني في التاريخ العربي الإسلامي في بلدان الخليج العربي مرةً عبر النموذج الإيراني، ومرة عبر النموذج الإخواني، يتوجه لاستغلال الثغرات الاجتماعية والسياسية في تطور هذه الدول والحصول على رأسِ المال الكبير المُفتَقد.
في حين إنه من الممكن التعاون التوحيدي العربي الإسلامي عبر العلاقات الاقتصادية المفيدة لكل الأطراف، لخلق تعاون واسع يطور القوى المنتجة في البشر والمصانع والعلوم.
لكن هذا يتطلب العودة إلى نقد المذهبيات السياسية كتعبير عن المغامرةِ وإنتاج الفوضى السياسية، أي إعادة النظر في تاريخ المسلمين بشكلٍ موضوعي وليس بأشكال طائفية مؤدلجة لقوى ما قبل رأسمالية، وهذا ما يؤدي إلى الارتفاع عن الأطر الضيقة للطوائف، واحترام التكوين التاريخي لها، وكذلك الارتفاع إلى مستوى تجارب البشر الحديثة في تجاوز الأشكال الضيقة لعالم الطوائف.
إن الصناعات الكبرى تتطلب ذلك ولهذا فإن الجمهوريات الدينية المحافظة تعتمد على مدخرات العمال ونشاطهم الكثيف خلال عقود ثم تسيطر على وعيهم وتقودهم إلى مغامرات بدلاً من أن توحدهم مع بقية العمال العرب والمسلمين وتوحدهم مع بقية التكوينات الاجتماعية في بلدانهم لتكوين تلك الصناعات التي لا تتكون إلا في شروط اجتماعية واقتصادية وثقافية متطور.
Published on January 07, 2020 18:07
January 5, 2020
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : نصف موت أو حياة جديدة
قد يتساءل قارئ يتصفح الجريدة وهو في طريقه إلى عمله مبكراً، لماذا تنهال المقالات والأخبار بشكل مبالغ فيه حين يغيّب الموت كاتباً أو روائياً، أو مفكراً، أو شاعراً، أو غيره من المثقفين؟ ماذا يختلف موت هؤلاء جميعاً عن موت شخص عادي أمضى حياته بين العمل وبيت العائلة؟ هل موت المثقفين يختلف عن موت الناس العاديين، ولماذا يصبح منجز الكتّاب مهماً أكثر بعد موتهم؟
أسئلة لا يمكن الإجابة عنها سريعاً، كما لو أننا نجيب عن أسمائنا، أو أعمارنا، فللموت حكايته التي لن تتوقف، والكتابة سيرتها الغريبة، وللكتّاب هيبتهم العالية، وذلك كله يستدعي الوقوف طويلاً والتأمل بكل هذه المفردات الغامضة والواضحة معاً .
غيب الموت الروائي البحريني عبـــــــدالله خلــــــــيفة، تاركاً خلفه سيلاً من الحبر الهادر على مئات الصفحات الخليجية والعربية، ومثيراً من جديد كل تلك التساؤلات التي مرت في بال القارئ المتجه إلى عمله باكراً، فالراحل قامة روائية عالية لها حضورها اللافت في المشهد البحريني والخليجي والعربي، صنعتها عشرات المؤلفات، ومئات المقالات الفكرية والنقدية والسياسية .
لا يختلف موت المثقفين عن موت سائر البشر، إلا أن موتهم يعني توقف مشروع أدبي أو فكري، أو شعري عن النمو، مشروع يمتد تاريخه إلى عشرات السنين، وهو ما يعني توقف مؤلفات كان من شأنها أن تحدث فعلاً جمالياً، أو تنقب عن عطب وتشير إليه، أو تكشف هوية ظلت غامضة، أو غيرها من أغراض الفعل الإبداعي الكتابي .
بموت الروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة، الذي بات يعتبر عرّاب الرواية البحرينية، توقف مشروع هائل من الجرأة، والحفر العميق في الثقافة الخليجية، والتأصيل لمفرداتها، فهو أنتج علاقة مغايرة مع البحر، هذا التكوين الهائل الذي يمثل جزءاً من هوية المواطن الخليجي، وحلقة من تاريخه مع الجغرافيا، وتوقف عند إشكاليات لافتة في الثقافة الخليجية تم تكفيره على إثرها .
فما لا شك فيه أن عبـــــــدالله خلــــــــيفة كان صوتاً متفرداً في الفضاء الثقافي الخليجي، وكانت له رؤاه وآراؤه المغايرة، إذ يقول في إحدى مقابلاته حول تطور الرواية الخليجية: «إن جيل الكتابة الروائية في الخليج لم يظهر سوى بعد إنجاز الثورات الوطنية في النصف الثاني من القرن العشرين»، من هنا، فإن معظم نتاجاته الروائية متجهة لقضايا اجتماعية تنموية، وقضايا التعسف الحكومي (الوطني) وجسد اختلاف الرؤى في طرق التنمية والتعبير عن معاناة النماذج الشعبية المسحوقة غالباً .
يبقى القول إنه إضافة إلى ما يمتاز به موت الكتاب عن غيرهم، فإنهم لا يموتون تماماً أو كأنهم يموتون حتى منتصف الموت، أو يحيون من جديد، فهم يتركون خلفهم عشرات المؤلفات التي تبقيهم أحياء في ذاكرة القراء، وهذا هو حال عبـــــــدالله خلــــــــيفة الذي ترك للمكتبة العربية أكثر من خمسين كتاباً بين مجموعة قصصية، ورواية، ودراسة فكرية نقدية، ذلك إضافة إلى مئات المقالات التي نشرت في عشرات الصحف الخليجية والعربية .
محمد أبو عرب : شاعر وصحفي اردني
أسئلة لا يمكن الإجابة عنها سريعاً، كما لو أننا نجيب عن أسمائنا، أو أعمارنا، فللموت حكايته التي لن تتوقف، والكتابة سيرتها الغريبة، وللكتّاب هيبتهم العالية، وذلك كله يستدعي الوقوف طويلاً والتأمل بكل هذه المفردات الغامضة والواضحة معاً .
غيب الموت الروائي البحريني عبـــــــدالله خلــــــــيفة، تاركاً خلفه سيلاً من الحبر الهادر على مئات الصفحات الخليجية والعربية، ومثيراً من جديد كل تلك التساؤلات التي مرت في بال القارئ المتجه إلى عمله باكراً، فالراحل قامة روائية عالية لها حضورها اللافت في المشهد البحريني والخليجي والعربي، صنعتها عشرات المؤلفات، ومئات المقالات الفكرية والنقدية والسياسية .
لا يختلف موت المثقفين عن موت سائر البشر، إلا أن موتهم يعني توقف مشروع أدبي أو فكري، أو شعري عن النمو، مشروع يمتد تاريخه إلى عشرات السنين، وهو ما يعني توقف مؤلفات كان من شأنها أن تحدث فعلاً جمالياً، أو تنقب عن عطب وتشير إليه، أو تكشف هوية ظلت غامضة، أو غيرها من أغراض الفعل الإبداعي الكتابي .
بموت الروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة، الذي بات يعتبر عرّاب الرواية البحرينية، توقف مشروع هائل من الجرأة، والحفر العميق في الثقافة الخليجية، والتأصيل لمفرداتها، فهو أنتج علاقة مغايرة مع البحر، هذا التكوين الهائل الذي يمثل جزءاً من هوية المواطن الخليجي، وحلقة من تاريخه مع الجغرافيا، وتوقف عند إشكاليات لافتة في الثقافة الخليجية تم تكفيره على إثرها .
فما لا شك فيه أن عبـــــــدالله خلــــــــيفة كان صوتاً متفرداً في الفضاء الثقافي الخليجي، وكانت له رؤاه وآراؤه المغايرة، إذ يقول في إحدى مقابلاته حول تطور الرواية الخليجية: «إن جيل الكتابة الروائية في الخليج لم يظهر سوى بعد إنجاز الثورات الوطنية في النصف الثاني من القرن العشرين»، من هنا، فإن معظم نتاجاته الروائية متجهة لقضايا اجتماعية تنموية، وقضايا التعسف الحكومي (الوطني) وجسد اختلاف الرؤى في طرق التنمية والتعبير عن معاناة النماذج الشعبية المسحوقة غالباً .
يبقى القول إنه إضافة إلى ما يمتاز به موت الكتاب عن غيرهم، فإنهم لا يموتون تماماً أو كأنهم يموتون حتى منتصف الموت، أو يحيون من جديد، فهم يتركون خلفهم عشرات المؤلفات التي تبقيهم أحياء في ذاكرة القراء، وهذا هو حال عبـــــــدالله خلــــــــيفة الذي ترك للمكتبة العربية أكثر من خمسين كتاباً بين مجموعة قصصية، ورواية، ودراسة فكرية نقدية، ذلك إضافة إلى مئات المقالات التي نشرت في عشرات الصحف الخليجية والعربية .
محمد أبو عرب : شاعر وصحفي اردني
Published on January 05, 2020 15:49
January 4, 2020
♀ضد النساء ⇦
تتمحور القضيةُ السياسية الاجتماعية الكبرى حول الموقف من النساء، والاتجاهان الرئيسيان المتضادان الديني والليبرالي يشكلان رؤيتين مختلفتين متصادمتين، وقد تبلورت أخيراً وتتويجاً في مسائل الدساتير والموقف الجوهري من الديمقراطية الحديثة وفي الصراع الكبير بين دولِ ولايةِ الإقطاع ودولِ ولايةِ الشعوب.
عبّرَ الموقفُ الإيراني القروي ضد التطور الديمقراطي والإنساني تجاه النساء، عن فرض ولاية التقليديين على الشعب ومصادرة تطوره الحر.
وكان الإخوان هم معلمو هذه الجماعة بدايةً في الخمسينيات من القرن العشرين حيث الركائز الأساسية في تعاليمهم تتمحور: ضد الديمقراطية الغربية وضد التحول الإسلامي باتجاهها، وابقاءً على هيمنة الذكور المطلقة، فهم نتاجُ الفقهِ الجزئي المحافظ الذي كرسَ نفسَهُ في تدهورِ الحضارةِ العربية الإسلامية لقمعِ التطور الديمقراطي في العائلة، وعدم إنتاج ديمقراطية تجاه الحكام.
والموقفُ المتطرفُ في هذا هو رفض البرلمانات بإعتبار إن التشريعَ إلهيٌّ، لا يجوز أن يقوم به بشرٌ ويقصدون بذلك إنه تشريعهم التفسيري ذكوري شديد المحافظة يرفضُ تغييرَ العلاقات الاستبداديةَ الموروثة ضد الشعوب والنساء، وهو تسليمٌ جديدٌ للاستعمار للهيمنة على شعوب أمهاتها متخلفاتٌ يرضعنّ أطفالَهن العبودية.
وقد عبرت المقارباتُ بين النصوصيين المتطرفين، وهم جماعاتُ ولايةِ الفقيهِ والسلفيين والقاعدة، عن توجههم لتحويل البرلمانات إلى كياناتٍ ديكورية يسيطرُ عليها رجالُ دينٍ محافظين، يمنعون التغييرَ في مجال حقوق النساء وإنتاج القراءات العقلانية للإسلام، ولإبقاء قراءاتهم الحَرفية واللاعقلانية والأسطورية له.
وفي إيران تقاربتْ هذه القراءةُ الشمولية التي إعتقلت نساءَ إيران في قمقم الأشكال والمنزل والتبعية، مع هيمنة الإقطاع الفارسي القروي على المؤسسات العامة والعسكرية خاصة، ومنع القوميات غير الفارسية من العدالة والتوحد الديقمراطي.
هذا التصعيد أدى إلى تنامى الاتجاهات السنية المضادة في العالم العربي وخاصة في المشرق الملاصق والمتأثر بالتوجهات الإيرانية المتصاعدة ضد العصر والديمقراطية.
الصراعُ بين الاتجاهين مذهبياً لا يمنعُ التداخلَ والاشتراك في سماتٍ إجتماعية ريفية محافظة مضادة للحداثة والديمقراطية.
الصراع في مصر وتونس أوضح إن المذهبيين السياسيين المحافظين غير قادرين على الخروج عن نظام بيت الطاعة للنساء، وإن إمتداداتهم الإقطاعية في حروب الفتوح وسبي النساء وعالم الجواري، أكثر من تعبيرهم عن أجنة الديمقراطية والمساواة العربية اللقاحية التي تشكلت في ظروف البداوة الصعبة، وهذا بدا واضحاً خلال الأصرار على الغيتو الديني العازل لعالم المسلمين عن الغرب، وعمليات تفجير الصراعات المفتعلة غالباً ضد حداثته وعقلانيته وديمقراطيته لا ضد إستغلاله، التي تحولت لهوس الارتداد والعودة للكهوف والهجرات المتجّاوزة منذ العهود الأولى للعرب.
وفي المقابل فإن العربَ الليبراليين والمقاربين لشيءٍ من الحداثة والمساواة بين الرجال والنساء ليسوا على إتفاق واحد كلي، لكن مواقعهم لم تعد مثلما كانت في فترة إختطاف الإقطاع الإيراني للشعب من العالم الحديث وإعادته كلياً للعصر الوسيط، فقد بينت قواهم في مصر وتونس والمغرب أن إبتلاعَ الشعوب السائرة في التحديث لم يعد ممكناً، وأن الصانع لهذا سوف يخسر مواقعه السياسية والاجتماعية في وقت سريع.
لكن كل هذه المواقف الليبرالية التحديثية تتفاوت بين الدول والجماعات السياسية وليس ثمة جبهة سياسية ذات خطوط قوية توجه العمليات لمنع الاختطاف للديمقراطية والتحديث وتفجير الصراعات الطائفية والاجتماعية الهامشية وهو ديدن الاتجاهات المذهبية السياسية العاجزة عن فهم العصر والممزقة للأوطان.
إن مواقفَ القوى التحديثية بحاجة لرفد القوى التقدمية والديمقراطية وتحويلها لسياسات عربية وإسلامية وإنسانية واسعة ومؤثرة ودعوة ملايين المغتربين الإيرانيين للمساهمة في هذه المعركة في بلدهم وفي المنطقة بدلاً من الذوبان في مهاجر الغرب، وإحداث تقارب وتبادل أفكار وشعارات لجماعات الليبرالية والديمقراطية في عموم المنطقة لمنعِ تصاعد الاستبداد الديني وهزيمته.
إن العديدَ من القوى التحديثية نفسها تعاني من هيمنة الذكورية في تنظيماتها وأفكارها، وتساهم مساهمات رجعيةً مُساعِدةً لقوى التفتيت والعودة للوراء، دون أن تعتبر أن الموقف من النساء هو موقف حاسم، فلا يُقبل من قوى تقمع أمهاتها وزوجاتها ثم تقدمُ الحريةَ لشعوبٍ مجردة.
إن وضعَ النساء حاسمٌ في البرامج السياسية والدساتير والقوانين ومن لا يُعطي الحريةَ للنساء يتقدم لاعتقال الرجال.
عبّرَ الموقفُ الإيراني القروي ضد التطور الديمقراطي والإنساني تجاه النساء، عن فرض ولاية التقليديين على الشعب ومصادرة تطوره الحر.
وكان الإخوان هم معلمو هذه الجماعة بدايةً في الخمسينيات من القرن العشرين حيث الركائز الأساسية في تعاليمهم تتمحور: ضد الديمقراطية الغربية وضد التحول الإسلامي باتجاهها، وابقاءً على هيمنة الذكور المطلقة، فهم نتاجُ الفقهِ الجزئي المحافظ الذي كرسَ نفسَهُ في تدهورِ الحضارةِ العربية الإسلامية لقمعِ التطور الديمقراطي في العائلة، وعدم إنتاج ديمقراطية تجاه الحكام.
والموقفُ المتطرفُ في هذا هو رفض البرلمانات بإعتبار إن التشريعَ إلهيٌّ، لا يجوز أن يقوم به بشرٌ ويقصدون بذلك إنه تشريعهم التفسيري ذكوري شديد المحافظة يرفضُ تغييرَ العلاقات الاستبداديةَ الموروثة ضد الشعوب والنساء، وهو تسليمٌ جديدٌ للاستعمار للهيمنة على شعوب أمهاتها متخلفاتٌ يرضعنّ أطفالَهن العبودية.
وقد عبرت المقارباتُ بين النصوصيين المتطرفين، وهم جماعاتُ ولايةِ الفقيهِ والسلفيين والقاعدة، عن توجههم لتحويل البرلمانات إلى كياناتٍ ديكورية يسيطرُ عليها رجالُ دينٍ محافظين، يمنعون التغييرَ في مجال حقوق النساء وإنتاج القراءات العقلانية للإسلام، ولإبقاء قراءاتهم الحَرفية واللاعقلانية والأسطورية له.
وفي إيران تقاربتْ هذه القراءةُ الشمولية التي إعتقلت نساءَ إيران في قمقم الأشكال والمنزل والتبعية، مع هيمنة الإقطاع الفارسي القروي على المؤسسات العامة والعسكرية خاصة، ومنع القوميات غير الفارسية من العدالة والتوحد الديقمراطي.
هذا التصعيد أدى إلى تنامى الاتجاهات السنية المضادة في العالم العربي وخاصة في المشرق الملاصق والمتأثر بالتوجهات الإيرانية المتصاعدة ضد العصر والديمقراطية.
الصراعُ بين الاتجاهين مذهبياً لا يمنعُ التداخلَ والاشتراك في سماتٍ إجتماعية ريفية محافظة مضادة للحداثة والديمقراطية.
الصراع في مصر وتونس أوضح إن المذهبيين السياسيين المحافظين غير قادرين على الخروج عن نظام بيت الطاعة للنساء، وإن إمتداداتهم الإقطاعية في حروب الفتوح وسبي النساء وعالم الجواري، أكثر من تعبيرهم عن أجنة الديمقراطية والمساواة العربية اللقاحية التي تشكلت في ظروف البداوة الصعبة، وهذا بدا واضحاً خلال الأصرار على الغيتو الديني العازل لعالم المسلمين عن الغرب، وعمليات تفجير الصراعات المفتعلة غالباً ضد حداثته وعقلانيته وديمقراطيته لا ضد إستغلاله، التي تحولت لهوس الارتداد والعودة للكهوف والهجرات المتجّاوزة منذ العهود الأولى للعرب.
وفي المقابل فإن العربَ الليبراليين والمقاربين لشيءٍ من الحداثة والمساواة بين الرجال والنساء ليسوا على إتفاق واحد كلي، لكن مواقعهم لم تعد مثلما كانت في فترة إختطاف الإقطاع الإيراني للشعب من العالم الحديث وإعادته كلياً للعصر الوسيط، فقد بينت قواهم في مصر وتونس والمغرب أن إبتلاعَ الشعوب السائرة في التحديث لم يعد ممكناً، وأن الصانع لهذا سوف يخسر مواقعه السياسية والاجتماعية في وقت سريع.
لكن كل هذه المواقف الليبرالية التحديثية تتفاوت بين الدول والجماعات السياسية وليس ثمة جبهة سياسية ذات خطوط قوية توجه العمليات لمنع الاختطاف للديمقراطية والتحديث وتفجير الصراعات الطائفية والاجتماعية الهامشية وهو ديدن الاتجاهات المذهبية السياسية العاجزة عن فهم العصر والممزقة للأوطان.
إن مواقفَ القوى التحديثية بحاجة لرفد القوى التقدمية والديمقراطية وتحويلها لسياسات عربية وإسلامية وإنسانية واسعة ومؤثرة ودعوة ملايين المغتربين الإيرانيين للمساهمة في هذه المعركة في بلدهم وفي المنطقة بدلاً من الذوبان في مهاجر الغرب، وإحداث تقارب وتبادل أفكار وشعارات لجماعات الليبرالية والديمقراطية في عموم المنطقة لمنعِ تصاعد الاستبداد الديني وهزيمته.
إن العديدَ من القوى التحديثية نفسها تعاني من هيمنة الذكورية في تنظيماتها وأفكارها، وتساهم مساهمات رجعيةً مُساعِدةً لقوى التفتيت والعودة للوراء، دون أن تعتبر أن الموقف من النساء هو موقف حاسم، فلا يُقبل من قوى تقمع أمهاتها وزوجاتها ثم تقدمُ الحريةَ لشعوبٍ مجردة.
إن وضعَ النساء حاسمٌ في البرامج السياسية والدساتير والقوانين ومن لا يُعطي الحريةَ للنساء يتقدم لاعتقال الرجال.
Published on January 04, 2020 17:11
•
Tags:
ضد-النساء
♀علموا أسركم الرقصَ ⇦
انفصلوا عن أمهاتهم في الجيل السابق، وغرقوا في كتب سارتر وجبران.
الأمهات في المطابخ بين الدخان والنار. يتصاعد السكر، تحدث أول جلطة، يتضخم الجسم، ربما يتزوج الزوج عليها، ربما تموت فيرثها.
الجيل السابق منفصل عن التراب والمادة والعاملين، يدع أجساد الأمهات تتضخم، يوسع نطاق العباءة، يحضر الأدوية، والمرأة لا تخرج من البيت، ولا تعرف الفنون كما في السابق، حين كان الغوص والزرع يتيح بعض الحرية في غياب الرجال!
تزداد السمنة والانغلاق مع تصاعد أسعار الزيت، وتكثر الأحجبة والعباءات والنوم واللجؤ للسحرة.
تزداد أعداد الزوجات، وتكثر القيود، ويصير شاطئ البحر حلماً، والحديقة مشوار للصغار فقط.
يغرق الجيل الجديد في الخوف من النساء، كلما طالت لحاه كثر قيوده وأشباحه وكتبه الصفراء ووضع الستائر بينه وبين النساء وفرض القيود على البشر الأحرار، وحجز النساء خاصة في زنزانات خاصة، وأمكنة وراء الجدران والسماعات والفرح.
معاداته للفنون والخوف من النساء جانبان من موقف واحد، ففي أزمنة التعددية الدينية كانت هناك الفنون المختلفة، ومع الشمولية الدينية يمنع الرقص إلا للجواري اللواتي تتحسن صحتهن ودخولهن.
الفنون تطور الحس والذوق والوعي، وتجعل المرء يتفتح على العالم، ويسافر ويقرأ الكتب المختلفة بدلاً من الكتيبات الصفراء ذات التوجيهات الحادة التي تعلم العداوة وكراهية البشر الآخرين المختلفين.
كلما زاد تعصبه أنفصل عن أمه، لهذا فوجودها في المطبخ وأمراض السمنة والسكر والقلب، بعيدة عن سمعه مفيدة لحركته.
لا تجمعه بأمه رقصة، ولا سهرة، ولا سفرة، حتى تتعفن في المطبخ بين المواقد والفحم والحطب.
ربما تتحول إلى مجنونة في البيت، وهي تشم روائح الخيانة، وتنتظر مجيء الزوج في آخر الليل.
تنفلت أعصابها تغدو في حالات هستيرية غير مفهومة، يدهش الذكور من أعراضها، ولا يتصورون الحبس الذي تعيشه، وكأنه حالة عادة ضرورية.
هل ينشأ جيل ديمقراطي تحديثي يخرج أمهاته من الحبس ويعلمهن الرقص؟
الأمهات في المطابخ بين الدخان والنار. يتصاعد السكر، تحدث أول جلطة، يتضخم الجسم، ربما يتزوج الزوج عليها، ربما تموت فيرثها.
الجيل السابق منفصل عن التراب والمادة والعاملين، يدع أجساد الأمهات تتضخم، يوسع نطاق العباءة، يحضر الأدوية، والمرأة لا تخرج من البيت، ولا تعرف الفنون كما في السابق، حين كان الغوص والزرع يتيح بعض الحرية في غياب الرجال!
تزداد السمنة والانغلاق مع تصاعد أسعار الزيت، وتكثر الأحجبة والعباءات والنوم واللجؤ للسحرة.
تزداد أعداد الزوجات، وتكثر القيود، ويصير شاطئ البحر حلماً، والحديقة مشوار للصغار فقط.
يغرق الجيل الجديد في الخوف من النساء، كلما طالت لحاه كثر قيوده وأشباحه وكتبه الصفراء ووضع الستائر بينه وبين النساء وفرض القيود على البشر الأحرار، وحجز النساء خاصة في زنزانات خاصة، وأمكنة وراء الجدران والسماعات والفرح.
معاداته للفنون والخوف من النساء جانبان من موقف واحد، ففي أزمنة التعددية الدينية كانت هناك الفنون المختلفة، ومع الشمولية الدينية يمنع الرقص إلا للجواري اللواتي تتحسن صحتهن ودخولهن.
الفنون تطور الحس والذوق والوعي، وتجعل المرء يتفتح على العالم، ويسافر ويقرأ الكتب المختلفة بدلاً من الكتيبات الصفراء ذات التوجيهات الحادة التي تعلم العداوة وكراهية البشر الآخرين المختلفين.
كلما زاد تعصبه أنفصل عن أمه، لهذا فوجودها في المطبخ وأمراض السمنة والسكر والقلب، بعيدة عن سمعه مفيدة لحركته.
لا تجمعه بأمه رقصة، ولا سهرة، ولا سفرة، حتى تتعفن في المطبخ بين المواقد والفحم والحطب.
ربما تتحول إلى مجنونة في البيت، وهي تشم روائح الخيانة، وتنتظر مجيء الزوج في آخر الليل.
تنفلت أعصابها تغدو في حالات هستيرية غير مفهومة، يدهش الذكور من أعراضها، ولا يتصورون الحبس الذي تعيشه، وكأنه حالة عادة ضرورية.
هل ينشأ جيل ديمقراطي تحديثي يخرج أمهاته من الحبس ويعلمهن الرقص؟
Published on January 04, 2020 17:10
•
Tags:
علموا-أسركم-الرقص
♀الرقص ودلالاته الاجتماعية ⇦
حين ظهرت الأديان السماوية في المشرق العربي اضطرت وهي تواجه الثقافة الوثنية بفنونها الكثيرة، المتداخلة مع عبادة الأوثان، والمُفككة للمجتمعات، أن ترفض الثقافة القديمة بجملتها، متوجهة نحو عوالم جديدة من التطور الاجتماعي والثقافي.
ولهذا ظهر رجل الدين كإنسان بعيد عن الرقص والفنون عامة، خلافاً لرجال الدين في الكثيرمن الحضارات، التي تمازج الفن فيها مع الدين.
وعلى الرغم من انتهاء الوثنية وطقوسها وعباداتها، فإن الحذر من الفنون ظل مهيمناً على الوعي الديني الصارم، الذي اخذ يتمسك بالأشكال المقطوعة عن سياقها وأسبابها.
لم تعد الفنون بعد تجذر الأديان السماوية في المشرق وفي العالم مبعثاً للخوف، أو للارتداد إلى الوثنية، ولهذا فإن الكثير من المتدينين والمسلمين عادوا إلى الفنون، وإلى الرقص تحديداً، لأنه فن جماهيري جميل ومفيد صحياً.
وقد تداخلت الفنون حتى مع ظهور الأسلام وانتشاره خاصة في الاحتفالات الجماهيرية في الهجرة وبالمولد النبوي والفتوحات والإسراء والمعراج.
إن الفنون الشعبية الإسلامية فيها الكثيرمن فنون الرقص الفردي والجماعي، وهي كلها فنون لها دورها في تقوية العلاقات بين الجمهور، وتكريس احتفالاته الزراعية والعسكرية والإنتاجية والاجتماعية المختلفة.
وهناك صورة سيئة للرقص هي ما يعرف بالرقص الشرقي الذي تقوم به الراقصات وهو رقص ظهر في القصور لتسليه الحكام والأغنياء وتأجيج شهواتهم، حيث يُظهر المرأة بصورة قبيحة، وهولا علاقة له بالرقص الحقيقي، ولكنه دائما يُتخذ كأنه الرقص الوحيد لدى العرب! وقد تحول إلى ظاهرة حين استغله أصحاب الحانات والمراقص لجذب الرجال المسلمين المتعطشين والمحرومين لأي مظهر جنسي.
إن انفصال الفنون عن الاختلاط وعن المشاركة الجماعية والفرح قد فتح الباب لهذا المظهر الوضيع من الرقص ومن العرض المبتذل. بعكس الغرب أو بقية المناطق، حيث استمر الاختلاط والرقص الشعبي الجميل والظاهرات الحضارية، وغاب لديهم الرقص الشرقي العربي حيث تقوم الراقصات باستعراض لحمهن!
وتطورالرقص في الغرب على ضوء هذا النمو الحضاري ليتحول إلى فنون الاستعراض المختلفة، كالأوبرا والمسرحيات الغنائية، وهنا نجد الأجسام وأحياناً شبه العارية ولكنها تتحول الى شموع مقدسة، وإلى شعر بشري مجسد، وإلى ذروة من الأخلاق والسمو بعرض الحكايات والقصائد والملاحم المتضافرة والموسيقى السيمفونية الراقية، وهنا على العكس لا يغدو الجسد الراقص إلا سبيلا للتطور الأخلاقى!
ليس للرقص معانيه الجمالية الرفيعة فحسب بل هو أيضاً وسيلة للتربية والعلاج النفسي، وكثير من عقد العرب الاجتماعية والنفسية ناتجة من عدم المشاركة في الرقص، وتغييب الاحتفالات الفرحة، بزيادة السعرات الحرارية في الجسم وتراكم الشحوم والضغوط والعقد النفسية وهيمنة الذكورية من جانب أوالأنوثة من جانب آخر، وعدم وجود الكهرباء الاجتماعية الخلاقة التي تصهر المجموع وتزيل الكثير من الحواجز و السرطانات الفكرية من داخله.
وهذه التربية المعادية للفتون الراقية هي التي جعلت العديد من العرب والمسلمين أثناء زياراتهم للغرب أو الشرق، يتوجهون لعلب الليل غير الصحية، وأماكن العروض المبتذلة، ويتركون المتاحف والمسارح الراقية والمراقص الفنية الجميلة!
ولهذا ظهر رجل الدين كإنسان بعيد عن الرقص والفنون عامة، خلافاً لرجال الدين في الكثيرمن الحضارات، التي تمازج الفن فيها مع الدين.
وعلى الرغم من انتهاء الوثنية وطقوسها وعباداتها، فإن الحذر من الفنون ظل مهيمناً على الوعي الديني الصارم، الذي اخذ يتمسك بالأشكال المقطوعة عن سياقها وأسبابها.
لم تعد الفنون بعد تجذر الأديان السماوية في المشرق وفي العالم مبعثاً للخوف، أو للارتداد إلى الوثنية، ولهذا فإن الكثير من المتدينين والمسلمين عادوا إلى الفنون، وإلى الرقص تحديداً، لأنه فن جماهيري جميل ومفيد صحياً.
وقد تداخلت الفنون حتى مع ظهور الأسلام وانتشاره خاصة في الاحتفالات الجماهيرية في الهجرة وبالمولد النبوي والفتوحات والإسراء والمعراج.
إن الفنون الشعبية الإسلامية فيها الكثيرمن فنون الرقص الفردي والجماعي، وهي كلها فنون لها دورها في تقوية العلاقات بين الجمهور، وتكريس احتفالاته الزراعية والعسكرية والإنتاجية والاجتماعية المختلفة.
وهناك صورة سيئة للرقص هي ما يعرف بالرقص الشرقي الذي تقوم به الراقصات وهو رقص ظهر في القصور لتسليه الحكام والأغنياء وتأجيج شهواتهم، حيث يُظهر المرأة بصورة قبيحة، وهولا علاقة له بالرقص الحقيقي، ولكنه دائما يُتخذ كأنه الرقص الوحيد لدى العرب! وقد تحول إلى ظاهرة حين استغله أصحاب الحانات والمراقص لجذب الرجال المسلمين المتعطشين والمحرومين لأي مظهر جنسي.
إن انفصال الفنون عن الاختلاط وعن المشاركة الجماعية والفرح قد فتح الباب لهذا المظهر الوضيع من الرقص ومن العرض المبتذل. بعكس الغرب أو بقية المناطق، حيث استمر الاختلاط والرقص الشعبي الجميل والظاهرات الحضارية، وغاب لديهم الرقص الشرقي العربي حيث تقوم الراقصات باستعراض لحمهن!
وتطورالرقص في الغرب على ضوء هذا النمو الحضاري ليتحول إلى فنون الاستعراض المختلفة، كالأوبرا والمسرحيات الغنائية، وهنا نجد الأجسام وأحياناً شبه العارية ولكنها تتحول الى شموع مقدسة، وإلى شعر بشري مجسد، وإلى ذروة من الأخلاق والسمو بعرض الحكايات والقصائد والملاحم المتضافرة والموسيقى السيمفونية الراقية، وهنا على العكس لا يغدو الجسد الراقص إلا سبيلا للتطور الأخلاقى!
ليس للرقص معانيه الجمالية الرفيعة فحسب بل هو أيضاً وسيلة للتربية والعلاج النفسي، وكثير من عقد العرب الاجتماعية والنفسية ناتجة من عدم المشاركة في الرقص، وتغييب الاحتفالات الفرحة، بزيادة السعرات الحرارية في الجسم وتراكم الشحوم والضغوط والعقد النفسية وهيمنة الذكورية من جانب أوالأنوثة من جانب آخر، وعدم وجود الكهرباء الاجتماعية الخلاقة التي تصهر المجموع وتزيل الكثير من الحواجز و السرطانات الفكرية من داخله.
وهذه التربية المعادية للفتون الراقية هي التي جعلت العديد من العرب والمسلمين أثناء زياراتهم للغرب أو الشرق، يتوجهون لعلب الليل غير الصحية، وأماكن العروض المبتذلة، ويتركون المتاحف والمسارح الراقية والمراقص الفنية الجميلة!
Published on January 04, 2020 17:10
•
Tags:
الرقص-ودلالاته-الاجتماعية
♀النساء والسحر ⇦
في فيلم (عتبة الستات) العربي تقع بطلة الفيلم ضحية مزدوجة لكبرياء زوجها الذي لا يعترف أنه غير قادر على الأنجاب، وضحية لجهلها الفكري، ووقوعها في أيدي عصابة من المشعوذات اللواتي يقمن بسرقتها، وبإخضاعها لعملية إخصاب على غير علمها وبشكل إجرإمى.
إن المشكلة المزدوجة وهي مشكلة الكبرياء |لكاذبة للذكورة، وجهل النساء بخدع الدجل السحري والسياسي، تعبر في الواقع عن النتائج الطويلة لحبس النساء في قماقم التخلف.
ولإ يوجد قوة أكبر لدى قطاع كبير من النساء من السحر، فهذه القوة الاجتماعية والسياسية المتوارية هي المعادل لزمن طويل من تغييبهن عن العلوم والإنتاج والصناعة، وعن المشاركة السياسية في الحياة، وهي الثمرة الطبيعية لوجودهن في العمل.
ولا يؤدي دخولهن هذا الميدان إلى زوال تلك الخلفية الثقافية التي استمرت عدة ألاف من السنين، بل إن الأمر يحتاج إلى جهود كبيرة للجمع بين النشاطين الاجتماعي والاقتصادي وبين الثقافة الحديثة، مثلما لم تستطع الطبيبة أن تقاوم إغراءات الدجالات نظراً لوقوعها في مشكلة حادة، وعدم قيام الزوج بواجبه في تنويرها بانه عاجز عن الإنجاب، بل تركها فريسة للضغوط بحيث إن هذه الضغوط استدعت الجذور العميقة في الشخصية، فراحت الدكتورة تضرب الودع وترى قيعان الفناجين ؤتتصور الخيالات التي تعكس حالاتها الداخلية المضطربة.
إن هذه الجذور والرواسب التاريخية تصعد إثر أزمة الشخصية؛ وإذا لم تجد تنويراً وتبصيراً، واستمرت المشكلة، فإن هذه الرواسب تتحول إلى عمليات شبيهة بالجنون، فيحدث انفصام بين الشخصية والعالم الموضوعي، مثلما يحدث الأن لأقسام عديدة من الجماهير العربية حيث لا يتم حل مشكلاتها المعيشية، والاجتماعية والفكرية، فتحتدم داخلها وتلجأ إلى بعض المثقفين فلا يكشفون جذورها، بل يستغلونها، ويتحولون إلى ما يشبه الدجالات في الفيلم العربي، فيستثمرون الأزمة لصعودهم السياسي والمالي.
وتمثل النساء قطاعا كبيرا يمكن استغلاله بالنسبة إلى السحرة الاجتماعيين والسياسيين، الذين لا يقدمون برامج لكيفية الخروج من المآزق والمشكلات الاقتصادية والسياسية، فالنساء مع خبرتهن القليلة فى كشف الشعوذة، واعتبار المشكلات الحياتية تنصب على رؤوسهن فى خاتمة المطاف، فيتحملن ظلم الرجال والحكام في آن معاً، فلا يجدن أمامهن إلا المسارب والدروب الجانبية والسبل البدائية فيعرضن أزماتهن على الدجالين.
وهذا السحر يبدأ من صفحات الجرائد حتى الأمثال والدعاية والأفلام والحركات الاجتماعية والسياسية، إنه القوة الكبيرة التي تحرك عالم العرب وإن كانوا لا يدركون ذلك، او يضيقون وجوده وحدوده، والعربي يولد وهو تابع للغيب، بكل قواه المختلفة، وهذا الغيب من دون قوانين فى وعيه، ولهذا فمختلف الكائنات تسيطر عليه، وما هو إلا ريشة في مهب الريح، فلا بد أن يتقيها ببخور أو بتعويذة أوببيضة أو زيارة، خاصة ان المرافق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المختلفة تخضع لمثل تلك الفوضى حيث لا قوانين ولا دستور، والتخلف الطبي والتعليمي والفكري يضرب بإطنابه، وإذا كان الرجال قد تصارعوا مع هذه الفوضى وعركوها بعض العراك واستسلموا بحدود معينة لقوتها، فإن النساء لم يجربن العراك مع هذه القوى التي لا تخضع لدستور أو قانون، وحيث تتحكم في الإنسان العربي على مدى الاف السنين قوى الأقليات المستغلة، ولا عجب أن يبدأ الدخول إلى عالم الجن بكلمة «دستور»، ولكن أي دستور!
إن المشكلة المزدوجة وهي مشكلة الكبرياء |لكاذبة للذكورة، وجهل النساء بخدع الدجل السحري والسياسي، تعبر في الواقع عن النتائج الطويلة لحبس النساء في قماقم التخلف.
ولإ يوجد قوة أكبر لدى قطاع كبير من النساء من السحر، فهذه القوة الاجتماعية والسياسية المتوارية هي المعادل لزمن طويل من تغييبهن عن العلوم والإنتاج والصناعة، وعن المشاركة السياسية في الحياة، وهي الثمرة الطبيعية لوجودهن في العمل.
ولا يؤدي دخولهن هذا الميدان إلى زوال تلك الخلفية الثقافية التي استمرت عدة ألاف من السنين، بل إن الأمر يحتاج إلى جهود كبيرة للجمع بين النشاطين الاجتماعي والاقتصادي وبين الثقافة الحديثة، مثلما لم تستطع الطبيبة أن تقاوم إغراءات الدجالات نظراً لوقوعها في مشكلة حادة، وعدم قيام الزوج بواجبه في تنويرها بانه عاجز عن الإنجاب، بل تركها فريسة للضغوط بحيث إن هذه الضغوط استدعت الجذور العميقة في الشخصية، فراحت الدكتورة تضرب الودع وترى قيعان الفناجين ؤتتصور الخيالات التي تعكس حالاتها الداخلية المضطربة.
إن هذه الجذور والرواسب التاريخية تصعد إثر أزمة الشخصية؛ وإذا لم تجد تنويراً وتبصيراً، واستمرت المشكلة، فإن هذه الرواسب تتحول إلى عمليات شبيهة بالجنون، فيحدث انفصام بين الشخصية والعالم الموضوعي، مثلما يحدث الأن لأقسام عديدة من الجماهير العربية حيث لا يتم حل مشكلاتها المعيشية، والاجتماعية والفكرية، فتحتدم داخلها وتلجأ إلى بعض المثقفين فلا يكشفون جذورها، بل يستغلونها، ويتحولون إلى ما يشبه الدجالات في الفيلم العربي، فيستثمرون الأزمة لصعودهم السياسي والمالي.
وتمثل النساء قطاعا كبيرا يمكن استغلاله بالنسبة إلى السحرة الاجتماعيين والسياسيين، الذين لا يقدمون برامج لكيفية الخروج من المآزق والمشكلات الاقتصادية والسياسية، فالنساء مع خبرتهن القليلة فى كشف الشعوذة، واعتبار المشكلات الحياتية تنصب على رؤوسهن فى خاتمة المطاف، فيتحملن ظلم الرجال والحكام في آن معاً، فلا يجدن أمامهن إلا المسارب والدروب الجانبية والسبل البدائية فيعرضن أزماتهن على الدجالين.
وهذا السحر يبدأ من صفحات الجرائد حتى الأمثال والدعاية والأفلام والحركات الاجتماعية والسياسية، إنه القوة الكبيرة التي تحرك عالم العرب وإن كانوا لا يدركون ذلك، او يضيقون وجوده وحدوده، والعربي يولد وهو تابع للغيب، بكل قواه المختلفة، وهذا الغيب من دون قوانين فى وعيه، ولهذا فمختلف الكائنات تسيطر عليه، وما هو إلا ريشة في مهب الريح، فلا بد أن يتقيها ببخور أو بتعويذة أوببيضة أو زيارة، خاصة ان المرافق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المختلفة تخضع لمثل تلك الفوضى حيث لا قوانين ولا دستور، والتخلف الطبي والتعليمي والفكري يضرب بإطنابه، وإذا كان الرجال قد تصارعوا مع هذه الفوضى وعركوها بعض العراك واستسلموا بحدود معينة لقوتها، فإن النساء لم يجربن العراك مع هذه القوى التي لا تخضع لدستور أو قانون، وحيث تتحكم في الإنسان العربي على مدى الاف السنين قوى الأقليات المستغلة، ولا عجب أن يبدأ الدخول إلى عالم الجن بكلمة «دستور»، ولكن أي دستور!
Published on January 04, 2020 17:10
•
Tags:
النساء-والسحر
♀حراس الأسرة الأبوية ⇦
اعتمد الإقطاع الديني في هيمنته على المسلمين على الإرث القبلي الجاهلى، حيث الأسرة الممتدة وسيطرة رب العائلة المطلق، وتعني هذه الأبوية الشديدة، والعشائريه، وابعاد النساء عن الشؤون العامة والمساواة مع الرجال والمتاجرة الاجتماعية والمادية بهن.
وقد حاول الإسلام التخفيف من هذه الظواهر الجاهلية، لكن الفتوحات التى كدست الثروة فى أيدي الرجال والأغنياء، مثلت ارتداداً أكبر عن تعاليم الإسلام، ومع ظهور الإقطاعين السياسي والديني، تم تأبيد البنيه الذكورية الأبوية العشائرية وبعدها البنية الاجتماعية للأنطمة في أحكام تعدد الزوجات التي قام الإسلام بتخفيفها عن الجاهلية الأولى حيث العدد الحر من الزوجات، اشترط العدل، وكانت هذه الأحكام جزءاً من العمليه الاجتماعية النهضوية عن زمن التفكك والتخلف السابق، لكن الثروات التي انهالت على الأشراف وأيديولوجييهم الدينيين، جعلت أحكام العدل تتنحى والشهوات تفرض نفسها. ولم يكن ثمة حماية أكبرلأنظمه الاستغلال هذه من الادعاء والاحتماء بالدين، وأخذه في أشكاله المفصوله عن غاياته وتطوره.
إن الاستغلال الجنسي للنساء، والاستغلال الاقتصادي للعاملين والتجار والحرفيين، يتداخلان وهيمنة السلطة السياسية عند الحكام، والسلطه الأيديولوجية عند رجال الدين.
لكن كان على النساء أن يعانين وضعاً أصعب وأقسى بكثير من الرجال، كان عليهن أن يقاسين سيطرة الأسرة الأبوية، حيث يتحول المنزل إلى أداة للتفريخ والمتعه، وتنحجب المرأة عن العالم، لكي يؤدي هذا التحجب إلى القضاء على الأساس الاجتماعي الممكن لتطور المجتمع. فلم تؤد هذه الهيمنة الأبوية الذكورية سوى إلى التخلف الكامل لهذا الجنس، ثم تخريب تطور الأسرة الثقافي والاجتماعي. لقد صارت منزله المرأة لا تزيد على مكانه البهيمة، فهي تعرف في وثيقة
الزواج ما إذا كانت بكراً أم ثيباً، وهكذا فإن الأعضاء التناسلية يجب أن تُفحص أو يتم التأكد منها قبل الزواج، مثل الماعز التي تذبح، ويتم فحص جلدها ووبرها. ويزعمون ان هذه الصيغة تتفق وروح العدل في القرآن!
وإذا كان التاريخ الجنسي للمرأة يجب أن يكون معروفاً موثقاً ، فإن التاريخ الجنسي للرجل يحب أن يكون مصاناً محفوظاً، أي مُغيباً مجهولاً، فيستطيع أن يقوم بما شاء من مغامرات ولا يتم فحص أجهزته التناسلية.
كذلك فإن زيجاته السابقات ونساءه اللواتى على ذمته، وربما عشيقاته المحفيات، كل هؤلاء النسوة يجب الا يُسأل عنهن، أما المرأة التى أخذت كبهيمة إلى « زريبه» الزواج، فيجب أن يعرف بدقه ما إذا
كانت عذراء بكراً، أم مطلقة أم أرملة، وبطبيعة الحال فإن سمعتها تكون قد سبقتها، فالقيود التى انحفرت فى قدميها، ويديها، وجدران السجن الأبوي التى أكلت من عمرها، والاخوة الحراس الأشداء قاموا بدورهم البطولى فى ضربها والتفتيش فى جلدها وملابسها بحثا عن رائحه ذكر.
عشرون سنة من السجن الأبوي، وفي مناطق أخرى أكثر (تحضراً) خمس عشرة سنة أوربما عشر، وتكون البهيمه الُمعدة للتناسل قد أُعدت للانتقال إلى سجن آخر، وتم دمغها بالشرف الجلدي العظيم، وأُعدت لإنتاج نسل أنوي دقيق متسلسل. ولكن الشكوك تبقى مستمرة، وتبقى الأقفال عند السيد، والأموال، والمراقبة، والمطاردة، والضرب والهجر والخيانة، والزواج بأخريات، وتبديد الصرف، وعدم وجود محاسبة ومراقبة من المرأة أو من المجتمع، فهوالحاكم المطلق في مملكته.
ويزعمون بعد هذا ان هذه الصيغة تتفق وروح العدل في القرآن!!
وقد حاول الإسلام التخفيف من هذه الظواهر الجاهلية، لكن الفتوحات التى كدست الثروة فى أيدي الرجال والأغنياء، مثلت ارتداداً أكبر عن تعاليم الإسلام، ومع ظهور الإقطاعين السياسي والديني، تم تأبيد البنيه الذكورية الأبوية العشائرية وبعدها البنية الاجتماعية للأنطمة في أحكام تعدد الزوجات التي قام الإسلام بتخفيفها عن الجاهلية الأولى حيث العدد الحر من الزوجات، اشترط العدل، وكانت هذه الأحكام جزءاً من العمليه الاجتماعية النهضوية عن زمن التفكك والتخلف السابق، لكن الثروات التي انهالت على الأشراف وأيديولوجييهم الدينيين، جعلت أحكام العدل تتنحى والشهوات تفرض نفسها. ولم يكن ثمة حماية أكبرلأنظمه الاستغلال هذه من الادعاء والاحتماء بالدين، وأخذه في أشكاله المفصوله عن غاياته وتطوره.
إن الاستغلال الجنسي للنساء، والاستغلال الاقتصادي للعاملين والتجار والحرفيين، يتداخلان وهيمنة السلطة السياسية عند الحكام، والسلطه الأيديولوجية عند رجال الدين.
لكن كان على النساء أن يعانين وضعاً أصعب وأقسى بكثير من الرجال، كان عليهن أن يقاسين سيطرة الأسرة الأبوية، حيث يتحول المنزل إلى أداة للتفريخ والمتعه، وتنحجب المرأة عن العالم، لكي يؤدي هذا التحجب إلى القضاء على الأساس الاجتماعي الممكن لتطور المجتمع. فلم تؤد هذه الهيمنة الأبوية الذكورية سوى إلى التخلف الكامل لهذا الجنس، ثم تخريب تطور الأسرة الثقافي والاجتماعي. لقد صارت منزله المرأة لا تزيد على مكانه البهيمة، فهي تعرف في وثيقة
الزواج ما إذا كانت بكراً أم ثيباً، وهكذا فإن الأعضاء التناسلية يجب أن تُفحص أو يتم التأكد منها قبل الزواج، مثل الماعز التي تذبح، ويتم فحص جلدها ووبرها. ويزعمون ان هذه الصيغة تتفق وروح العدل في القرآن!
وإذا كان التاريخ الجنسي للمرأة يجب أن يكون معروفاً موثقاً ، فإن التاريخ الجنسي للرجل يحب أن يكون مصاناً محفوظاً، أي مُغيباً مجهولاً، فيستطيع أن يقوم بما شاء من مغامرات ولا يتم فحص أجهزته التناسلية.
كذلك فإن زيجاته السابقات ونساءه اللواتى على ذمته، وربما عشيقاته المحفيات، كل هؤلاء النسوة يجب الا يُسأل عنهن، أما المرأة التى أخذت كبهيمة إلى « زريبه» الزواج، فيجب أن يعرف بدقه ما إذا
كانت عذراء بكراً، أم مطلقة أم أرملة، وبطبيعة الحال فإن سمعتها تكون قد سبقتها، فالقيود التى انحفرت فى قدميها، ويديها، وجدران السجن الأبوي التى أكلت من عمرها، والاخوة الحراس الأشداء قاموا بدورهم البطولى فى ضربها والتفتيش فى جلدها وملابسها بحثا عن رائحه ذكر.
عشرون سنة من السجن الأبوي، وفي مناطق أخرى أكثر (تحضراً) خمس عشرة سنة أوربما عشر، وتكون البهيمه الُمعدة للتناسل قد أُعدت للانتقال إلى سجن آخر، وتم دمغها بالشرف الجلدي العظيم، وأُعدت لإنتاج نسل أنوي دقيق متسلسل. ولكن الشكوك تبقى مستمرة، وتبقى الأقفال عند السيد، والأموال، والمراقبة، والمطاردة، والضرب والهجر والخيانة، والزواج بأخريات، وتبديد الصرف، وعدم وجود محاسبة ومراقبة من المرأة أو من المجتمع، فهوالحاكم المطلق في مملكته.
ويزعمون بعد هذا ان هذه الصيغة تتفق وروح العدل في القرآن!!
Published on January 04, 2020 17:09
•
Tags:
حراس-الأسرة-الأبوية
♀المرأة والنهضة ⇦
ينعكس التطور أو التخلف الاجتماعي على النساء بشكل أكبر من الفئات الاجتماعية الأخرى، ويعد تحرر المرأة المقوض الكبير للأنظمة والتنظيمات الاستبدادية في العالم العربي والإسلامي.
ولم يستطع المصلحون في التاريخ العربي أن ينظروا بشكل خاص إلى تحرر المرأة كأساس جذري لتحرر الأمة.
فالفقهاء والمصلحون والثوار كانوا من الرجال الذين استطاعت الدول الشمولية أن تدمر مقاومتهم على مدى أجيال، فإذا رأيناهم في بدء التاريخ العربي الإسلامي يجعلون المرأة شريكة لهم في المعارك والثورات والتحول الاجتماعي، فإن صعود قدرات الدول المستبدة المالية والقمعية قد أدى إلى شراء الكثير من هؤلاء الرجال أنفسهم، وضاقت سبل التمرد والتغيير عليهم، وتم إلحاقهم بالقصور والدواوين.
وينطبق هذا حتى على الفقهاء الذين ضاقت سبل العيش أمامهم، فاختفى صنف الفقهاء الأحرار، ويذكر أحد كبار المعتزلة كيف تقدم بالشكر الوفير للخليفة الذي تكرم عليه ببضع مئات من الدنانير في حين كانت معيشته السابقة طوال أشهر تعتمد على بضع دراهم، فكيف لهذا المعتزلي
بعد هذا أن يتكلم عن أضرار امتلاء قصر الخليفة بالخدم والإماء والراقصات؟
لم يكن تدهور النهضة يصيب المرأة فقط بل المنتجين أيضاً، الذين تدهورت أعمالهم في الأراضي، ولم يقم الفقه أو الفكر المعارض، برؤية أحوال هؤلاء المنتجين، سواء نساء البيوت، أم فلاحي الحقول.
وهذا هو نوع الفقه الذي تكون في ممالك المسلمين، تنصيص مقطوع الجذور من الإسلام لخدمة الدول واتجاهات الحكام والمتنفذين، وتوارى الفقهاء الأحرار التقدميون، الذين يتبصرون الأفاق البعيدة لتطور الأمم الإسلامية، فيقاربون ويجتهدون في كيفية تطوير أوضاع النساء أو الناس عامة، لكي يكونوا ضمائر حية لدينهم وأمتهم.
ويمكن الاستنتاج هنا بأن ذلك القانون الذي مازال سارياً وهو أن تطور حريات العامة وتقدمها الاجتماعي مرتبط بمدى تطور الحركة الديمقراطية والتقدمية في العصر، ففي العهد النبوي والراشدي، تطورت حريات ومكانة المرأة، قياساً على المهانة الجاهلية، ولكن مع صعود الدول
المستبدة الشمولية تحولت النساء إلى جوار، وتصاعدت الحركة الدينية المحافظة التي جيرت النصوص لخدمة استغلال الحكام والرجال.
والغريب أنه كلما تفاقمت الشهوات صارت الأحكام محافظة ورجعية أكثر.
وهكذا فمع الاحتكاك بالغرب ونشوء حركة النهضة العربية وصعود القوى الديمقراطية أخذت الحياة النسائية تتغير، وتطورت الحريات الشعبية في مختلف المجالات، بما فيها حرية النساء، وإن اقتصرت هذه الحريات على الدوائر المدنية، في حين احتاجت نساء الفلاحين والعاملين جهوداً أخرى لكي تقترب من أنفاس الحضارة الحديثة.
إن تصاعد الحركة الديمقراطية الحديثة هو السبب وراء تطور حرية المرأة، وقد انتكست هذه الحركة بفعل تصاعد مختلف أشكال الشمولية، سواء من خلال واجهات وطنية وقومية أم من خلال واجهات دينية.
إن انتكاسة الحركات الديمقراطية العربية الحديثة انعكس على وضع المرأة وتدهور حرياتها، وقد غدت الحركات الدينية هي الشكل المضاد لنمو الحركة الديمقراطية، مع استغلالها من قبل الأنظمة المحافظة والأجنبية.
وليس غريباً أن تتقارب الحركات القومية والدينية في مسائل تدهور حريات المرأة، بسبب الطابع الذكوري المهيمن والمتخلف في هذه الجماعات، فجذور الاستبداد الشرقي متوارية تحت الجمل السياسية التحررية الشكلية، ومن هنا لم تقم الحركات القومية و(اليسارية) التي اندمجت والهياكل الاستبدادية، بأي كفاح عميق لتحرير المرأة.
كما أن حركات المرأة النهضوية لم تقم بدور مستقل، سواء بإنتاج الوعي النهضوي التحرري النسائي، أو بفك الارتباط بالجماعات السياسية الذكورية المستبدة، وبانتاج ثقافة مختلفة.
ولم يستطع المصلحون في التاريخ العربي أن ينظروا بشكل خاص إلى تحرر المرأة كأساس جذري لتحرر الأمة.
فالفقهاء والمصلحون والثوار كانوا من الرجال الذين استطاعت الدول الشمولية أن تدمر مقاومتهم على مدى أجيال، فإذا رأيناهم في بدء التاريخ العربي الإسلامي يجعلون المرأة شريكة لهم في المعارك والثورات والتحول الاجتماعي، فإن صعود قدرات الدول المستبدة المالية والقمعية قد أدى إلى شراء الكثير من هؤلاء الرجال أنفسهم، وضاقت سبل التمرد والتغيير عليهم، وتم إلحاقهم بالقصور والدواوين.
وينطبق هذا حتى على الفقهاء الذين ضاقت سبل العيش أمامهم، فاختفى صنف الفقهاء الأحرار، ويذكر أحد كبار المعتزلة كيف تقدم بالشكر الوفير للخليفة الذي تكرم عليه ببضع مئات من الدنانير في حين كانت معيشته السابقة طوال أشهر تعتمد على بضع دراهم، فكيف لهذا المعتزلي
بعد هذا أن يتكلم عن أضرار امتلاء قصر الخليفة بالخدم والإماء والراقصات؟
لم يكن تدهور النهضة يصيب المرأة فقط بل المنتجين أيضاً، الذين تدهورت أعمالهم في الأراضي، ولم يقم الفقه أو الفكر المعارض، برؤية أحوال هؤلاء المنتجين، سواء نساء البيوت، أم فلاحي الحقول.
وهذا هو نوع الفقه الذي تكون في ممالك المسلمين، تنصيص مقطوع الجذور من الإسلام لخدمة الدول واتجاهات الحكام والمتنفذين، وتوارى الفقهاء الأحرار التقدميون، الذين يتبصرون الأفاق البعيدة لتطور الأمم الإسلامية، فيقاربون ويجتهدون في كيفية تطوير أوضاع النساء أو الناس عامة، لكي يكونوا ضمائر حية لدينهم وأمتهم.
ويمكن الاستنتاج هنا بأن ذلك القانون الذي مازال سارياً وهو أن تطور حريات العامة وتقدمها الاجتماعي مرتبط بمدى تطور الحركة الديمقراطية والتقدمية في العصر، ففي العهد النبوي والراشدي، تطورت حريات ومكانة المرأة، قياساً على المهانة الجاهلية، ولكن مع صعود الدول
المستبدة الشمولية تحولت النساء إلى جوار، وتصاعدت الحركة الدينية المحافظة التي جيرت النصوص لخدمة استغلال الحكام والرجال.
والغريب أنه كلما تفاقمت الشهوات صارت الأحكام محافظة ورجعية أكثر.
وهكذا فمع الاحتكاك بالغرب ونشوء حركة النهضة العربية وصعود القوى الديمقراطية أخذت الحياة النسائية تتغير، وتطورت الحريات الشعبية في مختلف المجالات، بما فيها حرية النساء، وإن اقتصرت هذه الحريات على الدوائر المدنية، في حين احتاجت نساء الفلاحين والعاملين جهوداً أخرى لكي تقترب من أنفاس الحضارة الحديثة.
إن تصاعد الحركة الديمقراطية الحديثة هو السبب وراء تطور حرية المرأة، وقد انتكست هذه الحركة بفعل تصاعد مختلف أشكال الشمولية، سواء من خلال واجهات وطنية وقومية أم من خلال واجهات دينية.
إن انتكاسة الحركات الديمقراطية العربية الحديثة انعكس على وضع المرأة وتدهور حرياتها، وقد غدت الحركات الدينية هي الشكل المضاد لنمو الحركة الديمقراطية، مع استغلالها من قبل الأنظمة المحافظة والأجنبية.
وليس غريباً أن تتقارب الحركات القومية والدينية في مسائل تدهور حريات المرأة، بسبب الطابع الذكوري المهيمن والمتخلف في هذه الجماعات، فجذور الاستبداد الشرقي متوارية تحت الجمل السياسية التحررية الشكلية، ومن هنا لم تقم الحركات القومية و(اليسارية) التي اندمجت والهياكل الاستبدادية، بأي كفاح عميق لتحرير المرأة.
كما أن حركات المرأة النهضوية لم تقم بدور مستقل، سواء بإنتاج الوعي النهضوي التحرري النسائي، أو بفك الارتباط بالجماعات السياسية الذكورية المستبدة، وبانتاج ثقافة مختلفة.
Published on January 04, 2020 17:09
•
Tags:
المرأة-والنهضة
♀المرأة ودكتاتور الأسرة ⇦
يريد أن يظل دكتاتوراً إلى الأبد يحكم الأسرة.
الرجل الشمولي، الأبُ القادرُ على كل شيء، زعيم البيت الوحيد، المتنفذ بالنسل والعطايا، يرفض كل الانتفاضات الزوجية التي تجري، والأحداث العنيفة، فدولته تعتمد على المليارات من الرجال في كل قارات التخلف والأبوية.
دولته مقدسة، جنسه أعلى، دمه مختلف، فهو له جسم قوي وعقل مسيطر.
تفوز البنات بمراكز التفوق الدراسي وتظهر صورهن في الجرائد، ونسل الرجل الذكوري لا يطلع إلا القليل منه، فالفتية الأشاوس مشغولون بالسهر في الشوارع وإيذاء المارة وإزعاج البيوت والناس النائمين والعاملين.
الأشاوس الذكور لا ينجحون كثيراً إلا بالغش والتنجيح الآلي، ثم يحصل بعضهم على وظائف، في حين تنزوي المتفوقات في البيوت يطبخن الأرز وينتظرن المتفوقين في الغش والسهر والرحلات وتضييع أموال الأسرة لتقديم الأغذية لهم.
تتفوق فتيات بالكتابة في الشعر والقصة والمسرح وتعدهن المدارس بالمكانة المرموقة في المجتمع والمراكز المهمة، رغم الصفعات التي حصلن عليها في البيوت بسبب ممارسة نشاط مخصص للذكور أساساً، والأكثر من ذلك تجري المطاردات والاعتقالات لهن لكونهن يقرأن كتباً خارجية، ويشاهدن أفلاماً علمية وثقافية.
وبعد هذا ينزوين في الغرف الداخلية ويحملن مراراً ويلدن بين الدم والموت والاجهاض، وتتباعد المسافات بين أحلامهن البريئة وقمم الحياة المضيئة، ولا يرين كيف انحشرن في دولايب الآلةِ الجهنميةِ لمصانع الذكورة الشاقة، التي تقوم بتطفيش النساء من المكاتب والمصانع والبنوك ومن الأحلام بالكتابة والفنون والتمثيل ومن المشاركة السياسية المستقلة.
وعليهن كذلك أن ينتجن ذكورة دكتاتورية في بيوتهن، فتتحول الشابة الوردة، ذات الأحلام بالحرية والحدائق البشرية، إلى رجلٍ تشبع بكل الصفعات والقمع والشوارب، وصارت تقمع ابنتها وتعلي ابنها ليواصل المعركة المقدسة للشرف الرفيع الذي لابد أن يشعل الحرائق حتى يبقى مزدهراً.
لماذا تحسدُ الأم ابنتها إذا صارت ممثلة أو كاتبة أو زعيمة؟
هي تقمعها منذ البداية حتى لا تصبح ذكراً، حتى لا تتشبه بالرجال، من دون أن تعي بأنها هي التي أصبحت رجلاً في حين إن ابنتها تريد أن تصبح امرأة!
الفتاة الشابة الحمامة إما أن تصبح لبؤةً وإما حذاءً، وهما خياران مرضيان.
(المرأة أم الرجال)، (المرأة - تكرمْ - نعال!).
تـُجبر أغلبية النساء على واقع العبودية، واقع الاستسلام للعالم الذكوري الدكتاتوري، من أجل ألا تتحطم أسرهن، ومن أجل ألا يضيع جهدهن في بناء هذه البيوت الهشة، المصنوعة من زجاج ومن طاعة عمياء، ومن تقسيم عمل شاق، ومن تخصصهن في أمراض السكر والقلب ومتابعة المسلسلات التي تغسل عقولهن من الطموح والشجاعة ومن الإبداع القديم الذي حلمن به حين كن حمامات يطرن في السماء المشعة وليس في الأقفاص التي تسمى بيوتاً.
لكن بعض النساء يتمرد على هذه الزنزانات ويستولي على السلطة ويحيل المنزل إلى سجن آخر، يحيل الأب الضعيف أو الودود إلى (مرة)، يحدث ذلك عبر استغلال ظروف وسمات جزئية عابرة، لكن لا تنشأ علاقات ديمقراطية أسرية مزدهرة، فالمرأة الدكتاتور ربما كانت أسوأ من الرجل الدكتاتور!
لأنها تخرجُ كلّ عقدِ فشلِها وقمعِها السابقة على المدعو زوجاً، فتحيلهُ إلى تابع، وتصير إرادته مسلوبة وشخصيته ممسوحة فتنتشرُ بين الأبناء جراثيم التسلط!
وتؤكد الأمثالُ العامية الماسخة الإيديولوجيا الذكورية التي تبرهن بهذه النماذج بأن الدكتاتورية هي مخصصة فقط للرجال، ولا يجوز للمرأة أن تمسك قيادة البيت.
وهناك الفئة المتخصصة في صنع هذه الزنزانات ثقافياً، من كهنة وسحرة وموظفين عموميين ومعلمين وكتابا فاشلين ومنجمين محالين على التقاعد والمنظمات الدينية المحافظة، فهي الحرس الكبير للسجن النسائي الواسع، تبرر أخطاء الرجال ورحلاتهم المشبوهة للبلدان البعيدة، وتضييعهم الأموال في الصالات والحانات والملاهي والصفقات.
ولا تستطيع طليعة النساء أن تفعل شيئاً في ذلك فهي تابعة للذكورية الدكتاتورية، فتدخل باب تحرير النساء من خلال نافذة الطاعة لأولي الأمر.
إنها لم تدرس الإسلام، وعاشت على الفتات الفكري الذي يقدمه الذكور المسيطرون أنفسهم.
هي تقبل بالفتات الذي يُقدم لها، ولا تكشف أو تنقد الممارسات الدينية المحافظة ضد النساء.
ولهذا فإن القول بأن المرأة داهية وحية وماكرة هو قول خرافي، بل النساء ساذجات عموماً، وتتم السيطرة عليهن بوسائل بسيطة، فهن لا يعرفن كيف يفهمن الإسلام، وحالهن مثل حال التنظيمات اليسارية والقومية وغيرها، ولهذا لا يعرفن كيف يقدمن برامج ديمقراطية إسلامية للتغيير، وكيف يتعاون ويكوّن قوى ضغط واسعة ولديهن كل الوسائل للقيام بذلك، أي إذا لم يخترقن الوسط الديني المحافظ ولم يؤثرن فيه، فإنهن ضائعات في متاهات السياسة.
إن المحافظين يعيشون في حالة جهل للمتغيرات الرهيبة الجارية وهم يناضلون فقط ضد الرذيلة، غير مدركين أن القضية تتجاوز هذه المسألة الضيقة، وإننا نواجه حالة تبخر وطني ونصير أشبه بالهنود الحمر، وعدم إيقاظهم سوف يحول النساء الوطنيات إلى كائنات منقرضة، بسبب هجوم العمالة النسائية الخارجية واكتساحها ميادين العمل، وبسبب جمود الذكورية الرجالية وغياب الديمقراطية الأسرية، ولهذا فإن الطليعة النسائية يجب أن تدرس كل هذه المسائل بعمق وتشكل لجاناً لقراءة ظروف النساء وتحررهن في التراث والحداثة وتوجد شبكات من التأثير النسائي المستقل والجبهوي الذي يمتد في كل التنظيمات والجماعات وصديقهن من أيد تحرر النساء في الواقع.
الرجل الشمولي، الأبُ القادرُ على كل شيء، زعيم البيت الوحيد، المتنفذ بالنسل والعطايا، يرفض كل الانتفاضات الزوجية التي تجري، والأحداث العنيفة، فدولته تعتمد على المليارات من الرجال في كل قارات التخلف والأبوية.
دولته مقدسة، جنسه أعلى، دمه مختلف، فهو له جسم قوي وعقل مسيطر.
تفوز البنات بمراكز التفوق الدراسي وتظهر صورهن في الجرائد، ونسل الرجل الذكوري لا يطلع إلا القليل منه، فالفتية الأشاوس مشغولون بالسهر في الشوارع وإيذاء المارة وإزعاج البيوت والناس النائمين والعاملين.
الأشاوس الذكور لا ينجحون كثيراً إلا بالغش والتنجيح الآلي، ثم يحصل بعضهم على وظائف، في حين تنزوي المتفوقات في البيوت يطبخن الأرز وينتظرن المتفوقين في الغش والسهر والرحلات وتضييع أموال الأسرة لتقديم الأغذية لهم.
تتفوق فتيات بالكتابة في الشعر والقصة والمسرح وتعدهن المدارس بالمكانة المرموقة في المجتمع والمراكز المهمة، رغم الصفعات التي حصلن عليها في البيوت بسبب ممارسة نشاط مخصص للذكور أساساً، والأكثر من ذلك تجري المطاردات والاعتقالات لهن لكونهن يقرأن كتباً خارجية، ويشاهدن أفلاماً علمية وثقافية.
وبعد هذا ينزوين في الغرف الداخلية ويحملن مراراً ويلدن بين الدم والموت والاجهاض، وتتباعد المسافات بين أحلامهن البريئة وقمم الحياة المضيئة، ولا يرين كيف انحشرن في دولايب الآلةِ الجهنميةِ لمصانع الذكورة الشاقة، التي تقوم بتطفيش النساء من المكاتب والمصانع والبنوك ومن الأحلام بالكتابة والفنون والتمثيل ومن المشاركة السياسية المستقلة.
وعليهن كذلك أن ينتجن ذكورة دكتاتورية في بيوتهن، فتتحول الشابة الوردة، ذات الأحلام بالحرية والحدائق البشرية، إلى رجلٍ تشبع بكل الصفعات والقمع والشوارب، وصارت تقمع ابنتها وتعلي ابنها ليواصل المعركة المقدسة للشرف الرفيع الذي لابد أن يشعل الحرائق حتى يبقى مزدهراً.
لماذا تحسدُ الأم ابنتها إذا صارت ممثلة أو كاتبة أو زعيمة؟
هي تقمعها منذ البداية حتى لا تصبح ذكراً، حتى لا تتشبه بالرجال، من دون أن تعي بأنها هي التي أصبحت رجلاً في حين إن ابنتها تريد أن تصبح امرأة!
الفتاة الشابة الحمامة إما أن تصبح لبؤةً وإما حذاءً، وهما خياران مرضيان.
(المرأة أم الرجال)، (المرأة - تكرمْ - نعال!).
تـُجبر أغلبية النساء على واقع العبودية، واقع الاستسلام للعالم الذكوري الدكتاتوري، من أجل ألا تتحطم أسرهن، ومن أجل ألا يضيع جهدهن في بناء هذه البيوت الهشة، المصنوعة من زجاج ومن طاعة عمياء، ومن تقسيم عمل شاق، ومن تخصصهن في أمراض السكر والقلب ومتابعة المسلسلات التي تغسل عقولهن من الطموح والشجاعة ومن الإبداع القديم الذي حلمن به حين كن حمامات يطرن في السماء المشعة وليس في الأقفاص التي تسمى بيوتاً.
لكن بعض النساء يتمرد على هذه الزنزانات ويستولي على السلطة ويحيل المنزل إلى سجن آخر، يحيل الأب الضعيف أو الودود إلى (مرة)، يحدث ذلك عبر استغلال ظروف وسمات جزئية عابرة، لكن لا تنشأ علاقات ديمقراطية أسرية مزدهرة، فالمرأة الدكتاتور ربما كانت أسوأ من الرجل الدكتاتور!
لأنها تخرجُ كلّ عقدِ فشلِها وقمعِها السابقة على المدعو زوجاً، فتحيلهُ إلى تابع، وتصير إرادته مسلوبة وشخصيته ممسوحة فتنتشرُ بين الأبناء جراثيم التسلط!
وتؤكد الأمثالُ العامية الماسخة الإيديولوجيا الذكورية التي تبرهن بهذه النماذج بأن الدكتاتورية هي مخصصة فقط للرجال، ولا يجوز للمرأة أن تمسك قيادة البيت.
وهناك الفئة المتخصصة في صنع هذه الزنزانات ثقافياً، من كهنة وسحرة وموظفين عموميين ومعلمين وكتابا فاشلين ومنجمين محالين على التقاعد والمنظمات الدينية المحافظة، فهي الحرس الكبير للسجن النسائي الواسع، تبرر أخطاء الرجال ورحلاتهم المشبوهة للبلدان البعيدة، وتضييعهم الأموال في الصالات والحانات والملاهي والصفقات.
ولا تستطيع طليعة النساء أن تفعل شيئاً في ذلك فهي تابعة للذكورية الدكتاتورية، فتدخل باب تحرير النساء من خلال نافذة الطاعة لأولي الأمر.
إنها لم تدرس الإسلام، وعاشت على الفتات الفكري الذي يقدمه الذكور المسيطرون أنفسهم.
هي تقبل بالفتات الذي يُقدم لها، ولا تكشف أو تنقد الممارسات الدينية المحافظة ضد النساء.
ولهذا فإن القول بأن المرأة داهية وحية وماكرة هو قول خرافي، بل النساء ساذجات عموماً، وتتم السيطرة عليهن بوسائل بسيطة، فهن لا يعرفن كيف يفهمن الإسلام، وحالهن مثل حال التنظيمات اليسارية والقومية وغيرها، ولهذا لا يعرفن كيف يقدمن برامج ديمقراطية إسلامية للتغيير، وكيف يتعاون ويكوّن قوى ضغط واسعة ولديهن كل الوسائل للقيام بذلك، أي إذا لم يخترقن الوسط الديني المحافظ ولم يؤثرن فيه، فإنهن ضائعات في متاهات السياسة.
إن المحافظين يعيشون في حالة جهل للمتغيرات الرهيبة الجارية وهم يناضلون فقط ضد الرذيلة، غير مدركين أن القضية تتجاوز هذه المسألة الضيقة، وإننا نواجه حالة تبخر وطني ونصير أشبه بالهنود الحمر، وعدم إيقاظهم سوف يحول النساء الوطنيات إلى كائنات منقرضة، بسبب هجوم العمالة النسائية الخارجية واكتساحها ميادين العمل، وبسبب جمود الذكورية الرجالية وغياب الديمقراطية الأسرية، ولهذا فإن الطليعة النسائية يجب أن تدرس كل هذه المسائل بعمق وتشكل لجاناً لقراءة ظروف النساء وتحررهن في التراث والحداثة وتوجد شبكات من التأثير النسائي المستقل والجبهوي الذي يمتد في كل التنظيمات والجماعات وصديقهن من أيد تحرر النساء في الواقع.
Published on January 04, 2020 17:09
•
Tags:
المرأة-ودكتاتور-الأسرة


