عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الإصلاحيون الإيرانيون
تداخلتْ التياراتُ السياسيةُ والاجتماعية لدرجةٍ شديدة في إيران، وقد رفعتْ تسمياتٍ ومصطلحات إيديولوجية لا تعكس حقيقتها الطبقية، وأدى ذلك إلى صعوباتٍ في فهم هذا الصراعِ الاجتماعي السياسي المركب ك: المتشددون والإصلاحيون، المحافظون والثوريون، وخط الإمام، وغير هذا من مصطلحات للطبقة المسيطرة في إيران المتصارعة.
إن إيران وهي تمرُ ككلِ دولِ الشرق في التحولِ والتنمية والاستقلال مضتْ تسيرُ بصعوبةٍ من الإقطاع للرأسمالية، ولعبَ جهازُ الدولةِ دورَ القيادة، وتجسدَ ذلك عبر توسعِ الملكيةِ العامة، التي تظلُّ خاصةً للطبقةِ المسيطرة، فهي أسمياً تعودُ للشعب، ثم قامَ المذهبُ الديني بتجاوزِ الدولةِ ولعبَ دورها، فوقعَ الكائنان المادي السياسي والإيديولوجي في صراعٍٍ حادٍ متشابك، وهو ما كان يتجنبُ الوقوعَ فيه الآياتُ العظمى.
المذهب لدى آيات الله العظمى يغدو محافظاً معبراً عن هيمنةِ الإقطاعِ بشكلٍ واسعٍ، لكن تجري فيه عمليات تغيير موائمة مع العصر ببطءٍ شديد، ويغدو كما قلنا أقرب للواقعية السياسية وللعلمانية، لكن الثورة أبعدتْ الآيات العظمى، ونزلتْ البرجوازيةُ الصغيرةُ تقودُ الحياةَ الإيرانيةَ بشكلٍ عاصف.
إن دخولَ هذه الطبقة للصراعِ الاجتماعي لا يعني القطع المطلق مع وعي الآياتِ العظمى، خاصةً في مجالاتِ الرؤيةِ الاجتماعية لأحوالِ الأسرةِ وقيمِ وتاريخِ المذهب وللمبنى الفكري عامة، لكنها تقتحمُ الميدانَ السياسي وتطرحُ مقولاتٍ إيديولوجيةً جديدة، بعضُها ينبعُ من المذهب وبعضُها لا ينبع.
ومع سيطرة هذه الطبقة على جهاز الدولة، تكون قد جمعتْ بُنيتي الإقطاعِ والرأسماليةِ معاً، لكنها ليستْ رأسماليةً على الطراز الحر الغربي، بل على الطرازِ الشرقي الحكومي الاستبدادي، فهي تقومُ بالسيطرةِ على حراكِ الناس الاجتماعي وأحوالهم الشخصية والعقلية، فتغدو إستبداداً إقطاعياً، وهي في ذات الوقت تبني إقتصاداً رأسمالياً حكومياً وهذا يخلقُ ليبرالية بحدودِها الدنيا؛ شركات عامة وخاصة وعلاقات بضائعية ورأسمالية تتغلغلُ في الحياة المُهيَّمن عليها من قبل الدينِ المحافظ المؤدلجِ لخدمةِ الطبقةِ المسيطرة، فهذا الحراكُ المزودجُ المتناقضُ بين الإقطاع والرأسمالية، يخلقُ مجموعةً كبيرةً من الصراعات داخل الطبقة الحاكمة وداخل النظام.
هنا يحدث صراعٌ كبيرٌ على الفائض الاقتصادي بدرجةٍ أساسية، فنرى موجةَ رفسنجاني بفترتي رئاستهِ تنتجُ الفئات الأولى الكبيرة المستفيدة، وتنحي الفئات البرجوازية الصغيرة التي شاركتْ في إنتاجِ فكرِ الثورة وعملها على الأرض وقدمتْ التضحيات وتصعدُ القوى الأكثر غنى والأشد قوة.
و(خطُ الإمامِ) يعني خط هذه البرجوازية الصغيرة المتذبذبةِ بين الإقطاعِ والرأسمالية، بين القراءةِ الدينية المحافظة وبين الحداثةِ، بين الاستبداد والحرية، بين هيمنةِ القطاع العام الكلي وبين حرية القطاع الخاص، بين القومية المتعصبة وبين الأممية الإسلامية والإنسانية، بين قمع الشعب وإطلاق سراحه، بين النصوصية والعقلانية بين اليمين واليسار، بين هيمنة العسكر وإنتصار الديمقراطية.
إن الصراعَ على الفائضِ الاقتصادي يتجسدُ في الأولوياتِ المحددةِ للقطاع العام. ففي فترةٍ تكونُ الأولويةُ لتنميةِ القطاعِ العام الاقتصادي الكبير والقطاع العسكري، وهي الفترةُ التي صعدَ فيها ما يُسمى بـــ(اليسار)، لكنها الفترة التي صعدت فيها الفئاتُ البرجوازيةُ الكبيرة داخل النظام ويمثلها رفسنجاني، وجاءتْ فترةٌ أخرى يمثلها خاتمي، وهي عودةِ لتيارِ البرجوازية الصغيرة المتشكل من اليساريين والليبراليين الدينيين وهي الجماعات التي نُحيت في فترة رفسنجاني والتي دخلت السنوات الأولى للثورة بشكلٍ حماسي حادٍ وشاركتْ في دعائمِ النظام من شرطةٍ سرية وبناء دعائي ديني مطلق ثم أكتوتْ بما أسستهُ حين تطور وعيها نحو الليبرالية.
هناك تداخلٌ بين هذه الفئاتِ الوسطى والصغيرة من الطبقةِ الحاكمة، فموجةُ النمو الاقتصادي الرأسمالي الحكومي وسعَّت العلاقات التجاريةَ والثقافية بالغرب، وحصل تطورٌ كبيرٌ للعلاقاتِ البضاعية والمالية الرأسمالية، مما يعبرُ عن توجيهِ جزءٍ مهمٍ من الفوائض الاقتصادية نحو البناء السلمي.
وهذا التصاعدُ للعلاقاتِ الرأسماليةِ من جهةٍ أخرى يولدُ مشكلاتٍ كبيرةً للجماهير الشعبية عبر تصاعدِ نفوذ الأغنياء والمؤسسات الاستغلالية المختلفة، مما يجعل هذه الجماهير تبحث عن (الإشتراكيين) واليسار الديني وهذا مايستغلهُ اليمينُ المتطرف!
بين اليمينِ الكبيرِ عند رفسنجاني واليمينِ الصغير عند خاتمي نمتْ العلاقاتُ الرأسماليةُ التحديثية، وراحتْ تضربُ القيدَ الإقطاعي بدون نجاحٍ في إزالتهِ، لكونها قامتْ على أسسهِ الفكرية والسياسية.
إن العلاقات الرأسمالية مربوطةٌ ومحكومةٌ بالهيمنةِ السياسية الإيديولوجية الإقطاعية، فالمضمون الاجتماعي المتصاعد يصطدمُ بالشكلِ المعرقل.
إن الشكلَ المعرقل يتجسد في الدستور، وهيمنة المرشد، وفي الإيديولوجية البرجوازية الصغيرة المتناقضة، وفي البرلمانية المنسوجة على قامةِ الطبقة الحاكمة، وفي شعارِ ولاية الفقيه، والعداء للغربِ الديمقراطي والاشتراكية.
وفي الجوهر يعبرُ ذلك عن سيطرةِ رجالِ دينٍ محافظين خائفين من الحداثةِ يتمسكون بالماضي الإقطاعي حيث الذوبان الكلي للجمهور في هيمنة السلطة، ولكن الحداثةَ تفككُ هذه الهيمنةَ وتحررُ العمالَ والنساءَ والعقولَ من النصوصية الحرفية، دون أن تخرج عن الحضور التاريخي للمذهب بطبيعة الحال لكن قصر النظر الإيديولوجي يتوهم ذلك، فلا يستطيع رجلُ الدين التقليدي أن يتطور فكرياً وفقهياً، بدون أن يتركَ السلطة السياسية فخروجهُ منها يمثل تطوره لكنه لا يعي ذلك ويقاومهُ لأن القضيةَ غدت قضية طبقة لا قضية شرائح إجتماعية، ومن هنا يصارع الليبراليين الذين هم معه في السلطة لأنهم يزحزحونه منها فيطردهم ثم يقمعهم.
لا بد من تحديد الوجوه والدلالات الحقيقية للإصلاحيين ومنافسيهم المحافظين في إيران، من أجل وضوح الرؤية وتجاوز هذا الصراع بين الليبرالية والإقطاع، وهو صراعٌ يعيشه كلُ المسلمين، حسب درجاتِ تطورِ بلدانهم، وتقومُ الرأسمالية الحكومية بتصعيدهِ إلى مستوياتٍ جديدة حسب القوى المتنفذة على أجهزة السلطة.
لقد رأينا موجتي الليبرالية الحاكمة في إيران عبر هاشمي رفسنجاني وخاتمي، والفروق بينهما وهي فروقُ سنواتٍ مهمةٍ في عمرِ الثورة المتصارعة في تركيبها المعقد المتناقض، لقد تم في السنوات الأولى إبعاد قوى الليبرالية الدينية غير الواعية والمتحمسة للدكتاتورية الدينية في البداية، ثم راحتْ تبحثُ وتستقلُ برؤيتِها وتصارع القوى المحافظة في نقاطٍ معينة مهمة، ثم دخلت السلطة ثانية وحاولتْ تجريبَ مصطلحاتِها الحداثيةِ الدينية المأزومة.
ونتعرفُ هنا أولاً على آراء السيد بهزاد نبوي، وهو شخصيةٌ مهمةٌ من شخصياتِ الليبراليين الدينيين، شَغلَ مناصبَ حكوميةً مهمةً وصار رئيسُ البرلمان في فترةٍ سابقة، ونائبُ رئيسِ الحكومة في الثمانينيات والتسعينيات، وكان من نفسِ موجةِ الحدة العاطفية في بداية الثورة وفي موجةِ إعتقال الرهائن الأمريكيين في السفارة ولعبَ دوراً في المفاوضات لإطلاق سراح الرهائن ثم صارَ خصماً للمحافظين وأُودعَ السجنُ أخيراً في أحداثِ الثورة الخضراء.
اعتمدت آراؤه على الثنائية المتصارعة، أي الثنائية الدينية الليبرالية، غير المكتملتين المتضادتين، يقول:
(والشعار الثاني الذي تبنتهُ الثورةُ هو شعار «الحرية» ويعني، الحرية السياسية والاجتماعية وحرية التعبير والصحافة في إطار الدستور. إننا نؤمنُ بالدستور ونحترم أصوله. فلهذا نعارضُ ولا نقبلُ بوجهة نظر أولئك الذين يضعون الحرية والهرج والمرج في خانة واحدة. إن الحرية التي يطالب خاتمي والاصلاحيون بها هي الحريات المصرح بها في الدستور.)، من مقابلة فكرية لجريدة الشرق الأوسط،(9 يناير 2004).
تعتمدُ نضاليةُ الإصلاحيين داخلَ مؤسساتِ الدولةِ والمجتمع على الوثائق التي سنتها الطبقةُ الحاكمةُ، وهي التي تجعلُ الحريةَ للجماعاتِ الدينيةِ المحافظة عموماً، وتمنعُ بقيةَ القوى السياسية والاجتماعية من الترشح والفوز خاصة في المؤسسة البرلمانية.
وبهذا فإن بهزاد نبوي يعملُ في هذه الدائرة، وبهذا تغدو الحرية طبقيةً ضيقة ومصطلحاتها من مصطلحات الطبقة المسيطرة. يعتمد وعي السيد بهزاد على التعميماتِ الفكرية الغائمة مثل الثورة، والدستور، والثورة الإسلامية، والشعب.
فأي ثورةٍ يتحدثُ عنها؟ أهي ثورةُ الشعب العادية التي سيطرت عليها الطبقةُ الدينيةُ وكرستها لمصالحِها؟ وأي إسلام يتم الحديث عنه؟ أهو إسلامُ الأغلبية الشعبية أم إسلامُ النخبِ الحاكمة الإستغلالية؟ يقول:
(وخلال سنوات الحرب وبسببِ الظروفِ الخاصة التي عاشتها بلادنا، ومعارضة بعض ممن كانوا يعارضون، منذ بداية الثورة تطبيقَ بعضِ الشعاراتِ لم نتمكن من تطبيق شعارات الثورة الاصلية بل حصلت انحرافات هنا وهناك. والحركة الاصلاحية لا تطالب الا بتطبيق شعارات الثورة وعدم خرق الدستور من قبل أصحاب السلطة).
لم يقم الإصلاحيون بتحديد هذه (الثورة). فماذا تريد هذه الثورة وأية قوى تريد إبعادها وأية قوى تريد تكريسها؟ إن لغة التعميميات لا توضح هذا. لقد رأينا هذه (الثورةَ) وهي تبعدُ ممثلي الأغلبية الشعبيةِ العاملةِ وتكرسُ النخبَ الدينية المعبرة عن الإقطاع الريفي بدرجةٍ أساسية، فحتى ممثلي الفئات الوسطى المدنية تم إبعادهم، والإصلاحيون يشعرون إنهم من هذه القوى الوسطى، لكنهم يتحايلون على قوى الإقطاع الممسكة بقوةٍ بمؤسسات النظام السياسية والعسكرية ويريدون تضييعَ الحدود بين الطبقات وتمييع المصطلحات؟!
لقد تعاون الليبراليون الدينيون مع المحافظين الدينيين على تشكيلِ دكتاتوريةٍ عامةٍ أقصتْ أغلبيةَ الشعبِ الثائرِ الذي رفعهم لسدةِ الحكم جاهلاً بطبيعتِهم الطبقية، ثم توهمَّ الليبراليون الدينيون إن السلطةَ غائمةٌ سائحةٌ يمكنهم من الإستيلاءِ عليها بمثلِ هذه اللغةِ المائعةِ إيديويولجياً وسياسياً.
وقد حدد الدستورُ طبيعةَ هذه السلطة الإقطاعية المذهبية القومية وهيمنتها الكلية على المجتمع. فتقومُ مفرداتُ الليبراليين الدينيين تلك بتمويهِ طبيعةِ الدولةِ العضوضة التي هي إستمرار للدول الإسلامية الإقطاعية الطائفية القديمة والحالية مع تطوراتٍ عصريةٍ في الصناعة والأكسسورات الحديثة المختلفة.
ويواصلُ السيد نبوي عرضَ أفكاره:
(إن اهتمام الثورة لم يكن مركزاً على إلتزام أو عدم التزام هذه المواطنة أو تلك بالحجاب الكامل، بل أن هناك اهتمامات أكثر أهميةً مثل صيانة حقوق الشعب وضمان إحترام السلطة للحريات القانونية للشعب.).
يريد السيد نبوي هنا أن يجزىءَ سلطة الدكتاتورية السياسية، فهل تنفصلُ السيطرةُ على النساءِ عن السيطرةِ على بقية الشعب؟ ألا يتخذ الإقطاعيون مسائلَ مثل الحجاب للهيمنةِ الكليةِ السياسية على النساء؟ وكيف يمكن تنفيذ حقوق الشعب بدون تعدديةٍ سياسيةٍ وحريات وفصل للسلطات ويتم التدخل حتى في حرية الإنسان لإختيار ثيابه؟
إن السلطةَ الشموليةَ المحافظةَ هي سلطةٌ كلية، تتجسدُ في هيمنةٍ ذكورية مطلقة، وتحدد حركية النساء وحقوقهن ولباسهن من خلال قراراتها، وهي سلطةٌ شموليةُ تمنعُ الفلاحين من إستعادةِ أراضيهم أو المشاركة بها، وهي سلطةٌ تقررُ توجيه ممتلكات الدولة حسب مشروعات الطبقة الحاكمة في كلِ حقبة سياسية.
وفي الظرفِ الذي يتكلمُ به السيدُ نبوي ويقومُ فيه بانتقاداتٍ خفيفة، ويحاولُ التعبير عن تعدديةٍ موهومة، غير موجودة، ثمة رياحٌ ليبرالية في مؤسساتِ الحكم حيث هيمن خاتمي ولغتهُ في توسيع الحريات الليبرالية المحاصرة داخل النظام، لكن ذلك لم ينجحْ وجاءت عاصفةٌ محافظة.
لهذا إذن إن الحديثَ عن العمومياتِ خاصةً في عمومية الإسلام يرتكبُ خطيئةً أصلية، حيث لا بد من القول إن الإسلام المُجَّسد عبر هذه الممارسة هو إسلامُ المسيطرين على المالِ العام وعلى رؤوسِ النساءِ وعلى أكلِ الفلاح وعلى فمِ العامل المغلق.
يتجمد وعي الإصلاحيين الإيرانيين في المسائل الحداثية الكبرى للعصر وخاصةً في مسألة العلمانية. فيقومُ بمناوراتٍ إيديولوجية وسياسية حولها.
نتابعُ أفكارَ السيد بهزاد نبوي المسئولَ السياسي الكبيرَ السابق والذي حُكم عليه بالحبسِ خمس سنوات في الثورةِ الخضراء، يقول:
(أود أن أقول أولاً بأنني لستُ من العلمانيين، بل اعتقدُ بالحكومة الدينية، ونظام ولاية الفقيه هو أحدُ وجوهِ الحكومة الدينية. في الفقهِ الشيعي هناك بعضُ الفقهاءِ وعددهم ليس كبيراً ممن يؤمنون بنظرية ولايةِ الفقيهِ وكان الامامُ الراحلُ الخميني واحداً منهم. ونظراً الى انه كان قائدُ الثورة ونظرةُ ولاية الفقيه كانت نظرتهُ حول الحكومة فإننا بسببِ إيمانِنا به وبسياساته، قبلنا بولايةِ الفقيه في إطارِها الدستوري)، السابق.
تحددُ هذه العبارة تاريخيةً مبهمةً لكننا نستطيعُ أن نوضحَ أشياءَ فيها، فتشيرُ كلماتُ الضميرِ الجماعي في (قَبلنا) وغيرها، إلى الكتل التحديثية (الثورية) و(اليسارية) و(الليبرالية) التي قَبلتْ بقيادةِ الإقطاع الديني، بعد الضرباتِ الموجهةِ للبرجوازيةِ الوطنية بعد مصدق، حيث غدا هذا الإقطاعُ هو الجسم السياسي المتنامي في حضن المجتمع والذي له تاريخٌ سابق طويل، وحاولت قيادة الخميني الجمعَ بين المحافظين الدينيين وأولئك الليبراليين الرافضين خاصة للعلمانية، وتم إلتحاقُ هذه النخبِ بهذه القيادةِ الدينيةِ التي جذبت الجسمَ الدينيَّ الواسعَ للسيطرةِ على أجهزةِ الدولة والحياة الاجتماعية.
لقد عبَّرتْ الكتلُ الليبراليةُ واليسارية واليسارية المتطرفة عن هذا الفشلِ في تثقيفِ الشعبِ وتنويرهِ وعدم إتخاذ مواقف صائبة عميقة خلال العقود السابقة، عبر إعتمادِها على نقلِ الموديلات النظرية السياسية الخارجية، والأخطر كان إعتمادُ بعضِها على العنف المسلح المغامر، مما أدى إلى حرق وتحجيم هذه الكتل على درجاتٍ مختلفة.
ولهذا كانت ولايةُ الفقيه هي تعبيرٌ عن إفشالٍ لإصلاحية آيات الله العظمى المتدرجة وقفزٌ عليها، كما أنها تذويبٌ للمنظماتِ الليبرالية واليسارية وعدم الإعتراف بها عملياً، أي هي شكلُ الدكتاتورية الإيديولوجية السياسية الحاكمة.
وبطبيعةِ الحال لا بدَ أن يكونَ هذا الشعارُ السياسي غيرَ مقبولٍ للغالبية من رجال الدين الشيعة نظراً لجرهِ إيران إلى مغامراتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ محفوفةٍ بالمخاطر كما أثبتَّ التطورُ ذلك، لكنهم لم يناقشوه ويحللوه.
ويشيرُ تعبيرُ السيد نبوي هنا إلى ذيليةِ هؤلاء الليبراليين الدينيين في العمليةِ التاريخيةِ، وقبولهم بالدكتاتورية الصاعدة، وعدم فهمهم للعملياتِ التاريخيةِ التي جرتْ للإيرانيين وللمسلمين عامة.
إن لحظةَ قيادةِ البرجوازية الصغيرة من قبل دينيي الثورة، للصراع الصعبِ المفتوحِ والمجهول تدفعُها لمقاربةِ الليبراليين، إنها لا تُظهرُ هنا في لحظةِ التشكيلِ المتلهبة كلَ شخصيتها، فهي لا تزالُ في القاع الاجتماعي ولم تتناثرْ عليها الثرواتُ بعد، وهي بحاجةٍ لهم، ويمكن أن تتقاربَ مع سماتٍ معينة كالحرية والشعب والدستور وغيرها لكنها تؤسسُ الدولةَ وبناءَها الاقتصادي، فترتفعُ الفئاتُ الوسطى الأكبر عن تلك البرجوازيةِ الصغيرة التي تجسدتْ في الأئمةِ البسطاءِ الفقراءِ، وفي المثقفين الشعبيين المضحين، ولكن حراكَ الحداثةِ لديها لا يجعلها تنطلقُ في الحرية والعلمانية والديمقراطية الحقيقية، فلجامُ الإقطاعِ يوقفُها ويضغطُ على فمِها وعقلها، فهي تنتفخُ عبرَ مؤسسساتِ الرأسمالية الحكومية التي يحددُ خطوطَها العريضةَ الإقطاعُ الديني بأهدافه.
والليبراليةُ الدينيةُ تريدُ الاستمرارَ في هذا التحول البنائي الرأسمالي الحكومي نحو الرأسمالية الحرة والانتخابات الحقيقية والديمقراطية والحريات، لكنها وقعتْ في القبضةِ العامةِ للمؤسساتِ المعبرةِ عن القوةِ الأساسية في هذه الطبقة الحاكمة وهي قوة المحافظين المعبرين عن ذلك الإقطاع الديني التاريخي الموروث الذي خنقَ الثورةَ الإسلاميةَ الأولى وشكلَّ الدولَ العضوضة على صفحات التاريخ الواسعة.
الحبلُ الأولُ من ذلك اللجامِ هو إلغاءُ العلمانية في دولةِ المحافظين، وهي المعبرةُ عن حاجاتِ الأغلبيةِ الشعبيةِ المسلمةِ خاصةً في الإنفكاكِ من «سيطرةِ» الإقطاعين السياسي والديني، الموسومة بأسم الإسلام.
يقول السيد نبوي:
(وبالطبع فان مبدأ ولاية الفقيه في الدستور يجب ألا يكون في التناقض مع بقيةِ المبادئ والاصول الدستورية. أي أن لا يأتي فوق الاستقلال والحرية والجمهورية الاسلامية. إن ولاية الفقيه التي نقبلُ بها ليستْ سلطةً فوق سلطة القانون والدستور. إن المادة 110 في الدستور حددتْ بشكلٍ واضحٍ حدودَ وابعاد صلاحيات وسلطات الولي الفقيه) السابق.
إن مبدأ ولايةِ الفقيه لم يكن في تضادٍ مع الدستور بل هو رتبَ موادَهُ لتكريسِ ذاتهِ فيه، وجعلَ الوليَّ الفقيه مهيمناً عبر مؤسساتٍ خاضعةٍ له، وهي كلها تعبرُ عن هذه البيروقراطية الدينية العسكرية المالية الحاكمة، وليستْ عن هذه التعبيرات المجردة: الشعب، والأمة والمسلمين الخ.
يفهم الليبراليون الدينيون الحقبة الراهنة كما تشاء إسقاطاتهم الفكرية، وأمانيهم الحالمة، لكن مفردات الواقع الحقيقية لها أسنان قوية سوف تعضهم بقوة شديدة.
بدأ خطُ الاعتدالِ الإصلاحي يتكسر بدءً من إبعاد آية الله حسين منتظري، لقد عبر ذلك عن تصاعدِ القوى الحكومية المتنفذة، أي جماعات البيروقراطية الاقتصادية العسكرية التي صارتْ هي المهيمنة على جهاز الدولة والمجتمع.
وفي هذا الإبعاد غدتْ المرجعيةُ السياسيةُ مرة أخرى أقوى من المرجعية الكبرى الفقهية المتخصصة، ووجهتْ الحياةَ العامةَ نحو مغامراتٍ جديدة.
لنقلْ بأن آيات الله العظمى كانت هي الحافظةُ للتطورِ التدريجي للشعبِ الفارسي المنتمي للشيعةِ ولإيران عامةً، إنها تتداخلُ مع الأنظمةِ المحافظة ولا شك، لكن مجالَ المذهب يبقى له إستقلاليته الخاصة المُصّانة والقابلة للتجديد والبحث والاجتهاد.
هي موسوعةُ المذهبِ الحافرةِ عبرَ عقودِ السنين، وتراكم الاحكام والاجتهاد والمعبرة عن شعيراتِ تطورِ الشعبِ بتراثهِ وبتناقضاتهِ ومشكلاتهِ وتخلفهِ وبحثه عن التطور والعدالة.
ولكن الجماعات السياسية المذهبية تمثلُ قفزات وشطحات وإجتهادات، تصيبُ وتخيب، وفي صوابِها مكسبٌ وفي أخطائها مشكلات كبيرة. لكونها لم تغصْ في تراث الشعب الديني مثل المرجعيات ويحركها الصراعُ السياسي اليومي، وتكتيكاتهُ المحدودةُ الرؤيةِ غالباً والخطرة، وإذا كان الفقيهُ يحتاجُ زمناً طويلاً ليُرجحَ حكماً في مسألةٍ بسيطة، فإن السياسيَّ مطالبٌ بالحكم الفوري والخطير المتقلب في قضايا مصيرية، وإذا كان ذلك متصلاً بالدين فهو يغدو مشكلةً محفوفة بالمخاطر. وهذا يعبرُ عن التضاد الكبير بين الفقه والسياسة. ولهذا كان الإمامُ الخميني رافضاً لتكوين الأحزاب السياسية الدينية لفترةٍ طويلة كما يروي الشيخُ رفسنجاني في كتابه (حياتي).
ومن هنا توجهتْ المرجعياتُ الكبرى للاحجامِ عن التدخل بالسياسةِ المباشرة، تاركةً للسياسيين الخوضَ في غمارِها اليومي المتقلب، وهي تتأنى وتدقق وتدرس، ويرتبطُ الحكمُ هنا بمصير الملايين حياةً أو موتاً!
ويرينا المرجعيةُ الكبرى السيدُ السيستاني نموذجاً في ذلك، وهو الذي يستطيع أن يزلزلَ الأرضَ بتوجيهاتٍ سياسية مباشرة.
وبطبيعة الحال فإن أغلبيةَ المرجعيات محافظة، ولكن يتشكلُ فيها بصورةٍ نادرةٍ المجددون كذلك، وعلى مدى التطورات الحاصلة في الحياةِ وفي وعي الناس، تتحددُ تلك الإنجازات الجديدة ومدى نموها داخل بُنى المذهب.
وفي الشأن الإيراني فإن المرجعيات الكبرى لم تَغبْ عن الصراع الخطير، لكنها مستمرة في العمل الذي عكفتْ عليه خلالَ عقود، وهي تمسكُ الجذورَ التحتيةَ العميقةَ للشعب، وما المؤسساتُ السياسيةُ إلا أشكالٌ مؤقتةٌ تعكس صراعات الكتل السياسية والاجتماعية المختلفة العابرة.
إن التطورات الاجتماعيةَ الفوقيةَ لم تغيرْ طابع الحياة المحافظ، لكن نظرية ولاية الفقيه أقحمتْ الدينَ في النظام الحاكم، والسياسة لا تعرفُ سوى هيمنةٍ واحدية، وهذا ورطَّ المذهبَ الرسمي الحاكم كذلك على مستوى الأحكام الاجتماعية وليس السياسية فقط، مما جعلَ قسماً من الجمهور يضجُ بالشكوى، وقد وصلت هجرة المثقفين إلى مليوني ونصف شخص من إيران إلى الغرب.
لقد برزتْ معارضةُ المرجعيات الكبرى في تصاعدِ أحكامِها الفكرية العامة. لقد قالَ بعضُ المحافظين الدينيين؛ (أن لا ولايةَ مطلقةً في غيبةِ الإمام المهدي، وأن شرعيةَ النظام الإسلامي لا تقومُ إلا بظهوره، وأن التسليمَ لنظام الجمهورية الإسلامية بالشرعية الإسلامية انتقاصٌ من الشرع نفسه).
إن النظامَ السياسيَّ عبر هذا الرأي الديني من بعض المرجعيات الكبرى، يتحولُ إلى مجردِ إجتهادٍ غيرِ مقدس، وبالتالي فإن معارضته شرعية وتغييره مفتوح، وقد إستخدمتْ هذه المرحعياتُ مفردات المذهب بدون أن تدخلَ في السياسةِ المباشرة!
هذه الأحكامُ تدخلنُا في التعدديةِ الدينية ، وهي بابٌ للديمقراطية، فلا يجوز أن يفرضَ توجهٌ ما رأيه الديني الكلي، إن الآيات العظام للمذهب تعودُ تدريجياً لمكانتِها الكبرى في الحياة الاجتماعية الشيعية، وفكرة ولاية الفقيه تتآكلُ تدريجياً في الداخل.
ومن هنا فإن الإصلاحيين الإيرانيين الذين سايروا الفكرة وروجوا لها يشعرون بالإحراج الفكري، لكن هذا ليس خاتمة المطاف، فهم لم يفهموا الفكرة كشموليةٍ سياسية، وأرادوا أن يزيلوها عملياً وينقضوها في الممارسة السياسية وهم الذين أيدوها!
يقول السيد بهزاد نبوي في الحوار السابق ذكره:
(ولايةُ الفقيهِ كما جاءتْ في الدستور لا تتعارضُ مع الديمقراطية، وكون الولي الفقيه شخصية غير حزبية لا تنتمي إلى خطٍ سياسي معين، يجعلهُ رمزاً للوحدةِ الوطنية وسيادة الشعب. وكما أن رئيسَ الجمهورية مسؤولٌ أمام الشعب، فإن الولي الفقيه مسؤولٌ أيضاً، إن قراءتنا مختلفةٌ عن قراءةِ أولئكَ الذين يعتبرون الولي الفقيه سلطاناً مستبداً يفعلُ بما يشاء ومن غير الممكن مساءلته).
يتجاهل السيد بهزاد هنا المعاني الحقيقيةَ للدستور الإيراني، الذي يجعل من الولي الفقيه الحاكم الأساسي الذي يشكلُ الطبقةَ الحاكمة بتكويناتِها المختلفةِ المتغيرةِ عبر تنامي الصراع الاجتماعي، فهو الرئيسُ أو الحاكم المطلق كما يجري في العالم الثالث، والذين يختارونه يتم تعيينهم من قبله في الدورة الثانية كما هو الفقيه الولي الراهن، ولنقلْ بأن الشمولية في الطبقة تصاعدت عن السنوات الأولى، مع تنامي غنى وعسكرة الطبقة الحاكمة، حتى لم تقبل بمرجعيات أكثر علماً بل بالمرجعية الأكثر تعبيراً عن أقسام الطبقة الحاكمة المركزية. ومن الممكن أن يتحولَ منصبُ الولي إلى منصبٍ متوارث، لأن الجمهوريات تتحولُ إلى مَلكيات في العالم الإسلامي.
سنرى إن الاستبداد الذي ينفيه السيد نبوي يُطبقُ عليه، هو نفسه، وإن ولايةَ الفقيه ليست فقهاً فقط بل حكومة سياسية صارمة.
ما هي أسباب إنهيار التحالف بين الدينيين الشموليين والليبراليين الدينيين الإيرانيين في إيران؟
لماذا لم تستطع شعارات الليبراليين هؤلاء باعتماد العقلانية وتطوير الحريات أن تتوسع ثم أن تنتصر؟
كان التحالف لا يستند على أسس موضوعية، أولاً من حيث الوعي بالإسلام الذي تشكل لدى الحركة الليبرالية الوطنية في إيران خلال العقود السابقة.
فهم كانوا أنفسهم جزءً من البنية الاقطاعية الفكرية، فلم تستطع المذهبية الاجتماعية السياسية أن تغير ما جرى خلال الألف السنة السابقة من حياة المجتمعات الإسلامية، بالهيمنة المطلقة للرجال على النساء، والهيمنة المطلقة للحكام على المحكومين، وهيمنة الإقطاع الزراعي على الفلاحين، وهيمنة النصوص المحافظة الدينية على إمكانيات العقلانية.
قامت القوى المحافظة السياسية على مدى قرون بتجميدِ حالِ المسلمين، ولم تقمْ القوى الليبراليةُ الصغيرةُ الإيرانية في القرن العشرين بتشكيلِ تيارٍ هامٍ عميق بين الجمهور، من حيث الاصطفاف مع الحداثة وقسماتها الجوهرية وهي العلمانية والديمقراطية والحرية والعقلانية، وتعكزتْ على الوعي الديني المحافظ، وذلك بطبيعةِ الإنتاجِ المادي الإيراني وبسببِ ضعف المُلكيات الخاصة الصناعية، وكانت قسماتُ الفئاتِ الوسطى تجاريةً كاسحة، وكان صوتُ (البازار) هو الداعم لرجالِ الدين المحافظين.
وحين إنتصرت الثورةُ الشعبية تم توسيع المُلكية الحكومية المتعددة الوجوه وهيمنتْ على الاقتصاد الوطني، وعمقتْ في جزءٍ كبير منها الوعي الديني المحافظ في حين كان الوعي الليبرالي التنويريي لدى رفسنجاني وخاتمي مُحاصراً ولا يقوم على أسسٍ علمانية، مثل المُلكية الصناعية التي غدتْ في أيدي البيروقراطية الحكومية وجاء التخصيصُ في بعض الجوانب لصالحِ هذه البيروقراطية وإستيلائها على الثروة العامة.
هكذا لم توجدْ برجوازيةٌ صناعيةٌ حرة، وتم الهيمنة على العمالِ من قبلِ نفس المُلكية العامة والشرطة، ولهذا وجدَ الليبراليون أنفسَهم بلا قواعد ماديةٍ وإجتماعية تستطيع أن تطورَ مفردات الحداثةِ والحرية والعلمانية داخل السلطة الدينية. وبدا عجزُهم الاقتصادي متجسداً في ضعفِ مصطلحاتِهم السياسيةِ المتذبذبة، ومع تضخمِ الطبقةِ المسيطرة وأجنحتِها العسكرية خاصة، حدث هجومٌ معاكسٌ على بذورِ الليبرالية، فنمو الحريات السياسية والفكرية والاجتماعية يعني إنهيار سلطتها.
ومثَّلتْ معركةُ الانتخاباتِ الرئاسية ذروةً للصراعِ بين الجناحين، والتي تمتْ في ساحةِ ذاتِ الطبقةِ وبمصطلحاتِها وبأدواتِ سلطتِها وتشريعها، وبالتالي فإن الجناحَ الليبراليَّ الديني لا يَقدرُ أصلاً على نقضِ النظام المحافظ الإقطاعي ورأسماليته الحكومية العسكرية الخطرة، فهو مشاركٌ في غنائمِ هذه السلطة، وهو واقعٌ في ثقافتِها، التي لا يمكن أن تتشكلَ بدون نضالٍ صناعي مستقلٍ حر وبنشؤِ طبقةٍ صناعيةٍ حرة وبقطاعٍ عام سلمي مُسيطر عليه من قبل الشعب وبوجودِ عمالٍ أحرار.
وبالتالي فإنه ليس أن مفرداتِ هذه الليبرالية الدينية متناقضةٌ وفاشلةٌ وعاجزةٌ عن تنامي تجذرِها في الواقعِ وإستقلالِها عن ثقافةِ الإقطاع والتعبيرِ عن برجوازيةٍ حرة، وعن شعبٍ حر، بل أن أجسادَ هؤلاء الليبراليين الدينيين ذاتها معرضةٌ للقتل والسجن ومختلف أنواع التصفيات.
فالعديدُ من الليبراليين الدينيين بدأت قوى القمع تستأصلهم، فسيد مصطفى تاج زاده تم تلفيق تهم له كي لا يترشح للانتخابات وهاشم آقاجري أُعتقل على أساسِ الإساءة للدين. ونستطيعُ أن نأخذَ المثقفَ الليبرالي الديني البارز سعيد حجاريان الذي كان من مؤسسي جهاز المخابرات بعد الثورة! وأشتغلَ بنشاطٍ كبير في فاعلياتِها، ثم غيّرَ تفكيرَهُ وأدانَ التجاوزات وعمليات التعذيب وقمع المناضلين التي يقوم بها زملاؤه، فُسددتْ رصاصةٌ إلى رأسه!
وهناك المئاتُ من هؤلاء الدينيين الليبراليين الذين أنهالتْ على رؤوسِهم العصي، وأُجبروا على إعترافاتٍ خسيسة تعودُ بنا لزمن محاكم التفتيش، فأكتشفوا ثقافةَ التلفيق التي وقعوا فيها خلال عقود، وكيف جروا الشعب لطريقٍ مسدود ووضعوا المنطقةَ على حافةِ بركانٍ هتلري.
إن كبارَ ناشطي إيديولوجية الليبرالية الدينية، وأحياناً تُطرح بأسم(اليسار الإسلامي)، كموسوي هم أكثر الناس الذين تعرضوا لفشلِ مشروعِهم السياسي رغم إنهم على رأسِ السلطة وأيدتهم جماهيرٌ غفيرة، بسببِِ أن ليس لديهم مشروع ديمقراطي حقيقي، ولا يزالون يناورون ويتذبذبون بين الإقطاع والليبرالية، بين فهمِ الإسلام بشكلٍ دكتاتوري، وفهم الإسلام بشكلٍ ديمقراطي علماني، بين تبعيتهم للقطاعِ العام الشمولي وبين تقزيمِهم للقطاعِ الخاص المُحَّاصر، بين تأييدِهم تأييدهم لنظامٍ سياسي ديني محافظ شمولي وتلعثمِهم بنظامٍ ديمقراطي علماني حر.
أما القيادي البارز والمثقف الذي تتبعنا كلماته المبهمة وشعاراته المتذبذبة (بهزاد نبوي)، فقد عُذب وحُكم عليه بالسجن لمدةِ خمس سنوات.
وهذا كله بسببِ أن هؤلاء المثقفين دخلوا في جوفِ السلطةِ الدينية الشمولية وأرادوا تغييرَها بذلك الشكل المتذبذب، وخلقوا ثغرةً في صفوفِها، وحاولوا توسيعَ الثغرةِ فحدثَ الهجومُ المعاكسُ ضدهم حين اقتربوا من مفاتيح السلطة الحقيقية!
إن إيران وهي تمرُ ككلِ دولِ الشرق في التحولِ والتنمية والاستقلال مضتْ تسيرُ بصعوبةٍ من الإقطاع للرأسمالية، ولعبَ جهازُ الدولةِ دورَ القيادة، وتجسدَ ذلك عبر توسعِ الملكيةِ العامة، التي تظلُّ خاصةً للطبقةِ المسيطرة، فهي أسمياً تعودُ للشعب، ثم قامَ المذهبُ الديني بتجاوزِ الدولةِ ولعبَ دورها، فوقعَ الكائنان المادي السياسي والإيديولوجي في صراعٍٍ حادٍ متشابك، وهو ما كان يتجنبُ الوقوعَ فيه الآياتُ العظمى.
المذهب لدى آيات الله العظمى يغدو محافظاً معبراً عن هيمنةِ الإقطاعِ بشكلٍ واسعٍ، لكن تجري فيه عمليات تغيير موائمة مع العصر ببطءٍ شديد، ويغدو كما قلنا أقرب للواقعية السياسية وللعلمانية، لكن الثورة أبعدتْ الآيات العظمى، ونزلتْ البرجوازيةُ الصغيرةُ تقودُ الحياةَ الإيرانيةَ بشكلٍ عاصف.
إن دخولَ هذه الطبقة للصراعِ الاجتماعي لا يعني القطع المطلق مع وعي الآياتِ العظمى، خاصةً في مجالاتِ الرؤيةِ الاجتماعية لأحوالِ الأسرةِ وقيمِ وتاريخِ المذهب وللمبنى الفكري عامة، لكنها تقتحمُ الميدانَ السياسي وتطرحُ مقولاتٍ إيديولوجيةً جديدة، بعضُها ينبعُ من المذهب وبعضُها لا ينبع.
ومع سيطرة هذه الطبقة على جهاز الدولة، تكون قد جمعتْ بُنيتي الإقطاعِ والرأسماليةِ معاً، لكنها ليستْ رأسماليةً على الطراز الحر الغربي، بل على الطرازِ الشرقي الحكومي الاستبدادي، فهي تقومُ بالسيطرةِ على حراكِ الناس الاجتماعي وأحوالهم الشخصية والعقلية، فتغدو إستبداداً إقطاعياً، وهي في ذات الوقت تبني إقتصاداً رأسمالياً حكومياً وهذا يخلقُ ليبرالية بحدودِها الدنيا؛ شركات عامة وخاصة وعلاقات بضائعية ورأسمالية تتغلغلُ في الحياة المُهيَّمن عليها من قبل الدينِ المحافظ المؤدلجِ لخدمةِ الطبقةِ المسيطرة، فهذا الحراكُ المزودجُ المتناقضُ بين الإقطاع والرأسمالية، يخلقُ مجموعةً كبيرةً من الصراعات داخل الطبقة الحاكمة وداخل النظام.
هنا يحدث صراعٌ كبيرٌ على الفائض الاقتصادي بدرجةٍ أساسية، فنرى موجةَ رفسنجاني بفترتي رئاستهِ تنتجُ الفئات الأولى الكبيرة المستفيدة، وتنحي الفئات البرجوازية الصغيرة التي شاركتْ في إنتاجِ فكرِ الثورة وعملها على الأرض وقدمتْ التضحيات وتصعدُ القوى الأكثر غنى والأشد قوة.
و(خطُ الإمامِ) يعني خط هذه البرجوازية الصغيرة المتذبذبةِ بين الإقطاعِ والرأسمالية، بين القراءةِ الدينية المحافظة وبين الحداثةِ، بين الاستبداد والحرية، بين هيمنةِ القطاع العام الكلي وبين حرية القطاع الخاص، بين القومية المتعصبة وبين الأممية الإسلامية والإنسانية، بين قمع الشعب وإطلاق سراحه، بين النصوصية والعقلانية بين اليمين واليسار، بين هيمنة العسكر وإنتصار الديمقراطية.
إن الصراعَ على الفائضِ الاقتصادي يتجسدُ في الأولوياتِ المحددةِ للقطاع العام. ففي فترةٍ تكونُ الأولويةُ لتنميةِ القطاعِ العام الاقتصادي الكبير والقطاع العسكري، وهي الفترةُ التي صعدَ فيها ما يُسمى بـــ(اليسار)، لكنها الفترة التي صعدت فيها الفئاتُ البرجوازيةُ الكبيرة داخل النظام ويمثلها رفسنجاني، وجاءتْ فترةٌ أخرى يمثلها خاتمي، وهي عودةِ لتيارِ البرجوازية الصغيرة المتشكل من اليساريين والليبراليين الدينيين وهي الجماعات التي نُحيت في فترة رفسنجاني والتي دخلت السنوات الأولى للثورة بشكلٍ حماسي حادٍ وشاركتْ في دعائمِ النظام من شرطةٍ سرية وبناء دعائي ديني مطلق ثم أكتوتْ بما أسستهُ حين تطور وعيها نحو الليبرالية.
هناك تداخلٌ بين هذه الفئاتِ الوسطى والصغيرة من الطبقةِ الحاكمة، فموجةُ النمو الاقتصادي الرأسمالي الحكومي وسعَّت العلاقات التجاريةَ والثقافية بالغرب، وحصل تطورٌ كبيرٌ للعلاقاتِ البضاعية والمالية الرأسمالية، مما يعبرُ عن توجيهِ جزءٍ مهمٍ من الفوائض الاقتصادية نحو البناء السلمي.
وهذا التصاعدُ للعلاقاتِ الرأسماليةِ من جهةٍ أخرى يولدُ مشكلاتٍ كبيرةً للجماهير الشعبية عبر تصاعدِ نفوذ الأغنياء والمؤسسات الاستغلالية المختلفة، مما يجعل هذه الجماهير تبحث عن (الإشتراكيين) واليسار الديني وهذا مايستغلهُ اليمينُ المتطرف!
بين اليمينِ الكبيرِ عند رفسنجاني واليمينِ الصغير عند خاتمي نمتْ العلاقاتُ الرأسماليةُ التحديثية، وراحتْ تضربُ القيدَ الإقطاعي بدون نجاحٍ في إزالتهِ، لكونها قامتْ على أسسهِ الفكرية والسياسية.
إن العلاقات الرأسمالية مربوطةٌ ومحكومةٌ بالهيمنةِ السياسية الإيديولوجية الإقطاعية، فالمضمون الاجتماعي المتصاعد يصطدمُ بالشكلِ المعرقل.
إن الشكلَ المعرقل يتجسد في الدستور، وهيمنة المرشد، وفي الإيديولوجية البرجوازية الصغيرة المتناقضة، وفي البرلمانية المنسوجة على قامةِ الطبقة الحاكمة، وفي شعارِ ولاية الفقيه، والعداء للغربِ الديمقراطي والاشتراكية.
وفي الجوهر يعبرُ ذلك عن سيطرةِ رجالِ دينٍ محافظين خائفين من الحداثةِ يتمسكون بالماضي الإقطاعي حيث الذوبان الكلي للجمهور في هيمنة السلطة، ولكن الحداثةَ تفككُ هذه الهيمنةَ وتحررُ العمالَ والنساءَ والعقولَ من النصوصية الحرفية، دون أن تخرج عن الحضور التاريخي للمذهب بطبيعة الحال لكن قصر النظر الإيديولوجي يتوهم ذلك، فلا يستطيع رجلُ الدين التقليدي أن يتطور فكرياً وفقهياً، بدون أن يتركَ السلطة السياسية فخروجهُ منها يمثل تطوره لكنه لا يعي ذلك ويقاومهُ لأن القضيةَ غدت قضية طبقة لا قضية شرائح إجتماعية، ومن هنا يصارع الليبراليين الذين هم معه في السلطة لأنهم يزحزحونه منها فيطردهم ثم يقمعهم.
لا بد من تحديد الوجوه والدلالات الحقيقية للإصلاحيين ومنافسيهم المحافظين في إيران، من أجل وضوح الرؤية وتجاوز هذا الصراع بين الليبرالية والإقطاع، وهو صراعٌ يعيشه كلُ المسلمين، حسب درجاتِ تطورِ بلدانهم، وتقومُ الرأسمالية الحكومية بتصعيدهِ إلى مستوياتٍ جديدة حسب القوى المتنفذة على أجهزة السلطة.
لقد رأينا موجتي الليبرالية الحاكمة في إيران عبر هاشمي رفسنجاني وخاتمي، والفروق بينهما وهي فروقُ سنواتٍ مهمةٍ في عمرِ الثورة المتصارعة في تركيبها المعقد المتناقض، لقد تم في السنوات الأولى إبعاد قوى الليبرالية الدينية غير الواعية والمتحمسة للدكتاتورية الدينية في البداية، ثم راحتْ تبحثُ وتستقلُ برؤيتِها وتصارع القوى المحافظة في نقاطٍ معينة مهمة، ثم دخلت السلطة ثانية وحاولتْ تجريبَ مصطلحاتِها الحداثيةِ الدينية المأزومة.
ونتعرفُ هنا أولاً على آراء السيد بهزاد نبوي، وهو شخصيةٌ مهمةٌ من شخصياتِ الليبراليين الدينيين، شَغلَ مناصبَ حكوميةً مهمةً وصار رئيسُ البرلمان في فترةٍ سابقة، ونائبُ رئيسِ الحكومة في الثمانينيات والتسعينيات، وكان من نفسِ موجةِ الحدة العاطفية في بداية الثورة وفي موجةِ إعتقال الرهائن الأمريكيين في السفارة ولعبَ دوراً في المفاوضات لإطلاق سراح الرهائن ثم صارَ خصماً للمحافظين وأُودعَ السجنُ أخيراً في أحداثِ الثورة الخضراء.
اعتمدت آراؤه على الثنائية المتصارعة، أي الثنائية الدينية الليبرالية، غير المكتملتين المتضادتين، يقول:
(والشعار الثاني الذي تبنتهُ الثورةُ هو شعار «الحرية» ويعني، الحرية السياسية والاجتماعية وحرية التعبير والصحافة في إطار الدستور. إننا نؤمنُ بالدستور ونحترم أصوله. فلهذا نعارضُ ولا نقبلُ بوجهة نظر أولئك الذين يضعون الحرية والهرج والمرج في خانة واحدة. إن الحرية التي يطالب خاتمي والاصلاحيون بها هي الحريات المصرح بها في الدستور.)، من مقابلة فكرية لجريدة الشرق الأوسط،(9 يناير 2004).
تعتمدُ نضاليةُ الإصلاحيين داخلَ مؤسساتِ الدولةِ والمجتمع على الوثائق التي سنتها الطبقةُ الحاكمةُ، وهي التي تجعلُ الحريةَ للجماعاتِ الدينيةِ المحافظة عموماً، وتمنعُ بقيةَ القوى السياسية والاجتماعية من الترشح والفوز خاصة في المؤسسة البرلمانية.
وبهذا فإن بهزاد نبوي يعملُ في هذه الدائرة، وبهذا تغدو الحرية طبقيةً ضيقة ومصطلحاتها من مصطلحات الطبقة المسيطرة. يعتمد وعي السيد بهزاد على التعميماتِ الفكرية الغائمة مثل الثورة، والدستور، والثورة الإسلامية، والشعب.
فأي ثورةٍ يتحدثُ عنها؟ أهي ثورةُ الشعب العادية التي سيطرت عليها الطبقةُ الدينيةُ وكرستها لمصالحِها؟ وأي إسلام يتم الحديث عنه؟ أهو إسلامُ الأغلبية الشعبية أم إسلامُ النخبِ الحاكمة الإستغلالية؟ يقول:
(وخلال سنوات الحرب وبسببِ الظروفِ الخاصة التي عاشتها بلادنا، ومعارضة بعض ممن كانوا يعارضون، منذ بداية الثورة تطبيقَ بعضِ الشعاراتِ لم نتمكن من تطبيق شعارات الثورة الاصلية بل حصلت انحرافات هنا وهناك. والحركة الاصلاحية لا تطالب الا بتطبيق شعارات الثورة وعدم خرق الدستور من قبل أصحاب السلطة).
لم يقم الإصلاحيون بتحديد هذه (الثورة). فماذا تريد هذه الثورة وأية قوى تريد إبعادها وأية قوى تريد تكريسها؟ إن لغة التعميميات لا توضح هذا. لقد رأينا هذه (الثورةَ) وهي تبعدُ ممثلي الأغلبية الشعبيةِ العاملةِ وتكرسُ النخبَ الدينية المعبرة عن الإقطاع الريفي بدرجةٍ أساسية، فحتى ممثلي الفئات الوسطى المدنية تم إبعادهم، والإصلاحيون يشعرون إنهم من هذه القوى الوسطى، لكنهم يتحايلون على قوى الإقطاع الممسكة بقوةٍ بمؤسسات النظام السياسية والعسكرية ويريدون تضييعَ الحدود بين الطبقات وتمييع المصطلحات؟!
لقد تعاون الليبراليون الدينيون مع المحافظين الدينيين على تشكيلِ دكتاتوريةٍ عامةٍ أقصتْ أغلبيةَ الشعبِ الثائرِ الذي رفعهم لسدةِ الحكم جاهلاً بطبيعتِهم الطبقية، ثم توهمَّ الليبراليون الدينيون إن السلطةَ غائمةٌ سائحةٌ يمكنهم من الإستيلاءِ عليها بمثلِ هذه اللغةِ المائعةِ إيديويولجياً وسياسياً.
وقد حدد الدستورُ طبيعةَ هذه السلطة الإقطاعية المذهبية القومية وهيمنتها الكلية على المجتمع. فتقومُ مفرداتُ الليبراليين الدينيين تلك بتمويهِ طبيعةِ الدولةِ العضوضة التي هي إستمرار للدول الإسلامية الإقطاعية الطائفية القديمة والحالية مع تطوراتٍ عصريةٍ في الصناعة والأكسسورات الحديثة المختلفة.
ويواصلُ السيد نبوي عرضَ أفكاره:
(إن اهتمام الثورة لم يكن مركزاً على إلتزام أو عدم التزام هذه المواطنة أو تلك بالحجاب الكامل، بل أن هناك اهتمامات أكثر أهميةً مثل صيانة حقوق الشعب وضمان إحترام السلطة للحريات القانونية للشعب.).
يريد السيد نبوي هنا أن يجزىءَ سلطة الدكتاتورية السياسية، فهل تنفصلُ السيطرةُ على النساءِ عن السيطرةِ على بقية الشعب؟ ألا يتخذ الإقطاعيون مسائلَ مثل الحجاب للهيمنةِ الكليةِ السياسية على النساء؟ وكيف يمكن تنفيذ حقوق الشعب بدون تعدديةٍ سياسيةٍ وحريات وفصل للسلطات ويتم التدخل حتى في حرية الإنسان لإختيار ثيابه؟
إن السلطةَ الشموليةَ المحافظةَ هي سلطةٌ كلية، تتجسدُ في هيمنةٍ ذكورية مطلقة، وتحدد حركية النساء وحقوقهن ولباسهن من خلال قراراتها، وهي سلطةٌ شموليةُ تمنعُ الفلاحين من إستعادةِ أراضيهم أو المشاركة بها، وهي سلطةٌ تقررُ توجيه ممتلكات الدولة حسب مشروعات الطبقة الحاكمة في كلِ حقبة سياسية.
وفي الظرفِ الذي يتكلمُ به السيدُ نبوي ويقومُ فيه بانتقاداتٍ خفيفة، ويحاولُ التعبير عن تعدديةٍ موهومة، غير موجودة، ثمة رياحٌ ليبرالية في مؤسساتِ الحكم حيث هيمن خاتمي ولغتهُ في توسيع الحريات الليبرالية المحاصرة داخل النظام، لكن ذلك لم ينجحْ وجاءت عاصفةٌ محافظة.
لهذا إذن إن الحديثَ عن العمومياتِ خاصةً في عمومية الإسلام يرتكبُ خطيئةً أصلية، حيث لا بد من القول إن الإسلام المُجَّسد عبر هذه الممارسة هو إسلامُ المسيطرين على المالِ العام وعلى رؤوسِ النساءِ وعلى أكلِ الفلاح وعلى فمِ العامل المغلق.
يتجمد وعي الإصلاحيين الإيرانيين في المسائل الحداثية الكبرى للعصر وخاصةً في مسألة العلمانية. فيقومُ بمناوراتٍ إيديولوجية وسياسية حولها.
نتابعُ أفكارَ السيد بهزاد نبوي المسئولَ السياسي الكبيرَ السابق والذي حُكم عليه بالحبسِ خمس سنوات في الثورةِ الخضراء، يقول:
(أود أن أقول أولاً بأنني لستُ من العلمانيين، بل اعتقدُ بالحكومة الدينية، ونظام ولاية الفقيه هو أحدُ وجوهِ الحكومة الدينية. في الفقهِ الشيعي هناك بعضُ الفقهاءِ وعددهم ليس كبيراً ممن يؤمنون بنظرية ولايةِ الفقيهِ وكان الامامُ الراحلُ الخميني واحداً منهم. ونظراً الى انه كان قائدُ الثورة ونظرةُ ولاية الفقيه كانت نظرتهُ حول الحكومة فإننا بسببِ إيمانِنا به وبسياساته، قبلنا بولايةِ الفقيه في إطارِها الدستوري)، السابق.
تحددُ هذه العبارة تاريخيةً مبهمةً لكننا نستطيعُ أن نوضحَ أشياءَ فيها، فتشيرُ كلماتُ الضميرِ الجماعي في (قَبلنا) وغيرها، إلى الكتل التحديثية (الثورية) و(اليسارية) و(الليبرالية) التي قَبلتْ بقيادةِ الإقطاع الديني، بعد الضرباتِ الموجهةِ للبرجوازيةِ الوطنية بعد مصدق، حيث غدا هذا الإقطاعُ هو الجسم السياسي المتنامي في حضن المجتمع والذي له تاريخٌ سابق طويل، وحاولت قيادة الخميني الجمعَ بين المحافظين الدينيين وأولئك الليبراليين الرافضين خاصة للعلمانية، وتم إلتحاقُ هذه النخبِ بهذه القيادةِ الدينيةِ التي جذبت الجسمَ الدينيَّ الواسعَ للسيطرةِ على أجهزةِ الدولة والحياة الاجتماعية.
لقد عبَّرتْ الكتلُ الليبراليةُ واليسارية واليسارية المتطرفة عن هذا الفشلِ في تثقيفِ الشعبِ وتنويرهِ وعدم إتخاذ مواقف صائبة عميقة خلال العقود السابقة، عبر إعتمادِها على نقلِ الموديلات النظرية السياسية الخارجية، والأخطر كان إعتمادُ بعضِها على العنف المسلح المغامر، مما أدى إلى حرق وتحجيم هذه الكتل على درجاتٍ مختلفة.
ولهذا كانت ولايةُ الفقيه هي تعبيرٌ عن إفشالٍ لإصلاحية آيات الله العظمى المتدرجة وقفزٌ عليها، كما أنها تذويبٌ للمنظماتِ الليبرالية واليسارية وعدم الإعتراف بها عملياً، أي هي شكلُ الدكتاتورية الإيديولوجية السياسية الحاكمة.
وبطبيعةِ الحال لا بدَ أن يكونَ هذا الشعارُ السياسي غيرَ مقبولٍ للغالبية من رجال الدين الشيعة نظراً لجرهِ إيران إلى مغامراتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ محفوفةٍ بالمخاطر كما أثبتَّ التطورُ ذلك، لكنهم لم يناقشوه ويحللوه.
ويشيرُ تعبيرُ السيد نبوي هنا إلى ذيليةِ هؤلاء الليبراليين الدينيين في العمليةِ التاريخيةِ، وقبولهم بالدكتاتورية الصاعدة، وعدم فهمهم للعملياتِ التاريخيةِ التي جرتْ للإيرانيين وللمسلمين عامة.
إن لحظةَ قيادةِ البرجوازية الصغيرة من قبل دينيي الثورة، للصراع الصعبِ المفتوحِ والمجهول تدفعُها لمقاربةِ الليبراليين، إنها لا تُظهرُ هنا في لحظةِ التشكيلِ المتلهبة كلَ شخصيتها، فهي لا تزالُ في القاع الاجتماعي ولم تتناثرْ عليها الثرواتُ بعد، وهي بحاجةٍ لهم، ويمكن أن تتقاربَ مع سماتٍ معينة كالحرية والشعب والدستور وغيرها لكنها تؤسسُ الدولةَ وبناءَها الاقتصادي، فترتفعُ الفئاتُ الوسطى الأكبر عن تلك البرجوازيةِ الصغيرة التي تجسدتْ في الأئمةِ البسطاءِ الفقراءِ، وفي المثقفين الشعبيين المضحين، ولكن حراكَ الحداثةِ لديها لا يجعلها تنطلقُ في الحرية والعلمانية والديمقراطية الحقيقية، فلجامُ الإقطاعِ يوقفُها ويضغطُ على فمِها وعقلها، فهي تنتفخُ عبرَ مؤسسساتِ الرأسمالية الحكومية التي يحددُ خطوطَها العريضةَ الإقطاعُ الديني بأهدافه.
والليبراليةُ الدينيةُ تريدُ الاستمرارَ في هذا التحول البنائي الرأسمالي الحكومي نحو الرأسمالية الحرة والانتخابات الحقيقية والديمقراطية والحريات، لكنها وقعتْ في القبضةِ العامةِ للمؤسساتِ المعبرةِ عن القوةِ الأساسية في هذه الطبقة الحاكمة وهي قوة المحافظين المعبرين عن ذلك الإقطاع الديني التاريخي الموروث الذي خنقَ الثورةَ الإسلاميةَ الأولى وشكلَّ الدولَ العضوضة على صفحات التاريخ الواسعة.
الحبلُ الأولُ من ذلك اللجامِ هو إلغاءُ العلمانية في دولةِ المحافظين، وهي المعبرةُ عن حاجاتِ الأغلبيةِ الشعبيةِ المسلمةِ خاصةً في الإنفكاكِ من «سيطرةِ» الإقطاعين السياسي والديني، الموسومة بأسم الإسلام.
يقول السيد نبوي:
(وبالطبع فان مبدأ ولاية الفقيه في الدستور يجب ألا يكون في التناقض مع بقيةِ المبادئ والاصول الدستورية. أي أن لا يأتي فوق الاستقلال والحرية والجمهورية الاسلامية. إن ولاية الفقيه التي نقبلُ بها ليستْ سلطةً فوق سلطة القانون والدستور. إن المادة 110 في الدستور حددتْ بشكلٍ واضحٍ حدودَ وابعاد صلاحيات وسلطات الولي الفقيه) السابق.
إن مبدأ ولايةِ الفقيه لم يكن في تضادٍ مع الدستور بل هو رتبَ موادَهُ لتكريسِ ذاتهِ فيه، وجعلَ الوليَّ الفقيه مهيمناً عبر مؤسساتٍ خاضعةٍ له، وهي كلها تعبرُ عن هذه البيروقراطية الدينية العسكرية المالية الحاكمة، وليستْ عن هذه التعبيرات المجردة: الشعب، والأمة والمسلمين الخ.
يفهم الليبراليون الدينيون الحقبة الراهنة كما تشاء إسقاطاتهم الفكرية، وأمانيهم الحالمة، لكن مفردات الواقع الحقيقية لها أسنان قوية سوف تعضهم بقوة شديدة.
بدأ خطُ الاعتدالِ الإصلاحي يتكسر بدءً من إبعاد آية الله حسين منتظري، لقد عبر ذلك عن تصاعدِ القوى الحكومية المتنفذة، أي جماعات البيروقراطية الاقتصادية العسكرية التي صارتْ هي المهيمنة على جهاز الدولة والمجتمع.
وفي هذا الإبعاد غدتْ المرجعيةُ السياسيةُ مرة أخرى أقوى من المرجعية الكبرى الفقهية المتخصصة، ووجهتْ الحياةَ العامةَ نحو مغامراتٍ جديدة.
لنقلْ بأن آيات الله العظمى كانت هي الحافظةُ للتطورِ التدريجي للشعبِ الفارسي المنتمي للشيعةِ ولإيران عامةً، إنها تتداخلُ مع الأنظمةِ المحافظة ولا شك، لكن مجالَ المذهب يبقى له إستقلاليته الخاصة المُصّانة والقابلة للتجديد والبحث والاجتهاد.
هي موسوعةُ المذهبِ الحافرةِ عبرَ عقودِ السنين، وتراكم الاحكام والاجتهاد والمعبرة عن شعيراتِ تطورِ الشعبِ بتراثهِ وبتناقضاتهِ ومشكلاتهِ وتخلفهِ وبحثه عن التطور والعدالة.
ولكن الجماعات السياسية المذهبية تمثلُ قفزات وشطحات وإجتهادات، تصيبُ وتخيب، وفي صوابِها مكسبٌ وفي أخطائها مشكلات كبيرة. لكونها لم تغصْ في تراث الشعب الديني مثل المرجعيات ويحركها الصراعُ السياسي اليومي، وتكتيكاتهُ المحدودةُ الرؤيةِ غالباً والخطرة، وإذا كان الفقيهُ يحتاجُ زمناً طويلاً ليُرجحَ حكماً في مسألةٍ بسيطة، فإن السياسيَّ مطالبٌ بالحكم الفوري والخطير المتقلب في قضايا مصيرية، وإذا كان ذلك متصلاً بالدين فهو يغدو مشكلةً محفوفة بالمخاطر. وهذا يعبرُ عن التضاد الكبير بين الفقه والسياسة. ولهذا كان الإمامُ الخميني رافضاً لتكوين الأحزاب السياسية الدينية لفترةٍ طويلة كما يروي الشيخُ رفسنجاني في كتابه (حياتي).
ومن هنا توجهتْ المرجعياتُ الكبرى للاحجامِ عن التدخل بالسياسةِ المباشرة، تاركةً للسياسيين الخوضَ في غمارِها اليومي المتقلب، وهي تتأنى وتدقق وتدرس، ويرتبطُ الحكمُ هنا بمصير الملايين حياةً أو موتاً!
ويرينا المرجعيةُ الكبرى السيدُ السيستاني نموذجاً في ذلك، وهو الذي يستطيع أن يزلزلَ الأرضَ بتوجيهاتٍ سياسية مباشرة.
وبطبيعة الحال فإن أغلبيةَ المرجعيات محافظة، ولكن يتشكلُ فيها بصورةٍ نادرةٍ المجددون كذلك، وعلى مدى التطورات الحاصلة في الحياةِ وفي وعي الناس، تتحددُ تلك الإنجازات الجديدة ومدى نموها داخل بُنى المذهب.
وفي الشأن الإيراني فإن المرجعيات الكبرى لم تَغبْ عن الصراع الخطير، لكنها مستمرة في العمل الذي عكفتْ عليه خلالَ عقود، وهي تمسكُ الجذورَ التحتيةَ العميقةَ للشعب، وما المؤسساتُ السياسيةُ إلا أشكالٌ مؤقتةٌ تعكس صراعات الكتل السياسية والاجتماعية المختلفة العابرة.
إن التطورات الاجتماعيةَ الفوقيةَ لم تغيرْ طابع الحياة المحافظ، لكن نظرية ولاية الفقيه أقحمتْ الدينَ في النظام الحاكم، والسياسة لا تعرفُ سوى هيمنةٍ واحدية، وهذا ورطَّ المذهبَ الرسمي الحاكم كذلك على مستوى الأحكام الاجتماعية وليس السياسية فقط، مما جعلَ قسماً من الجمهور يضجُ بالشكوى، وقد وصلت هجرة المثقفين إلى مليوني ونصف شخص من إيران إلى الغرب.
لقد برزتْ معارضةُ المرجعيات الكبرى في تصاعدِ أحكامِها الفكرية العامة. لقد قالَ بعضُ المحافظين الدينيين؛ (أن لا ولايةَ مطلقةً في غيبةِ الإمام المهدي، وأن شرعيةَ النظام الإسلامي لا تقومُ إلا بظهوره، وأن التسليمَ لنظام الجمهورية الإسلامية بالشرعية الإسلامية انتقاصٌ من الشرع نفسه).
إن النظامَ السياسيَّ عبر هذا الرأي الديني من بعض المرجعيات الكبرى، يتحولُ إلى مجردِ إجتهادٍ غيرِ مقدس، وبالتالي فإن معارضته شرعية وتغييره مفتوح، وقد إستخدمتْ هذه المرحعياتُ مفردات المذهب بدون أن تدخلَ في السياسةِ المباشرة!
هذه الأحكامُ تدخلنُا في التعدديةِ الدينية ، وهي بابٌ للديمقراطية، فلا يجوز أن يفرضَ توجهٌ ما رأيه الديني الكلي، إن الآيات العظام للمذهب تعودُ تدريجياً لمكانتِها الكبرى في الحياة الاجتماعية الشيعية، وفكرة ولاية الفقيه تتآكلُ تدريجياً في الداخل.
ومن هنا فإن الإصلاحيين الإيرانيين الذين سايروا الفكرة وروجوا لها يشعرون بالإحراج الفكري، لكن هذا ليس خاتمة المطاف، فهم لم يفهموا الفكرة كشموليةٍ سياسية، وأرادوا أن يزيلوها عملياً وينقضوها في الممارسة السياسية وهم الذين أيدوها!
يقول السيد بهزاد نبوي في الحوار السابق ذكره:
(ولايةُ الفقيهِ كما جاءتْ في الدستور لا تتعارضُ مع الديمقراطية، وكون الولي الفقيه شخصية غير حزبية لا تنتمي إلى خطٍ سياسي معين، يجعلهُ رمزاً للوحدةِ الوطنية وسيادة الشعب. وكما أن رئيسَ الجمهورية مسؤولٌ أمام الشعب، فإن الولي الفقيه مسؤولٌ أيضاً، إن قراءتنا مختلفةٌ عن قراءةِ أولئكَ الذين يعتبرون الولي الفقيه سلطاناً مستبداً يفعلُ بما يشاء ومن غير الممكن مساءلته).
يتجاهل السيد بهزاد هنا المعاني الحقيقيةَ للدستور الإيراني، الذي يجعل من الولي الفقيه الحاكم الأساسي الذي يشكلُ الطبقةَ الحاكمة بتكويناتِها المختلفةِ المتغيرةِ عبر تنامي الصراع الاجتماعي، فهو الرئيسُ أو الحاكم المطلق كما يجري في العالم الثالث، والذين يختارونه يتم تعيينهم من قبله في الدورة الثانية كما هو الفقيه الولي الراهن، ولنقلْ بأن الشمولية في الطبقة تصاعدت عن السنوات الأولى، مع تنامي غنى وعسكرة الطبقة الحاكمة، حتى لم تقبل بمرجعيات أكثر علماً بل بالمرجعية الأكثر تعبيراً عن أقسام الطبقة الحاكمة المركزية. ومن الممكن أن يتحولَ منصبُ الولي إلى منصبٍ متوارث، لأن الجمهوريات تتحولُ إلى مَلكيات في العالم الإسلامي.
سنرى إن الاستبداد الذي ينفيه السيد نبوي يُطبقُ عليه، هو نفسه، وإن ولايةَ الفقيه ليست فقهاً فقط بل حكومة سياسية صارمة.
ما هي أسباب إنهيار التحالف بين الدينيين الشموليين والليبراليين الدينيين الإيرانيين في إيران؟
لماذا لم تستطع شعارات الليبراليين هؤلاء باعتماد العقلانية وتطوير الحريات أن تتوسع ثم أن تنتصر؟
كان التحالف لا يستند على أسس موضوعية، أولاً من حيث الوعي بالإسلام الذي تشكل لدى الحركة الليبرالية الوطنية في إيران خلال العقود السابقة.
فهم كانوا أنفسهم جزءً من البنية الاقطاعية الفكرية، فلم تستطع المذهبية الاجتماعية السياسية أن تغير ما جرى خلال الألف السنة السابقة من حياة المجتمعات الإسلامية، بالهيمنة المطلقة للرجال على النساء، والهيمنة المطلقة للحكام على المحكومين، وهيمنة الإقطاع الزراعي على الفلاحين، وهيمنة النصوص المحافظة الدينية على إمكانيات العقلانية.
قامت القوى المحافظة السياسية على مدى قرون بتجميدِ حالِ المسلمين، ولم تقمْ القوى الليبراليةُ الصغيرةُ الإيرانية في القرن العشرين بتشكيلِ تيارٍ هامٍ عميق بين الجمهور، من حيث الاصطفاف مع الحداثة وقسماتها الجوهرية وهي العلمانية والديمقراطية والحرية والعقلانية، وتعكزتْ على الوعي الديني المحافظ، وذلك بطبيعةِ الإنتاجِ المادي الإيراني وبسببِ ضعف المُلكيات الخاصة الصناعية، وكانت قسماتُ الفئاتِ الوسطى تجاريةً كاسحة، وكان صوتُ (البازار) هو الداعم لرجالِ الدين المحافظين.
وحين إنتصرت الثورةُ الشعبية تم توسيع المُلكية الحكومية المتعددة الوجوه وهيمنتْ على الاقتصاد الوطني، وعمقتْ في جزءٍ كبير منها الوعي الديني المحافظ في حين كان الوعي الليبرالي التنويريي لدى رفسنجاني وخاتمي مُحاصراً ولا يقوم على أسسٍ علمانية، مثل المُلكية الصناعية التي غدتْ في أيدي البيروقراطية الحكومية وجاء التخصيصُ في بعض الجوانب لصالحِ هذه البيروقراطية وإستيلائها على الثروة العامة.
هكذا لم توجدْ برجوازيةٌ صناعيةٌ حرة، وتم الهيمنة على العمالِ من قبلِ نفس المُلكية العامة والشرطة، ولهذا وجدَ الليبراليون أنفسَهم بلا قواعد ماديةٍ وإجتماعية تستطيع أن تطورَ مفردات الحداثةِ والحرية والعلمانية داخل السلطة الدينية. وبدا عجزُهم الاقتصادي متجسداً في ضعفِ مصطلحاتِهم السياسيةِ المتذبذبة، ومع تضخمِ الطبقةِ المسيطرة وأجنحتِها العسكرية خاصة، حدث هجومٌ معاكسٌ على بذورِ الليبرالية، فنمو الحريات السياسية والفكرية والاجتماعية يعني إنهيار سلطتها.
ومثَّلتْ معركةُ الانتخاباتِ الرئاسية ذروةً للصراعِ بين الجناحين، والتي تمتْ في ساحةِ ذاتِ الطبقةِ وبمصطلحاتِها وبأدواتِ سلطتِها وتشريعها، وبالتالي فإن الجناحَ الليبراليَّ الديني لا يَقدرُ أصلاً على نقضِ النظام المحافظ الإقطاعي ورأسماليته الحكومية العسكرية الخطرة، فهو مشاركٌ في غنائمِ هذه السلطة، وهو واقعٌ في ثقافتِها، التي لا يمكن أن تتشكلَ بدون نضالٍ صناعي مستقلٍ حر وبنشؤِ طبقةٍ صناعيةٍ حرة وبقطاعٍ عام سلمي مُسيطر عليه من قبل الشعب وبوجودِ عمالٍ أحرار.
وبالتالي فإنه ليس أن مفرداتِ هذه الليبرالية الدينية متناقضةٌ وفاشلةٌ وعاجزةٌ عن تنامي تجذرِها في الواقعِ وإستقلالِها عن ثقافةِ الإقطاع والتعبيرِ عن برجوازيةٍ حرة، وعن شعبٍ حر، بل أن أجسادَ هؤلاء الليبراليين الدينيين ذاتها معرضةٌ للقتل والسجن ومختلف أنواع التصفيات.
فالعديدُ من الليبراليين الدينيين بدأت قوى القمع تستأصلهم، فسيد مصطفى تاج زاده تم تلفيق تهم له كي لا يترشح للانتخابات وهاشم آقاجري أُعتقل على أساسِ الإساءة للدين. ونستطيعُ أن نأخذَ المثقفَ الليبرالي الديني البارز سعيد حجاريان الذي كان من مؤسسي جهاز المخابرات بعد الثورة! وأشتغلَ بنشاطٍ كبير في فاعلياتِها، ثم غيّرَ تفكيرَهُ وأدانَ التجاوزات وعمليات التعذيب وقمع المناضلين التي يقوم بها زملاؤه، فُسددتْ رصاصةٌ إلى رأسه!
وهناك المئاتُ من هؤلاء الدينيين الليبراليين الذين أنهالتْ على رؤوسِهم العصي، وأُجبروا على إعترافاتٍ خسيسة تعودُ بنا لزمن محاكم التفتيش، فأكتشفوا ثقافةَ التلفيق التي وقعوا فيها خلال عقود، وكيف جروا الشعب لطريقٍ مسدود ووضعوا المنطقةَ على حافةِ بركانٍ هتلري.
إن كبارَ ناشطي إيديولوجية الليبرالية الدينية، وأحياناً تُطرح بأسم(اليسار الإسلامي)، كموسوي هم أكثر الناس الذين تعرضوا لفشلِ مشروعِهم السياسي رغم إنهم على رأسِ السلطة وأيدتهم جماهيرٌ غفيرة، بسببِِ أن ليس لديهم مشروع ديمقراطي حقيقي، ولا يزالون يناورون ويتذبذبون بين الإقطاع والليبرالية، بين فهمِ الإسلام بشكلٍ دكتاتوري، وفهم الإسلام بشكلٍ ديمقراطي علماني، بين تبعيتهم للقطاعِ العام الشمولي وبين تقزيمِهم للقطاعِ الخاص المُحَّاصر، بين تأييدِهم تأييدهم لنظامٍ سياسي ديني محافظ شمولي وتلعثمِهم بنظامٍ ديمقراطي علماني حر.
أما القيادي البارز والمثقف الذي تتبعنا كلماته المبهمة وشعاراته المتذبذبة (بهزاد نبوي)، فقد عُذب وحُكم عليه بالسجن لمدةِ خمس سنوات.
وهذا كله بسببِ أن هؤلاء المثقفين دخلوا في جوفِ السلطةِ الدينية الشمولية وأرادوا تغييرَها بذلك الشكل المتذبذب، وخلقوا ثغرةً في صفوفِها، وحاولوا توسيعَ الثغرةِ فحدثَ الهجومُ المعاكسُ ضدهم حين اقتربوا من مفاتيح السلطة الحقيقية!
Published on January 08, 2020 12:19
No comments have been added yet.


