عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 86

October 10, 2020

October 3, 2020

عبدالله خليفة: الجغرافيا والصراع





||
في البلدان الإسلامية الشديدة التخلف مثل افغانستان والصومال وباكستان والسودان يغدو انتحار الاقطاعين السياسي والديني شيئاً مرئياً، بعدمِ وجودِ منقذ داخلي، نظراً لاستخدامِ العنفِ المسلح بين الطرفين أو الأطراف، لأن الإقطاعين يغدوان مجموعاتٍ من المتزعمين والمتحكمين بحكمِ الدين المطلق وبحكمِ السياسةِ الحكوميةِ الوحيدة الأبدية.
يكرسُ هذا الجانبَ تخلفُ هذه البلدان وصيرورتها أريافاً وبوادي مُفقرةً مهمشةً لا تجد سوى أن تدمرَ الأعداءَ المفترضين الحقيقيين أو الموهومين.
كما يكرسُ ذانك التلاعبُ السياسي الوطني والتدخلات الأجنبية، التي لها مساراتٌ وأجندةٌ كثيرةٌ مرتبطةٌ بصراعاتٍ دوليةٍ متباينة في كل حقبة.
إن في تركزِ الصراعاتِ الضاريةِ الدموية في الشريط الجنوبي للعالم الإسلامي، الذي اتسع حتى جنوب الجزائر والمغرب وموريتانيا، هو بسبب ان هذه البلدان فقيرة بلا ثروات وهي قريبة من الشظف الصحراوي الشامل.
إن البوادي دائماً هي مراكزُ للقلاقل خاصة حين تتدهور المراعي والمحاصيل الزراعية وتنضبُ اقتصادياتُ الرعي والزراعة، ولهذا فإن هذه البلدان نظراً لذلك تعتمدُ على القبائل وصراعاتها ولا يوجد صراعٌ ديني أو سياسي حقيقي، فهي قبائل تتصارع ثم تلبسُ أقنعةً دينيةً ومذهبية ووطنية، فهي كما كانت قديماً تريد إزاحة قبائل وتريد أن تكون مكانها، مثل صراعات قبائل البشتون والأوزبك، مثل صراع مسيحيي الجنوب مع مسلمي الشمال السوداني المذهبيين الشموليين الخ. فهو دائماً صراع الكراسي وتمزيق الخرائط السياسية.
من الناحية العالمية تعرضتْ المناطق الرعوية والزراعية لسحقٍ عالمي، من قبل الدولِ الرأسماليةِ الصناعية الكبرى، بتدهورِ السلع الزراعية وبارتفاعِ قيم السلع الصناعية وخاصة الاستهلاكية منها، ولم تجدْ الأريافُ والبوادي الإسلامية الجنوبية حكوماتٍ وقوى المال الكبيرة على مستوى المسئولية لتطوير هذه المناطق، لكونها مشغولةً بالاستثمارات الغربية نفسها والاستفادة منها.
طرفان وجدا نفسيهما على طرفي نقيض، على شفا حفرةٍ من النار، أحدهما يرتفعُ ويستثمر ويزدادُ غناه، وآخر يبيعُ أشياءهُ ويعرضُ أولادَهُ للعمل فلا يجدون ويخفي بناته عن المزالق، فلا يقدر، ويجد في مخاض الأزمة المستفحلة المنشقين والإرهابيين ومدعي الحلول الرافعين للكتاب المقدس، فيتحمس في عنفوان اليأس والمذلة والفقر، ويتم الدعوة للهيمنة على البلد ككل والهجوم على العاصمة أو تدميرها أو استبدالها ولا تقدم الحكومات من جهة أخرى إصلاحات حقيقية.
الجانبان الحكومي المنتفع والبدوي المدقع، وكلاهما إسلامي يجدان أنفسهما في حربٍ ضروس، تؤدي إلى زيادة الديون والفقر والتبعية والمذلة لبلدهما المشترك.
بل ربما لتدخل القوات الأجنبية والأساطيل والاستخبارات.
بلغت أحجام الخسائر في جنوب الصحراء الافريقية والصومال وباكستان وافغانستان أحجام تنمية بلدان كبيرة.
هذا المسلسل يبدأ في الصعود من الجنوب قليلاً قليلاً للشمال: وجود المناطق الريفية والجبلية التي يمكن فيها التمرد المسلح تعتمد على التضاريس، وكلما اتجهنا شمالاً قلت التضاريسُ الجبلية وغدت الأراضي مستويةً حتى عادت للجبال في أقصى الشمال الآسيوي العربي الكردي، ولهذا فإن الأزمات تأخذ لها طابعاً مختلفاً في هذا الاستواء.
في الوسط ليس الأمر مثل الجنوب المدقع، ثمة مدن، وثمة حياة مستقرة وقوى اجتماعية ذات معيشة جيدة، هنا لا ينفع العنف، ولا تفيد الدعاوى بحرب عصابات وسيارات مفخخة، في الجزائر مثلاً نجد الوسطية المرعبة، الجبال والأرياف المدمرة معيشياً والمدن الخليلة لفرنسا، صحارى وجبال كانت مرتعاً تاريخياً للخوارج، وللتطرفِ الدموي لجبهة التحرير الجزائرية، فتغدو خلايا مناسبة للإرهابيين. تاريخٌ مشتركٌ من الطبيعةِ المتطرفةِ ومن الطبيعة البشرية المتطرفة.
الطبيعةُ تعطي أسلحةً جاهزة للإقطاعِ المنفصلِ الذي تختلط فيه العصابات بالتمردات، ويؤدي أي سلاح إلى ظهور جبهة للحرية المزعومة والانفصال، وتستمر الأزمات طويلاً لأن حكومات المدن التي تأتي فيما وراء الجبال والأرياف والبوادي عاجزة عن تجاوزِ عصر الإقطاع بشكل جوهري وليس بشكل إصلاحي زائف أو عبر هجوم عسكري مضاد. السلاح يثبت هنا أن هذه المجتمعات لا تعيش العصر الحديث بشكل حقيقي، والهشاشة الطبيعية تسمح بتعرية ذلك بقسوة شديدة.
الأزمة في العالم الإسلامي أكبر من جميع الأطراف والحلول التبسيطية المُقَدمة.
|| ||
رأينا كيف أن الحروب الأهلية في البلدان الإسلامية تتضخم وتستعر في البلدان الجنوبية الصحراوية أو ذات الغابات المدارية، أو الأرياف الفقيرة، فالطبيعة القاسية تعري هشاشة الأنظمة العربية الإسلامية، فالسببية الاجتماعية الطبيعية تفضح بشكل دموي هنا، وليس معنى ذلك أن الأزمة الاجتماعية السياسية غير موجودة في البلدان الإسلامية الأخرى، بل هي موجودة ولكن هذه البلدان الطرفية الشديدة التخلف تنفجرُ بسببِ ظروفها الاجتماعية المتخلفة هذه، فقد شكلتْ الأسباب الطبيعية الشديدة القسوة، وضعا اجتماعيا انفجاريا.
الأرياف والبوادي المتصحرة والغابات هي كلها أشكال تؤدي إلى ضعف الإنسان الكبير هنا، مع غياب الموارد المهمة، وحين تظهرُ المواردُ المهمة نراها تخففُ مؤقتا من الهيمنة الكلية للطبيعة القاسية، لكن لا تلغيها.
وجودُ الإنسانِ المدني هنا محدودٌ، والأشكالُ القرابيةُ القبليةُ تلعبُ دورَ الناظم الاجتماعي السياسي، وهي أشكالٌ متخلفةٌ تكونُ في طوعِ أي زعيم متفرد سواءً زعيم عصابة أو تاجر مخدرات كبير، أو رئيس مخابرات.
الزعيمُ يستطيعُ بحكمِ الهيمنةِ القرابيةِ المعجونة بسيطرةٍ دينية، أن يربطَ القبيلةَ أو الجماعةَ بمن يريد. هنا تنتفي العقلانية والديمقراطية ويحدثُ أكثرُ أشكالِ الدكتاتورية تخلفا، وتطرح النصوص الدينية بأشكالٍ كاريكاتيرية، خاضعة لتبجحات الزعماء وأهوائهم السياسية.
ونلاحظ هنا ان المناخات السيئة الصعبة لا تستطيع أن تلتهم إرادة الإنسان المسلم أو المسيحي، إذا كانت القوى المدنيةُ متطورةً كما في إندونيسيا، حيث المدن والحداثة الاقتصادية وعمل النساء الواسع تحتلُ مكاناً كبيراً فتلغي هيمنةَ الطبيعة القاسية المطلقة.
المناخُ لا يقهرُ ولا التصحرُ بذاتهما، لكن الأشكالَ القرابية الدينية ذات الرؤى المحدودة تعرقل القبائل عن التطور التحديثي، وهذه تتسرب إلى القرى التي هي سكن للقبائل السابقة، مع ذات الأفكار الدينية المحافظة المعرقلة للتحديث الذي هو أساس السيطرة على الطبيعة القاسية.
وبعد هذه الدول الشديدة التصحر أو الغابية المدارية فإن الدول التي تأتي بعدها أقل تعرضاً لهذه الظروف الطبيعية القاهرة بسبب وجود المؤسسات الاقتصادية العامة والخاصة التي طورت الإنتاج لمستويات متباينة في كل بلد، ولكن المدن العربية والافريقية الإسلامية والآسيوية القريبة منها، لم تختلف عن كيان القرى القبلية من حيث وجود دول يهيمن عليها شيوخ القبائل، وتتعرض الموارد لسيطراتهم سواء كانوا قيادات حاكمة أو الأحزاب المسيطرة أو قوى الضباط الكبار.
استطاعت المدن العربية الإسلامية في الوسط الصحراوي القريب من الأنهار والمياه أن تكون مراكز للسيطرات الحكومية وليست مدناً تحديثية حقيقية، ونظراً لوجود الجيوش الممركزة هنا لا تستطيع الصراعات السياسية والاجتماعية، أن تخرج قوى عسكرية مضادة، فتلجأ لاستخدام العنف أو الإرهاب أو كل أشكال استعمال النيران.
يتوهم السكان انهم في الحضارة الحديثة لكنهم ليسوا كذلك، وما يختلف وجودهم هنا عن الأرياف والصحارى في أفغانستان وباكستان هو فقط وجود السيطرة العسكرية والبوليسية والاقتصادية المركزية القوية، لكن حرائق افغانستان المتشابهة تتسلل، والمتمردون هنا يحملون السلاح بشكل فردي أو بجماعات صغيرة، ولا توجد تضاريس تساعدهم على نشاطاتهم، فإذا اتسعت هذه التضاريس كما في اليمن والجزائر والعراق فإن حروب العصابات والقلاقل تنتشر بشكل أكبر.
وعدد البلدان الذي يدخل هذه الصراعات العنفية يتسع، ولنلاحظ كيف كانت بلدان خليجية تخلو من هذا تماماً قبل عقد، لكن اختلف الأمر الآن. وكلما كانت السيولة النقدية كبيرة كانت قادرة على حفظ التوازن المؤقت، فهي تجعل المواطنين أكثر قبولا للاستقرار وعدم اللجوء للمغامرات لكن إذا تناقصت هذه السيولة تصاعدت أعمال العنف كما في العراق ومصر، حيث تغدو المناطق الصحراوية والعشوائية مناطق لأهل العنف.
الصحارى والجبال مناطق مهمة ومراكز للجيوش المضادة للأنظمة، ولكنها كذلك تتداخل مع الأحياء الشعبية المأزومة اقتصاديا داخل المدن، فتنشأ صلاتٌ سياسيةٌ وعسكرية بين الجانبين، ويتسلل السلاح إلى قلب المدن التي كان يُفترض أنها مركز الاستقرار والأمان والجيوش.
|| ||
رأينا كيف تمتد خريطة الصراعات السياسية الاجتماعية في العالم الإسلامي، ورأينا كيف أن المناطقَ الجبليةَ والغابيةَ والبوادي والأريافَ تتمظهرُ بها الخروق الأمنية أكثر من غيرها بسبب الطبيعة الخاصة بها التي تجعل التمردات ممكنة وميسورة نسبيا.
لكن الصراعات واشتعالها لها سببياتٌ أخرى، وهي العجزُ العام عن قبول الديمقراطية الحديثة.
فالطبيعة ليست لها علاقة بهذا العجز، لكن الحكومات السائدة والحركات الدينية البديلة لا تقبل بالديمقراطية، مما يجعل حراك العالم الإسلامي السياسي حراك التأزم والتآكل والتحلل.
الأزمة بنيوية عميقة كما يقول علماء الاجتماع، وقد بيننا مراراً هذه الأسباب، ولكننا هنا نتتبع الجوانب العسكرية العنفية التي تنمو بشكل خطر.
ورأينا كيف أن لغات النار تنمو في تلك المناطق النائية، وتصعد حتى تتوقف على أبوابِ المدن والمناطق الثرية والسهلية، وتتسرب إليها بغرض تغيير طابع السلطات.
الإسلام دين ذو طابع عسكري خاصة في مرحلته المدنية، وقد قامت الحركاتُ الدينيةُ المحافظةُ باستثمار هذا الطابع وتوظيفه ضد المضامين النهضوية التقدمية التي طرحها الإسلام، أي استغلال الأشكال لأهدافٍ أخرى.
فغلبة الذكورية واستخدام القوة في الصراعات السياسية واقتطاع آيات من سياقاتها وتوظيفها في الصراعات، كانت من المظاهر القديمة الشائعة في أعمال العنف السياسية في التاريخ الإسلامي، لكن المستجد الآن في هذه السنوات قدرة أشكال العنف على التغلغل في المدن، منذ السبعينيات حين أطلق الرئيس السادات حراك الجماعات الدينية بشكل واسع، أو حين جندت القوى الأمريكية والعربية المحافظة جماعات الاخوان والسلفية في حرب افغانستان، وقد أتاح ذلك اختراق المدن العربية التي لم تشهد مثل هذه العمليات الإرهابية إلا بشكل نادر.
وقد طرح تصاعد عمليات العنف داخل المدن إشكاليات بناء هذه المدن نفسها على أسس غير ديمقراطية من العديد من النواحي، فراح العنف يستند إلى الفئات المهمشة؛ مثل سكان الضواحي الفقيرة، والقوى التي هي خارج الإنتاج والعمل، والمأزومين عامة. والمأزومون خامات جيدة للحراك الفوضوي، بخلاف العمال المنظمين والتجار وغيرهم.
وتتم عسكرة قوى اجتماعية من خلال استغلالِ عناصر معينة في الإسلام كما أوضحنا، كاستغلال النساء، عبر التركيز في المظاهر العبادية والملابس والخشونة، وتقريبهن من العسكرة، ومثلما يحدثُ للشباب عبر ترك مظاهر الحداثة في اللباس والعيش، مما يعني استغلال هذه الجماعات للتاريخ الإسلامي من أجل التجنيد وتنفيذ أهداف سياسية لتغيير الوضع في المدن، بسبب صعوبة التوغل العسكري فيها.
وفيما تنمو هذه العمليات تراوح الحكومات في أمكنتِها الاجتماعية والسياسية، فنجد التناقضَ الكبير على مستوى الحكومات كلها بوجودِ الصراعاتِ بينها وتفاقم التدخلات، وهي أمورٌ تؤدي إلى النزيف الأوسع، وهدر الثروات، كما حدث في حروب افغانستان الكثيرة التي سببها الأساسي تدخل الحكومات الخارجية.
أي أن الحكومات في العالم الإسلامي تقومُ بإعدادِ المسرح العام للصراعاتِ العنفية، ثم تعجزُ كلُ حكومةٍ عن تأطيرِ الصراع الوطني السلمي الديمقراطي النهضوي بين القوى الرأسمالية المهيمنة على الثروة الوطنية، أي أن هذه القوى سواء كانت رأسمالية حكومية أو رأسمالية أهلية مدنية أو دينية تتقاتل على الكراسي السياسية، التي لا تنهض من فوقها أبداً.
والثروة العامة لا تصل خيراتها إلى الجمهور العامل الذي ينتج أغلبها، مما يجعله غير مبال بتطور هذه المجتمعات.
والقوى العنفية التي تنمو من الجبال حتى المدن تعتمد على هذه التناقضات، وعلى عدم قدرة هذه القوى الحاكمة أو المعارضة في المدن على تأسيس ثقافة ديمقراطية مشتركة، وتعاون دقيق، وبناء، يقوم بتصفية المناطق العشوائية المتخلفة، وتطوير القوى المهمشة، ووقف استنزاف الميزانيات في الفساد والبذخ، ويجعل البرلمانات ساحات فعل وتغيير وليس ساحات استنزاف جديدة وصراعات تمزيقية للخرائط الوطنية.
بطبيعة الحال مثل هذا العجز الشامل في القوى السياسية الاجتماعية، لا تنسد الآفاق كليا فيه، فثمة عناصر بناء وتغيير، عناصر نفي لهذا السائد، ولكنها ضئيلة وتراكمها بطيء فيما الخرائط العامة تتآكل.





 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 03, 2020 05:42

September 26, 2020

September 21, 2020

قصص عبــــــدالله خلـــــــيفة على هذا الرابط: https://iakalbuflasa.wordpress.com

قصص عبــــــدالله خلـــــــيفة على هذا الرابط:
https://iakalbuflasa.wordpress.com
وراء الجبال.. قصة قصيرة






القرية بيوت صغيرة كالحة تحت الجبال الشاهقة. نتوءات من الخشب والحجر واللحم ملقاة في قعر الصخور. نقطة من الخضرة والدم والضوء تتنفس أمام المادة والموت. معبر وحيد أخير للحياة في قبر الأحجار.

حين يرمق يحيى ذلك الامتداد الشاهق لا يصغي إلا إلى عزف الأساطير والصقور.

ليس ثمة فرجة من سهل، ليس ثمة بوابة للخروج، ليس ثمة نسر قادر على تجاوز هذه العمالقة الكبار من الحصار والرعب.

ليلاً ونهاراً يعمل في هذه الآلة الغريبة وسط عريشه المفتوح للعيون الشكاكة والأيدي العابثة.

لم يأتِ أحد منذ قرون إلى القرية. لا يوجد ساعي بريد. ليس ثمة قوافل تعبر إلى هذا المكان النائي المعزول عن العالم.

لا يصدق أهل القرية أن هناك بشراً غيرهم وراء الجبال. وعندما صنع ذلك الجهاز الحساس الذي التقط أصواتاً غريبة دهشوا، وتحدثوا طويلاً عن معجزات السحرة الذين يشتغلون في كهوف الجبال.

هنا الأرض الخضراء الصغيرة المتشققة بين الأحجار، التي تنبتُ بدم، وتكتسحها السيولُ المدمرة, هنا الرجال والنساء المغروزون بين خناجر الأرض والشوك ولحظات الحب الوامضة في الليل.

هنا الأطفال الذين يطلعون مع ثغاء الماعز وروث البقر وضحك النجوم والتماعات الأشباح في الصخور.

ينغمس يحيى في المعدن المضيء.

هذه الآلة التي تشكلت من بقايا المحاريث والصفائح، تضج في الليل والنهار، تقذف الهواء الساخن، وتدير المراوح القوية.

يقترب سامي ونورة منه، يحدقان في الخرائط الغريبة، وأجهزة النداء والنبض والراديو، ويسمعان الأصوات، ويحركان الأضواء، وينبهران..
وفي كل مرة تنفجر هذه الآلة، وتنغرز العجلات بين الصخور والوحل، كانا يساعدانه في حملها وإعادتها إلى هذا العريش المفتوح للفضاء.

من الطمي، من الشوك، من الدفاتر الجلدية، من الكتب الصفراء المدفونة في المخازن والتراب، من أحلام الطفولة، من ذبذبات الضوء، من حفلات الأهالي الدموية..

جمع السطور والمعدن والضوء والأمل،سنوات وهو يجمع الفلين والعظام والحديد والكلام.

يرون ضوءاً غريباً يسطع في ذلك الكوخ، والورق يمتد، ويرسم الجبال، ويحلق بعيداً.

يثرثرون في مجالسهم، يغضبون، يأتون إليه بفئوسهم.

ـ ماذا تريد أن تفعل.. لماذا تكلم الجن?!

ـ إنني أصنع شيئاً لعبور هذه الجبال، أتعجبكم هذه العيشة الرهيبة كالضفادع والهوام? هناك وراء الجبال.. الأرض الخضراء والمدن والسعادة!

يندفعون إلى آلته، يرفعون أدواتهم الحادة. يضع جسده فوقها. يصرخون:

ـ منذ أن رحت تشتغل على هذا العفريت.. والأرض تبور، والمطر انقطع، والجواميس نفقت، أنت لعنة، وعملك سحر شيطاني! من أين طلعت لنا? كنا في هناء. كانت الأرض تمتلئ بالحبوب، والأطفال يملأون البراري، والآن أكواخ رثة، عراك مستمر، جوع مضنٍ، يالك من نحس!

كم من مرة ركض إلى الكوخ وهو يشتعل! كم من مرة ساعده الفتية ليجمع خردة الحديد وليخفيها آباؤهم! كم من مرة سلم أضلاعه وسنواته للنار!

يحرق السحرةُ البخور في كهوف الجبال. يرسمون وجهه بخطوط الجمر والدخان. يكتشفون أسباب لعنات الماعز والنحل والخراف في معدنه الملعون!

يصرخ السحرة في مغاراتهم العديدة المتعادية. تتكون خطوط من البارود والخناق، تمتلئ القرية بحريق رهيب.

تبدو أعواد الأكواخ، والأسياخ المنتصبة الحامية، وخطوط الدخان المترجرجة، وروائح الأرض والجلود المشوية، وأكوام الأشياء المُنقَّذة، مثل آثار الزيارات الرهيبة للنيازك، مثل حفلات الزار وانفجارات الجليد.

يصرخ يحيى في الليل. ويترنح لشواء البشر، ولقوافل الموتى، وللرجال المجانين الذين يبحثون عن مسارب آمنة في الجبال المعادية فيتهاوون كطيور ميتة ويغدون وجبات لذيذة للنسور.

يصرخُ في العرائش المغلقة المفتوحة للدخان والهلوسة، ولا أحد يأتي إليه سوى نورة وسامي يتعكز على قواهما الفتية وضحكاتهما النقية.

وهو يصبح عجوزاً تشتغل الآلة بقوة. ويبدأ الجسد المعدني بالانفصام عن إرث الروث والسحرة، لكنه يهبط مقعقعاً على النتوءات، مهتزاً، متألماً، يكاد يصطدم بالنخلات المبعثرات.

سامي ونوره يشعلان له المصابيح، ويسهران طوال الليل، يقرآن له المفاتيح والكتب، ويرون الجليد يملأ رءوس الجبال مضيئاً، مغلقاً كل شقوق الأمل.

البشر انكمشوا في بيوتهم، تدثروا بألحفتهم الثقيلة العطنة، يحرقون البخور، ويبصقون في أفواه الأطفال، ويطعنون الخرز بالأبر، ويذبحون الديكة العوراء، ويختنون النساء، ويتبركون بالأحجار.

يصرخ: ثمة طوفان قادم. ثمة جليد عارم جبار سيتدفق. ستكتسح الصخور المنازل والزرع، هلموا إلي!

لكن الأبواب والآذان تبقى مغلقة.

الربيع يقترب، والجداول الوحشية تتكون، والصخور تتقلقل، والظهور محنية، والعيون محدقة في النعال المقلوبة, والمزارات ممتلئة!

راحت الجبال العملاقة تهتز. الكوفيات البيضاء المسالمة فوق رءوسها تغدو ثعابين من الوحل والحصى والجذوع المندفعة. دمدمة رهيبة تكتسح كل شيء. ويهتزالرعاة والغنم في فلاتهم.

تنغلق الكهوف على السحرة في الجبال. ويركض الناس للشرائط المعلقة على القبور.

راحت العجلات ترتفع، وصمد الجناحان للريح، والشابان جثما خلفه، يتطلعون بأسى إلى أنهار المياه والأكواخ والرءوس، وهي تتدفق نحو أسنان الصخور، وجثث البشر والماعز والبقر تطفو، والأيدي القليلة ترتفع من اللجج، والصرخات تنفجر ثم تفور في الضجيج المدوي.

الطائر المعدني الضوئي يرتفع فوق قمم الفيضان والطوفان، وينفتح المدى اللا نهائي للنور.

❀ رابط للكتاب: القارئ الأدبي العربي المتقدم: لطلاب اللغة العربية الفصحى الحديثة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 21, 2020 14:28

September 17, 2020

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الأعمال التاريخية الكاملة

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الأعمال التاريخية الكاملة

 


  إنها غوصٌ حميمٌ غنائي سردي في شخصيةِ النبي محمد، نبي الإسلام، حيث تتجسدُ البطولةُ في المفرداتِ الإنسانيةِ الطفوليةِ الأولى، وتنمو بشكلٍ درامي صدامي مع الواقعِ والآخرين، في نأيهِ عن عبادةِ الأحجار والتحامه بالمغمورين من البشر، وببذور المعرفة والنضال، وفي تساؤلاتهِ وبحثهِ عن طريقٍ متحضرٍ لجماعةٍ غارقةٍ في التخلفِ والتمزق.
هي لحظاتهُ الدراميةُ المتفجرةُ وثورته.
هي روايةُ محمد الإنسان، في حبهِ لخديجة، ونمو علاقتِهما وسط الوثنيين، المعادين، وفي عملِهما المشتركِ المضني المتصاعد.
 ويتجسدُ من جهةٍ مضادةٍ الوثني الأناني الإستغلالي المتخلف، الذي يريدُ كرسياً وملكاً فوقَ رقابِ البشر، ويستعينُ بكلِ شيءٍ لوقفِ التقدمِ والحرية ودولة الجمهور.
محمد ثائراً
  
تعتدلُ الأسواقُ حين يمر.
يتطلعُ الباعةُ إلى موازينهم جيداً. تعتدلُ الأسعارُ ويتجرأ الفقراءُ، ويحترمُ الرجالُ نساءهم، ويختبئ اللصوصُ والدجالون في أوكارهم، وتزهرُ غيومُ العصافير على الشجر، وتتدفق كتبُ الأمصار بأخطاء الولاة، فيندفع رجالٌ على خيولهم أو أبلهم لا توقفهم الصحارى والسيول والذئاب والصعاليك والأمراء، يقتحمون أبوابَ الإمارات العالية، وينزعون سياطَ الحراس ويحررون الخدمَ من الأحباس، ويسحبون الولاة للمحاكم والأسواق، ويعرضونهم لصفعات الناس ، وكلماتهم القاسية..
يقحمون رؤوسَهم في خزائنهم، يدققون في الأرقام والمعادن النفسية، والرخيصة، يأخذون الكثيرَ وينثرونه على المساكين، ويتطلع أؤلئكَ الفقراءُ في أزقتهم المعتمة لهؤلاء البدو الغرباء ذوي الثياب الرثة، يحولون النقدَ الثمين مثل مطر مضيء رخيص ينهمرُ على العشش.
   يرون أبوابَ الولاة الثمينة تـُهدمُ وتنفتحُ دارُ الإمارة للمتسولين والنساء والمجلودين في الحقول والمسروقين في أهراء القمح، وتتكاثر الحشودُ على الولاة.
حين يظهر عمرُ بدرتهِ في الطرقاتِ والأسواق والحارات، يختفي المتسولون وباعةُ الغش، وتمشي النساء باحترام، وترتاح حيواناتُ الحمل من صناديق ثقيلة وأحمال متعبة، ويوقف المتحدثون خطبهم الطويلة عن الفضيلة، ويتجه الرجالُ للحقول ويتركون مجالس الثرثرة.
ويبعث الحطابون والمزارعون والنساء والعراةُ من وراء الصحارى بخطاباتهم لأمير المؤمنين ينتقدونه على عدم عنايته بهم، ويتطلع بعضُ الصحابة في الرسائل بغضب، في حين يدقق فيها عمر، ويسألُ، ويكتبُ، ويرسل رجالاً مصنوعين من عظام الفضيلة والجرأة السميكة، يقتحمون مخادعَ الولاة النائمين ويجرجرونهم عن المحظيات، ويعرضونهم لسياط العامة، ويستبدلونهم برجالٍ آخرين من التراب، ويحملون خزائنهم ويلقونها في بيت المال، حيث حشدٌ من العبيد والخدم السابقين، حراساً غلاظاً على كل درهم.
عمر بن الخطاب شهيداً

 


   من رأى عهداً للحب والحنو والمساعدة مثل عهدي؟ اسألوا الأباطرة الذين رحلوا ووسعوا المقابر، اسألوا الغاضبين الذين قُتلوا! انظروا العاصمة التي تخلو من الحرس والشرطة والمشعوذين والمخبرين والشحاذين! ولكن بعض النفوس الصغيرة لا تحبني، يريد لكل هؤلاء الفقراء أن يزهدوا في الدنيا بل لا بد أن يفرحوا ويأكلوا في الموائد العامرة، وينتشوا بالحياة!
عثمان بن عفان شهيداً

 


   تنامُ العيونُ وتهجعُ الأجسادُ، وهو لا ينامُ ولا يستريحُ، في الأزقةِ المتربةِ، في خيامِ القادمين من الأمصار، في الأسواقِ الناعسةِ والضاجةِ بالصراخ، يرونه..
اسمهُ مثل عاصفةٍ على الأشرار، يسترخي الفلاحون تحت الأشجار، وترتاح حيواناتُ الجر، وتتوقف الفوائدُ المجحفة، وتقلُ الأرباحُ النهمةُ، وتسالمُ جيوشُ الفتوحِ السكانَ والزرعَ، وتغمغمُ القصورُ والبيوتُ الكبيرة بالشكوى.
   يوجهُ الرسلَ والأمراءَ والدعاة:
   – اذهبْ لمصر واعدْ السلام وأخمدْ الفتنة.
   – أذهبْ إلى اليمن وأحمِ الرعاة.
   – أذهبْ إلى الكوفةَ وأسألْ الناسَ عن واليهم.
   – أمضِ إلى البحرين ووزعْ الفيءَ على الفقراء.
   يتأملُ الليلَ والنهارَ، ويغسلُ بيتَ المال من أثر الذهب والفضة، ويجلسُ ليأكلَ وجبتَهُ الشحيحة.
يتساءلُ: هل سيتركونني أعملُ ونقفز على مستنقعات الدم؟
هل سوف ينسى كبارُ رجالات قريش الماضي والكراسي؟!
علي بن أبي طالب شهيداً

 


 تتوجه هذه الرواية بأسلوبٍ عصري مختلف لحدثٍ تاريخي شهير.
 إن مأساة الحسين تتحول هنا إلى حراك شعبي واسع مع غياب جسد الحسين نفسه.
 فالرأس التي تُحملُ على أسنة الرماح نحو مقر الخلافة حيث زعامة القهر تحرك الجمهور ليقرأ واقعه الذليل، وتحملُ هذه الرأسَ عدة شخصيات، وتدخل مدناً، وتلتحم بمنولوجات شخصية وحوادث فردية وجماعية، حتى تتشكل دائرة واسعة من الأحداث والصراعات والحوارات.
 لكن الرواية كفنٍّ عصري لا تكتفي بعالم من الأحداث التاريخية الحقيقية، بل تمزجها بخيال فني، يوسع من تغلغلها في الشخصيات التاريخية المحورية، فتوجدُ الشخصية الشعبية المتحولة كمحور كبير، فيتمازج المتخيل بالحقيقي، وما هو شعبي كفاحي متوارٍ يغدو في مقدمة اللوحة، وما هو تاريخي فوتوغرافي يتراجع للوراء ليكون خلفية الرواية، ليتغلب الشعري على النثري، وتغدو الرواية جزءً من ملحمة الصراع في بداية التاريخ الإسلامي.
 إن تراجيديا التاريخ الإسلامي تتحقق هنا على صعيد الرواية كحوارات صراعية بين شخصياتها المحورية.
إنه عمل روائي من نوع جديد.
الحسين شهيداً
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 17, 2020 22:09

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الأعمال الروائية الكاملة

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الأعمال الروائية الكاملة
❜ الرواية عند عبدالله خليفة تنطلق من الماضي وتذوب في أطيافه، تمتزج بالواقعية، وتتمادى في تعقيد حبكتها الروائية، تؤسس لحياة غابرة بقلم الحاضر، تستدعي شخوصها وأمكنتها بتاريخ هذا اليوم وتحاول عبر عالمها الروائي أن تشيد الزمن برؤى الحاضر، تحكي بصوت الراوي المنفرد أصواتاً مختلفة وتعبر عوالم لا منتهية، عوالم البشر والطبيعة، عوالم الزمن والمكان الذي يشتغل برمزيته على الأحداث ويؤطرها وفق فترة زمنية وحقبة تحكي بشخوصها وملامحها ملامح عصر ربما عفت عليه الأيام لكنه يعيد تشكيل ذاته من جديد وبشكل مغاير يختلف بطريقة ما عن سابقه ولكنه يعتصر من الماضي مقومات حضوره.
هكذا كانت هي رواية «الأقلف» لــ عبدالله خليفة رؤية تسرد حكاية من لا يعرف لذاته طريقاً، ومن يجهل ملامح صورته ومن يسأل عن جذور هويته ولكن لا سبيل للوصول فالحقيقة تظل سراباً والواقع أكبر من ان نفهمه.
من أنا؟ ومن أكون؟ ما هي ديانتي وهويتي؟ أسئلة كثيرة في حياة «يحيى» فالوطن والحب والأثنية ثلاثي أنتج قلقة مبعثرة هادئة لكنها صاخبة، مسالمة لكنها قوية، حالمة لكنها مستاءة وحزينة، رواية من لا يعرف لذته طريقاً ومن لا يجد لأسئلته مجيباً ومن لا يكف عن البحث عن السكون إشكالية الوجود وعبر إشكالية الذات تتمحور إرهاصات الحياة وتبرز ثنايا النفس وعيوبها..  
❜ على مساحة واسعة عمقاً وسطحاً يجمع عبدالله خليفة عُقَد الخيوط بيديه، يشدها، يمَّدها، أو يُرخيها، بامتداد فضاءات حكائية سردية مترامية، تشبه إلى حد كبير القصيدة الملحمية المطوَّلة، أو النشيد البطولي الاسطوري، حيث تتوالي وتتقاطع وتلتحم، تلك الفصول كحبات المسبحة كما تترى وتائر الوقائع والأحداث والناس والشخوص، وتحتدم الصراعات وتتضارب المصالح والطموحات والغايات.
وفي ثلاثيته الينابيع، وفي غيرها من رواياته العديدة، التي تعتبر منجزاً وطنياً إبداعياً، ولعله الوحيد الذي يحسب له كتابة تاريخ البحرين الحديث «روائياً» في ثلاثيته «ينابيع البحرين» التي ستظل مرجعاً تأصيلياً مهماً لتاريخ البحرين والرواية السردية على السواء.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 17, 2020 22:00

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الأعمال القصصية الكاملة

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الأعمال القصصية الكاملة
لحن الشتاء قصص من البحرين

 


مجموعة «لحن الشتاء» للكاتب البحريني عبدالله خليفة محاولة قصصية تندرج في سياق الحركة الادبية المتصاعدة التي تعرفها البحرين في فترة السنوات الأخيرة حتى يومنا هذا.
 ولعل حركة المضمون التى ينطوى عليها، هذا الكاتب تشكل الحدث الأكثر بروزا وطغياناً فيه. فالقضية هي قضية معاناة إنسانية عميقة الجذور متشعبة ترسم صيغ الأوضاع الاجتماعية والسياسية والإنسانية والحضارية التى يعانى منها الإنسان كإنسان فى البحرين.
 وان هذا الامر لا يعبر عنه الأديب تعبيراً مسطحاً أو سريعاً وعابراً. إنما يشكل هاجساً أكبر يتنفس من كل كلمة وحرف وفاصلة. . انه حلم أو هذيان أو جنون ينقله الكاتب إلى اللغة التى تصرخ حيناً وتناجي حيناً آخر وترصد الحركة الوجدانية في كل الأحيان.
لكن اللغة التي تحمل هذه الهواجس لا تقف على رجلين متساويتين، بمعنى أنها لغة تتراوح بين السردية المباشرة والحوارية الدائلة، الواقعية حيناً والخيالية حيناً آخر، حتى لتصل احياناً، إلى الشعر وخصوصاً في أقصوصة «لحن الشتاء» حين يتحدث عن اللحن مشيراً إلى أنه «ينبعث من جهة ما، ينطلق الى البيوت والاشجار، يهزها، يجرحها، يسيل دماءها فينطلق الحزن والأسى والعذاب في الطرقات»..
 أو حين يقول في الاقصوصة ذاتها «اللحن رجل مجنون.. يكلم الجدران والنوافذ».. «اللحن خناجر تنغرز في عظامك» أو حين يقول في أقصوصة السندباد «أمطرت السماء حزناً وغياباً»..
 حيث تتبين في هذه المعطيات الرقة والانسياب اللذين تتميز بهما في بعض الأحيان.
 من هنا يمكننا أن نفهم أهمية الأقصوصة في الأدب البحريني حيث تبشر الحركة الادبية هناك بنوع من المستقبل الزاهر الذي ستعرفه هذه الحركة الادبية في الفترات القريبة المقبلة.
جريدة «العصر» اللبنانية 11/7/1980

 


❀❀❀

 


قراءة  نقدية  في  «سهرة»

 الحبيب الدائم ربي*


   كلمة لا بد منها
   بحماس نادر يحاول مثقفو دول الخليج العربي في السنوات الأخيرة التصدي لآثار الأحكام الجاهزة التي اختزلت، لاعتبارات غير موضوعية في الغالب، صور منطقتهم في أذهان الآخرين إلى مجرد خزانات ضخمة من البترول، بتأكيد حضورهم الإبداعي والثقافي الذي يعكس، من جهة، مكانتهم الاعتبارية، بما هم ضمائر يقظة لأوطانهم، ويؤكد، من جهة ثانية، عبقرية الإنسان الخليجي المتجذرة في التاريخ والحضارة.
فمع انتعاش حركية النشر والتوزيع وتوسع مجالات تداول المنتوج الثقافي، ومع ممكنات الثورة الإعلامية والتواصلية، صرنا – نحن ابناء الضفة الغربية من الوطن العربي الكبير – نتابع باهتمام، وأحياناً عن كثب، أصداء الحياة الثقافية الخليجية ونواكب أنشطتها وتحولاتها عبر قنوات عديدة، تحتل الكتابة كوسيط تقليدي، مكانة معتبرة ضمنها.
   قد غدت عناوين بعض المجلات الجادة مألوفة لدينا، كـ«علامات» السعودية و«شئون أدبية» الإماراتية و«نزوى» العمانية و«البحرين الثقافية» البحرينية، عدا سيل الإصدارات الكويتية التي يرجع إليها أكثر من فضل في تشكيل حساسية ووعي أجيال من القراء المغاربة والعرب عموماً.
   ويمكن القول إن فترة التسعينات قد عرفت انعطافاً في إعادة هيكلة المشهد الثقافي العربي، فبعد سنوات من الريادة والنفوذ اللذين عقدا للعواصم التقليدية «مصر، سوريا، لبنان، العراق» نظرا للتفاوت التاريخي الذي فرضته ظروف وحيثيات لا داعي للخوض فيها برزت إلى الوجود مراكز جديدة لا تقل إشعاعاً عن سواها من المراكز القديمة(..).
   لهذا فإن الاهتمام بكتابات القاص عبدالله خليفة – في هذا الحيز – لا يحتكم على المصادفة أو إلى جبر الخواطر، وإنما لكون هذا المبدع – كغيره من أبناء الخليج العربي – استطاع أن يجد له قاعدة من القراء العرب منحت نصوصه الجميلة عمقاً استراتيجياً ودينامية مطردة، بدءاً من مجموعة «لحن الشتاء» 1975، مروراً بـ«اللآلئ» 1981، و«الرمل والياسمين» 1981، و«القرصان والمدينة» 1982، و«الهيرات» 1983، «ويوم قائظ»  1984، و«أغنية الماء والنار» 1989، و«الضباب» 1992، و«نشيد البحر» 1994، إلى «سهرة» 1994 و«دهشة الساحر» وغيرها من المؤلفات الضاجة بالحياة والمليئة باللمسات الجميلة والمفيدة.
   وقد تعمدنا – هنا – استعراض هذه العناوين للتدليل على ما راكمته تجربة عبدالله خليفة من ثراء كمي ينضاف إلى شساعة الآفاق التخييلية التي فتحها – كما سنرى – من خلال الاستناد إلى معمارية نصية متماسكة وصلبة.
مجموعة «سهرة»  نموذجاً
   تقع مجموعة «سهرة» الصادرة عن المركز الثقافي العربي سنة 1994 في 96 صفحة من القطع المتوسط، وتضم إحدى عشرة قصة، هي: «السفر – سهرة – قبضة تراب – الطوفان – الأضواء – ليلة رأس السنة – خميس – هذا الجسد لك – هذا الجسد لي – أنا وأمي – الرمل والحجر»، وهي في جلها تحافظ على المقوم الحكائي ضمن برنامجها السردي، أي أن هذه القصص لا تراهن على الخطاب Le discours وحسب بل تراهن أيضاً على الحكاية L ’histoire من غير أن يكون المتن الحكائي مجرد مادة كما كان يعتقد «فيكتور شيكلوفسكي» وهو يميز بين المتن الحكائي وبين الخطاب في الأعمال السردية ومن ثم فإن قصص عبدالله تدور حول قضايا وفضاءات وأزمنة وتحركها شخوص ووقائع، وأدبيتها تتحقق انطلاقاً من المعنى والمبنى معاً.
   إن (الثيمة) الناظمة بين غالبية النصوص تتمثل في خيبة الأمل، فهذا مثلاً سجين لا يفارقه التفكير، وهو في الزنزانة في كنز اخفاه بالخارج، وما أن يطلق سراحه حتى يبادر إلى التودد لسيدة من المفروض أن الكنز مخبوء في البيت الذي آل إليها، وقد أفلح فعلاً في استمالة السيدة، وفميا هو يخطط للاستيلاء على الكنز يفاجأ بالسيدة تخبره – عرضاً – بأن زوجها عثر ذات يوم على شيء في البيت ومنذ ذلك الحين رحل دون أن يعود، قصة «السفر»، وهذان شابان يحاولان الهروب، عبر وسيط، إلى بلاد النفط، لكن المهرب على غرار(أبي الخيزران) في «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، سيغرر بهما ليلاقيا حتفهما في مد البحر قصة «الأضواء» وتتخذ خيبة الأمل هذه وضعاً انقلابياً – بالمعنى الأرسطي للانقلاب كخاصية درامية – فالشاب الذي أضاع، في ظروف غامضة صديقه الشاعر، والذي أغوته حيزبون متصابية فقضى ليلة معها، سيفكر بالانتحار كخلاص للمهانة التي أحسَّ بها جراء هذا الفعل المنحط وفي آخر لحظة سيعدل عن قراره، كشأن(مم أزاد) بطل رواية «الريش» لسليم بركات الذي أجل انتحاره إلى حين البت في أمر ريشة مريبة ظهرت دونما مبرر في حقيبة ثيابه، لقد ظهر الشاعر الذي يحتاج أمر غيابه إلى مبرر توضيح!، قصة «سهرة» والبحار الذي باع سفينته ومبادئه وراء اللذة ووضع نفسه رهن إشارة قراصنة برتغاليين وزودهم بخرائط وأسرار الممرات البحرية، سيصحو ضميره بعد الذي شاهده، وهو يقودهم، من فظائع اقترفوها في حق الأهالي «قصة الطوفان»، وهكذا..
يمكننا أن نذهب في التأويل إلى دلالات افتراضية أخرى غير بعيدة، كأن نفترضَ بأن(الكنز) في قصة «السفر» هو المرأة نفسها، وأن الهروب من الوطن في قصة «الأضواء» هو هروب من الذات، الذي يعني في نهاية المطاف الهروب من الحياة نفسها وبالتالي الانتحار والموت، فقط علينا أن نحذر من إسقاط دلالات تشاؤمية على قصص عبدالله خليفة، الذ يبدو إنه من موقعه ككاتب يحملُ وعياً ممكناً يناهضُ الوعي القائم، ومتمسك بالأمل والحياة، وأبطاله دوماً يخلقون لأنفسهم حين تضيقُ بهم السبل أسباباً للحياة ولو كانت واهية(يكفي أن يظهر الصديق الشاعر ليلغي فكرة الانتحار من جدول أعماله!).
   بيد أن هناك نقطى تفصيلية لا بد من فتح قوس صغير بخصوصها، فالقصاص، أي قصاص، هو صانع حكايات «بيرسي لوبوك» وليس مبشراً ولا مصلحاً اجتماعياً إلا من باب التلازم الذي يصل الفن بمحيطه، ومع ذلك فإن الفنان عموماً ليس نجماً معلقاً في الفراغ، وإبداعه لا بد أن يحمل نفساً أطروحياً مقصوداً أو غير مقصود، فبيكاسو مثلاً في «جرنيكا» كان بشكلانيته قاسياً في (واقعيته) أكثر من الواقعيين أنفسهم، وفلوبير الذي حكوم إلى جانب «شارل بودلير» على الرغم من أنهما قدما أعمالاً(لا تقول شيئاً) وإنما ( لها طريقة في القول)، لم يتحدثا عن الواقع كما فعل زولا وبلزاك وهوجو، فقط لكونهما دفعا بالمحتويات إلى مشابهة الأشكال بنحو من الأنحاء(على حد تعبير جان ريكاردو في حديثه عن الرواية الجديدة).
   فــ عبدالله خليفة لا يكتب القصة كترف بلا قضية، وإنما يكتبها لأن له أكثر من قضية: فإلى جانب انشغاله باختلالات الواقع وتدهور القيم وتناقض الكائن مع الممكن، نجده منشغلاً كذلك بالهموم الإبداعية، لهذا فكتاباته تحمل قضايا موضعها دون إغفال قضاياها الخاصة، فبقدر ما لا تقبل مساومات في طروحاتها ومبادئها بقدر ما لا تقبل مساومات بخصوص أن تكون كتابات أدبية أو لا تكون على الأطلاق ولذا ينبغي التأكيد مرة أخرى على أن المحتوى والشكل عند عبدالله خليفة كلاهما يكملُ الآخر وكلاهما يباطن الآخر مباطنة عضوية، فها هو السجين في قصة «السفر» يحلم بالكنز الذي سيخلصه من عذابه وينسيه خمس عشرة سنة من الاعتقال والحرمان، وحلمه ليس مجرد حلم تقريري وإنما جاء مصاغاً بطريقة تكشف نفسية الحالم واستيهاماته، خاصة وأنه كان يعلق كل أحلامه على تلك الحقيبة الصغيرة المملؤة بالأوراق النقدية المخبأة التي سيطير حيث “جبل من الأثداء، ومدن الهند الصاخبة، وبارات آسيا الواسعة، ويداك تلمسان غيم الأعالي، ونساء يحترقن حباً. . وأنت ترقص في كهوفٍ مضيئة، وتحرق رزنامة الأيام الحجرية، تشرب وتشرب حتى تصير نهراً للحب قطراته دواءً للسنين“، ص 6.
   والعجوز في قصة «قبضة تراب» الذي اجهد نفسه لصعود الهضبة، قصد تبليغ مديرة المدرسة رسالة الامتعاض من القرية التي ترفضُ تعلم بناتها ولم يكن يتكلم فقط وإنما تشخيص كلامه المتقطع على الطريقة التالية: “البارحة . . هتف الشباب . . وصرخوا . . أرادوا أن يحملوا . . النار لحرق المدرسة! . . هدأتهم . . في الليل . . لا نستطيع . . أن ننام . . موسيقى الغرباء . . تضجُ في . . المكان“، ص 25.
   ولغة عبدالله خليفة لا تعتمد على التشخيص وحده وإنما تدفع بالمفارقة إلى اقصاها عبر السخرية والباردويا:
“جارنا فلان اشتغل براتب كبير، وعلانة صارت سكرتيرة للوزير، وابن حمدان راعي الحمير السابق بنى لنفسه عمارة، أما أبي فمن المسجد إلى الدكان ولأن الدكان شبه فارغ فهو دائماً نائم، وبين كل غفوة وغفوة يسألني هل اشتغلت؟“، قصة «سهرة» ص 12.
   “قالت العجوز:
   – أتحب أن تأكل؟
   – إنني لا أريد إلا أن آكلك أنتِ!
   – وأضفت بالعربية “حتى أخلص العالم من شرك!““، ص 16.
   وفوق ذلك فإن اللغة في مجموعة «سهرة» فضلاً عن جزالتها ورصانتها تشيد شعريتها انطلاقاً من الإنزياحات التي تخلقها – إمعاناً في الغنى الدلالي – بين الدوال ومداليلها، لتغدو المجازات والاستعارات والتوريات أدوات إبلاغيه يتم بواسطتها فك قسرية القصور اللغوي إزاء تعقيدات المواقف “لحسن الحظ اتضح أن العجوز ذو لغة غريبة خاصة، لا تفهمها سوى قبعته الواسعة. . فلماذا يغمز بجلده المتغضن الذي يشبه نسيج العنكبوت“ قصة «سهرة» ص 12؟.
   “المرأة تتعرى، ها هو الهيكل العظمي يرقص. الأفضل أن تطفئ الأنوار. لا، لا أحب أن أرى عاري أمامي!“ قصة «سهرة» ص 18.
   وتتحول الاستعارات إلى نشيد في مقاطع مفعمة بالشعر “الفندق ينتعش ويرتعش، ويصيح من النوافذ ، ورغوة البيرة تغدو نافورات، واشرطة ملونة تبتهج في الهواء، وتحزم خصور النجوم في رقصات غجرية..“ قصة «ليلة رأس السنة» ص 48.
   “لماذا هي وحيدة، كئيبة، منعزلة في ركن الساحة حيث يدور الريش والورق بفعل الريح الدائرية؟“ قصة «هذا الجسد لك» ص 59.
   والكتابة في مجموعة «سهرة» خارجة عن النمط فهي تارة تختار الأطناب والتمطيط لتكريس طقس أو تشخيص أثر نفسي، مثل “أيضاً كان حلمه أن يطير كالنوارس، بعيداً بعيداً، يخترق جدران البلدان، ينام في مدريد، ويصيد الطيور في أدغال أفريقيا، ويجري وراء الكركدن في استراليا، يرى الجليد في سيبريا.. آه كم حلم بالسفر، بالطيران، بالذوبان في عيون المضيفات، بزبدة البيرة في باريس، بالتماثيل المنحنية حباً واحتراماً، بمياه النيل وشقق الدفء والصحو في الفجر، بتماسيح الكونغو الكسولة بشقراوات الشمال وبحيراتهن الساخنة“ قصة «السفر» ص 5، 6. وطوراً تنحاز المتابعة إلى الومضة الخاطفة والإيماءة فتصبح شذرية مركزة تبعاً لما تشترطه الوظيفة اللغوية، قصة «أنا وأمي» مثلاً..
   لا غرو أن كتابات عبدالله خليفة قد تحتاج إلى وقفات طويلة لاستجلاء خلفياتها ومراجعها وتوصيف آليات اشتغالها النصي، فهي على بساطتها الظاهرة نسيج معقد وانسيابي أيضاً. إلا أننا أردنا في هذه الملاحظات السريعة تسجيل أمرين هما:
   أولاً: إن الأدب العربي بدأ يغتني في السنين الأخيرة بالإضافات المتميزة لمبدعي دول الخليج العربي، وثانياً: التحقق من هذه الفرضية نصياً، أي من خلال نصوص المجموعة القصصية لــ عبدالله خليفة «سهرة» حيث حاولنا تسليط أضواء خفيفة على كتابة هذا القصاص سواء من جهة اعتبارها مضموناً مرتبطاً بالحياة العربية وبالمعيش اليومي فيها أو من جهة اعتبارها تشكيلاً بنائيا تنتفي فيه البداهة ويحضر القصد الفني كخيار لا رجعة فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقد ادبي من المغرب

 


❀❀❀

 


جماليات المكان في مجموعة «سيد الضريح»
جلولي زينب *
   قصة «سيد الضريح» من المجموعة التي تحمل نفس العنوان لــ عبدالله خليفة:
   يعالج القاص عبدالله خليفة  في هذه القصة مسألة اختفاء سيد الضريح ، والذي خرج من قبره لأنه ما عاد يحتمل ما يجري من مظاهر وطقوس مثيرة للاستغراب والاشمئزاز، فيجد خارج هذا الضريح حياة مغايرة لتلك التي يعرفها والتي عاشها في الضريح، ومن ثم تبدأ مهمة البحث عن هذا الكهل التي تتولاها السلطة في البلد، ولكن هذا الكهل هو مجهول الملامح. والصفات التي وُجدت في اللوحة التي صورها الرسام ، والصفات تنطبق على العديد من الأشخاص، وقد اهتمت السلطة بإلقاء القبض عليه لأنه في نظرهم خارج عن القانون ، ذلك لأنه خرج من مقره دون إشعار … والملفت للغرابة أن نفس الظاهرة تحدث في أضرحة أخرى في البلاد ، وينتشر الخبر المرعب كالصاعقة في جميع الأنحاء ، مما يجعل مهمة الإمام مستحيلة في إقناع الناس بوهمية وجود سيد الضريح .
   ومما يزيد العرقلة لعملية البحث هو ادعاء كثيرين أنهم سادة الضريح، مما يجعل السلطة تستقر عند حل واحد، هو الإتيان بذلك الكهل الذي زعم أنه خرج من الضريح وإعادته إلى الضريح وإعادة بنائه كما كان ، وأن يشاع خبر إيجاده حتى تسترجع البلاد عافيتها من هذا الجنون، في حين يبقى البحث عن سيد الضريح الحقيقي مستمراً في ظل احتمال استحالة العثور عليه.
سيمياء العنوان
   إن التساؤل الذي يشرع لنا طرحه في هذا المضمار، هو هل كان الكاتب عبدالله خليفة موفقاً في اختيار ( سيد الضريح ) عنواناً للقصة؟ أو بعبارة أخرى، هل قام العنوان بوظيفته البنائية المتمثلة في استفزاز واستدراج القارئ إلى الولوج  إلى عمق النص؟
   فأول مدخل للنص يكون عن طريق العنوان الذي ألفيته من حيث تركيبته اللغوية يتكون من أسمين، الثاني منهما مسند إلى الأول، وبذلك يكتمل تعريف الأول (سيد) بإضافة الثاني (الضريح)، أي (سيد الضريح). وكلمة (سيد) كما هو شائع تطلق عادةً أو تستعمل تسميةً لأشخاص معينين تخصيصاً لمكانتهم سواء كانت اجتماعية ، سياسية، … كما أن الضريح هو المكان الذي يحتوي الإنسان ، بعد مماته وهو قبرٌ لكن ليس عادياً ، فهو متميزٌ بارتفاعه وشكله وأحياناً تعلوه قبة، وذلك لمكانة صاحبه في النفوس ، ولهذا نجد هذه الإضافة بين سيد والضريح متلائمة ومتناسبة، وهي في عمقها تؤكد لنا إمكانية إضافة الإنسان للمكان بعد أن أضحى المكان في علاقة جدلية مع الإنسان، فهو يحتويه منذ أن يتخذه من رحم أمه مكاناً وفي حياته اليومية إلى قبره الذي هو مكانه الأخير في الدنيا.
   ومن جهة أخرى فقد أصبحت هذه العلاقة، في القصة، علاقة فاعلية أي أن لضريح أضحى مؤثراً في الشخصية، بحيث يلفظها لتنتقل إلى خارجه وبهذا يتشكل الحدث في القصة وينتهي عنده .
   فالقصة إذن تنطلق بدايةً من عنوان يحملُ دلالةً مكانية متنوعة وبلغة مكانية، ويمتدُ هذا التركيز المكاني إلى القصة وأحداثها وحركة شخصياتها وبهذا يصبحُ العنوانُ بوابة النص.
شعرية القص في قصة «سيد الضريح»
   إذا كان (تفاعل العناصر المكانية وتضادها يشكلان بعداً جمالياً من أبعاد النص الأدبي) (1)، فالجمالية هي (بحث عن نسق العناصر المكونة للظاهرة لبيان الوظيفة التي تقوم بها داخل العمل الأدبي بشكل عام) (2).
والشعرية ببساطة هي رؤيا تعتمد فلسفة متداخلة بالجمال وهي تلك التي ينتجها المتلقي في تعامله الجاد مع عناصر العمل الأدبي ، بحيث تصبح اللغة وسيلة وغاية في حد ذاتها .
   كما أنه بعد تعمق في بنية، القصة لاحظنا اشتراك عناصرها وتداخلها وتفاعلها وهذا ما أضفى على النص شاعرية ومن أولى هذه العناصر:
شعرية المكان
   الأمكنة عموماً في «سيد الضريح»، عناق بين الواقع والأسطورة والطابع الخرافي ، حيث يتأرجح القاصُ في وصفه للمكان بين الواقعية والعجائبية ثم أمكنة واقعية وهذا امتثالاً لتكسير رتابة الأحداث المكانية كما هو معروف في القصة الكلاسيكية، فنجد القاصَ يضفي على الضريح أبعاداً أسطورية جعلته يسمو إلى مستوى شاعري فني، حيث يبدأ بوصف الضريح كما في الواقع ليشوش أبعاده فيما بعد بأوصاف أسطورية وبلغة مراوغة ستوقف حيرة القارئ .
   وهذا ماثل في قوله :
   “أجسادٌ متلاصقة، أطفالٌ وشيوخٌ ونساء ورجال هم شبه عراة والضريح بقبته الكبيرة يحدق بهم ، بأطره الذهبية الواسعة وعيونه الخرزية الكثيفة المثيرة “.
   وهو وصفٌ ينمُ عن جوٍ محزن يسودهُ صمتٌ رهيب وهو أشبه بمشهد كارثي إنساني، جاء بلغة عادية بسيطة لعلها تمهيد لتخفيف صدمة القارئ بذلك الوصف العجائبي فيما بعد ، حين يغوصُ بنا في اللاواقع الذي يستفزنا:
   “بغتة تنشقُ القبة، المعدنُ الصلب انصهر أولاً، وأخذت الأحجارُ التي تكلست منذ قرون تتصدع وانهارت كتلةٌ … ومن الغبار والعتمة والنار وظهر رجلٌ كهلٌ تطلع بخوفٍ إلى زواره .. نزل بهدوء وغياب وحزن“. وهي عبارةٌ تحيلنا إلى أسطورة البعث تفنن القاصُ في تشكيلها وتوظيفها، حيث يعيدُ تكوين هذا الكهل من الغبار والعتمة والنار ويبعثه من جديد، وقد تسنى للقاص هذا الوصفَ الغرائبي عن طريق الألفاظ والاستعارات (التي تقوم لدى الأديب مقام الألوان لدى الرسام والنغم لدى الموسيقي) .
   كذلك في وصف القاص لمكان شعري آخر لا يقل عن سابقه في قوله:
   “صاح طفلٌ قرب قدمه. مضغةٌ صغيرة من لحم متوارٍ وعظم بارز“.  وأيضاً “يبكي من هذا الخلود في حمم البشر، يسبح في برك الأعضاء والعيون إلى ما لا نهاية له من اللحم والنار“، فهناك أمكنةٌ أسطورية ابتدعها خيالُ القاص جعلتنا  أمام مشاهد ميتافيزيقية سريالية، بصيغة درامية تبعث الأسى والذي تعانيه الشخصية ذاتها .
   ولتعميق الصدمة في نفس القارئ، فالقاص يتجهُ إلى تفاصيل هذا المكان الذي أضحى أسطورياً:
   “في العتمة الطويلة . . إلى النهر الصاخب من الدموع . . كتل من العظم الأنثوي الذي تــُغرز فيه الحممُ. . قطعٌ من أكباد الأطفال تشوى تحت أنفه . . ولا تستطيع سحبُ البخور أن تدهس رائحة اللحم البشري المحروق . . وأثداء النسوة التي تنغرزُ فيه السجائر والأسنان والإبر . . “.
   فهذه الأوصاف التي أضفاها القاصُ على المكان أي الضريح مثيرة للغرابة والدهشة لدى القارئ الموهوم بالواقع والتاريخ وذلك بمعناها أولاً، وبالتركيب اللغوي ثانياً، والذي تخلخلت فيه العلاقة بين الألفاظ ومدلولاتها، والأسماء بأفعالها، وهذه هي عدة الشعرية.
   وفي تكسير لمحدودية المكان، نجد القاصَ ينتقل بالشخصية «سيد الضريح» إلى الشارع:
   “كان الشارع المعتم البارد ينفجر فيه دوي السيارات المندفعة . . حدق في الأجساد الحديدية الضوئية بذهول“.    وهذا الانتقال في الأمكنة أدى إلى تكسير نمطية الحدث فيما بعد. وهذا كان ظاهراً حتى من حيث شكل القصة على مستوى ترتيب المقاطع الذي سببه اللاتسلسل في الأحداث وهو سمة القصة الجديدة.
   ونلاحظ أن القاص يتجنب المباشرة في وصف ملامح المدينة ومقتضيات العصر، هذا العصر الذي طغت فيه الماديات. . وكأن القاصَ من خلال أسلوبه هذا في الوصف مستاء من الوضع هناك. وقد تكرر ذلك في كثير من المقاطع “يتنازعون القطع الصفراء . .“، و“رآه يتحدث في شيء صغير أسود“، و“كانت الباصات المشحونة تقذف بشراً كالنمل في الميدان وتطلق سحابات من دخان موجع . . نزل رجالٌ بملابس متشابهة يصفرون ويحدقون بأضواء طويلة حادة . . ويضربون بعصي طويلة، ووجد نفسه يتسلل إلى أزقة طويلة كجحور الفئران والأرانب . . “. وكأن القاصَ في تعبيراته هذه عن خصوصيات المدينة يتجاهلها بعدم ذكر أسمائها المتداولة في هذا العصر . ومن جهة أخرى فقد كان لهذا الأسلوب أثر على اللغة بحيث اتسعت الدلالة وتركت أثراً جمالياً على النص . وهذا النشوز من المدينة المعاصرة الذي نلتمسه عند عبدالله خليفة يعلق أحد النقاد بأن (عبدالله خليفة يسترسل في تأمل مجتمع ما قبل النفط ويقارنه بالتطورات الحاصلة بعد اكتشافه ويربط ذلك كله بأزمة القيم الأصيلة في هذا المجتمع المتغير)(3).
   وقد ورد في القصة تسميات الشارع، المكتبة، الباصات، الأزقة، الحواري، الجدران . . استطاع القاصُ توظيفها بطريقة فنية هادفة في صيرورة الأحداث وحركة الشخصيات كما (أن التعبير بأطر المكان عن هندسة المدينة (شوارع، جدران) هو تعبير عن  إشكالية حضارية صميميه ووجودية مؤلمة تضربُ بأطنابها في صميم الواقع النفسي والمادي للإنسان المعاصر، فتخلخل علاقته بالمكان ويصبح أكثر مأساوية).
   وهذا ما يجعل القاص – في محاولة الابتعاد عن السطحي – يتجاهل أشياء المدينة وأطرها بإعطائها أوصافها دون أسمائها. وتعميقاً لمأساوية الواقع بأبعاده المختلفة، قام القاص باستعارة تاريخية تمثلت في توظيف شخصية لا تبت بصلة لهذا العصر بزمانه ومكانه، وتتجلى هذه المأساة اكثر حين تدرك الشخصيةُ المستعارةُ هذه التناقضات من حولها، فالقاصُ يتعمدُ في تحميل هذه الشخصية حالة نفسية صعبة على أثر انتقالها إلى مكان آخر وزمان آخرين.
   وفي هذا النص تبرز قيمة التقاطبات المكانية – كما اسماها «يوري لوتمان» – بشكل واضح، فهي تقنية يوظفها القاصُ في الكشف عن الدلالات المتعددة في النص الذي يتعامل مع المكان، وهي تساعد القارئ في مهمة البحث عن شاعريته (المكان) وجماليته المستترة وراء اللغة.
   فالملاحظ أن هذه التقاطبات تــُضفي مسحة جمالية على النص الذي بات لا يستغني عنها لتوضيح أهمية المكان فيه ووظيفته.
   ومن خلال حركية هذه المتناقضات المكانية نستطيع التعرف إلى كيفية بناء المبدع للنص، وكذلك فهو لا يصوغها اعتباطاً وإنما هي مقصودة لتحيلنا إلى أبعاد دلالية لا حصر لها وبالتالي تدفعنا إلى إعادة تأويل المكان، ونجد في النص أمثلة كثيرة:
ثنائية الانغلاق / الانفتاح
   الانغلاق في الحيز المكاني يبرزُ في:
   الضريح: وهو مكان منغلق أشبه بالسجن وهو يقيدُ حرية الشخصية «سيد الضريح» ويحدد حركته بجدرانه، وبذلك يصبح مكاناً لا يشجع على البقاء والاستقرار. وهذا ماثل في قوله: “أرجوك هد هذا الضريح عليّ، دعني أموتُ ولو مرة واحدة . .“.
   وأيضاً في: “وهو محبوس بين الجدران والظلمات كان يتعفنُ وينشرهُ الحزن ُ. . “. وبذلك فالضريح مكان منغلق ومن هذا المنحى – تظهر العلاقةُ بين الإنسان والمكان بوصفها علاقة جدلية بين المكان والحرية، لأن الحرية (هي مجموع الأفعال التي يستطيعُ الإنسان أن يقوم بها دون أن يصطدم بحواجز أو عقبات، أي يقوم بقوى ناتجة عن الوسط الخارجي من لا يقدر على قهرها أو تجاوزها)، (4).
   فهو مكان مثير للقلق والضجر وهذا ما يظهر جلياً في قوله: “لا أعرف كيف سجنتموني بين هذه الجدران . .  “، وبالتالي يصبح الضريح سجناً – كما سبق الإشارة إليه – مقيداً لحركة البطل وقمعاً لرغباته .
   القاعة البلاطية: وهي مكان منغلق يحملُ في طياته الداخل الذي يحيل إلى الخارج وهي ذات السقوف الواسعة اللامعة والأعمدة الهائلة، وهي تضم مجموعةَ البشر على اختلافهم (نساء، أطفال، رجال . .) وهي تدل على الاتساع لاحتوائها ما سبق ذكره .
   البوابة: وهي تحملُ جدل الداخل / الخارج، أي المكان المغلق الذي يحيل على المكان المنفتح، وقد تجلى دورها في القصة كونها الوسيط الذي ولجت من خلاله الشخصية «سيد الضريح» إلى العالم الخارجي إلى الشارع .
   الشارع: وهو مكان منفتح، تكثرُ فيه الحركة، وهو رمز للحرية والانفراج “والآن يعود للحرية ويشعر بطاقة عظيمة قادرة على الفعل وانفتاح كبير على الفرح“، فالشارع مضاد تماماً للضريح، بحيث يطلق العنان للشخصية في حرية تحركها وانفراج أزمتها النفسية التي عانتها في ذلك المكان، بحيث يشعرُ بالفرح بعدما كان يغمرها الحزنُ والضجر من سوء المصير.
   الرصيف: وقد ورد ذكره في النص بطريقة وصف غير مباشر “ثمة طريق مبلط يمشي عليه المارةُ، سار هو عليه أيضاً . .“،  لم يكن له دور فعال في القصة، وإن كان من ناحية أخرى يرمزُ إلى ضياع الشخصية في عالم لا تعرف عنه الكثير، وهو بذلك مجال مفتوح تنبعثُ من الحرية .
   الظلام / النور: هذه الثنائية كانت الطابع السائد في القصة منذ بدايتها إلى نهايتها وقد ورد ذكرها صراحة في كثير من المواقف.
   فالظلام: يستقطب جميع تلك المناظر والظواهر المثيرة للحزن والاشمئزاز والتي صنعتها الأمكنة المنغلقة كالضريح، الذي تملؤه العتمة والظلام – والكهف الذي يملأه الدم والأسمال والدموع والأرواح المعذبة وجثث البحارة الغرقى والعمال المحروقين . .
   ودلالات الظلام تتمثل في تلك المظاهر التي تحمل في طياتها معاني الموت (حمم البشر، الجنازات، الأنين، الدمع، الروائح، الحزن . .) ومعاني المرض والغضب والألم والمصير المجهول الذي عرفته الشخصية «سيد الضريح» ومعاناته طوال أحداث القصة، وفي مقابل ذلك نجد:
   النور: الذي يستقطب كل مظاهر ومعاني الانفراج والحرية والحياة والانبعاث والميلاد والضوء والسعادة وقد تجلى بوضوح في القصة (الذهب المتناثر، النار، اللؤلؤ، النهار، الاستمتاع بضوء الشتاء، القلوب الوردية، المياه، الكنوز، الراحة، الهدوء، الصلوات بين الأضواء والتلال . .) وهذه الثنائيات المكانية المتضادة لم تلغ بعضها وإنما تكاملت فيما بينها لكي تقدم لنا المفاهيم العامة التي تساعدنا على فهم كيفية تنظيم واستغلال المادة المكانية في القصة . وبذلك يظهر دور المكان واضحاً في تجسيد الصراع والتناقضات داخل الشخصية.
العلو / التدني:
القبة: وهي تمثل الارتفاع، فقد وضعت على الضريح تميزاً له، وهي ترمز للسمو والترفع الأخلاقي والاجتماعي، في مقابل هذا نجد معاني التدني والانحطاط الذي جسده القاصُ في أماكن الانبساط والانخفاض أي في الشارع والذي هو جزء من المدينة، والتي تبدلت فيها القيمُ الإنسانية كما نقلت لنا ذلك شخصية «سيد الضريح».
   علاقة المكان بالشخصية:
   نجد من خلال تلك الأوصاف التي خلعها القاصُ على الأمكنة خاصة الرئيسية منها للحدث، فقد كان لا يهدف من ورائها إلى تصوير المكان وتقريبه إلى ذهن القارئ، بل كان يقصدُ إلى تجسيد الحالة النفسية المتأزمة غالباً للشخصية الرئيسية وهذا الاهتمام جعل القاص يصوغُ المكنة وفقاً لهذه الحالة، وذلك بما احتواه هذا المكان من أشياء وظواهر تنمُ عن أحاسيس الشخصية ومشاعرها التي تنوعت بين الحزن والغربة والخوف والفرح والاستغراب أحياناً والدهشة. .
   فالمكان كان مؤثراً أساسياً في الشخصية حيث نجدهُ يحدد حركته ويطوق حريته في الضريح ويبعثُ على إثارة مشاعر الحزن و الاشمئزاز والضجر مما يجري هناك من طقوس. . إلى الشارع الذي يشعرها بالفرح والحرية والانفتاح.
   والملاحظ أن تواجد الشخصية في مكان غير مكانها وزمان غير زمانها وذلك بسبب الاستعارة التاريخية التي التجأ إليها القاص حيث بعث هذه الشخصية من جديد بجميع أبعادها وجوانبها، إلى عالم آخر شبيه بعالمنا الحالي.
   ولهذا نشأت تناقضات نفسية داخل الشخصية أفرزتها تلك التناقضات بين عالمها الماضي والعالم الحاضر.
ويظهر أن القاصَ يميلُ إلى التجريب في رؤية المرحلة التاريخية، وحركة الواقع مما يؤثر أحياناً على وحدة التأثير، واتساق الدلالة، غير أنه يعوض عن نزعة التجريب ونهج التبسيط بشاعرية لطيفة ولغة تعبيرية عذبة، لصالح نبض إنساني دافئ لا يخفى على القارئ.
   الخوف من المكان: لأن الشخصية الرئيسية وخاصة أنها من زمن ومكان آخرين تعاين المكان باستغراب، وشعور خوف حاد، ربما لهذا مبررات منها سذاجة البيئة التي تعرفها وبساطتها، وعجائبية المكان الآخر، وغرابته وطرافته أحياناً، وهذا ما يظهر في القصة: “نظر في الأجساد الحديدية بذهول، سمع كلاماً غريباً وراءه . . التفت فوجد إنساناً ذا ملابس غريبة، ثمة قطع حديدية على كتفه . . الآخر يحدق فيه كذلك باندهاش“.  وغيرها من الأمثلة التي تثبت أن المكان كان مؤثراً رئيسياً في الشخصيات وتناقضاته أدت إلى تناقضات داخله فأصبحت واقعة تحت صدمة واقع مدهش وغريب، ولذلك فحس الضياع بقى ملازماً له ما دامت ملازمة لهذا المكان، الذي تجهل معالمه، وما دامت غير مدركة له سواءاً كان ذلك في الضريح أو خارجه (الشوارع والأزقة)، وكل ما يحيط بالبطل غريب عنه، وتجلى حسُ الضياع في ذلك الحوار الداخلي، الذي أجرته الشخصية مع ذاتها: “ماذا فعلت بنفسك؟ لا سكن ولا طعام ولا لباس، عار كذاتك، كروحك المباعة عبر القرون . . كنت في العزلة الحجرية ملكاً والآن عليك أن تبحث عن كسرة خبز“،  وفي قوله أيضاً: “فوجد نفسه يتسلل إلى أزقة كجحور الفئران والأرانب وقد امتلأت بمياه المطر، ووجد المسجد مغلقاً“. وهذا دليل على أهمية المكان بالنسبة للإنسان كما أنه هو الذي رسم ملامح الشخصية، وبرر سلوكها، فكونها لا تعرف المكان الجديد عليها أي المدينة أصبحت غريبة وتخلخلت علاقتها به، فأصبحت أكثر مأساوية، وكبرت هذه المأساة عندما تجد الشخصية ذات الأصول القديمة نفسها متورطة في عالم آخر، كل ما فيه مخالف لعالمها الأول، “ووقف تحت عمارة كبيرة، رأى سلعاً غريبة . .“. وهكذا نلاحظ أنه يعاني الاغتراب في هذا العالم الجديد، ويحاول القاصُ أن يوسع الهوة بين الشخصية وهذا العالم بذكر تفاصيله: “نزل رجالٌ بملابس متشابهة ويصفرون ويحدقون بأضواء طويلة حادة . . “.
   مكان الحضور والغياب (الهنا والهناك)
   يتجسد استحضار شخصية البطل لماضيه وهو في الصحراء، وهو مكان يبدو أكثر تغلغلاً في بواطنه، وهذا الاستدعاء لمكان (الهناك) نتيجة الحالة النفسية المتأزمة بسبب مكان (الهنا) الذي هن الضريح. ولهذا نجد الهناك وهو مكان الذكريات التي استدعاها البطل كمخلص تلتجئ إليه الذات للهروب من أزمتها.
   والملاحظ أن انتقال الشخصية من مكان إلى آخر، يرافقه تغير في الأحاسيس والمشاعر، كما أن المكان عموماً هو الذي أكسبه أبعاده المختلفة. وقد تجلى مكان الذكريات (الهناك) في كثير من المقاطع “طفولته التي عانى فيها كثيراً من رعي الأغنام وضرب الأولاد . . ومسيرته في الصحراء يقود جماعة مهلهلة . . حضر كل جنازة صعبة، وشارك في الحروب المريرة . . يحتمل كل شيء سوى أجساد الأطفال التي تحشر قرب قدميه مشوهة بالفحم والأسنان“. . رغم معاناة الشخصية في زمانها ومكانها السابقين  إلا أنه لا يفوق معاناته في المكان الحالي الذي تعيش فيه ومن هنا تجلى الزمن باعتباره تاريخ الشخصية، ثم يظهر مرتبطاً بالتطور الذي عرفته المدينة فيما بعد، “ما هذه الملابس العجيبة هل تمثل ، لكنني لا أرى آلات تصوير؟“.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


* المركز الجامع يبشار ــ معهد اللغة العربية وآدابها


الجزائر


(1): من مقدمة كتاب جماليات المكان ، ص 03 ) .


(2): أحمد طاهر حسنين، جمالية المكان، جماعة من الباحثين، عيون المقالات، الدار البيضاء، ط2، 1988، ص 21 .


(3):عبدالله أبوهيف ، مجلة الراوي ، ص 13.


(4):سيزا قاسم دراز، المكان ودلالته، ص 59 نقلاًعن حبيب مونسي، فلسفة المكان في الشعر المعاصر ص 94– 95).


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 17, 2020 21:51

September 11, 2020

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : صراع الطوائف والطبقات في فلسطين

⇦ صراع الطوائف والطبقات في فلسطين
⇦ الإقطاع الفلسطيني تابع التابعين
⇦ صراع الطوائف والطبقات في «إسرائيل»

صراع الطوائف والطبقات في فلسطين
مثل أي نظام عربي يعتبر الديمقراطية مناورة سياسية غير مرتبطة بوجود نظام علماني راسخ، قامت السلطة الفلسطينية بإجراء إنتخابات تشريعية جاءت على رأسها حركة حماس في مفاجأة كبيرة للجميع.

هذه المفاجأة تعكس تناقضات الوضع الفلسطيني، فقد قامت حركة فتح بقيادة النضال الوطني وتقدمت به إلى آفاق كبيرة، وكأي حركة سياسية وطنية في الشرق كانت حركة شمولية، ذات شعارات فضفاضة، غير راسخة في مسائل الحداثة المحورية؛ وهي العلمانية والديمقراطية والعقلانية، لكنها لم تخلُ من ملامحٍ منها، تبدو على شكل شعارات، وكان أهمها مشروع تشكيل دولة فلسطينية على أي تراب فلسطيني مُحرَّر وتكون دولة علمانية وديمقراطية مفتوحة لكل السكان فيها.

كان هذا الخيار ذاته صعباً في ظل منظمات فلسطينية متطرفة قومياً، تنادي بدولةٍ من النهر إلى البحر، وتستخدمُ الكفاحَ المسلحَ فقط، وهو أمرٌ يعكسُ مستوى الوعي السياسي الفقير في هذه المنظمات، وعدم معرفتها بالواقع الذي تريد تغييره، سواءً من حيث عدم معرفة القوة الإسرائيلية أو واقع البلدان المحيطة بها أو آفاق نضال شعب فلسطين في الداخل.

وأهم نقطة في هذا عدم درسها لتناقضات الدولة العبرية وكون هذه التناقضات هي قاعدة التحرك المنتظر، لكنها كانت ذات نظرة متجوهرة، غير تاريخية، وغير طبقية، فهناك فلسطين وهناك إسرائيل، هنا أبيض وهناك أسود، ويجب أن يسود الأبيض ويُسحقُ الأسود، وهي نظرة دينية شرقية جامدة ضاربة في القدم، لا ترى في الدول والحضارات تكوينات تاريخية مرحلية متناقضة، يكمن العمل السياسي الثوري في كشف تلك التناقضات وحركيتها وتوظيفها لصالح الأغلبية الشعبية.

لكن كانت حركة فتح أكثر هذه المنظمات مقاربة للظروف الموضوعية، عبر طرحها شعار الدولة العلمانية الديمقراطية، مما كان يفتحُ الأفقَ لجذب أقسامٍ من الإسرائيليين للعمل المشترك، وكان هذا يضربُ جوهرَ الصهيونية بشكلٍ عميق، وقد زواجتْ فتح بين العمل العسكري والنضال السلمي، وانفتحت على كل الجمهور الفلسطيني والدول العربية، وهذا كله أكسبها حضوراً قيادياً رائداً.

لكن من جهة أخرى ظهرت القيادة الفردية وشكلت بيروقراطية داخلية، وهيمنت على فتح، وعلى منظمة التحرير، وعلى الدخول النقدية فيها، معطية أدواراً ثانوية للقوى السياسية الأخرى.

كذلك لم تكن بعيدة عن المغامرات العسكرية، حيث كان الواقع الفلسطيني والكيان الإسرائيلي يبدوان لها في حالة سكونية، ومادة فعلٍ سلبية، وأنها هي صانعة التغيير، وهي ثقافة موجودة بقوة لدى الفلسطينيين في الداخل كما في الخارج.

وكان الحراكُ الطويل لهذه القوة النضالية في الخارج عاملاً جاذباً للكثير من القوى السكانية المشردة بفعل المجازر الإسرائيلية والغزو الفاشي، وهي الطبعة الأولى من الصهيونية، مما أدخل في فتح وغيرها من المنظمات جمهوراً بلا خبرة سياسية وقابلاً للنضال ولكل المغامرات المجنونة كذلك.

وكما ظهر الخط الوطني المعتدل في فتح ظهر الخط الوطني المتطرف في (الجبهة الشعبية) وغيرها من المنظمات القومية، ووجدت بعضُ الدول العربية في هذا الانقسام فرصة لاستثماره وتقرير حركة الشعب الفلسطيني من خارجه، ووجدت دولٌ أخرى صيغة مغايرة عبر ترسيخ منظمة فتح كقائدة للشعب الفلسطيني، وجعل رئيسها رئيساً للدولة التي تعيش حالة مخاض الولادة العسير.

ولكن كل هذا الحراك السياسي الخارجي البطولي والمغامر والنازف آلاف الشهداء، والمؤجج لصراعات المنطقة ومشاكلها، لم يثمر عن تحريرِ بوصةٍ واحدة من التراب الفلسطيني!

وكان الحوار الفلسطيني – الإسرائيلي البداية الحقيقية لفتح الطريق للتحولات، وهو أمرٌ كان يبدو كخيانةٍ عظمى، وكارثة قومية لدى المتجوهرين وأصحاب الرؤى الساكنة الدينية، فظهرت في وجهِ هذا الحوار منظماتٌ متخصصة في الأغتيال كأيلول الأسود وغيرها، وشاركتها المخابراتُ الإسرائيلية في قطعِ رؤوسِ الوطنيين والمثقفين البارزين الذين كان بعضهم يقود الحوارات وبعضهم يقود العمليات العسكرية.

لقد أدى الجدبُ السياسي في النضال الخارجي، وتشتت الجيش الفلسطيني في المنافي البعيدة بعد إحتلال لبنان، إلى أن يبرز العاملُ الوطني الداخلي في كل من فلسطين وإسرائيل، ليغير هذه الصفحة التي استمرت عقوداً.

لقد بدأ وعي وطني علماني ديمقراطي يتغلغلُ في صفوف جماهير هاتين الدولتين، حيث بدأ الشعبُ الفلسطيني في الضفة وغزة يدرك كونه شعبَ دولةٍ مغيبة، وأن الشعوب الأخرى لا تستطيع تحريره، وعبر الحجر الذي يملكه كلُ ولد فلسطيني بدأت عملية التغيير الشعبية، وكان الجمهور الإسرائيلي قد تعب من الحروب ومن سيطرة قوى العسكر والمال المغامرة بمصيره وظروفه خدمة لمشروعات دينية متطرفة أو لمؤامرات غربية فاشلة.

لقد بدأ تاريخٌ آخر، وقامتْ الطليعة الفلسطينية الخارجية بدورها في التحريك السياسي، لكن الآن بدأت الأرض هي التي تتكلم.

وغالبية الفلسطينيين هم من المسلمين فيما يمثل المسحيون ما يقارب 10%، والمذهب السائد هو المذهب السني، حيث تداخلت المذاهب السنية في نسيج واحد خاصة في الدول خارج الجزيرة العربية خاصة.

ولهذا فإن الصراعات المذهبية لم تتواجد داخل الحركات السياسية الفلسطينية، لكن هذه الحركات تأثرت ببلدان النزوح المختلفة، فأكتسب بعضها طابع اليسار المتطرف، خاصة التي تواجدت في سوريا ولبنان، فيما نشأت حركة فتح في الكويت متأثرة بجوها السياسي الديمقراطي العلماني السني في ذلك الوقت، وراحت تمتد في الأردن والأرض المحتلة.

ولكن تجربة الشعب الفلسطيني في بلدان النزوح اتسمت بالاضطراب الشديد، بسبب القمع والتضييق العربي الحكومي، وتعدد بلدان النزوح وتبعية أقسام من الفصائل لبعض الحكومات العربية التي إستغلت ظروف الهجرة والفقر في خلق قوى سياسية تابعة لها داخل النسيج السياسي الفلسطيني ثم قامت هذه القوى بالانقسامات والصدامات والتبعية البوليسية لتلك المراكز ففجر ذلك العديد من المواجهات.

وعموماً كان الاضطراب في تجربة فلسطيني النزوح أكثر بكثير من الداخل، وخاصة في قطاع غزة المتضخم بالسكان والذي تغلغلت فيه حركة حماس خلال عقود طويلة.

والتقت تأثيرات الاضطراب السياسي في الخارج وعدم المعرفة الدقيقة بأحوال الشعب الفلسطيني من قبل القيادات العائدة من المنفى بالمحافظة الشديدة في غزة وأنتج ذلك إنقساماً على صعيد الأرض المحررة المستعادة!

مثلما أن القوى الحاكمة في إسرائيل تمكنت من بعد تطوراتها العسكرية والاقتصادية الكبيرة من التحكم في الأرض الفلسطينية وتحديد إتفاقيات السلام وربطت قسماً كبيراً من العمالة العربية بها، ووضعت المتشددين الفلسطينيين في زاوية ضيقة، توجهاً لرسم خريطة سياسية متطابقة مع مصالحها وأفق تطورها.

وبهذا فإن القوى الشعبية الفقيرة الفلسطينية هي أكثر القوى معاناة في المنطقة، عبر الأجور المتدنية الحضيضية، وبغياب الموارد في الضفة والقطاع، وسوء الحياة المعيشية وترديها في مخيمات النزوح في لبنان وسوريا والأردن.

وهذه المناطق والمخيمات قادرة على توليد سياسات متطرفة تستغلها الحكومات المختلفة من أجل تفجير الصراعات السياسية مثلما يحدث في لبنان.

أو أن يغدو الفلطسينيين الفقراء كبش الفداء في الصراعات السياسية العربية كما حدث في العراق على مدى حروبه المختلفة، وفي الأيام الأخيرة كانوا ضحايا السلام مثلما تم لجؤهم على الحدود العراقية.

لم تكن سياسة الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات على رغم العديد من إنجازاتها حكيمة في العلاقة مع بعض الدول العربية الشمولية التي أضرت بالقضية، بخلاف الرئيس الحالي أبو مازن الذي وجه السياسة نحو الاعتدال وإقامة علاقا جيدة مع كل الدول العربية.

عكس التوجه الفلسطيني لخلق مؤسسات منتخبة رغبة الإدارة الأمريكية في زمن الرئيس بوش تحقيق مسحة ديمقراطية لأصدقاء الحكومة الأمريكية في المنطقة العربية، وإذا كان هذا هدف أصيل كذلك للشعب الفلسطيني إلا أن التطورات الداخلية الفلسطينية الإيجابية هذه جاءت بتسريع لم يـُنضّج له على مستوى البُنى الاجتماعية والسياسية، التي هي مثل غيرها في الدول العربية بُنى تقليدية ماضوية لا علاقة لها بالديمقراطية الحديثة.

وإذا كانت فتح ذاتها قد إستغلتْ هذه البنى في سيطرتها السياسية، ووضعت رجلاً أخرى في الحداثة كذلك، فإن عملية التسارع في السيطرة على الضفة والقطاع بعد الإنسحاب الإسرائيلي، تنفيذاً لإتفاقيات أوسلو، لم تتشكل عبر جبهة حداثية فلسطينية علمانية ديمقراطية بقيادتها.

عبرت هذه الإتفاقية عن مستويين؛ مستوى الحوار الفلسطيني – الإسرائيلي، ومستوى القوة الفلسطينية المحدودة على الأرض.

ولثاني مرة يحدث إنسحابٌ إسرائيلي من أرض عربية كبيرة (بعد مصر)، ويخلف إنفراجاتٌ سياسية وتقدماً اجتماعياً مهماً، مما أكد أهمية سياسة السلام في خلق التحولات بعد كل تلك الكوارث للحروب السابقة.

ومن جهة أخرى فإن الانسحابات المحدودة التي لا تحل مخلفات الأحتلال الإسرائيلي بالكامل، تعني بقاء سيطرة القوى العسكرية – الدينية المتنفذة في إسرائيل، واستمرار المواجهة مع أطراف عربية أخرى، وهو أمرٌ يؤدي إلى عدم حل القضية الفلسطينية ذاتها.

إن التسويات المنفردة رغم تمثلها للتقدم الهام إلا أنها تحوي بذور الصراعات والحروب أيضاً، فالصراع العربي – الإسرائيلي يحتاج إلى تسوية تاريخية عميقة شاملة، على مستوى تعاون الأديان السماوية، وعلى مستوى تصالح الشعوب، وعلى مستوى إزالة الإحتلال.

وبهذا فإن توجه فتح لحكم الضفة والقطاع وجعل أجهزتها تهيمن عليهما، بعد عقودٍ من الأحتلال الذي خلف الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فجعلها هذا التسرع المتعدد الوجوه تتعرض لانتقادات كبيرة من الجمهور الفلسطيني، الذي بعد أن فارق نشوة التحرير أرجعته صرخات البطون والبيوت والحشود الفقيرة إلى الأرض الحادة.

وكان التسريعُ (الديمقراطي) يعتمدُ على تلك المنظمة الفتحاوية الجماهيرية العريضة، غير الراسخة في بناها العلمانية الديمقراطية، والتي قبلتْ وجود الأحزاب الدينية، وبجعل تنظيم سياسي آخر يمثل الإسلام وحده، وبهذا فقد نزعتْ صفة الإسلام عنها وعن بقية الأحزاب العلمانية.

ولم يكن فضاء نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين مثل أزمنة الستينيات فقد غاصتْ المجتمعاتُ العربية في أزمة فشل التحديث الرأسمالي المحافظ بعجز تلك الأنظمة عن مقاربة الحداثة، وصعد محور دول العراق وإيران والجزيرة العربية، النفطي المحافظ الأكثر من السابق، وراجت الشعاراتُ المذهبية السياسية كشكلٍ لتدفق سكان القرى والبوادي على المدن العربية، طارحة فضاءً غيبياً لحل الأزمات السياسية والمعيشية.

وقد استثمرت منظمة حماس التكوين الإسرائيلي الأولي لها كمنظمة يكمنُ دورُها في شقِ صفوف الفلسطينيين، وخاصة شق منظمة التحرير، وكذلك بقائها الطويل المهادن على الأرض خلال عقود، وذلك الغياب للوعي الديمقراطي والعلماني وسط الجمهور الفقير الحاشد الذي امتلأت به أزقة غزة خاصة، وبهذا فقد كانت الانتخابات التي قلبت الأوضاع السياسية وشقت الفلسطينيين على مستوى المؤسسات وعلى مستوى الأرض، هي جزء من المتغيرات الفلسطينية التي جرت في الجمهور، وجزء من متغيرات المنطقة.

لقد جمدت فتح منظمة التحرير التي كانت مؤسسة مهمة لصقل الفكر الفلسطيني الديمقراطي العلماني المفترض والإسلامي العميق كذلك، وتحولت إلى تنظيم فضفاض، راح كوادرهُ يستولون على موارد مهمة، وبطبيعة الحال لم تكن قادرة على أن تكون معبرة عن برجوازية فلسطينية قوية، لضعف الصناعة ولعوامل الشتات، وحروبها، التي كانت كلها ضرباً للرأسمال الفلسطيني وللعمال.

وكان قادة حماس قد سيجوا الفقراء حولهم بشعاراتِ الغيبِ (الإلهية)، المؤدلجة لمصلحة بعض قوى الأرض الفاسدة، واستثمروا خطاب العنف الفلسطيني الإلغائي الطويل، (دولة من النهر إلى البحر) والذي تكرس بقوة في انفعالات الشعب العاطفية الحادة، وعلى بحار الدم الفلسطينية، فانتصروا انتخابياً وعمقوا أزمة الشعب الفلسطيني أكثر فأكثر.

وبهذا كانت الضربة لدكتاتورية فتح، وتبياناً لخطورة الخطاب العنفي الفلسطيني العاطفي، ولعدم التحضير المطول لإنشاء دولة علمانية، ولعدم تكريس سياسة السلام، ولعدم قراءة الإسلام بعمق.

وقد سارعت فتح في الحفاظ على سلطتها الحزبية، فأصدر المجلسُ التشريعي المنتهية صلاحياته والذي تسيطر عليه فتح عدة قرارات كبيرة محورية، وهي صدور مرسوم رئاسي بتعيين رئيس الموظفين كتابع لديوان الرئاسة، ومنع الحكومة المقبلة من تعيين أو فصل الموظفين، وتعيين أمين عام للمجلس التشريعي الجديد من فتح، وإنشاء محكمة دستورية يعينُ الرئيسُ الفلسطيني قضاتها، ونقل مسئولية الأجهزة الأمنية للرئيس مباشرة وليس لوزير الداخلية كما يُفترض، ونقل الإذاعة والتلفزيون إلى إدارة الرئيس كذلك، وبهذا قامت فتح بإفراغ سلطة حماس من نفوذها الأمني والإعلامي، رغم إنها حكومة منتخبة.

ولم تتقبل حماس هذا التحجيم ولم تقبل بدور العمل لتغيير أوضاع الشعب الفلسطيني الحادة، وابتعادها عن سلطات الرئيس التي غدت رسمية قانونية، فتوجهت للصراع مع مؤسسات الرئاسة ومن ثم الأنقلاب على السلطة العليا، وعدم القبول بقرارات الرئيس، ثم فصل قطاع غزة عن الضفة.

كان عدم توجه حماس للتركيز على أوضاع الشعب المعيشية التي كان ينبغي أن تكون بؤرة نشاطها الحكومي المفترض والتي أُنتخبت على أساسها، يعبر عن رؤية متضخمة لذاتها، ولكونها تتجاوز أطروحات فتح والقوى الوطنية الأخرى، فهي تحمل هوية (إلهية) قادرة على هزيمة إسرائيل عسكرياً، بعد أن عجز عن ذلك فارس الفرسان، وتمخضت تلك الهوية الميتافيزيقية عن إنصراف عن الأمور المحورية الاقتصادية للسكان، وجرهم إلى معارك غير متكافئة مع الجيش الإسرائيلي، وتخريب وضعهم المعيشي السيء. ومن هنا فهي تخاف من أية إنتخابات جديدة بعد أن تم كشفها على صعيد الممارسة السياسية الضعيفة على الأرض.

ومن الواضح بأن ذلك كله جرى وليس في حماس إهتمام جدي بعملية السلام المحورية في حياة الفلسطينيين والإسرائيليين، وقد جاءت على أجنحة رؤية تصادمية هي إستمرار للماضي العنفي، وحاولت أن تجعل من الضفة وغزة الخارجتين بصعوبة من الأحتلال منطقتي حرب وبداية لتحرير فلسطين.

وقد توافق هذا مع سياسة المحور الإيراني – السوري، ومع صقور المؤسسة العسكرية الإسرائيلية والحركات الدينية اليهودية المعادية للسلام، وهي قوى تشترك من خلال مواقعها المختلفة في تأجيج التدخلات في الدول والنزاعات وتوتيرها خدمة لأهدافِ كلٍ منها الخاصة.

وبهذا أصبح لفلسطين جسمان جغرافيان منفصلان، عوضاً عن ضم الجسم الثالث السليب.

وبدلاً من رئيس واحد صار لها رئيسان.

وصارت لها دولتان وعلمان، العلم الفلسطيني الرسمي والعلم الأخضر. وصار لها نشيدان الخ..!

وإنشغلت الضفة بطلب المساعدات وتغيير أوضاع الناس الاقتصادية وأنشغلت غزة بإطلاق الصواريخ، ومقاومة الحصار، وضاع برنامج التحرير والسلام إن لم يكن قد ضاع وجود الشعب.

لا بد من القول كلمة هنا حول استثمار حماس للإسلام، وهو بخلاف الاستثمار الفتحاوي الانتهازي النفعي السابق الذكر، فهو إستثمار رجعي متضخم، فقد حاولَ قادة حماس أن يضعوا أنفسهم مقاربة لمنزلة النبوة في صراعها مع اليهود، فكأنهم في نفس النزال ونفس المكانة! وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يواجه مجموعة ليست بضخامة اليهود الحاليين، ولا بعدتهم ولا بعلاقاتهم الجبارة مع قوى الهيمنة في العالم، وكان بقربه مئات الآلاف من العرب إستطاع أن يحركها ويوظفها، فكان صراعه معهم صراع اقتدار وانتصار ولغاية (تأسيسية) للأمة، وبعد ذلك جاء التعامل المغاير معهم ومع غيرهم بحسب إنسانية وديمقراطية الحركات والدول الإسلامية، أما صراع حماس الراهن مع إسرائيل فهو صراع إنتحار وكوارث على الشعب الفلطسيني!

فلا يجب توظيف آيات القرآن توظيفاً خاطئاً شرعاُ وسياسة، وإجراء عمليات المماثلة بين تاريخين مختلفين، في وضعين مغايرين، فتكون إساءة مزودجة لتاريخ الإسلام ولرموزه وللوعي والمسئولية في السياسة المعاصرة.

كانت الأوضاع الاقتصادية متردية في الضفة والقطاع منذ بداية القرن العشرين فيما تكشفه الأرقام، فيصف تقرير للأمم المتحدة الأوضاع بالصورة التالية:

(ذكرت بعثة منظمة العمل الدولية في تقريرها أن عمليات إغلاق الحدود الإسرائيلية ونقاط التفتيش بين الأراضي المحتلة وإسرائيل والبلدان المجاورة أثرت تأثيراً مأساوياً على اقتصاد المنطقة. فهبطت الأجور الحقيقية للعمال الفلسطينيين في إسرائيل بنسبة 46% تقريباً في 2001 مقارنة بالعام السابق، في حين تدنت إيرادات السلطة الفلسطينية بنسبة تزيد عن 70%.

وذكر التقرير أن تصعيد العنف والاحتلال العسكري للأراضي تسببا في أضرار مادية كبيرة بالبنية التحتية والأراضي الزراعية. وتقدر الأرقام الأولية تكلفة إعادة بناء المباني العامة والخاصة والبنية الأساسية في الضفة الغربية وحدها بنحو 432 مليون دولار أمريكي.

وأضاف التقرير أن النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي بالمناطق الفلسطينية هبط بنسبة 12% في عام 2001 كما هبط الدخل القومي الإجمالي الحقيقي – وهو مجموع الناتج المحلي الإجمالي وعامل الدخل المكتسب في الخارج (أجور العمال الفلسطينيين المكتسب في إسرائيل) بنسبة 18.7%.

ولاحظ التقرير أن أكثر من 90% من السكان الفلسطينيين يعتمدون على شكل من أشكال الدخل الناتج عن عمل في الأراضي المحتلة. وأضاف أن ” أي هبوط في الاستخدام في الدخـل الناتج عن العمل يترجم فوراً إلى هبوط في الاستهلاك والرفاهة”. وتشير التقديرات الأوليـة للمكتب إلى أن “البطالة يمكن أن تصل إلى قرابة 43% في الأراضي المحتلة خلال الربع الأول من عام 2002. وقد ازدادت النسبة المئوية للسكان الذين يعيشون في فقر (اقل من 2.1 دولار أمريكي يومياً) من 21% عام 1999 إلى 33% عام 2000 وإلى 46% عام 2001. وذكر التقرير أن الرقم يمكن أن يصل إلى 62% عام 2002. ووفقاً لما ورد في التقرير، فإن إسرائيل لم تنج من الانتفاضة. فقد عانى النشاط الاقتصادي في إسرائيل من انكماش حاد خلال عام 2001 بهبوط الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.5% خلال عام 2001بعد زيادة بلغت 6.4% عام 2000.

وقد تضرر الاقتصاد الإسرائيلي بشدة نتيجة ثلاث صدمات اقتصادية: تباطؤ الاقتصاد العالمي في النصف الثاني من العام 2000؛ وتدهور الوضع الأمني لنشوب انتفاضة 2000؛ وعواقب أحداث 11سبتمبر.

واستطرد التقرير قائلاً “وكانت الصناعات عالية التكنولوجيا هي الأشد تضرراً من جراء تدني النشاط في الاقتصاد الأمريكي، يليها هبوط بنسبة 50% في عدد السائحين في 2001 نتيجة أحداث 11سبتمبر، وتدهور الوضع الأمني الداخلي. وتعرض النشاط في قطاع البناء لفوضى حادة نتيجة الانسحاب المفاجئ لنحو 000 55 عامل فلسطيني، فضلاً عن هبوط الطلب المحلي والاستثمار العام. وامتدت هذه الصدمات التراكمية إلى الاقتصاد برمته.

وارتفعت البطالـة بشكل متواصل خلال عام 2001، من 8.1% في الربع الأول إلى 10.5% في الربع الأخير – أي ما يساوي 000 267 شخص. وأضاف التقرير أنه “تم استدعاء نحو 000 30 من قوات الاحتياط للخدمة العسكرية في الربع الأول من عام 2002، الأمر الذي قد يحدث أثاراً ضارة على أنشطة. واختتم تقرير المكتب قائلاً “يدفع السكان الفلسطينيون والإسرائيليون ثمناً باهظاً للاحتلال والعنف. ويشهد الوضع الاقتصادي والاجتماعي في الأراضي المحتلة تدهوراً يومياً مع ارتفاع مستويات الفقر والبطالة التي أصبحت عملياً أزمة إنسانية سائدة).

لقد غدت البنية الاقتصادية الفلسطينية معتمدة على البنية الاقتصادية الإسرائيلية، وليس ثمة إمكانية للتفكيك بينهما، وأي علاقات توتر تنعكس على المعيشة بين الشعبين، كما يجري ذلك أيضاً على المستويين المصري والأردني بدرجتين أقل.

ولهذا فإن غالبية الشعبين تتطلع إلى علاقات جديدة بينهما، وبهذا فإن الأوساط المتطرفة في كلا الجانبين خفتت لكنها لا تزال قوية كذلك، فالقوى اليمينية المتطرفة الإسرائيلية ترفض أي إنسحابات وتقوم بتوسيع المستعمرات، وتعزز الجدار الفاصل، وتريد حدوداً تختلف عن حدود 1967، في حين تقوي حماس والجماعات الدينية المتطرفة في غزة التوتر وترفض الحلول السلمية لهذه الأزمة الرهيبة الطويلة التي إستنزفت الشعب الفلسطيني بدرجة خاصة لأسباب غدت واضحة.

ومن المؤكد بإن الحل النهائي للأزمة لن ينهي العلاقات بين الجانبين بسبب اعتماد العمالة الفلسطينية الكبير على الاقتصاد الإسرئيلي، وبسبب تدني أجور هذه العمالة وتفاقم الهجرة اليهودية من إسرائيل المضطربة نحو الغرب.

وفي دراسة أمريكية إستطلاعية عبرت شريحة من المواطنين العرب والإسرائيليين في داخل إسرائيل عن تأييدها للتعايش المشترك بين الجانبين:

(أظهرت نتائج استطلاع الرأي أن أغلبية مهمة من المواطنين اليهود والعرب يؤيدون التعايش، إذ عبرت الغالبية العظمى من المواطنين اليهود (73 %) والمواطنين العرب (94 %) عن رغبتهم في أن تكون إسرائيل مجتمعاً يقوم على الاحترام المتبادل بين المواطنين العرب واليهود وعلى تكافؤ فرص.)، (عن شبكة العلمانيين العرب).

إن نمو الفلسطينيين داخل إسرائيل يتزايد وهم يشكلون 20% من السكان، ويزاد حضور اللغة العربية وتدريسها في الجامعات الإسرائيلية.

ومن المؤكد إن نمو علاقات سلمية سوف يزيد الحضور السياسي للجمهور المدني وخاصة القوى العاملة المتضرر الأكبر من الصراع، وبالتالي فإن هذا سوف يزيد من حضور الأحزاب الديمقراطية والتقدمية في الجانبين.

 


الإقطاع الفلسطيني تابع التابعين
كانت سرقةُ فلسطين من قبل رأسِ المال اليهودي قد تركزتْ بشكلٍ خاص على الفلاحين الفلسطينيين، فالأرضُ كانت هي قلبُ الصراع، فأُنتزعتْ بأغلبيتها عبر حربي 48 و67.

(في الدولة العربية، كان الملاكون العرب يمتلكون 77.69% من إجمالي مساحتها، بينما لم يكن يملك الملاكون اليهود إلا 0.84%).

ثم تغيرت النسبة كلياً، وسُرقت كذلك المساكن وحيوانات الزراعة والمعدات والمواد الإنتاجية المختلفة، ولكن بقيت أراض زراعية فلسطينية عديدة منتشرة في الضقفة وقطاع غزة وفلسطين 48، وصمدت جماعات عديدة من الفلاحين. ولكن حتى الضفة الغربية المحتلة سُرقت منها أراض تبلغ 52% من مساحتها العامة.

فالفلسطينيون غير قادرين على تشكيل إقطاع بالمعنى الحرفي الزراعي مثل بقية البلدان العربية، وفقدان البلد والأرض يمنع تشكل دولة، والدولة هي الشكلُ الأساسي للإقطاعِ السياسي في التاريخ العربي الإسلامي.

كان الفلاحون والمنتجون الصغار والبسطاء هم القاعدة الأساسية للاجئين، فحملوا وعيهم الديني إلى الأقطار التي سكنوا فيها، فتداخلوا بسكان الأقطار العربية المتعددة، الذين شاركوهم همومهم، وغدت القضية الفلسطينة قضية عربية، وراحت الشعوب العربية تساهم وتتبرع، والحكومات تستغلُ الهمَ الفلسطيني لأغراضٍ شتى.

هذا التداخلُ العربي الفلسطيني سيكونُ له تطورهُ حسب الصراعات والتطورات داخل كلٍ من هذه الأقطار، وداخل الكتل الفلسطينية المختلفة كذلك، فسوف ينجرفُ العربُ لتأييد القضية الفلسطينية ثم يتراجعون عن ذلك، بسبب أن تنامي الدكتاتوريات النازفة للموارد في الدول العربية وفي الجموع الفلسطينية يخربُ النضالَ المشترك على كلا الجانبين.

إن زمنَ المساعدات الكويتية التي تتشكلُ في فضاءٍ حر نسبي هي غير المساعدات في العراق وسوريا حيث تتشكل عبر نظامين دكتاتوريين، فميلادُ فتحٍ في الكويت، غير إلحاقها بزمني العراق وسوريا. فيتشكلُ هناك في البرلمانية الكويتية شيءٌ من الفضاء العلماني الديمقراطي، في حين يتدهور هذا الفضاء مع بعثي العراق وسوريا. هنا تغوصُ فتح في الإقطاع السياسي ونفعيته وإنتهازيته. وهذا غير زمن الفوضوية السياسية في لبنان، هناك زمنيةٌ إجتماعيةٌ لتحولِ فتحٍ من الوطنيةِ التضحوية للإقطاع السياسي.

لقد تشكلتْ الخليةُ الأولى الأساسيةُ للدولةِ الفلسطينية عبرَ منظمة التحرير، وكان المناخ العام مناخ تضحية وفداء من قبل الجمهور الفقير الواسع في المخيمات، وسيطرت منظمة فتح على هذه الخلية الأولى، وعبر تكتيكاتها العسكرية المختلفة المتفاوتة بين المغامرات الرهيبة والتضحيات الكبيرة، تغلغلتْ في حياة الشعب وأنضم إليها الكثيرون، وغدت هي مشروع الدولة.

الأجواء التضحوية الثورية، والعمليات الفدائية، والبطولات، وثقافة النضال العارمة التي أشاعتها، كل هذه جعلت الجمهور يتصور أنها خارج قوانين الصراع الاجتماعي، ولا علاقة لها بسببيات الدول العربية السياسية، وأنها قادرة على أن تقفز على سيادات الأنظمة الإقطاعية والرأسماليات الحكومية العربية الفاسدة بتجرية ثورية (نقية)، لكن هذا الوعي الرومانتيكي بدأ ينهارُ مع تراكمِ الموادِ الواقعية السوداء، فالجماهير الشعبية المضحية بقيت مثل الجماهير العربية الأخرى مادة نزيف إقتصادي، والأسوأ للمغامرات العسكرية المجنونة، وتحولت أراض (محررة) في البلدان العربية إلى أراضٍ محروقة ومناطق للحروب الأهلية.

الهيمنة الفردية المطلقة من قبل ياسر عرفات ومجموعته على فتح تحولتْ إلى هيمنةٍ مطلقةٍ على منظمة التحرير، اليسارُ واليمينُ في المنظمة، لم يخرجا عن الخيوطِ الماليةِ التي تحركُ العرائسَ السياسية، وضجيجهما الهائلُ لم يشكلْ تيارات تنويرية وديمقراطية وليبرالية فلسطينية مؤثرة متصاعدة التأثير، ومثلَ قاعدة الأنظمة العربية الإقطاعية والرأسمالية الحكومية العربية: من يملك الخزانةَ يصيغ التاريخَ السياسيَّ ويُشكلُ الدُمى على المسرح الفقير من العقل.

بل لقد ساعد اليسارُ الطفولي الفلسطيني في تقوية اليمين الإقطاعي، المستولي على الخزانة، بمغامراتهِ وصخبهِ وعنفه، حتى بدا العقل عند فتح، التي جمعتْ بين الدهاءِ والفساد.

لكن المال الذي يأتي للخزانة الفلسطينية لم يكن فقط من الضرائب على الشعب الفلسطيني الفقير المنهك، وحتى هذه لم تأت إلا بقرارات عربية سيادية، بل كذلك من فوائض النفط العربية، التي تدفعها حكوماتٌ عربيةٌ عديدة، كل منها لها سياسة، وتوجهتْ لفردٍ أو لمجموعةٍ لم تكن تمتلك وسائل المحاسبة السياسية والمالية الدقيقة، ولم تكن ثمة حكومة، ولم يكن ثمة برلمان منتخب، وبهذا فإن السيولةَ الماليةَ سالتْ في بعض الجيوب.

لقد نشأتْ بذرةُ الدولةِ الفلسطينيةِ من هيمنةٍ فردية، وفي أجواء بخور الفلاحين الديني المُنتزَّعين من الأرض، والذين شلت إراداتهم النضالية المطلبية وتناثروا في الملاجئ، وحملوا سذاجاتهم وغضبهم معهم وعبدوا الجملةَ الثورية باعتبارها المنقذ مثل الإله، وبحثوا عن البطلِ الفرد الطائر وراءَ الإسراء والفتوح القدسية، فجاءهم البطلُ وهو يركبُ حصانَ الفسادِ البترولي العربي ودكتاتورياتِ المشرقِ والمغرب العربيين، الباحثين عن زكاةٍ حلالٍ من خلالِ الدمِ الفلسطيني لكلِ السرقاتِ التي يقومون بها، ولكلِ الإنقلابات التي يدوسون بها على الشعوب.

حين كان الفلسطينيون يقومون بعملِهم السياسي الفوضوي ويفتقدون الديمقراطية والوعي العلماني التحديثي كانوا يخسرون على الجانبين العربي والإسرائيلي، فالعربُ ينسحبون من تأييدهم نظراً لتأييدِهم دكتاتوريات الأنظمة التي تبطشُ بهم ليل نهار وكانوا يعتقدون أنهم سيكونون شركاء معهم في نضالهم المشترك!

ونظراً لعجزِهم عن الاعتمادِ على شعبهم الفلسطيني بشكلٍ مستقل فهو الوحيد الذي كان يمكن أن ينقذَهم من الارتماءِ في أحضانِ الأنظمة الفاسدة ولكن هذا كان يتطلبُ ثوريةً صبورة حكيمة وليست إستعراضية بلهوانية، وهذا كله أدى إلى نمو جراثيم البرجوازية الطفيلية داخل القيادات الطليعية المفترضة، وكانت فوضوية وإنتهازية الجماعات المنظمة والمراهقة السياسية هنا خسارة على الجانبين، فهي التي أدتْ من جهةٍ أخرى لتماسك إسرائيل وتبعية العمال اليهود للبرجوازية الاستغلالية السارقة للأراضي والثروات الفلسطينية، وخسارة الأشقاء العرب العمال في المعركة المصيرية العظيمة المشتركة!

ياسر عرفات مثّل نموذج هذا العمل الغريب بالقضيةِ والدينِ والعلمانيةِ فلا أحد يستطيع القبضَ على موقعهِ الفكري، ولم يصمد في مشروعه الأولي عن دولة فلسطينية علمانية ديمقراطية تجمع العرب واليهود حيث لم يؤسسْ أيةَ خطوات صغيرة لها على الأرض ولم يكن قادراً لا فكرياً ولا سياسياً على الثبات في هذا المشروع وتطويره، ومثلَّ مأساةً مروعةً للنضالِ في العالم الثالث، ولم يُعرفْ دوره تماماً فهل هو القائد البطل أو المستثمر في الدم والنقود، هل هو الذي ينجو من المذابح الفلسطينية أم هو الذي يغتني من خلالها؟

والأهم هو هذا التلاعب بنقود الناس الفلسطينيين والعرب معاً، وهل كانت حربُ العصاباتِ تحتاجُ لتأسيسِ أهراماتِ النقود ولأن تكون بميزانيات شركات عابرة للقارات؟

(نشرت صحيفة الرأي العام الكويتية في تاريخ 24 كانون الأول/ ديسمبر 2004 تقريراً حول شبكة استثمارات عرفات العالمية، وذُكر في التقرير أن قيمة إستثمارات عرفات في جميع أنحاء العالم نحو 799 مليون دولار موزعة على شركات اتصالات وبرمجة وغيرها من الشركات العالمية والإقليمية والمحلية من أمثال سترايك هولدينغنز، وشركة الاتصالات المحلية في الجزائر، وشركة سمبلكستي للبرمجة)، (تقرير حول الفساد في منظمة التحرير، إعداد وائل سعيد).

إن الخطوات السياسية منذ بدء نضال الفلسطينيين والتي لم تستند على رؤية طبقية وطنية ديمقراطية وأممية، والتي كان محورها المفترض جذب العمال الإسرائيليين لنضال ديمقراطي مشترك ضد الصهيونية والحرب والإستغلال، قد جعلتهم معلقين في فضاء الشرق الأوسط السياسي، الإقطاعي العربي الديني، فغدت المشروعات السياسية تنزلقُ على سطحٍ إجتماعي أملس، فمن حرب العصابات وضرائبها الجسيمة حتى الدويلة التي لن تكون سوى – عبر هذا الوعي السائد- سوى قطائع مفتتة تابعة للبرجوازية الإسرائيلية المسيطرة.

الرؤية الوطنية القومية الدينية اليمينية التي بدأت في وقت مبكر كانت لديها شعب واعد لنضالٍ عميق تقدمي، لكنها لم تكرسْ هذه العناصرَ الديمقراطيةَ والعلمانية الجنينية، وصعّدت الفئات الإنتهازية، التي سدتْ مسامَ الثورة المستمرة في عروقِ العاملين العرب واليهود، وركبتْ على الجسور الخربة للدكتاتوريات العربية، حتى وجدتْ نفسَها شبهَ محطمةٍ في حرب لبنان، فقبلتْ بأي حلٍ ينقذها من عالم الحطام السياسي الذي صنعته.

فتح وحماس وليدتان لوعي مذهبي إقطاعي يميني واحد، كلتاهما نتاجُ حركةِ الأخوان المسلمين في مصر التي هي وليدةُ حركةِ الأخوان في السعودية، أي هي الحركةُ المعاديةُ للحداثةِ والديمقراطيةِ والعلمانية طريق الأمة العربية للنهضة والتحرر والوحدة.

في إنبثاقهما المقارب من مصر وغزة، وولادتهما من أصلٍ مريضٍ واحدٍ، تباينَ تطورُهما التالي، فرحلتْ (فتحٌ) للكويت، وتشربت ظرفاً جديداً، فيما غاصتْ (حماسٌ) في غزة بسبب الظروف التاريخية لتفككِ الشعبِ ولتفككِ الأجزاءِ الأخيرةِ المحتلة.

توجهتْ فتح للتجارة السياسية بالوطن، فيما توجهت حماس للتجارة بالإسلام، وكما أن فتح لها جذور دينية، فحماس لها جذور وطنية، لكن المادة الخام الفكرية هي نفسها، لا يُحفر فيها ولا تتشكلُ أبنيةٌ فكرية عميقة فيها، فتفصلُ الوطنَ والإسلامَ عن الإمتلاكِ الكلي لهما من قبلِ تنظيمات سياسية، فيحدثُ الإمتلاكُ الكلي بالضرورة عبر الدكتاتورية، وهي لا تأتي إلا بالحصولِ على الأموالِ بطرقٍ فاسدة، فتتكون النخبُ الانتهازيةُ المأجورة للقيادات.

كان حراكُ فتح أوسعُ حينذاك وقد دغدغتها الفترةُ القوميةُ الحماسية وخفوت الإقطاع الديني المحافظ، وكانت حركاتُ الأخوان ضد ذلك المد القومي التحرري ومتشبثة بالإقطاع الواعد بالنفط وبالقوى الأجنبية الاستعمارية، لكن كلا الفصيلين كانا تابعين لنفسِ الجذور، والفئاتُ الوسطى الصغيرةُ تتحركُ بتوسعٍ حسبَ مناخ النقود الأكثر، فكان حراكُ فتح الذي رصدناه وكوّنَ فئةً مهيمنةً على المال العام الفلسطيني، قد كسب الأغلبية الشعبية الفلسطينية.

وكما رأينا كيف مثَّلَ القبولَ بالدويلة الصغيرة الواعدة في الضفة وغزة، هزيمةً عميقة لخيارِ العلمانية والديمقراطية والحرية، فكانتْ عمليةُ قفزةٍ في الهواءِ مثلما فعلتْ القيادةُ اليمينيةُ الجنوبيةُ بقبول الوحدة مع الشمال، أي هو الهروبُ إلى الإمامِ بسببِ عدمِ تنفيذِ مهامِ النضالِ الديمقراطي العلماني، فكان نتاجاً لسياسةٍ فشلتْ في إستثمارِ القوى العمالية والشعبية والرأسمالية النهضوية المعادية للصهيونية في كلٍ من فلسطين وإسرائيل، وتشكيل السير الحثيث الصبور للقوى الديمقراطية المتجذرة في الأرض الفلسطينية الكلية، والناقدة للتخلف الديني الاجتماعي.

لكن هذه الثروة الشعبية لم يُحافظ عليها ولم تُطورْ بل طُورتْ الثروةُ الماديةُ لدى النخبة الحاكمة، وبهذا إنضمت لقوى الإقطاعِ العربي وللرأسمالياتِ الحكوميةِ الفاسدة التي تقوم فوقها فما أحدٌ يبلع مالاً من هذه القوى حتى يغلق فمه النقدي، وما أعتبرتهُ إنتصاراً تحولَ لهزيمةٍ صاعقة وصفعة سياسية مدوية لتلك الشعبية ولقوى منظمة التحرير، التي كشفت نفسها كذيل سياسي لفساد فتح.

ظهر الشعبُ المُنتخبُ إنه مؤثر لرمزية الإسلام المضادة للإستغلال والفساد حسب مستوى وعيه دون إدراك تنويري علماني لم تواصل فتح في تشكيله، ففشلت قياداته على مستويي الدفاع عن الثروة المادية والدفاع عن الثروة الروحية.

مرة بعدم النضال من أجل تنويره وتطوير فهمه للوطن والإسلام، وهذا لا يحدث بدون نضال ديمقراطي إجتماعي، وبنقد للعادات الاجتماعية المتخلفة في الزواج والإرث والتراث والعادات والتفكير، أي يتطلب منظمات مناضلة واعية بين الشعب، وليس صاحبة خطابات على المسارح العربية الضاجة بالميكروفونات الصاخبة.

النضال ضد حماس هو نضال من أجل الديمقراطية الاجتماعية، بتغيير حال الشعب المتخلف، بإعادةِ النظرِ في هيمنةِ القوى الإقطاعيةِ على الإسلام منذ بني أمية، وليس أن تضعَ صناديقَ الانتخابات بين هذه الأيدي غير المدركة لتعقيد النضال الوطني الفلسطيني.

كذلك بتغييبها إستثمار التقدم النضالي للقوى الشعبية في إسرائيل ضد الطغيان فيها، وبدون ذلك تُمزقُ صفوفُ العربِ والمسلمين، والمسيحيين واليهود، أي كل القوى الشعبية المتضررة من سياسات الغزو والإحتلال والإستغلال، لتهيمن الصهيونية عليها بأشكالٍ شتى عبر الانتهازية الفلسطينية اليمينية الفاسدة أو عبر المذهبية الاستغلالية اليمينية الأخرى المنتفخة بمغامراتها وتجارتها بالدين.

إن إنهيار المشروع العلماني الديمقراطي لفتح هو ثمار التنازلات المختلفة، وضعف تلك العناصر الديمقراطية الرقابية على القيادة وغياب حضور القواعد الشعبية، وجرى خلال ذلك تأييد الرأسماليات الحكومية العربية الشمولية التي وصلت إلى درجة الأزمة الخانقة كالعراق، وحركاته المخربة للتطور الديمقراطي العربي، ويتسبب ذلك في تجفيف ينابيع المال والتأييد لفتح، مثلما جرى الأمر عبر الالتصاق بالأنظمة الروسية والسورية والمصرية، أي لقد حدثتْ سلسلةٌ من الانهيارات في التحالفات العالمية والعربية، تشيرُ إلى عدم فهم القيادات الفتحاوية لفشلِ نماذجِ ومشروعات الرأسماليات الشرقية الشمولية ووصولها للأزمةِ العميقة والانهياراتِ المتتالية، وبضرورةِ إنتزاع نفسها وهي مشروعُ تحررٍ ديمقراطي مفتوح وليست نظاماً من تلك الأنظمة المسدودة الأفق.

لقد إستبقتْ الحركاتُ المعارضةُ العربية نماذجَ الرأسماليات الحكومية المستبدة عربياً وعالمياً، داخل كياناتها التنظيمية، وقلدتها وتماهتْ مع فسادِها وضيقِ فكرها، فصارتْ غيرُ قادرةٍ على إنتاجِ نماذج التطور الديمقراطي العلماني، فجاءت هزائمها السياسية.

جسدت حماس إختراق وتضعضع المشروع الوطني الفلسطيني التحرري العلماني، وهي سمةٌ (عربية إسلامية) عامة، نظراً للأصول المحافظة الإقطاعية للحركاتِ الدينية التي كونت التقليدية واللاعقلانية النصوصية بعد سقوط الخلافة الراشدة، وهي تعتمدُ على تمزيقِِ صفوفِ العربِ والمسلمين، وضرب الحداثة وهي القشرةُ الرقيقة التي تكونتْ في سنواتِ التحرر الوطني، وكلما زاد فساد وإنتهازية القوى الوطنية وتخليها عن المشروع العلماني الديمقراطي التقدمي، كلما قامتْ تلك القوى الدينية بإستثمار مناطق التخلف لدى الجمهور وغياب العدالة لتأصيل مشروعها الإنقسامي المتراجع عن قيمِ النهضةِ والتوحيد.

من هنا فتمزيق حماس لوحدةِ الشعب الفلسطيني وجره للوراء، والاشتراك في تحالفاتٍ إقليميةٍ مُفتتةٍ لصفوفِ للمسلمين ومهيجةٍ للطائفيات السياسية وللدفاعِ عن الرأسماليات الحكومية الفاسدة الرافضة للديمقراطية والإصلاح، هو إستثمارٌ لتناقضات النضال الفلسطيني التي نخرتْ فيه طوالَ العقود السابقة ولعدم تشكيله للبرنامج النهضوي التحرري العميق.

(حماس) هي تعبيرٌ عن رمزيةِ الأخطاءِ الفتحاويةِ والفصائليةِ وللتخلي عن العلمانيةِ والوطنيةِ والديمقراطيةِ والأمميةِ وعدم تطويرها في حلقاتِ العملِ السياسي السابقة.

ولهذا كلما تم إصلاح هذه الأخطاء وتواجدتْ جبهةٌ نضاليةٌ ديمقراطية تقدمية كلما أخفقت الأصواتُ الطائفيةُ المحافظةُ المستغلةُ للإسلامِ وتوظيفه لهدمِ نضال العرب والمسلمين المعاصر من أجل التقدم والتحرر.

فثمة ضرورةٌ كبرى لإعادةِ النظرِ في المشروع التحرري الفلسطيني منذ بدايته، ونقده، وضرب الفساد الذي عشش داخل أجهزته المسيطرة، وإحداث قراءات ديمقراطية علمانية للتراث والأوضاع الاجتماعية المحافظة للجمهور وتغيير حياته المادية الصعبة، وبضرورة العلاقات الوطيدة مع النضال الديمقراطي العلماني داخل العالم العربي وإسرائيل، وهي كلها عمليةٌ صعبةٌ تاريخية لكن لا يوجد بديل عنها.

رأينا كيف تجاوزت حماس أخطاء فتح وفتحت باب الإنهيار الوطني الفلسطيني العام، وعلى كلِ المستويات تم إختراق البيت الفلسطيني، فمزيد من الهيمنة الإسرائيلية والغربية ومزيد من تبعية القضية لأنماط جديدة من الإقطاع الأشد تخلفاً في المشرق العربي، ووصل التمزيق لصفوف المسلمين غير العرب، وسحب أيديهم من التضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته.

كما قامت حماس بتقوية القوى الصهيونية داخل إسرائيل وخارجها.
صراع الطوائف والطبقات في «إسرائيل»
يعبر قيامُ إسرائيل عن مجموعة كبيرة من التناقضات السياسية والثقافية، فقد أُقيم المشروعُ من قبل الحركة الصهيونية، التي ظهرتْ في الغرب، ومثلتْ مستوىً دينياً واجتماعياً مغايراً لبقية اليهود في العالم، وخاصة اليهود الشرقيين، فسيطر ما يُسمى بــ(الإشكناز) على مقاليد السلطة وغدوا طبقة مميزة تناهض أي قوة إجتماعية تحاول الصعود.

منذ البداية كان مشروع إسرائيل متضاداً فقد أقامه اليهود العلمانيون المفترضون، فهو مشروع ديني بقيادة رأسمالية غربية يهودية، علمانية، فظهرت دولة حديثة ديينة معاً، فهي لا تنتمي للعلمانية ولا للدين، وهي خليط غريب بينهما.

إن النسيج الديني نفسه لا يقوم على دولة متوارثة ذات تقاليد متنامية، فلم تكن ثمة دولة، ولا تراكم تجربة سياسية حكومية، بل قامت على أحلام وذكريات أمتدت لقرون مديدة، فكيف يتحقق نسيج ديني موحد بناء على تاريخ الشتات الطويل؟!

لو أن اليهود الشرقيين قادوا بناء الدولة لجاءت الدولة دولة شرقية متخلفة، لكن اليهود الغربيين قاموا بهذه العملية ونقلوا المشروعات الغربية إلى إسرائيل، وهذا كفل لهم كذلك ليس القيادة الروحية فحسب بل القيادتين الاقتصادية والسياسية.

ومع هذا فإن اليهود الغربيين العلمانيين والتحديثيين قليلو الارتباط بالتقاليد الدينية اليهودية الصارمة، مما خلق تضاداً عميقاً بينهم وبين اليهود الشرقيين المُبعدين عن السلطة والامتيازات الاقتصادية، فقام هؤلاء بإستثارة التقاليد الدينية وتجذيرها في الدولة العلمانية المفترضة.

إن هذا الصراع الاجتماعي بين يهود الغرب ويهود الشرق ينعكسُ دينياً، بين شكلين من تبني اليهودية، أي بين يهودية تحديثية وبين يهودية تقليدية.

تناقضات العلمانية واليهودية عميقة، فقد تأسس النظام على أساس سلطة الحاخامات في تحديد من هو اليهودي، وأشترطوا شروطاً صعبة ومن أهمها أن يكون اليهودي من أسرة يهودية، وعن طريق أم يهودية، وهو أمرٌ من الصعوبة تحقيقه، خاصة لليهود الشرقيين الذين كان الكثير منهم مسيحيين.

تحديد السكان وأصولهم، وجعل هذه الأصول هي المسيطرة سياسياً، يجعل الدولة دينية غير علمانية، في حين أن ماكينة عمل الدولة تعتمد على الانتخابات الحرة والأحزاب المتصارعة، وهي آلية غربية ديمقراطية.

إن هذه الشروط وطرق العمل السياسي الأساسية تجعل أحزاب الأشكيناز هي المسيطرة، لكنها تؤدي كذلك إلى ردود فعل الأحزاب الدينية الشرقية وتصاعد دورها، فظهر بين اليهود الشرقيين حزب (شاس) المؤثر والذي يمنع الأحزاب العلمانية من التفرد بالسلطة.

فلا يُعرف حقيقة هل إسرائيل دولة علمانية أم دينية، أهي شرقية أم غربية؟

لكن الثروة توحد القوى الرأسمالية فيها سواء كانت تنتحب كثيراً عند جدار المبكى أم كانت لا تراه إلا في الصور.

ومع تجذرها الرأسمالي الكبير، وقد كان اليهود منذ زمن الكنعانيين رأسماليين في الشرق ثم في الغرب، فإن الصراع لا يدور عن توزيع الثروة فقط، بل أيضاً حول أنصبة الطوائف في حصص الحكم، والأمران يتداخلان ويغينان بعضهما البعض، الثروة تقود للحكم والحكم يقوي الثروة.

هل تؤدي التقاليد الدينية القوية في الدولة إلى الرجوع للبنى الإقطاعية الشرقية؟

هذا غير ممكن، سواء بجذور اليهود التاريخية التجارية، أو بسبب تعاظم الدور الرأسمالي في دولة أقيمت على أساس صناعي غربي متطور، ولكن مع هذا فإن التقاليد الدينية وتدني مستويات اليهود القادمين من الشرق، تجعل الميراث المحافظ موجوداً بقوة، ويؤججه الصراعُ مع العرب خاصة.

إذن فإن التناقض الأساسي في الدولة الإسرائيلية هو تناقض ديني بين اليهود الغربيين (الإشكيناز) واليهود الشرقيين (الإسفارديم).

ولماذا لا يحدث التناقض الطبقي هنا ويغدو هو محرك الحياة السياسية؟

هذا يعود إن قيادتي الطائفتين قيادات في نفس الطبقة الرأسمالية الحاكمة، لكن عبر مستويات اقتصادية واجتماعية متباينة، وبتقاليدٍ مختلفة، تمثل المكونين الأساسيين للسكان، القادمين من الغرب، وللسكان القادمين من الشرق، وهما ذا مستويين مختلفين رأسماليين، أي أن تطور الرأسمالية اليهودية في الغرب متطور عن مستوى الرأسمالية في الشرق.

ومع هذا فإن المستويين المختلفين اجتماعياً بدرجات معينة يشكلان اختلافات سياسية قوية، فتدخل في الصراع عواملٌ أخرى كاستثمار العمال في الانتخابات والاستفادة من التقاليد الدينية من أجل الوصول للكراسي على طريقة الجماعات الطائفية في العالم الإسلامي تماماً.

ومن هنا فإن العلمانية تتدمر مرة أخرى فتغدو الدولة دينية ليس على مستوى القمة الحاخامية فقط بل على مستوى القواعد السياسية، في حين أن الدولة صناعية.

وهذا أمرٌ يعود لطبيعة تشكيل الدولة القصير نسبياً، وزراعتها داخل غابة تراثية أسطورية، وعودتها للشرق جسماً وبقسمٍ كبيرٍ من السكان، فالقمة الصناعية رأسمالية متطورة والقاعدة شرقية تقليدية.

بل أن الأمر لا يقتصر على هذا، فوجودُ دولةٍ متغربة عن منطقتها وغازية على جسم سياسي لا يعود إليها، ويقوم هذا الغازي نفسه بغزو آخر يحتل فيه أراضٍ عربية جديدة، إن ذلك كله يعيده إلى تاريخ الاستعمار الغربي وطريقة الاحتلالات القديمة وهو ما يظهر في حركة الإستيطان:

(فيما تلعب حركة غوش أمونيم المتطرفة والتي تعتبر أحد امتدادات الحاخام المتطرف مئير كهانا دورا عنصريا مميزا، وهي التي جندت الدين في خدمة الاستيطان، ولهذا فهي في صراع مع جميع الحكومات من أجل الحصول على امتيازاتها الخاصة في دعم المستوطنات والوجود الاستيطاني في الضفة والقطاع والقدس الشرق
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 11, 2020 17:05

August 21, 2020

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : نقد بيان الحداثة لــ أدونيس

فصل من كتاب: الكلمة من أجل الإنسان

أدونيس (علي أحمد سعيد) نقد بيان الحداثة لأدونيس
[image error]
يقدم لنا كتاب «البيانات» الذي اصدرته أسرة الأدباء والكتاب في البحرين، بين دفتيه نصين هامين للشاعر والباحث علي أحمد سعيد «أدونيس»، يصوغ فيهما رؤيته للحداثة، وبيانه لتغيير طابع الإنتاج الشعري العربي، مشكلاً إياهما بلغة شعرية، مليئة بالتجريد حيناً، وبالأمثلة السابحة في فراغ تاريخي، لكي تغدو هذه النظرة سيدة الوعي الشعري العربي النخبوي في العالم العربي، والملهمة في حالة خلق الفصام الرهيبة للشعر العربي عن جذوره ومناخه وجمهوره، وعن حداثته الفاعلة التغييرية المنشودة.
تتجسد الحداثة الشعرية لدى أدونيس في المدرسة الباريسية للشعر، حيث الخصائص الصوفية والسريالية واللاعقلانية، فيقول: «إن شعرية الشعر الغربي العظيم تتصل بخصائص شرقية بالنبوة، والرؤيا، الحلم، السحر، العجائبية، التخييل، اللانهاية، الباطن أو ما وراء الواقع، الانخطاف، الأشراق، الشطح، الكشف الخ»(1).
إن النموذج الشعري المطلوب هو في هذا التيار الصغير من الحياة الإبداعية الغربية الواسعة، تتشكل في الاذتيين المغتربين والمنفصمين عن الواقع، والذين يحولون التخييل طاقة وحيدة منسحبة من الرصد والكشف والتحليل للعالم، لتغور في ذات المبدع المنعزل عن الشارع، وعن العلم، لتعطيه جسور الافتراق والانفصال عن «الدهماء» وعوالمهم الثقافية، وجذورهم التاريخية، وأنواع إبداعاتهم الشفاهية والمكتوبة.
الشعر النموذجي لدى أدونيس يغدو ذلك المنحى الصوفي الميتافيزيقي والذاتي، الذي يصيرُ غير مرتبط بموضوعٍ محدد، والذي يسوحُ في الذات رحلة فلسفية، مليئة بالرموز والأقنعة، التي تلغي حواجز العصور والمراحل والقوى، في عصيدة تتمازج فيها كل الألوان والأشياء، بحيث أنها تستعصي على الفهم الجماهيري الواسع، وتغدو وجبة للمتخصصين.
فالشعر النخبوي هنا، عندما يتمازج وأغراض الجمهور، ومناسبات الحياة، من ربيع وموت وثورة الخ.. يغدو فاقداً للشعر، فالشعر ينبغي أن يؤسس فوق الهياكل العظمية والإيديولوجية لبودلير ورامبو ونوفاليس، ومن هنا تتم محاكمة الشعراء العرب منذ الجاهلية تبعاً لأحكام صالونات باريس الباذخة.
فلن نعرف هذه اللحظة التي تشكل فيها إبداع هؤلاء الشعراء الفرنسيين والغربيين المطحونين تحت القطار الرأسمالي المندفع بقوة في القرن التاسع عشر نحو فتح ونهب البلدان الأخرى، وتحطيم أشكال العقلانية البرجوازية المتأسسة وقتذاك على الصراع ضد الإقطاع الديني والزمني، وهؤلاء الشعراء المنسحبين إلى ذواتهم وجماليات اللغة الصافية، خوفاً عليها من عامية البرجوازية المبتذلة، التي حولت الضمير والشعر والرسم إلى بورصات الأوراق المالية، سيغدون هم المثال في عالم ثالث مغاير، ليست فيه تلك الشروط المعرفية والاجتماعية والجمالية.
إن الوكالة التجارية الشعرية التي افتتحها أدونيس في سوق العالم العربي، لاستيراد وتصدير تلك القصيدة، راحت تعمل في شروط مغايرة، فليس الصراع ضد الرأسمالية هو ما يؤرق الكاتب العربي، بل الصراع ضد التخلف والتركيبة البطريركية وكل سدنتها وأزيائها، بدءً من اللاعقل وما وراء الواقع مثل حشود العفاريت وسيطرة وعي المقابر والأشباح والخرافات، وهو إنتاج وفير هائل نستغرب كيف يقوم أدونيس باستيراده ويضاف ذلك مع عزلة الكاتب وشرنقيته ولا مسئوليته الزمنية الراهنة!
هكذا كانت رأسمالية الغرب في بدء القرن العشرين بحاجة إلى هؤلاء الشعراء والكتاب غير الجماهيرين، غير الفاعلين، الغامضين، الذي يرحلون في دواخل عوالمهم الذاتية العظيمة الفسيحة، عبر نحت لغوي وترميزي وصوري معقد ومتراكب، محطمين سياقات الصورة الكلية في القصيدة، والبنية الموحدة في للوحة والقصة، مهمشين اللغة والصورة إلى ذرات، بحيث إن فاعلية القصيدة والكتابة التحريضية التحويلية تتقطع، وتحدث عزلة بين هؤلاء المنتجين وسوق الطلب الثقافي.
حينئذٍ تتجه الثورة نحو الشكل وعزلة الأنا وتلاعبها باللغة فتظهر ثورة تعويضية بديلة عن الثورة المطلوبة في الواقع.
وتغدو الارتدادات الغامضة إلى الماضي والأساطير بديلاً عن تشريح الواقع والحاضر، ومعرفة امتدادته في الماضي والوعي.
ولكن حتى هذه المدرسة الصغيرة لم تكن هي كل الثقافة الشعرية الغربية في ذات الفترة، حيث هناك مدارس ثورية شعرية حقيقية، لم يقم أدونيس بالاهتمام بها، أو حتى ذكرها، وكان الترويج لهذه المدرسة الصوفية والسريالية في العالم، عبر آلة دعائية هائلة، من جراء تعاون المركز المصدر والمستوردين الثقافيين في العالم التابع.
كان العالم التابع، الغارق في الخرافة والعالم الأسطوري، ليس بحاجة إلى لغة صوفية جديدة ولا إلى علائق تهديمية للأشكال العقلانية الأدبية الجنينية، والتي تترافق مع تصنيع هزيل وتطور ثقافي حديث ضحل.
فكان شوقي وحافظ والجواهري والزهاوي وعشرات الشعراء الكلاسيكيين في الوطن العربي بذرة أولى لهذه العقلانية الشعرية، المهتمة بالأغراض والمناسبات في تركيبة العمود الشعري حمالة الحطب، التي تعلم وتلهم وتخلق علاقة نهوضية وليدة.
كان الشعر يحاول أن يسير بعيداً عن «الخرافة» – بالمعنى الرديء للكلمة – نحو الواقع وتحليله مسقطاً القيود الشكلية التي تعوقه في هذه العملية الاستبطانية – الموضوعية، حيث تتداخل الذات والواقع، في تركيبةٍ غيرِ ذاتية كلياً، وغير موضوعية كلياً، حاصلة على الجذور الأولى في فهم الصراع الاجتماعي والوطني، بدءاً من السياب ومروراً بالشعر الفلسطيني حتى الشعر الواقعي الجديد.
لقد اعتمد الشعر العربي على هذا الديالكتيك غير المفهوم لدى أدونيس، وهو التداخل بين الأغراض والتقنية الفنية، بين هواجس تحليل الحياة وتعريتها واستبطان حالات الذات، بين الغوص وراء الخرافة والأسطورة وتسييسها ونقدها، حيث لم تكن ثمة أسوار بين نمو الأدوات واكتشاف الواقع.
ولكن النموذج الفرنسي، المعلب في لحظة تاريخية خاصة، تناقضت فيها الأداة الشعرية والمضمون، وتباعدت فيها القصيدة والجمهور، وتحاربت لديها اللاعقلانية والعقل، وصارت الفلسفة ضد العلم، بقي هو النموذج المهيمن على وعي أدونيس التأسيسي للشعر.
وهكذا بدأ أدونيس وبيانه الأول سنة 1980، وبيانه الثاني في سنة 1992، في لحظتين غريبتين. فقد تعرض الوعي الشعر العربي الثوري للانتكاس نظراً لانهيار تجارب البرجوازية النهضوية ومن ثم العسكرية العربية، وبدأت مفاهيم العقلانية والعلم والنهضة وغيرها بالتكسر والتبعثر، وانسحب الأدباء والمثقفون من الفعل التغييري، وهبت رياح الأسطورة والدين والطقوس مؤكدة نبؤة أدونيس!
لقد صار الغموضُ ولغة الرموز والأساطير هي بنية أغلب الشعر العربي السائد، وفشلت لغة الموضعية والتحليل في الدخول إلى عرين الأسد المتوحد والمتفرد. ومثلما عبر هذا عن سقوط التجارب الثورية وهشاشة التكوين البرجوازي التحديثي العربي وغلبة الحياة البطريركية، فقد وقد وجدها مثقفون وشعراء فرديون لغة مناسبة للمناورة الاجتماعية والإيديولوجية.
أي أن ما دعا إليه أدونيس من فردانية متفتحة على الداخل الباطني التهويمي هو ما انتشر وسيطر على مشهد واسع من الشعر العربي المعاصر، مدمراً الأشكال المقاربة للقراء، نحو أشكال حرة نثرية وإيقاعية، مليئة بإدعاءات الحداثة والتجاوز والعصرنة.
إن الدمارَ الاقتصادي والثقافي الذي سببهُ الاستعمارُ، وقمع الأنظمة العسكرية، وبروزَ هيمنة الدول البترولية الإقطاعية على الفضاء العربي، وغيرها من السببيات العامة، أدت إلى تراجع لغة التحليل والنقد الشعرية، مما جعل مقولات أدونيس تنتصر.
ولكن بعد ثلاثة عشرة سنة، وفي البيان الثاني يقول:
«قلتُ: ينبغي التأسيس لمرحلة جديدة: نقد الحداثة (..) وهو قولٌ يبدو الآن أكثر صحة وضرورة منه في أي وقت مضى، وخصوصاً إن مفهوم الحداثة يزداد التباساً، وإن الكلام عليها يكاد أن يصبح لغواً»(2). ص 45.
وهكذا يجري التركيز في البيان الأول على الطقوسية والصوفية واعتبار الشرق موطن الروحية، ورفض الغرب المتعقلن، والاهتمام بالشرق المتصوف من داخله، باعتباره بضاعة الشرق (الأصيلة). فهناك جوهران متضادان متنابذان؛ الأول هو الشرق وهو الروح والأسطورة والباطن واللاعقل، والثاني هو الغرب أي العقل والعلم والظاهر، أي أن هناك منتج المواد الخام والخرافة والتابع، ويقابلهُ المصنع الغربي وصاحب العلم المسيطر.
للأول الأسطورة والدين والشعر، وللثاني المختبرات والنهضة الصناعية والعلمية. للأول الحياة الغيبية والماورائية، وللثاني الحياة الواقعية والدنيا وحكم الكرة الأرضية.
ويغدو شعراء النموذج الفرنسي – الأوربي هم نفحة الشرق المتصوف الداخلي المتسلطن في تنور الغرب العقلاني البارد.
هذا ما نقرأهُ في البيان الأول، وما أكدهُ أدونيس ودعمتهُ هزيمة البرجوازية العربية النهضوية والعقلانية والعلمية، ومجيء البرجوازية العربية – الإسلامية اللاعقلانية، والأسطورية، والخرافية الطالعة من الريف ومن أقبية الحكومات البيروقراطية الفاسدة.
فلقد أكد الشرقُ صحة رؤية أدونيس له فاستعاد ثيابه القديمة، ولبس عباءة الأشباح، وصعد تموز من انفاق العالم السفلي. ألم يكن هذا هو بسبب الفعل التدميري للغرب الرأسمالي التوسعي، محول المدن التصنيعية إلى ريف زراعي ودكاكين مستورِّدة؟ أليست هذه هي البضاعة الفكرية الشعرية، حشيشة الشرق العائدة إليه؟
بعد هذا الدمار الاجتماعي والشعر يصرخ أدونيس في بيانه الثاني:
«أحب أن أشير إلى أننا أخطأنا، منذ البداية في فهم حداثة الغرب، لم ننظر في ارتباطها العضوي بالحضارة الغربية، بأسسها العقلانية خصوصاً، وانما نظرنا إليها بوصفها أبنية وتشكيلات لغوية»(3). ص 47.
لقد كان يؤكد في المرحلة السابقة على اللاعقلانية، على الخرافة والعالم الباطني والحدسي، وحين تحول هذا العالم إلى حقيقة مرئية واجتماعية صارخة، تنصل منه، ورفضه.
حين جاء المخلِّص بأصوافهِ الخشنةِ وخلاخيلهِ الشبحية، راح أدونيس يدعو لشرق آخر، لشرقٍ جديد، عقلاني، حر، وهنا تبدلت المواصفات بين الشرق والغرب، وراح كلٌ منهما يأخذ «جوهراً» مختلفاً.
فقد صار الغربُ الحداثي هو الأنا والمرجعية الإبداعية وعالم لا سيطرة فيه للرموز الماضوية وهو الانفتاح واللانهائية وهو النقد والحركية وهو الفرادات والانفجار المعرفي الذي تُهمش فيه الرؤى الميتافيزيقية وهو الاحتمالية والتعددية والدنيا، وهو أمر صحيحٌ إلى حد ما، (4).
والشرق هو العودة للمعلوم والتأكيد على «النحن – الأمة» والمرجعيات المحافظة من كل نوع، وهو الصلاة للقبيلة والحزب والإيديولوجيا وسيطرة المؤسسات الماورائية والقبول والخضوع والإيمان والآخرة.
إن هذه التقسيمات والمواصفات هي ابنة اللحظة المعاصرة، فقد امتلأت السوق الشرقية بكل البضائع الشعرية والفكرية التي كان يدعوها لها أدونيس سابقاً، وجاءت كتلُ البرجوازية العربية الريفية والبيروقراطية الحكومية لتملأ الأفق بغيلان الأسطرة العتيقة، ولتكرس الاتباعية والانغلاقية بأقسى صورها، فلا بد لأدونيس أن يميز نفسَهُ عن هذا التيار الكاسح، الذي كان من المروجين لدعامته الفكرية الأولى، وإن كان بشكل مختلف. لقد جاء الخرابُ البشع.
لقد تم التتريث الديني للواقع العربي المعاصر، ونبذ التتريث الفينقي والفرعوني والسومري الخ.. بكل رموزه وأساطيره، وحلت العودة للأشكال المتيبسة من الشعر، وبدلاً من الحداثة الشكلانية المتطرفة في الذات الحرة واعماقها اللامحدودة، ونخبوية شعراء نهاية القرن الفرنسي، جاء الغزالي وابن تيمية، واستعادت الأوزان الخليلية نفوذها، وركنت مدارس الحداثة النخبوية في اقصى حالات العزلة والتآكل الروحي.
إن البرجوازية العربية المدنية، بعودتها للتراث القديم والوسيط، مثل البرجوازية العربية الريفية والحكومية الراهنة، بعودتها للتراث الديني الطائفي فحسب، كما يفعل أدونيس نفسه عبر استلال اسمه من التراث الفينقي، تقومٌ باستعادة الماضي، بأسطرة الحاضر، وليس بتحليله وتشريحه العلمي، وحشد الطاقات البشرية لتغييره.
ومن هنا تكون نظرتها للتراث والماضي والحاضر، مؤدلجة في لحظتها السياسية الراهنة، في انتقائيتها وانتهازيتها العملية، فتكون مع الشرق أو الغرب، أو مع الماضي أو الحاضر أو مع العقلانية أو اللاعقلانية، تبعاً لمصلحتها المؤقتة واتجاه البورصة الاجتماعية.
وهكذا كان أدونيس مع الغيبية واللاعقلانية حين كانت حشود العقل وانصال الشعر والأدب تشرحُ الواقعَ وتثورهُ وحين كان زخم القوى الديمقراطية والعملية يهز العالم القديم والتبعية للغرب المسيطر ويطرد الخرافات من الوعي.
وصار أدونيس ضد عفاريت الماضي حين تحولت إلى إطلاقية وحشد من الجمود، محتفظاً بذات خصائص الشعر الفردي النخبوي بجذوره الفرنسية الصالونية مع بهارات العقلانية المخففة، التي لا تتحول إلى تحليل علمي كشفي ونقدي للواقع، وتشكل الجسور مع المتلقي، وتحرض القارئ، وتطلق الجمهور في الساحة الشعرية، حتى تظل علائق العلاقة مع الغرب المسيطر مأمونة مستقرة.
ومن هنا تصير أغراض الشعر ومضامينه وشعر الصعاليك المكافح وأشعار الفرق الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي وشعر النهضة، والشعر العامي الجميل وكل فلكلور الشعب، خارج الإبداع المقتصر على نمطية واحدة فقط، هي النموذج الصوفي والسريالي المتكرس في لحظة أوربية برجوازية آفلة.
هكذا لا تغدو مثل هذه الحداثة الشعرية والتثوير الإبداعي سوى رؤية محافظة، منغلقة على ذاتها، مركزة على مستوى عقلي واحد شاحب، وعلى علاقة مبتورة بالقارئ، خائفة من الإمكانيات الثرة للشعر المقاتل، والإبداعات اللامتناهية للشعب.
وعي التاريخ الإسلامي عند أدونيس
يقترب الشاعر والباحث أدونيس من الوضع الإسلامي التأسيسي الذي شكل الثورة التمهيدية، لكنه يرفض أن يكون ثورة، وأن يمثل نقلة نهضوية، والصراع بين المحافظين والتطوريين يأتي لاحقاً.
من هنا تغدو السيرة النبوية والقرآن ليسا هما مفجرا الثورة وعمليات التغيير، لكن التجديد والمعارضة يأتيان على نحو غير محدد في وعيه بدءً من أبي ذر الغفاري.
وهكذا فإنه يقترب من الوضع الموضوعي ثم لا يستطيع أن يمسك خيوطه، يقول:
«وكان يقابل هذا الانقسام في المعاني انقسام اقتصادي / اجتماعي: من جهة، أشراف هم الطبقة القرشية وحلفاؤها، ومن جهة ثانية، طبقة (الغوغاء) و(عبيد) و(نزاع قبائل) و(سودان)، كما كانت تسميها الطبقة القرشية السائدة. وكانت السيادة، طوال القرون الهجرية الثلاثة الأولى، للطبقة القرشية وحلفائها. ولهذا كانت السيادة لثقافتها، ولمنظورها الديني بخاصة، طوال هذه القرون.»(5).
إن هذا التقسيم الاجتماعي الأساسي هو الذي يحدد المنظور التاريخي لتطور الإسلام في القرون الأولى، وبطبيعة الحال كان الانقسام الاجتماعي موجوداً بين قريش والفقراء اللاقرشيين، كما كان هناك انقسام في صفوف قريش ذاتها بين كبار الأغنياء ومتوسطي الحال والفقراء في هذه القبيلة المسيطرة على المدينة الدينية العاصمة.
يقوم أدونيس باختزال التناقضات الاجتماعية وتحويل التناقض بين قريش والفقراء اللاقبليين، إلى تناقض وحيد مهيمن على الحركة التاريخية، وهذا يؤدي به إلى سلسلة من الأخطاء.
فإذا كان الصراع بين قريش والفقراء العبيد هو محور الحركة التاريخية وتغيير البنية الاجتماعية فلم لم يقم هؤلاء الفقراء بقيادة الحركة الصراعية أو نحن لم نرهم إلا كحلفاء وأصدقاء لجماعة من قريش ذاتها؟
ما الذي يدعوهم وهم المستغلّون والمهانون إلى التعاون مع جماعة محددة من قريش؟
ولا نعرف لماذا، إذا كان هذا التناقض المجرد والذي فرضه أدونيس على الحياة المكية وقتئذٍ صحيحاً، لمَ لمْ يؤسس هؤلاء العبيد وعياً فكرياً أو سياسياً خاصاً بهم، غير ذاك الذي ظهر بين نفرٍ من قريش؟!
لا بد أن يكون هؤلاء العبيد والسودان الخ.. قد وجدوا في الإسلام شيئاً جذبهم، ولكن في هذه الحالة لا بد أن ثمة عناصر فكرية وسياسية هي التي استدعت انخراطهم في الإسلام التأسيسي، قبل أن يتشكل وعي لدى أبي ذر الغفاري أو غيره من الجيل المعارض في زمن عثمان والدولة الأموية، وهذا الشيء الذي جذبهم هو الذي جعلهم يقاومون التعذيب والقهر لدى سادتهم، الذين نظروا للإسلام باعتباره دين الفقراء والعبيد والمستضعفين.
ولكننا في هذه الحالة نكون قد وصلنا إلى الطرف الأقصى من المعادلة الإندونيسية، فهؤلاء الفقراء والعبيد ظلوا حلفاء لقيادات الحركة الإسلامية الناشئة، أو هم من القوى «الشعبية» بتعبيرنا المعاصر، المنظمة للحركة، وهنا ندرك أن ثمة ثغرة في تعميم أدونيس حول الطبيعة الاجتماعية للإسلام.
فإذن كانت هناك قوة اجتماعية في قريش لم تتطابق تماماً مع العبيد ولا مع «سادات» قريش في آن معاً. هذه القوة الاجتماعية، وهي فئة التجار المتوسطين، هي التي جعلت التحالف مع هؤلاء الفقراء جزءً من رسالتها التاريخية، وفي سبيل إزاحة الملأ القرشي المستبد.
وهذا بطبيعة الحال يغير التناقض الرئيسي الذي افترضه أدونيس للحركة التاريخية، ويجعل الحركة الإسلامية التأسيسية قوة تقدمية في التاريخ منذ البدء، ومن هنا ندرك عدم تمكنه من العثور على جدلية التاريخ المركبة في هذه اللحظة المفصلية.
علينا هنا أن نقرأ التعميم الإندونيسي الاجتماعي السابق والقائل بشكل تعميمي عن «طبقية قريش وسلطتها» وخطورته على الآراء التالية للباحث، فهو يقرر مسبقاً وجود منظور لقريش موحدة متراصة اجتماعياً وفكرياً قد ساد طوال الثلاثة القرون الهجرية الأولى.
هذا الإقصاء لتقدمية الرسالة المحمدية وتوحيدها بأعمال المحافظين، هو ما يمكن أن نستنتجه من هذه السيادة المجردة والمعممة لـ«ثقافة» قريش التي يطرحها أدونيس، فالدعوة الإسلامية واجهت أسياد قريش وصارعتهم وفلت من سيادتهم المطلقة على المدينة، ليس في سبيل تدمير قريش كقبيلة، ولكن في سبيل دمقرطتها وتحديثها وتعريبها. وفي سبيل تشكيل جنين الدولة «القومية» الإسلامية العربية العالمية.
إذن كانت هناك تداخلات وتباينات داخل قريش، ووجود الفئة المتوسطة من التجار وقيامها بالتحالف مع السودان والعبيد، هو مظهر التجلي لرفض الأرستقراطية والتعالي الطبقي، وهذا الاتجاه للتوغل الشعبي والثوري هو الذي كان يجذب هؤلاء الفقراء، ثم رعاة الجزيرة وقبائلها الكثيفة، للدعوة، وهو الذي حرك التاريخ الجاهلي وتجاوزه وصنع النهضة. أما حين تمكن الأشراف من السيطرة على الدولة الإسلامية وشكلوا قراءة مختلفة للتاريخ والتراث، فهذا زمن موضوعي آخر.
وينتقل أدونيس من جمود ومحافظة الدعوة الإسلامية كما يسميه إلى نصوصها، فيقول عن الوحي:
«الوحي، من حيث أنه تأسيس وبدء مطلقان، يتجاوز الأزمنة: الماضي، الحاضر، المستقبل. فهو الماضي من حيث أنه الأول، وهو الحاضر من حيث أنه المستمر، وهو المستقبل من حيث أنه الأخير المطلق»، ص68، ويضيف «ولهذا لا قيمة للزمن التاريخي إلا من حيث صدوره عن زمن الوحي. فالوحي حاضر اليوم، وغداً، حضوره يوم نزوله»(6).
فكما كانت الحركة الإسلامية محافظة فإن الوحي بهذا لا يجعل الوجود إلا متضمناً فيه، وهو بهذا «أي الوحي» يلغي تقدم الزمن وفعل الإنسان، كما يتأول أدونيس.
إن أدونيس لا يعالج الحركة الإسلامية التأسيسية بعد الفقرة التي قالها في البدء تحليلاً تفصيلياً، سواء تاريخية الحركة أم نصوصها، ثم يقدم مثل ذلك التعميم السابق عن الوحي، فبدا كحكم فوقي لا يتأسس من قراءة الوحي داخل الحركة التاريخية.
فإذا كان الوحي يتداخل والحركة التاريخية والرسالة المحمدية ويظهر فيه الناسخ والمنسوخ، فهذا التنجيم القرآني، أي نزوله منجماً، متفرقاً، متابعاً للأحداث والتطورات، يدل دلالة واضحة وأكيدة على انفتاحه على المستقبل والتقدم، وتركه للإنسان تغيير مصيره وتشكيل عالمه.
إن الغيبي يتمظهرُ ويتفتحُ بشرياً، فهو يتجلى في صعود الإرادات وتحول المواقف ودخول العبيد والفقراء والبدو والتجار وأهل المدينة في خضم التحول، أن فعل الإرادة البشرية الملموس هو الذي يكون المطلق، فليس ثمة تضاد مطلق بين الوحي والناس، بين النص والفعل التاريخي، بين الكلمة والثورة.
ولكن إذا قامت الطبقات الاستغلالية فيما بعد بتشكيل صورة معينة للوحي والرسالة ولهذه العملية التاريخية المركبة، منتزعةً منها الفعل البشري وظروف الثورة وملابسات الزمان والمكان، فهذا جزء من الوعي المحافظ المعبر عن تكدس الثروة المادية في جيوبها، وبالتالي لتملك الثروة الثقافية للتاريخ العربي ووضعها في خدمة الأولى.
يقوم أدونيس بعد ذلك بمتابعة متقطعة، تطير فوق ظروف المراحل المختلفة، منتزعة جوانب من الفكر الديني المحافظ، باعتباره يمثل الإسلام بكليته «السنية» بدءً من عمر بن الخطاب مروراً بالشافعي حتى الباقلاني. ويُلاحظ هنا كيف لم يُدخل أي أسم من الإمامية في هذا الشريط المحافظ الـمُعمَّم.
أي أنه ينظر للإسلام المحافظ باعتباره مبادئ السنة، التي تشكلت منذ البدء، في تصوره، وهكذا فحتى مسائل الطوائف تغيب تاريخيتها عنه. فالطوائف لم تتشكل إلا بعد قرون من الإسلام الأول. فيغدو وعي أدونيس وعياً طائفياً، أي يستند إلى وعي طائفي، فيرى الإسلام المحافظ باعتباره وعي تجسد في طائفة السنة، في حين أن الطائفة الأخرى تمثل الرفض والمعارضة.
يغدو التاريخ الإسلامي تاريخاً طائفياً منذ البدء لدى أدونيس ويتجلى ذلك في استشهاده رقم (112) في صفحة 332 من ثبت المصادر، حيث يستعين بكتاب الكامل لأبن الأثير الذي يروي وصية الإمام علي بن أبي طالب لولديه الحسن والحسين اللذين يطالبهما بضرورة نصرة الحق وبخصومة الظالم، ثم يروي وصية معاوية لأبنه يزيد الذي كرس فيه السيطرة والتعالي.
وكلا الوصيتين تعبران عن منحى كلٍّ من الإمام والطاغية معاوية، لكن أدونيس يأخذ النصين الوصيتين ليستنتج منهما منحيين تاريخيين مجردين مُعمَّمين فيقول:
«وتكشف هذه الأقوال على منحيين أساسيين في النظر والعمل: الأول هو الذي ارتبطت به، تاريخياً، وانبثقت عنه مختلف التحركات التي تسير في أفق التحول. والمنحى الثاني هو الذي ارتبطت به مختلف التحركات التي تسير في أفق الثبات».
ولا خلاف على استغلالية معاوية وأبنه ودولته، ونضالية الإمام وأبنائه، إلا أن تراث الإمام علي النضالي غدت له سيرورة خاصة بعد الضربات الموجعة لآل البيت النبوي، وحدوث ظاهرة الانكفاء ومحاصرة الأمويين لهم، ثم ظهور عناصر فكرية مغايرة لزمنية ووعي الإمام علي السابق، حيث بدا يتخذ طابعاً غيبياً مفارقاً، فقد ظهر منحى آخر مع المنحى النضالي الواقعي للإمام، وهذا ما سيشكل غيبيات واسعة لدى قسم كبير من الإماميين، وسيجد تجسيداته في الإسماعيلية والإثناء عشرية وهما تتحولان إلى سلطتين فتعجزان عن إنتاج نظام مغاير للإقطاع، تماماً كما حدث لدى السنة، فالبنية الاجتماعية التقليدية انتصرت على العناصر الديمقراطية والتنويرية، الموجودة في هذه المذاهب، بأشكالٍ مختلفة ومستويات متعددة، حسب التطور المركب والمعقد للأمم والقوى الاجتماعية الإسلامية وهي تتشكلُ في عصر محكوم بأسلوب إنتاج إقطاعي زراعي محدود التطور الحرفي الصناعي.
ولا تختلف مقدمة كتاب أدونيس (الثابت والمتحول) في طبعته الجديدة لسنة ألفين وأثنين عن المقدمات القديمة، مما يعبر عن ثبات موقف الشاعر والباحث خلال هذه الفترة ورؤيته لتطور الوعي والتاريخ العربيين الإسلاميين.
وتستندُ المقدماتُ على تناقض جوهري لم يكن بإمكانه حله.
فمنذ البدء يقوم بتعريف الثابت بالشكل التالي:
«أُعرف الثابت، في إطار الثقافة العربية، بأنه الفكر الذي ينهض على النص، ويتخذ من ثباته حجة لثباته هو، فهماً وتقويماً، ويفرض نفسه بوصفه المعنى الوحيد الصحيح لهذا النص..»(7).
في المقدمة الجديدة لا يطرح الثابت، أو المتغير، كحركة تاريخية، بل كمبادئ مُجردة خارج التاريخ، فيغدو الوعي العربي بنيةً أساسها الثبات، وهو المشكل للتاريخ الفكري والباقي إلى الآن.
أما المتحول فهو «الفكر الذي ينهض، هو أيضاً، على النص، لكن بتأويل يجعل النص قابلاً للتكيف مع الواقع وتجدده، وأما أنه الفكر الذي لا يرى في النص أية مرجعية، ويعتمد أساساً على العقل لا على النقل.»(8).
عبر هذا التجريد تغدو البنية العربية الفكرية مؤسسة على الثابت، فهي ثقافة المستوى الأول السائد: «كانت الثقافة في المستوى الأول هي ثقافة النظام السائد، أي الثقافة التي تقوم، شأن النظام، على دعوى التمسك بالأصول، والمحافظة على القيم الموروثة، كما هي، أو كما نقلها الخلف عن السلف.»(9).
تغدو الثقافة العربية المهيمنة هي الثقافة المحافظة أما الثقافة المعارضة فهي تالية، وهنا يظهرُ التناقضُ الأساسي في هذا الوعي الأدونيسي، فإذا كانت الثقافةُ المحافظةُ هي التي صاغت الإسلامَ، وجاءت الثقافةُ المعارضةُ والمغيرة في وقت لاحق، فلماذا استطاعت الثقافة المحافظة أن تشكل زخماً تاريخياً، ويحتضنها الناس؟
فإذا لم يكن الإسلام نقلةً تاريخية وتحولاً، أي إذا لم يكن هو ذاته معارضة لتخلف سابق، فكيف أمكنه أن يحرك التاريخ؟!
إن أدونيس بوضعه الثابت والمتحول في كيان لا تاريخي، فلا نعرف من هو المؤسس للبنية الإسلامية منهما، أي من هو الذي جاء أولاً الثابت أم المتحول؟ فإذا كان الثابت جاءً أولاً فهو متحول ضد ثابت قديم، أما إذا كان المتحول جاء أولاً فهذا يكون ضد المقولة التجريدية هذه. أي يكون المتحول المؤسّس هو ذاته تقدماً.
لكن أدونيس يجنبنا هذه الحيرة بقوله بأن الثابت هو الأصل، فالإسلام كيان محافظ منذ البدء، وهو يقيمُ حججه في مقدماته التي نفحصها هنا، على استشهادات ليست من الإسلام الأول، فهو يختار نصوصاً للمؤرخ ابن كثير وابن حزم وابن تيمية، وهذا الاختيار لنصوص أفرادٍ متأخرين يؤكدُ بأن بنية الثبات هي الأصل وحتى لو كانت مبادئها وأصولها متأخرة، عن الإسلام الأول بعدة قرون!
ومن هنا تغدو الحركةُ التاريخيةُ التي تشكلت سابقاً لا قيمة لها، فالمبادئ المحافظة لا تغدو نتائجٌ لحركةِ صراعٍ اجتماعي وإيديولوجي، بل تغدو مبادئ مُسّبقة، مبثوثةً في كيان الدين منذ البدء.
ولن تنفع حركة الصراع الاجتماعي في تكريس أو في نفي هذه الصفات، فالبنية التجريدية التي أقامها أدونيس للإسلام هي في مستويين محافظ غالب ومهيمن ومستوى متمرد ثانوي تشكل لاحقاً.
والتناقضُ الجوهريُ في هذا الوعي كما أسلفنا هو في كيف يكون الثابت مشكلاً لحركة تاريخية فاعلة ومغيرة؟ فإذا كان منذ البدء محافظاً وجامداً كيف أمكنه أن يدخل التاريخ ويغيره؟!
علينا أن نبحث أسباب أدونيس لتبرير أو تفسير هذا التناقض. فهو يحس بهذا التناقض لكنه لا يقوله، أي أن التناقض لا يظهر على صعيد وعيه، فيتجه إلى الجذر الغيبي للدين، فالدين بما أنه حركة غيب، فهو بلا زمن، وهو محافظ بالضرورة لأنه يحدد التاريخ بشكل مسّبق وأبدي، فيقول:
[.. أن الدين، بما هو وحي، أي بما هو كلام الله، ليس له ماضٍ، فلا تنطبق عليه مقولة التغير والنقص.](10).
يقوم أدونيس إذن بفلسفة الثبات في الإسلام باعتباره شيئاً غيبياً، فيجعل الثبات هو الأصل، وأي تحرك هو [في النور الأصلي الشامل، نور النص، أي أنه انتقال متدرج في هذا النور](11).
ومن هنا يستشهد بأقوال المحافظين بأن [الأصل المؤسس – العهد النبوي الأول، وكل انحراف عنه إنما هو انحدار وهبوط](12).
لكن هذا أيضاً لا يفسر كيف أن الإسلام الأول كان مركزاً للجذب التاريخي والقبول الواسع وتغيير الواقع، فإذا كان جامداً محافظاً كيف يمكنه أن يغير ويشكل مراحل جديدة ويطلق الطاقات التحويلية والثورية؟ ولو قال الإسلام نفسه بأنه مُستمد من الغيب، فهذا لا يكفي ليدخل التاريخ، الذي يحتاج إلى حركة تاريخية ملموسة، أي أن الغيب لا بد أن يتمظهر بشرياً، ويتألق اجتماعياً، وينمو عبر حيثيات وقوانين التاريخ، وليس بشكله الغيبي المنقطع عن السيرورة التاريخية وعن الدخول في الطبقات وفي الوعي.
فالقرآن يستند إلى قوانين اللغة العربية الموجودة قبله، والحركة الإسلامية كذلك تنمو عبر قوانين التطور الاجتماعي. أي أن الإلهي يتجسد بشرياً ولا يغدو الغيبي منفصلاً عن المكشوف والمنظور.
ولهذا فإن تناقض أدونيس يتفاقم هنا ولا ينحل. ويعود السؤالُ بصيغة أخرى، فنقول بأن الغيب ليس انقطاعاً عن الحياة، والنور يصير شمساً ومعرفة ونضالاً، فلماذا يكون الثبات والجمود هو المؤسس الأول للإسلام وهو المهيمن؟
يتوجه أدونيس بعدئذٍ إلى «البحث» عن حلول أخرى للتناقض الجوهري فيقول بأنه يرفض أن يجد حلولاً سهلة لتفسير التاريخ الإسلامي، كالحديث عن تفسير البنية الفوقية في المجتمع الإسلامي العربي الأول بأنها «انعكاس لبنيته التحتية، وهو ما أخذه عليّ بعض النقاد. فهذا تفسير من خارج، وهو إسقاط. »(13).
وهو يتصور بأن هذا التداخل بين البناء الفوقي والبناء التحتي يشترط شروطاً فكرية معينة، وليس باعتباره قانوناً في مدرسة فكرية معينة، لرؤية التاريخ، فالمادية التاريخية هنا تعتبر ذلك ظاهرة دائمة في المجتمعات، ولا تنتظر أية شروط ثقافية لتطبيق القانون السالف الذكر، ولكن أدونيس بدلاً من أن يرفض هذا القانون المادي التاريخي، الذي يتضاد مع رؤيته، يقبله بشروط مضادة لطبيعة هذا القانون المادية، فيقول:
«ثم أنه لا يصح إلا إذا كان الوحي والشريعة يعاشان بوصفهما شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي يتطابق مع قوى الإنتاج في العصر الإسلامي الأول، ومع علاقات الإنتاج، وتوزيع العمل… الخ»(14).
هنا يواصل أدونيس البحث عن جذور الثبات عبر الغيب فقط، فاصلاً الغيب عن الظروف الاجتماعية، فكأن الغيب يبقى في ذاته الماورائية ولا يدخل نسيج الحياة، فيبقى الميتافيزيقي ميتافيزيقياً، والمجردُ مجرداً، فلا يحدث النسج التاريخي هنا، فلا نعرف كيف يمكن أن ينتصر العرب المسلمون والحالة هذه؟!
ألم تكن لديهم خيول، والخيول احتاجت إلى عدة آلاف من السنين كي تأتي إلى الجزيرة العربية، وتتروض وتغدو عربية، وتصير جزءً من أدواتهم الحربية، وكذا الإبل والسيوف وتكون المدن وتشكل القبائل والشعبان الكبيران: المضريون واليمانيون الخ..
وإذا قلت عن الظروف المادية البسيطة هذه فقل ذلك عن الشروط الاجتماعية والثقافية الُمركبة، مثل مسألة تكون اللغة العربية وسيرورتها التاريخية الطويلة، وتغدو الأمور أكثر تركيباً مع الحركة الإسلامية، حيث تنمو هذه على قبول البشر والإرادة والفعل الشعبي، وقدرة الحركة على التغلغل بين الناس ومعرفة مطالبهم ونسجها في فعلها التاريخي وانضمامهم إليها الخ..
أي أنه يمكن أن ندرس الظاهرة الدينية عبر تقدير طابعها الغيبي كما يقول الإيمانيون النصوصيون، ولكن أيضاً يمكن أن نقرأها في ضوء كونها ظاهرة تاريخية، فلا نفصل بين المقدس والموضوعي، أي أن نقوم بتقدير جذور النص على المستويين الغيبي والواقعي.
إن أدونيس وهو لا يقرأ الشروط البشرية لظهور الحركة الإسلامية، يقترب من الموقف المحافظ الذي ينقده، فيؤكده عوضاً عن أن ينفيه.
فإذا كان الإسلام حركة محافظة منذ البدء فهذا ما يقوله المحافظون، والذين بعد ذلك ينفون العلاقات والسببيات البشرية التي تكونت لنمو الإسلام وانتصاره، فيجعلونه غيبياً محضاً، وبهذا يجمدون إرادة الأمة، وينزوعون قدراتها على العلوم والتجديد.
وهذا ليس سوى موقف الأشراف الذين احتكروا تكوين صورة خاصة للإسلام، وهذا ما فعله فقهاؤهم ومؤرخوهم، وهنا يقوم أدونيس بنقد هذه الصورة باعتبارها الإسلام المؤسس، واختياره لممثلي الأشراف، واليمين الديني، وهم أبن كثير وابن حزم وابن تيمية، أي كل الإيمانية النصوصية المحافظة التي هي ذاتها مستويات ومتباينة «ففرق كبير بين ابن كثير وابن حزم من جهة وبين ابن تيمية من جهة أخرى»، بعد أن تمكن هذا اليمين من صنع صورة اجتماعية مستبدة للإسلام، وقد أسماه «الثابت» فهذا ليس سوى الإقطاع الطائفي، ولكن كيف يكون الثابت وقد جاء متأخراً؟ أي جاء بعد أن لم يكن الإسلام إقطاعاً طائفياً؟
بعد أن يعجز أدونيس عن الخروج من ذلك التناقض الجوهري غير المحلول، يتوجه للخروج من دوائر البنية الاجتماعية، فيقول:
«لا جدال في أنه من المهم أن ندرس الشروط التي نشأت فيها ظاهرة ما (ثقافية، أو اجتماعية، أو سياسية.. الخ)، لكن من الأهم أن نعرف معناها. ولا نستطيع أن نعرف معناها من مجرد معرفة شروطها، وإنما نعرفه حين نعرف القوة التي تمتلك هذه الظاهرة وتوجهها وتعبر من خلالها عن نفسها. »(15).
هنا إحساس بأهمية قراءة الشروط الموضوعية لتكون الظواهر التاريخية، ولكن هل تنفصل معاني الظواهر ودلالاتها عن شروطها ومناخاتها؟
وبالتأكيد تتجاوز الظاهرات شروطها وظروفها، وإلا لما كانت ذات أهمية، وفي هذا التعبير استشفاف بأن ثمة قوةً تحوليةً في الإسلام المؤسس، لكن أدونيس لا يقر بكون ظهور الإسلام ثورة اجتماعية نهضوية، بل بعكس ذلك كما سيتجلى لاحقاً، ولهذا يروح للبحث عن القوة التي تمتلك تلك الظاهرة، بدلاً من أن يتابع تشكلها في شروطها ونضالها للقفز بالمنطقة من تلك الشروط الصعبة المتخلفة، فيؤكد بأن التغيرات الإيجابية والتقدم جاءت من خارج الإسلام العربي. فيقول:
«مع الفتوحات العربية الإسلامية، أخذ ينشأ هامشٌ يضيق ويتسع، بحسب الأوضاع والحالات. ويعودُ السببُ في نشوء هذا الهامش إلى التعددية القومية – الثقافية: لم يعد المجتمع الإسلامي / العربي، بعد الفتوحات متجانساً، قومياً وثقافياً، كما كان قبلها. »(16).
وهنا نرى بأن التغيرات الإيجابية نتجت من احتكاك العرب بالعالم المفتوح، ولكنها ظهرت من فعلِ عوامل قومية ثقافية، أما الظاهرة الأصلية، أي الإسلام المؤسس، فلم يكن يحمل شيئاً إيجابياً، بل تكونت التغيرات الإيجابية من الهامش، وهذا الهامش هو الذي صنع الظواهر المضيئة حسب رأي الباحث:
«هكذا أصبح، بعد أن دخلت عليه عناصر تنوع وتعدد، منظومة من التناقضات / أي التوترات. هكذا نرى الصوفية إلى جانب الفقهية الشرعية، وألف ليلة وليلة إلى جانب علم الكلام والفلسفة، والنزعة الشعوبية إلى جانب النزعة القومية، والفكر الإلحادي إلى جانب الفكر اللاهوتي، وحرية الحلم والرؤيا إلى جانب الحكمة العملية والتعقل. »(17).
إذن فإن الإسلام المؤسس لم يكن يحمل بذوراً وإمكانيات للحداثة، فهذه جاءت من ظهور الهامش، فيتضح بشكل جلي بأنه «هو الثابت» وأن المتحول هو هذه العناصر الحديثة التي تشكلت في الفضاء التاريخي الذي شكله العربُ، كما لو أن البنية الاجتماعية / الثقافية التي شكلوها كانت بنية صلدة لا تناقضات فيها، ويهيمن عليها الثابت المتخلف، ولم يظهر المتحول إلا عبر الشعوب الأخرى!
تتوارى هنا السيرورة التاريخية للبنية الاجتماعية، فالعرب البسطاء البدو الذين عبر بساطتهم هذه دمروا أنظمة الاستبداد العريقة، وحملوا ميراثاً ديمقراطياً عبر ثورتهم تجلت في فرق النضال المديدة، وقدرتهم على إعادة سبك المنطقة في عالم كوني، يتحولون هنا إلى جلمود صخر حطه السيلُ من الصحراء الجامدة، فتأتي الإنجازات من الخارج.
إن الداخل العربي الإسلامي، والخارج القومي غير الإسلامي، عبر وعي أدونيس في هذه المقدمة لكتابه الثابت والمتحول، يغدوان متنافرين متباعدين، ولا يتشكلان في سبيكة تاريخية متداخلة، فالعرب لا يضيفون بل يُضاف إليهم، وهم لا يغيرون بل تأتيهم التغيرات من الخارج.
إن العملية التاريخية هنا غير ديناميكية وغير جدلية، فمنذ البدء يرى أدونيس الداخل العربي المشكل للعملية التاريخية بأنه غير ذي أهمية، رغم أنه في هذه المقدمات لا يقول عنه شيئاً كبيراً، بل نستشفُ ذلك، ثم يغدو الإسلام هو الوعي المحافظ باتجاه معين، بعد أن تكرس قمعاً وشراءً، أي بعد أن تمكنت قوى الإقطاع السياسي والمذهبي من تفريغه من دلالاته الثورية، لا أن يتم درس هذه العملية الثورية التي شكلها الإسلام وسببيات تمكن هذه القوى المحافظة بمختلف المذاهب، من ذلك التفريغ، وهو أمر يشير من قبل أدونيس إلى تحميل مذهب معين مسئولية تشكيل الطابع المحافظ في الإسلام، بدلاً من رؤيتها كعملية اجتماعية تجلت في كل المذاهب والأديان في المنطقة، لأسباب تتعلق بمشكلات التشكيلة الإقطاعية ومحدوديتها، أما تحميل «السنة» مسئولية صنع التخلف فربما هو الأمر الذي يشير إليه أدونيس عندما قال بوجود قوة «محافظة» تجلت منذ الإسلام الأول، وإن هذه القوة صبت الدين بشكل معين. وهنا تناقض مع وقائع مشهورة مثل كون ابن رشد وابن خلدون السنيين المالكيين هما ذروة العقلانية في العصور الوسطى كلها!
هنا نرى العملية الفكرية الأدونيسية وهي تحلل التاريخ بعد أن أنجزت صنعه القوى المحافظة ونحّت العناصرَ الديمقراطية والنهضوية، أي أن أدونيس يرى الإسلام كإقطاع مذهبي، بعد أن رسخ ذاته، وليس في مجرى الصراعات المتعددة، والقوى النهضوية تتشكلُ وتقاوم، ثم يقومُ بدمغ الإسلام كله بالنتائج الأخيرة لهيمنة الإقطاع الطائفي.
لا تكفي مقدمات كتاب «الثابت والمتحول» للشاعر والباحث أدونيس للكشف عن كل أبعاد المتن، أو نص الكتاب، ولكننا هنا بصدد عرض الخطوط العريضة لتفكيره، وقد رأينا كيف تجنب بشكل كلي رؤية ظهور الإسلام كثورة نهضوية تحديثية للعرب، وهذا التجنب يدفعه لرؤيتها بعد أن هيمن عليها الإقطاع المذهبي، أي بعد أن تم تكريس الإيمانية النصوصية، وهو أمر لم يتم في المذاهب السنية وحدها، ولكن العملية تجلت في كافة المذاهب والأديان في المنطقة، لوجود قوانين للبنية الاجتماعية تقوم بإعادة تشكيل الأفكار وإخضاعها لمنطقها الداخلي.
ولهذا فهو في مقدماته المكتوبة منذ تأليف الكتاب كأطروحة للدكتوراه كما يوضح في فقرة توضيحية، إلى إعادة طبع المؤلف في سنة 2002، عبر طبعة دار الساقي التي نراجعها الآن، يحافظ على نفس الرؤية للإسلام كدين محافظ جاءت التغيرات إليه من الخارج، وفي هذا تقارب للرؤية الأدونيسية مع المواقف المحافظة، التي رأت الإسلام كما يراه، أي بأنه ليس ثورة نهضوية أعادت تشكيل المنطقة، بل رأته كعملية غيبية منقطعة عن سيرورة التقدم والتحرر، وبهذا قامت بتجميد الإسلام في قوالب، وأدونيس لم ير حسب المقدمات، سوى هذه القوالب، التي هي نتاج متأخر لصراع اجتماعي وفكري طويل، وحين يعزل العملية النهضوية الأولى عن القوالب، ويفصل الثورةَ عن الثورة المضادة، يقطعُ سيرورةَ العملية التاريخية الموضوعية، فيؤدلجها، أي يقوم بإخضاعها لرؤى مسبقة، تنمو فيها عملية القطع والتأويل الخاص، أي تصبح قراءة غير موضوعية، وتتوجه لأحكام تعميمية.
وبطبيعة الحال لا تكفي المقدمات لتحليل كل النص البالغ أربع مجلدات من القطع المتوسط، وتمثل جهداً فكرياً كبيراً، ولكنها تمثل كذلك خلاصة مركزة، وتعبر عن الحفاظ على ذات الرؤية على الرغم من الجهود الواسعة الكبيرة التي تمت لتحليل التراث الإسلامي خلال العقود الأخيرة.
كذلك فإن كون الكتاب هو رسالة دكتوراه تقدم في جامعة مسيحية، بأشراف باحثين مسيحيين، وتوجه المقدمات لإدانة مذهب إسلامي معين، هو مذهب الغالبية من المسلمين، هو تعبير عن عدم القدرة على تجاوز الثنائيات المذهبية والدينية المتصارعة في المنطقة على مدى ألف عام.
أي عدم القدرة على رؤية صراع المذاهب باعتباره صراع القوى المهيمنة في الطوائف، وتحريفها للصراع الاجتماعي عن أسسه الحقيقية، حيث أن القوى المهيمنة المستغلة استطاعت أن تجمد كافة المذاهب والأديان عن الفعل التحديثي والديمقراطي، وتعرقل التطور والتحرر بين كافة المسلمين والمسيحيين العرب، وإذا كان ثمة تطور في بعض الطوائف فهو تطور جزئي، فوجود أسر مسيحية لا يوجد فيها تعدد زوجات، لا يعني بأن هذه الأسر تجاوزت الدكتاتورية الأبوية، وإذا كانت التأثيرات التحديثية الغربية وخاصة الفرنسية منها، قد طورت من أوضاع هذه الأسر تعليمياً، فإنها لم تصل بها إلى الحداثة الحرة، بل غدت أجزاء تابعة للهيمنة الفرنسية، وبقائها في الطائفية وصراعها الدامي من أجلها، تعبير عن عملها لتخليد امتيازات المستغلين الكبار في الطائفة الذين استغلوا الشكل الطائفي للسيطرة الاجتماعية.
أي أن فرنسيتهم التحديثية تحولت إلى إقطاع ديني، حسب قانون البنية الاجتماعية.
إن العملية الفكرية لتفسير الماضي تكون عادة في ظل مصالح وتيارات راهنة، تؤول قراءة الماضي تبعاً لأهدافها، ويبدو الهدف من مقدمات الثابت والمتحول هو إزاحة دين كامل أو على الأقل مذاهبه المحافظة، وليس القراءة الموضوعية الدقيقة لكافة عناصره، وإبراز ما قامت به القوى المحافظة من تكريس صورة زائفة عن الإسلام، ونقد هذه الصورة وتجاوزها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
❀عبـــــــدالله خلــــــــيفة: ‏‏‏‏‏‏الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث فصل تحديثيون معاصرون ص 345.
* نشر هذا المقال في جريدة أخبار الخليج البحرينية في سنة 1995، مع تعديلات طفيفة حالية 2008.
(1): (البيانات) كتاب أصدرته أسرة الأدباء والكتاب البحرينية سنة 1995، ص40).
(2): (ص 45).
(3): (ص 47).
(4): (راجع حول نسبية الجوانب الإيجابية الغربية في الثقافة الديمقراطية كتاب (روح الأنوار) لتزفيتان تودوروف، الذي يقرأ تلك الجوانب بشكل تاريخي، وهو كتاب من إصدار مجموعة دور عربية، تعريب حافظ قويعة، سنة 2007).
(5): (الثابت والمتحول، دار الساقي، سنة 2002، ج 1، ص68، ط 8).
(6): (المصدر السابق، ص 69).
(7): (المصدر السابق، ج 1، ص 13).
(8): (المصدر السابق، ص 15، 16).
(9): (المصدر السابق، ص 22).
(10): (المصدر السابق، ص 21).
(11): (المصدر السابق، ص 21).
(12): (المصدر السابق، ص 21).
(13): (المصدر السابق، ص 23).
(14): (المصدر السابق، ص 23).
(15): (المصدر السابق، ص 34).
(16): (المصدر السابق، ص 32).
(17): (المصدر السابق، ص 32).
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 21, 2020 09:23