عبـــــــدالله خلــــــــيفة : نقد بيان الحداثة لــ أدونيس
فصل من كتاب: الكلمة من أجل الإنسان
أدونيس (علي أحمد سعيد) نقد بيان الحداثة لأدونيس
[image error]
يقدم لنا كتاب «البيانات» الذي اصدرته أسرة الأدباء والكتاب في البحرين، بين دفتيه نصين هامين للشاعر والباحث علي أحمد سعيد «أدونيس»، يصوغ فيهما رؤيته للحداثة، وبيانه لتغيير طابع الإنتاج الشعري العربي، مشكلاً إياهما بلغة شعرية، مليئة بالتجريد حيناً، وبالأمثلة السابحة في فراغ تاريخي، لكي تغدو هذه النظرة سيدة الوعي الشعري العربي النخبوي في العالم العربي، والملهمة في حالة خلق الفصام الرهيبة للشعر العربي عن جذوره ومناخه وجمهوره، وعن حداثته الفاعلة التغييرية المنشودة.
تتجسد الحداثة الشعرية لدى أدونيس في المدرسة الباريسية للشعر، حيث الخصائص الصوفية والسريالية واللاعقلانية، فيقول: «إن شعرية الشعر الغربي العظيم تتصل بخصائص شرقية بالنبوة، والرؤيا، الحلم، السحر، العجائبية، التخييل، اللانهاية، الباطن أو ما وراء الواقع، الانخطاف، الأشراق، الشطح، الكشف الخ»(1).
إن النموذج الشعري المطلوب هو في هذا التيار الصغير من الحياة الإبداعية الغربية الواسعة، تتشكل في الاذتيين المغتربين والمنفصمين عن الواقع، والذين يحولون التخييل طاقة وحيدة منسحبة من الرصد والكشف والتحليل للعالم، لتغور في ذات المبدع المنعزل عن الشارع، وعن العلم، لتعطيه جسور الافتراق والانفصال عن «الدهماء» وعوالمهم الثقافية، وجذورهم التاريخية، وأنواع إبداعاتهم الشفاهية والمكتوبة.
الشعر النموذجي لدى أدونيس يغدو ذلك المنحى الصوفي الميتافيزيقي والذاتي، الذي يصيرُ غير مرتبط بموضوعٍ محدد، والذي يسوحُ في الذات رحلة فلسفية، مليئة بالرموز والأقنعة، التي تلغي حواجز العصور والمراحل والقوى، في عصيدة تتمازج فيها كل الألوان والأشياء، بحيث أنها تستعصي على الفهم الجماهيري الواسع، وتغدو وجبة للمتخصصين.
فالشعر النخبوي هنا، عندما يتمازج وأغراض الجمهور، ومناسبات الحياة، من ربيع وموت وثورة الخ.. يغدو فاقداً للشعر، فالشعر ينبغي أن يؤسس فوق الهياكل العظمية والإيديولوجية لبودلير ورامبو ونوفاليس، ومن هنا تتم محاكمة الشعراء العرب منذ الجاهلية تبعاً لأحكام صالونات باريس الباذخة.
فلن نعرف هذه اللحظة التي تشكل فيها إبداع هؤلاء الشعراء الفرنسيين والغربيين المطحونين تحت القطار الرأسمالي المندفع بقوة في القرن التاسع عشر نحو فتح ونهب البلدان الأخرى، وتحطيم أشكال العقلانية البرجوازية المتأسسة وقتذاك على الصراع ضد الإقطاع الديني والزمني، وهؤلاء الشعراء المنسحبين إلى ذواتهم وجماليات اللغة الصافية، خوفاً عليها من عامية البرجوازية المبتذلة، التي حولت الضمير والشعر والرسم إلى بورصات الأوراق المالية، سيغدون هم المثال في عالم ثالث مغاير، ليست فيه تلك الشروط المعرفية والاجتماعية والجمالية.
إن الوكالة التجارية الشعرية التي افتتحها أدونيس في سوق العالم العربي، لاستيراد وتصدير تلك القصيدة، راحت تعمل في شروط مغايرة، فليس الصراع ضد الرأسمالية هو ما يؤرق الكاتب العربي، بل الصراع ضد التخلف والتركيبة البطريركية وكل سدنتها وأزيائها، بدءً من اللاعقل وما وراء الواقع مثل حشود العفاريت وسيطرة وعي المقابر والأشباح والخرافات، وهو إنتاج وفير هائل نستغرب كيف يقوم أدونيس باستيراده ويضاف ذلك مع عزلة الكاتب وشرنقيته ولا مسئوليته الزمنية الراهنة!
هكذا كانت رأسمالية الغرب في بدء القرن العشرين بحاجة إلى هؤلاء الشعراء والكتاب غير الجماهيرين، غير الفاعلين، الغامضين، الذي يرحلون في دواخل عوالمهم الذاتية العظيمة الفسيحة، عبر نحت لغوي وترميزي وصوري معقد ومتراكب، محطمين سياقات الصورة الكلية في القصيدة، والبنية الموحدة في للوحة والقصة، مهمشين اللغة والصورة إلى ذرات، بحيث إن فاعلية القصيدة والكتابة التحريضية التحويلية تتقطع، وتحدث عزلة بين هؤلاء المنتجين وسوق الطلب الثقافي.
حينئذٍ تتجه الثورة نحو الشكل وعزلة الأنا وتلاعبها باللغة فتظهر ثورة تعويضية بديلة عن الثورة المطلوبة في الواقع.
وتغدو الارتدادات الغامضة إلى الماضي والأساطير بديلاً عن تشريح الواقع والحاضر، ومعرفة امتدادته في الماضي والوعي.
ولكن حتى هذه المدرسة الصغيرة لم تكن هي كل الثقافة الشعرية الغربية في ذات الفترة، حيث هناك مدارس ثورية شعرية حقيقية، لم يقم أدونيس بالاهتمام بها، أو حتى ذكرها، وكان الترويج لهذه المدرسة الصوفية والسريالية في العالم، عبر آلة دعائية هائلة، من جراء تعاون المركز المصدر والمستوردين الثقافيين في العالم التابع.
كان العالم التابع، الغارق في الخرافة والعالم الأسطوري، ليس بحاجة إلى لغة صوفية جديدة ولا إلى علائق تهديمية للأشكال العقلانية الأدبية الجنينية، والتي تترافق مع تصنيع هزيل وتطور ثقافي حديث ضحل.
فكان شوقي وحافظ والجواهري والزهاوي وعشرات الشعراء الكلاسيكيين في الوطن العربي بذرة أولى لهذه العقلانية الشعرية، المهتمة بالأغراض والمناسبات في تركيبة العمود الشعري حمالة الحطب، التي تعلم وتلهم وتخلق علاقة نهوضية وليدة.
كان الشعر يحاول أن يسير بعيداً عن «الخرافة» – بالمعنى الرديء للكلمة – نحو الواقع وتحليله مسقطاً القيود الشكلية التي تعوقه في هذه العملية الاستبطانية – الموضوعية، حيث تتداخل الذات والواقع، في تركيبةٍ غيرِ ذاتية كلياً، وغير موضوعية كلياً، حاصلة على الجذور الأولى في فهم الصراع الاجتماعي والوطني، بدءاً من السياب ومروراً بالشعر الفلسطيني حتى الشعر الواقعي الجديد.
لقد اعتمد الشعر العربي على هذا الديالكتيك غير المفهوم لدى أدونيس، وهو التداخل بين الأغراض والتقنية الفنية، بين هواجس تحليل الحياة وتعريتها واستبطان حالات الذات، بين الغوص وراء الخرافة والأسطورة وتسييسها ونقدها، حيث لم تكن ثمة أسوار بين نمو الأدوات واكتشاف الواقع.
ولكن النموذج الفرنسي، المعلب في لحظة تاريخية خاصة، تناقضت فيها الأداة الشعرية والمضمون، وتباعدت فيها القصيدة والجمهور، وتحاربت لديها اللاعقلانية والعقل، وصارت الفلسفة ضد العلم، بقي هو النموذج المهيمن على وعي أدونيس التأسيسي للشعر.
وهكذا بدأ أدونيس وبيانه الأول سنة 1980، وبيانه الثاني في سنة 1992، في لحظتين غريبتين. فقد تعرض الوعي الشعر العربي الثوري للانتكاس نظراً لانهيار تجارب البرجوازية النهضوية ومن ثم العسكرية العربية، وبدأت مفاهيم العقلانية والعلم والنهضة وغيرها بالتكسر والتبعثر، وانسحب الأدباء والمثقفون من الفعل التغييري، وهبت رياح الأسطورة والدين والطقوس مؤكدة نبؤة أدونيس!
لقد صار الغموضُ ولغة الرموز والأساطير هي بنية أغلب الشعر العربي السائد، وفشلت لغة الموضعية والتحليل في الدخول إلى عرين الأسد المتوحد والمتفرد. ومثلما عبر هذا عن سقوط التجارب الثورية وهشاشة التكوين البرجوازي التحديثي العربي وغلبة الحياة البطريركية، فقد وقد وجدها مثقفون وشعراء فرديون لغة مناسبة للمناورة الاجتماعية والإيديولوجية.
أي أن ما دعا إليه أدونيس من فردانية متفتحة على الداخل الباطني التهويمي هو ما انتشر وسيطر على مشهد واسع من الشعر العربي المعاصر، مدمراً الأشكال المقاربة للقراء، نحو أشكال حرة نثرية وإيقاعية، مليئة بإدعاءات الحداثة والتجاوز والعصرنة.
إن الدمارَ الاقتصادي والثقافي الذي سببهُ الاستعمارُ، وقمع الأنظمة العسكرية، وبروزَ هيمنة الدول البترولية الإقطاعية على الفضاء العربي، وغيرها من السببيات العامة، أدت إلى تراجع لغة التحليل والنقد الشعرية، مما جعل مقولات أدونيس تنتصر.
ولكن بعد ثلاثة عشرة سنة، وفي البيان الثاني يقول:
«قلتُ: ينبغي التأسيس لمرحلة جديدة: نقد الحداثة (..) وهو قولٌ يبدو الآن أكثر صحة وضرورة منه في أي وقت مضى، وخصوصاً إن مفهوم الحداثة يزداد التباساً، وإن الكلام عليها يكاد أن يصبح لغواً»(2). ص 45.
وهكذا يجري التركيز في البيان الأول على الطقوسية والصوفية واعتبار الشرق موطن الروحية، ورفض الغرب المتعقلن، والاهتمام بالشرق المتصوف من داخله، باعتباره بضاعة الشرق (الأصيلة). فهناك جوهران متضادان متنابذان؛ الأول هو الشرق وهو الروح والأسطورة والباطن واللاعقل، والثاني هو الغرب أي العقل والعلم والظاهر، أي أن هناك منتج المواد الخام والخرافة والتابع، ويقابلهُ المصنع الغربي وصاحب العلم المسيطر.
للأول الأسطورة والدين والشعر، وللثاني المختبرات والنهضة الصناعية والعلمية. للأول الحياة الغيبية والماورائية، وللثاني الحياة الواقعية والدنيا وحكم الكرة الأرضية.
ويغدو شعراء النموذج الفرنسي – الأوربي هم نفحة الشرق المتصوف الداخلي المتسلطن في تنور الغرب العقلاني البارد.
هذا ما نقرأهُ في البيان الأول، وما أكدهُ أدونيس ودعمتهُ هزيمة البرجوازية العربية النهضوية والعقلانية والعلمية، ومجيء البرجوازية العربية – الإسلامية اللاعقلانية، والأسطورية، والخرافية الطالعة من الريف ومن أقبية الحكومات البيروقراطية الفاسدة.
فلقد أكد الشرقُ صحة رؤية أدونيس له فاستعاد ثيابه القديمة، ولبس عباءة الأشباح، وصعد تموز من انفاق العالم السفلي. ألم يكن هذا هو بسبب الفعل التدميري للغرب الرأسمالي التوسعي، محول المدن التصنيعية إلى ريف زراعي ودكاكين مستورِّدة؟ أليست هذه هي البضاعة الفكرية الشعرية، حشيشة الشرق العائدة إليه؟
بعد هذا الدمار الاجتماعي والشعر يصرخ أدونيس في بيانه الثاني:
«أحب أن أشير إلى أننا أخطأنا، منذ البداية في فهم حداثة الغرب، لم ننظر في ارتباطها العضوي بالحضارة الغربية، بأسسها العقلانية خصوصاً، وانما نظرنا إليها بوصفها أبنية وتشكيلات لغوية»(3). ص 47.
لقد كان يؤكد في المرحلة السابقة على اللاعقلانية، على الخرافة والعالم الباطني والحدسي، وحين تحول هذا العالم إلى حقيقة مرئية واجتماعية صارخة، تنصل منه، ورفضه.
حين جاء المخلِّص بأصوافهِ الخشنةِ وخلاخيلهِ الشبحية، راح أدونيس يدعو لشرق آخر، لشرقٍ جديد، عقلاني، حر، وهنا تبدلت المواصفات بين الشرق والغرب، وراح كلٌ منهما يأخذ «جوهراً» مختلفاً.
فقد صار الغربُ الحداثي هو الأنا والمرجعية الإبداعية وعالم لا سيطرة فيه للرموز الماضوية وهو الانفتاح واللانهائية وهو النقد والحركية وهو الفرادات والانفجار المعرفي الذي تُهمش فيه الرؤى الميتافيزيقية وهو الاحتمالية والتعددية والدنيا، وهو أمر صحيحٌ إلى حد ما، (4).
والشرق هو العودة للمعلوم والتأكيد على «النحن – الأمة» والمرجعيات المحافظة من كل نوع، وهو الصلاة للقبيلة والحزب والإيديولوجيا وسيطرة المؤسسات الماورائية والقبول والخضوع والإيمان والآخرة.
إن هذه التقسيمات والمواصفات هي ابنة اللحظة المعاصرة، فقد امتلأت السوق الشرقية بكل البضائع الشعرية والفكرية التي كان يدعوها لها أدونيس سابقاً، وجاءت كتلُ البرجوازية العربية الريفية والبيروقراطية الحكومية لتملأ الأفق بغيلان الأسطرة العتيقة، ولتكرس الاتباعية والانغلاقية بأقسى صورها، فلا بد لأدونيس أن يميز نفسَهُ عن هذا التيار الكاسح، الذي كان من المروجين لدعامته الفكرية الأولى، وإن كان بشكل مختلف. لقد جاء الخرابُ البشع.
لقد تم التتريث الديني للواقع العربي المعاصر، ونبذ التتريث الفينقي والفرعوني والسومري الخ.. بكل رموزه وأساطيره، وحلت العودة للأشكال المتيبسة من الشعر، وبدلاً من الحداثة الشكلانية المتطرفة في الذات الحرة واعماقها اللامحدودة، ونخبوية شعراء نهاية القرن الفرنسي، جاء الغزالي وابن تيمية، واستعادت الأوزان الخليلية نفوذها، وركنت مدارس الحداثة النخبوية في اقصى حالات العزلة والتآكل الروحي.
إن البرجوازية العربية المدنية، بعودتها للتراث القديم والوسيط، مثل البرجوازية العربية الريفية والحكومية الراهنة، بعودتها للتراث الديني الطائفي فحسب، كما يفعل أدونيس نفسه عبر استلال اسمه من التراث الفينقي، تقومٌ باستعادة الماضي، بأسطرة الحاضر، وليس بتحليله وتشريحه العلمي، وحشد الطاقات البشرية لتغييره.
ومن هنا تكون نظرتها للتراث والماضي والحاضر، مؤدلجة في لحظتها السياسية الراهنة، في انتقائيتها وانتهازيتها العملية، فتكون مع الشرق أو الغرب، أو مع الماضي أو الحاضر أو مع العقلانية أو اللاعقلانية، تبعاً لمصلحتها المؤقتة واتجاه البورصة الاجتماعية.
وهكذا كان أدونيس مع الغيبية واللاعقلانية حين كانت حشود العقل وانصال الشعر والأدب تشرحُ الواقعَ وتثورهُ وحين كان زخم القوى الديمقراطية والعملية يهز العالم القديم والتبعية للغرب المسيطر ويطرد الخرافات من الوعي.
وصار أدونيس ضد عفاريت الماضي حين تحولت إلى إطلاقية وحشد من الجمود، محتفظاً بذات خصائص الشعر الفردي النخبوي بجذوره الفرنسية الصالونية مع بهارات العقلانية المخففة، التي لا تتحول إلى تحليل علمي كشفي ونقدي للواقع، وتشكل الجسور مع المتلقي، وتحرض القارئ، وتطلق الجمهور في الساحة الشعرية، حتى تظل علائق العلاقة مع الغرب المسيطر مأمونة مستقرة.
ومن هنا تصير أغراض الشعر ومضامينه وشعر الصعاليك المكافح وأشعار الفرق الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي وشعر النهضة، والشعر العامي الجميل وكل فلكلور الشعب، خارج الإبداع المقتصر على نمطية واحدة فقط، هي النموذج الصوفي والسريالي المتكرس في لحظة أوربية برجوازية آفلة.
هكذا لا تغدو مثل هذه الحداثة الشعرية والتثوير الإبداعي سوى رؤية محافظة، منغلقة على ذاتها، مركزة على مستوى عقلي واحد شاحب، وعلى علاقة مبتورة بالقارئ، خائفة من الإمكانيات الثرة للشعر المقاتل، والإبداعات اللامتناهية للشعب.
وعي التاريخ الإسلامي عند أدونيس
يقترب الشاعر والباحث أدونيس من الوضع الإسلامي التأسيسي الذي شكل الثورة التمهيدية، لكنه يرفض أن يكون ثورة، وأن يمثل نقلة نهضوية، والصراع بين المحافظين والتطوريين يأتي لاحقاً.
من هنا تغدو السيرة النبوية والقرآن ليسا هما مفجرا الثورة وعمليات التغيير، لكن التجديد والمعارضة يأتيان على نحو غير محدد في وعيه بدءً من أبي ذر الغفاري.
وهكذا فإنه يقترب من الوضع الموضوعي ثم لا يستطيع أن يمسك خيوطه، يقول:
«وكان يقابل هذا الانقسام في المعاني انقسام اقتصادي / اجتماعي: من جهة، أشراف هم الطبقة القرشية وحلفاؤها، ومن جهة ثانية، طبقة (الغوغاء) و(عبيد) و(نزاع قبائل) و(سودان)، كما كانت تسميها الطبقة القرشية السائدة. وكانت السيادة، طوال القرون الهجرية الثلاثة الأولى، للطبقة القرشية وحلفائها. ولهذا كانت السيادة لثقافتها، ولمنظورها الديني بخاصة، طوال هذه القرون.»(5).
إن هذا التقسيم الاجتماعي الأساسي هو الذي يحدد المنظور التاريخي لتطور الإسلام في القرون الأولى، وبطبيعة الحال كان الانقسام الاجتماعي موجوداً بين قريش والفقراء اللاقرشيين، كما كان هناك انقسام في صفوف قريش ذاتها بين كبار الأغنياء ومتوسطي الحال والفقراء في هذه القبيلة المسيطرة على المدينة الدينية العاصمة.
يقوم أدونيس باختزال التناقضات الاجتماعية وتحويل التناقض بين قريش والفقراء اللاقبليين، إلى تناقض وحيد مهيمن على الحركة التاريخية، وهذا يؤدي به إلى سلسلة من الأخطاء.
فإذا كان الصراع بين قريش والفقراء العبيد هو محور الحركة التاريخية وتغيير البنية الاجتماعية فلم لم يقم هؤلاء الفقراء بقيادة الحركة الصراعية أو نحن لم نرهم إلا كحلفاء وأصدقاء لجماعة من قريش ذاتها؟
ما الذي يدعوهم وهم المستغلّون والمهانون إلى التعاون مع جماعة محددة من قريش؟
ولا نعرف لماذا، إذا كان هذا التناقض المجرد والذي فرضه أدونيس على الحياة المكية وقتئذٍ صحيحاً، لمَ لمْ يؤسس هؤلاء العبيد وعياً فكرياً أو سياسياً خاصاً بهم، غير ذاك الذي ظهر بين نفرٍ من قريش؟!
لا بد أن يكون هؤلاء العبيد والسودان الخ.. قد وجدوا في الإسلام شيئاً جذبهم، ولكن في هذه الحالة لا بد أن ثمة عناصر فكرية وسياسية هي التي استدعت انخراطهم في الإسلام التأسيسي، قبل أن يتشكل وعي لدى أبي ذر الغفاري أو غيره من الجيل المعارض في زمن عثمان والدولة الأموية، وهذا الشيء الذي جذبهم هو الذي جعلهم يقاومون التعذيب والقهر لدى سادتهم، الذين نظروا للإسلام باعتباره دين الفقراء والعبيد والمستضعفين.
ولكننا في هذه الحالة نكون قد وصلنا إلى الطرف الأقصى من المعادلة الإندونيسية، فهؤلاء الفقراء والعبيد ظلوا حلفاء لقيادات الحركة الإسلامية الناشئة، أو هم من القوى «الشعبية» بتعبيرنا المعاصر، المنظمة للحركة، وهنا ندرك أن ثمة ثغرة في تعميم أدونيس حول الطبيعة الاجتماعية للإسلام.
فإذن كانت هناك قوة اجتماعية في قريش لم تتطابق تماماً مع العبيد ولا مع «سادات» قريش في آن معاً. هذه القوة الاجتماعية، وهي فئة التجار المتوسطين، هي التي جعلت التحالف مع هؤلاء الفقراء جزءً من رسالتها التاريخية، وفي سبيل إزاحة الملأ القرشي المستبد.
وهذا بطبيعة الحال يغير التناقض الرئيسي الذي افترضه أدونيس للحركة التاريخية، ويجعل الحركة الإسلامية التأسيسية قوة تقدمية في التاريخ منذ البدء، ومن هنا ندرك عدم تمكنه من العثور على جدلية التاريخ المركبة في هذه اللحظة المفصلية.
علينا هنا أن نقرأ التعميم الإندونيسي الاجتماعي السابق والقائل بشكل تعميمي عن «طبقية قريش وسلطتها» وخطورته على الآراء التالية للباحث، فهو يقرر مسبقاً وجود منظور لقريش موحدة متراصة اجتماعياً وفكرياً قد ساد طوال الثلاثة القرون الهجرية الأولى.
هذا الإقصاء لتقدمية الرسالة المحمدية وتوحيدها بأعمال المحافظين، هو ما يمكن أن نستنتجه من هذه السيادة المجردة والمعممة لـ«ثقافة» قريش التي يطرحها أدونيس، فالدعوة الإسلامية واجهت أسياد قريش وصارعتهم وفلت من سيادتهم المطلقة على المدينة، ليس في سبيل تدمير قريش كقبيلة، ولكن في سبيل دمقرطتها وتحديثها وتعريبها. وفي سبيل تشكيل جنين الدولة «القومية» الإسلامية العربية العالمية.
إذن كانت هناك تداخلات وتباينات داخل قريش، ووجود الفئة المتوسطة من التجار وقيامها بالتحالف مع السودان والعبيد، هو مظهر التجلي لرفض الأرستقراطية والتعالي الطبقي، وهذا الاتجاه للتوغل الشعبي والثوري هو الذي كان يجذب هؤلاء الفقراء، ثم رعاة الجزيرة وقبائلها الكثيفة، للدعوة، وهو الذي حرك التاريخ الجاهلي وتجاوزه وصنع النهضة. أما حين تمكن الأشراف من السيطرة على الدولة الإسلامية وشكلوا قراءة مختلفة للتاريخ والتراث، فهذا زمن موضوعي آخر.
وينتقل أدونيس من جمود ومحافظة الدعوة الإسلامية كما يسميه إلى نصوصها، فيقول عن الوحي:
«الوحي، من حيث أنه تأسيس وبدء مطلقان، يتجاوز الأزمنة: الماضي، الحاضر، المستقبل. فهو الماضي من حيث أنه الأول، وهو الحاضر من حيث أنه المستمر، وهو المستقبل من حيث أنه الأخير المطلق»، ص68، ويضيف «ولهذا لا قيمة للزمن التاريخي إلا من حيث صدوره عن زمن الوحي. فالوحي حاضر اليوم، وغداً، حضوره يوم نزوله»(6).
فكما كانت الحركة الإسلامية محافظة فإن الوحي بهذا لا يجعل الوجود إلا متضمناً فيه، وهو بهذا «أي الوحي» يلغي تقدم الزمن وفعل الإنسان، كما يتأول أدونيس.
إن أدونيس لا يعالج الحركة الإسلامية التأسيسية بعد الفقرة التي قالها في البدء تحليلاً تفصيلياً، سواء تاريخية الحركة أم نصوصها، ثم يقدم مثل ذلك التعميم السابق عن الوحي، فبدا كحكم فوقي لا يتأسس من قراءة الوحي داخل الحركة التاريخية.
فإذا كان الوحي يتداخل والحركة التاريخية والرسالة المحمدية ويظهر فيه الناسخ والمنسوخ، فهذا التنجيم القرآني، أي نزوله منجماً، متفرقاً، متابعاً للأحداث والتطورات، يدل دلالة واضحة وأكيدة على انفتاحه على المستقبل والتقدم، وتركه للإنسان تغيير مصيره وتشكيل عالمه.
إن الغيبي يتمظهرُ ويتفتحُ بشرياً، فهو يتجلى في صعود الإرادات وتحول المواقف ودخول العبيد والفقراء والبدو والتجار وأهل المدينة في خضم التحول، أن فعل الإرادة البشرية الملموس هو الذي يكون المطلق، فليس ثمة تضاد مطلق بين الوحي والناس، بين النص والفعل التاريخي، بين الكلمة والثورة.
ولكن إذا قامت الطبقات الاستغلالية فيما بعد بتشكيل صورة معينة للوحي والرسالة ولهذه العملية التاريخية المركبة، منتزعةً منها الفعل البشري وظروف الثورة وملابسات الزمان والمكان، فهذا جزء من الوعي المحافظ المعبر عن تكدس الثروة المادية في جيوبها، وبالتالي لتملك الثروة الثقافية للتاريخ العربي ووضعها في خدمة الأولى.
يقوم أدونيس بعد ذلك بمتابعة متقطعة، تطير فوق ظروف المراحل المختلفة، منتزعة جوانب من الفكر الديني المحافظ، باعتباره يمثل الإسلام بكليته «السنية» بدءً من عمر بن الخطاب مروراً بالشافعي حتى الباقلاني. ويُلاحظ هنا كيف لم يُدخل أي أسم من الإمامية في هذا الشريط المحافظ الـمُعمَّم.
أي أنه ينظر للإسلام المحافظ باعتباره مبادئ السنة، التي تشكلت منذ البدء، في تصوره، وهكذا فحتى مسائل الطوائف تغيب تاريخيتها عنه. فالطوائف لم تتشكل إلا بعد قرون من الإسلام الأول. فيغدو وعي أدونيس وعياً طائفياً، أي يستند إلى وعي طائفي، فيرى الإسلام المحافظ باعتباره وعي تجسد في طائفة السنة، في حين أن الطائفة الأخرى تمثل الرفض والمعارضة.
يغدو التاريخ الإسلامي تاريخاً طائفياً منذ البدء لدى أدونيس ويتجلى ذلك في استشهاده رقم (112) في صفحة 332 من ثبت المصادر، حيث يستعين بكتاب الكامل لأبن الأثير الذي يروي وصية الإمام علي بن أبي طالب لولديه الحسن والحسين اللذين يطالبهما بضرورة نصرة الحق وبخصومة الظالم، ثم يروي وصية معاوية لأبنه يزيد الذي كرس فيه السيطرة والتعالي.
وكلا الوصيتين تعبران عن منحى كلٍّ من الإمام والطاغية معاوية، لكن أدونيس يأخذ النصين الوصيتين ليستنتج منهما منحيين تاريخيين مجردين مُعمَّمين فيقول:
«وتكشف هذه الأقوال على منحيين أساسيين في النظر والعمل: الأول هو الذي ارتبطت به، تاريخياً، وانبثقت عنه مختلف التحركات التي تسير في أفق التحول. والمنحى الثاني هو الذي ارتبطت به مختلف التحركات التي تسير في أفق الثبات».
ولا خلاف على استغلالية معاوية وأبنه ودولته، ونضالية الإمام وأبنائه، إلا أن تراث الإمام علي النضالي غدت له سيرورة خاصة بعد الضربات الموجعة لآل البيت النبوي، وحدوث ظاهرة الانكفاء ومحاصرة الأمويين لهم، ثم ظهور عناصر فكرية مغايرة لزمنية ووعي الإمام علي السابق، حيث بدا يتخذ طابعاً غيبياً مفارقاً، فقد ظهر منحى آخر مع المنحى النضالي الواقعي للإمام، وهذا ما سيشكل غيبيات واسعة لدى قسم كبير من الإماميين، وسيجد تجسيداته في الإسماعيلية والإثناء عشرية وهما تتحولان إلى سلطتين فتعجزان عن إنتاج نظام مغاير للإقطاع، تماماً كما حدث لدى السنة، فالبنية الاجتماعية التقليدية انتصرت على العناصر الديمقراطية والتنويرية، الموجودة في هذه المذاهب، بأشكالٍ مختلفة ومستويات متعددة، حسب التطور المركب والمعقد للأمم والقوى الاجتماعية الإسلامية وهي تتشكلُ في عصر محكوم بأسلوب إنتاج إقطاعي زراعي محدود التطور الحرفي الصناعي.
ولا تختلف مقدمة كتاب أدونيس (الثابت والمتحول) في طبعته الجديدة لسنة ألفين وأثنين عن المقدمات القديمة، مما يعبر عن ثبات موقف الشاعر والباحث خلال هذه الفترة ورؤيته لتطور الوعي والتاريخ العربيين الإسلاميين.
وتستندُ المقدماتُ على تناقض جوهري لم يكن بإمكانه حله.
فمنذ البدء يقوم بتعريف الثابت بالشكل التالي:
«أُعرف الثابت، في إطار الثقافة العربية، بأنه الفكر الذي ينهض على النص، ويتخذ من ثباته حجة لثباته هو، فهماً وتقويماً، ويفرض نفسه بوصفه المعنى الوحيد الصحيح لهذا النص..»(7).
في المقدمة الجديدة لا يطرح الثابت، أو المتغير، كحركة تاريخية، بل كمبادئ مُجردة خارج التاريخ، فيغدو الوعي العربي بنيةً أساسها الثبات، وهو المشكل للتاريخ الفكري والباقي إلى الآن.
أما المتحول فهو «الفكر الذي ينهض، هو أيضاً، على النص، لكن بتأويل يجعل النص قابلاً للتكيف مع الواقع وتجدده، وأما أنه الفكر الذي لا يرى في النص أية مرجعية، ويعتمد أساساً على العقل لا على النقل.»(8).
عبر هذا التجريد تغدو البنية العربية الفكرية مؤسسة على الثابت، فهي ثقافة المستوى الأول السائد: «كانت الثقافة في المستوى الأول هي ثقافة النظام السائد، أي الثقافة التي تقوم، شأن النظام، على دعوى التمسك بالأصول، والمحافظة على القيم الموروثة، كما هي، أو كما نقلها الخلف عن السلف.»(9).
تغدو الثقافة العربية المهيمنة هي الثقافة المحافظة أما الثقافة المعارضة فهي تالية، وهنا يظهرُ التناقضُ الأساسي في هذا الوعي الأدونيسي، فإذا كانت الثقافةُ المحافظةُ هي التي صاغت الإسلامَ، وجاءت الثقافةُ المعارضةُ والمغيرة في وقت لاحق، فلماذا استطاعت الثقافة المحافظة أن تشكل زخماً تاريخياً، ويحتضنها الناس؟
فإذا لم يكن الإسلام نقلةً تاريخية وتحولاً، أي إذا لم يكن هو ذاته معارضة لتخلف سابق، فكيف أمكنه أن يحرك التاريخ؟!
إن أدونيس بوضعه الثابت والمتحول في كيان لا تاريخي، فلا نعرف من هو المؤسس للبنية الإسلامية منهما، أي من هو الذي جاء أولاً الثابت أم المتحول؟ فإذا كان الثابت جاءً أولاً فهو متحول ضد ثابت قديم، أما إذا كان المتحول جاء أولاً فهذا يكون ضد المقولة التجريدية هذه. أي يكون المتحول المؤسّس هو ذاته تقدماً.
لكن أدونيس يجنبنا هذه الحيرة بقوله بأن الثابت هو الأصل، فالإسلام كيان محافظ منذ البدء، وهو يقيمُ حججه في مقدماته التي نفحصها هنا، على استشهادات ليست من الإسلام الأول، فهو يختار نصوصاً للمؤرخ ابن كثير وابن حزم وابن تيمية، وهذا الاختيار لنصوص أفرادٍ متأخرين يؤكدُ بأن بنية الثبات هي الأصل وحتى لو كانت مبادئها وأصولها متأخرة، عن الإسلام الأول بعدة قرون!
ومن هنا تغدو الحركةُ التاريخيةُ التي تشكلت سابقاً لا قيمة لها، فالمبادئ المحافظة لا تغدو نتائجٌ لحركةِ صراعٍ اجتماعي وإيديولوجي، بل تغدو مبادئ مُسّبقة، مبثوثةً في كيان الدين منذ البدء.
ولن تنفع حركة الصراع الاجتماعي في تكريس أو في نفي هذه الصفات، فالبنية التجريدية التي أقامها أدونيس للإسلام هي في مستويين محافظ غالب ومهيمن ومستوى متمرد ثانوي تشكل لاحقاً.
والتناقضُ الجوهريُ في هذا الوعي كما أسلفنا هو في كيف يكون الثابت مشكلاً لحركة تاريخية فاعلة ومغيرة؟ فإذا كان منذ البدء محافظاً وجامداً كيف أمكنه أن يدخل التاريخ ويغيره؟!
علينا أن نبحث أسباب أدونيس لتبرير أو تفسير هذا التناقض. فهو يحس بهذا التناقض لكنه لا يقوله، أي أن التناقض لا يظهر على صعيد وعيه، فيتجه إلى الجذر الغيبي للدين، فالدين بما أنه حركة غيب، فهو بلا زمن، وهو محافظ بالضرورة لأنه يحدد التاريخ بشكل مسّبق وأبدي، فيقول:
[.. أن الدين، بما هو وحي، أي بما هو كلام الله، ليس له ماضٍ، فلا تنطبق عليه مقولة التغير والنقص.](10).
يقوم أدونيس إذن بفلسفة الثبات في الإسلام باعتباره شيئاً غيبياً، فيجعل الثبات هو الأصل، وأي تحرك هو [في النور الأصلي الشامل، نور النص، أي أنه انتقال متدرج في هذا النور](11).
ومن هنا يستشهد بأقوال المحافظين بأن [الأصل المؤسس – العهد النبوي الأول، وكل انحراف عنه إنما هو انحدار وهبوط](12).
لكن هذا أيضاً لا يفسر كيف أن الإسلام الأول كان مركزاً للجذب التاريخي والقبول الواسع وتغيير الواقع، فإذا كان جامداً محافظاً كيف يمكنه أن يغير ويشكل مراحل جديدة ويطلق الطاقات التحويلية والثورية؟ ولو قال الإسلام نفسه بأنه مُستمد من الغيب، فهذا لا يكفي ليدخل التاريخ، الذي يحتاج إلى حركة تاريخية ملموسة، أي أن الغيب لا بد أن يتمظهر بشرياً، ويتألق اجتماعياً، وينمو عبر حيثيات وقوانين التاريخ، وليس بشكله الغيبي المنقطع عن السيرورة التاريخية وعن الدخول في الطبقات وفي الوعي.
فالقرآن يستند إلى قوانين اللغة العربية الموجودة قبله، والحركة الإسلامية كذلك تنمو عبر قوانين التطور الاجتماعي. أي أن الإلهي يتجسد بشرياً ولا يغدو الغيبي منفصلاً عن المكشوف والمنظور.
ولهذا فإن تناقض أدونيس يتفاقم هنا ولا ينحل. ويعود السؤالُ بصيغة أخرى، فنقول بأن الغيب ليس انقطاعاً عن الحياة، والنور يصير شمساً ومعرفة ونضالاً، فلماذا يكون الثبات والجمود هو المؤسس الأول للإسلام وهو المهيمن؟
يتوجه أدونيس بعدئذٍ إلى «البحث» عن حلول أخرى للتناقض الجوهري فيقول بأنه يرفض أن يجد حلولاً سهلة لتفسير التاريخ الإسلامي، كالحديث عن تفسير البنية الفوقية في المجتمع الإسلامي العربي الأول بأنها «انعكاس لبنيته التحتية، وهو ما أخذه عليّ بعض النقاد. فهذا تفسير من خارج، وهو إسقاط. »(13).
وهو يتصور بأن هذا التداخل بين البناء الفوقي والبناء التحتي يشترط شروطاً فكرية معينة، وليس باعتباره قانوناً في مدرسة فكرية معينة، لرؤية التاريخ، فالمادية التاريخية هنا تعتبر ذلك ظاهرة دائمة في المجتمعات، ولا تنتظر أية شروط ثقافية لتطبيق القانون السالف الذكر، ولكن أدونيس بدلاً من أن يرفض هذا القانون المادي التاريخي، الذي يتضاد مع رؤيته، يقبله بشروط مضادة لطبيعة هذا القانون المادية، فيقول:
«ثم أنه لا يصح إلا إذا كان الوحي والشريعة يعاشان بوصفهما شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي يتطابق مع قوى الإنتاج في العصر الإسلامي الأول، ومع علاقات الإنتاج، وتوزيع العمل… الخ»(14).
هنا يواصل أدونيس البحث عن جذور الثبات عبر الغيب فقط، فاصلاً الغيب عن الظروف الاجتماعية، فكأن الغيب يبقى في ذاته الماورائية ولا يدخل نسيج الحياة، فيبقى الميتافيزيقي ميتافيزيقياً، والمجردُ مجرداً، فلا يحدث النسج التاريخي هنا، فلا نعرف كيف يمكن أن ينتصر العرب المسلمون والحالة هذه؟!
ألم تكن لديهم خيول، والخيول احتاجت إلى عدة آلاف من السنين كي تأتي إلى الجزيرة العربية، وتتروض وتغدو عربية، وتصير جزءً من أدواتهم الحربية، وكذا الإبل والسيوف وتكون المدن وتشكل القبائل والشعبان الكبيران: المضريون واليمانيون الخ..
وإذا قلت عن الظروف المادية البسيطة هذه فقل ذلك عن الشروط الاجتماعية والثقافية الُمركبة، مثل مسألة تكون اللغة العربية وسيرورتها التاريخية الطويلة، وتغدو الأمور أكثر تركيباً مع الحركة الإسلامية، حيث تنمو هذه على قبول البشر والإرادة والفعل الشعبي، وقدرة الحركة على التغلغل بين الناس ومعرفة مطالبهم ونسجها في فعلها التاريخي وانضمامهم إليها الخ..
أي أنه يمكن أن ندرس الظاهرة الدينية عبر تقدير طابعها الغيبي كما يقول الإيمانيون النصوصيون، ولكن أيضاً يمكن أن نقرأها في ضوء كونها ظاهرة تاريخية، فلا نفصل بين المقدس والموضوعي، أي أن نقوم بتقدير جذور النص على المستويين الغيبي والواقعي.
إن أدونيس وهو لا يقرأ الشروط البشرية لظهور الحركة الإسلامية، يقترب من الموقف المحافظ الذي ينقده، فيؤكده عوضاً عن أن ينفيه.
فإذا كان الإسلام حركة محافظة منذ البدء فهذا ما يقوله المحافظون، والذين بعد ذلك ينفون العلاقات والسببيات البشرية التي تكونت لنمو الإسلام وانتصاره، فيجعلونه غيبياً محضاً، وبهذا يجمدون إرادة الأمة، وينزوعون قدراتها على العلوم والتجديد.
وهذا ليس سوى موقف الأشراف الذين احتكروا تكوين صورة خاصة للإسلام، وهذا ما فعله فقهاؤهم ومؤرخوهم، وهنا يقوم أدونيس بنقد هذه الصورة باعتبارها الإسلام المؤسس، واختياره لممثلي الأشراف، واليمين الديني، وهم أبن كثير وابن حزم وابن تيمية، أي كل الإيمانية النصوصية المحافظة التي هي ذاتها مستويات ومتباينة «ففرق كبير بين ابن كثير وابن حزم من جهة وبين ابن تيمية من جهة أخرى»، بعد أن تمكن هذا اليمين من صنع صورة اجتماعية مستبدة للإسلام، وقد أسماه «الثابت» فهذا ليس سوى الإقطاع الطائفي، ولكن كيف يكون الثابت وقد جاء متأخراً؟ أي جاء بعد أن لم يكن الإسلام إقطاعاً طائفياً؟
بعد أن يعجز أدونيس عن الخروج من ذلك التناقض الجوهري غير المحلول، يتوجه للخروج من دوائر البنية الاجتماعية، فيقول:
«لا جدال في أنه من المهم أن ندرس الشروط التي نشأت فيها ظاهرة ما (ثقافية، أو اجتماعية، أو سياسية.. الخ)، لكن من الأهم أن نعرف معناها. ولا نستطيع أن نعرف معناها من مجرد معرفة شروطها، وإنما نعرفه حين نعرف القوة التي تمتلك هذه الظاهرة وتوجهها وتعبر من خلالها عن نفسها. »(15).
هنا إحساس بأهمية قراءة الشروط الموضوعية لتكون الظواهر التاريخية، ولكن هل تنفصل معاني الظواهر ودلالاتها عن شروطها ومناخاتها؟
وبالتأكيد تتجاوز الظاهرات شروطها وظروفها، وإلا لما كانت ذات أهمية، وفي هذا التعبير استشفاف بأن ثمة قوةً تحوليةً في الإسلام المؤسس، لكن أدونيس لا يقر بكون ظهور الإسلام ثورة اجتماعية نهضوية، بل بعكس ذلك كما سيتجلى لاحقاً، ولهذا يروح للبحث عن القوة التي تمتلك تلك الظاهرة، بدلاً من أن يتابع تشكلها في شروطها ونضالها للقفز بالمنطقة من تلك الشروط الصعبة المتخلفة، فيؤكد بأن التغيرات الإيجابية والتقدم جاءت من خارج الإسلام العربي. فيقول:
«مع الفتوحات العربية الإسلامية، أخذ ينشأ هامشٌ يضيق ويتسع، بحسب الأوضاع والحالات. ويعودُ السببُ في نشوء هذا الهامش إلى التعددية القومية – الثقافية: لم يعد المجتمع الإسلامي / العربي، بعد الفتوحات متجانساً، قومياً وثقافياً، كما كان قبلها. »(16).
وهنا نرى بأن التغيرات الإيجابية نتجت من احتكاك العرب بالعالم المفتوح، ولكنها ظهرت من فعلِ عوامل قومية ثقافية، أما الظاهرة الأصلية، أي الإسلام المؤسس، فلم يكن يحمل شيئاً إيجابياً، بل تكونت التغيرات الإيجابية من الهامش، وهذا الهامش هو الذي صنع الظواهر المضيئة حسب رأي الباحث:
«هكذا أصبح، بعد أن دخلت عليه عناصر تنوع وتعدد، منظومة من التناقضات / أي التوترات. هكذا نرى الصوفية إلى جانب الفقهية الشرعية، وألف ليلة وليلة إلى جانب علم الكلام والفلسفة، والنزعة الشعوبية إلى جانب النزعة القومية، والفكر الإلحادي إلى جانب الفكر اللاهوتي، وحرية الحلم والرؤيا إلى جانب الحكمة العملية والتعقل. »(17).
إذن فإن الإسلام المؤسس لم يكن يحمل بذوراً وإمكانيات للحداثة، فهذه جاءت من ظهور الهامش، فيتضح بشكل جلي بأنه «هو الثابت» وأن المتحول هو هذه العناصر الحديثة التي تشكلت في الفضاء التاريخي الذي شكله العربُ، كما لو أن البنية الاجتماعية / الثقافية التي شكلوها كانت بنية صلدة لا تناقضات فيها، ويهيمن عليها الثابت المتخلف، ولم يظهر المتحول إلا عبر الشعوب الأخرى!
تتوارى هنا السيرورة التاريخية للبنية الاجتماعية، فالعرب البسطاء البدو الذين عبر بساطتهم هذه دمروا أنظمة الاستبداد العريقة، وحملوا ميراثاً ديمقراطياً عبر ثورتهم تجلت في فرق النضال المديدة، وقدرتهم على إعادة سبك المنطقة في عالم كوني، يتحولون هنا إلى جلمود صخر حطه السيلُ من الصحراء الجامدة، فتأتي الإنجازات من الخارج.
إن الداخل العربي الإسلامي، والخارج القومي غير الإسلامي، عبر وعي أدونيس في هذه المقدمة لكتابه الثابت والمتحول، يغدوان متنافرين متباعدين، ولا يتشكلان في سبيكة تاريخية متداخلة، فالعرب لا يضيفون بل يُضاف إليهم، وهم لا يغيرون بل تأتيهم التغيرات من الخارج.
إن العملية التاريخية هنا غير ديناميكية وغير جدلية، فمنذ البدء يرى أدونيس الداخل العربي المشكل للعملية التاريخية بأنه غير ذي أهمية، رغم أنه في هذه المقدمات لا يقول عنه شيئاً كبيراً، بل نستشفُ ذلك، ثم يغدو الإسلام هو الوعي المحافظ باتجاه معين، بعد أن تكرس قمعاً وشراءً، أي بعد أن تمكنت قوى الإقطاع السياسي والمذهبي من تفريغه من دلالاته الثورية، لا أن يتم درس هذه العملية الثورية التي شكلها الإسلام وسببيات تمكن هذه القوى المحافظة بمختلف المذاهب، من ذلك التفريغ، وهو أمر يشير من قبل أدونيس إلى تحميل مذهب معين مسئولية تشكيل الطابع المحافظ في الإسلام، بدلاً من رؤيتها كعملية اجتماعية تجلت في كل المذاهب والأديان في المنطقة، لأسباب تتعلق بمشكلات التشكيلة الإقطاعية ومحدوديتها، أما تحميل «السنة» مسئولية صنع التخلف فربما هو الأمر الذي يشير إليه أدونيس عندما قال بوجود قوة «محافظة» تجلت منذ الإسلام الأول، وإن هذه القوة صبت الدين بشكل معين. وهنا تناقض مع وقائع مشهورة مثل كون ابن رشد وابن خلدون السنيين المالكيين هما ذروة العقلانية في العصور الوسطى كلها!
هنا نرى العملية الفكرية الأدونيسية وهي تحلل التاريخ بعد أن أنجزت صنعه القوى المحافظة ونحّت العناصرَ الديمقراطية والنهضوية، أي أن أدونيس يرى الإسلام كإقطاع مذهبي، بعد أن رسخ ذاته، وليس في مجرى الصراعات المتعددة، والقوى النهضوية تتشكلُ وتقاوم، ثم يقومُ بدمغ الإسلام كله بالنتائج الأخيرة لهيمنة الإقطاع الطائفي.
لا تكفي مقدمات كتاب «الثابت والمتحول» للشاعر والباحث أدونيس للكشف عن كل أبعاد المتن، أو نص الكتاب، ولكننا هنا بصدد عرض الخطوط العريضة لتفكيره، وقد رأينا كيف تجنب بشكل كلي رؤية ظهور الإسلام كثورة نهضوية تحديثية للعرب، وهذا التجنب يدفعه لرؤيتها بعد أن هيمن عليها الإقطاع المذهبي، أي بعد أن تم تكريس الإيمانية النصوصية، وهو أمر لم يتم في المذاهب السنية وحدها، ولكن العملية تجلت في كافة المذاهب والأديان في المنطقة، لوجود قوانين للبنية الاجتماعية تقوم بإعادة تشكيل الأفكار وإخضاعها لمنطقها الداخلي.
ولهذا فهو في مقدماته المكتوبة منذ تأليف الكتاب كأطروحة للدكتوراه كما يوضح في فقرة توضيحية، إلى إعادة طبع المؤلف في سنة 2002، عبر طبعة دار الساقي التي نراجعها الآن، يحافظ على نفس الرؤية للإسلام كدين محافظ جاءت التغيرات إليه من الخارج، وفي هذا تقارب للرؤية الأدونيسية مع المواقف المحافظة، التي رأت الإسلام كما يراه، أي بأنه ليس ثورة نهضوية أعادت تشكيل المنطقة، بل رأته كعملية غيبية منقطعة عن سيرورة التقدم والتحرر، وبهذا قامت بتجميد الإسلام في قوالب، وأدونيس لم ير حسب المقدمات، سوى هذه القوالب، التي هي نتاج متأخر لصراع اجتماعي وفكري طويل، وحين يعزل العملية النهضوية الأولى عن القوالب، ويفصل الثورةَ عن الثورة المضادة، يقطعُ سيرورةَ العملية التاريخية الموضوعية، فيؤدلجها، أي يقوم بإخضاعها لرؤى مسبقة، تنمو فيها عملية القطع والتأويل الخاص، أي تصبح قراءة غير موضوعية، وتتوجه لأحكام تعميمية.
وبطبيعة الحال لا تكفي المقدمات لتحليل كل النص البالغ أربع مجلدات من القطع المتوسط، وتمثل جهداً فكرياً كبيراً، ولكنها تمثل كذلك خلاصة مركزة، وتعبر عن الحفاظ على ذات الرؤية على الرغم من الجهود الواسعة الكبيرة التي تمت لتحليل التراث الإسلامي خلال العقود الأخيرة.
كذلك فإن كون الكتاب هو رسالة دكتوراه تقدم في جامعة مسيحية، بأشراف باحثين مسيحيين، وتوجه المقدمات لإدانة مذهب إسلامي معين، هو مذهب الغالبية من المسلمين، هو تعبير عن عدم القدرة على تجاوز الثنائيات المذهبية والدينية المتصارعة في المنطقة على مدى ألف عام.
أي عدم القدرة على رؤية صراع المذاهب باعتباره صراع القوى المهيمنة في الطوائف، وتحريفها للصراع الاجتماعي عن أسسه الحقيقية، حيث أن القوى المهيمنة المستغلة استطاعت أن تجمد كافة المذاهب والأديان عن الفعل التحديثي والديمقراطي، وتعرقل التطور والتحرر بين كافة المسلمين والمسيحيين العرب، وإذا كان ثمة تطور في بعض الطوائف فهو تطور جزئي، فوجود أسر مسيحية لا يوجد فيها تعدد زوجات، لا يعني بأن هذه الأسر تجاوزت الدكتاتورية الأبوية، وإذا كانت التأثيرات التحديثية الغربية وخاصة الفرنسية منها، قد طورت من أوضاع هذه الأسر تعليمياً، فإنها لم تصل بها إلى الحداثة الحرة، بل غدت أجزاء تابعة للهيمنة الفرنسية، وبقائها في الطائفية وصراعها الدامي من أجلها، تعبير عن عملها لتخليد امتيازات المستغلين الكبار في الطائفة الذين استغلوا الشكل الطائفي للسيطرة الاجتماعية.
أي أن فرنسيتهم التحديثية تحولت إلى إقطاع ديني، حسب قانون البنية الاجتماعية.
إن العملية الفكرية لتفسير الماضي تكون عادة في ظل مصالح وتيارات راهنة، تؤول قراءة الماضي تبعاً لأهدافها، ويبدو الهدف من مقدمات الثابت والمتحول هو إزاحة دين كامل أو على الأقل مذاهبه المحافظة، وليس القراءة الموضوعية الدقيقة لكافة عناصره، وإبراز ما قامت به القوى المحافظة من تكريس صورة زائفة عن الإسلام، ونقد هذه الصورة وتجاوزها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
❀عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث فصل تحديثيون معاصرون ص 345.
* نشر هذا المقال في جريدة أخبار الخليج البحرينية في سنة 1995، مع تعديلات طفيفة حالية 2008.
(1): (البيانات) كتاب أصدرته أسرة الأدباء والكتاب البحرينية سنة 1995، ص40).
(2): (ص 45).
(3): (ص 47).
(4): (راجع حول نسبية الجوانب الإيجابية الغربية في الثقافة الديمقراطية كتاب (روح الأنوار) لتزفيتان تودوروف، الذي يقرأ تلك الجوانب بشكل تاريخي، وهو كتاب من إصدار مجموعة دور عربية، تعريب حافظ قويعة، سنة 2007).
(5): (الثابت والمتحول، دار الساقي، سنة 2002، ج 1، ص68، ط 8).
(6): (المصدر السابق، ص 69).
(7): (المصدر السابق، ج 1، ص 13).
(8): (المصدر السابق، ص 15، 16).
(9): (المصدر السابق، ص 22).
(10): (المصدر السابق، ص 21).
(11): (المصدر السابق، ص 21).
(12): (المصدر السابق، ص 21).
(13): (المصدر السابق، ص 23).
(14): (المصدر السابق، ص 23).
(15): (المصدر السابق، ص 34).
(16): (المصدر السابق، ص 32).
(17): (المصدر السابق، ص 32).
أدونيس (علي أحمد سعيد) نقد بيان الحداثة لأدونيس
[image error]
يقدم لنا كتاب «البيانات» الذي اصدرته أسرة الأدباء والكتاب في البحرين، بين دفتيه نصين هامين للشاعر والباحث علي أحمد سعيد «أدونيس»، يصوغ فيهما رؤيته للحداثة، وبيانه لتغيير طابع الإنتاج الشعري العربي، مشكلاً إياهما بلغة شعرية، مليئة بالتجريد حيناً، وبالأمثلة السابحة في فراغ تاريخي، لكي تغدو هذه النظرة سيدة الوعي الشعري العربي النخبوي في العالم العربي، والملهمة في حالة خلق الفصام الرهيبة للشعر العربي عن جذوره ومناخه وجمهوره، وعن حداثته الفاعلة التغييرية المنشودة.
تتجسد الحداثة الشعرية لدى أدونيس في المدرسة الباريسية للشعر، حيث الخصائص الصوفية والسريالية واللاعقلانية، فيقول: «إن شعرية الشعر الغربي العظيم تتصل بخصائص شرقية بالنبوة، والرؤيا، الحلم، السحر، العجائبية، التخييل، اللانهاية، الباطن أو ما وراء الواقع، الانخطاف، الأشراق، الشطح، الكشف الخ»(1).
إن النموذج الشعري المطلوب هو في هذا التيار الصغير من الحياة الإبداعية الغربية الواسعة، تتشكل في الاذتيين المغتربين والمنفصمين عن الواقع، والذين يحولون التخييل طاقة وحيدة منسحبة من الرصد والكشف والتحليل للعالم، لتغور في ذات المبدع المنعزل عن الشارع، وعن العلم، لتعطيه جسور الافتراق والانفصال عن «الدهماء» وعوالمهم الثقافية، وجذورهم التاريخية، وأنواع إبداعاتهم الشفاهية والمكتوبة.
الشعر النموذجي لدى أدونيس يغدو ذلك المنحى الصوفي الميتافيزيقي والذاتي، الذي يصيرُ غير مرتبط بموضوعٍ محدد، والذي يسوحُ في الذات رحلة فلسفية، مليئة بالرموز والأقنعة، التي تلغي حواجز العصور والمراحل والقوى، في عصيدة تتمازج فيها كل الألوان والأشياء، بحيث أنها تستعصي على الفهم الجماهيري الواسع، وتغدو وجبة للمتخصصين.
فالشعر النخبوي هنا، عندما يتمازج وأغراض الجمهور، ومناسبات الحياة، من ربيع وموت وثورة الخ.. يغدو فاقداً للشعر، فالشعر ينبغي أن يؤسس فوق الهياكل العظمية والإيديولوجية لبودلير ورامبو ونوفاليس، ومن هنا تتم محاكمة الشعراء العرب منذ الجاهلية تبعاً لأحكام صالونات باريس الباذخة.
فلن نعرف هذه اللحظة التي تشكل فيها إبداع هؤلاء الشعراء الفرنسيين والغربيين المطحونين تحت القطار الرأسمالي المندفع بقوة في القرن التاسع عشر نحو فتح ونهب البلدان الأخرى، وتحطيم أشكال العقلانية البرجوازية المتأسسة وقتذاك على الصراع ضد الإقطاع الديني والزمني، وهؤلاء الشعراء المنسحبين إلى ذواتهم وجماليات اللغة الصافية، خوفاً عليها من عامية البرجوازية المبتذلة، التي حولت الضمير والشعر والرسم إلى بورصات الأوراق المالية، سيغدون هم المثال في عالم ثالث مغاير، ليست فيه تلك الشروط المعرفية والاجتماعية والجمالية.
إن الوكالة التجارية الشعرية التي افتتحها أدونيس في سوق العالم العربي، لاستيراد وتصدير تلك القصيدة، راحت تعمل في شروط مغايرة، فليس الصراع ضد الرأسمالية هو ما يؤرق الكاتب العربي، بل الصراع ضد التخلف والتركيبة البطريركية وكل سدنتها وأزيائها، بدءً من اللاعقل وما وراء الواقع مثل حشود العفاريت وسيطرة وعي المقابر والأشباح والخرافات، وهو إنتاج وفير هائل نستغرب كيف يقوم أدونيس باستيراده ويضاف ذلك مع عزلة الكاتب وشرنقيته ولا مسئوليته الزمنية الراهنة!
هكذا كانت رأسمالية الغرب في بدء القرن العشرين بحاجة إلى هؤلاء الشعراء والكتاب غير الجماهيرين، غير الفاعلين، الغامضين، الذي يرحلون في دواخل عوالمهم الذاتية العظيمة الفسيحة، عبر نحت لغوي وترميزي وصوري معقد ومتراكب، محطمين سياقات الصورة الكلية في القصيدة، والبنية الموحدة في للوحة والقصة، مهمشين اللغة والصورة إلى ذرات، بحيث إن فاعلية القصيدة والكتابة التحريضية التحويلية تتقطع، وتحدث عزلة بين هؤلاء المنتجين وسوق الطلب الثقافي.
حينئذٍ تتجه الثورة نحو الشكل وعزلة الأنا وتلاعبها باللغة فتظهر ثورة تعويضية بديلة عن الثورة المطلوبة في الواقع.
وتغدو الارتدادات الغامضة إلى الماضي والأساطير بديلاً عن تشريح الواقع والحاضر، ومعرفة امتدادته في الماضي والوعي.
ولكن حتى هذه المدرسة الصغيرة لم تكن هي كل الثقافة الشعرية الغربية في ذات الفترة، حيث هناك مدارس ثورية شعرية حقيقية، لم يقم أدونيس بالاهتمام بها، أو حتى ذكرها، وكان الترويج لهذه المدرسة الصوفية والسريالية في العالم، عبر آلة دعائية هائلة، من جراء تعاون المركز المصدر والمستوردين الثقافيين في العالم التابع.
كان العالم التابع، الغارق في الخرافة والعالم الأسطوري، ليس بحاجة إلى لغة صوفية جديدة ولا إلى علائق تهديمية للأشكال العقلانية الأدبية الجنينية، والتي تترافق مع تصنيع هزيل وتطور ثقافي حديث ضحل.
فكان شوقي وحافظ والجواهري والزهاوي وعشرات الشعراء الكلاسيكيين في الوطن العربي بذرة أولى لهذه العقلانية الشعرية، المهتمة بالأغراض والمناسبات في تركيبة العمود الشعري حمالة الحطب، التي تعلم وتلهم وتخلق علاقة نهوضية وليدة.
كان الشعر يحاول أن يسير بعيداً عن «الخرافة» – بالمعنى الرديء للكلمة – نحو الواقع وتحليله مسقطاً القيود الشكلية التي تعوقه في هذه العملية الاستبطانية – الموضوعية، حيث تتداخل الذات والواقع، في تركيبةٍ غيرِ ذاتية كلياً، وغير موضوعية كلياً، حاصلة على الجذور الأولى في فهم الصراع الاجتماعي والوطني، بدءاً من السياب ومروراً بالشعر الفلسطيني حتى الشعر الواقعي الجديد.
لقد اعتمد الشعر العربي على هذا الديالكتيك غير المفهوم لدى أدونيس، وهو التداخل بين الأغراض والتقنية الفنية، بين هواجس تحليل الحياة وتعريتها واستبطان حالات الذات، بين الغوص وراء الخرافة والأسطورة وتسييسها ونقدها، حيث لم تكن ثمة أسوار بين نمو الأدوات واكتشاف الواقع.
ولكن النموذج الفرنسي، المعلب في لحظة تاريخية خاصة، تناقضت فيها الأداة الشعرية والمضمون، وتباعدت فيها القصيدة والجمهور، وتحاربت لديها اللاعقلانية والعقل، وصارت الفلسفة ضد العلم، بقي هو النموذج المهيمن على وعي أدونيس التأسيسي للشعر.
وهكذا بدأ أدونيس وبيانه الأول سنة 1980، وبيانه الثاني في سنة 1992، في لحظتين غريبتين. فقد تعرض الوعي الشعر العربي الثوري للانتكاس نظراً لانهيار تجارب البرجوازية النهضوية ومن ثم العسكرية العربية، وبدأت مفاهيم العقلانية والعلم والنهضة وغيرها بالتكسر والتبعثر، وانسحب الأدباء والمثقفون من الفعل التغييري، وهبت رياح الأسطورة والدين والطقوس مؤكدة نبؤة أدونيس!
لقد صار الغموضُ ولغة الرموز والأساطير هي بنية أغلب الشعر العربي السائد، وفشلت لغة الموضعية والتحليل في الدخول إلى عرين الأسد المتوحد والمتفرد. ومثلما عبر هذا عن سقوط التجارب الثورية وهشاشة التكوين البرجوازي التحديثي العربي وغلبة الحياة البطريركية، فقد وقد وجدها مثقفون وشعراء فرديون لغة مناسبة للمناورة الاجتماعية والإيديولوجية.
أي أن ما دعا إليه أدونيس من فردانية متفتحة على الداخل الباطني التهويمي هو ما انتشر وسيطر على مشهد واسع من الشعر العربي المعاصر، مدمراً الأشكال المقاربة للقراء، نحو أشكال حرة نثرية وإيقاعية، مليئة بإدعاءات الحداثة والتجاوز والعصرنة.
إن الدمارَ الاقتصادي والثقافي الذي سببهُ الاستعمارُ، وقمع الأنظمة العسكرية، وبروزَ هيمنة الدول البترولية الإقطاعية على الفضاء العربي، وغيرها من السببيات العامة، أدت إلى تراجع لغة التحليل والنقد الشعرية، مما جعل مقولات أدونيس تنتصر.
ولكن بعد ثلاثة عشرة سنة، وفي البيان الثاني يقول:
«قلتُ: ينبغي التأسيس لمرحلة جديدة: نقد الحداثة (..) وهو قولٌ يبدو الآن أكثر صحة وضرورة منه في أي وقت مضى، وخصوصاً إن مفهوم الحداثة يزداد التباساً، وإن الكلام عليها يكاد أن يصبح لغواً»(2). ص 45.
وهكذا يجري التركيز في البيان الأول على الطقوسية والصوفية واعتبار الشرق موطن الروحية، ورفض الغرب المتعقلن، والاهتمام بالشرق المتصوف من داخله، باعتباره بضاعة الشرق (الأصيلة). فهناك جوهران متضادان متنابذان؛ الأول هو الشرق وهو الروح والأسطورة والباطن واللاعقل، والثاني هو الغرب أي العقل والعلم والظاهر، أي أن هناك منتج المواد الخام والخرافة والتابع، ويقابلهُ المصنع الغربي وصاحب العلم المسيطر.
للأول الأسطورة والدين والشعر، وللثاني المختبرات والنهضة الصناعية والعلمية. للأول الحياة الغيبية والماورائية، وللثاني الحياة الواقعية والدنيا وحكم الكرة الأرضية.
ويغدو شعراء النموذج الفرنسي – الأوربي هم نفحة الشرق المتصوف الداخلي المتسلطن في تنور الغرب العقلاني البارد.
هذا ما نقرأهُ في البيان الأول، وما أكدهُ أدونيس ودعمتهُ هزيمة البرجوازية العربية النهضوية والعقلانية والعلمية، ومجيء البرجوازية العربية – الإسلامية اللاعقلانية، والأسطورية، والخرافية الطالعة من الريف ومن أقبية الحكومات البيروقراطية الفاسدة.
فلقد أكد الشرقُ صحة رؤية أدونيس له فاستعاد ثيابه القديمة، ولبس عباءة الأشباح، وصعد تموز من انفاق العالم السفلي. ألم يكن هذا هو بسبب الفعل التدميري للغرب الرأسمالي التوسعي، محول المدن التصنيعية إلى ريف زراعي ودكاكين مستورِّدة؟ أليست هذه هي البضاعة الفكرية الشعرية، حشيشة الشرق العائدة إليه؟
بعد هذا الدمار الاجتماعي والشعر يصرخ أدونيس في بيانه الثاني:
«أحب أن أشير إلى أننا أخطأنا، منذ البداية في فهم حداثة الغرب، لم ننظر في ارتباطها العضوي بالحضارة الغربية، بأسسها العقلانية خصوصاً، وانما نظرنا إليها بوصفها أبنية وتشكيلات لغوية»(3). ص 47.
لقد كان يؤكد في المرحلة السابقة على اللاعقلانية، على الخرافة والعالم الباطني والحدسي، وحين تحول هذا العالم إلى حقيقة مرئية واجتماعية صارخة، تنصل منه، ورفضه.
حين جاء المخلِّص بأصوافهِ الخشنةِ وخلاخيلهِ الشبحية، راح أدونيس يدعو لشرق آخر، لشرقٍ جديد، عقلاني، حر، وهنا تبدلت المواصفات بين الشرق والغرب، وراح كلٌ منهما يأخذ «جوهراً» مختلفاً.
فقد صار الغربُ الحداثي هو الأنا والمرجعية الإبداعية وعالم لا سيطرة فيه للرموز الماضوية وهو الانفتاح واللانهائية وهو النقد والحركية وهو الفرادات والانفجار المعرفي الذي تُهمش فيه الرؤى الميتافيزيقية وهو الاحتمالية والتعددية والدنيا، وهو أمر صحيحٌ إلى حد ما، (4).
والشرق هو العودة للمعلوم والتأكيد على «النحن – الأمة» والمرجعيات المحافظة من كل نوع، وهو الصلاة للقبيلة والحزب والإيديولوجيا وسيطرة المؤسسات الماورائية والقبول والخضوع والإيمان والآخرة.
إن هذه التقسيمات والمواصفات هي ابنة اللحظة المعاصرة، فقد امتلأت السوق الشرقية بكل البضائع الشعرية والفكرية التي كان يدعوها لها أدونيس سابقاً، وجاءت كتلُ البرجوازية العربية الريفية والبيروقراطية الحكومية لتملأ الأفق بغيلان الأسطرة العتيقة، ولتكرس الاتباعية والانغلاقية بأقسى صورها، فلا بد لأدونيس أن يميز نفسَهُ عن هذا التيار الكاسح، الذي كان من المروجين لدعامته الفكرية الأولى، وإن كان بشكل مختلف. لقد جاء الخرابُ البشع.
لقد تم التتريث الديني للواقع العربي المعاصر، ونبذ التتريث الفينقي والفرعوني والسومري الخ.. بكل رموزه وأساطيره، وحلت العودة للأشكال المتيبسة من الشعر، وبدلاً من الحداثة الشكلانية المتطرفة في الذات الحرة واعماقها اللامحدودة، ونخبوية شعراء نهاية القرن الفرنسي، جاء الغزالي وابن تيمية، واستعادت الأوزان الخليلية نفوذها، وركنت مدارس الحداثة النخبوية في اقصى حالات العزلة والتآكل الروحي.
إن البرجوازية العربية المدنية، بعودتها للتراث القديم والوسيط، مثل البرجوازية العربية الريفية والحكومية الراهنة، بعودتها للتراث الديني الطائفي فحسب، كما يفعل أدونيس نفسه عبر استلال اسمه من التراث الفينقي، تقومٌ باستعادة الماضي، بأسطرة الحاضر، وليس بتحليله وتشريحه العلمي، وحشد الطاقات البشرية لتغييره.
ومن هنا تكون نظرتها للتراث والماضي والحاضر، مؤدلجة في لحظتها السياسية الراهنة، في انتقائيتها وانتهازيتها العملية، فتكون مع الشرق أو الغرب، أو مع الماضي أو الحاضر أو مع العقلانية أو اللاعقلانية، تبعاً لمصلحتها المؤقتة واتجاه البورصة الاجتماعية.
وهكذا كان أدونيس مع الغيبية واللاعقلانية حين كانت حشود العقل وانصال الشعر والأدب تشرحُ الواقعَ وتثورهُ وحين كان زخم القوى الديمقراطية والعملية يهز العالم القديم والتبعية للغرب المسيطر ويطرد الخرافات من الوعي.
وصار أدونيس ضد عفاريت الماضي حين تحولت إلى إطلاقية وحشد من الجمود، محتفظاً بذات خصائص الشعر الفردي النخبوي بجذوره الفرنسية الصالونية مع بهارات العقلانية المخففة، التي لا تتحول إلى تحليل علمي كشفي ونقدي للواقع، وتشكل الجسور مع المتلقي، وتحرض القارئ، وتطلق الجمهور في الساحة الشعرية، حتى تظل علائق العلاقة مع الغرب المسيطر مأمونة مستقرة.
ومن هنا تصير أغراض الشعر ومضامينه وشعر الصعاليك المكافح وأشعار الفرق الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي وشعر النهضة، والشعر العامي الجميل وكل فلكلور الشعب، خارج الإبداع المقتصر على نمطية واحدة فقط، هي النموذج الصوفي والسريالي المتكرس في لحظة أوربية برجوازية آفلة.
هكذا لا تغدو مثل هذه الحداثة الشعرية والتثوير الإبداعي سوى رؤية محافظة، منغلقة على ذاتها، مركزة على مستوى عقلي واحد شاحب، وعلى علاقة مبتورة بالقارئ، خائفة من الإمكانيات الثرة للشعر المقاتل، والإبداعات اللامتناهية للشعب.
وعي التاريخ الإسلامي عند أدونيس
يقترب الشاعر والباحث أدونيس من الوضع الإسلامي التأسيسي الذي شكل الثورة التمهيدية، لكنه يرفض أن يكون ثورة، وأن يمثل نقلة نهضوية، والصراع بين المحافظين والتطوريين يأتي لاحقاً.
من هنا تغدو السيرة النبوية والقرآن ليسا هما مفجرا الثورة وعمليات التغيير، لكن التجديد والمعارضة يأتيان على نحو غير محدد في وعيه بدءً من أبي ذر الغفاري.
وهكذا فإنه يقترب من الوضع الموضوعي ثم لا يستطيع أن يمسك خيوطه، يقول:
«وكان يقابل هذا الانقسام في المعاني انقسام اقتصادي / اجتماعي: من جهة، أشراف هم الطبقة القرشية وحلفاؤها، ومن جهة ثانية، طبقة (الغوغاء) و(عبيد) و(نزاع قبائل) و(سودان)، كما كانت تسميها الطبقة القرشية السائدة. وكانت السيادة، طوال القرون الهجرية الثلاثة الأولى، للطبقة القرشية وحلفائها. ولهذا كانت السيادة لثقافتها، ولمنظورها الديني بخاصة، طوال هذه القرون.»(5).
إن هذا التقسيم الاجتماعي الأساسي هو الذي يحدد المنظور التاريخي لتطور الإسلام في القرون الأولى، وبطبيعة الحال كان الانقسام الاجتماعي موجوداً بين قريش والفقراء اللاقرشيين، كما كان هناك انقسام في صفوف قريش ذاتها بين كبار الأغنياء ومتوسطي الحال والفقراء في هذه القبيلة المسيطرة على المدينة الدينية العاصمة.
يقوم أدونيس باختزال التناقضات الاجتماعية وتحويل التناقض بين قريش والفقراء اللاقبليين، إلى تناقض وحيد مهيمن على الحركة التاريخية، وهذا يؤدي به إلى سلسلة من الأخطاء.
فإذا كان الصراع بين قريش والفقراء العبيد هو محور الحركة التاريخية وتغيير البنية الاجتماعية فلم لم يقم هؤلاء الفقراء بقيادة الحركة الصراعية أو نحن لم نرهم إلا كحلفاء وأصدقاء لجماعة من قريش ذاتها؟
ما الذي يدعوهم وهم المستغلّون والمهانون إلى التعاون مع جماعة محددة من قريش؟
ولا نعرف لماذا، إذا كان هذا التناقض المجرد والذي فرضه أدونيس على الحياة المكية وقتئذٍ صحيحاً، لمَ لمْ يؤسس هؤلاء العبيد وعياً فكرياً أو سياسياً خاصاً بهم، غير ذاك الذي ظهر بين نفرٍ من قريش؟!
لا بد أن يكون هؤلاء العبيد والسودان الخ.. قد وجدوا في الإسلام شيئاً جذبهم، ولكن في هذه الحالة لا بد أن ثمة عناصر فكرية وسياسية هي التي استدعت انخراطهم في الإسلام التأسيسي، قبل أن يتشكل وعي لدى أبي ذر الغفاري أو غيره من الجيل المعارض في زمن عثمان والدولة الأموية، وهذا الشيء الذي جذبهم هو الذي جعلهم يقاومون التعذيب والقهر لدى سادتهم، الذين نظروا للإسلام باعتباره دين الفقراء والعبيد والمستضعفين.
ولكننا في هذه الحالة نكون قد وصلنا إلى الطرف الأقصى من المعادلة الإندونيسية، فهؤلاء الفقراء والعبيد ظلوا حلفاء لقيادات الحركة الإسلامية الناشئة، أو هم من القوى «الشعبية» بتعبيرنا المعاصر، المنظمة للحركة، وهنا ندرك أن ثمة ثغرة في تعميم أدونيس حول الطبيعة الاجتماعية للإسلام.
فإذن كانت هناك قوة اجتماعية في قريش لم تتطابق تماماً مع العبيد ولا مع «سادات» قريش في آن معاً. هذه القوة الاجتماعية، وهي فئة التجار المتوسطين، هي التي جعلت التحالف مع هؤلاء الفقراء جزءً من رسالتها التاريخية، وفي سبيل إزاحة الملأ القرشي المستبد.
وهذا بطبيعة الحال يغير التناقض الرئيسي الذي افترضه أدونيس للحركة التاريخية، ويجعل الحركة الإسلامية التأسيسية قوة تقدمية في التاريخ منذ البدء، ومن هنا ندرك عدم تمكنه من العثور على جدلية التاريخ المركبة في هذه اللحظة المفصلية.
علينا هنا أن نقرأ التعميم الإندونيسي الاجتماعي السابق والقائل بشكل تعميمي عن «طبقية قريش وسلطتها» وخطورته على الآراء التالية للباحث، فهو يقرر مسبقاً وجود منظور لقريش موحدة متراصة اجتماعياً وفكرياً قد ساد طوال الثلاثة القرون الهجرية الأولى.
هذا الإقصاء لتقدمية الرسالة المحمدية وتوحيدها بأعمال المحافظين، هو ما يمكن أن نستنتجه من هذه السيادة المجردة والمعممة لـ«ثقافة» قريش التي يطرحها أدونيس، فالدعوة الإسلامية واجهت أسياد قريش وصارعتهم وفلت من سيادتهم المطلقة على المدينة، ليس في سبيل تدمير قريش كقبيلة، ولكن في سبيل دمقرطتها وتحديثها وتعريبها. وفي سبيل تشكيل جنين الدولة «القومية» الإسلامية العربية العالمية.
إذن كانت هناك تداخلات وتباينات داخل قريش، ووجود الفئة المتوسطة من التجار وقيامها بالتحالف مع السودان والعبيد، هو مظهر التجلي لرفض الأرستقراطية والتعالي الطبقي، وهذا الاتجاه للتوغل الشعبي والثوري هو الذي كان يجذب هؤلاء الفقراء، ثم رعاة الجزيرة وقبائلها الكثيفة، للدعوة، وهو الذي حرك التاريخ الجاهلي وتجاوزه وصنع النهضة. أما حين تمكن الأشراف من السيطرة على الدولة الإسلامية وشكلوا قراءة مختلفة للتاريخ والتراث، فهذا زمن موضوعي آخر.
وينتقل أدونيس من جمود ومحافظة الدعوة الإسلامية كما يسميه إلى نصوصها، فيقول عن الوحي:
«الوحي، من حيث أنه تأسيس وبدء مطلقان، يتجاوز الأزمنة: الماضي، الحاضر، المستقبل. فهو الماضي من حيث أنه الأول، وهو الحاضر من حيث أنه المستمر، وهو المستقبل من حيث أنه الأخير المطلق»، ص68، ويضيف «ولهذا لا قيمة للزمن التاريخي إلا من حيث صدوره عن زمن الوحي. فالوحي حاضر اليوم، وغداً، حضوره يوم نزوله»(6).
فكما كانت الحركة الإسلامية محافظة فإن الوحي بهذا لا يجعل الوجود إلا متضمناً فيه، وهو بهذا «أي الوحي» يلغي تقدم الزمن وفعل الإنسان، كما يتأول أدونيس.
إن أدونيس لا يعالج الحركة الإسلامية التأسيسية بعد الفقرة التي قالها في البدء تحليلاً تفصيلياً، سواء تاريخية الحركة أم نصوصها، ثم يقدم مثل ذلك التعميم السابق عن الوحي، فبدا كحكم فوقي لا يتأسس من قراءة الوحي داخل الحركة التاريخية.
فإذا كان الوحي يتداخل والحركة التاريخية والرسالة المحمدية ويظهر فيه الناسخ والمنسوخ، فهذا التنجيم القرآني، أي نزوله منجماً، متفرقاً، متابعاً للأحداث والتطورات، يدل دلالة واضحة وأكيدة على انفتاحه على المستقبل والتقدم، وتركه للإنسان تغيير مصيره وتشكيل عالمه.
إن الغيبي يتمظهرُ ويتفتحُ بشرياً، فهو يتجلى في صعود الإرادات وتحول المواقف ودخول العبيد والفقراء والبدو والتجار وأهل المدينة في خضم التحول، أن فعل الإرادة البشرية الملموس هو الذي يكون المطلق، فليس ثمة تضاد مطلق بين الوحي والناس، بين النص والفعل التاريخي، بين الكلمة والثورة.
ولكن إذا قامت الطبقات الاستغلالية فيما بعد بتشكيل صورة معينة للوحي والرسالة ولهذه العملية التاريخية المركبة، منتزعةً منها الفعل البشري وظروف الثورة وملابسات الزمان والمكان، فهذا جزء من الوعي المحافظ المعبر عن تكدس الثروة المادية في جيوبها، وبالتالي لتملك الثروة الثقافية للتاريخ العربي ووضعها في خدمة الأولى.
يقوم أدونيس بعد ذلك بمتابعة متقطعة، تطير فوق ظروف المراحل المختلفة، منتزعة جوانب من الفكر الديني المحافظ، باعتباره يمثل الإسلام بكليته «السنية» بدءً من عمر بن الخطاب مروراً بالشافعي حتى الباقلاني. ويُلاحظ هنا كيف لم يُدخل أي أسم من الإمامية في هذا الشريط المحافظ الـمُعمَّم.
أي أنه ينظر للإسلام المحافظ باعتباره مبادئ السنة، التي تشكلت منذ البدء، في تصوره، وهكذا فحتى مسائل الطوائف تغيب تاريخيتها عنه. فالطوائف لم تتشكل إلا بعد قرون من الإسلام الأول. فيغدو وعي أدونيس وعياً طائفياً، أي يستند إلى وعي طائفي، فيرى الإسلام المحافظ باعتباره وعي تجسد في طائفة السنة، في حين أن الطائفة الأخرى تمثل الرفض والمعارضة.
يغدو التاريخ الإسلامي تاريخاً طائفياً منذ البدء لدى أدونيس ويتجلى ذلك في استشهاده رقم (112) في صفحة 332 من ثبت المصادر، حيث يستعين بكتاب الكامل لأبن الأثير الذي يروي وصية الإمام علي بن أبي طالب لولديه الحسن والحسين اللذين يطالبهما بضرورة نصرة الحق وبخصومة الظالم، ثم يروي وصية معاوية لأبنه يزيد الذي كرس فيه السيطرة والتعالي.
وكلا الوصيتين تعبران عن منحى كلٍّ من الإمام والطاغية معاوية، لكن أدونيس يأخذ النصين الوصيتين ليستنتج منهما منحيين تاريخيين مجردين مُعمَّمين فيقول:
«وتكشف هذه الأقوال على منحيين أساسيين في النظر والعمل: الأول هو الذي ارتبطت به، تاريخياً، وانبثقت عنه مختلف التحركات التي تسير في أفق التحول. والمنحى الثاني هو الذي ارتبطت به مختلف التحركات التي تسير في أفق الثبات».
ولا خلاف على استغلالية معاوية وأبنه ودولته، ونضالية الإمام وأبنائه، إلا أن تراث الإمام علي النضالي غدت له سيرورة خاصة بعد الضربات الموجعة لآل البيت النبوي، وحدوث ظاهرة الانكفاء ومحاصرة الأمويين لهم، ثم ظهور عناصر فكرية مغايرة لزمنية ووعي الإمام علي السابق، حيث بدا يتخذ طابعاً غيبياً مفارقاً، فقد ظهر منحى آخر مع المنحى النضالي الواقعي للإمام، وهذا ما سيشكل غيبيات واسعة لدى قسم كبير من الإماميين، وسيجد تجسيداته في الإسماعيلية والإثناء عشرية وهما تتحولان إلى سلطتين فتعجزان عن إنتاج نظام مغاير للإقطاع، تماماً كما حدث لدى السنة، فالبنية الاجتماعية التقليدية انتصرت على العناصر الديمقراطية والتنويرية، الموجودة في هذه المذاهب، بأشكالٍ مختلفة ومستويات متعددة، حسب التطور المركب والمعقد للأمم والقوى الاجتماعية الإسلامية وهي تتشكلُ في عصر محكوم بأسلوب إنتاج إقطاعي زراعي محدود التطور الحرفي الصناعي.
ولا تختلف مقدمة كتاب أدونيس (الثابت والمتحول) في طبعته الجديدة لسنة ألفين وأثنين عن المقدمات القديمة، مما يعبر عن ثبات موقف الشاعر والباحث خلال هذه الفترة ورؤيته لتطور الوعي والتاريخ العربيين الإسلاميين.
وتستندُ المقدماتُ على تناقض جوهري لم يكن بإمكانه حله.
فمنذ البدء يقوم بتعريف الثابت بالشكل التالي:
«أُعرف الثابت، في إطار الثقافة العربية، بأنه الفكر الذي ينهض على النص، ويتخذ من ثباته حجة لثباته هو، فهماً وتقويماً، ويفرض نفسه بوصفه المعنى الوحيد الصحيح لهذا النص..»(7).
في المقدمة الجديدة لا يطرح الثابت، أو المتغير، كحركة تاريخية، بل كمبادئ مُجردة خارج التاريخ، فيغدو الوعي العربي بنيةً أساسها الثبات، وهو المشكل للتاريخ الفكري والباقي إلى الآن.
أما المتحول فهو «الفكر الذي ينهض، هو أيضاً، على النص، لكن بتأويل يجعل النص قابلاً للتكيف مع الواقع وتجدده، وأما أنه الفكر الذي لا يرى في النص أية مرجعية، ويعتمد أساساً على العقل لا على النقل.»(8).
عبر هذا التجريد تغدو البنية العربية الفكرية مؤسسة على الثابت، فهي ثقافة المستوى الأول السائد: «كانت الثقافة في المستوى الأول هي ثقافة النظام السائد، أي الثقافة التي تقوم، شأن النظام، على دعوى التمسك بالأصول، والمحافظة على القيم الموروثة، كما هي، أو كما نقلها الخلف عن السلف.»(9).
تغدو الثقافة العربية المهيمنة هي الثقافة المحافظة أما الثقافة المعارضة فهي تالية، وهنا يظهرُ التناقضُ الأساسي في هذا الوعي الأدونيسي، فإذا كانت الثقافةُ المحافظةُ هي التي صاغت الإسلامَ، وجاءت الثقافةُ المعارضةُ والمغيرة في وقت لاحق، فلماذا استطاعت الثقافة المحافظة أن تشكل زخماً تاريخياً، ويحتضنها الناس؟
فإذا لم يكن الإسلام نقلةً تاريخية وتحولاً، أي إذا لم يكن هو ذاته معارضة لتخلف سابق، فكيف أمكنه أن يحرك التاريخ؟!
إن أدونيس بوضعه الثابت والمتحول في كيان لا تاريخي، فلا نعرف من هو المؤسس للبنية الإسلامية منهما، أي من هو الذي جاء أولاً الثابت أم المتحول؟ فإذا كان الثابت جاءً أولاً فهو متحول ضد ثابت قديم، أما إذا كان المتحول جاء أولاً فهذا يكون ضد المقولة التجريدية هذه. أي يكون المتحول المؤسّس هو ذاته تقدماً.
لكن أدونيس يجنبنا هذه الحيرة بقوله بأن الثابت هو الأصل، فالإسلام كيان محافظ منذ البدء، وهو يقيمُ حججه في مقدماته التي نفحصها هنا، على استشهادات ليست من الإسلام الأول، فهو يختار نصوصاً للمؤرخ ابن كثير وابن حزم وابن تيمية، وهذا الاختيار لنصوص أفرادٍ متأخرين يؤكدُ بأن بنية الثبات هي الأصل وحتى لو كانت مبادئها وأصولها متأخرة، عن الإسلام الأول بعدة قرون!
ومن هنا تغدو الحركةُ التاريخيةُ التي تشكلت سابقاً لا قيمة لها، فالمبادئ المحافظة لا تغدو نتائجٌ لحركةِ صراعٍ اجتماعي وإيديولوجي، بل تغدو مبادئ مُسّبقة، مبثوثةً في كيان الدين منذ البدء.
ولن تنفع حركة الصراع الاجتماعي في تكريس أو في نفي هذه الصفات، فالبنية التجريدية التي أقامها أدونيس للإسلام هي في مستويين محافظ غالب ومهيمن ومستوى متمرد ثانوي تشكل لاحقاً.
والتناقضُ الجوهريُ في هذا الوعي كما أسلفنا هو في كيف يكون الثابت مشكلاً لحركة تاريخية فاعلة ومغيرة؟ فإذا كان منذ البدء محافظاً وجامداً كيف أمكنه أن يدخل التاريخ ويغيره؟!
علينا أن نبحث أسباب أدونيس لتبرير أو تفسير هذا التناقض. فهو يحس بهذا التناقض لكنه لا يقوله، أي أن التناقض لا يظهر على صعيد وعيه، فيتجه إلى الجذر الغيبي للدين، فالدين بما أنه حركة غيب، فهو بلا زمن، وهو محافظ بالضرورة لأنه يحدد التاريخ بشكل مسّبق وأبدي، فيقول:
[.. أن الدين، بما هو وحي، أي بما هو كلام الله، ليس له ماضٍ، فلا تنطبق عليه مقولة التغير والنقص.](10).
يقوم أدونيس إذن بفلسفة الثبات في الإسلام باعتباره شيئاً غيبياً، فيجعل الثبات هو الأصل، وأي تحرك هو [في النور الأصلي الشامل، نور النص، أي أنه انتقال متدرج في هذا النور](11).
ومن هنا يستشهد بأقوال المحافظين بأن [الأصل المؤسس – العهد النبوي الأول، وكل انحراف عنه إنما هو انحدار وهبوط](12).
لكن هذا أيضاً لا يفسر كيف أن الإسلام الأول كان مركزاً للجذب التاريخي والقبول الواسع وتغيير الواقع، فإذا كان جامداً محافظاً كيف يمكنه أن يغير ويشكل مراحل جديدة ويطلق الطاقات التحويلية والثورية؟ ولو قال الإسلام نفسه بأنه مُستمد من الغيب، فهذا لا يكفي ليدخل التاريخ، الذي يحتاج إلى حركة تاريخية ملموسة، أي أن الغيب لا بد أن يتمظهر بشرياً، ويتألق اجتماعياً، وينمو عبر حيثيات وقوانين التاريخ، وليس بشكله الغيبي المنقطع عن السيرورة التاريخية وعن الدخول في الطبقات وفي الوعي.
فالقرآن يستند إلى قوانين اللغة العربية الموجودة قبله، والحركة الإسلامية كذلك تنمو عبر قوانين التطور الاجتماعي. أي أن الإلهي يتجسد بشرياً ولا يغدو الغيبي منفصلاً عن المكشوف والمنظور.
ولهذا فإن تناقض أدونيس يتفاقم هنا ولا ينحل. ويعود السؤالُ بصيغة أخرى، فنقول بأن الغيب ليس انقطاعاً عن الحياة، والنور يصير شمساً ومعرفة ونضالاً، فلماذا يكون الثبات والجمود هو المؤسس الأول للإسلام وهو المهيمن؟
يتوجه أدونيس بعدئذٍ إلى «البحث» عن حلول أخرى للتناقض الجوهري فيقول بأنه يرفض أن يجد حلولاً سهلة لتفسير التاريخ الإسلامي، كالحديث عن تفسير البنية الفوقية في المجتمع الإسلامي العربي الأول بأنها «انعكاس لبنيته التحتية، وهو ما أخذه عليّ بعض النقاد. فهذا تفسير من خارج، وهو إسقاط. »(13).
وهو يتصور بأن هذا التداخل بين البناء الفوقي والبناء التحتي يشترط شروطاً فكرية معينة، وليس باعتباره قانوناً في مدرسة فكرية معينة، لرؤية التاريخ، فالمادية التاريخية هنا تعتبر ذلك ظاهرة دائمة في المجتمعات، ولا تنتظر أية شروط ثقافية لتطبيق القانون السالف الذكر، ولكن أدونيس بدلاً من أن يرفض هذا القانون المادي التاريخي، الذي يتضاد مع رؤيته، يقبله بشروط مضادة لطبيعة هذا القانون المادية، فيقول:
«ثم أنه لا يصح إلا إذا كان الوحي والشريعة يعاشان بوصفهما شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي يتطابق مع قوى الإنتاج في العصر الإسلامي الأول، ومع علاقات الإنتاج، وتوزيع العمل… الخ»(14).
هنا يواصل أدونيس البحث عن جذور الثبات عبر الغيب فقط، فاصلاً الغيب عن الظروف الاجتماعية، فكأن الغيب يبقى في ذاته الماورائية ولا يدخل نسيج الحياة، فيبقى الميتافيزيقي ميتافيزيقياً، والمجردُ مجرداً، فلا يحدث النسج التاريخي هنا، فلا نعرف كيف يمكن أن ينتصر العرب المسلمون والحالة هذه؟!
ألم تكن لديهم خيول، والخيول احتاجت إلى عدة آلاف من السنين كي تأتي إلى الجزيرة العربية، وتتروض وتغدو عربية، وتصير جزءً من أدواتهم الحربية، وكذا الإبل والسيوف وتكون المدن وتشكل القبائل والشعبان الكبيران: المضريون واليمانيون الخ..
وإذا قلت عن الظروف المادية البسيطة هذه فقل ذلك عن الشروط الاجتماعية والثقافية الُمركبة، مثل مسألة تكون اللغة العربية وسيرورتها التاريخية الطويلة، وتغدو الأمور أكثر تركيباً مع الحركة الإسلامية، حيث تنمو هذه على قبول البشر والإرادة والفعل الشعبي، وقدرة الحركة على التغلغل بين الناس ومعرفة مطالبهم ونسجها في فعلها التاريخي وانضمامهم إليها الخ..
أي أنه يمكن أن ندرس الظاهرة الدينية عبر تقدير طابعها الغيبي كما يقول الإيمانيون النصوصيون، ولكن أيضاً يمكن أن نقرأها في ضوء كونها ظاهرة تاريخية، فلا نفصل بين المقدس والموضوعي، أي أن نقوم بتقدير جذور النص على المستويين الغيبي والواقعي.
إن أدونيس وهو لا يقرأ الشروط البشرية لظهور الحركة الإسلامية، يقترب من الموقف المحافظ الذي ينقده، فيؤكده عوضاً عن أن ينفيه.
فإذا كان الإسلام حركة محافظة منذ البدء فهذا ما يقوله المحافظون، والذين بعد ذلك ينفون العلاقات والسببيات البشرية التي تكونت لنمو الإسلام وانتصاره، فيجعلونه غيبياً محضاً، وبهذا يجمدون إرادة الأمة، وينزوعون قدراتها على العلوم والتجديد.
وهذا ليس سوى موقف الأشراف الذين احتكروا تكوين صورة خاصة للإسلام، وهذا ما فعله فقهاؤهم ومؤرخوهم، وهنا يقوم أدونيس بنقد هذه الصورة باعتبارها الإسلام المؤسس، واختياره لممثلي الأشراف، واليمين الديني، وهم أبن كثير وابن حزم وابن تيمية، أي كل الإيمانية النصوصية المحافظة التي هي ذاتها مستويات ومتباينة «ففرق كبير بين ابن كثير وابن حزم من جهة وبين ابن تيمية من جهة أخرى»، بعد أن تمكن هذا اليمين من صنع صورة اجتماعية مستبدة للإسلام، وقد أسماه «الثابت» فهذا ليس سوى الإقطاع الطائفي، ولكن كيف يكون الثابت وقد جاء متأخراً؟ أي جاء بعد أن لم يكن الإسلام إقطاعاً طائفياً؟
بعد أن يعجز أدونيس عن الخروج من ذلك التناقض الجوهري غير المحلول، يتوجه للخروج من دوائر البنية الاجتماعية، فيقول:
«لا جدال في أنه من المهم أن ندرس الشروط التي نشأت فيها ظاهرة ما (ثقافية، أو اجتماعية، أو سياسية.. الخ)، لكن من الأهم أن نعرف معناها. ولا نستطيع أن نعرف معناها من مجرد معرفة شروطها، وإنما نعرفه حين نعرف القوة التي تمتلك هذه الظاهرة وتوجهها وتعبر من خلالها عن نفسها. »(15).
هنا إحساس بأهمية قراءة الشروط الموضوعية لتكون الظواهر التاريخية، ولكن هل تنفصل معاني الظواهر ودلالاتها عن شروطها ومناخاتها؟
وبالتأكيد تتجاوز الظاهرات شروطها وظروفها، وإلا لما كانت ذات أهمية، وفي هذا التعبير استشفاف بأن ثمة قوةً تحوليةً في الإسلام المؤسس، لكن أدونيس لا يقر بكون ظهور الإسلام ثورة اجتماعية نهضوية، بل بعكس ذلك كما سيتجلى لاحقاً، ولهذا يروح للبحث عن القوة التي تمتلك تلك الظاهرة، بدلاً من أن يتابع تشكلها في شروطها ونضالها للقفز بالمنطقة من تلك الشروط الصعبة المتخلفة، فيؤكد بأن التغيرات الإيجابية والتقدم جاءت من خارج الإسلام العربي. فيقول:
«مع الفتوحات العربية الإسلامية، أخذ ينشأ هامشٌ يضيق ويتسع، بحسب الأوضاع والحالات. ويعودُ السببُ في نشوء هذا الهامش إلى التعددية القومية – الثقافية: لم يعد المجتمع الإسلامي / العربي، بعد الفتوحات متجانساً، قومياً وثقافياً، كما كان قبلها. »(16).
وهنا نرى بأن التغيرات الإيجابية نتجت من احتكاك العرب بالعالم المفتوح، ولكنها ظهرت من فعلِ عوامل قومية ثقافية، أما الظاهرة الأصلية، أي الإسلام المؤسس، فلم يكن يحمل شيئاً إيجابياً، بل تكونت التغيرات الإيجابية من الهامش، وهذا الهامش هو الذي صنع الظواهر المضيئة حسب رأي الباحث:
«هكذا أصبح، بعد أن دخلت عليه عناصر تنوع وتعدد، منظومة من التناقضات / أي التوترات. هكذا نرى الصوفية إلى جانب الفقهية الشرعية، وألف ليلة وليلة إلى جانب علم الكلام والفلسفة، والنزعة الشعوبية إلى جانب النزعة القومية، والفكر الإلحادي إلى جانب الفكر اللاهوتي، وحرية الحلم والرؤيا إلى جانب الحكمة العملية والتعقل. »(17).
إذن فإن الإسلام المؤسس لم يكن يحمل بذوراً وإمكانيات للحداثة، فهذه جاءت من ظهور الهامش، فيتضح بشكل جلي بأنه «هو الثابت» وأن المتحول هو هذه العناصر الحديثة التي تشكلت في الفضاء التاريخي الذي شكله العربُ، كما لو أن البنية الاجتماعية / الثقافية التي شكلوها كانت بنية صلدة لا تناقضات فيها، ويهيمن عليها الثابت المتخلف، ولم يظهر المتحول إلا عبر الشعوب الأخرى!
تتوارى هنا السيرورة التاريخية للبنية الاجتماعية، فالعرب البسطاء البدو الذين عبر بساطتهم هذه دمروا أنظمة الاستبداد العريقة، وحملوا ميراثاً ديمقراطياً عبر ثورتهم تجلت في فرق النضال المديدة، وقدرتهم على إعادة سبك المنطقة في عالم كوني، يتحولون هنا إلى جلمود صخر حطه السيلُ من الصحراء الجامدة، فتأتي الإنجازات من الخارج.
إن الداخل العربي الإسلامي، والخارج القومي غير الإسلامي، عبر وعي أدونيس في هذه المقدمة لكتابه الثابت والمتحول، يغدوان متنافرين متباعدين، ولا يتشكلان في سبيكة تاريخية متداخلة، فالعرب لا يضيفون بل يُضاف إليهم، وهم لا يغيرون بل تأتيهم التغيرات من الخارج.
إن العملية التاريخية هنا غير ديناميكية وغير جدلية، فمنذ البدء يرى أدونيس الداخل العربي المشكل للعملية التاريخية بأنه غير ذي أهمية، رغم أنه في هذه المقدمات لا يقول عنه شيئاً كبيراً، بل نستشفُ ذلك، ثم يغدو الإسلام هو الوعي المحافظ باتجاه معين، بعد أن تكرس قمعاً وشراءً، أي بعد أن تمكنت قوى الإقطاع السياسي والمذهبي من تفريغه من دلالاته الثورية، لا أن يتم درس هذه العملية الثورية التي شكلها الإسلام وسببيات تمكن هذه القوى المحافظة بمختلف المذاهب، من ذلك التفريغ، وهو أمر يشير من قبل أدونيس إلى تحميل مذهب معين مسئولية تشكيل الطابع المحافظ في الإسلام، بدلاً من رؤيتها كعملية اجتماعية تجلت في كل المذاهب والأديان في المنطقة، لأسباب تتعلق بمشكلات التشكيلة الإقطاعية ومحدوديتها، أما تحميل «السنة» مسئولية صنع التخلف فربما هو الأمر الذي يشير إليه أدونيس عندما قال بوجود قوة «محافظة» تجلت منذ الإسلام الأول، وإن هذه القوة صبت الدين بشكل معين. وهنا تناقض مع وقائع مشهورة مثل كون ابن رشد وابن خلدون السنيين المالكيين هما ذروة العقلانية في العصور الوسطى كلها!
هنا نرى العملية الفكرية الأدونيسية وهي تحلل التاريخ بعد أن أنجزت صنعه القوى المحافظة ونحّت العناصرَ الديمقراطية والنهضوية، أي أن أدونيس يرى الإسلام كإقطاع مذهبي، بعد أن رسخ ذاته، وليس في مجرى الصراعات المتعددة، والقوى النهضوية تتشكلُ وتقاوم، ثم يقومُ بدمغ الإسلام كله بالنتائج الأخيرة لهيمنة الإقطاع الطائفي.
لا تكفي مقدمات كتاب «الثابت والمتحول» للشاعر والباحث أدونيس للكشف عن كل أبعاد المتن، أو نص الكتاب، ولكننا هنا بصدد عرض الخطوط العريضة لتفكيره، وقد رأينا كيف تجنب بشكل كلي رؤية ظهور الإسلام كثورة نهضوية تحديثية للعرب، وهذا التجنب يدفعه لرؤيتها بعد أن هيمن عليها الإقطاع المذهبي، أي بعد أن تم تكريس الإيمانية النصوصية، وهو أمر لم يتم في المذاهب السنية وحدها، ولكن العملية تجلت في كافة المذاهب والأديان في المنطقة، لوجود قوانين للبنية الاجتماعية تقوم بإعادة تشكيل الأفكار وإخضاعها لمنطقها الداخلي.
ولهذا فهو في مقدماته المكتوبة منذ تأليف الكتاب كأطروحة للدكتوراه كما يوضح في فقرة توضيحية، إلى إعادة طبع المؤلف في سنة 2002، عبر طبعة دار الساقي التي نراجعها الآن، يحافظ على نفس الرؤية للإسلام كدين محافظ جاءت التغيرات إليه من الخارج، وفي هذا تقارب للرؤية الأدونيسية مع المواقف المحافظة، التي رأت الإسلام كما يراه، أي بأنه ليس ثورة نهضوية أعادت تشكيل المنطقة، بل رأته كعملية غيبية منقطعة عن سيرورة التقدم والتحرر، وبهذا قامت بتجميد الإسلام في قوالب، وأدونيس لم ير حسب المقدمات، سوى هذه القوالب، التي هي نتاج متأخر لصراع اجتماعي وفكري طويل، وحين يعزل العملية النهضوية الأولى عن القوالب، ويفصل الثورةَ عن الثورة المضادة، يقطعُ سيرورةَ العملية التاريخية الموضوعية، فيؤدلجها، أي يقوم بإخضاعها لرؤى مسبقة، تنمو فيها عملية القطع والتأويل الخاص، أي تصبح قراءة غير موضوعية، وتتوجه لأحكام تعميمية.
وبطبيعة الحال لا تكفي المقدمات لتحليل كل النص البالغ أربع مجلدات من القطع المتوسط، وتمثل جهداً فكرياً كبيراً، ولكنها تمثل كذلك خلاصة مركزة، وتعبر عن الحفاظ على ذات الرؤية على الرغم من الجهود الواسعة الكبيرة التي تمت لتحليل التراث الإسلامي خلال العقود الأخيرة.
كذلك فإن كون الكتاب هو رسالة دكتوراه تقدم في جامعة مسيحية، بأشراف باحثين مسيحيين، وتوجه المقدمات لإدانة مذهب إسلامي معين، هو مذهب الغالبية من المسلمين، هو تعبير عن عدم القدرة على تجاوز الثنائيات المذهبية والدينية المتصارعة في المنطقة على مدى ألف عام.
أي عدم القدرة على رؤية صراع المذاهب باعتباره صراع القوى المهيمنة في الطوائف، وتحريفها للصراع الاجتماعي عن أسسه الحقيقية، حيث أن القوى المهيمنة المستغلة استطاعت أن تجمد كافة المذاهب والأديان عن الفعل التحديثي والديمقراطي، وتعرقل التطور والتحرر بين كافة المسلمين والمسيحيين العرب، وإذا كان ثمة تطور في بعض الطوائف فهو تطور جزئي، فوجود أسر مسيحية لا يوجد فيها تعدد زوجات، لا يعني بأن هذه الأسر تجاوزت الدكتاتورية الأبوية، وإذا كانت التأثيرات التحديثية الغربية وخاصة الفرنسية منها، قد طورت من أوضاع هذه الأسر تعليمياً، فإنها لم تصل بها إلى الحداثة الحرة، بل غدت أجزاء تابعة للهيمنة الفرنسية، وبقائها في الطائفية وصراعها الدامي من أجلها، تعبير عن عملها لتخليد امتيازات المستغلين الكبار في الطائفة الذين استغلوا الشكل الطائفي للسيطرة الاجتماعية.
أي أن فرنسيتهم التحديثية تحولت إلى إقطاع ديني، حسب قانون البنية الاجتماعية.
إن العملية الفكرية لتفسير الماضي تكون عادة في ظل مصالح وتيارات راهنة، تؤول قراءة الماضي تبعاً لأهدافها، ويبدو الهدف من مقدمات الثابت والمتحول هو إزاحة دين كامل أو على الأقل مذاهبه المحافظة، وليس القراءة الموضوعية الدقيقة لكافة عناصره، وإبراز ما قامت به القوى المحافظة من تكريس صورة زائفة عن الإسلام، ونقد هذه الصورة وتجاوزها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
❀عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث فصل تحديثيون معاصرون ص 345.
* نشر هذا المقال في جريدة أخبار الخليج البحرينية في سنة 1995، مع تعديلات طفيفة حالية 2008.
(1): (البيانات) كتاب أصدرته أسرة الأدباء والكتاب البحرينية سنة 1995، ص40).
(2): (ص 45).
(3): (ص 47).
(4): (راجع حول نسبية الجوانب الإيجابية الغربية في الثقافة الديمقراطية كتاب (روح الأنوار) لتزفيتان تودوروف، الذي يقرأ تلك الجوانب بشكل تاريخي، وهو كتاب من إصدار مجموعة دور عربية، تعريب حافظ قويعة، سنة 2007).
(5): (الثابت والمتحول، دار الساقي، سنة 2002، ج 1، ص68، ط 8).
(6): (المصدر السابق، ص 69).
(7): (المصدر السابق، ج 1، ص 13).
(8): (المصدر السابق، ص 15، 16).
(9): (المصدر السابق، ص 22).
(10): (المصدر السابق، ص 21).
(11): (المصدر السابق، ص 21).
(12): (المصدر السابق، ص 21).
(13): (المصدر السابق، ص 23).
(14): (المصدر السابق، ص 23).
(15): (المصدر السابق، ص 34).
(16): (المصدر السابق، ص 32).
(17): (المصدر السابق، ص 32).
Published on August 21, 2020 09:23
No comments have been added yet.


