عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 84

December 13, 2020

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : العلوم والإنتاج والفلسفة





فصل من كتاب الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية الجزء الثاني





توطئة
لم يعرف العرب وهم في جزيرتهم شيئاً مهماً من العلوم الطبيعية والرياضية ، وقد حثهم الإسلام على دراسة ظواهر الطبيعة من كائنات وحيوانات ونبات ، وكذلك من ضرورة النظر داخل الإنسان وأجزائه وظواهره .
وقد بدأت الصلة بالعلوم عبر الترجمة النادرة في زمن الأمويين ، واتسعت في القرون التالية ، عبر العلاقة بالثقافة اليونانية ، وكذلك الثقافة الهندية ، اللتين غدتا المصدرين القريبين من الحضارة العربية، جغرافياً وتاريخاً .
وتتعلق إمكانيات التطور العلمي ليس فقط بالاحتكاك ولكن بالقدرة على الدراسة الموضوعية في ظاهرات الطبيعة ، أي أن يستطيع العقل تحليل الأشياء بدون عقبات أيديولوجية وسياسية .
ولكن القوى المهيمنة وقد اتخذت السقف الفكري الديني الذي ركبته على مستوى النظام السياسي ، معياراً لمدى توغل الوعي في قراءة الطبيعة ، حدت من تطور العلوم باعتبارها مضادة للدين ككل .
إن السقف السياسي – الفكري للنظام الاجتماعي ، يتحدد بهيمنة المركز على الملكيات الزراعية الواسعة ، وتأتي الحرف والتجارة ، تبعاً وكنتائج لهذه السيطرة على الزراعة وقوى إنتاجها ، ونظراً لأن الزراعة تقوم على ركود طويل لقوى الإنتاج ، وتبعية شبه مطلقة لقوى الطبيعة ، فكان هذا عائقاً أساسياً ومستمراً لتطور العلوم وبالتالي لتطور المجتمع والفلسفة .
ولهذا فإن تطورات العلوم تغدو متقطعة ، لارتكازها أولاً على حاجات الأرستقراطية الحاكمة من أبنية ومعالجة وصناعات ضرورية ومكملة لهذا البذخ .
إن السقف السياسي لتطور العلوم يغدو واضحاً بارتباطها اللامباشر بقوى الإنتاج ، فهي تغدو تابعة للعالم الزراعي / الحرفي المهيمن المتواري ، الذي يعيق تقدمها المتواصل .
لكن السقف السياسي للنظام يتواشج ويتداخل مع سقفه الديني ، فقد تركز الوعي الديني التابع للحكام هنا على الحفاظ على ذلك السقف الإنتاجي الراكد ، ولهذا فإن هيمنة هذا النظام السياسي الديني ، كانت تعني الحفاظ على مستوى من الفهم النصوصي المحدود والضيق للقرآن والسنة ، أي الحفاظ على مستوى تطور متدنٍ للعلوم ، خوفاً من اختراقه لسيطرتها على الحياة السياسية والاجتماعية .
ولهذا كان الفهم المتزايد تطوراً للقرآن والسنة ، يتعاضد والفهم المتزايد للفلسفة والعلوم . وكان الاثنان يشقان طريقاً لزحزحة تلك السيطرة السياسية الاقتصادية على قوى الإنتاج الزراعية .
وهي سيطرة واسعة من حيث الجغرافيا ، حيث الحدود الإمبراطورية ، لكنها سيطرة ضيقة من حيث القوة الطبقية ، فهي أرستقراطيات بغداد على وجه الخصوص ، ولهذا كانت الحركة التاريخية التالية هي حل هذا التناقض .
إن الحقبة الأولى من النهضة العربية الإسلامية المواكبة لزمن الدولة العباسية الأولى : 132 / 332 ، يتمثل في تصادم نزعتا التجديد والمحافظة بقوة شديدة .
إن القوى المحافظة تقوم بجعل ثقافة العرب البدوية وكأنها مطابقة لمستوى الإسلام وإمكانياته المعرفية . ولهذا تقوم بنقل ثقافة العرب اللغوية والأدبية والدينية بشكل حرفي من أجل عدم تطويرها من قبل الأمم المتحضرة المحكومة من قبل العرب . ويمكن أن نرى مدرسة الكوفة النحوية والحفاظ على عمود الشعر والارتباط الصارم بتقاليد العرب والنصوصية الفقهية الشديدة والتمسك بالأساطير والخرافات كتنويعات على هذه المحافظة ، التي ووجهت بعمليات تجديد وتفسير عقلي متنوع وكفاحات جماهيرية .
إن تطور الدولة العباسية هو ذاته قد فرض تقدم العلوم المختلفة في القرن الثاني الهجري ، ولكن ذلك يرتبط بمستوى الإمكانيات الموضوعية للتطور التي يحددها أسلوب الإنتاج .
وكان تشكل إمبراطورية واسعة بعاصمة هائلة هي بغداد ، قد أدى إلى تضخم عوائل الأشراف التي كثرت حاجاتها لبناء القصور وأدوات المتع والشفاء ، كما أدى إلى اتساع الفئات الوسطى التجارية والحرفية والإدارية والفقهية ، التي كانت لها هي الأخرى مستويات معيشة جيدة . وكل هذه التطورات المادية كانت بحاجة ماسة إلى تطور علوم الطب والصيدلة والرياضيات والهندسة والفيزياء والكيمياء.
وإذا كان للدولة مصلحة في إزالة الإيديولوجيات الوثنية والتعددية التجسيمية ، فإن هذا أوجد فضاءً فكرياً مساعداً كذلك على نمو العلوم الرياضية والطبيعية ، في حدودها الدنيا أولاً .
فلم تنبثق العلوم من قوى الإنتاج مباشرة ، بل عبر الترجمات من مصادر المعرفة الإنسانية المختلفة اليونانية والهندية والفارسية، ولهذا نجد في هذا العصر السالف الذكر والتوصيف ، العلماء الفرديين ذوي العلوم الوحيدة أو المتقاربة ، كالخوارزمي المتوفى سنة 232 هـ ( الذي صنف كتابه الهام في ” الجبر والمقابلة ” الذي أفاد منه سائر علماء عصره) ، ( 1 ) .
ويُلاحظ هنا إن هذا الطابع الفردي للعلم ، أي المتخصص في علم بعينه ، أو في علوم متقاربة ، قد سبق ظهور الفلسفة ، أي إن مقولات الفلسفة لم تدخل بعد في هذه العلوم ، سواء كان دخولها إيجابياً أم سلبياً ، لأن ظهور الفلسفة سيكون تتويجاً لتطور العلوم .
ولهذا كانت عملية نمو العلوم تتم بدوافع فردية وباجتهادات خاصة ، وبدون علاقة مباشرة بأجهزة الدولة ، فلا يكون لهذه العلوم سقف إيديولوجي ما ، لكن بعض العلماء لا يجد من إمكانية لتطور علمه بدون ( رعاية ) ما من قبل الدولة كما حدث للخوارزمي في هذا الزمن والأزمان التالية بشكل عام .
كما يُلاحظ في هذا العصر أيضاً ضخامة التقدم الذي حققته العلوم الإنسانية ( الأدبية ) ، بخلاف العلوم الرياضية والطبيعية التي كانت جنيناً داخل رحم المرحلة .
والعلوم الإنسانية المقصودة في هذا العصر هي العلوم الأقرب للثقافة ، كالنحو والصرف والبيان وقواعد الموسيقى ، نظراً للحجم الكبير من الثقافة العربية الدينية الخام المنقولة من عصر سابق ، والتي قام الوعي بالاشتغال عليها حفظاً ورصداً وتحليلاً .
كما أن العصر كان قريباً من المرحلة السابقة ، الإسلامية التأسيسية والأموية ، ولهذا فإن العلوم الطبيعية لم تحض بمشتغلين كثيرين في هذا الزمن .
لكننا نستطيع أن نلحظ لدى المفكرين فيه بدايات تفكير موضوعي في الكائنات والأشياء والحيوان والإنسان ، فالمعتزلة في طريق بحثهم عن مسئولية الإنسان عن أفعاله ، راحوا يفكرون في الأفعال البشرية وتوالدها ، وفي الطبيعة وأشيائها وفي التاريخ ومسئولية الإنسان فيه . وأبدع كبار مفكريهم ومنهم الجاحظ قراءة فيها الكثير من الملاحظات الدقيقة عن عالم الحيوان ، ( 2 ) .
إن صغر حجم العلوم الطبيعية ، بخلاف الرياضيات التي شهدت مولدها ونموها الكبير ، يعود لطبيعة الثقافة الأدبية والنظرية المهيمنة ، في هذا العصر ، ولبداية نمو التفكير النظري ، الذي سيبدأ فلسفياً مع الكندي في أواخر القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث ، والذي هو يمثل زمن سقوط العصر العباسي الأول ، ذي الدولة المركزية ، ومجيء العصر العباسي الثاني، عصر الدويلات .





الخطوط العريضة لظهور العلوم





لقد كان تطور الرياضيات في العصر العباسي ملحوظاً في الانتقال من نمط الحساب باليد إلى الحساب العقلي ، وكان هذا يتطلب تبدلاً للأرقام القديمة بمختلف صيغها ، حيث كانت هذه الأرقام المثقلة بالحروف والإضافات تعجز عن متابعة العمليات الكبرى في العد الكمي ، فكانت الأرقام الهندية ، من خلال صيغتيها المشرقية والمغربية ، هي البلورة للوعي الكمي المتزايد لمتابعة العمليات الحسابية المركبة الواقعية ، وكان اكتشاف [ الصفر ] هذا الكم المعدوم ، إنجازاً رياضياً أكثر منه فلسفياً ، لأن العدم الكمي سيؤخذ ككم سلبي متصاعد وليس كمظهر آخر للوجود .
إن تحول أي رقم من الأرقام من الواحد إلى التسعة ، إلى خانات أكبر ، تضيف إلى الرقم الأولي كماً لا نهائياً ، يغدو تحولاً نوعياً للأرقام عبر قدرتها على عكس العمليات المعقدة في الإحصاء الكمي من جانبيه الإيجابي والسلبي .
وتعطينا مسألة دخول الأرقام الهندية إلى الرياضيات العربية فكرة مبسطة عن تداخل العمليات التجارية والثقافية بالعلوم ، فعبر تنامي التجارة في العالم الإسلامي ، وبينه وبين قوى العالم المدنية وقتذاك ، وسيادة المعيار الذهبي والفضي في المشرق والمغرب الإسلاميين ، راح الحساب اليدوي يتحول إلى حساب حديث ، [ فباستخدام النظام العشري – بما فيه الصفر – واستعمال الكسور ، أصبح من السهل إجراء العمليات الحسابية ، مهما تعقدت وتشابكت ، وأمكن تركيب أي عدد سواء أكان كبيراً أم صغيراً ، لا فرق أن يكون عدداً صحيحاً أو كسوراً من عدد صحيح ] ، ( 3 ) .
إن الأعداد الصحيحة والكسور ، وتراكيبها المتداخلة تشير إلى التحليل المتنوع المتزايد للكم في شكله المعروف ، أي غير المجهول ، والانتقال من كمه الإيجابي إلى كمه السلبي ، والجمع بين الجانبين ، والقيام بعمليات متداخلة منهما .
ثم تنتقل الرياضيات إلى المستويات الأكثر تركيباً عبر الجبر ، فهنا يصبح الكم المجهول واستخراجه من الكم المعلوم ، طريقة رياضية أخرى للحساب المتوغل في العمليات المجردة .
إن الخوارزمي الُمحتضن من قبل الخليفة المأمون هو الذي قام بهذه الاكتشافات عبر استفادته من الثقافتين الهندية والفارسية ، فيضيفُ ذلك إلى الثقافة العربية عامة ، في القرن الثاني الهجري حيث تجري التطورات الأكبر في ميدان اللغة والثقافة ، فتغدو الرياضيات هي أحد فروع العلم الأكثر استجابة للتطورات ، بحكم تجريديتها وعدم ارتباطها الملموس الواسع بالمادة الطبيعية والاقتصادية ، وقدرتها على النمو المجرد .
ويجري هذا عبر الارتباط كذلك بالثقافة اليونانية التي قدمت المواد الأولية البسيطة في الحساب والجبر ، غير أنها قدمت المادة الأغزر عبر [ الهندسة ] ، فصارت الهندسة الأقليدية مترجمة ومستوعبة عربياً بشكلٍ واسع ، وبدون إضافات كبيرة .
إن الهندسة الأقليدية المركزة على المكان وأبعاده الثلاثة ، ستغدو إضافةً هامة لفرعي الرياضيات السابقين وهما الحساب والجبر ، كما ستدخل في تكوينهيما العضويين ، فتتشكلُ عمليةُ نموٍ مركبة .
لكن الهندسة الأقليدية بتركيزها على أبعاد المكان الثلاثة ، ستعطي الفلسفة أبعاداً محدودة وتقيدها في هذه الأبعاد الظاهرة المتناهية .
وإذا كان الوعي العلمي منذ القرن الهجري الأول أخذ يطرقُ ، ليس كم المادة فقط ، بل أيضاً محتواها الداخلي كيميائياً وفيزيائياً فإنه أخذَ منذ القرن الثاني والثالث الهجريين يندفعُ بقوة لسبر أغوار المادة .
إن الكيمياء والفيزياء أخذتا تتطوران مع تنامي الحرف الصناعية ، حرف الزجاج وصهر المعادن والنسيج الخ ..، وهي الحرفُ التي ازدهرت في زمن الدولة العباسية الأول ، وظهر عدةُ علماء في هذا الزمن كجابر بن حيان في الكيمياء خاصةً :
[ أخذ جابر مادةَ الكيمياء – كما هو معلوم – من مدرسة الإسكندرية التي كانت تقولُ بإمكانية انقلاب العناصر وتحولها بعضها إلى بعض . وأخذ مع هذه الكيمياء فيضاً من الفلسفة الهيلينية والآداب السحرية والتصوف الشرقي والروحية الإيرانية ] ، ( 4 ) .
إن جابر بن حيان الذي لم يرتكز على مساندة الدولة في أبحاثه ، بل عبر ارتباطه بالإمام الشيعي البارز جعفر الصادق ، وهكذا كان عمله عبر جهده الفردي وفي فضاء الفكر الإشراقي المعارض ، ومن هنا تلونت استنتاجاته العلمية بدلالات إيديولوجية خاصة .
إن جابر بن حيان في سبيل الوصول إلى صناعة الذهب ، راح يلغي الأفكارَ المتجمدة عن الماهيات الثابتة للأشياء ، من أجل الوصول إلى ميزان [ الطبائع ] ، [ فمن عرف ميزانها عرف كل ما فيها وكيف تركبت ] ، ( 5 ) .
إن عمله دخل في تحولات المواد فاكتشف مواداً كيمائية جديدة ، والصناعة هنا تلعبُ دوراً تحويلياً إيجابياً ، فإضافة إلى اكتشافه سلسلة من المواد الكيمائية الجديدة :
[ عرف صناعة استخدام ثاني أوكسيد المنغنيز في صناعة الزجاج ( لإزالة اللون الأخضر أو الأزرق الذي يشوه الزجاج ) . ] ، ( 6 ) .
ولجابر بن حيان مجموعة كبيرة من الأبحاث والاكتشافات للمعادن ، ( 7 ) تعبر أغلبها عن عمليات صهر وتغيير وتركيب للمعادن ، ويتركز منهجه الفكري على الجمع بين الملاحظات العلمية الدقيقة وبين إقحام الأفلاطونية في البحث العلمي .
وهو يدعو إلى اكتشاف طبائع الأشياء وموازينها ، وكما يقول أحد الباحثين عنه بأن [ العملية الكيماوية عند جابر بن حيان حالة من حالات التأويل ، أي إخفاء الظاهر وإظهار الباطن . إنها عملية نفسية روحية ترمز إلى ارتداد النفس إلى ذاتها ] ، ( 8 ) .
إن التناقض بين الجانبين العلمي والإيديولوجي لا يمنع الاكتشافات العلمية لديه وتوصله إلى تركيبات موضوعيةٍ للمادة التي وصل إلى سببياتها الجزئية ، وذلك لأن البحث عن باطن المادة ، عن روحها ، هو بحث عن قوانينها ، مثلما تفعل الحركة الباطنية في البحث عن الباطن في النص الديني ، فتبحث عن الباطن في الواقع وعلاقاتها بالناس .
وإذا تعجز الحركة الباطنية عن الوصول إلى القوانين العامة للتطور والصراع الاجتماعيين ، فإن جابر بن حيان يعجز عن الوصول إلى القوانين العامة لحركة المادة ، لكنه ينجح في اكتشافه قوانين جزئية لتغيرات المادة فيتمكنُ من استخراج الحديد الصلب من خاماته الأولى ، وقد حضّر مجموعةً كبيرة من المواد الكيمائية كأكسيد الزئبق وحمض النتريك الخ..
تبينُ مكتشفاتُ العربِ في الصناعة الإنجازاتَ التي قاموا بها والحدود التي وقفوا عندها ، فإذ تطوروا في صناعة المعادن فإنهم برعوا في صناعة الأسلحة التقليدية :
[ مزج العلماءُ العرب والمسلمون الذهب بالفضة ، واستخدموا القصدير لمنع التأكسد والصدأ في الأواني النحاسية . واستخدموا خبرتهم الكيمائية في صناعة العطور ، ومواد التجميل وصناعة الأقمشة والشموع ، واستخراج الزيوت النباتية ، وتركيب الأدوية ، وصناعة الفولاذ والأسمدة والصابون والزجاج والأواني الزجاجية والمرايا والمصابيح الملونة والبلور . ] ، ( 9 ) .
إن كلَ هذه الصناعات وثيقة الصلة بطابع التطور الاجتماعي الذي تهيمنُ عليه الأرستقراطيةُ والفئاتُ الغنية الأخرى ، حيث هي صناعاتٌ استهلاكية لهذه القوى الاجتماعية ، التي تبّذرُ الفائضَ الاقتصادي ، ولهذا فإن الفوائض لا تتوجه للبحوث العلمية أو لتغيير طابع الإنتاج الحرفي ، وهذا يجعل طابع الأبحاث في الكيمياء والفيزياء أغلبها فردياً محضاً .
ولهذا فإن توجه جابر بن حيان لاكتشاف الباطن ، أي لاكتشاف قوانين المادة ، على المستوى الطبيعي ، يعبر عن وعي سحري كذلك بالسيطرة التامة الخارقة على الطبيعة والمجتمع .
وقد سبق أن تناولنا فكر الكندي وإسهاماته في الكيمياء والفيزياء ( 10 ) ، ورأينا كيف أن اكتشافاته العلمية تظلُ كذلك في إطار جزئي تقني ، ولم تتحول إلى استنتاجات فلسفية كبيرة ، أي لم يقم بإدغام بحوثه العلمية في نظرة اكتشافية مادية ، مع تمازج هذه البحوث برؤى أسطورية كذلك .
أما في الفيزياء فقد كانت للمسلمين إسهاماتٌ متخصصةٌ متناثرة في علم السوائل وحساب أوزانها النوعية ، وفي الجاذبية ، وكانت لديهم آلات كثيرة للرفع كلها مبنية على قواعد ميكانيكية ، وكانت لديهم اكتشافات للبصريات والضوء وكيفية الأبصار ، نقلت علم الضوء إلى تحول كبير .
[ كما بحث المسلمون في كيفية حدوث قوس قزح ، وسرعة الضوء والصوت ، وعرفوا المغنطيس… وبالجملة كانت المعلومات عن الميكانيكا ، والبصريات والضوء والصوت وخلافها من مباحث علم الطبيعة مبعثرة لا رابط بينها ، وكانت تــُبحث من قبلهم من منظور يستندُ إلى المنهج العقلي والبحث الفلسفي وكان المغلوط فيها أكثر من الصواب ] ، ( 12 ) .
توضحُ هذه الفقرات السابقة ضعف الأبحاث في الطبيعة وعدم قراءة قوانين المادة الداخلية ، كما تشيرُ إلى الاستعاضة عن استغلال حركة المادة الداخلية والطاقة باستخدام الحركة الميكانيكية في الروافع ، وهو ما تجسد كذلك في علم الحيل .
إن عدم البروز الكبير في علمي الكيمياء والفيزياء واختلاط أولهما بعلم السحر ، يشير إلى هيمنة الوعي المثالي على العلوم وهو أمر معبر عن قوانين البنية الاجتماعية ، التي تتحكم القوى العليا في إنتاج الوعي وتحديد تطور أشكاله ، وهي كلها أمور متشابكة عرقلت تحول الحرف إلى صناعات .
ولهذا نرى أن علوم الطب والصيدلة والفلك تنمو بشكل كبير ، بسبب الصرف عليها من قبل الطبقات الحاكمة ، فالعلمان الأوليان يرتبطان بصحة هذه الطبقات وبقائها ، كما يرتبط العلم الثالث بسيطرتها ، حيث أن علم النجوم والفلك اعتبر دائماً مُلحقاً بالقصور ، متابعاً لحركة السماء والنجوم المسئولة في رأيهم عن أحداث الأرض وحظوظ البشر .
وفي الطب كان لا بد من البحث بموضوعية عن الأمراض ، وبإلغاء سلسلة طويلة من الخرافات ، وهنا تصبحُ المادةُ الجسمية بلا تدخلٍ خارجي غيبي ، ويتواجد فلاسفةٌ كبارٌ في داخل المباني الاستشفائية ، حيث تقوم هذه بحماية وجودهم الشخصي وتطور ممارستهم الفكرية المتنوعة ، ولا بد في هذه الحالة من تطوير التشخيص الموضوعي للحصول على نتائج مرضية للحكام والأمراء والأغنياء ، ورغم أن الأرواحَ والغيبيات مهيمنةٌ على الفضاء الفكري للمجتمع والتفكير ، إلا أنه لا بد هنا من اكتشافِ الأسباب الموضوعية لمشكلات الأجساد وتكويناتها ، فينفصلُ الجسمُ عن الروح ، ويغدو ذا قوانين مستقلة عن اللامادة ، مثله مثل بقية أشكال المادة ، لكن تبقى السيطرة الأساسية في الكون الثقافي الديني للسماء والأرواح والنصوص الدينية .
ولهذا فإن ثنائية الروح الجسد ، وثنائية السماء والعالم ، لا تعبران عن نقص مستوى العلوم فحسب ، بل عن الضرورة الحتمية لفحص الجسد والعالم بشكل موضوعي تتطلبه الضروراتُ الصحية والإنتاجية .
لكن هذا لا ينفي ، من جهة أخرى ، ضخامة وجود السماء وأفلاكها وكواكبها وعوالم الأرواح والنفس الكلية والعقل الفعال والعقول السبعة والعشرة الخ ..، وسيطرتها على عالم الجسد والمادة .
إن الطب وتابعه علم الصيدلة ينموان باتساعٍ كاشفين سلسلة طويلة من الأمراض والتكوينات العشبية والمادية العلاجية ، ولكن استقلال الروح وهيمنة الغيب يبقيان على علم النجوم والدين كملاذين من نقص هذين العلمين وغيرهما في سيطرة الإنسان على جسده ونفسه وواقعه .
الحرفية والرؤى الفكرية
انبثق معظمُ المفكرين والفلاسفة وممثلو الحركات الاجتماعية من الفئات الوسطى ، ولا يقود هذا الانبثاق بالضرورة إلى تعبير عن هذه الفئات ، فهذا يعود لمواقف هؤلاء المفكرين والفلاسفة .
إذا نظرنا لمعظم المنتجين المفكرين وجدنا بصمات الحرف والمناطق الريفية أو الفقيرة تعلم نشأتهم كالعلاف والنظّام والحلاج والإسكافي والغزالي والباقلاني الخ.. ، وتدل هذه النشأة كذلك على طابع الفئات الوسطى الصغيرة عادةً المنتجة والمطحونة ، وعلى المستوى التقني السائد ، وينعكسُ هذا المستوى التقني على طابع التفكير .
يقول الباقلاني وهو يثبت أولية الإله :
[ فوجب أن تكون صور العالم وحركات الفلك متعلقة بصانع صنعها ، إذ كانت ألطفَ وأعجب صنعاً من سائر ما يتعذر وجوده من صانع الحركات والتصويرات ] ، ( 13 ) .
إن دليلَ الصانع هو دليل تضربه الحركاتُ الدينية في إثبات الخالق ، وهو مستقى من طابع الحرف ، حيث لا توجدُ طاولةٌ أو بابٌ دون نجار ، فتغدو الطبيعة الموضوعية مثل الطبيعة المصنوعة بشرياً ، فكلتاهما لا بد أن تكونا مخلوقتين ، استنتاجاً من البشري المرئي على الغيبي غير المرئي ، وهذا المنطق الصوري ، يتوافق هنا مع صناعة يدوية تقوم بتركيب أجزاء المواد بعضها ببعض لإنتاج أداة ما .
إن المنطق الصوري هو منطق شكلي يقيس المتشابهات في شكلها الظاهري ، ويقيم تضادات لا تقبل التداخل ، ولا يعرف النمو النوعي المنبثق من تراكم سابق في المادة والأشياء ، ويستنتج من فكر المقابلة غير الجدلي استنتاجات كبرى متضادة كلياً ، والإنسان الحرفي الرجل هنا الذي صنع البيت وركب الباب ، ووضع القنديل ليضيء ليلاً ، عكس تصوراته على الكون وعملية خلقه ، فهو كالإله ركّبَ سقفَ البيت وصنع القنديل والكرسي والطاولة وجعل المرأة تابعة له ، وكل ذلك في عدة أيام ، ثم استراح في اليوم السابع ، ( 14 ) .
وتقوده معلوماتــُهُ الجديدة عن الكون إلى إدغامها بهذه الرؤية الحرفية وكما غدت السماء شكلاً للسلطة السياسية ، فكذلك صارت شكلاً للسلطة الفكرية عبر العلوم المنتجة بهذه الأدوات الفكرية .
إن فكرة الصناعة الحرفية البشرية تــُطرح على أكبر الأجسام وهو الكون كما تطرح على أصغر الأجسام . يقول أبو هذيل العلاف :
[ إن الجسم يجوز أن يفرقه الله سبحانه ويبطل ما فيه من الاجتماع حتى يصير جزءاً لا يتجزأ ، وأن الجزء الذي لا يتجزأ لا طول له ، ولا عرض ، ولا عمق ، ولا اجتماع فيه ولا افتراق ، وإنه يجوز أن يجامع غيره ، وأن الخردلة يجوز أن تتجزأ نصفين ثم أربعة ، ثم ثمانية ، إلى أن يصير كل جزء منها لا يتجزأ ] ، ( 15 ) .
إن أبا هذيل يناقش قضايا عميقة ، ويبحث في قضايا تكوين المادة ، لكنه كما يحددُ سقفَ الكون بالسماوات السبع ، فهو يحددُ سقفَ الجزء الذي لا يتجزأ الذي لا بد أن يصلَ إلى حدٍ معين ويقف عنده ، وهنا يطرح [ الخردلة ] هذه النبتة الزراعية المنتجة بشرياً ، والتي يفلقها إلى أجزاء فيقف تكوينها الظاهري عند حد معين لا يتجاوزه .
إن أبا هذيل لا يمتلك مختبرات ولا أجهزة لكي يغوص في تكوين هذه الخردلة ، مكتفياً بنظره ، وتعطيه هذه القدرة الحرفية والإيمان الديني المسبق ، استنتاجات ليس عن تكوين الخردلة بل عن تكوين المادة عموماً . لقد قفز من الخردلة إلى المادة الكونية التي لا بد أن تقف عند حد معين .
بطبيعة الحال لو كان يمتلك تلك الأجهزة ، وهي تعبرُ عن عصرٍ آخر ، لربما غير من رأيه الديني الواقف عند ذلك المستوى الحرفي .
إن أبا هذيل يرى المادة وهي ساكنة ، جامدة ، مُـقطعة بالأصابع البشرية ، ومرئية بالنظر المجرد ، فلا يرى أنها متحركة ، وأن لها حركة داخلية غير مرئية ، ومن هنا قطع سيرورتها الطبيعية ، أي لم ير كيف كانت قبل ذلك كجزء من النبات ، وتطورت بقوانينه ، وأنها الآن وهي بين أصابعه تتحلل وتعود لجزئيات صغيرة غير مرئية .
وحتى لو أن الرائي هو النظّام فإنه سيرى الخردلة وهي تتجزأ ولكنه سيراها بشكل عقلي بأنها سوف تتجزأ إلى مالا نهاية ، بحكم وعيه العقلي المسبق ، في حين سيرى الكون واقفاً عند حد معين من النمو ، فتغدو اللانهائية في جهة واحدة . حيث لا تسعفه أدوات البصر للنظر إلى الكون البعيد .
وهكذا فإن المنتجين الفكريين ستكون آراؤهم العقليةُ واتجاهاتهم الفكرية متلونةً تجاه معرفة الأشياء ، لكن هذه المهن والمواقف ومدى قربها من الأشياء ، ستؤدي إلى أفكار أكثر تطوراً .
ولهذا فإن المهن التي يمارسها الفلاسفة قد تطورت ، فثمة مسافة بين أبي هذيل العلاف وبين ابن سينا ، ليس لأن الأول لم تكن لديه مهنة محددة ، وإنه كان شبه مقتلع من جذوره الاقتصادية و [القومية] ، وأن الآخر كان في بيئة اجتماعية أكثر تماسكاً وقوة وتجذراً [ قومياً ] ، وإنه كان صاحبَ مهنةٍ راسخة هي مهنة الطب التي يحتاج إليها الناس بشدة ، ليس هذا فحسب بل أنه كان أقرب إلى العلوم والمواد المدروسة ، فكان يقوم بالعلاج والتشريح ، وكانت تحيطه موادٌ ثقافية أكبر وأعمق ، أي كان العقل [ الفعال ] ، ليس المتواجد في السماء ، بل الـُمنتّج على الأرض والذي يمثل التراكم الثقافي ، ذا كثافة أكبر سمحت له أن يتوصل إلى نظرة أكثر عمقاً واتساعاً من أبي هذيل العلاف ، فأصبح العالمُ المادي لا نهائياً في سيرورته العامة ، ومسيطراً عليه إلهياً ، أي محكوم سياسياً من قبل مركزٍ ما . أي أنه قام بالجمع بين مادة خالدة ، وأبنية دينية متحكمة في الوجود البشري .
أي أن تطور الفكر الفلسفي لن يتوقف على المهن الحرفية فقط ، فهي وجهٌ بسيط يقدم مواداً أولية محدودة ، ولكنه يعتمد أيضاً على التطور الثقافي عامة الُمحتضن من قبل قوى اجتماعية واسعة ، تتراوح بين جذور قومية لم تتكشف بعد ، وفئات وسطى طامحة ، وقوى تقليدية لا تزال مهيمنةً وبقوة على الفضاء الاجتماعي .
وفي حين كانت علوم الكيمياء والفيزياء والرياضيات لا تجد اهتماماً حكومياً كبيراً كانت علوم الطب والفلك والهندسة تلقى ذلك الاهتمام ، وهو أمر ترسخ منذ العصر القديم .
فنجد دور العلاج والمستشفيات التي تقام في المدن يوضع على رأسها أطباء كبار . ومن سيرة الرازي نقرأ :
[ عـُين رئيساً لأطباء مستشفى الري ، ثم عهد إليه بتدبير مستشفى بغداد ] ، ( 16 ) ، كذلك أنشأ المأمون فريقاً لقياس محيط الأرض بسبب تضارب القدماء فيه فأراد [ حسم هذا الخلاف والوصول إلى القياس الدقيق ، فأمر بعمل الآلات واختيار موضع لهذه المساحة ] ، ( 17 ) ، في حين لما أراد البيروني في زمنٍ ووضعٍ آخر أن يتحقق من دقةِ هذا القياس قام بعمل فردي شاق .
إن كلَ هذه الظروف الاجتماعية والثقافية المتداخلة قد جعلت العلومَ مشتتةً ، فاقتربت من قوانين حركة الأجسام الكبيرة الخارجية ، المتاح رؤيتها والتعامل معها ، في حين بقي الفضاء الخارجي وداخل المادة ، نائيين عن هذه العلوم .
كذلك فإن العلوم تبعت حركة السيطرة الاجتماعية وطبيعة الصرف السياسي ، فتجسدت التطبيقات لها في بناء القصور والمساجد والمستشفيات والصيدلة ومشروعات الري .
ولم تنمُ العلومُ الإنسانية غير الدينية وغير اللغوية والأدبية نمواً كبيراً بل بدأت في أواخر هذا العصر عبر ابن خلدون وتلامذته في الانفصال عن هيمنة العلوم الدينية وبدأت تستكشف قوانين الاجتماع والتاريخ .






مصادر :





( 1 ) : (سوسيولوجيا الفكر الإسلامي، محمود إسماعيل، مصدر سابق ، ص44، ج 3 ) .
( 2 ) : ( راجع الفصول التي كتبت عن أسباب ظهور التفكير الفلسفي وأعمال الجاحظ والكندي في الجزء الثاني من هذا المشروع ) .
( 3 ) : ( الجامع في تاريخ العلوم عند العرب ، الدكتور محمد عبدالرحمن مرحبا ، منشورات عويدات ، ط 2 1988 ، ص 388 ) .
( 4 ) : ( المصدر السابق ، ص 315 ) .
( 5 ) : (قول جابر بن حيان ، استناداً للمصدر السابق ، ص 316 ) .
( 6 ) : ( المصدر السابق ، ص 320 ) .
( 7 ) : ( راجع قائمة مكتشفاته في الصناعة الكيمائية في ص 462 من العلوم عند العرب في الموسوعة العربية العالمية ، مجلد 16 ، مصدر سابق ) .
( 8 ) : ( الجامع في تاريخ .. ، ص 318 ) .
( 9 ) : ( الموسوعة العربية العالمية ، ص 460 ) .
( 10 ) : ( راجع الجزء الثاني من هذا المشروع ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، فصل الكندي ) .
( 11 ) ( الموسوعة العربية العالمية ، ص 464 ) .
( 12 ) : ( السابق ، نفس الصفحة ) .
( 13 ) : ( مذاهب الإسلاميين ، عبدالرحمن بدوي ، 602 )
( 14 ) : ( راجع العهد القديم ، سفر التكوين ) .
( 15 ) : ( مذاهب الإسلاميين ، ص 182 ) .
( 16 ) : ( الجامع في تاريخ العلوم ، ص 259 ) .
( 17 ) : ( السابق ، ص 434 ) .





[image error]



[image error]



[image error]



الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية



[image error]
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 13, 2020 13:00

December 10, 2020

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تآكلُ الماركسيةِ في البحرين





كان الشكلُ الأولي لتآكلِ الماركسية في البحرين شيعياً. فالانقسامُ الفارسي العربي الذي كان يحفرُ على مدى قرون بين الضفتين الشرقية والغربية للخليج، بين الطائفتين الشيعية والسنية، ظهرَ مُجدداً وبقوة عبر ولاية الفقيه. كانت ولايةُ الفقيهِ شكلاً متخلفاً للقومية الفارسية وهي تظهرُ مجدداً من خلال عباءة الدين وهذا ما جعل الفئاتُ الريفيةُ المحافظة المتخلفة سياسياً واجتماعياً تقودُ العملية التحولية الجديدة، وكان الشكلُ الديني هو بالضرورة عودةٌ إلى الوراء، إلى زمنية الإقطاع، والصراعات المذهبية بين الدول الإسلامية وتجميد تطور المجتمع الإيراني الحر.
وهكذا فإن تسربَ ولاية الفقيه في حركاتٍ مختلفةٍ بحرينية منذ الثمانينيات من القرن العشرين كانت تصطدمُ بالمحافظة السياسية المذهبية السنية بالضرورة. حيث ليس في داخلها مضمون ديمقراطي وطني، وليس في قدرتها الانفتاح وتكوين شيء مستقبلي توحيدي بما أنها ماضٍ، وأوجاعٌ قديمة تُستعاد، ومظاهر طائفية اجتماعية تُسترجع، وأوراقٌ صفراء تُنشر، وأساطير تُقرأ ثانية، وأشكال عبادية تغدو روابطَ سياسية.
ليس في إمكان مثل هذه العودة أن تتلاقح مع طوائف إسلامية أخرى، إلا عبر خضوعها لها، وليس في إمكانها أن تنتج ديمقراطيةً وتحديثاً، ولهذا تقيمُ حواجزَ وتصعد حزازات ومخاوف لدى الطوائف الأخرى.
ولهذا فإن تسييس هذه الولاية أو هذه العودة لأقسام الطائفة السياسية للعصور العتيقة لا تنفعُ فيها طلاءاتٌ سياسية فوقية.
وحين تقبلُ المنظماتُ الوطنيةُ البحرينية في المنفى أولاً هذه العودة وتدخلها في البيتِ الوطني وتعملُ معها، يبدأ مسلسلُ انهيارِ الإيديولوجيات التحديثيةِ المبحرنة خلال عقود.
إن ولايةَ الفقيه تبدأ في تحطيم مشروع إيران التحديثي العلماني الديمقراطي الداخلي أولاً ولا تقبلُ بالتالي تأثيرات تحديثيةً وعلاقات أخويةً في السياسة الخارجية، تصبحُ السياسةُ الداخلية والخارجيةُ وجهين لعملة الدكتاتورية الطائفية، ومن يدور في فلكها يغدو جزءًا منها، ومظهراً من تجلياتها بالضرورة.
وهكذا غدت الأعمالُ المشتركة مع المنظمات الطائفية السياسية من الاتجاه الشيعي هدماً لداخل المنظمات الوطنية، التي كانت في حالةِ تآكل على مدى طويل.
إن الجيلَ الأول التحديثي من المنظمات الوطنية البحرينية يغلبُ عليه الانتماءُ القومي العلماني التنويري عامة، وكان انتماء أهم قياداتها إلى الطائفة السنية، وإلى المناطق المدنية، جزءًا من القيادة التحديثية لمشروع البحرين التحولي العميق الذي تقلقل بعد ذلك.
لكن هذا الجيل يتآكل نظرياً وسياسياً، ويعجزُ عن فهم الماركسية وتطويرها خاصة، والجيل التالي الأكثر فهماً لها يتآكلُ عملياً، والتطورُ النوعي الواسع للأعضاء لا يحدث، وتصبحُ القواعدُ شيعية أكثر فأكثر. لأن الزخم الجماهيري يتوجه نحوها، لهذا تغدو قياداتُ الانقسام والانتماء لولاية الفقيه تتويجاً لهذا التحلل.
لكن لماذا يصير زمن الانفتاج والوعود الديمقراطية زمن الطائفية السياسية المتصاعدة؟!
كانت إعادة تشكيل الجماعات وخاصة الجماعة الماركسية عفوياً وتجميعاً للعضوية غير الرسمية وغير المتطورة على مدى سنوات، ولكل من كانت له صلة، رغم تقطع الصلات وذوبان السمات النضالية خلال سنوات الابتعاد وعدم تطبيق الشعارات والبرنامج السياسي.
لم تكن الإعادةُ في بدء الانفتاح بحثاً عن العضوية المميزة والشخصيات النوعية القليلة ولكن المعبرة عن التجربة التراكمية النضالية لعقود، بل للتجميع العشوائي، ولهذا فإن هذه العضويةَ الهشةَ الواسعة، ما كان لها أن تصمد أمام الاختراقات السياسية الطائفية المنتشرة بقوة.
في هذه الفترة كان الاختراقُ الطائفي الشيعي السياسي هو الأول. فبعد فتح الباب له من قبل قياداتِ الجيل الأول وعدم فهمه وحصاره، تسربت مفاهيمُهُ إلى دواخل الجماعات التحديثية، ولكن كانت المشاركة في الدورة الأولى للبرلمان البحريني من قبل اليسار ورفض المقاطعة دليل على بقاء حسٍّ سياسي مميز كان لا يزال وقتئذ، كما أن مشروع دولة ولاية الفقيه البحريني لم يكتمل بعد، حتى تفجر في (الربيع العربي).
وقد بين ذلك عدم القدرة على خرق جدران الجماعة المغلقة لتشكيل مجتمع ديمقراطي وطني. الأمر الذي انعكس على تمزق الجماعة الماركسية طائفياً وتمايزها شيعياً وسنياً.
والشكل السني تصاعد هو الآخر بعد هذه السيطرة، تعبيراً عن تحلل واسع للجماعة ليقوم بنفس الآلية تحت إطار مذهبه. وسوف يعتمد على مقاربة الدولة ومؤسساتها، والتداخل مع الجماعات الطائفية السنية، وغالباً ما يجري طرح الحداثة والسمات الحضارية هنا لكنها غير مكتملة فشرطُ العلمانية المحوري يُرفضُ بقوة، ولهذا نجد اتحاداً نقابياً شيعياً في مواجهة اتحاد نقابي سني.
ويُفترض عدم تمزيق حتى الروابط الهشة بين الجماعة، وإعادة النظر في كل هذا التاريخ، وعدم القيام بنفس الطائفية السياسية بشكل سني هذه المرة، وإعادة اللحمة وكتابة دراسات حول مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، وإثراء الوعي الوطني والإعلاء من سمات الحداثة وخاصة العلمانية والديمقراطية والوطنية.





https://m.ahewar.org/s.asp?aid=389576&r=0





 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 10, 2020 13:34

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تآكل الماركسية أم الماركسيين؟

إسحاق الشيخ يعقوب*





الكاتب والأديب والناقد والمفكر البحريني اللامع عبدالله خليفة.. هو امتداد ثقافي وفكري مثير للجدل في تاريخ الحركة الثقافية والفكرية في البحرين.. وهو خير من يجيد مسك العصا في ميدان الثقافة ان جاز التعبير!!. ان مسك العصا من الوسط عند عبدالله خليفة مسار ثقافي مرفوض.. وهو ليس من أهل اليمين ولا من أهل الوسط فالوسطية جدلاً لا تأخذ الا إلى اليمين.. ولانه من اهل اليسار تراه لا يهادن لا اليمين ولا الوسط… وانما تراه منحازاً في انسانية بحرينية شفافة إلى اليسار!! في التسعينات عندما قامت قائمة العنف الطائفي في البحرين كانت الضبابية السياسية تشف كل قوى المعارضة بما فيها القوى الماركسية الا القليل القليل من افرادها الذين كانوا يناهضون الارهاب في غليان العنف الطائفي الشيعي.. وكان صوت عبدالله خليفة يرتفع واثقاً شامخاً آنذاك ضد الاعمال الارهابية الطائفية… وقد اصدر يومها وثيقة تحليلية رائعة بما معناه: ان طريق العنف الطائفي طريق يناقض الطريق الوطني وان له مخاطر مستقبلية سلبية على الحركة الوطنية.. وقد اطلق البعض على تلك الوثيقة الهامة «المانفست» نسبة إلى ما نفست ماركس وانجلز للحركة العمالية الكونية في شعارها التاريخي «يا عمال العالم اتحدوا» وهو ما شكل «نبوءة» سياسية ثقافية لعبدالله خليفة تجاه ما نراه الآن في العنف الطائفي الذي يشق قلب الوطن البحريني إلى نصفين… وقد كان من المحزن ان قيادة رفاق درب عبدالله خليفة وقفوا يوم ذاك موقفاً سلبياً في الرد على الوثيقة وادانتها… وقد عض عبدالله خليفة على حزن عميق ولزم الصمت… وكأنه يقول بينه وبين نفسه المستقبل كشاف.. ويأتي المستقبل صادقاً لما رآه عبدالله خليفة بعد سنوات يمكن عدها على الاصابع فيما نراه اليوم وعلى مدار عامين والعنف الطائفي يخض الوطن خضاً!!. وفي مقال يوم أمس تحت عنوان «تآكل الماركسية في البحرين» ازعم ان الدقة جافت عنوان المقال: فالماركسية لا تتآكل وانما التآكل في بعض الماركسيين البحرينيين… الماركسيون قد يتآكلون في الماركسية في عدم فهمها وتفهم مدلولاتها الفكرية الوطنية والاممية وقد ينزلقون في متاهات الطائفية البغيضة!!. وكم يكون الاستاذ عبدالله خليفة صائباً لو استقام قائلاً: «كان الشكل الاولي لتآكل الماركسيين (وليس الماركسية) في البحرين شيعياً فالانقسام الفارسي العربي الذي كان يحفرُ على مدى قرون بين الضفتين الشرقية والغربية للخليج بين الطائفتين الشيعية والسنية ظهر مجدداً وبقوة عبر ولاية الفقيه وكانت ولاية الفقيه شكلاً متخلفاً للقومية الفارسية وهي تظهر مجدداً من خلال عباءة الدين وهذا ما جعل الفئات الريفية المحافظة المتخلفة سياسياً واجتماعياً تقود العملية التحويلية الجديدة وكان الشكل الديني هو بالضرورة عودة إلى الوراء إلى زمنية الاقطاع والصراعات المذهبية بين الدول الاسلامية وتجميد تطور المجتمع الايراني الحر». ولا يغيب عن البال ان الاستعمار لعب دوراً خبيثاً في هذا المجال عبر القوى الرجعية الفارسية والعربية على حد سواء في تعميق الهوة الطائفية المذهبية وترسيخ الروح الشوفينية القومية التي جعلت الارض خصبة لمفاهيم ولاية الفقيه وتجليات المطامع الاستعمارية في الضغط والتخويف والتلويح بالاطماع الفارسية لابتزاز دول المنطقة ووضعها امام خيارات مُحرجة!!. واحسب ان التخريب للقوى الوطنية والعلمانية والماركسية وتلغيمها بالعناصر الطائفية من الداخل لتفتيتها واضعافها وتمكين قيادات لا وطنية وانتهازية في المنظمات والاحزاب الوطنية في الاصطفاف سياسياً في خندق واحد مع القوى الطائفية.. وهو ما يشير إلى ذلك عن حق عبدالله خليفة قائلاً: «لم تكن الا عادة في بدء الانفتاح بحثاً عن العضوية المميزة والشخصيات النوعية القليلة ولكن المعبرة عن التجربة التراكمية النضالية لعقود بل للتجميع العشوائي ولهذا فان هذه العضوية الهشة الواسعة ما كان لها ان تصمد امام الاختراقات السياسية الطائفية المنتشرة بقوة». وتلعب المخابرات وسفارات الدول الاستعمارية دوراً في تفسيخ القوى الماركسية من داخل احزابها والعمل على ايصال قيادات طائفية لحرف الاتجاه الوطني إلى اتجاه طائفي!!. وقد يكون من المفاجأة للبعض ان احد قيادات الجمعيات السياسية التقدمية اليسارية عمل اكثر من خمس سنوات في السفارة الامريكية في البحرين.. فكيف قفز بقدرة قادر إلى قيادة الامانة العامة في غفلة غافلة… وهو ما شخصه الاستاذ عبدالله خليفة قائلاً: «في العضوية الهشة الواسعة». ومعلوم ان العلاقة بين جمعية الوفاق والسائرين في ركابها اكثر من حميمية بينها وبين السفارة الامريكية وان عمليات تسلل مشبوهة لا يمكن استبعادها فيما يظهر على السطح ان تكون جمعيات ديمقراطية وتقدمية وماركسية تخوض المواقف الطائفية جنباً إلى جنب بجانب جمعية الوفاق الاسلامية وهو ما ينطبق تماماً فيما ذهب إليه الاستاذ عبدالله خليفة قائلاً: « وهكذا غدت الاعمال المشتركة مع التنظيمات السياسية من الاتجاه الشيعي هدماً لداخل المنظمات الوطنية التي كانت في حالة تآكل على مدى طويل». ان التآكل في الماركسيين البحرينيين وليس في الماركسية.. فالماركسية صامدة في التاريخ كنظرية ناقدة ناقضة للرأسمالية ومخازي تجلياتها المتوحشة في الدكتاتورية وقمع الشعوب واضطهادها!!. ويتنامى الاستاذ عبدالله خليفة في مقالته الرائعة مصوباً قوله: «لكن هذا الجيل يتآكل نظرياً وسياسياً ويعجز عن فهم الماركسية وتطويرها خاصة والجيل الثاني الاكثر فهماً لها يتآكل عملياً و التطور النعي الواسع للاعضاء لا يحدث وتصبح القواعد الشيعية اكثر فأكثر لأن الزخم الجماهيري يتوجه نحوها لهذا تغدو قيادات الانقسام والانتماء لولاية الفقيه تتويجاً لهذا الجيل». واحسب ان العودة إلى صحيح الماركسية ونقائها في ارادة فكر وعمل حزبي جديد ناكر للذات وضمن المقاييس الجديدة في الحداثة والتحديث ما يتفاعل في المجتمع لاحقاً حكومة وشعباً من اجل ذرع الوطن البحريني بالوطنية في العدل والمساواة وتنقية النفوس والمؤسسات من الظلم والفساد من اجل وطن بحريني حر ناهض على انقاض الطائفية وضد التدخل الايراني ومن اجل الحرية والوحدة الوطنية وتكريس الاستقلال الوطني في وجه انكشارية ولاية الفقيه.. ان استخلاص الدروس الوطنية فيما يطرحه هذا الكاتب والاديب والناقد المثير للجدل الاستاذ عبدالله خليفة حري بأن يكون اهتمام القوى الوطنية التي تريد ان تنهض بالبحرين حكومة وشعباً على انقاض الطائفية!!.





_____________





* الأمين العام السابق للحزب الشيوعي في السعودية





الأيام 12 ديسمبر 2013





https://www.alayam.com/Article/courts-article/86848/Index.html

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 10, 2020 04:19

December 6, 2020

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : لحن الشتاء

مجموعة «لحن الشتاء» للكاتب البحريني عبدالله خليفة محاولة قصصية تندرج في سياق الحركة الادبية المتصاعدة التي تعرفها البحرين في فترة السنوات الأخيرة حتى يومنا هذا.



 ولعل حركة المضمون التى ينطوى عليها، هذا الكاتب تشكل الحدث الأكثر بروزا وطغياناً فيه. فالقضية هي قضية معاناة إنسانية عميقة الجذور متشعبة ترسم صيغ الأوضاع الاجتماعية والسياسية والإنسانية والحضارية التى يعانى منها الإنسان كإنسان فى البحرين.



 وان هذا الامر لا يعبر عنه الأديب تعبيراً مسطحاً أو سريعاً وعابراً. إنما يشكل هاجساً أكبر يتنفس من كل كلمة وحرف وفاصلة. . انه حلم أو هذيان أو جنون ينقله الكاتب إلى اللغة التى تصرخ حيناً وتناجي حيناً آخر وترصد الحركة الوجدانية في كل الأحيان.



لكن اللغة التي تحمل هذه الهواجس لا تقف على رجلين متساويتين، بمعنى أنها لغة تتراوح بين السردية المباشرة والحوارية الدائلة، الواقعية حيناً والخيالية حيناً آخر، حتى لتصل احياناً، إلى الشعر وخصوصاً في أقصوصة «لحن الشتاء» حين يتحدث عن اللحن مشيراً إلى أنه «ينبعث من جهة ما، ينطلق الى البيوت والاشجار، يهزها، يجرحها، يسيل دماءها فينطلق الحزن والأسى والعذاب في الطرقات»..



 أو حين يقول في الاقصوصة ذاتها «اللحن رجل مجنون.. يكلم الجدران والنوافذ».. «اللحن خناجر تنغرز في عظامك» أو حين يقول في أقصوصة السندباد «أمطرت السماء حزناً وغياباً»..



 حيث تتبين في هذه المعطيات الرقة والانسياب اللذين تتميز بهما في بعض الأحيان.



[image error]



 من هنا يمكننا أن نفهم أهمية الأقصوصة في الأدب البحريني حيث تبشر الحركة الادبية هناك بنوع من المستقبل الزاهر الذي ستعرفه هذه الحركة الادبية في الفترات القريبة المقبلة.



جريدة «العصر» اللبنانية 11/7/1980
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 06, 2020 05:20

November 30, 2020

November 28, 2020

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الاشتراكية والمستقبل


لم ترفض التغييراتُ العالمية التي جرت في القرن العشرين الاشتراكيةَ كحلم وكبرنامج إنساني لتحقيق فرص عيش جيدة للعاملين. بل كانت التغييرات متوجهة ضد حكم شمولي سياسي، وعدم نزول جمهور الدول الاشتراكية السابقة إلى الشوارع دفاعاً عن الفراديس المفقودة هو جزء من وعي حكيم تشكل لدى هذه الشعوب التي اختبرت بقسوة ماذا تعني عملية سيطرة البوليس على الحياة السياسية والاجتماعية، فهي تفضل عيشاً رديئاً وفيه صعوبات كثيرة على صعود قلة قليلة متفردة إلى السلطة وسيطرتها على كل خلايا الحياة الاجتماعية، من دور الحضانة حتى الجامعات.

صحيحٌ ان الدول (الاشتراكية) قدمت تجربة ثمينة للبشرية في سرعة التطور وفي القضاء على الفقر المدقع وفي الإصلاح الزراعي وقامت بقفزات في التصنيع والتعليم في ظرف زمني قياسي، إلا أن مسائل الحرية الشخصية والفكرية والسياسية المفقودة كانت تشوه تلك الإنجازات، وقادت إلى تقديم ضحايا كثيرين لم يكن ثمة حاجة للتضحية بهم، إلا بسبب التسلط الفردي والحكومي. ولهذا فإن الشعوب الشرقية لا تتسرع في تقديم الاشتراكيين إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع إلا إذا أثبتوا إخلاصاً للديمقراطية، وتخلصوا من نزعة التسلط، وقدموا برامج تحويلية لحياة الفقراء والعاملين. رغم إن هذه الشعوب تعاني الكثير من الأزمات الاقتصادية ومن عودة الفقر المدقع في بعض القطاعات وتدهور الثقافة الخ..، لكنها مع ذلك تفضل الحريات التي اكتسبتها على الشبع مع فقدان الحرية، ولا تقودها هذه الأزمات المدقعة إلى اختيار بطل اشتراكي دكتاتوري جديد، بل إن هذا البطل الاشتراكي الشمولي المنقذ غير موجود، ولا أحد يتجرأ على الظهور بلباسه والإدعاء باسمه. إن هذا هو مظهر من الخوف من (الاشتراكيين) والحذر من استيلائهم على السلطة مجدداً، ومن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. إن الأحزاب الاشتراكية التي عادت إلى السلطة في العديد من الدول الاشتراكية السابقة كبولندا، التي طردت الزعيم (النقابي) ليخ فاليسا من رئاسة الجمهورية، استطاعت في ظرف قياسي أن تجدد خلاياها السياسية والفكرية، وقبلت بالأنظمة الديمقراطية، فأدت الوسائل البرلمانية والحريات المختلفة إلى تخلصها من الفاسدين والانتهازيين، الذين سيطروا على شرايينها حين كانوا في السلطة المطلقة. لكن التجديد الديمقراطي العميق للاشتراكية سيحتاج إلى وقت طويل لكي يثبت نجاحه، فهو بحاجة أن يكون تجديداً فكرياً خلاقاً للتقدميين الذي تجمدوا في احتكارهم للسلطة، وأن يرتبط بالتضحيات الكبيرة لأعضاء الأحزاب في ميادين السلوك والعمل والإنتاج والعلوم. فإذا لم تستطع هذه الأحزاب تقديم نتاج كبير في تطوير الاقتصاد والتعليم والخدمات الخ..وسبقتها الأحزاب الليبرالية في ذلك فإن الأخيرة هي التي ستدير السلطة، وعليها أن تتعلم منها، وتكتشف نواقصها وتعود إلى السلطة بهذه الخبرة وبهذه الأعمال المتقدمة في شتى حقول العمل. إن الديمقراطية هي المدرسة الكبرى لتتعلم الأحزاب الاشتراكية كيف تصير اشتراكية، فليس باللافتات تتشكل الاشتراكية، بل بالقدرة على الاقتراب من تثوير الإنتاج والعلوم والسلوك البشري، لتغدو ثمار المصانع والمزارع ملكاً للناس. إن هذه العملية الطويلة هي التي ستخلق الاشتراكية، فالقضاء على الأنانية الفردية والاجتماعية طريق طويل جداً، قد يستمر مئات السنين، ولا تستطيع أن تخلق الاشتراكية أدوات العنف وقوى القهر، بل قوى التضحية والإنتاج.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 28, 2020 15:30

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الحداثة مشروعان فقط

في الكرة الأرضية لا يوجد سوى مشروعين للحداثة، الأول هو المشروعُ الرأسمالي والآخر هو المشروعُ الاشتراكي.
لأن العالمَ الحديث يعتمد على البرجوازية والعمال في إنتاجِ الثروة والتصنيع والتقدم، ولا توجد قوةٌ أخرى تفعلُ ذلك المدى من التقدم الحديث.
وكلٌ منهما في العالم الرأسمالي المتطور لديه قواعد اقتصادية واجتماعية كبيرة وتاريخ.
أما في العالم المتخلف فليستا هما موجودتين بشكلٍ واسعٍ يتيحُ لهما إنتاج هذين المشروعين.
وقد حلت محلهما الدولُ برأسمالياتها الحكومية وهو مشروعٌ رجراجٌ ضعيفٌ يتدهورُ فهو لا هو مع مشروعِ الحداثة الرأسمالية ولا هو مع مشروعِ الحداثة الاشتراكية!
ومع رجرجةِ مشروع الرأسماليات الحكومية المتذبذبة بين الإقطاع والرأسمالية، بين التخلف وجلب بعض مظاهر الحداثة، ضاعَ التطورُ في متاهاتِ البيروقراطية التي صارتْ رأسمالياتٍ في الباطن، وتغذي رأسمالياتٍ متخلفةً، خوفاً من الحداثةِ الرأسماليةِ الكاشفةِ لتلاعباتِها في الأموال واحتكارها للسلطة، واعتماد أسس مختلفة في الزواج والعلاقة بالنساء وبالشعوب!
أي إنشاء حداثة الحصص المجزأة، والمراحل المنهكة للميزانيات وللشعوبِ لتأتي في الجيوب، وبديمقراطية العائلات الأصيلة والمذاهب المرفوعة لقمم السيادة السياسية، وبالسماحِ للحراميةِ السياسيين والدينيين بالبقاءِ الأبدي!
فجاء الأسوأ وهو القوى الطائفية التي تنطعتْ لقيادةِ الشرق للوراء، ورفض الخيارين الرأسمالي الحديث والاشتراكي، طارحةً العودةَ للإقطاع الكامل، وحكم شيوخ الدين – الدنيا، أي رأسماليات الظلمات، وإبادةِ الحداثةِ عن بكرةِ أبيها، وبالتعامل مع النساء كدجاحِ بيوتٍ مسالم ومعدٍ للذبح في أي شهوة، وهدم البلدان الشرقية وخاصة الإسلامية فما بقي منها بلدٌ لم يتمزقْ بين حكومةٍ في الداخل ومعارضةٍ في الخارج أو معارضةٍ معتقلة في الداخل كذلك، وحروبُ العصاباتِ والطوائفِ تشتعلُ بين ليلة ونهار!
تشكلتْ هذه فوق تجارب قومية ووطنية ناقصة وفي ظل دكتاتورياتٍ دموية جعلتْ الناسَ يقفزون رعباً إلى ظلامِ الماضي ودياجيره الارهابية!
في مثل هذه المراوحة السياسية، تاه المثقفون وانقلبوا على اطروحاتهم، وتشقلبوا كمهرجين في سيركٍ فكري مفتوح، فهناك فريقٌ كبير يظلُ يراوحُ بين مشروعِ التخلف – الطائفية وبين مشروع الحداثة، خاصة في قضايا السياسة والثقافة والفكر والأدب، فهو يناور لا يعلنُ صراحةً انتماءه لمشروعِ الحداثةِ المعروفِ بقسماتهِ الفكرية الجوهرية الصارمة، خاصة ان مشروع الشرق يظل في دائرةِ المشروع الرأسمالي التحديثي الممكن تحقيقه، غير قادر على تجاوزه لمشروع الحداثة الاشتراكي الذي هو من نصيبِ الغربِ المتطورِ الذي أنهكتهُ الرأسمالية، فهذا المشروعُ يعبرُ عن ظروف الشرق المتخلفة، ومستواه، وهو المشروعُ الممكن الذي يقدرُ على تجميعِ القوى الحكوميةِ والدينيةِ والقوى السياسية المعارضة بمختلفِ تشكيلاتِها، لكن عبرَ تجاوز احتكارِها للدينِ والسلطة والحقيقة!
وهو يكونُ خاصةً من القوى ذاتِ المواردِ طبقةً من الممكن أن تتعاونَ وتنفذَ مشروعاتٍ مشتركة، لكن هذا يغدو خيالاً سياسياً من دون صراعٍ متعددِ الأشكال مع كل قوى الماضي ونصف الماضي وقوى الحداثة الزائفة والمتلاعبة بين المعسكرات للحصول على غنائم مؤقتة، وبأنها لا بد أن تتعاون وتلقي المكاسب المؤقتة المنهارة، وأن تتخلى عن خداع الجماهير المتخلفة، فهذه الجماهير لن تبقى متخلفة إلى الأبد، ولابد أن تسلك طريق الحداثة الرأسمالي الغربي، بدلاً من تضييعِ التاريخ والجهود والثروات.
وهذه أسئلةٌ ونقاطٌ فكريةٌ جوهريةٌ لابد من إدخال تحليلاتها في قضايا الفكر والثقافة، ونقد هذه العودة للغيبيات والأشكال الأدبية العتيقة وتردد الكتاب بين الطائفية والوطنية، ورفضهم للعقلانية، وارتدائهم عباءات الأساطير المليئة بالرماد والتراب، وخوفهم من النقد وتعميق أدواته في تحليل الواقع، واهتمامهم بالمكاسب الشخصية، فهم يتلاعبون بالنماذج الكونية التي غدتْ معاييرَ للسلوك الأخلاقي في جعجعاتٍ رديئةِ الكتابة ذات ادعاءات فارغة مفضوحة ومستهجنة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 28, 2020 03:03

November 23, 2020

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : ظهور المادية الجدلية (الديالكتيك)





لم يكن لدى الفلسفات الغربية وهي تخرج من العصر الوسيط الديني المسيحي سوى الاعتماد على فلسفة أرسطو مادةً ومنهجا، وكانت التطورات الصناعية والتحولات المختلفة تدفع العلوم نحو استيعاب مختلف للحركة، وقد قام ديكارت ونيوتن بطرح مفهوم جديد للحركة هو الفلسفة الميكانيكية، وقد رأينا الفلسفة العربية الإسلامية السابقة وهي تستعين بمنهج أرسطو ذاته ورؤيته لفهم الحركة فكان أقصى جهد لها هو فهم حركة الأجسام في المكان.
ولكن الأدوات والمعلومات التي توفرت في العصر الأوروبي الجديد، التي قام بها غاليلو وكوبرنيكس وغيرهما من العلماء أتاحت فهم حركة الكواكب والشمس بطريقة مختلفة عن السائد في العصر القديم، مما جعل ميكانيكا فهم الأجسام الكبيرة تسيطر على الوعي العام بالحركة. وقد تمظهرت هذه لدى نيوتن بقوانين الجاذبية. وحددت هذه الفلسفة ميكانيكا الأجسام عموماً حيث الحركة في المكان- الزمان تقوم على قوانين مادية محضة، أي قوانين من داخل المادة، ولكن الداخل هنا بمعنى حركة الأشياء، فظل التناقض المادي الجسمي الخارجي الآلي هو المسيطر على فهم هذه الحركة الأبدية العامة، لكن كان لا بد من وجود مصدر لظهور هذه الحركة فكان الإله. وهنا تتآلف الفلسفة الميكانيكية مع الدين بإعطائه إشارة خلق الساعة الكونية، وتوقيتها، وربما إنهائها، لكنها كذلك تفصل الحركة عن عمليات خلق الكون الغيبية، وأدى طرحها بأن الشمس مركز المجموعة الشمسية وتكون المجموعة من سديم، إلى توجه العلوم نحو إعادة النظر في المعطيات الفكرية الأرسطية بشأن مصدر الحركة وبشأن الطبقات السفلى من تاريخ الكون والمادة، وبالتالي يفتح الآفاق لقراءة الظاهرات المادية الصغرى والمواد والكائنات المختلفة.
وهكذا فإن الفلسفة الميكانيكية وهي تنشئُ العلومَ الحديثة كانت تتعرضُ هي نفسها للزوال. فهذه الفلسفة الميكانيكية بتطبيقها على مجالات الحركة في أجسام أصغر، وظاهرات ذات تحولات مركبة كعمر طبقات الأرض وكيفية احتراق المواد وكيفية ظهور أنواع الأحياء لم تستطع أن تصنع إجابات علمية. كان تطبيقها على هذه الظاهرات يقوم على إرجاع عنصر التحول إلى عوامل خارجية وإلى غازات غير محددة، لكن تطورَ الصناعة الكبير كان يخضع هذه المواد المجهولة إلى الكشف، فغدت عوامل تحول المادة الفيزيائية والكيميائية تقوم على الذرات والجزيئيات الداخلية، وبدا يظهر أن المادة تتحول إلى طاقة والطاقة تتحول إلى مادة، وان قانون بقاء المادة قانون علمي أساسي.
أظهرت الجيولوجيا أن طبقات الأرض لها تحولات طويلة وأنها لا تتوقف عن الحركة. المواد كعناصر محددة تكشفت وظهر لتكوينها ولتمازجها قوانين محددة. تم اكتشاف تطور الخلية الحية، وأن أنواع الأحياء نتاج تطور تاريخي طويل.
إن كل أنواع الحركة هذه مغاير للحركة الميكانيكية وقوانينها، وكان ذلك يستدعي قيام فلسفة جديدة، تكشفُ الطبيعةَ المعقدة المركبة للحركة وأنواعها في كل أقسام العلوم الطبيعية والاجتماعية كذلك، والأخيرة قد دخلها زلزال التحول أيضا، وكان ظهور فلسفة جديدة يستدعي تفكيك الارتباط بين الفلسفة الميكانيكية والدين، ولكن أخذت المعضلة هذه تتعقد مع ارتباطها بالصراعات الفكرية والسياسية، حيث يلعب الدين التقليدي دوراً محوريا.
إن كشف أنواع الحركة في الأجسام الطبيعية من داخلها، وهو أمر يتناقض مع الفكر الديني التقليدي حيث الحركات قادمة من الغيب، قد ترافق مع تفكيك السلطات الدكتاتورية الدينية والسياسية، فأخذ «الشعب» ينتزع السلطات وراح المنورون يجدون في البناء الاجتماعي قوانين تطوره الداخلية بمعزل عن المؤثرات الخارجية الغيبية.
إن تركيز السلطة في البرلمان هو أشبه باكتشاف قوانين الحركة في المادة، والمادة هذه الكينونة المحتقرة من قبل الفلسفة الأرسطية والدينية السابقة غدت هي بؤرة الوجود.
إن رؤية أسباب التحولات داخل المادة الطبيعية والاجتماعية والبشرية، كان يعني صراعاً طبقياً بين المنتصرين على الإقطاع السياسي- الديني الحاكم، فقد ظهر جناحان للمنتصرين، الجناح البرجوازي الذي آلت السلطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إليه، والجمهور العمالي الذي كان عليه أن يعمل بشكل شاق وفي ظروف متدنية من أجل أن تنتصر وتحكم البرجوازية.
لهذا فإن هذا الانقسام الطبقي انعكس على فهم الحركة وفهم الفلسفة، وأخذت القوى البرجوازية تتحالف مع الأقسام الثقافية الدينية والمثقفين التقنيين من أجل إعادة صياغة الفلسفة بحيث تتوارى لغتها الثورية السابقة، ويتم كشف الحركة في المادة، من أجل أن تستمر العلوم الطبيعية والمصانع، دون أن يكون لهذا الكشف دلالات على الصراع الطبقي الدائر.
بدأت هذه الحركة الارتدادية التقنية الفلسفية في البلد الذي انتصرت فيه البرجوازية أولاً وهو إنجلترا، فظهر جان لوك وديفيد هيوم وجون ستيوارت ميل وصاغوا فلسفةً تعتمد على إنكار وجود قوانين موضوعية في المادة، المستقلة عن الوعي، بل قالوا انه لا يوجد سوى الحس البشري وهو الذي يدرك، والعملية العلمية تدور في مجال هذا الحس فقط، وما هو خارجه ليس في بؤرة الوعي. وعضدت ألمانيا هذه الفلسفة لأسباب تاريخية، فالبرجوازية كانت متخلفة عن قريناتها في البلدان الأوربية الأخرى، وقد ساندت الإقطاع البروسي العسكري، فتأسست فيها فلسفاتٌ متضادة كثيرا، منها الكانتية ومؤسسها عمانويل كانت وهو نفسه العالم الذي اكتشف السديم في المجرة وطرح تصوراً لكيفية نمو المجموعة الشمسية، حيث ركز هو الآخر على كون المعرفة حسية بدرجة أولى، ولكنه أكد موضوعية المعرفة وطرائق الوصول إليها، دون الوصول الكلي للحقيقة لأنه ستبقى أجزاء من الظاهرات خارج الكشف. أما الفلسفات المادية والجدلية فقد تنامت هي الأخرى في ألمانيا، فظهر الجدل لدى هيجل، ولكن جدل هيجل مبنيٌ على كون الفكرة المطلقة أو الروح هي التي تقومُ بالحركة، فهي فكرة مطلقة غيبية لكنها في حركة تالية تتحد بالطبيعة وفي حركة ثالثة تتحد بالعقل، وهذه التحولات الثلاثة تشير إلى حركة الفئات الوسطى الألمانية عبر منظور هيجل المتواري، حيث تنفصل عن الفكر الديني والسلطة المطلقة وتتحد بالمادة الطبيعية والفكرية، ثم تتوجُ في العقل الذي هو أيضاً الدولة البروسية!
إن الفئات الوسطى بالمنظور الهيجلي استطاعت أن تنفصل عن الدولة- الدين ولكن ليس بشكل كلي، فتتمظهر في حركة «الروح». وهذا أسلوب فلسفي يوناني وشرقي قديم. ولكن ما يهم هنا هو طريقة الروح في التحول عبر موقف أول الذي يتم تجاوزه في حركة نفي مضادة، لأن الروح تعيش حالة صراع وتناقض، فتحل حالةُ تركيبٍ وتجاوز للنقيضين في موقف جديد، ولكن الموقف الجديد يستتبع وجود تناقض آخر يؤدي إلى حركة جديدة وهكذا. هذا المنهج الجدلي كان اختراعاً ألمانيا، أي ظهر في حالة ألمانيا الإقطاعية المتخلفة عن برجوازيات التحول الكبرى، وفي وجود الفئات الوسطى التي لم تتشكلْ كطبقةٍ قيادية، ومن هنا فالجدل يظهرُ في شكلٍ ديني مثالي موضوعي، فهناك الفكرةُ المطلقة أو الروح وهي المعبرة عن الطبقات العليا المسيطرة، لكنها تلتحم بالطبيعة والمادة المعبرة عن الطبقات الشعبية، وفي هذا السديم الفكري الاجتماعي، المعبر عن حالة ألمانيا القلقة، تدور فلسفةُ هيجل، منهجها الجدلي ثوري، وغلافها الفكري محافظ، وبين الثلاثينيات والأربعينيات من تاريخ ألمانيا وأوروبا في القرن التاسع عشر، تنفجرُ ألمانيا وتنفجر فلسفة هيجل معاً!
لم تحصل ألمانيا على فرصة تاريخية مطولة كي تشكل تحولها الديمقراطي، والبرجوازية تمشي في حضانة عسكرية من قبل الدولة، وجاء هيجل بجدله التحولي ليطرح منهجاً مهماً في فهم وتفعيل الحركة على مختلف الأصعدة، فانتقلت قيادة الحركة الاجتماعية إلى الفئات البرجوازية الصغيرة، ومنها ظهر فورباخ بماديته النافية لمثالية هيجل، وظهر اليسار الهيجلي، وهي قوى حاولت دفع البرجوازية لكي تنقض على الإقطاع دون فائدة.
وهذا هو ميلاد الماركسية. تشكلت في لحظتها الأولية تلك كنقيض للطبقتين الإقطاعية والبرجوازية معا. أي اندفعت نحو العمال كملاذ أخير من الجمود السياسي الاجتماعي. وهنا كانت أشبه بصرخة سياسية أكثر منها علما. ومن هذه الصرخات سوف يرى لينين الماركسية. وهذه القضية ستبقى مشكلة كونية للبلدان المتخلفة عن البلدان المتقدمة ولرغبتها القومية الحادة في اللحاق بالمتقدمين.
كانت عقلية «البيان الشيوعي» المكتوب من قبل ماركس وإنجلز تطرح تصوراً كونياً لقرون قادمة وليس لحل إشكاليات الصراع الطبقي الراهن في ألمانيا نفسها، فكانت ألمانيا بحاجة إلى تشكيل تحالف برجوازي- عمالي يبعد القوى الإقطاعية العسكرية المتطرفة عن السلطة وليس لإزاحة البرجوازية التي لم تكن تحكم!
إن لغة المثقفين المنتمين للبرجوازية الصغيرة يسقطون هنا وعيهم السياسي التحويلي على الواقع الموضوعي فيطرحون مهمات غير ممكنة سياسيا، في إطار إيديولوجي مُسقط، وبطبيعة الحال يطرحون ذلك كصوت للطبقة العاملة، وهذا على المدى التاريخي صحيح، لكنه في الواقع الراهن غير واقعي، وتداخل المدى التاريخي واللحظات السياسية الراهنة، بمهماتها العملية الكبيرة، لا يتطابق ويتداخل بصورة جدلية، فهيمنة الطبقات العاملة تتم بعد قرون من التراكم السياسي والاقتصادي والثقافي لكنها كمهمة مرحلية غير ممكنة. وترتبت على لغة أقصى اليسار بمظاهرها الاجتماعية وثورتها هذه توجه البرجوازية الألمانية نحو أقصى اليمين، كذلك فإن ذهاب ماركس- أنجلز للعيش في إنجلترا أضفى على لغتهما الثورية العاطفية الألمانية بعداً أكثر موضوعية، وبدأت عمليات الاكتشاف العلمي العميقة للرأسمالية والعلوم، التي حصيلتها كتب موسوعية مثل «رأس المال» و«جدل الطبيعة» وغيرهما، لكن الاستنتاجات ظلت في الإطار التاريخي العام وليس داخل صراعات البنى الرأسمالية الوطنية بمختلف مستوياتها وليس البحث كذلك في كيفية التغلب على الدوائر المتطرفة سياسياً وفكريا.
إن انتصار البرجوازيات الكبيرة في الأقطار الرأسمالية الرئيسية تحقق بفضل انتصار أسلوب الإنتاج الرأسمالي وتوسعه العالمي وتدفق فيوضه على الفئات المالكة والوسطى، وأعطت ألمانيا نموذج الجمع بين الفكر الإقطاعي السابق والفكر البرجوازي التابع فكان الجمع بين أشكال الفكر الدينية والصوفية واللاعقلانية وبين أشكال من العقل والليبرالية المحدودة والمهيمن عليها وهي الثقافة البرجوازية- الإقطاعية الهجينة التي ترتبت على قيام البروسية البسمركية في السيطرة على البرجوازية الخاضعة. ومن هنا رأينا ألمانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهي تتخلى عن الجدل الهيجلي وتروجُ فيها الكانتية والكانتية الجديدة والوضعية المنطقية والتجريبية. يقول جورج لوكاش: «إن جدل هيجل حين يحاول السيطرة على هذه المسائل في منظور تاريخي، هو ذروة الفلسفة البرجوازية. إنه يمثل أقوى مشروع حاولته للتغلب على هذه المعضلات الجديدة: محاولة صهر طريقة قادرة على ضمان الفكر الإنساني كاقتراب لا محدود وانعكاس للواقع بالواقع نفسه»، «تحطيم العقل، جزء 1، ص 76 – 77».
إن مشروع هيجل يظل مشروع فئات برجوازية لم تتشكل كطبقة قائدة لعملية التحول، ولهذا هو مفكّكٌ بين منهج جديد وبناء تقليدي، وتخلي هذه الفئات عن الجدل واتجاهها للعلموية الوضعية، لكشف المادة الجزئية المحدودة المنقطعة عن قوانين بنية المادة الطبيعية والاجتماعية، فهي هنا تمثل البرجوازية التي تدير المصانع المحتاجة للتقنية، في حين أن اتجاهها للاعقلانية والصوفية وفلسفات الحياة هي للسيطرة على الوعي العام وإدارة الدولة والمجتمع، وهذا الانقسام بين وضعية علموية تجريبية وكانتية وبين فلسفة الحياة المتجهة للفاشية، جانبان يتكاملان يعبران عن هذا التزاوج الإقطاعي- البرجوازي وقد تحول إلى طبقة سائدة ذات أصول بروسية عسكرية وبرجوازية نهمة للاستيلاء على المستعمرات.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 23, 2020 16:50

November 20, 2020

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الوعي والتغيير

[image error]عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الأعمال القصصية والروائية والتاريخية الكاملة



الوعي والتغيير





تنامت العناصر الديمقراطية في الدولة الإسلامية على مستويي السياسة والوعي بدءًا من العصر الأموي، حيث نفى العديد من المثقفين أفكار الشمولية في الوضع الاجتماعي السياسي والفكر، سواءً بالمطالبة بعودة (الفيء) للناس، أو إزالة هيمنة الخلافة الفردية، وتأكيد حرية الإنسان وتقليص صور الألوهية القدرية على الإرادة العامة، لكن وعي بعض الأفراد من الفئات الوسطى اتجه نحو عروض غيبية للقضايا المطروحة، وعدم الربط بين قضايا المال العام والاستبداد السياسي والمسائل الدينية والفقهية. ولم تتشكل حركات تجمع بين هذه المسائل الفكرية والسياسية المنفصلة لكونها فئات ولم تتشكل كطبقة على أساس صناعي، ويعبر ذلك عن تفكك إرادة الفئات الوسطى والعامة المقامة على إنتاج زراعي يتعرض للتآكل وحِرفي يعيش على بذخ الأغنياء.
لم يكن بإمكان الوعي الديني المثالي التنويري خاصة في علم الكلام المعتزلي أن يشكل تحليلاً لتطور الصراع الاجتماعي، وإستراتيجية موحّدة للفئات الوسطى المنقسمة بين فئاتها وتياراتها، وأن يقرأ الوضع المادي للمجتمع.
إن حركة الأفراد من الفئات الوسطى والشعبية لا تكوّن حركة سياسية اجتماعية عامة، بل تتفكك وتضطرب وتغدو مجردةً، ثم تتشكل عبر فئات دينية مدنية منقسمة ذات مناهج متضادة.
فتسيطر مسائلُ الفقه على المساحة الكبرى من الوعي، فالفقه هو مؤسسُ العبادات والعلاقات المادية والروحية، ضمن مواد الماضي والأحكام الشرعية وتطوراتها المختلفة، حيث يسيطر توجهان، الحكم عبر الرأي والحكم عبر النص السابق.
هو وجود لتيارين مختلفي النمو خاصة حين تزدهر الفئات الوسطى مع تنامي التجارة والأحوال المادية، فيما مدرسة الحديث تعبر عن انكفاء ذلك التطور.
هذا الشكل الأولي من الوعي الذي يكوّن الخريطة الاجتماعية اليومية، والملامح الأولية للأمم الإسلامية في عالمها الأسري والمادي وعلاقاتها السياسية، يعكس مدى التطور الذي تحقق خلال القرنين الهجريين الأولين لكن هذا التطور تلكأ وتوقف ثم حدث تراجع، ولهذا فنصيبُ مدرسة الرأي يتقلص لحساب مدرسة الحديث، كما أن عالم الحرية والقضاء على الاستبداد وإنتاج حياة الرفاهية لا يتحقق، فيظهر شكلٌ آخر من الوعي هو علم الكلام ليقرأ المشكلة.
إن علم الكلام يتشكل من أجل تحليل تلك المواد الأولية من الفقه والتاريخ الإسلامي، ويحدث فيه نفس الانقسام بين وعي يتوجه للتحليل النقدي المطور وتحليل يؤكد المسلمات السائدة.
إن علم الكلام المعتزلي الرائد يرتبط بمقولات الدين ويطرح أفكاراً جزئية فلسفية، تحلل قضايا مثل القدر والحرية والجبر والذرة والإله وصفاته والقرآن وتكوينه، وغيرها من المسائل التي ارتبطت بالوعي المثالي الجزئي، وقد تباين علم الكلام عن الفقه وبدأ في التحليق فوق التحليل المادي للتاريخ، عبر ذبذبة الفئات الوسطى بين النقد الاجتماعي للسلطات السياسية والدينية وبين مسايرتها. تعبر ذروة وأزمة علم الكلام المعتزلي في مسألة خلق القرآن المتأثرة بالطرحين اليهودي والمسيحي عن طفولية الوعي ومثاليته المغامرة وعدم قدرته المفترضة على قراءة القرآن ككتاب نهضوي تحويلي وبالتالي قراءة تطورات الصراعات الاجتماعية العربية، فبدأ هذا العلم مناضلاً وانتهى ذيلياً لقوى النظام المناهضة للحرية والتعددية.
وقد حاولت الفلسفة العربية أن تقرأ الإشكالية ذاتها بأدوات أكثر تطوراً وبغنى فكري أوسع، لكن الفلسفة هي الأخرى ظلت مثالية دينية لا تقرأ سببيات الحياة الاجتماعية والتاريخ لكنها قاربت بعض ذلك لدى ابن رشد وابن خلدون. الأشكال الفكرية من فقه وعلم كلام وفلسفة عبرت عن تكريس الوعي للمحافظة الاجتماعية والانقسامات المذهبية وضعف تنويره وتثويره.
هذا كان مظهراً لعجز الفئات الوسطى والشعبية عن التغيير من داخل المدن، والتغيير كان يحدث دائماً عبر القبائل المسلحة حتى العصر الحديث التي تركز القوة بين يديها، ولهذا ظهرت الثورة العباسية بقيادة الأشراف وقد تغلغلت وسط الجمهور الخراساني الشعبي، وهو الأمر الذي مثّل لحظة تطور مفصلية وأحدث الفترة التحولية الثانية في حياة المسلمين. ثم جاءت التغييرات التفكيكية عبر القبائل المسلحة ولكن للوراء والمؤدية لتدهور أشكال الوعي حتى تسلمت الجيوش الوطنية عمليات التغيير الحديثة في ظل إشكاليات مماثلة وإنجازات متذبذبة أو متدهورة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 20, 2020 04:40