عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 87
August 14, 2020
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الانتماءُ والغربةُ
الدينُ هو الجمهورُ، والثقافةُ الحديثةُ هي النخبُ الطالعةُ من الفئاتِ الوسطى، والجمهور لابد له عقيدة من دين، حسب سيرورات العصور السابقة والراهنة، ولم تحدثْ علاقاتٌ دقيقةٌ بين نخبِ الثقافة والجمهور العربي الإسلامي المسيحي على مدى القرون، بسبب عدم فهم الدين وعدم فهم الجمهور وتوجه النخب بعد الثورة الإسلامية المؤسِّسة إلى متابعةِ الإقطاع وعدم إنتاج ثورة ديمقراطية.
تصوراتُ الدين الغيبيةِ هي النظامُ المثالي وقد انفصل عن الوجود المادي، وصار رموزاً، وهي أدواتٌ لمنع الشر، ومكأفاة الطيبين الأخيار، وجعل الوجودَ اللاأخلاقي أخلاقيا. وقد تحرك الثوريون المؤسِّسون من خلالهِ للتوحيد وجعلِ المالِ العام عاما حسب ظروفهم وإمكانياتهم فُصنعَ التقدمُ إلى حين.
النخب المعلمة أوالمثقفة أو المسيَّسة يمكن أن تنفصلَ عن الدين وتعاديه ويمكن أن تستثمرهُ لمصالحِها الذاتية ويمكن أن تفهمه وتجعلُ الوعي بهِ مفيداً للتقدم، حسب علاقاتها بالجمهور ومدى إيجاد التقدم فيه لا أن تستغله لمصالحها الخاصة.
هذه المواقف تعبرُ عن علاقةِ الثقافةِ المنتجةِ عبر العصور تجاه ثقافةٍ مُسبقة مُنتجةٍ في شروطٍ أخرى، لكنها تخترقُ العصورَ وتفرضُ نفسَها وتتحكمُ في تطورها، لأن الجمهور صانع التاريخ يبقى متخلفا أميا لا يعي العالم إلا من خلال الدين بنسخه القديمة غير المرئية في ضوء العلوم.
عبر أرسطو عن علاقة الثقافة المفيدة الموضوعية تجاه الدين الوثني، فنشرَ المفاهيم العلمية لعصره، التي حدت من تدخل الآلهة في شؤون العلوم الطبيعية خاصة التي كانت شديدة الضرورة للحرف والتجارة والملاحة وغيرها من الشؤون الشديدة الأهمية، لكن العلوم الاجتماعية واكتشاف قوانين الحياة الاجتماعية كانا أمراً غير ممكن وقتذاك رغم بدايات الحفر التي تمت وقتذاك.
ولهذا كان أرسطو مهما لدى مثقفي المسلمين ويطلقون عليه المعلم الأول، لأنهم كانوا بحاجة إلى الأدوات الفكرية المعرفية نفسها لتطور العلوم الطبيعية والاجتماعية، فغدوا منتمين إلى عصرهم.
تختلف مدارك هؤلاء المثقفين عن مصطلحات الدين وطرائق معرفته وعوالمه الغيبية، وقصصه، لكنهم لم ينفصلوا عنه، وحاولوا تغيير زمنهم واثراء الناس بالمعرفة «العلمية» لكن الدين بنسخه السطحية هو الذي بقي بتفاسير متخلفة بائسة ازدادت انفصالاً عن الواقع وطارت نحو الكواكب والنجوم والأوهام وثورتهم المعرفية دُفنتْ في الكتب القديمة، ولم تعدْ تتصلُ بالواقع أو تغيرُ أحوالَ الناس التي تدهورتْ وعمتْ فيها الخرافاتُ والحروب والانقسامات، حتى ظهر الأوروبيون بمعارف جديدةٍ حركتْ الحياةَ مجدداً في الكوكب الأرضي الغارق في الظلام.
العلاقة بين المثقفين الطليعيين والناس، بين المعرفة الجديدة والشعب، ترتكزُ على الدين والعلوم، فالدين يقومُ بوظيفته، حسب تصوراته وشعائره في الصلة بين البشر وتراثهم وماضيهم وأخلاقياتهم وتاريخهم القومي، والعلوم تقوم بدورها في تطوير الإنتاج بمختلف حقوله بشكل موضوعي لا تعرف الأديان والأجناس بل تبحث عن السببيات والقوانين.
إن فئةَ إنكار الدين «التقدمية» وإزالته واجهتْ عالما خياليا حولتهُ لواقع، مؤدلج، غير مُدركٍ علميا، أو هي تجنبته وعاشتْ على أفكار أخرى، وكلتا الفئتين لم تقم بعلاقات حقيقية مع الناس، الذين لا يتغيرون إلا من خلال دينهم.
العلاقات الموضوعية مع الناس تتطلب العلاقة مع دينهم، ومع مستوياتهم المعرفية ومع تاريخهم الخاص في تنوع الإنسانية الكبير المتعدد، لا احتقاراً وإزالةً ولا بقاء عند مستويات النصوص البسيطة السطحية وتحنيط الرموز بل عبر نشر معرفة حقيقية عن الماضي وأفكاره وتطوير المعرفة والإنتاج ونشر الثقافة الحديثة مواكبةً للديمقراطية ورفع مستوى حياة الجمهور المعيشية والفكرية.
الفئاتُ المستغِّلة للدين من أجل مصالحها الخاصة تبقي الثقافةَ الدينية كما هي قادمة من العصور القديمة خادمة لقوى الإقطاع لا لقوى الإنتاج الشعبية، وتعيش مع حياة الناس العادية من دون تغييرها وإدراك أسباب تخلفها ومشكلاتها العميقة.
هو انتماءٌ سطحي يعيشُ على عمل الجمهور وعلى ثقافته القديمة، فيستطيع أن يحكم الجمهور ويبقيه في ظروفه السيئة السلبية.
وعندما انعزل التقدميون عن الدين، كسبه الرجعيون والمحافظون واستغلوه، فلا أولئك غيروا الحياةَ من خارجها وبمحفوظات وقوالب خارجية ولا هؤلاء قادرون على تغييرها بقوالبهم المستوردة من الماضي المحنط المشكل حسب قوى الإقطاع وهم غير قادرين على فهمها من داخلها الحقيقي لا الموهوم الذين اصطنعوه عبر القرون.
مصالحُ الفئاتِ الوسطى وصراعاتها وتوجهاتها سوف تحدد اللحظات السياسية المؤقتة المرحلية، فالجمهورُ سوف يرى على المسرح التاريخي الآن الفروقَ بين الكلام والفعل، بين الدين الموجه والدين الحقيقي، سيجد قوى الإقطاع المختلفة وهي تشكلُ رساميلَها الخاصة، من خلال الملكيات العامة، ومن هنا أهمية استبعاد منظمات هذا الجمهور العامل السياسية والنقابية وتوجه الملاك الجدد لوراثة الملكيات العامة المنخورة.
تصوراتُ الدين الغيبيةِ هي النظامُ المثالي وقد انفصل عن الوجود المادي، وصار رموزاً، وهي أدواتٌ لمنع الشر، ومكأفاة الطيبين الأخيار، وجعل الوجودَ اللاأخلاقي أخلاقيا. وقد تحرك الثوريون المؤسِّسون من خلالهِ للتوحيد وجعلِ المالِ العام عاما حسب ظروفهم وإمكانياتهم فُصنعَ التقدمُ إلى حين.
النخب المعلمة أوالمثقفة أو المسيَّسة يمكن أن تنفصلَ عن الدين وتعاديه ويمكن أن تستثمرهُ لمصالحِها الذاتية ويمكن أن تفهمه وتجعلُ الوعي بهِ مفيداً للتقدم، حسب علاقاتها بالجمهور ومدى إيجاد التقدم فيه لا أن تستغله لمصالحها الخاصة.
هذه المواقف تعبرُ عن علاقةِ الثقافةِ المنتجةِ عبر العصور تجاه ثقافةٍ مُسبقة مُنتجةٍ في شروطٍ أخرى، لكنها تخترقُ العصورَ وتفرضُ نفسَها وتتحكمُ في تطورها، لأن الجمهور صانع التاريخ يبقى متخلفا أميا لا يعي العالم إلا من خلال الدين بنسخه القديمة غير المرئية في ضوء العلوم.
عبر أرسطو عن علاقة الثقافة المفيدة الموضوعية تجاه الدين الوثني، فنشرَ المفاهيم العلمية لعصره، التي حدت من تدخل الآلهة في شؤون العلوم الطبيعية خاصة التي كانت شديدة الضرورة للحرف والتجارة والملاحة وغيرها من الشؤون الشديدة الأهمية، لكن العلوم الاجتماعية واكتشاف قوانين الحياة الاجتماعية كانا أمراً غير ممكن وقتذاك رغم بدايات الحفر التي تمت وقتذاك.
ولهذا كان أرسطو مهما لدى مثقفي المسلمين ويطلقون عليه المعلم الأول، لأنهم كانوا بحاجة إلى الأدوات الفكرية المعرفية نفسها لتطور العلوم الطبيعية والاجتماعية، فغدوا منتمين إلى عصرهم.
تختلف مدارك هؤلاء المثقفين عن مصطلحات الدين وطرائق معرفته وعوالمه الغيبية، وقصصه، لكنهم لم ينفصلوا عنه، وحاولوا تغيير زمنهم واثراء الناس بالمعرفة «العلمية» لكن الدين بنسخه السطحية هو الذي بقي بتفاسير متخلفة بائسة ازدادت انفصالاً عن الواقع وطارت نحو الكواكب والنجوم والأوهام وثورتهم المعرفية دُفنتْ في الكتب القديمة، ولم تعدْ تتصلُ بالواقع أو تغيرُ أحوالَ الناس التي تدهورتْ وعمتْ فيها الخرافاتُ والحروب والانقسامات، حتى ظهر الأوروبيون بمعارف جديدةٍ حركتْ الحياةَ مجدداً في الكوكب الأرضي الغارق في الظلام.
العلاقة بين المثقفين الطليعيين والناس، بين المعرفة الجديدة والشعب، ترتكزُ على الدين والعلوم، فالدين يقومُ بوظيفته، حسب تصوراته وشعائره في الصلة بين البشر وتراثهم وماضيهم وأخلاقياتهم وتاريخهم القومي، والعلوم تقوم بدورها في تطوير الإنتاج بمختلف حقوله بشكل موضوعي لا تعرف الأديان والأجناس بل تبحث عن السببيات والقوانين.
إن فئةَ إنكار الدين «التقدمية» وإزالته واجهتْ عالما خياليا حولتهُ لواقع، مؤدلج، غير مُدركٍ علميا، أو هي تجنبته وعاشتْ على أفكار أخرى، وكلتا الفئتين لم تقم بعلاقات حقيقية مع الناس، الذين لا يتغيرون إلا من خلال دينهم.
العلاقات الموضوعية مع الناس تتطلب العلاقة مع دينهم، ومع مستوياتهم المعرفية ومع تاريخهم الخاص في تنوع الإنسانية الكبير المتعدد، لا احتقاراً وإزالةً ولا بقاء عند مستويات النصوص البسيطة السطحية وتحنيط الرموز بل عبر نشر معرفة حقيقية عن الماضي وأفكاره وتطوير المعرفة والإنتاج ونشر الثقافة الحديثة مواكبةً للديمقراطية ورفع مستوى حياة الجمهور المعيشية والفكرية.
الفئاتُ المستغِّلة للدين من أجل مصالحها الخاصة تبقي الثقافةَ الدينية كما هي قادمة من العصور القديمة خادمة لقوى الإقطاع لا لقوى الإنتاج الشعبية، وتعيش مع حياة الناس العادية من دون تغييرها وإدراك أسباب تخلفها ومشكلاتها العميقة.
هو انتماءٌ سطحي يعيشُ على عمل الجمهور وعلى ثقافته القديمة، فيستطيع أن يحكم الجمهور ويبقيه في ظروفه السيئة السلبية.
وعندما انعزل التقدميون عن الدين، كسبه الرجعيون والمحافظون واستغلوه، فلا أولئك غيروا الحياةَ من خارجها وبمحفوظات وقوالب خارجية ولا هؤلاء قادرون على تغييرها بقوالبهم المستوردة من الماضي المحنط المشكل حسب قوى الإقطاع وهم غير قادرين على فهمها من داخلها الحقيقي لا الموهوم الذين اصطنعوه عبر القرون.
مصالحُ الفئاتِ الوسطى وصراعاتها وتوجهاتها سوف تحدد اللحظات السياسية المؤقتة المرحلية، فالجمهورُ سوف يرى على المسرح التاريخي الآن الفروقَ بين الكلام والفعل، بين الدين الموجه والدين الحقيقي، سيجد قوى الإقطاع المختلفة وهي تشكلُ رساميلَها الخاصة، من خلال الملكيات العامة، ومن هنا أهمية استبعاد منظمات هذا الجمهور العامل السياسية والنقابية وتوجه الملاك الجدد لوراثة الملكيات العامة المنخورة.
Published on August 14, 2020 13:56
July 30, 2020
محمد الصياد: اليسار البحريني يخسر «عفيفه الأخضر»
مني اليسار البحريني اليوم الثلاثاء 22 أكتوبر/تشرين أول 2014 بخسارة فادحة. فلقد غيّب الموت بصورة مفاجئة وغادرة، الكاتب والأديب عبدالله خليفة. أقول خسارة لأن اليسار البحريني لم يفرز من بين صفوفه مناضلا دؤوبا لا يعرف الكلل ولا الملل، ولا السكينة والهدوء كما عبدالله خليفة. فهو لم يعترف يوما بالسكون وبمستقرات الأشياء ونواميس الحياة الرتيبة. فلم تكن صفات وخصال فقيدنا الراحل على وفاق دائم مع تلك الأشياء “الساكنة” وبديهياتها. فمن طبعه العنيد اكتسب شهرته غير المتوجة، أو المعبر عنها، باعتباره كاتبا وأديبا جسورا في تعبيره عن مصالح البروليتاريا البحرينية.
في دأبه غير المنقطع لابتداع مقاربات نضالية تُغلِّب الطابع الوطني والأممي والانساني للصراع الاجتماعي على مغالبات العصبيات الطائفية والعرقية والمذهبية والقبلية والجهوية، لم يتردد هذا “المشاكس” المصر دوما على مقارعة النمط الفكري والاجتماعي السائد، في توجيه معاول الهدم للبنى التقليدية السائدة وعرض مقارباته الحداثية الجريئة البديلة؛ فكان أن جلب على نفسه، دون مبالاة من أحد، خصومات الأعداء والأصدقاء معا.
في استدارته الفكرية الجسورة للتراث، لم يتردد عبدالله خليفة في نبش هذا التراث وتفكيكه وإعادة تركيبه على منوال أنماط الحداثة التي كانت تؤرقه، وعلى نحو ما أظهرته مطارحاته الفكرية الضاربة جذورها في عمق المذهب الحداثي، والذي حوَّله الى العَلَم الثقافي الأبرز في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية البحرينية، في دفاعه اللحوح عن نمط الحياة المُؤسِّس له.
لقد كانت سيرة الراحل قريبة من سيرة المناضل اليساري التونسي الراحل العفيف الأخضر.. في جسارته، وفي دأبه المستمر على مشاكسة السائد، ونقده، ومصارعته، وتشريحه، وهدمه لإعادة بنائه حداثيا.
وداعا أيها الصديق العزيز، وداعا أيها القلم الجسور، لقد أبكيتنا برحيلك، المدوي بمفاجأته.
«هذه المرثية كُتبت في يوم رحيل الفقيد الغالي والصديق الصدوق، الأديب والكاتب عبدالله خليفة»
د. محمد الصياد
المنامة – مملكة البحرين
الثلاثاء 22 أكتوبر/تشرين أول 2014
[image error]
【الصياد والتجربة اليابانية】
2006-9-13
قام الباحث البحريني محمد الصياد بتأليف كتاب يتناول تجربة التحديث اليابانية العملاقة في كتابه «العرب واليابان: التجربة التنموية اليابانية في الميزان»، مطبعة الاتحاد، البحرين، سنة 2006.
ويُعد الكتاب من أفضل الدراسات عن التجربة اليابانية لأنه اعتمد منهجاً تحليلياً وتاريخياً واقتصادياً متنوعاً وعميقاً.
وقد قدم للكتاب الشيخ عيسى بن علي آل خليفة وزير النفط السابق، ومن مقدمته جاء التعليق التالي: «والسؤال هنا ينسحب على الأمثلة التنموية الأخرى في آسيا أو ما يمكن تسميته بمجموعة النمور الآسيوية التي حققت هي الأخرى معدلات نمو متسارعة وراكمت فوائض في رأس المال وتقدمت سريعاً في مجالات العلوم والتقنية، في حين أصبحت التجارب العربية تراوح في مكانها»، ص2.
فتجربة اليابان السريعة في القفزة إلى مصاف الدول المتقدمة لا تزال تحتاج إلى فك طلاسمها، وأعتقد أن محمد الصياد قد اقترب كثيراً من هذا التحليل الموضوعي لسببياتها.
فقد قدم الصياد لدرس التجربة الاقتصادية اليابانية بأرقام ميزانياتها وطرق استثماراتها بنبذة تاريخية تحليلية، بين فيها كيفية تطور المجتمع الياباني التقليدي إلى الحداثة، فمن المجتمع الإقطاعي المتزمت والمغلق، الذي دام عدة قرون صعبة، إلى ثورة الميجي، الذي استمر أربعة عقود وقد أعلن فيها أمبراطور الإصلاح «نهاية فترة طويلة من العبودية القاتلة، وبدء العمل بإزالة كل الفواصل التي تفرق المسئولين الرسميين والناس العاديين»، «وقامت على أنقاض عصر إيدو الاستبدادي الانعزالي، حركة تنوير ليبرالية نشطة بالتزامن مع الحركة الاقتصادية للبرجوازية اليابانية الوليدة».
ويوضح الصياد بأن العصر الإقطاعي السابق راكم هو نفسه فوائض مالية سمحت بنشوء صناعة كبيرة.
وأعتقد بأن حركة الاستعمار والتوسع اليابانية في بدء القرن العشرين ساهمت هي الأخرى في تضخم هذا التراكم، وما هو معروف عن النزعة الرأسمالية اليابانية ولم يشر إليه الصياد أن تخلف التطور الرأسمالي قد سرع بظهور نزعة عسكرية فاشية، وهو ما يشير إليه الصياد: «فلم يكن والحال هذه، غريباً أن تعود الاوليغارشية على أكتاف النزعة العسكرية وزعامات الجيش ذات التوجهات الحربية التوسعية»، وهي حالةٌ تشبه وضع ألمانيا، لعدم وجود تطور رأسمالي ليبرالي طويل، ولكن هذه الفاشية تعرضت لضربة قاسية في الحرب العالمية الثانية.
ويعرض الصياد بشكل عابر لمفاتيح التطور النوعي الياباني، فيقول بأن بأن أبرز الصناعات ازدهرت في اليابان في أعقاب أزمة الكساد العظيم في الغرب، فنشأت في اليابان الشركات العائلية، بالتعاون الوثيق بين رأس المال الصناعي ورأس المال المالي، فظهرت الشركات الكبرى مثل ميتسوبيشي وميتسوي، وقامت أثناءها الصناعات الثقيلة.
ويضيف: «والواقع إن الصناعات الثقيلة اليابانية قد شهدت تطوراً لافتاً لحقت بواسطته الصناعات الخفيفة سنة 1936، لاسيما الصناعة الكمياوية وصناعة الألمنيوم والخيوط الصناعية والسيارات»، ص24.
ولا بد لنا أن نقول بأن هذا التسريع الهائل للاقتصاد الياباني الرأسمالي تم في ظل حكومة عسكرية، لأن هذا المعدل غير مسبوق في دول الشرق في نمو الصناعات الثقيلة، وهو ما كان يجري كذلك في دول عسكرية أخرى مثل روسيا والصين لاحقاً.
لكن هذا النمو الصناعي الهائل استند على قاعدة رأسمالية حرة، بخلاف روسيا، فرغم سيطرة الحكومة على النظام السياسي والاقتصادي لكن كانت الطبقة البرجوازية موجودة، وخلقت صناعاتها المتقدمة، وأعطتها حرية ما بعد الفاشية إمكانيات كبيرة للنمو.
إن خلق صناعة ثقيلة خلال النصف الأول من القرن العشرين ثم تنامي الصناعة الخفيفة
في العقود التالية خلق تجربة نهضوية كبيرة خلال قرن. لكن هذا لا يمكن أن يتشكل دون قرون النهضة الحرفية والتعليمية السابقة.
وهكذا فإن المعجزة اليابانية تشكلت من عوامل فريدة:استقلال الجزر السياسي، والتراكم المالي الذي وفرته حقب الدكتاتورية الملكية، نشوء رأسمالية خاصة وحكومية متضافرة، ثقيلة وخفيفة متعاونة، وهو ما شكل المعجزة الاقتصادية الرأسمالية الحديثة في خلال قرن.
إن الباحث محمد الصياد يعرض وقائعية التجربة اليابانية، أي كيف جرت تطورات الحياة السياسية والاقتصادية في اليابان خلال عدة قرون، مركزاً على كيفية التحول الرأسمالي الكبير.
لقد توجه نحو الوقائع الخاصة، لا نحو القوانين العامة، فإدراك قوانين التجربة الرأسمالية يحتاج ليس فقط إلى عقل اقتصادي، بل سوسيولوجي كذلك، أي إجتماعي يدرك سيرورة القوانين الاجتماعية، وهي قوانين أعم من القوانين الاقتصادية.
كيف؟
فينبغي خلال درس التجربة الاقتصادية رؤية العلاقة بين الصناعة الثقيلة (أ) والصناعة الاستهلاكية (ب)، أي أن الطبقات المالكة، سواء كانت ملكية، أو برجوازية، تعاونت بشكل حثيث على تعاضد هذين النمطين من الإنتاج.
هذه مسألة محورية خطيرة لم يلتفت لها الباحث الاقتصادي الصياد، وهي كذلك قضية محورية خطيرة للعالم الثالث، الذي يقوم بالتجريب الاقتصادي والسياسي دون تفقه في القوانين العامة الاجتماعية.
فعلى الرغم من أن الطبقة الإقطاعية والدكتاتورية فيما قبل الحرب العالمية الثانية كانت بهذه الصفات، إلا أنها لم تعارض سيرورة النهضة اليابانية نحو المحاور الجوهرية للتطور الاقتصادي، وهي تشكيل علاقة تعاضدية بين صناعة أ وصناعة ب، وهو أمر أشار إليه كارل ماركس في مجلدات رأس المال خاصة في المجلد الثاني وهو المتعلق بتجديد الإنتاج الرأسمالي، لكن هذه العلاقة التعاضدية بين صناعة وسائل الإنتاج، وصناعة وسائل الاستهلاك، تحتاج إلى جملة من التغييرات الاجتماعية الضرورية، وأهمها ضخامة القوى العاملة العادية والفنية، وهو أمر وفرته عمليات تدهور الزراعة اليابانية، ونمو المدن الرئيسية بشكل هائل، وهجرة تلك العمالة إليها، ونشوء صلات تعليمية وتقنية بين اليابان والغرب.
لو أن الصياد درس هذا الجانب المحوري المشكل للنهضة لكان قد دخل عمق القضية التنموية اليابانية.
إن مسائل الانضباط العسكري المنقولة للحياة الاجتماعية والاقتصادية، وضخامة التراكم المالي، والعلاقة التعاضدية بين الشكلين الرئيسين للصناعة، قد دعمه احتلال الولايات المتحدة لليابان، فالجنرال ماك آرثر قام بإصلاحات كبيرة في الاقتصاد الياباني، خاصةً في ضرب العلاقات الإقطاعية الأخيرة في المجتمع الياباني، وهو أمر أدى إلى تسريع هائل في الصناعات الاستهلاكية، وتوسع ياباني في جنوب شرق آسيا، مما جعل اليابان بعد عقود قليلة تغدو قائدة الاقتصاد الرأسمالي المتطور في آسيا.
وهكذا فقد حدث انضباط اقتصادي وسياسي من قبل الطبقات العاملة، الداعمة الأساسية للتجربة، فهذا المعدل الكبير للتحول الاقتصادي الرأسمالي المتطور، وفر أجوراً جيدة لهذه العمالة، التي انتقلت من اقتصاد زراعي متخلف ومتدني الأجور، إلى اقتصاد صناعي أفضل، راح يراكم فوائض نقدية جيدة، أخذت تتطور بمعدلات كبيرة مع ضخامة التصدير للخارج، فحدث انسجام تاريخي بين الطبقة المالكة والطبقة العاملة، رغم أن العقود الأولى لنشوء الطبقة العاملة اليابانية كانت تتسم بواقع متدن لهذه الطبقة كما هي عادت التراكم الأولي العنفي للجماعات العاملة.
إن العادات الحضارية لشعوب جنوب وشرق آسيا بعدم التدخل الصارم للأديان في الحياة السياسية والاقتصادية، واتساع هامش تحرر النساء، وتنامي عادات الانضباط وحب العمل، كل هذه العوامل قادت إلى تصاعد التجربة اليابانية ثم تجربة النمور، لكن مع تلك الظروف الموضوعية المتعلقة بأنواع الصناعة وتداخلها وتعاونها الدقيق.
وعلى الرغم من وجود صراع اجتماعي كبير في الحياة اليابانية بين الرأسماليين والعمال، إلا أن الحريات الاقتصادية والسياسية قادت إلى تعاون مثمر بين الطبقتين الأساسيتين بحيث حدث نمو مشترك لكلا الفريقين.
في الواقع هذه ملاحظة أساسية على كتاب الباحث الاقتصادي محمد الصياد، أي أنها موجهة لجانب واحد هو جانب هيكل التجربة، لكن الكتاب يحوي جوانب عديدة وكثيرة، لكنني فضلت التعليق على هذا الجانب المحوري الذي هو أساس التجربة.
في دأبه غير المنقطع لابتداع مقاربات نضالية تُغلِّب الطابع الوطني والأممي والانساني للصراع الاجتماعي على مغالبات العصبيات الطائفية والعرقية والمذهبية والقبلية والجهوية، لم يتردد هذا “المشاكس” المصر دوما على مقارعة النمط الفكري والاجتماعي السائد، في توجيه معاول الهدم للبنى التقليدية السائدة وعرض مقارباته الحداثية الجريئة البديلة؛ فكان أن جلب على نفسه، دون مبالاة من أحد، خصومات الأعداء والأصدقاء معا.
في استدارته الفكرية الجسورة للتراث، لم يتردد عبدالله خليفة في نبش هذا التراث وتفكيكه وإعادة تركيبه على منوال أنماط الحداثة التي كانت تؤرقه، وعلى نحو ما أظهرته مطارحاته الفكرية الضاربة جذورها في عمق المذهب الحداثي، والذي حوَّله الى العَلَم الثقافي الأبرز في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية البحرينية، في دفاعه اللحوح عن نمط الحياة المُؤسِّس له.
لقد كانت سيرة الراحل قريبة من سيرة المناضل اليساري التونسي الراحل العفيف الأخضر.. في جسارته، وفي دأبه المستمر على مشاكسة السائد، ونقده، ومصارعته، وتشريحه، وهدمه لإعادة بنائه حداثيا.
وداعا أيها الصديق العزيز، وداعا أيها القلم الجسور، لقد أبكيتنا برحيلك، المدوي بمفاجأته.
«هذه المرثية كُتبت في يوم رحيل الفقيد الغالي والصديق الصدوق، الأديب والكاتب عبدالله خليفة»
د. محمد الصياد
المنامة – مملكة البحرين
الثلاثاء 22 أكتوبر/تشرين أول 2014
[image error]
【الصياد والتجربة اليابانية】
2006-9-13
قام الباحث البحريني محمد الصياد بتأليف كتاب يتناول تجربة التحديث اليابانية العملاقة في كتابه «العرب واليابان: التجربة التنموية اليابانية في الميزان»، مطبعة الاتحاد، البحرين، سنة 2006.
ويُعد الكتاب من أفضل الدراسات عن التجربة اليابانية لأنه اعتمد منهجاً تحليلياً وتاريخياً واقتصادياً متنوعاً وعميقاً.
وقد قدم للكتاب الشيخ عيسى بن علي آل خليفة وزير النفط السابق، ومن مقدمته جاء التعليق التالي: «والسؤال هنا ينسحب على الأمثلة التنموية الأخرى في آسيا أو ما يمكن تسميته بمجموعة النمور الآسيوية التي حققت هي الأخرى معدلات نمو متسارعة وراكمت فوائض في رأس المال وتقدمت سريعاً في مجالات العلوم والتقنية، في حين أصبحت التجارب العربية تراوح في مكانها»، ص2.
فتجربة اليابان السريعة في القفزة إلى مصاف الدول المتقدمة لا تزال تحتاج إلى فك طلاسمها، وأعتقد أن محمد الصياد قد اقترب كثيراً من هذا التحليل الموضوعي لسببياتها.
فقد قدم الصياد لدرس التجربة الاقتصادية اليابانية بأرقام ميزانياتها وطرق استثماراتها بنبذة تاريخية تحليلية، بين فيها كيفية تطور المجتمع الياباني التقليدي إلى الحداثة، فمن المجتمع الإقطاعي المتزمت والمغلق، الذي دام عدة قرون صعبة، إلى ثورة الميجي، الذي استمر أربعة عقود وقد أعلن فيها أمبراطور الإصلاح «نهاية فترة طويلة من العبودية القاتلة، وبدء العمل بإزالة كل الفواصل التي تفرق المسئولين الرسميين والناس العاديين»، «وقامت على أنقاض عصر إيدو الاستبدادي الانعزالي، حركة تنوير ليبرالية نشطة بالتزامن مع الحركة الاقتصادية للبرجوازية اليابانية الوليدة».
ويوضح الصياد بأن العصر الإقطاعي السابق راكم هو نفسه فوائض مالية سمحت بنشوء صناعة كبيرة.
وأعتقد بأن حركة الاستعمار والتوسع اليابانية في بدء القرن العشرين ساهمت هي الأخرى في تضخم هذا التراكم، وما هو معروف عن النزعة الرأسمالية اليابانية ولم يشر إليه الصياد أن تخلف التطور الرأسمالي قد سرع بظهور نزعة عسكرية فاشية، وهو ما يشير إليه الصياد: «فلم يكن والحال هذه، غريباً أن تعود الاوليغارشية على أكتاف النزعة العسكرية وزعامات الجيش ذات التوجهات الحربية التوسعية»، وهي حالةٌ تشبه وضع ألمانيا، لعدم وجود تطور رأسمالي ليبرالي طويل، ولكن هذه الفاشية تعرضت لضربة قاسية في الحرب العالمية الثانية.
ويعرض الصياد بشكل عابر لمفاتيح التطور النوعي الياباني، فيقول بأن بأن أبرز الصناعات ازدهرت في اليابان في أعقاب أزمة الكساد العظيم في الغرب، فنشأت في اليابان الشركات العائلية، بالتعاون الوثيق بين رأس المال الصناعي ورأس المال المالي، فظهرت الشركات الكبرى مثل ميتسوبيشي وميتسوي، وقامت أثناءها الصناعات الثقيلة.
ويضيف: «والواقع إن الصناعات الثقيلة اليابانية قد شهدت تطوراً لافتاً لحقت بواسطته الصناعات الخفيفة سنة 1936، لاسيما الصناعة الكمياوية وصناعة الألمنيوم والخيوط الصناعية والسيارات»، ص24.
ولا بد لنا أن نقول بأن هذا التسريع الهائل للاقتصاد الياباني الرأسمالي تم في ظل حكومة عسكرية، لأن هذا المعدل غير مسبوق في دول الشرق في نمو الصناعات الثقيلة، وهو ما كان يجري كذلك في دول عسكرية أخرى مثل روسيا والصين لاحقاً.
لكن هذا النمو الصناعي الهائل استند على قاعدة رأسمالية حرة، بخلاف روسيا، فرغم سيطرة الحكومة على النظام السياسي والاقتصادي لكن كانت الطبقة البرجوازية موجودة، وخلقت صناعاتها المتقدمة، وأعطتها حرية ما بعد الفاشية إمكانيات كبيرة للنمو.
إن خلق صناعة ثقيلة خلال النصف الأول من القرن العشرين ثم تنامي الصناعة الخفيفة
في العقود التالية خلق تجربة نهضوية كبيرة خلال قرن. لكن هذا لا يمكن أن يتشكل دون قرون النهضة الحرفية والتعليمية السابقة.
وهكذا فإن المعجزة اليابانية تشكلت من عوامل فريدة:استقلال الجزر السياسي، والتراكم المالي الذي وفرته حقب الدكتاتورية الملكية، نشوء رأسمالية خاصة وحكومية متضافرة، ثقيلة وخفيفة متعاونة، وهو ما شكل المعجزة الاقتصادية الرأسمالية الحديثة في خلال قرن.
إن الباحث محمد الصياد يعرض وقائعية التجربة اليابانية، أي كيف جرت تطورات الحياة السياسية والاقتصادية في اليابان خلال عدة قرون، مركزاً على كيفية التحول الرأسمالي الكبير.
لقد توجه نحو الوقائع الخاصة، لا نحو القوانين العامة، فإدراك قوانين التجربة الرأسمالية يحتاج ليس فقط إلى عقل اقتصادي، بل سوسيولوجي كذلك، أي إجتماعي يدرك سيرورة القوانين الاجتماعية، وهي قوانين أعم من القوانين الاقتصادية.
كيف؟
فينبغي خلال درس التجربة الاقتصادية رؤية العلاقة بين الصناعة الثقيلة (أ) والصناعة الاستهلاكية (ب)، أي أن الطبقات المالكة، سواء كانت ملكية، أو برجوازية، تعاونت بشكل حثيث على تعاضد هذين النمطين من الإنتاج.
هذه مسألة محورية خطيرة لم يلتفت لها الباحث الاقتصادي الصياد، وهي كذلك قضية محورية خطيرة للعالم الثالث، الذي يقوم بالتجريب الاقتصادي والسياسي دون تفقه في القوانين العامة الاجتماعية.
فعلى الرغم من أن الطبقة الإقطاعية والدكتاتورية فيما قبل الحرب العالمية الثانية كانت بهذه الصفات، إلا أنها لم تعارض سيرورة النهضة اليابانية نحو المحاور الجوهرية للتطور الاقتصادي، وهي تشكيل علاقة تعاضدية بين صناعة أ وصناعة ب، وهو أمر أشار إليه كارل ماركس في مجلدات رأس المال خاصة في المجلد الثاني وهو المتعلق بتجديد الإنتاج الرأسمالي، لكن هذه العلاقة التعاضدية بين صناعة وسائل الإنتاج، وصناعة وسائل الاستهلاك، تحتاج إلى جملة من التغييرات الاجتماعية الضرورية، وأهمها ضخامة القوى العاملة العادية والفنية، وهو أمر وفرته عمليات تدهور الزراعة اليابانية، ونمو المدن الرئيسية بشكل هائل، وهجرة تلك العمالة إليها، ونشوء صلات تعليمية وتقنية بين اليابان والغرب.
لو أن الصياد درس هذا الجانب المحوري المشكل للنهضة لكان قد دخل عمق القضية التنموية اليابانية.
إن مسائل الانضباط العسكري المنقولة للحياة الاجتماعية والاقتصادية، وضخامة التراكم المالي، والعلاقة التعاضدية بين الشكلين الرئيسين للصناعة، قد دعمه احتلال الولايات المتحدة لليابان، فالجنرال ماك آرثر قام بإصلاحات كبيرة في الاقتصاد الياباني، خاصةً في ضرب العلاقات الإقطاعية الأخيرة في المجتمع الياباني، وهو أمر أدى إلى تسريع هائل في الصناعات الاستهلاكية، وتوسع ياباني في جنوب شرق آسيا، مما جعل اليابان بعد عقود قليلة تغدو قائدة الاقتصاد الرأسمالي المتطور في آسيا.
وهكذا فقد حدث انضباط اقتصادي وسياسي من قبل الطبقات العاملة، الداعمة الأساسية للتجربة، فهذا المعدل الكبير للتحول الاقتصادي الرأسمالي المتطور، وفر أجوراً جيدة لهذه العمالة، التي انتقلت من اقتصاد زراعي متخلف ومتدني الأجور، إلى اقتصاد صناعي أفضل، راح يراكم فوائض نقدية جيدة، أخذت تتطور بمعدلات كبيرة مع ضخامة التصدير للخارج، فحدث انسجام تاريخي بين الطبقة المالكة والطبقة العاملة، رغم أن العقود الأولى لنشوء الطبقة العاملة اليابانية كانت تتسم بواقع متدن لهذه الطبقة كما هي عادت التراكم الأولي العنفي للجماعات العاملة.
إن العادات الحضارية لشعوب جنوب وشرق آسيا بعدم التدخل الصارم للأديان في الحياة السياسية والاقتصادية، واتساع هامش تحرر النساء، وتنامي عادات الانضباط وحب العمل، كل هذه العوامل قادت إلى تصاعد التجربة اليابانية ثم تجربة النمور، لكن مع تلك الظروف الموضوعية المتعلقة بأنواع الصناعة وتداخلها وتعاونها الدقيق.
وعلى الرغم من وجود صراع اجتماعي كبير في الحياة اليابانية بين الرأسماليين والعمال، إلا أن الحريات الاقتصادية والسياسية قادت إلى تعاون مثمر بين الطبقتين الأساسيتين بحيث حدث نمو مشترك لكلا الفريقين.
في الواقع هذه ملاحظة أساسية على كتاب الباحث الاقتصادي محمد الصياد، أي أنها موجهة لجانب واحد هو جانب هيكل التجربة، لكن الكتاب يحوي جوانب عديدة وكثيرة، لكنني فضلت التعليق على هذا الجانب المحوري الذي هو أساس التجربة.
Published on July 30, 2020 09:00
July 25, 2020
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: عبدالناصر كإقطاعي*
جمال عبدالناصر
(1970 – 1918)
إذا أردنا أن نهز المسلمات المعششة في الوعي العربي السائد، فلا بد لنا من بعض الصدمات الفكرية التي تقوم بإيقاظه، مثل هذا العنوان السابق ذكره، فما هي علاقة المناضل الوطني الكبير جمال عبد الناصر بالإقطاع، وكيف يكون إقطاعياً وهو من العاملين لتوزيع بعض الأراضي على الفلاحين والذي اسقط الملكية؟!
يرفض الوعي العربي السائد مفهوم التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، وهو مفهوم أساسي لوعي التاريخ ومراحله، ومن هنا كانت المشكلة في وعي التاريخ العربي المعاصر، وتناثر التسميات المجانية فيه وعنه، فهذا الوعي يرفض السمة الموضوعية لهذا التاريخ وهو إنه عملية انتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية.
أي أننا نحدد مدى التقدمية في هذا التاريخ بالقدرة على إجراء عملية الانتقال بين التشكيلتين المتمايزتين، وبدون الاعتراف بهذه التشكيلات وعمليات تطورها لا يمكن أن يكون ثمة أساس موضوعي للأحكام.
لقد أقام الوعي العربي بأغلبية توجهاته الحديثة على اعتماد التسميات الفضفاضة عن التحولات السياسية، فعبر تغييب مفهوم التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، اعتمدت تلك التسميات حول التجربة الاشتراكية والمجتمع الديمقراطي واقتصاد الريع، فظهرت تجارب مصر والجزائر وسوريا في عمليات التأميم والإصلاحات الاقتصادية وكأنها تحول إلى الاشتراكية، وأنها أنجزت مهمات الانتقال من عالم الإقطاع إلى الرأسمالية، ولهذا بدت التجربة الناصرية وكأنها قد أتمت مرحلة الانتقال هذه، وإنها تستعد للصعود إلى المجتمع الاشتراكي.
لكن قانون الإصلاح الزراعي الذي ظهر في بداية الثورة، أي في سنة 1953 وقام بتوزيع الأرض على الفلاحين، لم يقض على الإقطاع، فعمليات التحايل على القانون كانت كثيرة، حيث قامت العائلات الإقطاعية بتوزيع أراضيها على أسماء الزوجات والأقارب بحيث تمكنت من التهرب من الحد الأعلى للملكية الذي فرضه القانون، وكان حداً كبيراً، حتى إنه في سنة 1965 جرت صراعات واسعة ضد الإقطاع في الريف المصري، وقتل فيها أحد المناضلين البارزين وقد عُرفت بحوادث قرية «كمشيش». أي إن الإقطاع حتى بشكله الاقتصادي الزراعي البارز لم يتم القضاء عليه، وعقدت لجنة لتصفيته برئاسة عبد الحكيم عامر!
لكن قضية البنية الإقطاعية في الشرق تتجاوز مسألة الملكية الزراعية بافتراض الحد منها، فهي مرتبطة بطبيعة الحكم والبنية الاجتماعية، فملكية العائلات البارزة للسلطة، وسواء كانت في الحكم أم كانت معارضة، هي التي تحدد طبيعة النظام الاجتماعي، فهي عندما تستولي على الحكم تقوم بالسيطرة على ملكيات الأرض واستثمار دخلها. حيث كانت الأرض الزراعية هي المصدر الأساسي للثروة في العصور القديمة والوسطى.
ولهذا فإن «الضباط الأحرار» حين استولوا على السلطة كانت الكثير من فوائض الزراعة تتوجه إلى جيوبهم. بطبيعة الحال كان عبدالناصر بعيداً عن هذا الاستغلال ولكن نحن نتكلم عن الفئة التي هيمنت على الحكم، وبدت تستولي على الثروة.
لقد توحد الضباط الأحرار بالأجهزة القديمة وتداخلوا مع العائلات البارزة، ولهذا غدت الديمقراطية وعودة الأحزاب مرفوضة بالنسبة إليهم. لكن المسألة تتعدى فوائض الزراعة فهناك الاقتصاد الحديث بشركاته الكبرى والمقاولات الخ..
لقد قامت إدارة الضباط الأحرار بالتخفيف من الإقطاع الزراعي ووسعت انتشار الملكيات الخاصة في الريف، وأصبحت فئة بيروقراطية تستفيد من فوائض الإقطاع الريفي والرأسمالية المتنامية في الحياة الاقتصادية. وبطبيعة الحال هناك منجزات وطنية كبيرة في تطور الاقتصاد والحياة الاجتماعية: إقامة المصانع، وإنشاء السد العالي، وتطوير التعليم والثقافة الخ..
نستطيع أن نقول هنا إن نظام الضباط الأحرار هو استمرار للنظام الإقطاعي – الملكي، بشكل جديد، عبر بقاء الملكيات الإقطاعية الزراعية في الريف بصفتها الشكل البارز من الملكية. أي أن نظام العصور الوسطى لم يتغير هنا بصفة جوهرية. رغم إن الأرض صارت ملكية حقيقية، وليست ملكية انتفاع كما كان الأمر في العصور السابقة.
إن هيمنة الضباط الأحرار على الريف، كمصدر أساسي سابق وراهن للثروة، تأتي من خلال أجهزة الدولة، بل أحياناً من خلال التملك الخاص نفسه، كما يجري حالياً للضباط الأحرار في بعض الأنظمة حيث يملكون أكبر المزارع والأراضي الخصبة (تجارب ليبيا وسوريا والعراق والجزائر).
وقد كانت أغلبية الرموز البارزة في حركات الضباط الأحرار العربية من عائلات ريفية تمتلك ملكيات صغيرة أو متوسطة من الأرض كجمال عبد الناصر وأنور السادات والبكر وصدام حسين وأحمد بن بله الخ..
وكان الوصول للسلطة عن طريق الانقلاب العسكري يعني في حد ذاته إبقاء العلاقات الإنتاجية القديمة، حيث يهيمن جهاز الدولة على الملكية وتوزيعها، وتعتبر السيطرة عليه أحد الشكلين البارزين للإقطاع، وهو هنا الإقطاع السياسي الحاكم.
وتوجد هنا علاقات رأسمالية بشتى تجلياتها بطبيعة الحال، فالضباط الأحرار وعائلاتهم يقومون باستثمار ثروة الحكم في شراء الأراضي والعمارات وبإنشاء الشركات المختلفة. ولكنها هنا رأسمالية بيروقراطية، فالفائض يأتي من تملك الإدارة السياسية، وهو ليس من نتاج الملكية الحرة، بمعنى إنها جزء من السرقة العامة، أي من السيطرة السياسية على الدولة، وهذا هو الإقطاع الشرقي. ولهذا غالباً ما نجد التداخل بين هذا الرأسمال البيروقراطي المسروق من مال الناس متوجهاً للأعمال التجارية الطفيلية وسريعة الربح والخالية من المخاطر. ونجد النسب بين أنور السادات ومالك ومؤسس شركة المقاولين العرب على سبيل المثال ليس نسباً عائلياً فحسب بل هو نسب اجتماعي وسياسي.
ولا تتعرض ملكيات الضباط الأحرار وفئاتهم العسكرية والبيروقراطية للمصادرة بطبيعة الحال، وحين تأتي التأميمات فإنها تضرب الملكيات الصناعية، أي تضرب فئات البرجوازية الصناعية الوطنية، تاركة الفئات والشرائح الأخرى في نموها السريع والمخيف. وهنا يقوم الإقطاع السياسي بالسيطرة على البرجوازية الصناعية، مما يعني القضاء على جذور حزب الوفد وجذور الحداثة والليبرالية.
في هذا التأميم الموجه للرأسمال الصناعي كارثة مستقبلية كبرى، فهو حكم بالإعدام على عملية اقتصادية وفكرية عميقة ومهمة، ولكن علينا أن نراه، من زاوية قدرة جهاز الدولة الشرقية عموماً في استخدام العنف في تشويه التطور الاقتصادي، وعدم السماح بظهور طبقة وسطى قوية وحديثة، فالصناعة هي القاعدة لتشكيل برجوازية حديثة قادرة على تجاوز هيمنة الدولة العسكرية – الإقطاعية.
ومن الجانب الثقافي فإننا لن نجد ذلك التداخل بين الصناعة والعلوم، وسنجد فئات البرجوازية كلها في حالة تبعية لجهاز الدولة أو للغرب ذي الرأسمال الكبير.
لقد كان بإمكان الضباط الأحرار تأميم العمارات والوكالات التجارية الخ.. لكنهم اختاروا الصناعة لكونها لا تدخل في ظل هيمنتهم. ويمثل ذلك من الناحية التاريخية، إخلاء الساحة الاقتصادية للنمو المتسارع لأشكال الملكية ذات الربحية السريعة، وغير المتداخلة بالعلوم، والتي ستكون المدخل لسياسة الانفتاح والطفيلية الشديدة عموماً.
لكن الدولة من جهة أخرى، لعبت دور (الأب) الراعي للطبقات الشعبية، فهي إذ قامت بضرب البرجوازية الصناعية، الخصم البارز لها، استطاعت أن تثبت الأسعار وتتحكم في السوق وتحافظ على الأجور والتشغيل.
ويتشابه ذلك مع دولة الخلفاء الراشدين، عبر توزيع عادل للثروة، وبتحكم الدولة في القطاع العام الزراعي، ولكنه صار الآن القطاع العام الصناعي، مع إطلاق الحريات الاقتصادية في التجارة والمقاولات والصرافة، التي راحت تنخر الملكية العامة وتسرقها.
ولهذا نجد من الناحية الفكرية تسود شعارات مثل الاشتراكية العربية ويكتب (محمود شلبي) عن اشتراكية عمر بن الخطاب، ويكتب محمود أمين العالم عن «تجربتنا الاشتراكية» الخ، أي يتم انتقاء فسيفساء فكرية تجمل النظام الاجتماعي.
لكن هل استطاع النظام الناصري الانتقال فعلاً من الإقطاع إلى الرأسمالية أو قفز إلى الاشتراكية؟
فهو يقول عن نفسه إنه نظام غير رأسمالي ومع ذلك فهو ليس نظاماً اشتراكياً، وقال بعض المنظرين الماركسيين وقتذاك إنه نظام تقوده البرجوازية الصغيرة وقال لطفي الخولي إنه نظام انتقالي إلى الاشتراكية وقال آخرون إنه النظام اللارأسمالي الخ..
لا شك إن رأسمالية الدولة الوطنية هي شكل النظام الاقتصادي فقد أصبحت الدولة تملك أكبر رأسمال اقتصادي، لكن رأسمالية الدولة بحد ذاتها هي ميدان لصراع الطبقات المختلفة وهي ليست تشكيلة اقتصادية – اجتماعية، وهي فترة تحضير لمسار تاريخي ما، فالمسألة هنا تعتمد على كيفية توجه الفائض الاقتصادي، فهل هو يتوجه لإشاعة العلاقات الرأسمالية أم للعلاقات الإقطاعية الريفية، ولا نستطيع أن نؤيد الطرح القائل بأنها إعداد للانتقال إلى الاشتراكية.
فرأسمالية الدولة أما أن تؤدي للإمام أو تعود إلى الخلف، أو أن تبقى في هذه المرحلة الانتقالية بين الإقطاع والرأسمالية. فلا تغدو إقطاعية تماماً ولا رأسمالية صرفة. ونحن قد استبعدنا تماماً القفزة في الهواء «الاشتراكية». لأن الاشتراكية لها شروط موضوعية مغايرة تماماً، لكن إذا كانت رأسمالية الدولة هي شكل للانتقال إلى الرأسمالية الصرفة، فما هي هذه الرأسمالية الخاصة الانتقالية؟ ما هي رأسمالية الدولة؟
علينا أن نواصل المناقشة.
علينا أن نقرأ جوانب من الميدان الإيديولوجي لكي نرى مستويات أخرى من إشكالية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية. فنحن نجد حزب الوفد ممثل الرأسمالية الوطنية يتوارى عن الوجود الفكري والسياسي وكأنه لم يكن رغم مقاومته الطويلة للدكتاتوريات السابقة، في حين إن حزب الإخوان هو الذي يبرز ويتصاعد دوره حتى يغدو مهيمناً في المرحلة التالية.
أي أن المرحلة في الميدان الفكري كانت على النقيض من التوقع، حيث قلنا إن المرحلة الناصرية هي مرحلة انتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، تمت بأدوات القوة السياسية، ولكننا أوضحنا إن هذه الرأسمالية كانت مدمرة للقوة الاجتماعية القائدة لمرحلة التحول الحقيقي والمفترض وهي البرجوازية الصناعية.
أي أن مرحلة الانتقال بتلك الصورة أدت إلى تخريب الانتقال، وأدت إلى مشكلات حادة، وظهور الإخوان كحزب مؤثر هو تتويج لمرحلة الانتقال المُخرَّبة تلك.
فبدلاً من التوسع وتعميق مظاهر الحريات الاجتماعية والفكرية رأينا العودة إلى اعتقال النساء وظواهر التخلف المختلفة، ويقال لنا إن هذه ظاهرات قادمة من شبه الجزيرة العربية، ولكن كيف استطاعت مثل هذه الظواهر أن تنمو في المجتمع المصري بهذه السرعة والشمول إذا لم تكن هناك جذور أساسية وموضوعية سمحت لها بهذا النمو؟
أي إنه لو كانت الثورة الناصرية عملية تجذير للتطور الرأسمالي والحضاري، معمقة إنجازات المرحلة الليبرالية اجتماعياً وثقافياً لما تمكنت حفنة من الأشخاص من تخريب التطور.
فعودة القوى المذهبية للتحكم في المجتمع المصري، سواء على الجانبين الإسلامي أو المسيحي، يعني فكرياً وحضارياً، عودة إلى ما قبل الدولة الحديثة، ربما إلى عصر محمد علي أو غيره.
أي إن عملية الصهر التي قام بها الحكام الملكيون والبرجوازية الوفدية تم انهيارها على يد جماعة الضباط الأحرار وعهدهم الجمهوري – الملكي. فرجع المجتمع المصري في حركته السياسية إلى ما قبل سعد زغلول.
ومن جهة معينة، فنحن ندرك الآن إن ثمة إنجازات اقتصادية واجتماعية تمت في العهد الملكي اتاحت عملية الانصهار ووحدة الشعب، وقربته من عملية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية الحديثة، عبر نمو البرلمان والصحافة الحرة وتطور العلاقات الاجتماعية المتمدنة، فجاءت حركة الضباط الأحرار ومنعت هذه العملية الانتقالية، أو على الأقل رسخت الجوانب الدكتاتورية في المجتمع.
إن التسريع في بعض جوانب التطور الاقتصادي وإقامة المنشآت التاريخية، هو أمر لا يمكن إغفال أهميته، ولكن الخسائر كانت جسيمة أيضاً، بطبيعة أسلوب المصادرة، أسلوب العنف العسكري والفاسد في إدارة العمليات التاريخية.
أي أن المشروع الوطني التحرري الناصري لم يستطع أن يخرج من جسم العلاقات السياسية الإقطاعية المهيمنة، فقد كرس الدولة كمصدر الثروات، وليس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ولكن الدولة كمصدر للثروة أمر يقود إلى الابتعاد عن الطريق الموضوعي للتطور الرأسمالي، وبالتالي إلى عدم الدخول في الحضارة الحديثة، وهو أمر يقوي الإقطاع ويعيد البلد إلى العصور الوسطى، ولهذا ظهر الإخوان، والكنيسة القبطية، كمظهرين لنفوذ الإقطاع السياسي – الديني المتصاعد في الحياة السياسية والاجتماعية.
علينا أن نرى هذين المظهرين المتضادين؛ الأول هو إشاعة العلاقات الرأسمالية في التجارة وعمليات التوزيع والتداول، وفي تطور العلاقات النقدية والبضاعية الريف، والمظهر الثاني في تنامي قوة البنية الاجتماعية والفكرية الإقطاعية. إن هذين المظهرين المتضادين يعبران عن عدم قدرة الدولة على تغيير البنية الاجتماعية العائدة للقرون الوسطى: سيادة الذكور – اللامساواة الجنسية – بقاء الدولة دينية ورفض العلمانية – بقاء أملاك الإقطاع: الأرض الزراعية – أملاك الأوقاف.
وبعجز الدولة عن إنتاج علاقات رأسمالية في الميدان الاجتماعي، وهو البنية القوية المرتبطة بسيطرة الإقطاع الديني بفرعيه، الإسلامي والمسيحي، وبعجزها عن إنتاج علاقات رأسمالية في الميدان الصناعي، بل وضربها للبرجوازية الصناعية وتاريخها وإرثها، في ربط الصناعة بالعلوم، وتنمية حريات المرأة والنشر والاجتماع، أي قامت في المجال الاجتماعي والفكري بتمهيد الطريق لعودة الإقطاع الديني والسياسي.
من الناحية الموضوعية إذن، فإن العائلات الريفية التي ظهر منها الضباط الأحرار المصريون، وكذلك الجزائريون والعراقيون الخ..، قامت بزحزحة الإقطاع الزراعي قليلاً، فهي لم تخرج من الإقطاع ولكنها لم تدخل الرأسمالية كلية، ولم تتشكل كرأسمال صناعي ذي تاريخ تحضري مديد، وبالتالي فإن تكويناتها الفكرية والاجتماعية هي إقطاعية دينية، واستولت على الدولة وقطاعها العام مخربة بذلك التطور البرجوازي النهضوي على مدى نصف قرن، وإن هذا الإنزياح الريفي على المدن يكتسب في كل بلد عربي – إسلامي طابعه الخاص، من تقاليد وموروثات البنية وتاريخها، لكن هذا الهجوم العسكري على الثروة العامة وإعادة توزيعها، يتصف بإعادة تاريخ العنف وغياب دولة القانون والدستورية بشكل عام، بسبب إن مجموعات من الضباط بين ليلة وضحاها أصبحوا مستولين على الثروة، وهذا بحد ذاته يستدعي الموروث العربي في الغزو والفتوح والبذخ.
إن الأسباب الموضوعية لتدهور الجمهوريات العربية متقاربة، وقد رأينا إن العجز عن إنتاج علاقات رأسمالية حديثة في قطاع الصناعة، عبر عدم ترك التطور الصناعي الرأسمالي الخاص يأخذ مجراه، وبالتالي عدم السماح لتطور إنتاجي خاص واسع النطاق، يمكنه أن يتعاضد مع قطاع عام إنتاجي وعلمي، يؤدي إلى عودة الإقطاع. فإذا كان التقدم لا ينمو باتجاه مجرى العصر، ويعجز عن إعادة تشكيل البنية الاجتماعية بمختلف مستوياتها: الاقتصادية – الاجتماعية والفكرية والسياسية، باتجاه التحديث الحقيقي ويتركز الأمر فقط على التغيير في بعض جوانب الاقتصاد، فإن البنية الاجتماعية المضروبة بشكل سيئ، وغير المغيرة عبر قوانينها الداخلية العميقة، تنفجر بالتناقضات.
فقد أصبحت الدولة إقطاعاً سياسياً حاكماً، ونشرت رأسمالية طفيلية، ولم تستطع أن تغير بطبيعة الحال الإقطاع في الحياة الاجتماعية والفكرية. لكن هذا فقط في الأوضاع العامة الكلية، ولكن جاءت تطوراتها الداخلية لتعمق هذا المسار، فقد خلقت فئات برجوازية طفيلية يكمن أساسها في ملكية الدولة، وراحت تنمو في كل مكان، رغم وجود قوى عاملة وشعبية مضادة. أي أن هذه الفئات الطفيلية ظهرت من الإقطاع السياسي الحاكم. ولهذا فإن أي رؤية تقدمية تتشكل في هذا المسار وتؤيد هذه العملية التاريخية، تغدو ذيلية للإقطاع الحاكم وتتآكل وتنهار في خاتمة المطاف. مثلها مثل المعتزلة في العصر العباسي، أو القرمطية في «العهد» الإسماعيلي، أو التنويرية في العهد الخديوي، وفي النهاية فإن الإقطاع المذهبي ذا العشرة آلاف سنة يعود لاستعادة مواقعه.
وهنا على هذه الأرضية الوطنية الداخلية يمكن أن تأتي المواد المناسبة من الخارج وتقوي هذا التنامي، فقد كان الإقطاع المذهبي المتنوع يتصاعد مع ازدياد الثروة النفطية في شبه الجزيرة العربية وإيران والعراق، فقد وجد الإقطاع السياسي المذهبي في الثروة النفطية طريقه إلى الصعود والسيطرة في المنطقة، وبالتالي بدأت الضربات تنهال على الوعي الديمقراطي العربي والإسلامي بمختلف تدرجاته، وقد كانت مصر الناصرية هي قاعدة هذا الوعي، الذي كان يتآكل بفعل تناقضاته الداخلية التي لم يعرف كيف يتجاوزها، سواء عبر العودة إلى المسار الديمقراطي الليبرالي، أو عبر استعادة الموروث الإسلامي الثوري، وتعرية الحركات الإقطاعية – المذهبية، أي أن الفئات البيروقراطية العسكرية – المدنية – التجارية، عجزت أن تلعب دور البرجوازية الصناعية الغربية، بإنتاج الحرية والعلوم والتصنيع والعلمانية.
ولهذا فإن الأخوان كتتويج فكري وسياسي للإقطاع المذهبي بين النخب الإسلامية، والكنيسة القبطية كقائدة للإقطاع في الطائفة المسيحية، تصاعد دورهما في الحياة السياسية والاجتماعية. وبدأت ثمار المنطقة السلبية تتوغل في البنية المصرية، وكانت الضربة الإسرائيلية في يونيو عبر المخطط الأمريكي، هي لحظة كسر القشرة التقدمية الأخيرة في هذا الجسد، لتظهر كل تناقضاته الفاجعة.
ولم تكن المرحلة الساداتية سوى تصعيد لكل هذه التناقضات على مسرح الأحداث، لقد ظهرت دولة القرية بكل فجاجتها، فهي تتويج لكل قوى الفساد الكامنة، ولهذا كان من المستحيل إعادة التطور البرجوازي النهضوي على سكته الحقيقية، أي أن التطور الاقتصادي صار إطلاق قوى الإقطاع في السوق، بدون صناعة ولا علوم، لكن نخب الإقطاع المذهبي وقد امتلأت أيديها بذهب النفط والدم الشعبي تطلعت للحكم بطبيعة الحال.
أي أن التطور الذي كان يبدو مذهلاً، واعتبار التاريخ كله كأنه من صنع فرد، لم يكن كذلك، فهناك سببيات عميقة، هي التي تفعل فعلها في نسج خيوط التاريخ بمعول غير مرئي، فكأنها مجموعات من الصدف والأحداث الغريبة غير المنطقية. والفرد مؤثر بشكل هام، ولكن كجزء من فئة ومسار تاريخي، وتشكيلة موضوعية، لا يستطيع سواء كان لينين أو ماو تسي تونج أو عبد الناصر تجاهل قوانينها الموضوعية، فقد يقفز لكن جاذبية القوانين تعيد الطيران إلى قواعده الأرضية.
وتكمن قدرتنا النضالية العربية المعاصرة في اكتشاف ذلك، وتصحيح المسيرة السابقة، آخذين ذلك الإرث النضالي العظيم في ظروفه.
إن قوى الإقطاع المذهبي والديني المختلفة تصور الأمر وكأنه انتصار للإسلام، وليس معركة اجتماعية هي إعادة تجديد الأمة بشكل عصري، يقدمون هم فيها برنامجهم اليميني المتخلف، ويمزقون فيه القوى الوطنية، وتراكمات النهضة، مثلما فعل أقرانهم في العصور الغابرة في تمزيق الأمة ووعيها وتقدمها.
إن إعادة التطور إلى سكته بعد الخراب المتعدد الألوان، عبر صعود رأسماليات غير صناعية، وتهريب رؤوس الأموال إلى الخارج، وملء السوق بالصناعات الاستهلاكية الخ.. أمر يتطلب تشكيل تحالف نهضوي بين القطاع العام والخاص، بين اليسار والبرجوازية الصناعية، بين الحداثة الاشتراكية والحداثة الرأسمالية العربية، بين الأحزاب الاشتراكية وأحزاب الطبقة الوسطى العلمانية، عبر السير في طريق رأسمالي ديمقراطي حديث وصناعي، يجمع الأقطار العربية في تعاون قومي، توحيدي.
انظر رواية: رسائل جمال عبدالناصر السرية لــ عبدالله خليفة.
(1970 – 1918)
إذا أردنا أن نهز المسلمات المعششة في الوعي العربي السائد، فلا بد لنا من بعض الصدمات الفكرية التي تقوم بإيقاظه، مثل هذا العنوان السابق ذكره، فما هي علاقة المناضل الوطني الكبير جمال عبد الناصر بالإقطاع، وكيف يكون إقطاعياً وهو من العاملين لتوزيع بعض الأراضي على الفلاحين والذي اسقط الملكية؟!
يرفض الوعي العربي السائد مفهوم التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، وهو مفهوم أساسي لوعي التاريخ ومراحله، ومن هنا كانت المشكلة في وعي التاريخ العربي المعاصر، وتناثر التسميات المجانية فيه وعنه، فهذا الوعي يرفض السمة الموضوعية لهذا التاريخ وهو إنه عملية انتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية.
أي أننا نحدد مدى التقدمية في هذا التاريخ بالقدرة على إجراء عملية الانتقال بين التشكيلتين المتمايزتين، وبدون الاعتراف بهذه التشكيلات وعمليات تطورها لا يمكن أن يكون ثمة أساس موضوعي للأحكام.
لقد أقام الوعي العربي بأغلبية توجهاته الحديثة على اعتماد التسميات الفضفاضة عن التحولات السياسية، فعبر تغييب مفهوم التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، اعتمدت تلك التسميات حول التجربة الاشتراكية والمجتمع الديمقراطي واقتصاد الريع، فظهرت تجارب مصر والجزائر وسوريا في عمليات التأميم والإصلاحات الاقتصادية وكأنها تحول إلى الاشتراكية، وأنها أنجزت مهمات الانتقال من عالم الإقطاع إلى الرأسمالية، ولهذا بدت التجربة الناصرية وكأنها قد أتمت مرحلة الانتقال هذه، وإنها تستعد للصعود إلى المجتمع الاشتراكي.
لكن قانون الإصلاح الزراعي الذي ظهر في بداية الثورة، أي في سنة 1953 وقام بتوزيع الأرض على الفلاحين، لم يقض على الإقطاع، فعمليات التحايل على القانون كانت كثيرة، حيث قامت العائلات الإقطاعية بتوزيع أراضيها على أسماء الزوجات والأقارب بحيث تمكنت من التهرب من الحد الأعلى للملكية الذي فرضه القانون، وكان حداً كبيراً، حتى إنه في سنة 1965 جرت صراعات واسعة ضد الإقطاع في الريف المصري، وقتل فيها أحد المناضلين البارزين وقد عُرفت بحوادث قرية «كمشيش». أي إن الإقطاع حتى بشكله الاقتصادي الزراعي البارز لم يتم القضاء عليه، وعقدت لجنة لتصفيته برئاسة عبد الحكيم عامر!
لكن قضية البنية الإقطاعية في الشرق تتجاوز مسألة الملكية الزراعية بافتراض الحد منها، فهي مرتبطة بطبيعة الحكم والبنية الاجتماعية، فملكية العائلات البارزة للسلطة، وسواء كانت في الحكم أم كانت معارضة، هي التي تحدد طبيعة النظام الاجتماعي، فهي عندما تستولي على الحكم تقوم بالسيطرة على ملكيات الأرض واستثمار دخلها. حيث كانت الأرض الزراعية هي المصدر الأساسي للثروة في العصور القديمة والوسطى.
ولهذا فإن «الضباط الأحرار» حين استولوا على السلطة كانت الكثير من فوائض الزراعة تتوجه إلى جيوبهم. بطبيعة الحال كان عبدالناصر بعيداً عن هذا الاستغلال ولكن نحن نتكلم عن الفئة التي هيمنت على الحكم، وبدت تستولي على الثروة.
لقد توحد الضباط الأحرار بالأجهزة القديمة وتداخلوا مع العائلات البارزة، ولهذا غدت الديمقراطية وعودة الأحزاب مرفوضة بالنسبة إليهم. لكن المسألة تتعدى فوائض الزراعة فهناك الاقتصاد الحديث بشركاته الكبرى والمقاولات الخ..
لقد قامت إدارة الضباط الأحرار بالتخفيف من الإقطاع الزراعي ووسعت انتشار الملكيات الخاصة في الريف، وأصبحت فئة بيروقراطية تستفيد من فوائض الإقطاع الريفي والرأسمالية المتنامية في الحياة الاقتصادية. وبطبيعة الحال هناك منجزات وطنية كبيرة في تطور الاقتصاد والحياة الاجتماعية: إقامة المصانع، وإنشاء السد العالي، وتطوير التعليم والثقافة الخ..
نستطيع أن نقول هنا إن نظام الضباط الأحرار هو استمرار للنظام الإقطاعي – الملكي، بشكل جديد، عبر بقاء الملكيات الإقطاعية الزراعية في الريف بصفتها الشكل البارز من الملكية. أي أن نظام العصور الوسطى لم يتغير هنا بصفة جوهرية. رغم إن الأرض صارت ملكية حقيقية، وليست ملكية انتفاع كما كان الأمر في العصور السابقة.
إن هيمنة الضباط الأحرار على الريف، كمصدر أساسي سابق وراهن للثروة، تأتي من خلال أجهزة الدولة، بل أحياناً من خلال التملك الخاص نفسه، كما يجري حالياً للضباط الأحرار في بعض الأنظمة حيث يملكون أكبر المزارع والأراضي الخصبة (تجارب ليبيا وسوريا والعراق والجزائر).
وقد كانت أغلبية الرموز البارزة في حركات الضباط الأحرار العربية من عائلات ريفية تمتلك ملكيات صغيرة أو متوسطة من الأرض كجمال عبد الناصر وأنور السادات والبكر وصدام حسين وأحمد بن بله الخ..
وكان الوصول للسلطة عن طريق الانقلاب العسكري يعني في حد ذاته إبقاء العلاقات الإنتاجية القديمة، حيث يهيمن جهاز الدولة على الملكية وتوزيعها، وتعتبر السيطرة عليه أحد الشكلين البارزين للإقطاع، وهو هنا الإقطاع السياسي الحاكم.
وتوجد هنا علاقات رأسمالية بشتى تجلياتها بطبيعة الحال، فالضباط الأحرار وعائلاتهم يقومون باستثمار ثروة الحكم في شراء الأراضي والعمارات وبإنشاء الشركات المختلفة. ولكنها هنا رأسمالية بيروقراطية، فالفائض يأتي من تملك الإدارة السياسية، وهو ليس من نتاج الملكية الحرة، بمعنى إنها جزء من السرقة العامة، أي من السيطرة السياسية على الدولة، وهذا هو الإقطاع الشرقي. ولهذا غالباً ما نجد التداخل بين هذا الرأسمال البيروقراطي المسروق من مال الناس متوجهاً للأعمال التجارية الطفيلية وسريعة الربح والخالية من المخاطر. ونجد النسب بين أنور السادات ومالك ومؤسس شركة المقاولين العرب على سبيل المثال ليس نسباً عائلياً فحسب بل هو نسب اجتماعي وسياسي.
ولا تتعرض ملكيات الضباط الأحرار وفئاتهم العسكرية والبيروقراطية للمصادرة بطبيعة الحال، وحين تأتي التأميمات فإنها تضرب الملكيات الصناعية، أي تضرب فئات البرجوازية الصناعية الوطنية، تاركة الفئات والشرائح الأخرى في نموها السريع والمخيف. وهنا يقوم الإقطاع السياسي بالسيطرة على البرجوازية الصناعية، مما يعني القضاء على جذور حزب الوفد وجذور الحداثة والليبرالية.
في هذا التأميم الموجه للرأسمال الصناعي كارثة مستقبلية كبرى، فهو حكم بالإعدام على عملية اقتصادية وفكرية عميقة ومهمة، ولكن علينا أن نراه، من زاوية قدرة جهاز الدولة الشرقية عموماً في استخدام العنف في تشويه التطور الاقتصادي، وعدم السماح بظهور طبقة وسطى قوية وحديثة، فالصناعة هي القاعدة لتشكيل برجوازية حديثة قادرة على تجاوز هيمنة الدولة العسكرية – الإقطاعية.
ومن الجانب الثقافي فإننا لن نجد ذلك التداخل بين الصناعة والعلوم، وسنجد فئات البرجوازية كلها في حالة تبعية لجهاز الدولة أو للغرب ذي الرأسمال الكبير.
لقد كان بإمكان الضباط الأحرار تأميم العمارات والوكالات التجارية الخ.. لكنهم اختاروا الصناعة لكونها لا تدخل في ظل هيمنتهم. ويمثل ذلك من الناحية التاريخية، إخلاء الساحة الاقتصادية للنمو المتسارع لأشكال الملكية ذات الربحية السريعة، وغير المتداخلة بالعلوم، والتي ستكون المدخل لسياسة الانفتاح والطفيلية الشديدة عموماً.
لكن الدولة من جهة أخرى، لعبت دور (الأب) الراعي للطبقات الشعبية، فهي إذ قامت بضرب البرجوازية الصناعية، الخصم البارز لها، استطاعت أن تثبت الأسعار وتتحكم في السوق وتحافظ على الأجور والتشغيل.
ويتشابه ذلك مع دولة الخلفاء الراشدين، عبر توزيع عادل للثروة، وبتحكم الدولة في القطاع العام الزراعي، ولكنه صار الآن القطاع العام الصناعي، مع إطلاق الحريات الاقتصادية في التجارة والمقاولات والصرافة، التي راحت تنخر الملكية العامة وتسرقها.
ولهذا نجد من الناحية الفكرية تسود شعارات مثل الاشتراكية العربية ويكتب (محمود شلبي) عن اشتراكية عمر بن الخطاب، ويكتب محمود أمين العالم عن «تجربتنا الاشتراكية» الخ، أي يتم انتقاء فسيفساء فكرية تجمل النظام الاجتماعي.
لكن هل استطاع النظام الناصري الانتقال فعلاً من الإقطاع إلى الرأسمالية أو قفز إلى الاشتراكية؟
فهو يقول عن نفسه إنه نظام غير رأسمالي ومع ذلك فهو ليس نظاماً اشتراكياً، وقال بعض المنظرين الماركسيين وقتذاك إنه نظام تقوده البرجوازية الصغيرة وقال لطفي الخولي إنه نظام انتقالي إلى الاشتراكية وقال آخرون إنه النظام اللارأسمالي الخ..
لا شك إن رأسمالية الدولة الوطنية هي شكل النظام الاقتصادي فقد أصبحت الدولة تملك أكبر رأسمال اقتصادي، لكن رأسمالية الدولة بحد ذاتها هي ميدان لصراع الطبقات المختلفة وهي ليست تشكيلة اقتصادية – اجتماعية، وهي فترة تحضير لمسار تاريخي ما، فالمسألة هنا تعتمد على كيفية توجه الفائض الاقتصادي، فهل هو يتوجه لإشاعة العلاقات الرأسمالية أم للعلاقات الإقطاعية الريفية، ولا نستطيع أن نؤيد الطرح القائل بأنها إعداد للانتقال إلى الاشتراكية.
فرأسمالية الدولة أما أن تؤدي للإمام أو تعود إلى الخلف، أو أن تبقى في هذه المرحلة الانتقالية بين الإقطاع والرأسمالية. فلا تغدو إقطاعية تماماً ولا رأسمالية صرفة. ونحن قد استبعدنا تماماً القفزة في الهواء «الاشتراكية». لأن الاشتراكية لها شروط موضوعية مغايرة تماماً، لكن إذا كانت رأسمالية الدولة هي شكل للانتقال إلى الرأسمالية الصرفة، فما هي هذه الرأسمالية الخاصة الانتقالية؟ ما هي رأسمالية الدولة؟
علينا أن نواصل المناقشة.
علينا أن نقرأ جوانب من الميدان الإيديولوجي لكي نرى مستويات أخرى من إشكالية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية. فنحن نجد حزب الوفد ممثل الرأسمالية الوطنية يتوارى عن الوجود الفكري والسياسي وكأنه لم يكن رغم مقاومته الطويلة للدكتاتوريات السابقة، في حين إن حزب الإخوان هو الذي يبرز ويتصاعد دوره حتى يغدو مهيمناً في المرحلة التالية.
أي أن المرحلة في الميدان الفكري كانت على النقيض من التوقع، حيث قلنا إن المرحلة الناصرية هي مرحلة انتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، تمت بأدوات القوة السياسية، ولكننا أوضحنا إن هذه الرأسمالية كانت مدمرة للقوة الاجتماعية القائدة لمرحلة التحول الحقيقي والمفترض وهي البرجوازية الصناعية.
أي أن مرحلة الانتقال بتلك الصورة أدت إلى تخريب الانتقال، وأدت إلى مشكلات حادة، وظهور الإخوان كحزب مؤثر هو تتويج لمرحلة الانتقال المُخرَّبة تلك.
فبدلاً من التوسع وتعميق مظاهر الحريات الاجتماعية والفكرية رأينا العودة إلى اعتقال النساء وظواهر التخلف المختلفة، ويقال لنا إن هذه ظاهرات قادمة من شبه الجزيرة العربية، ولكن كيف استطاعت مثل هذه الظواهر أن تنمو في المجتمع المصري بهذه السرعة والشمول إذا لم تكن هناك جذور أساسية وموضوعية سمحت لها بهذا النمو؟
أي إنه لو كانت الثورة الناصرية عملية تجذير للتطور الرأسمالي والحضاري، معمقة إنجازات المرحلة الليبرالية اجتماعياً وثقافياً لما تمكنت حفنة من الأشخاص من تخريب التطور.
فعودة القوى المذهبية للتحكم في المجتمع المصري، سواء على الجانبين الإسلامي أو المسيحي، يعني فكرياً وحضارياً، عودة إلى ما قبل الدولة الحديثة، ربما إلى عصر محمد علي أو غيره.
أي إن عملية الصهر التي قام بها الحكام الملكيون والبرجوازية الوفدية تم انهيارها على يد جماعة الضباط الأحرار وعهدهم الجمهوري – الملكي. فرجع المجتمع المصري في حركته السياسية إلى ما قبل سعد زغلول.
ومن جهة معينة، فنحن ندرك الآن إن ثمة إنجازات اقتصادية واجتماعية تمت في العهد الملكي اتاحت عملية الانصهار ووحدة الشعب، وقربته من عملية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية الحديثة، عبر نمو البرلمان والصحافة الحرة وتطور العلاقات الاجتماعية المتمدنة، فجاءت حركة الضباط الأحرار ومنعت هذه العملية الانتقالية، أو على الأقل رسخت الجوانب الدكتاتورية في المجتمع.
إن التسريع في بعض جوانب التطور الاقتصادي وإقامة المنشآت التاريخية، هو أمر لا يمكن إغفال أهميته، ولكن الخسائر كانت جسيمة أيضاً، بطبيعة أسلوب المصادرة، أسلوب العنف العسكري والفاسد في إدارة العمليات التاريخية.
أي أن المشروع الوطني التحرري الناصري لم يستطع أن يخرج من جسم العلاقات السياسية الإقطاعية المهيمنة، فقد كرس الدولة كمصدر الثروات، وليس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ولكن الدولة كمصدر للثروة أمر يقود إلى الابتعاد عن الطريق الموضوعي للتطور الرأسمالي، وبالتالي إلى عدم الدخول في الحضارة الحديثة، وهو أمر يقوي الإقطاع ويعيد البلد إلى العصور الوسطى، ولهذا ظهر الإخوان، والكنيسة القبطية، كمظهرين لنفوذ الإقطاع السياسي – الديني المتصاعد في الحياة السياسية والاجتماعية.
علينا أن نرى هذين المظهرين المتضادين؛ الأول هو إشاعة العلاقات الرأسمالية في التجارة وعمليات التوزيع والتداول، وفي تطور العلاقات النقدية والبضاعية الريف، والمظهر الثاني في تنامي قوة البنية الاجتماعية والفكرية الإقطاعية. إن هذين المظهرين المتضادين يعبران عن عدم قدرة الدولة على تغيير البنية الاجتماعية العائدة للقرون الوسطى: سيادة الذكور – اللامساواة الجنسية – بقاء الدولة دينية ورفض العلمانية – بقاء أملاك الإقطاع: الأرض الزراعية – أملاك الأوقاف.
وبعجز الدولة عن إنتاج علاقات رأسمالية في الميدان الاجتماعي، وهو البنية القوية المرتبطة بسيطرة الإقطاع الديني بفرعيه، الإسلامي والمسيحي، وبعجزها عن إنتاج علاقات رأسمالية في الميدان الصناعي، بل وضربها للبرجوازية الصناعية وتاريخها وإرثها، في ربط الصناعة بالعلوم، وتنمية حريات المرأة والنشر والاجتماع، أي قامت في المجال الاجتماعي والفكري بتمهيد الطريق لعودة الإقطاع الديني والسياسي.
من الناحية الموضوعية إذن، فإن العائلات الريفية التي ظهر منها الضباط الأحرار المصريون، وكذلك الجزائريون والعراقيون الخ..، قامت بزحزحة الإقطاع الزراعي قليلاً، فهي لم تخرج من الإقطاع ولكنها لم تدخل الرأسمالية كلية، ولم تتشكل كرأسمال صناعي ذي تاريخ تحضري مديد، وبالتالي فإن تكويناتها الفكرية والاجتماعية هي إقطاعية دينية، واستولت على الدولة وقطاعها العام مخربة بذلك التطور البرجوازي النهضوي على مدى نصف قرن، وإن هذا الإنزياح الريفي على المدن يكتسب في كل بلد عربي – إسلامي طابعه الخاص، من تقاليد وموروثات البنية وتاريخها، لكن هذا الهجوم العسكري على الثروة العامة وإعادة توزيعها، يتصف بإعادة تاريخ العنف وغياب دولة القانون والدستورية بشكل عام، بسبب إن مجموعات من الضباط بين ليلة وضحاها أصبحوا مستولين على الثروة، وهذا بحد ذاته يستدعي الموروث العربي في الغزو والفتوح والبذخ.
إن الأسباب الموضوعية لتدهور الجمهوريات العربية متقاربة، وقد رأينا إن العجز عن إنتاج علاقات رأسمالية حديثة في قطاع الصناعة، عبر عدم ترك التطور الصناعي الرأسمالي الخاص يأخذ مجراه، وبالتالي عدم السماح لتطور إنتاجي خاص واسع النطاق، يمكنه أن يتعاضد مع قطاع عام إنتاجي وعلمي، يؤدي إلى عودة الإقطاع. فإذا كان التقدم لا ينمو باتجاه مجرى العصر، ويعجز عن إعادة تشكيل البنية الاجتماعية بمختلف مستوياتها: الاقتصادية – الاجتماعية والفكرية والسياسية، باتجاه التحديث الحقيقي ويتركز الأمر فقط على التغيير في بعض جوانب الاقتصاد، فإن البنية الاجتماعية المضروبة بشكل سيئ، وغير المغيرة عبر قوانينها الداخلية العميقة، تنفجر بالتناقضات.
فقد أصبحت الدولة إقطاعاً سياسياً حاكماً، ونشرت رأسمالية طفيلية، ولم تستطع أن تغير بطبيعة الحال الإقطاع في الحياة الاجتماعية والفكرية. لكن هذا فقط في الأوضاع العامة الكلية، ولكن جاءت تطوراتها الداخلية لتعمق هذا المسار، فقد خلقت فئات برجوازية طفيلية يكمن أساسها في ملكية الدولة، وراحت تنمو في كل مكان، رغم وجود قوى عاملة وشعبية مضادة. أي أن هذه الفئات الطفيلية ظهرت من الإقطاع السياسي الحاكم. ولهذا فإن أي رؤية تقدمية تتشكل في هذا المسار وتؤيد هذه العملية التاريخية، تغدو ذيلية للإقطاع الحاكم وتتآكل وتنهار في خاتمة المطاف. مثلها مثل المعتزلة في العصر العباسي، أو القرمطية في «العهد» الإسماعيلي، أو التنويرية في العهد الخديوي، وفي النهاية فإن الإقطاع المذهبي ذا العشرة آلاف سنة يعود لاستعادة مواقعه.
وهنا على هذه الأرضية الوطنية الداخلية يمكن أن تأتي المواد المناسبة من الخارج وتقوي هذا التنامي، فقد كان الإقطاع المذهبي المتنوع يتصاعد مع ازدياد الثروة النفطية في شبه الجزيرة العربية وإيران والعراق، فقد وجد الإقطاع السياسي المذهبي في الثروة النفطية طريقه إلى الصعود والسيطرة في المنطقة، وبالتالي بدأت الضربات تنهال على الوعي الديمقراطي العربي والإسلامي بمختلف تدرجاته، وقد كانت مصر الناصرية هي قاعدة هذا الوعي، الذي كان يتآكل بفعل تناقضاته الداخلية التي لم يعرف كيف يتجاوزها، سواء عبر العودة إلى المسار الديمقراطي الليبرالي، أو عبر استعادة الموروث الإسلامي الثوري، وتعرية الحركات الإقطاعية – المذهبية، أي أن الفئات البيروقراطية العسكرية – المدنية – التجارية، عجزت أن تلعب دور البرجوازية الصناعية الغربية، بإنتاج الحرية والعلوم والتصنيع والعلمانية.
ولهذا فإن الأخوان كتتويج فكري وسياسي للإقطاع المذهبي بين النخب الإسلامية، والكنيسة القبطية كقائدة للإقطاع في الطائفة المسيحية، تصاعد دورهما في الحياة السياسية والاجتماعية. وبدأت ثمار المنطقة السلبية تتوغل في البنية المصرية، وكانت الضربة الإسرائيلية في يونيو عبر المخطط الأمريكي، هي لحظة كسر القشرة التقدمية الأخيرة في هذا الجسد، لتظهر كل تناقضاته الفاجعة.
ولم تكن المرحلة الساداتية سوى تصعيد لكل هذه التناقضات على مسرح الأحداث، لقد ظهرت دولة القرية بكل فجاجتها، فهي تتويج لكل قوى الفساد الكامنة، ولهذا كان من المستحيل إعادة التطور البرجوازي النهضوي على سكته الحقيقية، أي أن التطور الاقتصادي صار إطلاق قوى الإقطاع في السوق، بدون صناعة ولا علوم، لكن نخب الإقطاع المذهبي وقد امتلأت أيديها بذهب النفط والدم الشعبي تطلعت للحكم بطبيعة الحال.
أي أن التطور الذي كان يبدو مذهلاً، واعتبار التاريخ كله كأنه من صنع فرد، لم يكن كذلك، فهناك سببيات عميقة، هي التي تفعل فعلها في نسج خيوط التاريخ بمعول غير مرئي، فكأنها مجموعات من الصدف والأحداث الغريبة غير المنطقية. والفرد مؤثر بشكل هام، ولكن كجزء من فئة ومسار تاريخي، وتشكيلة موضوعية، لا يستطيع سواء كان لينين أو ماو تسي تونج أو عبد الناصر تجاهل قوانينها الموضوعية، فقد يقفز لكن جاذبية القوانين تعيد الطيران إلى قواعده الأرضية.
وتكمن قدرتنا النضالية العربية المعاصرة في اكتشاف ذلك، وتصحيح المسيرة السابقة، آخذين ذلك الإرث النضالي العظيم في ظروفه.
إن قوى الإقطاع المذهبي والديني المختلفة تصور الأمر وكأنه انتصار للإسلام، وليس معركة اجتماعية هي إعادة تجديد الأمة بشكل عصري، يقدمون هم فيها برنامجهم اليميني المتخلف، ويمزقون فيه القوى الوطنية، وتراكمات النهضة، مثلما فعل أقرانهم في العصور الغابرة في تمزيق الأمة ووعيها وتقدمها.
إن إعادة التطور إلى سكته بعد الخراب المتعدد الألوان، عبر صعود رأسماليات غير صناعية، وتهريب رؤوس الأموال إلى الخارج، وملء السوق بالصناعات الاستهلاكية الخ.. أمر يتطلب تشكيل تحالف نهضوي بين القطاع العام والخاص، بين اليسار والبرجوازية الصناعية، بين الحداثة الاشتراكية والحداثة الرأسمالية العربية، بين الأحزاب الاشتراكية وأحزاب الطبقة الوسطى العلمانية، عبر السير في طريق رأسمالي ديمقراطي حديث وصناعي، يجمع الأقطار العربية في تعاون قومي، توحيدي.
________________________
انظر رواية: رسائل جمال عبدالناصر السرية لــ عبدالله خليفة.
Published on July 25, 2020 07:15
July 18, 2020
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: ثرثرةُ الوعيِّ اليومي
إنها نفسُ الأفكار كل يوم، ذات الإطروحات التي تحمضت، فتستطيع أن تعرفَ الكائنَ الكتابي الطحلبي في أنشودتهِ المكررة، مدح الحكومة أو مخاصمتها، ولا شيء آخر لديه، سواء أتى ذلك من ورقٍ مصقولٍ أو من البريد الإلكتروني المهترئ.
الديمقراطيةُ الموعودةُ لم تنشيءْ حاضنتَها: الطبقة الوسطى والعمال الديمقراطيين، فَصَعبُ حضورُ الجريدةِ ككائنٍ معبرٍ عن طبقةٍ وسطى غيرِ موجودة، بل هي فئاتٌ بخيلةٌ تضنُ بالإعلان وبالمساندة السياسية عبر حزب جماهيري، وبإنتاج أفكار نهضوية ليبرالية ديمقراطية مشتركة مُجادِلة باحثة.
لهذا فإن الجريدةَ ترتجفُ ضعفاً غيرَ قادرةٍ على أن تطلقَ مشروعَ موسوعة، أو مشروع كتاب كل شهر، ودعْ عنك تكوين فضائية.
ليس الأمر يعودُ لحجم الدولة صغيرة أو كبيرة، بل لمدى تطور الفئات الوسطى لتكونَ طبقةً منتجة، تحديثية، فالجريدةُ تلعبُ هنا قلبَ هذه الطبقة/ المشروع الديمقراطي، إذا كانت الفئاتُ الوسطى ذات خيال إجتماعي محدود محصورة في حصالة ضيقة، ترى تراكم النقود مثل ساعة رملية، وترتجف رعباً إذا تلكأ الرملُ في النزول مكوناً الحبيبات الفضية الحبيبة، وتكاد أن تزهقَ روحُها إذا توقف النزولُ لبضع دقائق..
فإن هذه الفئات لم يصقلها مفكرون، ولم يُعريها لوحاتٍ مسرحيون، ولم يكشف خباياها قصاصون وروائيون، ولم يجسدْ بخلَها رسامون، ولم يحيها ويخلقْها صحفيون كبارٌ قادةُ الرأي والضمير والفكر!
فهي تحولُ الورقَ سفراتٍ للأرزِ الكثيف، وترسمها بشوربة المرق اللزق الدهون، وترتعب من حضور المكتبات خوفاً على النقد الصغير الثمين.
تغدو الجريدة ملحقاً للإعلان، وتسمح للماعز بأكل ورقها الرخيص، وتملأها الوكالات بالمواد الطافحة اليومية لعلها تعيش.
كل شيء يومي في هذا الوعي؛ نقل الصور والأخبار، وتغدو التعليقات يوميات، وكل شيء معروف سلفاً، والناسُ على دين بلدانهم.
الوعي اليومي لا يدعو صاحب الكلمة أن يخترق المادة الطافحة، أن يخترق نسيجها، أن يعرف ما وراءها، أن يتجاوز مع أو ضد، أن يتابع جمود الفئات الوسطى ونسيجها الإيديولوجي الذائب، وعدم قدرتها على التنوع وتجاوز الماضي، فلا بد أن يدخلَ في جماجمها المتوقفة عن الإنتاج، لماذا تعطلتْ خلاياها؟ لماذا تهترئ ولا تزدادُ عمقاً وتطوراً؟ لماذا تقاطع الفكر والفلسفة؟
خمسون سنة مرت أو قرن وذات الجُمل، ونفس التفكير، ألف لماذا وألف سؤال لا بد أن يُطرح، ما هي علاقة الفئات الوسطى بالكتب والخبراء والبحوث، هل يقرأون أم يعتمدون على الوحي؟ ثرثرتهم المتواصلة عن الإنترنت هل هي حقيقية أم إستعراض لإخفاء العداء للصحف والكتب؟ هل يعرفون الجغرافيا الاقتصادية وعلاقتها بالمال والتوسع والتوحيد وتكوين العمالقة الاقتصاديين؟
الجريدة هي قلب الفئات الوسطى سواء كانت حية أم ميتة، الفرن الذي ينتج الحرارة، يفجر الإبداعات، يظهر الفلاسفة، يخلق تياراً من المادة الحارة الفكرية التي تنتشر في الأدمغة المعطلة عن الإستخدام.
أحفرْ تحت الخبر، أحفرْ تحت التصريح، والتق بخيوط الصراعات والدوامات العالمية، طالعْ البشرية أين تركض، ونحن في أزقتنا نتصارع على الملل والنحل والمذاهب المكتوبة قبل خمسة أو عشرة قرون.
أعرف الجريدة قبل أن أقرأها، واعرف ماذا سيُكتب فيها، وأعرف ماذا سيقول فلان وعلان، المواد جاهزة في ذهني فلماذا أتصفح؟
الموالاة الجامدة مثل المعارضة المجنونة.
الديمقراطيةُ الموعودةُ لم تنشيءْ حاضنتَها: الطبقة الوسطى والعمال الديمقراطيين، فَصَعبُ حضورُ الجريدةِ ككائنٍ معبرٍ عن طبقةٍ وسطى غيرِ موجودة، بل هي فئاتٌ بخيلةٌ تضنُ بالإعلان وبالمساندة السياسية عبر حزب جماهيري، وبإنتاج أفكار نهضوية ليبرالية ديمقراطية مشتركة مُجادِلة باحثة.
لهذا فإن الجريدةَ ترتجفُ ضعفاً غيرَ قادرةٍ على أن تطلقَ مشروعَ موسوعة، أو مشروع كتاب كل شهر، ودعْ عنك تكوين فضائية.
ليس الأمر يعودُ لحجم الدولة صغيرة أو كبيرة، بل لمدى تطور الفئات الوسطى لتكونَ طبقةً منتجة، تحديثية، فالجريدةُ تلعبُ هنا قلبَ هذه الطبقة/ المشروع الديمقراطي، إذا كانت الفئاتُ الوسطى ذات خيال إجتماعي محدود محصورة في حصالة ضيقة، ترى تراكم النقود مثل ساعة رملية، وترتجف رعباً إذا تلكأ الرملُ في النزول مكوناً الحبيبات الفضية الحبيبة، وتكاد أن تزهقَ روحُها إذا توقف النزولُ لبضع دقائق..
فإن هذه الفئات لم يصقلها مفكرون، ولم يُعريها لوحاتٍ مسرحيون، ولم يكشف خباياها قصاصون وروائيون، ولم يجسدْ بخلَها رسامون، ولم يحيها ويخلقْها صحفيون كبارٌ قادةُ الرأي والضمير والفكر!
فهي تحولُ الورقَ سفراتٍ للأرزِ الكثيف، وترسمها بشوربة المرق اللزق الدهون، وترتعب من حضور المكتبات خوفاً على النقد الصغير الثمين.
تغدو الجريدة ملحقاً للإعلان، وتسمح للماعز بأكل ورقها الرخيص، وتملأها الوكالات بالمواد الطافحة اليومية لعلها تعيش.
كل شيء يومي في هذا الوعي؛ نقل الصور والأخبار، وتغدو التعليقات يوميات، وكل شيء معروف سلفاً، والناسُ على دين بلدانهم.
الوعي اليومي لا يدعو صاحب الكلمة أن يخترق المادة الطافحة، أن يخترق نسيجها، أن يعرف ما وراءها، أن يتجاوز مع أو ضد، أن يتابع جمود الفئات الوسطى ونسيجها الإيديولوجي الذائب، وعدم قدرتها على التنوع وتجاوز الماضي، فلا بد أن يدخلَ في جماجمها المتوقفة عن الإنتاج، لماذا تعطلتْ خلاياها؟ لماذا تهترئ ولا تزدادُ عمقاً وتطوراً؟ لماذا تقاطع الفكر والفلسفة؟
خمسون سنة مرت أو قرن وذات الجُمل، ونفس التفكير، ألف لماذا وألف سؤال لا بد أن يُطرح، ما هي علاقة الفئات الوسطى بالكتب والخبراء والبحوث، هل يقرأون أم يعتمدون على الوحي؟ ثرثرتهم المتواصلة عن الإنترنت هل هي حقيقية أم إستعراض لإخفاء العداء للصحف والكتب؟ هل يعرفون الجغرافيا الاقتصادية وعلاقتها بالمال والتوسع والتوحيد وتكوين العمالقة الاقتصاديين؟
الجريدة هي قلب الفئات الوسطى سواء كانت حية أم ميتة، الفرن الذي ينتج الحرارة، يفجر الإبداعات، يظهر الفلاسفة، يخلق تياراً من المادة الحارة الفكرية التي تنتشر في الأدمغة المعطلة عن الإستخدام.
أحفرْ تحت الخبر، أحفرْ تحت التصريح، والتق بخيوط الصراعات والدوامات العالمية، طالعْ البشرية أين تركض، ونحن في أزقتنا نتصارع على الملل والنحل والمذاهب المكتوبة قبل خمسة أو عشرة قرون.
أعرف الجريدة قبل أن أقرأها، واعرف ماذا سيُكتب فيها، وأعرف ماذا سيقول فلان وعلان، المواد جاهزة في ذهني فلماذا أتصفح؟
الموالاة الجامدة مثل المعارضة المجنونة.
Published on July 18, 2020 18:26
July 13, 2020
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: أردوغان والخداع السياسي
عاشت الإمبراطورية العثمانية على سيطرة الإقطاع عسكري سياسي متخلف أبقت المسلمين قروناً من التخلف.
لهذا كانت عظمة كمال أتاتورك في التصدي للغزاة وتحرير تركيا وتطويرها وتحديثها، فقام بمهام تاريخية جسام لم يستطع أي زعيم عربي في عصره القيام بها.
تحطيم العسكر العتيق وقواه من المتصوفة والدراويش كانت ثورة عصرية، لكنه لم يستطع استكمال مهام الثورة الديمقراطية بتحرير الفلاحين وتغيير ملكية الأرض ولهذا فإن تركيا لم تغير بناءها الاجتماعي كلية، ودفعت الملايين من شعبها للهجرة خاصة للغرب.
وأعتبر الدينيون ذلك تغرباً على مستويين وجناية من جنايات الحداثة!
الاتاتوركيون رغم دورهم التاريخي تلاحموا مع القوى الإدارية الغنية وأخمدوا التحولات النضالية على مدى عقود، ولم ينشروا فكراً ديمقراطياً شعبياً مما جعل النزعات اليسارية والدينية المتطرفة تنشط وتخرب!
وجدها الدينيون فرصة في الاستغلال السياسي القفز إلى الحكم، ووجدوا في إردوغان قادئاً مغامراً تصدى لذلك بعكس زعمائهم المعتدلين الذين تخوفوا من آثار هذه الألعاب السياسية.
تلاعب أردوغان بالمشاعر وأستغل فترة سجنه الضئيلة «أربعة شهور» في الدعاية وقال أن صمم برامج لإخراج تركيا من أزمتها، مركزاً على الطابع الإيديولوجي فيما كانت مشكلات تركيا بنيوية عميقة وتخلف تاريخي وتدفق الفلاحين الفقراء على المدن وتدفق العمال على أوربا.
التلاعب بالشعارات وتحويلها إلى حماس جر الكثير من الفقراء للخداع وصوتوا له، ولكن التغييرات العميقة لصالح القوى الشعبية لم تأت، ثم تشكلت فئة إدارية فاسدة جديدة إضافة للقديمة.
فدخلت تركيا في أزمة داخلية مركبة، وإنشطار في رأس الدولة وتفكك للمجتمع. وأستغل أردوغان ذلك في الانتشار في البلدان العربية واستغلال التحولات النفطية لصالح جماعته السياسية.
لهذا كانت عظمة كمال أتاتورك في التصدي للغزاة وتحرير تركيا وتطويرها وتحديثها، فقام بمهام تاريخية جسام لم يستطع أي زعيم عربي في عصره القيام بها.
تحطيم العسكر العتيق وقواه من المتصوفة والدراويش كانت ثورة عصرية، لكنه لم يستطع استكمال مهام الثورة الديمقراطية بتحرير الفلاحين وتغيير ملكية الأرض ولهذا فإن تركيا لم تغير بناءها الاجتماعي كلية، ودفعت الملايين من شعبها للهجرة خاصة للغرب.
وأعتبر الدينيون ذلك تغرباً على مستويين وجناية من جنايات الحداثة!
الاتاتوركيون رغم دورهم التاريخي تلاحموا مع القوى الإدارية الغنية وأخمدوا التحولات النضالية على مدى عقود، ولم ينشروا فكراً ديمقراطياً شعبياً مما جعل النزعات اليسارية والدينية المتطرفة تنشط وتخرب!
وجدها الدينيون فرصة في الاستغلال السياسي القفز إلى الحكم، ووجدوا في إردوغان قادئاً مغامراً تصدى لذلك بعكس زعمائهم المعتدلين الذين تخوفوا من آثار هذه الألعاب السياسية.
تلاعب أردوغان بالمشاعر وأستغل فترة سجنه الضئيلة «أربعة شهور» في الدعاية وقال أن صمم برامج لإخراج تركيا من أزمتها، مركزاً على الطابع الإيديولوجي فيما كانت مشكلات تركيا بنيوية عميقة وتخلف تاريخي وتدفق الفلاحين الفقراء على المدن وتدفق العمال على أوربا.
التلاعب بالشعارات وتحويلها إلى حماس جر الكثير من الفقراء للخداع وصوتوا له، ولكن التغييرات العميقة لصالح القوى الشعبية لم تأت، ثم تشكلت فئة إدارية فاسدة جديدة إضافة للقديمة.
فدخلت تركيا في أزمة داخلية مركبة، وإنشطار في رأس الدولة وتفكك للمجتمع. وأستغل أردوغان ذلك في الانتشار في البلدان العربية واستغلال التحولات النفطية لصالح جماعته السياسية.
Published on July 13, 2020 13:51
May 18, 2020
عبدالله خليفة وعلى الحوار المتمدن يتخطى 6 مليون قارئ.
عبدالله خليفة وعلى الحوار المتمدن يتخطى 6 مليون قارئ .
[image error]
Published on May 18, 2020 06:00
May 14, 2020
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: أنــــــــــــــــــــا وأمـــــــــــــــــــي ــ قصةٌ قصـــــــيرةٌ
https://iakalbuflasa.wordpress.com/2020/03/31
أنــــــــــــــــــــا وأمـــــــــــــــــــي
قصةٌ قصـــــــيرةٌ
أنــــــــــــــــــــا وأمـــــــــــــــــــي
قصةٌ قصـــــــيرةٌ
Published on May 14, 2020 19:06
April 23, 2020
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : قانون الإنتاج المطلق
لا يكون الإنتاج الروحي إلا من أجل الناس، وبؤرتهم وقلبهم أصحاب العمل والإنتاج، قوى المعاناة والعطاء.
الفئات المنتجة للثقافة هي فئات وسيطة، لديها بعض الغنى المادي وبعض الغنى الثقافي، وتنمو حسب توجهها للناس، وتضحيتها بغناها الشخصي، لأجل أن تزدهر السعادة والغنى عند الأكثرية المنتجة.
وحتى حين كان المثقف ساحراً في العصور البدائية قبل التاريخ كان يشتغلُ من أجل الصيادين، فيرقص ويغني ويقص من أجل أن يزداد الصيد ويتكاثر الإنتاج ويعم الفرح.
وحين دبت الخلافاتُ بين الناس، وصار العبيدُ والأحرار، والفقراء والأغنياء، ظل قانون الإنتاج الثقافي هو نفسه. هل ينتمي المنتج الثقافي للمنتجين، والمعذبَّين، وللأغلبية المنتجة؟
لكن كان أغلبية المنتجين الثقافيين عبيداً في الروح، يوجهون إنتاجهم لمصلحة الأقلية، وبقي الإنتاج الذي انتمى للناس، وذاب إنتاج النفاق والاستعراض. لقد ظل مكتوباً كذكرى مؤسفة على هدر بعض الناس طاقاتهم من أجل النقود، لا من أجل سموهم الروحي.
أنظرْ يا من غيبت نفسك في طوفان الأشياء كيف أن كلمات التوراة والأنجيل جسدت معاناة أنبياء هربوا من الإستغلال وعسف الدول إلى الصحارى كي ينشئوا دولاً حرة، فتسامت كلماتهم وتواريخهم وتوحدوا مع السعادة العميقة والصلبان والزنزانات.
ولعلك لم تقرأ جيداً القرآن وهو كلماتٌ عن نبي رفض أن يخدم الملأ الاستغلالي وفضلَّ أن يكون مع العبيد والفقراء وغيّرَ التاريخ.
لعلكَ يا منْ غيبتَ نفسك وراء الأشياء تظن إن حمايتك من قبل أصحاب النفوذ سوف تعلي كلماتك الباهتة، أو لأنك مررت بتجربة سجن عاصفة وألم كبيرة سوف يحميك هذا الجبل الطيب من طوفان زحفك نحو المعدن الأصفر، فالناس تعرف استمرار مقاومتك لا تاريخك ذلك وتخليك عن أصلك الطيب.
ومهما جئتَ بأصولٍ حاكمةٍ أو أسرةٍ كريمة أو إنتماء لحزبٍ مناضل قدم الشهداءَ الكثيرين، ومهما كان أقرباؤك وأئمتك من جهابذة في الدين والتاريخ، فإن مقياسك هو شخصك ومدى إنتاجك المضيء ونقدك للأشياء السيئة والظاهرات المخربة للإنتاج وحقوق الأغلبية من العاملين.
لا تقل أسرتي وحزبي وأئمتي وقادتي، بل قل ما هو عملي وموقفي الناقد ودفاعي عن شعبي وكفاحي ضد الأخطاء.
والأديب ليست كلماته بمعزل عن قانون الإنتاج المطلق هذا، الذي يتساوى فيه الأنبياء العظام والشعراء الصعاليك، وهو ميزان الحق، فيظن أنه له فترة يجاهد ويتعذب لكي ينير ثم تأتي له فترة خاصة يتكاسل ويبحث عن المناصب ويغدو رئيس جريدة النفاق.
ميزانك هو كلمتك، مدى تحول قصصك وأشعارك ومسرحياتك ونقدك إلى كشافات تفضح مستنقعات الفساد، لا تقلْ إنني أديب ناشىء أبحث عن سبل التعبير والعيارة، ليشتد عودك وتنضم إلى الحرامية، بل أغمسْ مدادك في معاناة البشر ولا تستجدي الشهرة والمال.
لكن الكثيرين اتخذوا الكلمات مطايا، وهدايا، وضحايا، وقادة الفكر وعباقرة الكلمة غدوا مثالاً سيئاً للنشء، وهذا يحدث كثيراً في التاريخ، عندما تقبضُ الطبقة المسيطرة على الكثير من المال فتستطيع أن ترشو بكثرة، لكن ذلك مؤقت، لأن وفرة المال على هذا النحو لا تدوم، بل تدوم حين تستمع هذه الطبقة للنقاد، وترهفُ جميعُ آذانِها للضربات الكلامية والأدبية والعلمية التي توجه لتبذيرها وفسادها وحينئذ تطور سيطرتها وإنتاجها المشرف على الأفلاس بفضل جوقات النفاق والبذخ.
المال اليوم عندك وغداً عند غيرك ، فتذهب للاستلاف، فلماذا تبيع ماء وجهك وكنت عزيزاً، ولا تحفظ كرامتك وهي من كرامة الأمة والناس؟
لا تقل أصلي وفصلي وحزبي وجماعتي، بل قل هي كلمة الحق أوجهها ضد كل مخطئ ومستغل ومبذر، أرفع بها من يسمو إلى المعالي، وأعصف من خلالها بكل من أهدر ثروة الأمة ونشر الأرهاب وغزا الأخوة والجيران ووسع الاستبداد.
كلمتي هي مع الحق والحقيقة، لا مع الخزائن.
ليست كلمتي مرهونة بمديح النقاد وأن يرضى عني رئيس الجامعة والكلية، فأدبج (الدراسات والأبحاث) كما يشتهي رئيسُ القسم المريض، فأعلي من يرضى عنهم، وأخسفُ الأرضَ بمن يكرههم لكي أحصل على الوظائف والمال، فأي علم هذا الذي يكون ذاتياً وجائراً وغير منصف؟
وكيف تنشأ الحقيقة بين جماعات القول الواحد والصوت الواحد، وجماعات نحن مع الزعيم أينما توجه وكيفما قال؟ وهل تـُدار الأوطان والأحزاب بقول الفرد؟
يتباين الإنتاج الثقافي في كل هذه الأنواع في أشكاله وتعابيره، ويتحد في مضامنيه، وفي عصوره السحيقة والمعاصرة، على بعد المسافات والأشكال والأزمان، فكلمة الحقيقة تشق طرقها بوسائل مختلفة، وهي تنمو من خلال الألم الشعبي، تنور صهر الأشكال ووحدتها وتطورها، وفي الفرح والغنى ظاهرات مقاربة حين تتصل بذلك الهم الإنساني العميق.
الفئات المنتجة للثقافة هي فئات وسيطة، لديها بعض الغنى المادي وبعض الغنى الثقافي، وتنمو حسب توجهها للناس، وتضحيتها بغناها الشخصي، لأجل أن تزدهر السعادة والغنى عند الأكثرية المنتجة.
وحتى حين كان المثقف ساحراً في العصور البدائية قبل التاريخ كان يشتغلُ من أجل الصيادين، فيرقص ويغني ويقص من أجل أن يزداد الصيد ويتكاثر الإنتاج ويعم الفرح.
وحين دبت الخلافاتُ بين الناس، وصار العبيدُ والأحرار، والفقراء والأغنياء، ظل قانون الإنتاج الثقافي هو نفسه. هل ينتمي المنتج الثقافي للمنتجين، والمعذبَّين، وللأغلبية المنتجة؟
لكن كان أغلبية المنتجين الثقافيين عبيداً في الروح، يوجهون إنتاجهم لمصلحة الأقلية، وبقي الإنتاج الذي انتمى للناس، وذاب إنتاج النفاق والاستعراض. لقد ظل مكتوباً كذكرى مؤسفة على هدر بعض الناس طاقاتهم من أجل النقود، لا من أجل سموهم الروحي.
أنظرْ يا من غيبت نفسك في طوفان الأشياء كيف أن كلمات التوراة والأنجيل جسدت معاناة أنبياء هربوا من الإستغلال وعسف الدول إلى الصحارى كي ينشئوا دولاً حرة، فتسامت كلماتهم وتواريخهم وتوحدوا مع السعادة العميقة والصلبان والزنزانات.
ولعلك لم تقرأ جيداً القرآن وهو كلماتٌ عن نبي رفض أن يخدم الملأ الاستغلالي وفضلَّ أن يكون مع العبيد والفقراء وغيّرَ التاريخ.
لعلكَ يا منْ غيبتَ نفسك وراء الأشياء تظن إن حمايتك من قبل أصحاب النفوذ سوف تعلي كلماتك الباهتة، أو لأنك مررت بتجربة سجن عاصفة وألم كبيرة سوف يحميك هذا الجبل الطيب من طوفان زحفك نحو المعدن الأصفر، فالناس تعرف استمرار مقاومتك لا تاريخك ذلك وتخليك عن أصلك الطيب.
ومهما جئتَ بأصولٍ حاكمةٍ أو أسرةٍ كريمة أو إنتماء لحزبٍ مناضل قدم الشهداءَ الكثيرين، ومهما كان أقرباؤك وأئمتك من جهابذة في الدين والتاريخ، فإن مقياسك هو شخصك ومدى إنتاجك المضيء ونقدك للأشياء السيئة والظاهرات المخربة للإنتاج وحقوق الأغلبية من العاملين.
لا تقل أسرتي وحزبي وأئمتي وقادتي، بل قل ما هو عملي وموقفي الناقد ودفاعي عن شعبي وكفاحي ضد الأخطاء.
والأديب ليست كلماته بمعزل عن قانون الإنتاج المطلق هذا، الذي يتساوى فيه الأنبياء العظام والشعراء الصعاليك، وهو ميزان الحق، فيظن أنه له فترة يجاهد ويتعذب لكي ينير ثم تأتي له فترة خاصة يتكاسل ويبحث عن المناصب ويغدو رئيس جريدة النفاق.
ميزانك هو كلمتك، مدى تحول قصصك وأشعارك ومسرحياتك ونقدك إلى كشافات تفضح مستنقعات الفساد، لا تقلْ إنني أديب ناشىء أبحث عن سبل التعبير والعيارة، ليشتد عودك وتنضم إلى الحرامية، بل أغمسْ مدادك في معاناة البشر ولا تستجدي الشهرة والمال.
لكن الكثيرين اتخذوا الكلمات مطايا، وهدايا، وضحايا، وقادة الفكر وعباقرة الكلمة غدوا مثالاً سيئاً للنشء، وهذا يحدث كثيراً في التاريخ، عندما تقبضُ الطبقة المسيطرة على الكثير من المال فتستطيع أن ترشو بكثرة، لكن ذلك مؤقت، لأن وفرة المال على هذا النحو لا تدوم، بل تدوم حين تستمع هذه الطبقة للنقاد، وترهفُ جميعُ آذانِها للضربات الكلامية والأدبية والعلمية التي توجه لتبذيرها وفسادها وحينئذ تطور سيطرتها وإنتاجها المشرف على الأفلاس بفضل جوقات النفاق والبذخ.
المال اليوم عندك وغداً عند غيرك ، فتذهب للاستلاف، فلماذا تبيع ماء وجهك وكنت عزيزاً، ولا تحفظ كرامتك وهي من كرامة الأمة والناس؟
لا تقل أصلي وفصلي وحزبي وجماعتي، بل قل هي كلمة الحق أوجهها ضد كل مخطئ ومستغل ومبذر، أرفع بها من يسمو إلى المعالي، وأعصف من خلالها بكل من أهدر ثروة الأمة ونشر الأرهاب وغزا الأخوة والجيران ووسع الاستبداد.
كلمتي هي مع الحق والحقيقة، لا مع الخزائن.
ليست كلمتي مرهونة بمديح النقاد وأن يرضى عني رئيس الجامعة والكلية، فأدبج (الدراسات والأبحاث) كما يشتهي رئيسُ القسم المريض، فأعلي من يرضى عنهم، وأخسفُ الأرضَ بمن يكرههم لكي أحصل على الوظائف والمال، فأي علم هذا الذي يكون ذاتياً وجائراً وغير منصف؟
وكيف تنشأ الحقيقة بين جماعات القول الواحد والصوت الواحد، وجماعات نحن مع الزعيم أينما توجه وكيفما قال؟ وهل تـُدار الأوطان والأحزاب بقول الفرد؟
يتباين الإنتاج الثقافي في كل هذه الأنواع في أشكاله وتعابيره، ويتحد في مضامنيه، وفي عصوره السحيقة والمعاصرة، على بعد المسافات والأشكال والأزمان، فكلمة الحقيقة تشق طرقها بوسائل مختلفة، وهي تنمو من خلال الألم الشعبي، تنور صهر الأشكال ووحدتها وتطورها، وفي الفرح والغنى ظاهرات مقاربة حين تتصل بذلك الهم الإنساني العميق.
Published on April 23, 2020 09:31
April 21, 2020
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : أشكال الوعي في البنية العربية التقليدية
إذا كانت البُنى العربية التقليدية بُنى إقطاع ديني، لكون الدين هو الشكل الوحيد المناسب لظهور وتجلي صراعات هذا التاريخ البشري الخاص، فإن هذا الإقطاع الديني يصير إقطاعاً مذهبياً، أي يقوم فيه العرب المسلمون بالصراع بينهم وبين أنفسهم كقوى ومستويات اجتماعية عبر المذاهب، وبينهم وبين الأديان الأخرى عبر الدين العام.
ولهذا فإن كافة مستويات البنية التقليدية تغدو مُسيسة، فلا توجد حركات دينية غير سياسية، ولا يغدو الدين الشعبي الجماهيري كذلك غير مسيس.
ومن هنا فإن هناك إقطاعاً دينياً سياسياً يهيمن على البنية التقليدية، وهو يشكل الأنظمة السياسية عبر التاريخ، ومن هنا كذلك فلا توجد مدينة عربية إسلامية حرة، أي ديمقراطية وحداثية، لأنها كلها خاضعة للإقطاع السياسي المتحكم عبر التاريخ، وهنا الفارق بين مدننا وبين المدينة الغربية البرجوازية التي نمت كمدينة حرة، فهذه الأخيرة قد نشأت في عملية تاريخية لتغيير سلطة الإقطاع الديني والسياسي، أي لتحويل مجمل البنية التقليدية، عبر الفصل بين الدين والدولة، وجعل المدينة حرة من سلطة دينية سياسية مُسبّقة.
والأمر ليس تحرير المجتمع من الدين، ولكن تحرير الدين من الدكتاتورية السياسية. وتحرير السياسة من الدكتاتورية الدينية.
ولهذا فإن علينا أن لا نرى فترات ازدهار المدن العربية الإسلامية بالتجارة وببعض الحرية الفكرية والسياسية باعتبارها انقطاعاً عن الهيمنة الإقطاعية المستبدة، أو تحولاً نوعياً فيها وانتقالاً إلى كونها مدناً حرة، كما يوهمنا الكتاب السطحيون، حين يتحدثون عن فترات النهضة في الدولة العباسية أو في العصر الحديث، بل الأمر لا يعدو أن يكون وفرة مالية لدى الإقطاع السياسي تتيح له تحريك الحياة الثقافية والفكرية باتجاه مصالحه.
إن الإقطاع السياسي المهيمن على أجهزة الدولة العليا يتيح للإقطاع الديني الهيمنة على المستويات الاجتماعية، خاصة على وضع القبيلة / الأسرة ومورثاتها الذكورية والثـقافة الجماهيرية، وغالباً ما يحدث الصراع بين الإقطاع السياسي الحاكم والإقطاع الاجتماعي، وكلاهما يحكمان مستويات البنية المتعددة، حين تنضب موارد الدولة أو تضيع في قنوات وشرايين الدول الفاسدة.
ولهذا فحين يستولي المأمون على السلطة من أخيه الأمين، أو حين يستولي الضباط الأحرار على الحكم في مصر، فإن البنية الإقطاعية / المذهبية لا تتغير، والمدينة الحرة لا تنشأ، فدور الدولة المركزي وهيمنتها على الأملاك العامة، وسلطتها المكرسة غيباً لا تتبدل.
وحين يقاوم الإقطاعُ الديني المأمونَ بسبب عمليات تحديثه فذلك لأن يصرف المال العام على بطانته، المجلوبة أغلبها من فارس، ولهذا فإن الإقطاع الديني المتحكم في البنية الاجتماعية وأغلبه عرب وجدوا أنفسهم بمنأى عن السلطة السياسية والمال العام، يصارع هذا التحكم ويتخذ من قضية خلق القرآن مظهراً للصراع على غنائم الحكم.وحين يقوم الواثق بانقلابه فإن شيئاً من الاستغلال والفساد لم يتغير، غير أنه قرب رجالات الإقطاع الديني وأجزل لهم العطاء.ولأن بطانة الإقطاع فارسية، إمامية، زيدية، اعتزالية، تزدهر لدى عامة بغداد المذاهب السنية.
ولهذا أيضاً حين يقوم الضباط الأحرار بانقلابهم ويحدثون إصلاحات مهمة فإنهم لا يخلقون مدينة حرة، لأن هيمنتهم على المال العام تتصاعد ويغدو جهاز الدولة تابعاً لفئة صغيرة تتحكم في كيفية توزيع الثروة، ونظراً لدور قيادتها الوطنية المناضلة فإن مشروعات شعبية كثيرة تتحقق، ووصول جانب من المال العام للشعب، لم يكن يعني أن يكون هذا المال تحت إدارته، فقنوات الدولة المهيمنة هي التي تظل تتحكم فيه، وبالتدريج ينتقل إلى جيوبها.
إن البنية الإقطاعية الدينية لم تتغير، وكان توغل الدولة وهيمنتها داخل المستويات الاجتماعية واتجاهها لدمقرطة وتحديث الأسرة، باعثاً لاصطدامها مع الإقطاع الديني المهيمن في هذه المستويات.
إن الشعب لا يستطيع أن يكون حراً مع دولة دكتاتورية، حتى لو فرشت الأرض ذهباً تحت أقدامه.
إن كافة العناصر الفكرية التي تولدت داخل البنية العربية التقليدية أو التي جاءت من خلال التأثيرات الأجنبية عبر اليونان أو الهند أو الفرس في القرون السابقة، أو الأفكار الحديثة التي جاءت من الغرب الرأسمالي أو الشرق ( الاشتراكي )، كلها خضعت لقوانين هذه البنية الإقطاعية، التي نحت عناصر وأبقت عناصر، تبعاً لوظيفيتها الخاصة.
بل وحتى الثورة المحمدية التي كانت سابقة قبل تشكل هذه البنية التقليدية تم إبعاد عناصر منها جوهرية، رغم إن تلك الثورة هي التي تمثـل مشروعية هذه البنية التقليدية حسب وعي هذه البنية نفسها .
إن قوانين الثورة المحمدية الثلاثة تم تجاهلها، وهي التحالف بين التجار المتوسطين والعاملين، وربط تطور الثورة بتقدم الجمهور المادي والمعيشي والثقافي، ووجود برنامج نهضوي تحولي لــ ( لأمة ).
والفارق بين لحظة الثورة المحمدية ووجود مدينة حرة في الجزيرة العربية، وبين زمن البنية التقليدية، هو فارق التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، حيث أن العرب الرعاة الأحرار لم يهيمن عليهم نظام استغلالي سواء عبودياً كان أم إقطاعياً، ولكنهم حين انتقلوا إلى الشمال العربي، وحدثت تحولات اقتصادية وسياسية كبيرة، دخلوا في المنظومة الإقطاعية، متجاوزين العبودية كتشكيلة اقتصادية اجتماعية، لكن ظلت العبودية تتجرر أذيالها الثقيلة.
وحينئذٍ، أي في زمن الإقطاع، فإن كافة الأفكار الُمصنعة محلياً أم المستوردة مناطقياً وعالمياً، خضعت لقوانين البنية وتطورها.
إن كافة التيارات المعارضة والدول لم تستطع إعادة إنتاج الثورة المحمدية في الظروف الجديدة. فالأعمال البطولية للأئمة والمغامرات الفردية ثم الانتفاضات عجزت عن الوصول لمفاتيح تلك الثورة، فالقدريون والمعتزلة لم يفهموا أهمية التحالف بين التجار والعامة، ولم يعرفوا كيف يربطون بين ثورتهم النخبوية وجمهور الفلاحين عبر تغيير طابع ملكية الأرض أو الخراج ، وحتى عندما أخذ العوامُ دوراً كبيراً في أعمال القرامطة والزنج فإنهم كانوا عواماً لصوصاً ولم يطرحوا برنامجاً لإزالة اللصوصية من هيمنة الدولة الإقطاعية.
ونستطيع أن نعرف لماذا انتصر معاوية بن أبي سفيان سياسياً على جيش الدولة الشعبية لأن هذا الجيش لم يربط انتصاراته بتوزيع الغنائم والمكاسب على الجنود والجمهور، في حين كان معسكر معاوية يغدق العطايا عليهم. وكذلك لم يكن لجيش السلطة الشعبية برنامج تحولي جديد، وبهذا تخلى جيش السلطة الشعبية عن قوانين الثورة المحمدية وبالتالي هُزم.
ولهذا حين كان الخلفاء ( المتنورون ) يطرحون سياسة ثقافية جديدة نهضوية لم تكن تنجح هذه السياسة، بسبب أنها تقوم على استغلال بشع للجمهور المنتج، فإذا كان هذا الجمهور أمياً، وخرافياً في وعيه، فإنه سيتأثر بالسياط والدجل أكثر منه بالقراطيس ذات الثمن الغالي التي ينسخها النساخ بصعوبة وتنتشر بين نخبة محدودة، فالتنوير لا بد أن يترابط وتحرر الجمهور من الأمية والفقر الشديد، وكيف يتحرر من ذلك دون تغيير جوهري في شروط الإنتاج ؟
ولهذا فإن تقارب الدينان المسيحية الشرقية والإسلام، وتقارب المذاهب المهيمنة سياسياً، وغربة الفلسفة وضياع المتصوفين، لا يعود للعناصر الثورية والديمقراطية الجنينية فيها، بل لقدرة البنية المحافظة على انتزاع تلك العناصر وإخفائها في ركام من الاغتراب والنصوصية الشكلانية، بدلاً من توظيفها في مرحلة جديدة. أي عدم القدرة على ربطها بنضال الجمهور وتقدمه.
إن بقاء نموذج الثورة المحمدية ملهماً للعرب والمسلمين يعود لقدرتها على نقلهم من تشكيلة إلى أخرى، واتساع التحالف الاجتماعي المتحقق بين التجار النهضويين والكادحين، وطرح برنامج تحولي لأغلبية القطاعات.
وفي العصر الحديث قامت الليبرالية المستوردة من الغرب ببعض الجوانب التطورية في هذا الجانب،حيث رأينا تحالف الفئات الوسطى والعاملين، وتم طرح برنامج نهضوي لكن الليبرالية عجزت عن هدم البنية الإقطاعية، ورأت في الإقطاع الديني بأنه هو الإسلام، فعجزت عن رؤية جذوره في الثورة المحمدية، أي عجزت عن رؤية جذورها كليبرالية في المرحلة الثورية الإسلامية التأسيسية.
وهذا يعود لغربتها الغربية، أي بسبب نقلها الميكانيكي لأدوات معرفية وسياسية مستوردة، فهي لا تنقل مناهج بل أشكالاً فوقية غير متجذرة في الأرض، أي تستورد أشكالاً برلمانية وأشكالاً حزبية الخ.. لكن هذه في وجودها غير المنقول ،ليست أشكالاً، هذه بنية متكاملة، فالأمر ليس في نقل قلب سليم إلى جسم مريض، بل في تغيير الجسم كله.
وطبيعة النقل الشكلية لدى الفئات المتوسطة يعود لطبيعتها الاقتصادية / الاجتماعية. أي على كونها فئات تجارية ، زراعية، عقارية وإلى صناعية بدرجة أساسية. وهي من هنا تقوم بتشكيل فلسفة انتقائية، نفعية، وليس فلسفة تحولية جذرية.
إن الوعي الليبرالي وأشكاله الفكرية المتعددة، من فلسفة سياسية وأدب وفن وعلوم، عجزت عن التنوير والتحويل الاجتماعي والثقافي للجمهور العربي، وبقيت الهياكل الإقطاعية الدينية متحكمة فيه، مما أدى إلى أزمة هذا الأشكال الفكرية النهضوية.
أي أن القضايا الاقتصادية والاجتماعية للثورة الديمقراطية لم تتحقق، مثل حرية الفلاحين والنساء والدين. وبقي الإقطاع الديني مهيمناً على الوعي.
إن الفارق بين الثورة المحمدية والثورة الليبرالية العربية الأولى الحديثة، رغم إن الطابع التجاري كان مشتركاً بين تكوينيهما الاجتماعيين القياديين، هو في قدرة الأولى في الاستناد إلى الجذور الفكرية للمنطقة، أي قيامها بإعادة إنتاج للفكر (الوطني التحرري ) المحلي المناطقي، لكن الليبرالية المعاصرة لم تفعل سوى نقل المنتجات الغربية. أو العودة إلى حمى الإقطاع المذهبي، عبر قيام كل فئات وسطى عربية إسلامية، بالارتكاز إلى إرثها المحلي الضيق. فمرة تلجأ إلى سوق مسيطر عليها غرباً، ومرة تلجأ إلى إقطاع مهيمن عليها و(مقطع ) لسوقها الواسعة الُمفترضة.والشكلان لا يقودان إلى تراكم، تحتاجه إعادة تشكيل الهياكل التقليدية المعرقلة لنمو رأسمالي تحولي جذري.
وهكذا يغدو الإقطاع الديني حين يكون مسيحية شرقية، أو مذهبية إسلامية، مصمماً على تقطيع أوصال الأمة، أي أن شبكات المذاهب تعود إلى عرقلة نمو سوق موحدة وطنياً وعربياً، في حين إنها ترتكز على الإسلام، دون أن تعي إنها ترتكز على الإقطاع. أي أنها بعدُ لا تكتشف جذورها المتصلة بالثورة المحمدية.
حين عجزت أشكال الليبرالية العربية الحديثة الأولى عن حل مهام التحديث والتحرر، برزت رأسماليات الدولة العربية المختلفة، وفي الزمن الأول كانت متجهة إلى اليسار وأدبياته، والآن إلى اليمين وأدبياته.
قامت رأسماليات الدولة في المرحلة الأولى ( ناصريون، قوميون ، بعثيون، جبهويون جزائريون، استقلاليون تونسيون الخ..)، على وعي الهيمنة الحكومية، فجعلوا من ماكينة الدولة في كل قطر وسيلة لتشكيل الرأسمال الصناعي المفقود، معضلة العرب الأولى، وقد قادت هذه إلى سلسلة من نظريات التدخل الحكومي في الاقتصاد والحياة الاجتماعية والفكرية.
لقد أفرزت في المجال الفكري مجموعات من الأفكار المؤيدة للشمولية، وقادت في النهاية إلى هيمنة الأفراد المطلقين، ومن ثم العودة إلى وعي الإقطاع السياسي / الديني. إن الوحدات الوطنية لم تتشكل، والتصنيع الشامل لم يتحقق وتحول إلى مديونيات كبيرة، وواصلت الثقافة الجماهيرية رحلة الخرافة والأمية وعادت الأشكال القديمة في الإبداع الخ..
لم تستطع رأسمالية الدولة اليسارية أن تـُنجز ما وعدت به، لأن وعيها رفض مجابهة الإقطاع السياسي / الديني، بل أنها ورثت أشغاله الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية، فتملكت الموارد وحددت أهداف النصوص الدينية على هواها السياسي.
إن رفضها لتحويل التصنيع الثقيل إلى قوة أساسية في الاقتصاد الوطني، يعود لارتكازها على فئات وسطى استغلالية، هي الفئات البيروقراطية والعسكرية المتنفذة، التي ترفض التضحيات وإعادة تشكيل الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية بشكل جذري، مما قاد مع غياب الرقابة الشعبية إلى تدهور القواعد الصناعية التي شكلتها، وإلى بعث حركات الإقطاع المذهبية المختلفة، التي بنت نموها في هذه الأقطار ( اليسارية ) على العداء للحداثة والتقدم، ومرتكزة على الأخطاء والهزائم التي واكبت هذه الأنظمة في بعض معاركها ونظامها.
ولا يمكن أخذ هذه اللوحة بعين الاعتبار دون رؤية صعود رأسماليات الدولة (اليمينية) حيث أتاحت الثروة النفطية ومحاصرة وهزيمة رأسماليات الدولة في العالم الشرقي، صعود هذه الأنماط من رأسماليات الدولة اليمينية المكرسة لتقوية العلاقات ما قبل الرأسمالية أي للإقطاع، وكذلك للرأسمالية الغربية.
وخدمة رأسماليات الدولة هذه لهذين الجانبين المتناقضين، حدثت بسبب ضعف الهياكل الاقتصادية في هذه الدول، الصحراوية والريفية، مما قاد إلى كونها سوقاً للبضائع العسكرية، والاقتصادية الأخرى، ورأس مالاً مالياً لخدمة التصنيع الغربي، وأدت إلى ازدهار أشكال رأسمال غير الصناعي، وبالتالي عودة البذخ الأسطوري للخلفاء والنخب اللاهية والفاسدة سياسياً وذوقياً، مما أدى إلى إنهاك القطاعات العامة الحكومية وتحميل الشعوب فاتورة الحروب والفساد والاستغلال .
وقد قاد هذا إلى هيمنة أشكال وعي قديمة كان يبدو للوعي السطحي بأنها انتهت، وكذلك تم اسيراد أشكال الحداثة الغربية الفارغة من المضامين التحويلية. وقد انتصر عربياً نموذج رأسمالية الدولة اليمينية المكرسة لعودة الإقطاع المذهبي، فظهر أمير المؤمنين في أفغانستان والكثير من أمراء المؤمنين، ليتحول البرنامج الطائفي إلى حقائق دموية.
إنه كلما تخلى الإقطاع الديني عن قوانين الثورة المحمدية كلما أو غل في التطرف ضد الحداثة وتقدم المسلمين، أي حين يزداد شكلانية وتعصباً. فكلما تنامى تخلفاً في مواقعه الصحراوية والريفية كلما أزداد تقوقعاً وعداءً، وحين يتحد أكثر بقوة الإقطاع السياسي الحاكم الذي حصل على موارد وفيرة، فإنه يزداد ضراوة في الدفاع عن امتيازاته واستغلاله للجمهور. بل أيضاً يتطلع إلى الوصول للحكم.
إن الانقطاع عن تقاليد الثورة المحمدية قادت إلى الأحكام الحرفية والنصوصية الجزئية المبتورة عن سياق العصرين، ولهذا فإن مذاهب اللاقياس التي هيمن الإقطاع فيها بقوة، تغدو مثل مذاهب القياس التي لم تنتصر فيها الثورة النهضوية. ومع تنامي قوة الإقطاع الديني فإنه يزحف على كل ظاهرات الوعي والثقافة ليعيد ربطها لأحكام سيطرته.
مهما حدثت من أعمال نهضوية وتنويرية واقتصاد مخطط واقتصاد دولة فإن بنية الإقطاع لم تتبدل.أي حين يعتمد الآن على رأسمالية دولة جديدة وتنوير آخر فإن الأمر لن يغير من أسس البنية. لا يمكن إلا الخروج عن طريق تأسيس بنية اجتماعية جديدة أسسها العلمانية والديمقراطية والحرية الاجتماعية كنظام متكامل.
وقد تغلغلت بُنى النظام التقليدي في الأحزاب الليبرالية و(الاشتراكية) و(الشيوعية)، فرفض بعض هذه الجماعات التحول إلى النظام الحديث، ربطها بأنظمة الإقطاع المختلفة، وطرحها عملية القفز على الرأسمالية كانت دفاعاً عن وشائجها مع البنية التقليدية الطائفية، ولهذا أخذت مفرداتها الديمقراطية تتهاوى، فتصبح الأنظمة الجمهورية ملكية، والديمقراطية المركزية تصبح مركزية، والقادة السياسيون الوطنيون يصبحون أبوات وقادة طوائف، وتغدو القوالب الفكرية المستوردة غير قادرة إلى التحول إلى مناهج بحث تلتحم بالبنى العربية تحليلاً واكتشافاً .ويترنح الشعر الحديث، ويعود الشعر التقليدي وتغدو الأنواع الأدبية والفنية من أدب قصصي أو مسرحي أو فنون تشكيلية نخبوية منعزلة.
ولهذا فإن كافة مستويات البنية التقليدية تغدو مُسيسة، فلا توجد حركات دينية غير سياسية، ولا يغدو الدين الشعبي الجماهيري كذلك غير مسيس.
ومن هنا فإن هناك إقطاعاً دينياً سياسياً يهيمن على البنية التقليدية، وهو يشكل الأنظمة السياسية عبر التاريخ، ومن هنا كذلك فلا توجد مدينة عربية إسلامية حرة، أي ديمقراطية وحداثية، لأنها كلها خاضعة للإقطاع السياسي المتحكم عبر التاريخ، وهنا الفارق بين مدننا وبين المدينة الغربية البرجوازية التي نمت كمدينة حرة، فهذه الأخيرة قد نشأت في عملية تاريخية لتغيير سلطة الإقطاع الديني والسياسي، أي لتحويل مجمل البنية التقليدية، عبر الفصل بين الدين والدولة، وجعل المدينة حرة من سلطة دينية سياسية مُسبّقة.
والأمر ليس تحرير المجتمع من الدين، ولكن تحرير الدين من الدكتاتورية السياسية. وتحرير السياسة من الدكتاتورية الدينية.
ولهذا فإن علينا أن لا نرى فترات ازدهار المدن العربية الإسلامية بالتجارة وببعض الحرية الفكرية والسياسية باعتبارها انقطاعاً عن الهيمنة الإقطاعية المستبدة، أو تحولاً نوعياً فيها وانتقالاً إلى كونها مدناً حرة، كما يوهمنا الكتاب السطحيون، حين يتحدثون عن فترات النهضة في الدولة العباسية أو في العصر الحديث، بل الأمر لا يعدو أن يكون وفرة مالية لدى الإقطاع السياسي تتيح له تحريك الحياة الثقافية والفكرية باتجاه مصالحه.
إن الإقطاع السياسي المهيمن على أجهزة الدولة العليا يتيح للإقطاع الديني الهيمنة على المستويات الاجتماعية، خاصة على وضع القبيلة / الأسرة ومورثاتها الذكورية والثـقافة الجماهيرية، وغالباً ما يحدث الصراع بين الإقطاع السياسي الحاكم والإقطاع الاجتماعي، وكلاهما يحكمان مستويات البنية المتعددة، حين تنضب موارد الدولة أو تضيع في قنوات وشرايين الدول الفاسدة.
ولهذا فحين يستولي المأمون على السلطة من أخيه الأمين، أو حين يستولي الضباط الأحرار على الحكم في مصر، فإن البنية الإقطاعية / المذهبية لا تتغير، والمدينة الحرة لا تنشأ، فدور الدولة المركزي وهيمنتها على الأملاك العامة، وسلطتها المكرسة غيباً لا تتبدل.
وحين يقاوم الإقطاعُ الديني المأمونَ بسبب عمليات تحديثه فذلك لأن يصرف المال العام على بطانته، المجلوبة أغلبها من فارس، ولهذا فإن الإقطاع الديني المتحكم في البنية الاجتماعية وأغلبه عرب وجدوا أنفسهم بمنأى عن السلطة السياسية والمال العام، يصارع هذا التحكم ويتخذ من قضية خلق القرآن مظهراً للصراع على غنائم الحكم.وحين يقوم الواثق بانقلابه فإن شيئاً من الاستغلال والفساد لم يتغير، غير أنه قرب رجالات الإقطاع الديني وأجزل لهم العطاء.ولأن بطانة الإقطاع فارسية، إمامية، زيدية، اعتزالية، تزدهر لدى عامة بغداد المذاهب السنية.
ولهذا أيضاً حين يقوم الضباط الأحرار بانقلابهم ويحدثون إصلاحات مهمة فإنهم لا يخلقون مدينة حرة، لأن هيمنتهم على المال العام تتصاعد ويغدو جهاز الدولة تابعاً لفئة صغيرة تتحكم في كيفية توزيع الثروة، ونظراً لدور قيادتها الوطنية المناضلة فإن مشروعات شعبية كثيرة تتحقق، ووصول جانب من المال العام للشعب، لم يكن يعني أن يكون هذا المال تحت إدارته، فقنوات الدولة المهيمنة هي التي تظل تتحكم فيه، وبالتدريج ينتقل إلى جيوبها.
إن البنية الإقطاعية الدينية لم تتغير، وكان توغل الدولة وهيمنتها داخل المستويات الاجتماعية واتجاهها لدمقرطة وتحديث الأسرة، باعثاً لاصطدامها مع الإقطاع الديني المهيمن في هذه المستويات.
إن الشعب لا يستطيع أن يكون حراً مع دولة دكتاتورية، حتى لو فرشت الأرض ذهباً تحت أقدامه.
إن كافة العناصر الفكرية التي تولدت داخل البنية العربية التقليدية أو التي جاءت من خلال التأثيرات الأجنبية عبر اليونان أو الهند أو الفرس في القرون السابقة، أو الأفكار الحديثة التي جاءت من الغرب الرأسمالي أو الشرق ( الاشتراكي )، كلها خضعت لقوانين هذه البنية الإقطاعية، التي نحت عناصر وأبقت عناصر، تبعاً لوظيفيتها الخاصة.
بل وحتى الثورة المحمدية التي كانت سابقة قبل تشكل هذه البنية التقليدية تم إبعاد عناصر منها جوهرية، رغم إن تلك الثورة هي التي تمثـل مشروعية هذه البنية التقليدية حسب وعي هذه البنية نفسها .
إن قوانين الثورة المحمدية الثلاثة تم تجاهلها، وهي التحالف بين التجار المتوسطين والعاملين، وربط تطور الثورة بتقدم الجمهور المادي والمعيشي والثقافي، ووجود برنامج نهضوي تحولي لــ ( لأمة ).
والفارق بين لحظة الثورة المحمدية ووجود مدينة حرة في الجزيرة العربية، وبين زمن البنية التقليدية، هو فارق التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، حيث أن العرب الرعاة الأحرار لم يهيمن عليهم نظام استغلالي سواء عبودياً كان أم إقطاعياً، ولكنهم حين انتقلوا إلى الشمال العربي، وحدثت تحولات اقتصادية وسياسية كبيرة، دخلوا في المنظومة الإقطاعية، متجاوزين العبودية كتشكيلة اقتصادية اجتماعية، لكن ظلت العبودية تتجرر أذيالها الثقيلة.
وحينئذٍ، أي في زمن الإقطاع، فإن كافة الأفكار الُمصنعة محلياً أم المستوردة مناطقياً وعالمياً، خضعت لقوانين البنية وتطورها.
إن كافة التيارات المعارضة والدول لم تستطع إعادة إنتاج الثورة المحمدية في الظروف الجديدة. فالأعمال البطولية للأئمة والمغامرات الفردية ثم الانتفاضات عجزت عن الوصول لمفاتيح تلك الثورة، فالقدريون والمعتزلة لم يفهموا أهمية التحالف بين التجار والعامة، ولم يعرفوا كيف يربطون بين ثورتهم النخبوية وجمهور الفلاحين عبر تغيير طابع ملكية الأرض أو الخراج ، وحتى عندما أخذ العوامُ دوراً كبيراً في أعمال القرامطة والزنج فإنهم كانوا عواماً لصوصاً ولم يطرحوا برنامجاً لإزالة اللصوصية من هيمنة الدولة الإقطاعية.
ونستطيع أن نعرف لماذا انتصر معاوية بن أبي سفيان سياسياً على جيش الدولة الشعبية لأن هذا الجيش لم يربط انتصاراته بتوزيع الغنائم والمكاسب على الجنود والجمهور، في حين كان معسكر معاوية يغدق العطايا عليهم. وكذلك لم يكن لجيش السلطة الشعبية برنامج تحولي جديد، وبهذا تخلى جيش السلطة الشعبية عن قوانين الثورة المحمدية وبالتالي هُزم.
ولهذا حين كان الخلفاء ( المتنورون ) يطرحون سياسة ثقافية جديدة نهضوية لم تكن تنجح هذه السياسة، بسبب أنها تقوم على استغلال بشع للجمهور المنتج، فإذا كان هذا الجمهور أمياً، وخرافياً في وعيه، فإنه سيتأثر بالسياط والدجل أكثر منه بالقراطيس ذات الثمن الغالي التي ينسخها النساخ بصعوبة وتنتشر بين نخبة محدودة، فالتنوير لا بد أن يترابط وتحرر الجمهور من الأمية والفقر الشديد، وكيف يتحرر من ذلك دون تغيير جوهري في شروط الإنتاج ؟
ولهذا فإن تقارب الدينان المسيحية الشرقية والإسلام، وتقارب المذاهب المهيمنة سياسياً، وغربة الفلسفة وضياع المتصوفين، لا يعود للعناصر الثورية والديمقراطية الجنينية فيها، بل لقدرة البنية المحافظة على انتزاع تلك العناصر وإخفائها في ركام من الاغتراب والنصوصية الشكلانية، بدلاً من توظيفها في مرحلة جديدة. أي عدم القدرة على ربطها بنضال الجمهور وتقدمه.
إن بقاء نموذج الثورة المحمدية ملهماً للعرب والمسلمين يعود لقدرتها على نقلهم من تشكيلة إلى أخرى، واتساع التحالف الاجتماعي المتحقق بين التجار النهضويين والكادحين، وطرح برنامج تحولي لأغلبية القطاعات.
وفي العصر الحديث قامت الليبرالية المستوردة من الغرب ببعض الجوانب التطورية في هذا الجانب،حيث رأينا تحالف الفئات الوسطى والعاملين، وتم طرح برنامج نهضوي لكن الليبرالية عجزت عن هدم البنية الإقطاعية، ورأت في الإقطاع الديني بأنه هو الإسلام، فعجزت عن رؤية جذوره في الثورة المحمدية، أي عجزت عن رؤية جذورها كليبرالية في المرحلة الثورية الإسلامية التأسيسية.
وهذا يعود لغربتها الغربية، أي بسبب نقلها الميكانيكي لأدوات معرفية وسياسية مستوردة، فهي لا تنقل مناهج بل أشكالاً فوقية غير متجذرة في الأرض، أي تستورد أشكالاً برلمانية وأشكالاً حزبية الخ.. لكن هذه في وجودها غير المنقول ،ليست أشكالاً، هذه بنية متكاملة، فالأمر ليس في نقل قلب سليم إلى جسم مريض، بل في تغيير الجسم كله.
وطبيعة النقل الشكلية لدى الفئات المتوسطة يعود لطبيعتها الاقتصادية / الاجتماعية. أي على كونها فئات تجارية ، زراعية، عقارية وإلى صناعية بدرجة أساسية. وهي من هنا تقوم بتشكيل فلسفة انتقائية، نفعية، وليس فلسفة تحولية جذرية.
إن الوعي الليبرالي وأشكاله الفكرية المتعددة، من فلسفة سياسية وأدب وفن وعلوم، عجزت عن التنوير والتحويل الاجتماعي والثقافي للجمهور العربي، وبقيت الهياكل الإقطاعية الدينية متحكمة فيه، مما أدى إلى أزمة هذا الأشكال الفكرية النهضوية.
أي أن القضايا الاقتصادية والاجتماعية للثورة الديمقراطية لم تتحقق، مثل حرية الفلاحين والنساء والدين. وبقي الإقطاع الديني مهيمناً على الوعي.
إن الفارق بين الثورة المحمدية والثورة الليبرالية العربية الأولى الحديثة، رغم إن الطابع التجاري كان مشتركاً بين تكوينيهما الاجتماعيين القياديين، هو في قدرة الأولى في الاستناد إلى الجذور الفكرية للمنطقة، أي قيامها بإعادة إنتاج للفكر (الوطني التحرري ) المحلي المناطقي، لكن الليبرالية المعاصرة لم تفعل سوى نقل المنتجات الغربية. أو العودة إلى حمى الإقطاع المذهبي، عبر قيام كل فئات وسطى عربية إسلامية، بالارتكاز إلى إرثها المحلي الضيق. فمرة تلجأ إلى سوق مسيطر عليها غرباً، ومرة تلجأ إلى إقطاع مهيمن عليها و(مقطع ) لسوقها الواسعة الُمفترضة.والشكلان لا يقودان إلى تراكم، تحتاجه إعادة تشكيل الهياكل التقليدية المعرقلة لنمو رأسمالي تحولي جذري.
وهكذا يغدو الإقطاع الديني حين يكون مسيحية شرقية، أو مذهبية إسلامية، مصمماً على تقطيع أوصال الأمة، أي أن شبكات المذاهب تعود إلى عرقلة نمو سوق موحدة وطنياً وعربياً، في حين إنها ترتكز على الإسلام، دون أن تعي إنها ترتكز على الإقطاع. أي أنها بعدُ لا تكتشف جذورها المتصلة بالثورة المحمدية.
حين عجزت أشكال الليبرالية العربية الحديثة الأولى عن حل مهام التحديث والتحرر، برزت رأسماليات الدولة العربية المختلفة، وفي الزمن الأول كانت متجهة إلى اليسار وأدبياته، والآن إلى اليمين وأدبياته.
قامت رأسماليات الدولة في المرحلة الأولى ( ناصريون، قوميون ، بعثيون، جبهويون جزائريون، استقلاليون تونسيون الخ..)، على وعي الهيمنة الحكومية، فجعلوا من ماكينة الدولة في كل قطر وسيلة لتشكيل الرأسمال الصناعي المفقود، معضلة العرب الأولى، وقد قادت هذه إلى سلسلة من نظريات التدخل الحكومي في الاقتصاد والحياة الاجتماعية والفكرية.
لقد أفرزت في المجال الفكري مجموعات من الأفكار المؤيدة للشمولية، وقادت في النهاية إلى هيمنة الأفراد المطلقين، ومن ثم العودة إلى وعي الإقطاع السياسي / الديني. إن الوحدات الوطنية لم تتشكل، والتصنيع الشامل لم يتحقق وتحول إلى مديونيات كبيرة، وواصلت الثقافة الجماهيرية رحلة الخرافة والأمية وعادت الأشكال القديمة في الإبداع الخ..
لم تستطع رأسمالية الدولة اليسارية أن تـُنجز ما وعدت به، لأن وعيها رفض مجابهة الإقطاع السياسي / الديني، بل أنها ورثت أشغاله الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية، فتملكت الموارد وحددت أهداف النصوص الدينية على هواها السياسي.
إن رفضها لتحويل التصنيع الثقيل إلى قوة أساسية في الاقتصاد الوطني، يعود لارتكازها على فئات وسطى استغلالية، هي الفئات البيروقراطية والعسكرية المتنفذة، التي ترفض التضحيات وإعادة تشكيل الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية بشكل جذري، مما قاد مع غياب الرقابة الشعبية إلى تدهور القواعد الصناعية التي شكلتها، وإلى بعث حركات الإقطاع المذهبية المختلفة، التي بنت نموها في هذه الأقطار ( اليسارية ) على العداء للحداثة والتقدم، ومرتكزة على الأخطاء والهزائم التي واكبت هذه الأنظمة في بعض معاركها ونظامها.
ولا يمكن أخذ هذه اللوحة بعين الاعتبار دون رؤية صعود رأسماليات الدولة (اليمينية) حيث أتاحت الثروة النفطية ومحاصرة وهزيمة رأسماليات الدولة في العالم الشرقي، صعود هذه الأنماط من رأسماليات الدولة اليمينية المكرسة لتقوية العلاقات ما قبل الرأسمالية أي للإقطاع، وكذلك للرأسمالية الغربية.
وخدمة رأسماليات الدولة هذه لهذين الجانبين المتناقضين، حدثت بسبب ضعف الهياكل الاقتصادية في هذه الدول، الصحراوية والريفية، مما قاد إلى كونها سوقاً للبضائع العسكرية، والاقتصادية الأخرى، ورأس مالاً مالياً لخدمة التصنيع الغربي، وأدت إلى ازدهار أشكال رأسمال غير الصناعي، وبالتالي عودة البذخ الأسطوري للخلفاء والنخب اللاهية والفاسدة سياسياً وذوقياً، مما أدى إلى إنهاك القطاعات العامة الحكومية وتحميل الشعوب فاتورة الحروب والفساد والاستغلال .
وقد قاد هذا إلى هيمنة أشكال وعي قديمة كان يبدو للوعي السطحي بأنها انتهت، وكذلك تم اسيراد أشكال الحداثة الغربية الفارغة من المضامين التحويلية. وقد انتصر عربياً نموذج رأسمالية الدولة اليمينية المكرسة لعودة الإقطاع المذهبي، فظهر أمير المؤمنين في أفغانستان والكثير من أمراء المؤمنين، ليتحول البرنامج الطائفي إلى حقائق دموية.
إنه كلما تخلى الإقطاع الديني عن قوانين الثورة المحمدية كلما أو غل في التطرف ضد الحداثة وتقدم المسلمين، أي حين يزداد شكلانية وتعصباً. فكلما تنامى تخلفاً في مواقعه الصحراوية والريفية كلما أزداد تقوقعاً وعداءً، وحين يتحد أكثر بقوة الإقطاع السياسي الحاكم الذي حصل على موارد وفيرة، فإنه يزداد ضراوة في الدفاع عن امتيازاته واستغلاله للجمهور. بل أيضاً يتطلع إلى الوصول للحكم.
إن الانقطاع عن تقاليد الثورة المحمدية قادت إلى الأحكام الحرفية والنصوصية الجزئية المبتورة عن سياق العصرين، ولهذا فإن مذاهب اللاقياس التي هيمن الإقطاع فيها بقوة، تغدو مثل مذاهب القياس التي لم تنتصر فيها الثورة النهضوية. ومع تنامي قوة الإقطاع الديني فإنه يزحف على كل ظاهرات الوعي والثقافة ليعيد ربطها لأحكام سيطرته.
مهما حدثت من أعمال نهضوية وتنويرية واقتصاد مخطط واقتصاد دولة فإن بنية الإقطاع لم تتبدل.أي حين يعتمد الآن على رأسمالية دولة جديدة وتنوير آخر فإن الأمر لن يغير من أسس البنية. لا يمكن إلا الخروج عن طريق تأسيس بنية اجتماعية جديدة أسسها العلمانية والديمقراطية والحرية الاجتماعية كنظام متكامل.
وقد تغلغلت بُنى النظام التقليدي في الأحزاب الليبرالية و(الاشتراكية) و(الشيوعية)، فرفض بعض هذه الجماعات التحول إلى النظام الحديث، ربطها بأنظمة الإقطاع المختلفة، وطرحها عملية القفز على الرأسمالية كانت دفاعاً عن وشائجها مع البنية التقليدية الطائفية، ولهذا أخذت مفرداتها الديمقراطية تتهاوى، فتصبح الأنظمة الجمهورية ملكية، والديمقراطية المركزية تصبح مركزية، والقادة السياسيون الوطنيون يصبحون أبوات وقادة طوائف، وتغدو القوالب الفكرية المستوردة غير قادرة إلى التحول إلى مناهج بحث تلتحم بالبنى العربية تحليلاً واكتشافاً .ويترنح الشعر الحديث، ويعود الشعر التقليدي وتغدو الأنواع الأدبية والفنية من أدب قصصي أو مسرحي أو فنون تشكيلية نخبوية منعزلة.
Published on April 21, 2020 09:11
April 7, 2020
عبـــــدالله خلــــــــيفة : اليسارُ والتكويناتُ الاجتماعية الدينية
لعل التحولات الهائلة خلال نصف القرن الماضي أوضحت بجلاء ضرورة تحول اليسار إلى تكوينات ديمقراطية حقيقية، لمواكبةِ مهماتِ التغييرات الراهنة والمستقبلية خاصة.
فقد تكسرتْ الرأسمالياتُ الشموليةُ الشرقية بجميع مفرداتها الايديولوجية وأخذت عظامها الداخلية بالبروز، ولم تعدْ لديها قدرات على مواصلة التحام رأس المال بالدول الوطنية والقوميات، وغدا تعبيرها عن فئات صغيرة عقبة لتحولات أكثر تطوراً للتشكيلة.
القوميات في مستويات ظهورها الأولى وحاجاتها للتصنيع السريع والحريات الوطنية، جعلتْ البرجوازيات البيروقراطية الرافعة السياسية لهذه العمليات التحولية، حتى توقفتْ قدراتُها عن التطور الاقتصادي العميق وقدراتها على حل التناقضات الجمة في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية لكل بلد.
الجماعات الحاكمة الشمولية المختلفة المتعددة في القارات أسست ذلك وخاصة اليسار العالمي، حتى توقفت عن التطور كل في موعد وفاته، ودخلت مقولاتها الوطنية التوحيدية والدينية والقومية والاشتراكية في تناقضات حادة مع واقع هذه الدول، وفيما تتحدث عن مستقبل زاهر كانت الدولُ تغوصُ في تناقضاتٍ غيرِ محلولة لبناء رأسمالي مشوه أو متناقض غير متكامل.
القطاعات الخاصة التي أنشئت أو كانت موجودة في هذه الدول لا تقدر أن تكون تجاوزاً نضالياً كعادةِ رؤوس الأموال، فهي تنتظرُ النزيفَ الأخيرَ للأنظمة، وعدم قدرتها على الرد الواسع.
كذلك فإن القطاعات الخاصة في أنظمة رأسمالية الدول تكون مريضة مثلها، لم تتح لها قوانين التطور الاقتصادي المجهضة أن تشكل تجارب مستقلة.
الانفجارات الاجتماعية التي حدثت في الحلقات الضعيفة من الرأسماليات الحكومية الشرقية جعلت من الأديان قوة اجتماعية سياسية.
وهذا تعبيرٌ متناقضٌ عن تخلف كبير وعن تقدم طفيف غامض، فالمحبوسون ظهروا من السجون الاجتماعية، معشيي العيون، الآن هم لا يعرفون أين هي سبل التطور والأرضية مضطربة.
حين تتكون كتلة شيوعية قومية في روسيا فهي تواجه التحول الديمقراطي وتصارع التحولات الديمقراطية في العالم الثالث باعتبار ذلك خدمة للغرب، فهي بهذا تعبر عن الهيكل البيروقراطي القومي الذي عاشت باستغلاله، وزوال بقاياه سيعبر عن مشكلات جديدة على العمال خاصة، وعن انتصار للبرجوازية الليبرالية، وتراجع مواقف اليسار الشيوعي واليمين القومي.
سنواتٌ طويلة من الإخلال بقوانين السوق وقيم السلع وتشوه الهياكل الاقتصادية وهدر ثروات كبرى وسحق قوى عاملة بشرية، كل هذه سوف تدفع أثمانها الجماهير وستعمل مجدداً بظروف صعبة وهي التي ثارت وتطلب الرفاه.
كان هذا هو ثمن عدم تطوير اليسار باتجاه الديمقراطية خلال عقود في المعسكر الاشتراكي وفي دول مثل العراق وليبيا واليمن وسوريا.
الجمع بين التطور الاقتصادي والديمقراطية، يقود لاقتصاد السوق وتداول السلطة والحداثة وإيجاد تيارات وطنية تحديثية، وتطوير الإنتاج ونشر مكاسبه على القطاعات الجغرافية المذهبية والدينية والقومية، أي على مختلف جماعات السكان.
وعدم حدوث ذلك يعني تصاعد الايديولوجيات الأخرى المعبرة عن هذه القطاعات والقوى المؤثرة فيها، والتي تعرضت سياداتها العشائرية أو الدينية أو القومية للتقزيم، التي انتظرت الأزمات الاقتصادية الاجتماعية طويلاً، وهي الأزمات التي تنتج من حدوث عجز عميق في تطور الهياكل الاقتصادية الاجتماعية، وهي ذاتها التي استغلتها القوى الثورية السابقة في القفز للحكم، في أشكال من المغامرات في حين تستغلها القوى الدينية المحافظة في أشكال ثورية للمراوحة في الماضي والحاضر وتلمس المستقبل بتجريبية سياسية.
وفيما أن الأفكارَ العصرية المؤدلجةَ المقولبة تُنخرُ وتتحطم تصعدُ الأفكارُ القديمة، من أجل عمليات تحول جديدة ملتبسة بين الشمولية والديمقراطية.
لقد بينت التحولات أهمية الديمقراطية وضرورة تشكيلها أداة للتحول السياسي والتطور الاقتصادي، وفيما خسرت القوى اليسارية الكثير من فاعلياتها بسبب غيابها عن الديمقراطية، تجد العناصر الديمقراطية القليلة فيها صعوبات للتأثير في التحولات العالمية الشرقية خاصة. فيما أن بعض الجماعات الدينية التي وقفت ضد الشموليات تصعد وتؤثر بشكل عالمي.
تغدو مهمات اليسار الديمقراطي كثيرة وكبيرة وأهمها مساعدة القوى الدينية على تلمس طرق التطور في بلدانها، بألا تبقى في دوائر الشمولية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبأن ترى مصائر وتطورات الأمم الإسلامية في بناها الوطنية والقومية، وأن تنزع الأغلفةَ الخارجية عن عمليات الصراعات الاجتماعية والأردية المذهبية المغلقة، وأن تتطلع لتحولات اقتصادية ثورية تنتشل الملايين من وجودهم في اقتصاد الدول البيروقراطي الهامشي البذخي، اقتصاد البطالة المقنعة بل اقتصاد القيادة الصناعية العلمية، وأن يكون اقتصاد السوق يغدو إنتاجاً كذلك، وعمليات التطور الاقتصادية الكبرى التي تقام على أسس ديمقراطية هي التي ستضعف من التقوقع المذهبي والتناحرات القومية والمناطقية وتعيد تشكيل الشعوب على أسس وحدة جديدة.
إن الأشكالَ السياسية من المذاهب ليست تعبيراً عن مقولات فكرية واجتماعية بل هي كذلك تعبير عن أسلوب إنتاج فككَ عرى الناس خلال قرون، وجعل الأمم تتصادم وحلقة الحداثة الشمولية السابقة قامت بقفزات مهمة في جوانب ومضرة في جوانب أخرى، ويُنتظر من الحلقة الجديدة من التطور التأني في دراسة كل نظام ومشكلاته وسبل تغييره بشكل شعبي ديمقراطي واسع النطاق وتكون الحلول والخطط الاقتصادية كذلك شعبية ديمقراطية.
فقد تكسرتْ الرأسمالياتُ الشموليةُ الشرقية بجميع مفرداتها الايديولوجية وأخذت عظامها الداخلية بالبروز، ولم تعدْ لديها قدرات على مواصلة التحام رأس المال بالدول الوطنية والقوميات، وغدا تعبيرها عن فئات صغيرة عقبة لتحولات أكثر تطوراً للتشكيلة.
القوميات في مستويات ظهورها الأولى وحاجاتها للتصنيع السريع والحريات الوطنية، جعلتْ البرجوازيات البيروقراطية الرافعة السياسية لهذه العمليات التحولية، حتى توقفتْ قدراتُها عن التطور الاقتصادي العميق وقدراتها على حل التناقضات الجمة في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية لكل بلد.
الجماعات الحاكمة الشمولية المختلفة المتعددة في القارات أسست ذلك وخاصة اليسار العالمي، حتى توقفت عن التطور كل في موعد وفاته، ودخلت مقولاتها الوطنية التوحيدية والدينية والقومية والاشتراكية في تناقضات حادة مع واقع هذه الدول، وفيما تتحدث عن مستقبل زاهر كانت الدولُ تغوصُ في تناقضاتٍ غيرِ محلولة لبناء رأسمالي مشوه أو متناقض غير متكامل.
القطاعات الخاصة التي أنشئت أو كانت موجودة في هذه الدول لا تقدر أن تكون تجاوزاً نضالياً كعادةِ رؤوس الأموال، فهي تنتظرُ النزيفَ الأخيرَ للأنظمة، وعدم قدرتها على الرد الواسع.
كذلك فإن القطاعات الخاصة في أنظمة رأسمالية الدول تكون مريضة مثلها، لم تتح لها قوانين التطور الاقتصادي المجهضة أن تشكل تجارب مستقلة.
الانفجارات الاجتماعية التي حدثت في الحلقات الضعيفة من الرأسماليات الحكومية الشرقية جعلت من الأديان قوة اجتماعية سياسية.
وهذا تعبيرٌ متناقضٌ عن تخلف كبير وعن تقدم طفيف غامض، فالمحبوسون ظهروا من السجون الاجتماعية، معشيي العيون، الآن هم لا يعرفون أين هي سبل التطور والأرضية مضطربة.
حين تتكون كتلة شيوعية قومية في روسيا فهي تواجه التحول الديمقراطي وتصارع التحولات الديمقراطية في العالم الثالث باعتبار ذلك خدمة للغرب، فهي بهذا تعبر عن الهيكل البيروقراطي القومي الذي عاشت باستغلاله، وزوال بقاياه سيعبر عن مشكلات جديدة على العمال خاصة، وعن انتصار للبرجوازية الليبرالية، وتراجع مواقف اليسار الشيوعي واليمين القومي.
سنواتٌ طويلة من الإخلال بقوانين السوق وقيم السلع وتشوه الهياكل الاقتصادية وهدر ثروات كبرى وسحق قوى عاملة بشرية، كل هذه سوف تدفع أثمانها الجماهير وستعمل مجدداً بظروف صعبة وهي التي ثارت وتطلب الرفاه.
كان هذا هو ثمن عدم تطوير اليسار باتجاه الديمقراطية خلال عقود في المعسكر الاشتراكي وفي دول مثل العراق وليبيا واليمن وسوريا.
الجمع بين التطور الاقتصادي والديمقراطية، يقود لاقتصاد السوق وتداول السلطة والحداثة وإيجاد تيارات وطنية تحديثية، وتطوير الإنتاج ونشر مكاسبه على القطاعات الجغرافية المذهبية والدينية والقومية، أي على مختلف جماعات السكان.
وعدم حدوث ذلك يعني تصاعد الايديولوجيات الأخرى المعبرة عن هذه القطاعات والقوى المؤثرة فيها، والتي تعرضت سياداتها العشائرية أو الدينية أو القومية للتقزيم، التي انتظرت الأزمات الاقتصادية الاجتماعية طويلاً، وهي الأزمات التي تنتج من حدوث عجز عميق في تطور الهياكل الاقتصادية الاجتماعية، وهي ذاتها التي استغلتها القوى الثورية السابقة في القفز للحكم، في أشكال من المغامرات في حين تستغلها القوى الدينية المحافظة في أشكال ثورية للمراوحة في الماضي والحاضر وتلمس المستقبل بتجريبية سياسية.
وفيما أن الأفكارَ العصرية المؤدلجةَ المقولبة تُنخرُ وتتحطم تصعدُ الأفكارُ القديمة، من أجل عمليات تحول جديدة ملتبسة بين الشمولية والديمقراطية.
لقد بينت التحولات أهمية الديمقراطية وضرورة تشكيلها أداة للتحول السياسي والتطور الاقتصادي، وفيما خسرت القوى اليسارية الكثير من فاعلياتها بسبب غيابها عن الديمقراطية، تجد العناصر الديمقراطية القليلة فيها صعوبات للتأثير في التحولات العالمية الشرقية خاصة. فيما أن بعض الجماعات الدينية التي وقفت ضد الشموليات تصعد وتؤثر بشكل عالمي.
تغدو مهمات اليسار الديمقراطي كثيرة وكبيرة وأهمها مساعدة القوى الدينية على تلمس طرق التطور في بلدانها، بألا تبقى في دوائر الشمولية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبأن ترى مصائر وتطورات الأمم الإسلامية في بناها الوطنية والقومية، وأن تنزع الأغلفةَ الخارجية عن عمليات الصراعات الاجتماعية والأردية المذهبية المغلقة، وأن تتطلع لتحولات اقتصادية ثورية تنتشل الملايين من وجودهم في اقتصاد الدول البيروقراطي الهامشي البذخي، اقتصاد البطالة المقنعة بل اقتصاد القيادة الصناعية العلمية، وأن يكون اقتصاد السوق يغدو إنتاجاً كذلك، وعمليات التطور الاقتصادية الكبرى التي تقام على أسس ديمقراطية هي التي ستضعف من التقوقع المذهبي والتناحرات القومية والمناطقية وتعيد تشكيل الشعوب على أسس وحدة جديدة.
إن الأشكالَ السياسية من المذاهب ليست تعبيراً عن مقولات فكرية واجتماعية بل هي كذلك تعبير عن أسلوب إنتاج فككَ عرى الناس خلال قرون، وجعل الأمم تتصادم وحلقة الحداثة الشمولية السابقة قامت بقفزات مهمة في جوانب ومضرة في جوانب أخرى، ويُنتظر من الحلقة الجديدة من التطور التأني في دراسة كل نظام ومشكلاته وسبل تغييره بشكل شعبي ديمقراطي واسع النطاق وتكون الحلول والخطط الاقتصادية كذلك شعبية ديمقراطية.
Published on April 07, 2020 07:29


