عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 94
November 2, 2019
♀الملابس والحرية ⇦
ينطلق بعض الشباب في مواجهة الموجات المحافظة ويعارضونها بقوة وحدة، ومن دون امتلاك أدوات البحث العميق. يناقش أحد هؤلاء الأستاذ أحمد عرار هذه الموجة في كل مجال بنشاط كبير، ولكن أدوات المعرفة والتحليل تقصر هنا، يقول حول موضوع الحجاب ما يلي:
"ارتبط الحجاب عبر تاريخه بالنمط السياسي للحكم، فما يسمى بأهل الحل والعقد أو مجلس الشورى في الحكومات الإسلامية السابقة هم من كانوا يسنون القوانين وفق تصوراتهم واجتهاداتهم ويفرضونها على المجتمع، هذه الاجتهادات والتصورات التي لم تكن محل إجماع في أي عصر من العصور، إلا أن الاجتهاد الاصوب والأحق في الاتباع هو للحزب الأكثر غلبة وقوة دائماً حتى ولو كانت حجته وبرهانه ضعيفين، لان العبرة هي بما يحققه الاجتهاد من مصالح سياسية وليس بما يقترب أو يبتعد عن النص القرآني"، (أحمد عرار، موقع نسوي، مدونة خاصة بالفكر النسوي).
لم يرتبط الحجاب بنمط الحكم ولا بأهل الحل والعقد، وتوجد هناك آيتان في القرآن حول الحجاب تعلقتا بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فرضتْ الحجابَ عليهن، بسبب ان مركز حكمه عليه السلام كان بسيطاً متواضعاً، وفيه نساؤه، وكان المسلمون يكثرون القدوم إليه، مما يسبب مشكلات للنساء فيه، ولحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته ومكانة نسائه قننت الآيتان ذلك.
وقد عرفت نساء الشرق خاصةً الأحجبةَ المختلفةَ، التي تـُوضع على الرأس وتغطي الشعر، لأسباب اجتماعية ودينية كثيرة ومعقدة، الأبرزُ فيها ان ذلك جرى بسبب تطور الملابس عامة في الأقاليم الحارة، وظروف الأعمال الحرفية المختلفة، وأوضاع البيوت المحدودة والخيام ووجود التجمعات الكبيرة، والأحجبة لم تقتصر على النساء بل استعملها الرجال كذلك، خاصة في الصحراء والمشاكل التي يسببها الغبار والضوء الحاد وغيرهما من العوامل الطبيعية.
وكانت النساء قد تفاعلن مع الحدث الإسلامي وشاركن فيه منذ جذوره الأولى، وتصاعد دورهن خاصة في زمن الهجرة، حيث توافرت ظروفٌ مختلفة للنساء بين مهاجرات وأنصاريات، وبين مشاركات في القيادة النبوية والراشدة وبين عاديات، وبين مناضلات على رؤوس الجيوش وبين العاملات في البيوت.
وهذا كله أدى إلى تفاعلهن مع الأحداث ومع لغة القرآن وعمليات استفساراتهن لعبت دوراً في تصعيد المجرى النضالي المشترك وقتذاك، وتأسيس دولة شعبية ذات قرارات ديمقراطية في تلك الظروف الأولية.
أما تعميم الحجاب على النساء بشكل ديني، فهو أمر سياسي تشكل مع انهيار الدولة الشعبية تلك، وظهور الارستقراطية الحاكمة، ومعها الرجال البارزون المسيطرون على المنافع الكبرى وبسبب تدفق الجواري والإماء مع حروب الفتوح عليهم، وهم الذين وسعوا القيود على النساء، وفسروا الآيات القرآنية كما يهوون.
وكانت الكثير من الأحكام التأسيسية في الزمن الأول مرتبطة بضرورات تشكيل الدولة الأولى وظروفها الصراعية مع قوى كثيرة حولها وداخلها، وتصعيدها لهدف بناء المجتمع الحر والمتطور، وعلى ذلك نقيس العديد من تلك الأحكام. فهل يؤدي أي حكم إلى تطور جماعة العرب والمسلمين تطورا تحديثيا كما جرى أم أنه يؤدي إلى منافع فئة خاصة وتخلف المجتمع بشكل عام؟
وصحيح القول: إن الحزب الذكوري كان هو الأقوى، وقد برز في الحكم السياسي العام، وفي السيطرة على البيوت، والتحكم في طبيعة التربية، جاعلاً أنانياته وتخلفه محل تضحيات السلف، وهي التي أدت إلى تدهور المجتمعات الإسلامية وتخلفها الاقتصادي وسيرورتها مادة لسيطرة المجتمعات المتقدمة المتوسعة.
أما أن يكون الحجاب (غطاء الرأس) نتيجة للتطورات السياسية في إيران والسعودية، فقد كان من الإيجابي مشاركة النساء بتوسع في الأحداث التحولية الحديثة، وكانت جذور هذه الموجات هذه بدوية وقروية، وهذا هو الشائع من اللباس فيها لأسباب اجتماعية، أما نساء المدن في زمن التغييرات التحديثية الليبرالية، فكن زوجات تجار كبار ومتعلمات ذهبن للجامعات، فأعطى مستوى الحركة لباساً مختلفاً للقيادة فحسب، أما النساء العاديات فظللن في ملابسهن البسيطة المخاطة في الحواري بأثمانها الرخيصة.
إن اللباس لا علاقة له بالعقل وبالرؤى الفكرية والمواقف السياسية. وحركة الحداثة للنساء والرجال مرتبطة بالصناعات الثقيلة والخفيفة، ومستويات تغلغلها في البُنى الاجتماعية، ومدى جذبها للسكان ومستويات تطورها، فذلك يغير طبيعة الثقافة عبر ملاءمتها لهذا الإنتاج وتكييفها للتقاليد المتعلقة بكل شعب، وثيابه وطبيعة خصوصياته.
واللباس الغربي يظل مرتبطاً بإنتاج آخر في ظروف مغايرة، ونحن نقوم بالتحديث غير العميق حتى الآن، ومن سوف يصنع ويغير البُنى الاقتصادية سوف يفصل ملابسنا الخاصة، وأزياءنا، وسوف تفرض القوى المسيطرة التصنيعية طبيعة هذه الملابس، وتعربُ الحشودَ من الأزياء والكرنفال الجامع لملابس العصور الوسطى والحداثة الغربية المعتدلة والمتطرفة والأزياء الهندية وغيرها، وهذا رهن بتطور صناعة الملابس العربية كذلك ومواقف النساء من كل هذا، ومدى ملاءمتها للعمل والحياة.
"ارتبط الحجاب عبر تاريخه بالنمط السياسي للحكم، فما يسمى بأهل الحل والعقد أو مجلس الشورى في الحكومات الإسلامية السابقة هم من كانوا يسنون القوانين وفق تصوراتهم واجتهاداتهم ويفرضونها على المجتمع، هذه الاجتهادات والتصورات التي لم تكن محل إجماع في أي عصر من العصور، إلا أن الاجتهاد الاصوب والأحق في الاتباع هو للحزب الأكثر غلبة وقوة دائماً حتى ولو كانت حجته وبرهانه ضعيفين، لان العبرة هي بما يحققه الاجتهاد من مصالح سياسية وليس بما يقترب أو يبتعد عن النص القرآني"، (أحمد عرار، موقع نسوي، مدونة خاصة بالفكر النسوي).
لم يرتبط الحجاب بنمط الحكم ولا بأهل الحل والعقد، وتوجد هناك آيتان في القرآن حول الحجاب تعلقتا بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فرضتْ الحجابَ عليهن، بسبب ان مركز حكمه عليه السلام كان بسيطاً متواضعاً، وفيه نساؤه، وكان المسلمون يكثرون القدوم إليه، مما يسبب مشكلات للنساء فيه، ولحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته ومكانة نسائه قننت الآيتان ذلك.
وقد عرفت نساء الشرق خاصةً الأحجبةَ المختلفةَ، التي تـُوضع على الرأس وتغطي الشعر، لأسباب اجتماعية ودينية كثيرة ومعقدة، الأبرزُ فيها ان ذلك جرى بسبب تطور الملابس عامة في الأقاليم الحارة، وظروف الأعمال الحرفية المختلفة، وأوضاع البيوت المحدودة والخيام ووجود التجمعات الكبيرة، والأحجبة لم تقتصر على النساء بل استعملها الرجال كذلك، خاصة في الصحراء والمشاكل التي يسببها الغبار والضوء الحاد وغيرهما من العوامل الطبيعية.
وكانت النساء قد تفاعلن مع الحدث الإسلامي وشاركن فيه منذ جذوره الأولى، وتصاعد دورهن خاصة في زمن الهجرة، حيث توافرت ظروفٌ مختلفة للنساء بين مهاجرات وأنصاريات، وبين مشاركات في القيادة النبوية والراشدة وبين عاديات، وبين مناضلات على رؤوس الجيوش وبين العاملات في البيوت.
وهذا كله أدى إلى تفاعلهن مع الأحداث ومع لغة القرآن وعمليات استفساراتهن لعبت دوراً في تصعيد المجرى النضالي المشترك وقتذاك، وتأسيس دولة شعبية ذات قرارات ديمقراطية في تلك الظروف الأولية.
أما تعميم الحجاب على النساء بشكل ديني، فهو أمر سياسي تشكل مع انهيار الدولة الشعبية تلك، وظهور الارستقراطية الحاكمة، ومعها الرجال البارزون المسيطرون على المنافع الكبرى وبسبب تدفق الجواري والإماء مع حروب الفتوح عليهم، وهم الذين وسعوا القيود على النساء، وفسروا الآيات القرآنية كما يهوون.
وكانت الكثير من الأحكام التأسيسية في الزمن الأول مرتبطة بضرورات تشكيل الدولة الأولى وظروفها الصراعية مع قوى كثيرة حولها وداخلها، وتصعيدها لهدف بناء المجتمع الحر والمتطور، وعلى ذلك نقيس العديد من تلك الأحكام. فهل يؤدي أي حكم إلى تطور جماعة العرب والمسلمين تطورا تحديثيا كما جرى أم أنه يؤدي إلى منافع فئة خاصة وتخلف المجتمع بشكل عام؟
وصحيح القول: إن الحزب الذكوري كان هو الأقوى، وقد برز في الحكم السياسي العام، وفي السيطرة على البيوت، والتحكم في طبيعة التربية، جاعلاً أنانياته وتخلفه محل تضحيات السلف، وهي التي أدت إلى تدهور المجتمعات الإسلامية وتخلفها الاقتصادي وسيرورتها مادة لسيطرة المجتمعات المتقدمة المتوسعة.
أما أن يكون الحجاب (غطاء الرأس) نتيجة للتطورات السياسية في إيران والسعودية، فقد كان من الإيجابي مشاركة النساء بتوسع في الأحداث التحولية الحديثة، وكانت جذور هذه الموجات هذه بدوية وقروية، وهذا هو الشائع من اللباس فيها لأسباب اجتماعية، أما نساء المدن في زمن التغييرات التحديثية الليبرالية، فكن زوجات تجار كبار ومتعلمات ذهبن للجامعات، فأعطى مستوى الحركة لباساً مختلفاً للقيادة فحسب، أما النساء العاديات فظللن في ملابسهن البسيطة المخاطة في الحواري بأثمانها الرخيصة.
إن اللباس لا علاقة له بالعقل وبالرؤى الفكرية والمواقف السياسية. وحركة الحداثة للنساء والرجال مرتبطة بالصناعات الثقيلة والخفيفة، ومستويات تغلغلها في البُنى الاجتماعية، ومدى جذبها للسكان ومستويات تطورها، فذلك يغير طبيعة الثقافة عبر ملاءمتها لهذا الإنتاج وتكييفها للتقاليد المتعلقة بكل شعب، وثيابه وطبيعة خصوصياته.
واللباس الغربي يظل مرتبطاً بإنتاج آخر في ظروف مغايرة، ونحن نقوم بالتحديث غير العميق حتى الآن، ومن سوف يصنع ويغير البُنى الاقتصادية سوف يفصل ملابسنا الخاصة، وأزياءنا، وسوف تفرض القوى المسيطرة التصنيعية طبيعة هذه الملابس، وتعربُ الحشودَ من الأزياء والكرنفال الجامع لملابس العصور الوسطى والحداثة الغربية المعتدلة والمتطرفة والأزياء الهندية وغيرها، وهذا رهن بتطور صناعة الملابس العربية كذلك ومواقف النساء من كل هذا، ومدى ملاءمتها للعمل والحياة.
Published on November 02, 2019 11:38
•
Tags:
الملابس-والحرية
♀تعدد الزوجات والحرية ⇦
نشأ الفقه الإسلامي في زمن نهضوي ولكنه محدود بمهمات قيادة العرب للتحول السياسي والاجتماعي الكبير في المنطقة، فكانت قيادة الإسلام لتحولهم الحضاري من داخل ظروفهم البدوية المتخلفة، مسألة شائكة وصعبة، ومع هذا تم إنجاز الكثير في هذه العملية المركبة.
ولهذا نجد العلاقة المحورية بين الرجل والمرأة وهما قطبا العملية التاريخية، تتلون بهذه الظروف التحولية الصعبة والملحمية كذلك، فجاء تقنين هذه العلاقة في الزواج، وفي ظروف سيادة الرجال المطلقة، والرجال هم قادة ومادة التحول السياسي والعسكري والاقتصادي، وحاول الإسلام تقنين هذه العلاقة في ضوء مشروعه لتحرير المنطقة من القوى الأجنبية، وفي ظل محدودية أعداد العرب قياساً بإعداد الأمم التي ستحكم أو التي حكمت فيما بعد.
من هنا كان لابد من أخذ جانبين: الأول هيمنة القبائل العربية في عملية التغيير هذه، والثاني هو التقليل من الطابع المطلق لسيطرة الرجال في الجاهلية، ولكن مع ضرورة تكاثر العرب السلالي لحكم هذه المنطقة الشاسعة.
فنرى أن التقنين هنا يعكس المهمات التحولية للعرب، وأنماط الزواج ترتبط بهذه الضرورة التاريخية، فأدركت مدارس الفقه الاجتهادي هذه الضرورة وإن كان الأمر بشكل حدسي.
أي أنها لم تقنن العلاقة بين الرجل والمرأة، في علاقتهما الزوجية، بشكل فكري وفقهي واضح، بأن هذه العلاقة يجب أن تخدم تطور الأمة وتحررها، وأنها ليست علاقة شهوات محضة، وإنها ليست إنتاجاً للأطفال من دون رؤية مصالح الأمة.
عبر استخلاص هذه العلة المحورية، وهي علة تنطبق على العديد من التشريعات الدينية الأخرى، يمكننا أن نضع مسألة تعدد الزوجات في مثل هذا الإطار، فهل هذه العلاقة تصبُ في خدمة تطور الجماعة، أم هي عائق لتطورهم، وقراءة مثل هذه العلاقة مرتبطة بالظروف التاريخية التي تمرُ بها الجماعة، فإذا كانت خارجة من حرب فُقد فيها الكثير من الرجال، هي غير حالتها وهي في حالة سلم وهناك كثافة للرجال، حالتها كما هي حالتها الآن كثيرة الأعداد، قليلة الخدمات، تنتجُ من الأطفال زيادة عن الحاجة، ويقود هذا الإنتاج الزائد للأطفال إلى الكثير من التخلف لهم، وإلى تخلف الأمة أو الشعب، الذي تحدث فيه مثل هذه الظاهرة.
فيغدو التشدد على تعدد الزوجات في بلد كثيف السكان غيره في بلد محدود السكان. فيجب أن لا نأخذ القضية خارج ظروف الزمان والمكان، ونصيغ حكماً جاهزاً يطبق على كل الحالات، فحتى في ظل الأوضاع الأسرية و الفردية المختلفة تظهر أحكام مختلفة وتظهر حالات خاصة.
لكن إنتاج عائلة عربية محدودة الأفراد صار قضية متعلقة بالتقدم، حيث تغدو مثل هذه العائلة هي اللبنة التي يمكن عبرها أن تتشكل جماعة أقوى، فالتركيز على النوعية وليس على الكم سواء في الزوجات أو فى الأطفال.
إن فقهاً يستخلص العلل التحررية والنهضوية لتقدم المسلمين الأوائل لا بد أن يطبقها على ظروف جديدة مختلفة، من أجل أن لا تكون العملية الفقهية نتاج المشابهات الخارجية، أو أن تُجعل النصوص هي التي يجب أن يخدمها البشر بدلاً من أن تكون العملية معاكسة، فيزدهر فهم النصوص واحترامها.
ومن هنا فإن كل قاض اجتهادي سوف يأخذ روح النصوص والأحكام السابقة، ويرى مدى ضرر أو نفع التعددية الزوجية، وهل هي نتاج عوامل ذاتية أنانية أم هي لضرورات حقيقية ؟
والفقه الاجتهادي سوف يأخذ وضع البلد السياسي والاقتصادي إذا أراد أن يصيغ أحكاماً عامة، أو قوانين ملزمة تعلو على الأشخاص وتحكمهم، تراعي تطور الرجال والنساء، لتشكيل علاقة صحية تقوي تقدم الناس.
ولهذا نجد العلاقة المحورية بين الرجل والمرأة وهما قطبا العملية التاريخية، تتلون بهذه الظروف التحولية الصعبة والملحمية كذلك، فجاء تقنين هذه العلاقة في الزواج، وفي ظروف سيادة الرجال المطلقة، والرجال هم قادة ومادة التحول السياسي والعسكري والاقتصادي، وحاول الإسلام تقنين هذه العلاقة في ضوء مشروعه لتحرير المنطقة من القوى الأجنبية، وفي ظل محدودية أعداد العرب قياساً بإعداد الأمم التي ستحكم أو التي حكمت فيما بعد.
من هنا كان لابد من أخذ جانبين: الأول هيمنة القبائل العربية في عملية التغيير هذه، والثاني هو التقليل من الطابع المطلق لسيطرة الرجال في الجاهلية، ولكن مع ضرورة تكاثر العرب السلالي لحكم هذه المنطقة الشاسعة.
فنرى أن التقنين هنا يعكس المهمات التحولية للعرب، وأنماط الزواج ترتبط بهذه الضرورة التاريخية، فأدركت مدارس الفقه الاجتهادي هذه الضرورة وإن كان الأمر بشكل حدسي.
أي أنها لم تقنن العلاقة بين الرجل والمرأة، في علاقتهما الزوجية، بشكل فكري وفقهي واضح، بأن هذه العلاقة يجب أن تخدم تطور الأمة وتحررها، وأنها ليست علاقة شهوات محضة، وإنها ليست إنتاجاً للأطفال من دون رؤية مصالح الأمة.
عبر استخلاص هذه العلة المحورية، وهي علة تنطبق على العديد من التشريعات الدينية الأخرى، يمكننا أن نضع مسألة تعدد الزوجات في مثل هذا الإطار، فهل هذه العلاقة تصبُ في خدمة تطور الجماعة، أم هي عائق لتطورهم، وقراءة مثل هذه العلاقة مرتبطة بالظروف التاريخية التي تمرُ بها الجماعة، فإذا كانت خارجة من حرب فُقد فيها الكثير من الرجال، هي غير حالتها وهي في حالة سلم وهناك كثافة للرجال، حالتها كما هي حالتها الآن كثيرة الأعداد، قليلة الخدمات، تنتجُ من الأطفال زيادة عن الحاجة، ويقود هذا الإنتاج الزائد للأطفال إلى الكثير من التخلف لهم، وإلى تخلف الأمة أو الشعب، الذي تحدث فيه مثل هذه الظاهرة.
فيغدو التشدد على تعدد الزوجات في بلد كثيف السكان غيره في بلد محدود السكان. فيجب أن لا نأخذ القضية خارج ظروف الزمان والمكان، ونصيغ حكماً جاهزاً يطبق على كل الحالات، فحتى في ظل الأوضاع الأسرية و الفردية المختلفة تظهر أحكام مختلفة وتظهر حالات خاصة.
لكن إنتاج عائلة عربية محدودة الأفراد صار قضية متعلقة بالتقدم، حيث تغدو مثل هذه العائلة هي اللبنة التي يمكن عبرها أن تتشكل جماعة أقوى، فالتركيز على النوعية وليس على الكم سواء في الزوجات أو فى الأطفال.
إن فقهاً يستخلص العلل التحررية والنهضوية لتقدم المسلمين الأوائل لا بد أن يطبقها على ظروف جديدة مختلفة، من أجل أن لا تكون العملية الفقهية نتاج المشابهات الخارجية، أو أن تُجعل النصوص هي التي يجب أن يخدمها البشر بدلاً من أن تكون العملية معاكسة، فيزدهر فهم النصوص واحترامها.
ومن هنا فإن كل قاض اجتهادي سوف يأخذ روح النصوص والأحكام السابقة، ويرى مدى ضرر أو نفع التعددية الزوجية، وهل هي نتاج عوامل ذاتية أنانية أم هي لضرورات حقيقية ؟
والفقه الاجتهادي سوف يأخذ وضع البلد السياسي والاقتصادي إذا أراد أن يصيغ أحكاماً عامة، أو قوانين ملزمة تعلو على الأشخاص وتحكمهم، تراعي تطور الرجال والنساء، لتشكيل علاقة صحية تقوي تقدم الناس.
Published on November 02, 2019 11:37
•
Tags:
تعدد-الزوجات-والحرية
♀الحجاب والصناعة ⇦
ككل الظواهر التي شكلها الاستعمار وهو يقتحم البُنى الشرقية العربية وغيرها، قام الاستعمار على استمرارية الاضطهاد والتخلف القديم، فصار الاستعمار هو ذاته جزءاً من التركيبة المحافظة.
وفي التداخل بين الإقطاع والاستعمار الغربي هناك الظواهر المشتركة لاستغلال المنتجين، عمالاً كانوا أو نساءً أو فلاحين. ومن هنا تشكلت الإيديولوجية المشتركة المحافظة بين الجانبين، ولهذا فإن إدخال النساء ككتل واسعة في ميدان الأنتاج الحديث وخاصة الصناعي منه، كان مستحيلاً، لكون الاستعمار يعمل على تغييب الصناعة ككل.
لقد أمكن للمرأة الغربية أن تتحرر عبر الثورة الصناعية والعلمية فقط، فليس بالشعارات تتحرر المرأة.
وبهذا فإن النساء العربيات وجدن أنفسهن في ذات الدهاليز الضيقة لمجرى التحول العربي المحدود، وحين قامت الدول الوطنية القومية التحررية، فقد اعتمدت على القطاع العام التابع لسيطرتها السياسية، الذكورية، والبيروقراطية، وبهذا فقد حيل بين المرأة والصناعة مرة أخرى، وبين النساء والحداثة العميقة، وواصلت الدولة المذهبية التقليدية مسيرتها .
وقد صار عمل المرأة مركزاً عبر هذا التطور في مجالات الخدمات الحكومية وهو مجال لا يتيح لحرية جذرية، وحين تدفق النفط في المنطقة العربية في المناطق الأقل تطوراً، وذات الإرث الرعوي والقروي، تم استخدام عمالة أجنبية غير عربية، أو تشكلت صناعات استخراجية، بحيث كان تأثير الصناعة التحويلية هامشياً .
فواصلت الأنظمة المستقلة مسار الحياة التقليدية، وازدادت المحافظة مع تدهور الحياة الفكرية والسياسية في الأنظمة الجمهورية، ولهذا واصلت القوى التقليدية والبيروقراطية التحكم في الجمهور، وقد أتاحت الدخول المرتفعة وتدهور المدن العربية عبر التدفق القروي المستمر، تراجع عمليات التحديث، وإذا كانت الجمهوريات قد شهدت تدهورا، عائدة إلى أنظمة ملكية مطلقة، فإن الأنظمة الملكية أصيبت بالأزمة التي أرادت تسويقها للأنظمة الجمهورية.
وهكذا فعبر بعض التقاليد البسيطة الدينية فإن القوى المحافظة تنمو في سياق اقتصادي مأزوم، لم يتح لصناعة حرة أن تنتشر، وقامت القطاعات العامة بتدمير الثروة العامة التي جمعت خلال قرن.
يقوم المحافظون ومسئولو الأنظمة العربية والإسلامية الفاشلة بتحميل القدر أو الاستعمار أو الفساد الأخلاقي أو النساء، مسئولية فشل سياسة اقتصادية واجتماعية، ولا توجد من حلول لديهم سوى استغلال بعض المظاهر الدينية والإبقاء على الفساد السياسي.
ولم يكتف هؤلاء بتسويق الأزمة للأنظمة الجمهورية العربية وتخريب التطور العربي العام، بل يريدون تخريب التطور في الأنظمة الغربية كذلك، وهي التي فتحت ذراعيها لملايين فرت من
الفقر والاستغلال المتخلف والأزمات الاقتصادية في العالم العربي .
وهكذا يظهرون أنفسهم كحماة الفضيلة، وكأن الفضيلة هي مجرد غطاء على الرأس في حين يتركون العائلات الفقيرة والملايين يبيعون أنفسهم في الداخل و الخارج.
لم توجد قوة عربية سياسية حديثة وحرة، أي قوة تحويلية جذرية مرتبطة بالصناعة وتطورها، سواء من المالكين أو العاملين، فالمالكون الرأسماليون تأتي أغلب رساميلهم من العلاقات بالدول، في حين تأتي أغلب أجور العمال من العمل في المؤسسات التي تملكها الدول، مما جعل الطبقتين الحديثتين اللتين تحملان بذور النظام الحديث، تابعتين لقوى غير حديثة .
وهذا انعكس بدوره على مستوى حريات المرأة، فالحرية الشكلية أو العبودية الفجة تصنع من قبل الرجال، أحياناً بأشكال حداثية شكلية وأحيان بأشكال مذهبية تقليدية معادية لتطور الأمة.
لكن الحرية لا تُعطى فإذا أعطيت تغدو مسوخاً، وذلك لغياب إرادة المرأة الصانعة، فهي تصنع الأطفال لكن الأنظمة تحولهم ضدها، وحين لا تستطيع أن تصنع السلع التي عبرها تقحم إرادتها في التطور والحياة السياسية كجماعة واسعة، كطبقة، فإنها لا تستطيع أن تخلق حريتها.
وفي التداخل بين الإقطاع والاستعمار الغربي هناك الظواهر المشتركة لاستغلال المنتجين، عمالاً كانوا أو نساءً أو فلاحين. ومن هنا تشكلت الإيديولوجية المشتركة المحافظة بين الجانبين، ولهذا فإن إدخال النساء ككتل واسعة في ميدان الأنتاج الحديث وخاصة الصناعي منه، كان مستحيلاً، لكون الاستعمار يعمل على تغييب الصناعة ككل.
لقد أمكن للمرأة الغربية أن تتحرر عبر الثورة الصناعية والعلمية فقط، فليس بالشعارات تتحرر المرأة.
وبهذا فإن النساء العربيات وجدن أنفسهن في ذات الدهاليز الضيقة لمجرى التحول العربي المحدود، وحين قامت الدول الوطنية القومية التحررية، فقد اعتمدت على القطاع العام التابع لسيطرتها السياسية، الذكورية، والبيروقراطية، وبهذا فقد حيل بين المرأة والصناعة مرة أخرى، وبين النساء والحداثة العميقة، وواصلت الدولة المذهبية التقليدية مسيرتها .
وقد صار عمل المرأة مركزاً عبر هذا التطور في مجالات الخدمات الحكومية وهو مجال لا يتيح لحرية جذرية، وحين تدفق النفط في المنطقة العربية في المناطق الأقل تطوراً، وذات الإرث الرعوي والقروي، تم استخدام عمالة أجنبية غير عربية، أو تشكلت صناعات استخراجية، بحيث كان تأثير الصناعة التحويلية هامشياً .
فواصلت الأنظمة المستقلة مسار الحياة التقليدية، وازدادت المحافظة مع تدهور الحياة الفكرية والسياسية في الأنظمة الجمهورية، ولهذا واصلت القوى التقليدية والبيروقراطية التحكم في الجمهور، وقد أتاحت الدخول المرتفعة وتدهور المدن العربية عبر التدفق القروي المستمر، تراجع عمليات التحديث، وإذا كانت الجمهوريات قد شهدت تدهورا، عائدة إلى أنظمة ملكية مطلقة، فإن الأنظمة الملكية أصيبت بالأزمة التي أرادت تسويقها للأنظمة الجمهورية.
وهكذا فعبر بعض التقاليد البسيطة الدينية فإن القوى المحافظة تنمو في سياق اقتصادي مأزوم، لم يتح لصناعة حرة أن تنتشر، وقامت القطاعات العامة بتدمير الثروة العامة التي جمعت خلال قرن.
يقوم المحافظون ومسئولو الأنظمة العربية والإسلامية الفاشلة بتحميل القدر أو الاستعمار أو الفساد الأخلاقي أو النساء، مسئولية فشل سياسة اقتصادية واجتماعية، ولا توجد من حلول لديهم سوى استغلال بعض المظاهر الدينية والإبقاء على الفساد السياسي.
ولم يكتف هؤلاء بتسويق الأزمة للأنظمة الجمهورية العربية وتخريب التطور العربي العام، بل يريدون تخريب التطور في الأنظمة الغربية كذلك، وهي التي فتحت ذراعيها لملايين فرت من
الفقر والاستغلال المتخلف والأزمات الاقتصادية في العالم العربي .
وهكذا يظهرون أنفسهم كحماة الفضيلة، وكأن الفضيلة هي مجرد غطاء على الرأس في حين يتركون العائلات الفقيرة والملايين يبيعون أنفسهم في الداخل و الخارج.
لم توجد قوة عربية سياسية حديثة وحرة، أي قوة تحويلية جذرية مرتبطة بالصناعة وتطورها، سواء من المالكين أو العاملين، فالمالكون الرأسماليون تأتي أغلب رساميلهم من العلاقات بالدول، في حين تأتي أغلب أجور العمال من العمل في المؤسسات التي تملكها الدول، مما جعل الطبقتين الحديثتين اللتين تحملان بذور النظام الحديث، تابعتين لقوى غير حديثة .
وهذا انعكس بدوره على مستوى حريات المرأة، فالحرية الشكلية أو العبودية الفجة تصنع من قبل الرجال، أحياناً بأشكال حداثية شكلية وأحيان بأشكال مذهبية تقليدية معادية لتطور الأمة.
لكن الحرية لا تُعطى فإذا أعطيت تغدو مسوخاً، وذلك لغياب إرادة المرأة الصانعة، فهي تصنع الأطفال لكن الأنظمة تحولهم ضدها، وحين لا تستطيع أن تصنع السلع التي عبرها تقحم إرادتها في التطور والحياة السياسية كجماعة واسعة، كطبقة، فإنها لا تستطيع أن تخلق حريتها.
Published on November 02, 2019 11:37
•
Tags:
الحجاب-والصناعة
♀النبوة وعظمة المرأة ⇦
عبّر تاريخ الإسلام التأسيسي عن العلاقات الريادية العظيمة بين الجنسين، جنس الذكور والإناث.
في لحظاتِ الحدس والتبصر بتشكيلِ الثورة الإسلامية اجتمعت ثلاثُ شخصياتٍ مكونة أولَ خليةٍ لتفجير تلك الثورة في ظروفِ العسرِ والتخلف، الشخصية الأولى هي شخصية نبي الإسلام قائد تلك الثورة، والثانية هي ورقة بن نوفل، والثالثة هي السيدة خديجة.
النبي الشاب هو متلقٍ ومستمعٍ ومدعومٍ من تلك الشخصيتين، ورقة يقدمُ معلومات وأرشيفاً لما أحدثهُ الأنبياءُ السابقون من تغيير لمجتمعاتهم، وخديجة تقدمُ الاشتراكَ المالي والدعم الاقتصادي.
لا شك أن السيدة خديجة هي مجمعة الجانبين، ورقة والنبي، وصانعة لتلاقحهما الفكري، الذي لعبَ دورَ المفجر للعملية التاريخية الهائلة فيما بعد للجزيرة العربية والمنطقة والعالم.
كان ثمة فارقٌ كبيرٌ في العمر بين خديجة والنبي، وقد عرضت السيدة الثرية إقتراحاً على النبي بأن يتزوجها، ضاربة العلاقات المالية والاجتماعية عرض الحائط، في خطوة غريبة تسبقُ الزمانَ والمكان!
لماذا لم يقمْ نبي الإسلام بالأعراض عن مثل هذه المرأة الكهلة، هل كان طامعاً في مالها؟
هل كان عارفاً بشكل إستباقي لفقر دعوته وضرورة المال لها؟
لم يكن ذلك كله، بل كان يتوجه لكشف وتطوير العناصر الإيجابية الفاعلة في كلا الشخصيتين، في ورقة تحريك معرفته وسجلاته عن تارخ الأديان – الثورات السابقة، ومع خديجة كان ثمة جوانب أكبر شخصية وعامة متداخلة بشكلٍ حميم؛ وأهمها تطوير الرسالة المشتركة لكلا الشخصيتين: تفجير الثورة في بلاد العرب الغافية المتخلفة!
تم إلغاء الفوارق العمرية والجنسية والمالية، لم يعدْ مهماً أن تكون شاباً فقيراً فتياً، أو إمرأة متزوجة سابقاً وذات عيال، في هذه اللحظة النضالية العليا الخادمة للأمة والناس والتاريخ وكان المهم هو تشكيل هذه الخلية القائدة التي تجري فيها المساواة بين الرجل والمرأة، ومن ثم تجابه عالم التفكك والتبعية باقتدار وأنتصار.
إذا حاولنا أن ننظر بمنظار غير ذكوري متجمد سنجد أنها تجربة فريدة في تاريخ الثورات، فحتى في عصرنا الراهن كان وجود النساء في المكاتب السياسية الحزبية القائدة للتحولات معدوماً، ومُنكـَّراً ومرفوضاً، وكانت حتى عشيقات القادة والأمناء العامين للأحزاب متواريات، وملغيات من تاريخهم، وكأن ليس ثمة دور للنساء قيادي ورمزي!
لكن في تاريخ الثورة الإسلامية التأسيسية سيبقى مكان السيدة خديجة محفوظاً ومقدراً. في تلك الظروف من البداوة والذكورية الساحقة!
فيما بعد سيدلي نبيُّ الإسلام بشهادتهِ الموضوعية عنها، وفي لحظةٍ من سيادته السياسية والفكرية وبعد أن رحلت تلك الزوجة: بأنها دعمته إذا تخلى الناس وحتى الأهل عنه، وأنها أطاعته وأحبته وآمنت به الخ..
وحين كان يحدث ذلك الإنكار والتخلي من أقرب المقربين للمثل العليا المطروحة، وتقوم امرأة غنية بتوزيع ونثر أموالها على زوجها المحاصر المجاهد الفقير، فأية مكانة؟
ويضيف نبي الإسلام في شهادته حين غيب الثرى السيدة خديجة، ولم يعد طامعاً لا في مالها ولا في شد أزره، بأنها كانت الولودُ من بينِ كلِ نسائه!
ليس هذا تعييراً للنساء بأنه لم يكن ولودات فبعض زوجاته أنجبن، ولكن دلالة المسألة هنا بأنها كانت ولودة مشغولة بالحمل والرضاع والتنشئة، وكذلك لم تفارق مهمات الحركة النضالية من دعم مالي ومن مساندة نفسية ومن دعوة، فجمعت أعباءً ثقيلة وهي في كل هذا العمر المتقدم، وأحسنت تنشئة أبنائها وكذلك الصبي، الإمام فيما بعد، علي بن أبي طالب الذي كان له بعد ذلك التاريخ المعروف في الإسلام، وأبنتها السيدة فاطمة ومن سلالتها كان نضال الأئمة.
ولهذا فإن عملية التصغير من المرأة ومن مكانتها هي جزء من التاريخ الاجتماعي التالي، حين هيمنت القوى الاستغلالية ورفعت أشكالاً وأعراضاً من الإسلام، مفرغة من ذلك المضمون، إستناداً لسيطرتيها الذكورية والحكومية الاستغلاليتين.
وبهذا فإن علاقة نبي الإسلام بالمرأة نموذجية، وهي التي يجب أن نراها في عمليات التمثل والتقنين، وهي بهذا علاقة لم تقنن تشريعياً وقرآنياً لأسباب أن الحركة السياسية لها قوانين موضوعية لا بد من مراعاتها في كل مرحلة.
إن العلاقة الديمقراطية الإنسانية في العائلة المحمدية، لم تكن بقادرة على أن تصل للتشريع العام، فالدائرة العامة تخضع لمسارات مختلفة، بسبب حضور الرجال المكثف وسيطرتهم على الأوضاع، ولم تكن علاقة المساواة بين النبي والنساء، قادرة على أن تتحول إلى قانون في ظل ذلك التخلف العام.
وكانت قد عرضتْ المسيحية نموذجَها على العرب وحاولت إختراق نسيجهم القبلي الذكوري الجامد دون فائدة بسبب طرحها شكلاً للعائلة لم يكن العرب وقتذاك قادرين على إستيعابه!
وفيما بعد كرس المحافظون الجانب العام المرحلي، دون أن يراعوا النموذج المحمدي الأسري. وقد عبر القرآن عن علاقات الصراع بين النساء المجددات والرجال المحافظين الذين كانوا يريدون استمرار نموذج الجاهلية في الزواج ونتائجه، فتم الاعتراض عليه في ظل سيادتهم، وازدادت هذه السيادة مع الفتوح وسيطرة الأسر على أموال المسلمين!
وكانت السيدة خديجة نموذجاً شبه جاهز وطليعي في ذلك المجتمع، لكن ماذا نقول عن مثال السيدتين فاطمة وعائشة؟ لماذا فجر نبي الإسلام فيهما طاقات التحول، خاصة السيدة عائشة الزوجة الصغيرة من بين زوجات، لماذا صارت مرجعاً للشعر وتاريخ الإسلام والفقه؟
وفي تلك المهام الكبرى للنبي حصلت هذه الزوجة على كل هذه التطورات الفكرية ولم تـُعزل عن الثقافة والسياسة، ثم شاركت في صراعات سياسية كبرى، ومهما كانت إجتهاداتها التي كان للقادة الكبار رأي آخر فيها.
ثمة رافدان في نشأة الإسلام التأسيسي؛ رافد الديمقراطية الشعبية بما يحتوي على تشكيل دولة جمهورية ديمقراطية، وتعاون بين الرجال والنساء، وتوزيع الفائض المالي على الفقراء، وهو الرافد المؤسس الذي تجسد خلال نصف قرن، ومثل الرمزية الإسلامية الحقيقية الباقية، وهناك الرافد الآخر رافد الهيمنة الذكورية والإستغلالين الحكومي الأسري والخاص، والتوسع في السيطرة على النساء وإستغلالهن وإستغلال العامة، وقد وظف هذا الرافد بعض النصوص ليؤكد سيطرته الأبدية على النساء والناس معرضاً عن رمزية الأسرة المحمدية ودلالاتها وهي المؤسسة لذلك التاريخ!
في لحظاتِ الحدس والتبصر بتشكيلِ الثورة الإسلامية اجتمعت ثلاثُ شخصياتٍ مكونة أولَ خليةٍ لتفجير تلك الثورة في ظروفِ العسرِ والتخلف، الشخصية الأولى هي شخصية نبي الإسلام قائد تلك الثورة، والثانية هي ورقة بن نوفل، والثالثة هي السيدة خديجة.
النبي الشاب هو متلقٍ ومستمعٍ ومدعومٍ من تلك الشخصيتين، ورقة يقدمُ معلومات وأرشيفاً لما أحدثهُ الأنبياءُ السابقون من تغيير لمجتمعاتهم، وخديجة تقدمُ الاشتراكَ المالي والدعم الاقتصادي.
لا شك أن السيدة خديجة هي مجمعة الجانبين، ورقة والنبي، وصانعة لتلاقحهما الفكري، الذي لعبَ دورَ المفجر للعملية التاريخية الهائلة فيما بعد للجزيرة العربية والمنطقة والعالم.
كان ثمة فارقٌ كبيرٌ في العمر بين خديجة والنبي، وقد عرضت السيدة الثرية إقتراحاً على النبي بأن يتزوجها، ضاربة العلاقات المالية والاجتماعية عرض الحائط، في خطوة غريبة تسبقُ الزمانَ والمكان!
لماذا لم يقمْ نبي الإسلام بالأعراض عن مثل هذه المرأة الكهلة، هل كان طامعاً في مالها؟
هل كان عارفاً بشكل إستباقي لفقر دعوته وضرورة المال لها؟
لم يكن ذلك كله، بل كان يتوجه لكشف وتطوير العناصر الإيجابية الفاعلة في كلا الشخصيتين، في ورقة تحريك معرفته وسجلاته عن تارخ الأديان – الثورات السابقة، ومع خديجة كان ثمة جوانب أكبر شخصية وعامة متداخلة بشكلٍ حميم؛ وأهمها تطوير الرسالة المشتركة لكلا الشخصيتين: تفجير الثورة في بلاد العرب الغافية المتخلفة!
تم إلغاء الفوارق العمرية والجنسية والمالية، لم يعدْ مهماً أن تكون شاباً فقيراً فتياً، أو إمرأة متزوجة سابقاً وذات عيال، في هذه اللحظة النضالية العليا الخادمة للأمة والناس والتاريخ وكان المهم هو تشكيل هذه الخلية القائدة التي تجري فيها المساواة بين الرجل والمرأة، ومن ثم تجابه عالم التفكك والتبعية باقتدار وأنتصار.
إذا حاولنا أن ننظر بمنظار غير ذكوري متجمد سنجد أنها تجربة فريدة في تاريخ الثورات، فحتى في عصرنا الراهن كان وجود النساء في المكاتب السياسية الحزبية القائدة للتحولات معدوماً، ومُنكـَّراً ومرفوضاً، وكانت حتى عشيقات القادة والأمناء العامين للأحزاب متواريات، وملغيات من تاريخهم، وكأن ليس ثمة دور للنساء قيادي ورمزي!
لكن في تاريخ الثورة الإسلامية التأسيسية سيبقى مكان السيدة خديجة محفوظاً ومقدراً. في تلك الظروف من البداوة والذكورية الساحقة!
فيما بعد سيدلي نبيُّ الإسلام بشهادتهِ الموضوعية عنها، وفي لحظةٍ من سيادته السياسية والفكرية وبعد أن رحلت تلك الزوجة: بأنها دعمته إذا تخلى الناس وحتى الأهل عنه، وأنها أطاعته وأحبته وآمنت به الخ..
وحين كان يحدث ذلك الإنكار والتخلي من أقرب المقربين للمثل العليا المطروحة، وتقوم امرأة غنية بتوزيع ونثر أموالها على زوجها المحاصر المجاهد الفقير، فأية مكانة؟
ويضيف نبي الإسلام في شهادته حين غيب الثرى السيدة خديجة، ولم يعد طامعاً لا في مالها ولا في شد أزره، بأنها كانت الولودُ من بينِ كلِ نسائه!
ليس هذا تعييراً للنساء بأنه لم يكن ولودات فبعض زوجاته أنجبن، ولكن دلالة المسألة هنا بأنها كانت ولودة مشغولة بالحمل والرضاع والتنشئة، وكذلك لم تفارق مهمات الحركة النضالية من دعم مالي ومن مساندة نفسية ومن دعوة، فجمعت أعباءً ثقيلة وهي في كل هذا العمر المتقدم، وأحسنت تنشئة أبنائها وكذلك الصبي، الإمام فيما بعد، علي بن أبي طالب الذي كان له بعد ذلك التاريخ المعروف في الإسلام، وأبنتها السيدة فاطمة ومن سلالتها كان نضال الأئمة.
ولهذا فإن عملية التصغير من المرأة ومن مكانتها هي جزء من التاريخ الاجتماعي التالي، حين هيمنت القوى الاستغلالية ورفعت أشكالاً وأعراضاً من الإسلام، مفرغة من ذلك المضمون، إستناداً لسيطرتيها الذكورية والحكومية الاستغلاليتين.
وبهذا فإن علاقة نبي الإسلام بالمرأة نموذجية، وهي التي يجب أن نراها في عمليات التمثل والتقنين، وهي بهذا علاقة لم تقنن تشريعياً وقرآنياً لأسباب أن الحركة السياسية لها قوانين موضوعية لا بد من مراعاتها في كل مرحلة.
إن العلاقة الديمقراطية الإنسانية في العائلة المحمدية، لم تكن بقادرة على أن تصل للتشريع العام، فالدائرة العامة تخضع لمسارات مختلفة، بسبب حضور الرجال المكثف وسيطرتهم على الأوضاع، ولم تكن علاقة المساواة بين النبي والنساء، قادرة على أن تتحول إلى قانون في ظل ذلك التخلف العام.
وكانت قد عرضتْ المسيحية نموذجَها على العرب وحاولت إختراق نسيجهم القبلي الذكوري الجامد دون فائدة بسبب طرحها شكلاً للعائلة لم يكن العرب وقتذاك قادرين على إستيعابه!
وفيما بعد كرس المحافظون الجانب العام المرحلي، دون أن يراعوا النموذج المحمدي الأسري. وقد عبر القرآن عن علاقات الصراع بين النساء المجددات والرجال المحافظين الذين كانوا يريدون استمرار نموذج الجاهلية في الزواج ونتائجه، فتم الاعتراض عليه في ظل سيادتهم، وازدادت هذه السيادة مع الفتوح وسيطرة الأسر على أموال المسلمين!
وكانت السيدة خديجة نموذجاً شبه جاهز وطليعي في ذلك المجتمع، لكن ماذا نقول عن مثال السيدتين فاطمة وعائشة؟ لماذا فجر نبي الإسلام فيهما طاقات التحول، خاصة السيدة عائشة الزوجة الصغيرة من بين زوجات، لماذا صارت مرجعاً للشعر وتاريخ الإسلام والفقه؟
وفي تلك المهام الكبرى للنبي حصلت هذه الزوجة على كل هذه التطورات الفكرية ولم تـُعزل عن الثقافة والسياسة، ثم شاركت في صراعات سياسية كبرى، ومهما كانت إجتهاداتها التي كان للقادة الكبار رأي آخر فيها.
ثمة رافدان في نشأة الإسلام التأسيسي؛ رافد الديمقراطية الشعبية بما يحتوي على تشكيل دولة جمهورية ديمقراطية، وتعاون بين الرجال والنساء، وتوزيع الفائض المالي على الفقراء، وهو الرافد المؤسس الذي تجسد خلال نصف قرن، ومثل الرمزية الإسلامية الحقيقية الباقية، وهناك الرافد الآخر رافد الهيمنة الذكورية والإستغلالين الحكومي الأسري والخاص، والتوسع في السيطرة على النساء وإستغلالهن وإستغلال العامة، وقد وظف هذا الرافد بعض النصوص ليؤكد سيطرته الأبدية على النساء والناس معرضاً عن رمزية الأسرة المحمدية ودلالاتها وهي المؤسسة لذلك التاريخ!
Published on November 02, 2019 11:35
•
Tags:
النبوة-وعظمة-المرأة
October 30, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الكلمة من أجل الإنسان✶
قوة الكلمة
لا تأتي قوة الكلمة من شقشقة اللغة، والتلاعب بالألفاظ ، وترفيع المؤدلجين الكذابين، وتغييب الكتاب الحقيقيين، بل من التعبير عن المعاناة العامة، وقضايا الوطن المتخثرة في الدهاليز والفساد وثقافة الكذب.
كلما امتلكت الكلمة سحر التعبير الشعبي، وصور البطولة اليومية ارتفعت في سماوات الأدب البشري الخالد.
الكلمة ليست حروفاً مجردة بل قوة تعبير سحرية عن مضمون شعبي مقاوم يتصدى للصدأ والغبار التاريخي ونشر الجهل، هي صور للبسطاء وهم يُدهسون في شوارع الحياة، وتصوير لأصابعهم وهي تتحرك ضد الحشرات.
ليس الكاتب الخائب، والصحفي المنعزل، ومروج الأكاذيب اليومية المليئة بالصواريخ الفضائية، بل الكاتب المدافع عن شعبه، المعبر عن تاريخه، عن قضاياه المضيعة في ثرثرات المثقفين، وورق الدجل اليومي.
هو من يصور في قصصه وقصائده ومقالاته ما يدور في الواقع، وليس من يصنع صوراً زائفة، ويتباهى باتصالات الوزارات، والمؤتمرات الفاشلة المقامة لسرقة الشعوب، يتباهى بالرسائل المصنوعة من الدوائر العامة الفاشلة، وإقامة علاقة رفيعة عليا مع الحرامية، بل هو الذي يعيش في زاوية العتمة وقلبه على الوطن، يُجلد ويُحبس ويتعطل ويُغيّب ولا تزال القضايا العامة تنبضُ في حروفه.
سجل كلماته أرشيف كاشف للبلد، للحارات، للمحرومين، لم يقل أنا طوال حياته ويعرض سفراته المدفوعة الأجر مسبقاً من فاشلين إدارياً، لو أُعطي تذكرة كشف أرقامها وكيفية صناعة الخداع فيها.
الصحف الفاشلة تموت، وسجل التمويه لو أستمر قروناً لا يصمد للزمن، والبلدان المقطوعة اللسان تتفجر وتتساقط حممها على الرؤوس، ويهرب كذابو الكلمات خارجاً حاملين الغنائم، وسجل الثورات الهائل يعري التحولات المذهلة حيث لم يبق طاووس مهما طال به الزمن، ولا يتعذب شعبٌ إلى الأبد.
الكلمة تتصحر بين أيدي المنافقين لا يجدون أنهم قادرون على الكلام، وببغاء واحدة أفضل صدقاً من مليون كاتب مزيف، لا يَسمع سوى السخرية من كلماته لأنه أصم وبلا معرفة تاريخية منفصم عن الواقع، يعيش في قصر من المرايا التي تعكس ذاته العظمى، ومن يملك ذرة من الصدق ينزوي ويحترم نفسه.
الكلمة نار الحقيقة إلى الأبد، ومن الكلمة نشأت الحضارات والرسالات، وظهرت الرموز والدساتير تشع للبشرية الخير والجمال، والمنافقون لديهم كافة مجلدات اللغة، وموسوعات العطاء المدفوعة، لكنهم غير قادرين على صنع كلمة واحدة مؤثرة تنزل في التربة الوطنية الشعبية التاريخية وتزهر.
لم يؤسسوا تنويراً
حديثُ الأنوارِ الذي ظل يبهروننا به، تصورنا إنه سوف تنبثقُ منهُ كتبٌ ومرجعياتٌ وموسوعات.
حين كتب الفيلسوف الفرنسي ديدرو موسوعته ورواياته أثرى الثقافة الإنسانية. لكن كيف كان سيفعل ذلك إذا لم ينعزل ويداوم على القراءة والبحث؟
كيف كان لجان جاك روسو أن يكتبَ إعترافاته ويُظهر جسدُهُ الروحي الحقيقي عارياً أمام البشر لو أنه إحتفظ بذرةٍ من غرور؟
كيف للفلاسفة والمفكرون والكتاب أن يمهدوا لتطور الإنسانية إذا بقوا في المستنقعاتِ ولم يصعدوا للجبال المعرفية الشوامخ؟
في الوعي العربي نشأتْ نماذجٌ من ذلك، كالعلامة العراقي (جواد علي) الذي حفر كثبان الجزيرة العربية الورقية اليابسة وكشف أخاديدها ووديانها التاريخية القديمة، بحيث تمكن الباحثون القادمون اللاحقون من السير نحو فهم العربية والإسلام والفلسفة؟
ولهذا فإن الخليج الثقافي يعيش ما قبل التنوير، ومع تأجج معاركه السياسية تبدو التربة الغضة لفكرهِ وثقافته، فالعربُ غيرُ عربٍ، والتحضرُ لم يتحول إلى تحضرٍ إلا في العمارة والأشياء، والمثقفون ليسوا مثقفين، والتنويورن ظلاميين، والغنمُ الاجتماعي أسرع لــ(المريس) النفطي يأكلهُ بسرعةٍ وشهوةٍ وحشيةٍ لا يريدُ حتى أن يبقي للأجيالِ القادمة إلا المباني النخرة والمؤسسات المحلوبة.
أول ما يمنع ظهور التنوير هو الإنتفاخات الشخصية، فالمسرحُ المليءُ بالشخوصِ المتضخمةِ يمنعُ رؤية أين يقع الظلام وكيف ينبثق النور.
حين تظهر المؤسساتُ ذاتُ المصروفاتِ الهائلة من أجل أن تشير لعظمة دولة لا تبقى دولة.
ثمة نفط وثمة غاز ولكن الغاز حين ينفخ البالونات ويطيرها في الهواء لكي يرى العالم كم يمتلك الخليج من بالونات ملونة رائعة، تنفجر من أي ضربة ريح.
كان يُفترض لأي تنوير أن يقف أمام المشكلات المحورية المفجرة للصراعات الدائمة ويكشفُ البقعَ المظلمةَ فيها.
لذلك أن الكتابَ والمبدعين يشكلون طلائع التحسس للأرض الشعبية وما فيها من حكايات وقصص وأمثال تكمن وراءها مشكلات البشر ومعاناتهم فتحدثُ هنا قراءات للإنسان الملموس الحقيقي، وليس الإنسان الموهوم المؤدلج، ومن هنا إمتلأت الموسوعات بمعرفة الشعوب.
لهذا فإن الفاعلين في الثقافة السياسية ظهروا كنبتٍ صحراوي، يغيبُ التحليلُ عن أعمالهم، وحين تحدث الأزماتُ الصاخبة وتُظهر الحصادَ الهزيل المريع، تتفجر لغةُ الشتائمِ والسخرياتِ والاحتقار والإلغاء وهم قبل قليل كانوا يتحدثون كلهم عن لغةِ الديمقراطية وإحترام الآخر وضرورة أن نصعد مثل بقية الدول حتى العربية منها إلى عالم الحداثة والديمقراطية.
لماذا حدث التغييب الكلي في زمن صعود أي طرف؟ لماذا تعني البلاغة الألغاء والدوس؟
بسبب إن التنوير وتعلم الديمقراطية وثقافة التعددية والتبادلية لم تصل إلى الداخل.
الدكتاتور في الداخل صعد وحصل على فرصة، وهنا سوف يلغي مظهر التنويري والموسوعي الزائف ويصيرُ(شوارعياً) بذيئاً، يعودُ إلى مستوى العامي الأمي البسيط المحترم في زمنهِ ولا يرددُ حكمَهُ بل شتائمه في حالةِ ضيقه ويأسه وتتحول أمثاله المُنتزعة من خبرته ومعاناته إلى زجاجات مسكورة في جسمه وروحه.
البلد الذي تضخم بالمباني والعلوم والمؤسسات يعودُ مثل (الفريج) العتيق المنقسم إلى ناحيتين وكلٌ منهما (تردح) ضد الأخرى.
الوعي لم ينحدرْ لأنه لم يتأسس، ولكن ثقافةَ (الردح) والاستعانة بــ(قبضايات) من الخارج، أظهرتْ أن ما تم النضال من أجله خلال عقود كأنه لم يكن، في ظل ثقافة التسييس الفاقع، وإنفلات الأعصاب، حيث عادت مناظرُ الشجارات في المقاهي ودور السينما الرثة، لكن بصورة مناطقية عالمية، وحدث الانكسارُ للمزهريات الصغيرة التي تجمعت فيها بعضُ الورود، وغاصتْ الشظايا في الأرجل الحافية.
ــــــــــــــــــــــــــ
✶ تحت الطبع : الكلمة من أجل الإنسان
لا تأتي قوة الكلمة من شقشقة اللغة، والتلاعب بالألفاظ ، وترفيع المؤدلجين الكذابين، وتغييب الكتاب الحقيقيين، بل من التعبير عن المعاناة العامة، وقضايا الوطن المتخثرة في الدهاليز والفساد وثقافة الكذب.
كلما امتلكت الكلمة سحر التعبير الشعبي، وصور البطولة اليومية ارتفعت في سماوات الأدب البشري الخالد.
الكلمة ليست حروفاً مجردة بل قوة تعبير سحرية عن مضمون شعبي مقاوم يتصدى للصدأ والغبار التاريخي ونشر الجهل، هي صور للبسطاء وهم يُدهسون في شوارع الحياة، وتصوير لأصابعهم وهي تتحرك ضد الحشرات.
ليس الكاتب الخائب، والصحفي المنعزل، ومروج الأكاذيب اليومية المليئة بالصواريخ الفضائية، بل الكاتب المدافع عن شعبه، المعبر عن تاريخه، عن قضاياه المضيعة في ثرثرات المثقفين، وورق الدجل اليومي.
هو من يصور في قصصه وقصائده ومقالاته ما يدور في الواقع، وليس من يصنع صوراً زائفة، ويتباهى باتصالات الوزارات، والمؤتمرات الفاشلة المقامة لسرقة الشعوب، يتباهى بالرسائل المصنوعة من الدوائر العامة الفاشلة، وإقامة علاقة رفيعة عليا مع الحرامية، بل هو الذي يعيش في زاوية العتمة وقلبه على الوطن، يُجلد ويُحبس ويتعطل ويُغيّب ولا تزال القضايا العامة تنبضُ في حروفه.
سجل كلماته أرشيف كاشف للبلد، للحارات، للمحرومين، لم يقل أنا طوال حياته ويعرض سفراته المدفوعة الأجر مسبقاً من فاشلين إدارياً، لو أُعطي تذكرة كشف أرقامها وكيفية صناعة الخداع فيها.
الصحف الفاشلة تموت، وسجل التمويه لو أستمر قروناً لا يصمد للزمن، والبلدان المقطوعة اللسان تتفجر وتتساقط حممها على الرؤوس، ويهرب كذابو الكلمات خارجاً حاملين الغنائم، وسجل الثورات الهائل يعري التحولات المذهلة حيث لم يبق طاووس مهما طال به الزمن، ولا يتعذب شعبٌ إلى الأبد.
الكلمة تتصحر بين أيدي المنافقين لا يجدون أنهم قادرون على الكلام، وببغاء واحدة أفضل صدقاً من مليون كاتب مزيف، لا يَسمع سوى السخرية من كلماته لأنه أصم وبلا معرفة تاريخية منفصم عن الواقع، يعيش في قصر من المرايا التي تعكس ذاته العظمى، ومن يملك ذرة من الصدق ينزوي ويحترم نفسه.
الكلمة نار الحقيقة إلى الأبد، ومن الكلمة نشأت الحضارات والرسالات، وظهرت الرموز والدساتير تشع للبشرية الخير والجمال، والمنافقون لديهم كافة مجلدات اللغة، وموسوعات العطاء المدفوعة، لكنهم غير قادرين على صنع كلمة واحدة مؤثرة تنزل في التربة الوطنية الشعبية التاريخية وتزهر.
لم يؤسسوا تنويراً
حديثُ الأنوارِ الذي ظل يبهروننا به، تصورنا إنه سوف تنبثقُ منهُ كتبٌ ومرجعياتٌ وموسوعات.
حين كتب الفيلسوف الفرنسي ديدرو موسوعته ورواياته أثرى الثقافة الإنسانية. لكن كيف كان سيفعل ذلك إذا لم ينعزل ويداوم على القراءة والبحث؟
كيف كان لجان جاك روسو أن يكتبَ إعترافاته ويُظهر جسدُهُ الروحي الحقيقي عارياً أمام البشر لو أنه إحتفظ بذرةٍ من غرور؟
كيف للفلاسفة والمفكرون والكتاب أن يمهدوا لتطور الإنسانية إذا بقوا في المستنقعاتِ ولم يصعدوا للجبال المعرفية الشوامخ؟
في الوعي العربي نشأتْ نماذجٌ من ذلك، كالعلامة العراقي (جواد علي) الذي حفر كثبان الجزيرة العربية الورقية اليابسة وكشف أخاديدها ووديانها التاريخية القديمة، بحيث تمكن الباحثون القادمون اللاحقون من السير نحو فهم العربية والإسلام والفلسفة؟
ولهذا فإن الخليج الثقافي يعيش ما قبل التنوير، ومع تأجج معاركه السياسية تبدو التربة الغضة لفكرهِ وثقافته، فالعربُ غيرُ عربٍ، والتحضرُ لم يتحول إلى تحضرٍ إلا في العمارة والأشياء، والمثقفون ليسوا مثقفين، والتنويورن ظلاميين، والغنمُ الاجتماعي أسرع لــ(المريس) النفطي يأكلهُ بسرعةٍ وشهوةٍ وحشيةٍ لا يريدُ حتى أن يبقي للأجيالِ القادمة إلا المباني النخرة والمؤسسات المحلوبة.
أول ما يمنع ظهور التنوير هو الإنتفاخات الشخصية، فالمسرحُ المليءُ بالشخوصِ المتضخمةِ يمنعُ رؤية أين يقع الظلام وكيف ينبثق النور.
حين تظهر المؤسساتُ ذاتُ المصروفاتِ الهائلة من أجل أن تشير لعظمة دولة لا تبقى دولة.
ثمة نفط وثمة غاز ولكن الغاز حين ينفخ البالونات ويطيرها في الهواء لكي يرى العالم كم يمتلك الخليج من بالونات ملونة رائعة، تنفجر من أي ضربة ريح.
كان يُفترض لأي تنوير أن يقف أمام المشكلات المحورية المفجرة للصراعات الدائمة ويكشفُ البقعَ المظلمةَ فيها.
لذلك أن الكتابَ والمبدعين يشكلون طلائع التحسس للأرض الشعبية وما فيها من حكايات وقصص وأمثال تكمن وراءها مشكلات البشر ومعاناتهم فتحدثُ هنا قراءات للإنسان الملموس الحقيقي، وليس الإنسان الموهوم المؤدلج، ومن هنا إمتلأت الموسوعات بمعرفة الشعوب.
لهذا فإن الفاعلين في الثقافة السياسية ظهروا كنبتٍ صحراوي، يغيبُ التحليلُ عن أعمالهم، وحين تحدث الأزماتُ الصاخبة وتُظهر الحصادَ الهزيل المريع، تتفجر لغةُ الشتائمِ والسخرياتِ والاحتقار والإلغاء وهم قبل قليل كانوا يتحدثون كلهم عن لغةِ الديمقراطية وإحترام الآخر وضرورة أن نصعد مثل بقية الدول حتى العربية منها إلى عالم الحداثة والديمقراطية.
لماذا حدث التغييب الكلي في زمن صعود أي طرف؟ لماذا تعني البلاغة الألغاء والدوس؟
بسبب إن التنوير وتعلم الديمقراطية وثقافة التعددية والتبادلية لم تصل إلى الداخل.
الدكتاتور في الداخل صعد وحصل على فرصة، وهنا سوف يلغي مظهر التنويري والموسوعي الزائف ويصيرُ(شوارعياً) بذيئاً، يعودُ إلى مستوى العامي الأمي البسيط المحترم في زمنهِ ولا يرددُ حكمَهُ بل شتائمه في حالةِ ضيقه ويأسه وتتحول أمثاله المُنتزعة من خبرته ومعاناته إلى زجاجات مسكورة في جسمه وروحه.
البلد الذي تضخم بالمباني والعلوم والمؤسسات يعودُ مثل (الفريج) العتيق المنقسم إلى ناحيتين وكلٌ منهما (تردح) ضد الأخرى.
الوعي لم ينحدرْ لأنه لم يتأسس، ولكن ثقافةَ (الردح) والاستعانة بــ(قبضايات) من الخارج، أظهرتْ أن ما تم النضال من أجله خلال عقود كأنه لم يكن، في ظل ثقافة التسييس الفاقع، وإنفلات الأعصاب، حيث عادت مناظرُ الشجارات في المقاهي ودور السينما الرثة، لكن بصورة مناطقية عالمية، وحدث الانكسارُ للمزهريات الصغيرة التي تجمعت فيها بعضُ الورود، وغاصتْ الشظايا في الأرجل الحافية.
ــــــــــــــــــــــــــ
✶ تحت الطبع : الكلمة من أجل الإنسان
Published on October 30, 2019 19:23
تنوير زكي نجيب محمود ☮
يطور زكي نجيب محمود اتجاه التقنية التحديثية بشكل كبير ، فتلك الومضات الصغيرة الغامضة لدى إسماعيل مظهر ، أو تلك الموسوعية الأدبية لدى سلامة موسى ـ تصبح هنا بناءً فكرياً كبيراً ينمو خلال نصف قرن بتمهل وتوسع ، لكن بدون تحول فلسفي عميق .
يقول زكي نجيب محمود في مقدمته لكتابه [ موقف من الميتافيزيقيا ] ، الذي كان في الطبعة الأولى باسم [ خرافة الميتافيزيقيا ] بأن الفلسفة التي يعرضها هي :
[ لا محاولة لتحليل الوجود الشيئي ورده إلى مصادره الأولى ، بل المحاولة لتحليل قضايا العلوم تحليلاً منطقياً ، يردها إلى جذورها الأولى رداً يتبين منه مدى مشروعية التركيب اللفظي الذي صيغت فيه قضية علمية معينة : أهو متسق الأجزاء بعضها مع بعض ، أم هو منطوٍ على تناقض مستتر ؟ أهو تركيب في طبيعته ما يمكن الباحث من المقابلة بينه وبين ما يشير إليه من حقائق العالم الواقع ، أم هو مشتمل على مفردات لغوية ، وعلاقات رابطة بين المفردات ، تحقق من الصواب والخطأ أمراً محالاً ؟ ] ، ( 1 ) .
فالباحث يقول بأن الفلسفة لم تعد لديها قضايا خاصة ، بل هي ليست قادرة على ذلك :
[ لأن العلوم المختلفة – كل في ميدانه – هي وحدها المؤهلة بمناهجها للوصول إلى حقائق الكون والإنسان ، وحسب الفلسفة – إذن – أن تسير وراء العلوم تتسقطُ أقوالها لتصب عليها ضوء التحليل المنطقي ، فتكشف ما قد يكون فيها من خللٍ يستدعي من العلماء إعادة النظر ] ، ( 2 ) .
فالفلسفة تغدو لدى زكي نجيب هي تسقطُ أخبار العلوم ، ومن جهة أخرى تقوم بتحليلها بشكل لغوي منطقي ، فالجمل ثلاث [ صادقة حتماً ، أو باطلة حتماً ، أو أنها مما يحتمل الصدق والكذب ] ، لهذا فإن هذا المعيار اللغوي المنطقي ينطبق على الحقائق العلمية الموضوعية الصحيحة المنتجة من خلال العلوم [ كأن تقول 2 + 2 = 4 ] ، أما [ الجملة الباطلة حتماً هي التي ينقض شطرها الثاني شطرها الأول ، كأن تقول إن المثلث لا تحيط به ثلاثة أضلاع ] ، [والجملة التي تحتمل الصدق والكذب فهي الجملة التجريبية كأن تقول إن جبل الهملايا صخوره بركانية ] .
ويقول في مقدمته للطبعة الثانية بأن الجمل التي يعبر قائلوها عن القيم الأخلاقية والجمالية [ فارغة من المعنى ، فكل عبارة يقولها قائلها ليحكم على فعل بأنه خير أو على شيء جميل ، إن هي إلا تعبير منه عن ذات نفسه ولا تدل في الواقع على شيء .. ، لأن العالم الخارجي – عالم الأشياء – لا خير فيه ولا جمال ، كما أنه لا شر فيه ولا قبح ] ، ( 2 ) .
إذن تعتمد الفلسفة التي يدعو لها زكي نجيب بأنها تحليل منطقي لغوي لبحث العلماء في [ الأشياء ] .
إن العلوم هي ما يمكن تدرس عمليات وحركات الأشياء المختلفة ، وهي الأشياء المادية ، الملموسة ، وما هو غيرُ ملموسٍ فهو خارج البحث العلمي . فهذه الموادُ هي التي تخضعُ للتحليل المعملي ، أما الجوانبُ الفكرية والاجتماعية فكيف يمكن إخضاعها لمثل هذا التحليل ؟
فالميتافيزيقيا هي الحكم على أشياء غير محسوسة أما [ الفلسفة الوضعية المنطقية ] فهي الحكم على الأشياء الملموسة ف [ الفلاسفة حتى اليوم مشتغلين بتوضيح ألفاظ غامضة في مجالات فكرية معينة ، مثل الأخلاق والجمال والسياسة والنفس والاجتماع ، ولذلك فهذه كلها ما تزال تــُعد (( علوماً فلسفية )) ، فهي من مجال الفلسفة بدرجة تقل أو تزيد درجة التحديد والوضوح اللذين بلغتهما ألفاظها ] ، ( 4 ) .
إن الفلسفةَ هنا تغدو ثلاث فلسفات ؛ [ فهناك الفلسفة التي تبحث في ( أشياء ) لا تقع لنا في الخبرة الحسية ، وأما أشياء مما تصادفه في مباحث العلوم الأخرى كالإنسان ، والمجتمع والتاريخ .. ] ، [ ومن ذلك نرى أن نختار للفلسفة أن تحصر نفسها حصراً في التحليل المنطقي وحده ] ، ( 6 ) .
ولا نعرفُ العلاقات التي تتشكلُ بين هذه الفلسفات ، فكيف ستقومُ الفلسفةُ الوضعية المنطقية بكشفِ وتحليل الفلسفتين السابقتين ، حيث إنهما تنتميان إلى مستوىً ليس هو مستوى الأشياء ، بل مستوى الأفكار ، وهو مستوى حسب الوضعية المنطقية ، ليس شيئياً ؟
إنها تجاه القضايا التي تطرحها الفلسفة الميتافيزيقية ك [ الشيء في ذاته ] و [ المطلق ] و [ العدم ] و [ القيم ] فإنها تعتبرها خارجَ البحث [ فليس اختيارنا للمجموعة المنطقية ، وتركنا للمجموعة (( الشيئية )) تعسفاً وجزافاً ، بل هو قائم على إننا ننكرُ الميتافيزيقيا إنكاراً تاماً ... ونريد من جهة أخرى أن نترك (( الأشياء )) كالإنسان والمجتمع والتاريخ واللغة والطبيعة ، إلى العلوم ، لأن العلماء وحدهم ، بما لديهم من أدوات ومناهج للبحث ، هم القادرون على الوصول بهذه المباحث إلى نتائج يمكن الاعتماد على صدقها ] ، ( 6 ) .
هنا نجدُ بعضَ الحيرة في وصف المجموعات الشيئية ، فمرةً تغدو داخل الميتافيزيقيا ، ومرة تصبح في دائرة العلوم .
لكن الحكم باعتبار الطبيعة وحدها هي ميدان العلوم يتضح لاحقاً ، فهو يقول في صفحة 27 [ إن العبارات المقبولة من هذه الكومة كلها هي القضايا الرياضية وقضايا العلوم الطبيعية ، لأن هاتين الطائفتين هما وحدهما العبارات ذوات المعنى ، أما العبارات التي لا هي من هذه ولا من تلك فينبغي حذفها ] ، ( 7 ) .
إن ذلك التردد بين فلسفة [ العلوم الطبيعية والرياضة ] باعتبارها هي الفلسفة ، وبين العلوم الإنسانية باعتبارها فلسفة بين قوسين ، يحسم هنا ولكن ليس بشكل نهائي ، لأنه في عبارات شاردة هنا أو هناك سوف يعود لاعتبار العلوم الإنسانية علوماً ومنتجة لفلسفة وضعية منطقية ما ، لكن هذه المنطقة الأخيرة ستكون غامضة .
يعلق على عبارة للكندي يقول فيها [ علوم الفلسفة ثلاث : فأولها العلم الرياضي في التعليم وهو أوسطها في الطبع ، والثاني علم الطبيعيات وهو أسفلها في الطبع ، والثالث هو علم الربوبية وهو أعلاها في الطبع .. ] فيقول زكي نجيب : [ والذي أريد أن اعترض به على أمثال هذا القول ، هو أنك حين تبحث في الإلهيات فأنت من رجال الدين ولست بالفيلسوف ، وحين تبحث في الرياضة فأنت رياضيٌ لا فيلسوف ، وحين تبحث في الطبيعة فأنت من علماء الطبيعة لا فيلسوف ] .
إن الفلسفة القديمة والوسيطة كانتا شاملتان ، لكن الفلسفة الحديثة لم تعد حاوية للعلوم بل غدت طريقة تفكير ، ولكن هذه الطريقة في التفكير لدى زكي نجيب هي لاحقة للعلوم فهو لا يقوم هنا بتحليل عبارات الكندي فيحلل طريقته في رؤية الألوهية ، ولا رؤيته في تحليل الطبيعة ، بل يرفض هذه النظرة تماماً ، منتظراً نتائج العلوم في شتى هذه الفروع المعرفية ، عبر معايير الصدق والكذب ، فسوف تغدو البحوث حول الكائنات المجردة الغيبية خارج البحث لأنها لا تملس شيئاً محدداً ، فهي تريد كائنات ملموسة تقوم باختبارها وتحليلها ، وحين لا تجد ذلك سوف تغدو قضايا مثل هذه الفلسفة خارج الفلسفة .
ومن هنا سيستمر التناقضُ السابقُ الذكر في مثل هذا الوعي لدى زكي نجيب ، فالفلسفة تدرسُ الأشياء ، والأديانُ لا تشكلُ ظاهرات ملموسة يمكن درسها ، فالكينونة هي ماديةٌ محضة في عُرف هذه الفلسفة الوضعية ، وليست هي علاقات موضوعية كذلك ، فأشكال التفكير ومواده عبر العصور تغدو خارج المادة ، في حين هي جزءٌ من بناء ثقافي يعكس علاقات مادية اقتصادية واجتماعية ، وحين يفسر الكندي مبادئ الألوهية حسب تفكيره فهو يعبر عن علاقات موضوعية ، عن سلطة واقتصاد ومستويات فكرية مرتبطة بتلك السلطة الإلهية - الاجتماعية وذلك الاقتصاد .
فهو إضافة لبحثه في الفكر الديني يبحث كذلك في العلوم الطبيعية ولديه الكثير من الأبحاث في مجال الظاهرات الطبيعية المختلفة ، وقد قام بتجارب كثيرة في هذا المجال ولديه بحوث تقنية ، فكيف تكون هذه خارج الفلسفة ؟ أي لماذا لم تقم الوضعية المنطقية لدى زكي نجيب محمود بتتبع النتائج العلمية لدى الكندي وترى مدى صحتها وخطئها ؟ وبالتالي (( تتسقط نتائج العلوم )) على حد تعبير زكي نجيب وتقرأ المحدودية العلمية للفلسفة وأسبابها ؟
إن الفلسفة الوضعية المنطقية هنا لا تبدأ من تجذير نفسها داخل السياق العربي الإسلامي ، بل تبدأ من نقطةٍ أخرى .
يذهب زكي نجيب هنا نحو المادة العلمية الجاهزة القادمة من الغرب ، وعبر المصادر المتوفرة ، فيعرض أن الوضعية المنطقية لها جذور في تاريخ الفلسفة الغربية وليست هي نبتاً مقطوعاً ظهرت فجأة في القرن التاسع عشر وتم استيرادها إلى مصر ، فيذكر بأن سقراط وأفلاطون وأرسطو لديهم بذور بحث لغوي منطقي ، ولكن المدرسة تشكلت في أوربا الحديثة ، ولا يقوم بذكر جذور هذه المدرسة في البناء الصناعي والحديث عموماً ، فهو يقطف زهرات التفكير التجريبية في دول وفترات متعددة ، فهذه الزهرات تظهر بلا حقول :
[ والفلاسفة التجريبيون من الإنجليز : ( لوك ) و( باركلي ) و( هيوم ) وأتباعهم ، هم – على وجه الإجمال – من أولئك الذي نظروا إلى الفلسفة على أنها طريقة في التحليل ] ، [ أن أعظم ما كتبه هؤلاء الفلاسفة يندرج تحت ما يسمى في فروع الفلسفة بنظرية المعرفة ] ، ( 8 ) .
[ إن الفلسفة على أيديهم كانت عملية تحليلية ، ولم تكن – في الأعم الأغلب – تقريراً عن ظواهر الكون المختلفة بإثبات صفات معينة لها أو نفيها عنها ] ولهذا فإن[ الذي نتصدى لإنكاره في هذا الكتاب إنكاراً قاطعاً ، هو إمكان التحدث عن [ أشياء ] غير محسة – وهو موضوع الميتافيزيقيا بالمعنى الذي نرفضه - ] ، ( 9 ) .
يقوم هنا زكي نجيب بقطع جذور المدرسة التجريبية عن بيئتها الصناعية والثقافية التي تراكمت عبر عدة قرون ، فقد بدأت هذه الفلسفة تحسم العلاقة مع الدين عبر نشوء دول صناعية علمانية ، وغدت بنى الجامعات والمدارس مربوطة بشبكة اجتماعية ثقافية كبيرة .
ولكن حسم علاقاتها مع الدين لم يكن بالتوجه لتحليل الدين ونقده ، بل تم ترك مسافة له في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية ، وما تفعله هنا عبر تكريس هذه التجريبية هو كشف طبيعة المواد المختلفة ، ولهذا فإن العلوم الطبيعية والرياضية هي المدعوة للنمو بشكل واسع ، في حين إن العملية التغييرية قد تمت على يد المدارس التنويرية والعقلانية التي وجهت نقداً كاسحاً للمسيحية الكاثوليكية ، ففتحت الطرقَ الاجتماعية والسياسية لسير المدارس التجريبية الفلسفية التي ستكون مهمتها المحورية هي تطوير العلوم والصناعة .
إن حلقات ديكارت ونيوتن وبيكون وغيرهم من العلماء – المنظرين تجري في بلدان ومراحل مختلفة ، وهم يعبرون عن درجات من التطور العلمي والفلسفي حسب دوائرهم الاقتصادية – الثقافية ، ورغم أنهم يمثلون الخط العلمي التجريبي ، فلا يعني ذلك إنهم منقطعون عن الخطوط الفلسفية ، أو أن هذه الخطوط الفلسفية التي بحثت قضايا [ ليست شيئية ] لم تكن مندغمة مع هذه التيارات .
ولكن لدى زكي نجيب فإن علاقتهم بالتحولات الاجتماعية الصناعية الكبرى التي وفرت لهم أرضية البحوث مقطوعة ، كما لو أنهم يعملون في مجتمعات قروية ، وليس كون تجريبيتهم الدقيقة تجري لأجل جوانب صناعية هامة ، كما أنها لا تنقطع عن أسئلة الفلسفة الكبيرة ، كما أن أشكال وعيهم التجريبية لا ترتبط لديه بمستوى تطور تلك القواعد الصناعية والعلمية . وهو يصر في مواقع أخرى على الترابط الوثيق بين العلوم وتطبيقاتها وبشكل آلي ، وكأن ليس ثمة علوم نظرية . وهذه كلها تدل على النقل لأهمية العلوم لا لاستفادة الحقيقية من تشكلها الوطني .
ولهذا فيتكون أساس الوضعية المنطقية لديه وفي المدرسة عامة عند الفيلسوف الألماني [ كانت ] . إن تأخر ألمانيا الصناعي والثوري عامةً عن إنجلترا وفرنسا ، سوف يتمظهرُ فلسفياً لدى التجريبية الألمانية وقد غدت باسم الوضعية التجريبية .
يقول زكي نجيب محمود :
[ لقد بدأ [ كانت ] عمله هذا بوعدٍ قطعه على نفسه ، وهو أن يترك الموضوعات الميتافيزيقية جانباً – وهي عنده البحث في الله والحرية والخلود – حتى يفرغَ من تحليله لبناء العلم الرياضي وبناء العلم الطبيعي ، وبعدئذٍ يعود إلى البحث الميتافيزيقي ، ليقيمه على نفس الأسس التي رآها في ذينك العلمين ؛ لكنه فرغ من ( نقده ) للرياضة وعلم الطبيعة ، ثم لم يتم ما كان قد وعد به من تشييد بناء الميتافيزيقا على غرارهما ، ولما سئل في ذلك ، قال إنه وجد أن ( النقد ) هو نفسه الميتافيزيقا التي أرادها ] ، ( 10 ) .
ولم يستطع زكي نجيب محمود أن يعلل لماذا توقف ( كانت ) عن تطبيق منهجه على القضايا خارج العلوم الطبيعية ، إلا بأن أورد القول الشهير ل ( كانت ) :
[ نرى كانت يرفضها على أساس أن العقل البشري بحكم طبيعته لا يستطيع الحكم إلا على ظواهر الأشياء ، وإنه إذا غامر في مجال (( الأشياء في ذاتها )) وقع في المتناقضات ]] ، ( 11 ) .
ويرد زكي نجيب على ذلك قائلاً :
[ أما أصحاب المذهب الوضعي المنطقي فيبنون استحالة الميتافيزيقا على أساس أن أقوالها فارغة من المعنى بحكم ما اتفقنا عليه في طرائق استعمال اللغة ] ، ( 12 ) .
إن عدمَ قدرةِ ( كانت ) على تحليل موضوعات الله والحرية والخلود إذن لا تعود إلى كونها قضايا وموضوعات في ذاتها ، بل إلى مشكلة أعمق من هذه ، وذلك أن المنهج التحليلي الخاص بمعرفة المادة والطبيعة لا يستطيع أن يقوم بتحليل مستوى آخر مختلفاً .
فظاهرات المادة وطبيعة الأشياء هي حقائقٌ موضوعيةٌ في أي مكانٍ أو عبر العصور ، والمنهجُ الذي يقومُ بتحليلها هو منهجٌ مفيد وصحيح ، لكن نقل هذا المنهج المحلل للأشياء إلى مستوى تحليل الظاهرات الفكرية والاجتماعية غير ممكن ، كمن يستخدم السنارة المخصصة لصيد السمك لصيد الحيوانات البرية ، وتباين المستويين الطبيعي ، والمستوى الفكري الاجتماعي ، هو ما شكل التقسيم المعروف بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية أو الإنسانية .
لكن لماذا تم إدخال المنهج التجريبي المعملي إلى مجالات الوعي ؟
لم يقمْ زكي نجيب بطرحِ هذا السؤال وهو يقومُ بعمليةِ نقل الوضعية المنطقية إلى البُنى العربية ، ونجدُ في مفرداتِ المنهج الغائرةِ وعياً فردياً يسقطُ ذاته على الظاهرات المدروسة ، فهو يحللُ وعياً يتصور بأنه مماثل لطبيعته هو ، فهذا الوعي الفردي المجرد الذي يتوهمه في مركز الرؤية ، يعتبره خالياً من الوعي الاجتماعي ، وحين يكتشف مثل هذا الوعي قوانين المادة الطبيعية بموضوعية ، وهذه عملية تاريخية كذلك ، فهو يتصوره إن بإمكانه أن يطبق ذات المنهجية على وعيه الفردي في مجال الحياة الفكرية – الاجتماعية .
لكن هذا الفرد ليس فرداً في حقيقة أمره ، بل هو تمثل للجماعة ، وهو حامل لتراث وعلاقات الجماعة ، ولهذا فإن الوعي الجماعي في أي بنية اجتماعية محكوم بعلاقاتها وإرثها المستقل عنه .
ولهذا فإن تحليل مفهوم المطلق أو الإله ، لا يمكن أن يتم بأدواتٍ تجريبية معملية ، لأن تحليله يتم في مستوى معرفي مختلف ، هو التحليل الفكري الاجتماعي ، والذي هو بالضرورة يتمظهر في عدة تيارات ورؤى ، فليست العملية التحليلية له مماثلة لعملية تحليل الحديد والذهب .
إن تصورَ الوضعية المنطقية بأنه يمكن مماثلة المنهجين ، والوصول إلى حل للمعضلة التي منعت تطورها ، سواء عبر الهروب المنهجي حين وضع ( كانت ) هذه المسائل في الحفرة العميقة التي لا يمكن الوصول إليها وهي حفرة ( الشيء في ذاته ) أو عبر حفرة أخرى لتلاميذه حيث ألقيت هذه المسائل الميتافيزيقية خارج البحث لأنها لا تعبر عن أشياء ملموسة في الطبيعة يمكن جرها إلى المعمل .
يناقش زكي نجيب عبارة لـ (برادلي ) يقول فيها :
[ ( يدخل المطلق في تطور العالم وتقدمه ، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطور أو تقدم )) . ومعنى ذلك عنده – فيما أظن – أن العالم في سيره التطوري الذي جعل يتقدم به من الحالة السديمية إلى الحالة التي هو عليها الآن ، بما فيها من نبات وحيوان وإنسان ، قد تأثر بعدة عوامل من بينها عامل اسمه (( المطلق )) – على الرغم من أنه قد عمل على تطور العالم وتقدمه من حالة إلى حالة – فإنه هو نفسه ثابت على حالة واحدة ، لا تطور فيه ولا تقدم . ] .
[ لو طالبت ( برادلي ) بأن يشير لي إلى المطلق الذي يحدثني عنه ، كان أقل ما يعترضُ علي به ، هو أن ما يــُشارُ إليه إنما يكون في مكانٍ معلوم وزمان معلوم ، أما (( المطلق )) فلا مكان له ولا زمان ، وإلا لما صح وصفهُ بأنهُ مطلقٌ من القيود .. كيف إذن عرفته يا صاحبي ؟ إنك لا تعرف إلا الأشياءَ ذوات المكان المعين والزمان المعين ، أم وهبك الله باباً من أبواب المعرفة لم يفتحه أمامي ؟ أليست حواسي وحواسك سواء ؟ ] ، ( 13 ) .
إن عبارة ( برادلي ) الدينية تعبر عن وعيه الديني المسيحي ، حيث يتصورُ الإلهَ قوةً خالقة أبدية للوجود ، ولكنه ليس إلهاً منفصلاً عن هذا العالم بل هو يدخلُ فيه ويغيره ، ولكنه يبقى ثابتاً لكونه إلهاً.
إن فكرة برادلي هي من وعي مسيحي تشكل في ظروف تاريخية معينة ، أي يعود لرؤية تشكلت في بنية اجتماعية ، وبالتالي فإن مطالبة زكي نجيب يرى هذا المطلق في زمان ومكان معينين ، أمر صحيح لكي يرى هذه الفاعلية التي يقول عنها برادلي .
ولكنه يريد أن يطبق أدوات معمله التجريبية على المطلق ، لا أن يدرسه كظاهرة فكرية واجتماعية وتاريخية ، بمعنى إن هذا المطلق في الدرس الموضوعي يتحول إلى صورٍ متعددة لهذا الإله ، كما تجلت هذه الصورُ في اللوحات الفنية وفي جمل الكتب المقدسة ، وتعابير الرهبان والقساوسة والفلاسفة والجمهور .
وبطبيعة الحال فهذا الدرسُ لا يتم في الطبيعة بل في مجال الوعي الإنساني ، ومن هنا يتمُ درسَ الصور باعتبارها منتجات لهذا الوعي في مختلف المراحل ، ويتم درس كيفية فاعلياتها المتعددة ، وكيف قامت بتغيير المجتمعات ، وذلك كله عبر [ الملموس ] ؛ أي في الكتب الدينية ، واللوحات التعبيرية ، وفي القصص ، والأناشيد والأمثال ، والأفكار وفي الثورات والتضحيات للرهبان تحت عسف سلطة روما الخ .. وكيف قامت الصور هذه بتدمير الإمبراطورية الكبرى وتشكيل حضارة مختلفة الخ . . ، وذلك كله من أجل أن نرى (( المطلق )) وقد تجسد في النسبي ، والغيبي وقد تمظهرَ في اليومي ، والكلي وقد توغلَ في الجزئي ، واستحال إلى كليات جديدة من المفاهيم لعصورٍ تالية .
إن تطبيق المناهج المعملية على ظاهرات فكرية – اجتماعية مركبة ، والمطالبة بصور محسوسة لأي مفردة ، هو أمر يمكن تحقيقه ولكن عبر استخدام أدوات منهجية مختلفة ، كالشواهد التاريخية المكتوبة والمنحوتة والآثار المختلفة ودرس ظاهرات الحياة في العصور من سكنٍ وعملٍ ونقود الخ .. فتصير الظاهرات الروحية والفكرية في متناول التشريح .
ولهذا فإن إلغاء زكي نجيب لظاهرات روحية أخرى كالخير والجمال هو أمر مماثل لإلغائه المطلق ، وهي مفاهيم بشرية نسبية تعود لحقل الوعي ، فلا يمكن دراستها إلا عبر هذا الحقل في تطوره الاجتماعي التاريخي لاستخلاص رؤى وتوجهات البشر في تجسيد وتمثل هذه القيم التي هي أيضاً (( كائنات )) موضوعية لها تجسد خارجي يقع في الوعي والظاهرات الاجتماعية بالنسبة للخير ، وكذلك في الوجود الطبيعي بالنسبة للجمال ، أما المطالبة بحضورها الملموس كالتفاح فهو أمر غير ممكن .
وقد مضى زكي نجيب محمود إلى تطبيق منهجه التقني التجريبي المستورد على الواقع العربي الإسلامي المسيحي الخ ، لكن هذه المنهجية حدث لها انفصامٌ كبيرٌ ، خاصة في فكرتها الأساسية بالابتعاد عن تحليل المفردات والجوانب الغيبية حيث أن هذه لا تخضع للفحص المعملي والتأكد الملموس ، فلم يفعل مثلما قالت الفيلسوف الألماني ( كانت ) بترك هذه الجوانب الميتافيزيقية .
علينا هنا أن نقول بأن ثمة مسافة بين ( كانت ) وزكي نجيب فدرجة الموضوعية المثالية والعلمانية لم تتوفر لدى زكي نجيب ، فذاك يقف فوق مجتمع ألماني ذي صناعة كبيرة رغم أنه بعدُ لم يحسم تطوره الرأسمالي الديمقراطي بشكل أساسي ، نظراً لتخلف طبقته البرجوازية ، عن مثيلتيها الإنكليزية والفرنسية ، لكن المجتمع المصري / العربي الذي يقف عليه زكي نجيب ، لم تظهر فيه هذه البرجوازية إلا بشكل فئات وسطى تابعة للإقطاع ، وبهذا فإن العلوم الطبيعة والاجتماعية لم تكن بمستوى يتيح إعطائه وفرةً من المعلومات والنتائج العلمية ليتوجه بعدها إلى تعميمات فلسفية كما فعل ( كانت ) . وكما أشارَ هو بأن الفلسفة تأتي لتحصد ما زرعه العلماء .
ومن هنا فهو لم يلتزم بمدرسته وقوانينها ، سواء بترك الاشتغال في الجوانب الميتافيزيقية والتركيز على الجوانب التقنية الملموسة واستثمارها فلسفياً ، فتوجه ليس إلى تحليل الواقع الراهن المصري العربي ، بل إلى تحليل التراث والإيمان مسبقاً بكائناته وظواهره الميتافزيقية ، وجعلها أساساً للمجتمع الذي يقوم بتحليله .
وهو من بداية كتابه [ تجديد الفكر العربي ] يحس بالتناقض بين عصره وأفكاره وبين التراث ، يقول:
[ فبدأتُ بتعصبٍ شديد لإجابة تقول إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بتراً ، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علماً وحضارة ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم ] ، ( 14 ) .
يقوم زكي نجيب بتحليل التراث عبر المرويات والقصص والاستشهادات المقتطعة من هنا وهناك عبر العصور ، وخارج سياقاتها الاجتماعية البنيوية المحددة ، بأسلوب أدبي شخصي يعترف فيه بقصوره عن درس التراث بشكل منظم .
فهنا هو لا يقوم بجعل ميدان التراث ميدان فحص تقني لغوي كما اقترح في كتابه [ خرافة الميتافيزيقيا ] ، ولا بالاستعانة بعلماء فحصوا التراث قبله ، فيقوم بالاستفادة من تحليلاتهم الواسعة والعميقة لكي يقدم خلاصات وضعية منطقية كما تقترح فلسفته ، بل يقوم بالتحليل الشخصي من منطلقاته المشروخة هذه .
فتلك الميتافيزيقيا التي شن عليها كل هجومه في الكتاب السابق المذكور ، قام بجعلها الأساس المعترف به للمجتمع التراثي الذي يقوم بنقده ، وهنا ترتبت على ذلك إشكالية كبيرة ، وتمظهرت الإشكالية أولاً في موقفه الأول الساذج بضرورة رفض التراث كلياً وعدم بعثه ، لكنه لم يستطع أن يستمر في هذا الموقف ولا يعلمنا لماذا ، ثم حلت الحيرة وليس الإشكالية جملة قرأها لهربرت ريد موجزها :
[ إنني لعلى علم بأن هنالك شيئاً أسمه (( التراث )) ، ولكن قيمته عندي هي في كونه مجموعةً من وسائل تقنية يمكن أن نأخذها عن السلف لنستخدمها اليوم ونحن آمنون بالنسبة إلى ما استحدثناه من طرائق جديدة ؟ ] ، ( 15 ) .
تلعب الطرائق والأسماء الفلسفية الغربية التجريبية كمواد مستوردة دور المفاتيح الكلية للمعضلة ، مثلما حدث ذلك للسابقين ، وهنا يلعب مفتاح الاستعمال القني للتراث المجلوب عن طريق هربرت ريد الدور المطلوب لحل الإشكالية :
[ أقول إنني وجدت في هذه العبارة مفتاحاً للموقف كله ؛ فماذا عسانا أن نأخذ من تراث الأقدمين ؟ الجواب : نأخذ من تراث الأقدمين ما نستطيع تطبيقه اليوم تطبيقاً عملياً ] ، ( 16 ) .
لا يحدد زكي نجيب هنا طبيعة الضمير الجماعي في ( عسانا ) و( نأخذ ) و( نأخذ ) الثانية ، و(نستطيع ) ، فمن هم الذين يأخذون ويفرزون في حالات الأخذ ؟
لقد أقام من هذا الضمير المجردِ سلطةً كلية على التراث وإعادة تجديده في الزمن الراهن ، وحددت السلطةُ عمليةَ الجلبِ التراثي هذه بمدى نفعيةِ المواد في البناء الاجتماعي الإسلامي - المسيحي - العربي الراهن .
ويمضي الفرزُ في تحديد نفعية أو ضرر ، وتحلل واهتراء الأدوات أو استمرار دورها النفعي المفيد حديثاً . وبهذا فإن المواد المضرة وغير المفيدة تـُهمل وتترك في الزمن السابق .
وقد لاحظنا أن الهيكلَ الميتافيزيقي الغيبي برموزهِ وعالمهِ العام قد أُعتبر من قبل ضمير الفرز الجماعي السابق ذكره ، هيكلاً مؤسساً للنظام المفروز ، ولم يقم الأنا الجماعي الفارز بأي رفض أو تحليل لتاريخية هذا الهيكل ورموزه ، فُجعل كما هو غيبياً ميتافيزيقياً مقبولاً .
وبهذا فإن الدعوى الأساسيةَ في الكتاب السابق غدت منتفيةً ، فبدلاً من (( خرافة )) الميتافيزيقيا كما كان الأمر في الطبعة الأولى من الكتاب ، يغدو العنوان (( موقف )) من الميتافيزيقيا ، كما قرأنا ذلك في الطبعة الثانية ، ولكن الآن يتحول حتى ذلك الموقف وتغدو الميتافيزيقيا غير منتحية من عالم البحث ، بل تعتبر أساسه !
وهكذا فإن الفرز يتم من قبل الأنا الجماعية التي يتكلم بها باسمها زكي نجيب محمود ، في عالم تسيطر عليه الميتافيزيقيا . والإشكالية تتعمق هنا بدلاً من أن تنحل .
لأن الميتافيزيقيا المُبعَّدة من ميدان البحث في الكتاب الأول لم تــُبحث ، فهي أُبعدت عن مجال البحث باعتبارها قضايا خارج التحليل الملموس ، فغدت ثمة هوة غير مدروسة ، لأنه كان ينبغي تحليل تلك الميتافيزيقيا سواء بفحص رموزها تاريخياً ، وكذلك بأن يجري الفحص داخل الأبنية الاجتماعية المتنامية عبر التاريخ في المنطقة ، ولكن هنا عبر القفزة من غياب التحليل الكلي إلى أن تكون هي أساس العالم الُمراد بحثه ، حدث تصدعٌ في تبيانِ جذورِها وطرقِ تطورها ، فغدت معلقة هنا في الهواء !
إن الضمير الجماعي الفارز سيتعامل مع المواد المفروزة من خلال تلك الرؤية السابقة الذكر ، فهو قد أكد على أن البنيةَ الاجتماعية الماضية والمعاصرة أساسها هو الدين ، وهو هذا الضربُ من الوعي الميتافيزيقي - الواقعي الذي يشكلُ أبنيةً اجتماعية ، كما يتمظهرُ ذلك للوعي الفارز ، ولأنه يشكل هذه الأبنية التي تغدو مقدسة ، فإنه لا بد من استمرارها للوعي الذي يقوم بعملية الفرز ، رغم أنه قد بدأ كتابه بالتفكير في إلغاء ذلك البناء القديم بكليته !
ويتمحور الوعي التحديثي هنا وقد فقدَّ تاريخيتـَهُ وفقدَّ تجريبيته النقدية فصار مثالياً ، بمعنى أنه جعل العالم الواقعي مخلوقاً من تلك الرموز الغيبية الميتافيزيقية ، حيث أن هذه الرموز لم تــُبحثْ في مسارها التاريخي الإنساني ، فلم تقرأ باعتبارها نتاج هذا التطور التاريخي الخاص للمنطقة ، ولم تــُـقرأ باعتبارها خالقة للتطور التاريخي في مراحل تالية ، وبهذا فإن موقعَ الحلقة الإسلامية فيها ، غيرَ محددٍ ولا مدروس ولا معروف ، بل هي حلقةٌ تراثية كما يراها زكي نجيب محمود قد انقطعت ، ولكنها في الزمن الحاضر مستمرة ، ولا يعرف لماذا تستمر رغم أن العصر الغربي الكامل موجودٌ خارجها ؟ ! وهذا العصر الغربي هو أيضاً مأخوذٌ في كماله وليس في تاريخيته ، بمعنى أنه كان ناقصاً ودينياً في مرحلة سابقة ، ثم صار حديثاً . ولأنه غير مأخوذ في سيرورة تناقضاته ، ويبدو كياناً تجريدياً ، فكذلك تبدو الحلقة الإسلامية من ذلك التاريخ الشرقي الميتافيزيقي ، كحلقةٍ مقطوعةٍ عن سلستها ، ومعلقةٍ في فراغ تاريخي .
بمعنى أن المنطق اللاتاريخي في رؤيته لتجريبية الغرب النهائية ، هو نفسه المنطق الذي لا يكشف ميتافيزيقية الشرق في سيرورتها المركبة والمعقدة ، فالحلقات التاريخية تتقطع ، والبنى التي تتشكل فيها غير مدروسة ، ولهذا يروحُ الوعي الفارزُ يستورد عناصرَ من الغرب يراها هي أدوات الشغل التحديثي ، ومن ثم يبحثُ عن مثيلاتها وأشباهها في ماضي المشرق . وهذه العناصرُ مقطوعةُ السياقات ، متناثرةُ الأحوال .
لكن أي منطقٍ إيديولوجي يتحكمُ في عملية الفرز ؟
يغدو الغرب التحديثي هو النموذج ، وهو يظهر في مرات عدةٍ كأسماء وحركة علمية مقطوعة بسياقاتها العميقة كالحديث عن (( المعهد القومي للعلوم )) في فرنسا الذي أنشئ بعد ثورة 1789 ، والمناقشات العميقة التي دارت فيه حول اللغة ، ( الفصل السابع ) تغدو مفصولة عن متن بحث ( تجديد الفكر العربي ) ، فهنا يقوم رواد البرجوازية الفرنسية الثورية بإنشاء معاهد علمية لكشف الظاهرات بموضوعية ، وهو أمر يود زكي نجيب نقله إلى الوسط العربي العلمي لكن بدون المسار الثوري البرجوازي الفرنسي . أي أن تظهر عمليات البحث الموضوعية بدون اصطدام بالقوى التقليدية العربية الإسلامية المسيحية الخ .. ، ومن خلال الدراسات العقلية واللغوية المتخصصة فحسب .
إن الفرز كذلك يتوجه إلى ترك الجوانب الميتافيزيقية الكلية كمبحث صور الإله والغيب عموماً ، ويتناول التيارات والأفكار الدينية بملاحظات جزئية ، تحبذ ما هو قريب من المعاصرة ، كاهتمامه بمسألة الحرية لدى المعتزلة رغم أنهم ربطوا الحرية كما يقول بالغيب ، ولم يبحثوها بشكل واقعي .
هنا يصل زكي نجيب محمود إلى [ جوهر الروح العربية ]، أي إلى القسم الميتافيزيقي من الوعي الذي يظل خارج سيرورة التاريخ :
[ إن نظرتنا إلى الكون في صميمها ، تفرق تفرقة واضحة بين عالمين : عالم الكائنات المتناهية – أعني الكائنات المقيدة في وجودها بمكان وزمان معينين ، وعالم اللامتناهي ، الذي يتعالى عن أية صفة تحدد له مكاناً أو زماناً . هذه التفرقة الحادة الواضحة لا تجدها في أية ثقافة أخرى بمثل هذا الوضوح الناصع الذي تجدها به عندنا ] ، ( 17 ) .
هنا تتضح بعض جوانب الوعي الفارز ، فهو وعي ديني – واقعي ، فهو يترك مساحة الجذور الدينية وظاهراتها المعاصرة بلا تحليل تجريبي منطقي ، كالذي اعتزم عليه تجاه الظاهرات عموماً ، و[ الشيء في ذاته ] لدى [ كانت ] يصبح ظاهرات كبرى في ذاتها ، فيضم مع الدين الأخلاق وغيرها ، بحيث تصبح الظواهر التي هي خارج البحث الموضوعي جوانب كبيرة من البناء الفكري والاجتماعي .
أما الجوانب القابلة للتحليل العلمي فهي الظاهرات الفيزيقية عموماً . وبهذا فإن البناء الديني وظواهره تبقى خارج التحليل والنقد ، وبهذا فإن الميتافيزيقيا كما تتشكل في أذهان الجمهور وفي البناء الفكري – الاجتماعي تغدو خارج العلوم ، بل تغدو [ القيم غيث من السماء ] ، ص 285 ، [ وهذا ما حاوله الإمام محمد عبده ، وما حاوله من بعده كل أعلام الفكر في بلادنا ، كل بطريقته الخاصة ] ، ( 18 ) .
وبهذا فإن إغلاق أبواب العصر أمام التراث قد تم بشكل موارب ، فقد جُعل ذلك التراث الغيبي خارج المعمل اللغوي التجريبي لزكي نجيب محمود ، وهو معمل تعيش في حظائره وخلفياته كافة الكائنات الميتافيزيقية المشكلة لعصير القيم ، والوجود الروحي .
أي أن العصر القديم صار منتهياً ، وما عاد التراث سوى قيم مضيئة من الماضي الغابر ، وبهذا فإن البناء الإقطاعي – المذهبي تم استمراره في حداثة الوضعية المنطقية التي اعترفت بوجوده ضمنياً ، وحددت نطاق عملها في التحليل المنطقي لعمل العلوم ، أي هي تتحول إلى هتاف من أجل الصناعة .
إن النظام الاجتماعي القروسطي الذي يلحق الصناعة بالهيكل السياسي والاقتصادي الإقطاعي ، يتأبد عبر الوعي الديني المحافظ الذي أيد استمراريته زكي نجيب ولم يقم بتحليله ونقد ظواهره ، مثلما فعلت مدرسة محمد عبده عموماً ، أي تتم السيطرة على نتاجات العلوم من قبل الوعي الديني ، فنظراً لشموليته واستمراريته الطويلة وعدم تحليله ونقده ، يغدو أقوى من الوضعية المنطقية التي تستخلص نتائج العلوم فلسفياً وتعممها لكن داخل هذه السيطرة للوعي الديني .
إن قراءتها تكون للعالم الطبيعي وظواهره وهي قد أبعدت جزءً كبيراً من البناء الاجتماعي عن التحليل ، وهذه التعميمات الفلسفية تغدو عن الظاهرات الطبيعية وليس عن الظاهرات الاجتماعية التي يلعب الدينُ دوراً أساسياً في تشكيلها ، فتنحشرُ الوضعيةُ المنطقيةُ في زاويةٍ أصغر من الزاوية التي انحشرَ فيها عمانويل كانت .
هنا تقدم الوضعية المنطقية أداة للجمع بين الوعي الديني المحافظ والوعي التقني غير المتدخل في ظواهره ، وتغدو الأساطير الغيبية والآراء المنتهية الصلاحية علمياً واجتماعياً ، غير معرضة للفحص العلمي ، وبالتالي يتم الحفاظ على شبكة الوعي المتخلف جماهيرياً ، وهو أمر يناقض منطلقات الوضعية المنطقية التي كرست نفسها من أجل نقد الخرافات وفتح السبل للتصنيع .
إن المشكلة الرئيسية في وعي الوضعية المنطقية تبقى قائمة وهي اقتصارها الفهم العلمي على معامل الصناعة ومختبرات الفيزياء والكيمياء ، وليس أيضاً ميدان العلوم الإنسانية ، وبالتالي حيرتها إزاء إخضاع الظواهر الدينية والفكرية والاجتماعية عامة للدرس الموضوعي .
إن شبكة الإقطاع – المذهبي المستعادة عند الوضعية المنطقية وهي تتمصر لدى زكي نجيب محمود تقوم برفض المذاهب الإمامية عامةً ، ولا تقوم بتحليل جذورها الاجتماعية العائدة لسيطرة ذلك الإقطاع ، ثم تقترب من المركز العقلي المعتدل في سيطرة الإقطاع – المذهبي عبر المذاهب السنية الاجتهادية والاعتزال ، ورفض التطرف السني المحافظ لدى ابن تيمية وغيره ، أي أن الوضعية المنطقية الممصرة هنا تواصل عمل محمد عبده فيما يتعلق بسيطرة الإقطاع – المذهبي المعتدل ، مع فتح المجال للصناعة والعقل التجريبي داخل الطبيعة المسيطر عليها غيبياً ، والمجتمع المهيمن عليه دينياً ونخبوياً .
إن الفرق بين جان لوك وهيوم وغيرهما من الفلاسفة التجريبيين الإنجليز وبين زكي نجيب محمود ، إن أولئك الفلاسفة كانوا مستقيمين في رفضهم لإدخال الوعي الديني إلى مجال الفلسفة ، جاعلين التجريبية الحسية الكاملة سداً أمام تسلل العلاقات والكائنات الغيبية إليها ، وهذا أمر عضدته الثورة الصناعية في إنجلترا ، ولكن التي أتاحت للدين مجالاً اجتماعياً واسعاً بعيداً عن المعامل والصناعة والبحوث ، وليس بعيداً عن رؤوس العاملين .
أما زكي نجيب فإنه لا يمتلك أصلاً مثل هذه الثورة الصناعية ولا مثل هذه البرجوازية الحاسمة ، ولهذا فإن تجريبيته مخترقة على كافة المستويات ، ومن هنا فهي تتحول إلى نثر أدبي وإلى ما يشبه دعوات العجائز بتمني انتصار الصناعة والعلوم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر عبــدالله خلـــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الرابع ، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015 .
ـــــــــــــــــ
المصادر :
( 1 ) ، ( 2 ) : ( موقف من الميتافيزيقيا ، د . زكي نجيب محمود ، دار الشروق ، ط 4 ، ص ح ) .
( 4 ) : ( المصدر السابق ، ص ( ص ) ) .
( 5 ) ( المصدر السابق ، ص 20 )
( 6 ) ( المصدر السابق ص 22 – 23 ) .
( 7 ) : ( المصدر السابق ص 27 .) .
( 8 ) : ( المصدر السابق ص 34 . ) .
( 9 ) : ( المصدر السابق ، ص 36 ) .
( 10 ) : ( المصدر السابق ص 48 ) .
( 11 ) ، 12 : ( المصدر السابق ص 51 ) .
( 13 ) : ( المصدر السابق ص 12 – 13 ) .
( 14 ) : ( تجديد الفكر العربي ، دار ومكتبة الهلال ، ط9 ، 1993 ، ص 12 – 13 ) .
( 15 ) : ( المصدر السابق ، ص 17 ) .
( 16 ) : ( المصدر السابق ، ص 17 – 18 ) .
( 17 ) : ( المصدر السابق ، ص 280 ) .
( 18 ) ( المصدر السابق ، ص 272 ) .
https://www.alawan.org/2018/06/07/%D8...
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية+الجزء الرابع
يقول زكي نجيب محمود في مقدمته لكتابه [ موقف من الميتافيزيقيا ] ، الذي كان في الطبعة الأولى باسم [ خرافة الميتافيزيقيا ] بأن الفلسفة التي يعرضها هي :
[ لا محاولة لتحليل الوجود الشيئي ورده إلى مصادره الأولى ، بل المحاولة لتحليل قضايا العلوم تحليلاً منطقياً ، يردها إلى جذورها الأولى رداً يتبين منه مدى مشروعية التركيب اللفظي الذي صيغت فيه قضية علمية معينة : أهو متسق الأجزاء بعضها مع بعض ، أم هو منطوٍ على تناقض مستتر ؟ أهو تركيب في طبيعته ما يمكن الباحث من المقابلة بينه وبين ما يشير إليه من حقائق العالم الواقع ، أم هو مشتمل على مفردات لغوية ، وعلاقات رابطة بين المفردات ، تحقق من الصواب والخطأ أمراً محالاً ؟ ] ، ( 1 ) .
فالباحث يقول بأن الفلسفة لم تعد لديها قضايا خاصة ، بل هي ليست قادرة على ذلك :
[ لأن العلوم المختلفة – كل في ميدانه – هي وحدها المؤهلة بمناهجها للوصول إلى حقائق الكون والإنسان ، وحسب الفلسفة – إذن – أن تسير وراء العلوم تتسقطُ أقوالها لتصب عليها ضوء التحليل المنطقي ، فتكشف ما قد يكون فيها من خللٍ يستدعي من العلماء إعادة النظر ] ، ( 2 ) .
فالفلسفة تغدو لدى زكي نجيب هي تسقطُ أخبار العلوم ، ومن جهة أخرى تقوم بتحليلها بشكل لغوي منطقي ، فالجمل ثلاث [ صادقة حتماً ، أو باطلة حتماً ، أو أنها مما يحتمل الصدق والكذب ] ، لهذا فإن هذا المعيار اللغوي المنطقي ينطبق على الحقائق العلمية الموضوعية الصحيحة المنتجة من خلال العلوم [ كأن تقول 2 + 2 = 4 ] ، أما [ الجملة الباطلة حتماً هي التي ينقض شطرها الثاني شطرها الأول ، كأن تقول إن المثلث لا تحيط به ثلاثة أضلاع ] ، [والجملة التي تحتمل الصدق والكذب فهي الجملة التجريبية كأن تقول إن جبل الهملايا صخوره بركانية ] .
ويقول في مقدمته للطبعة الثانية بأن الجمل التي يعبر قائلوها عن القيم الأخلاقية والجمالية [ فارغة من المعنى ، فكل عبارة يقولها قائلها ليحكم على فعل بأنه خير أو على شيء جميل ، إن هي إلا تعبير منه عن ذات نفسه ولا تدل في الواقع على شيء .. ، لأن العالم الخارجي – عالم الأشياء – لا خير فيه ولا جمال ، كما أنه لا شر فيه ولا قبح ] ، ( 2 ) .
إذن تعتمد الفلسفة التي يدعو لها زكي نجيب بأنها تحليل منطقي لغوي لبحث العلماء في [ الأشياء ] .
إن العلوم هي ما يمكن تدرس عمليات وحركات الأشياء المختلفة ، وهي الأشياء المادية ، الملموسة ، وما هو غيرُ ملموسٍ فهو خارج البحث العلمي . فهذه الموادُ هي التي تخضعُ للتحليل المعملي ، أما الجوانبُ الفكرية والاجتماعية فكيف يمكن إخضاعها لمثل هذا التحليل ؟
فالميتافيزيقيا هي الحكم على أشياء غير محسوسة أما [ الفلسفة الوضعية المنطقية ] فهي الحكم على الأشياء الملموسة ف [ الفلاسفة حتى اليوم مشتغلين بتوضيح ألفاظ غامضة في مجالات فكرية معينة ، مثل الأخلاق والجمال والسياسة والنفس والاجتماع ، ولذلك فهذه كلها ما تزال تــُعد (( علوماً فلسفية )) ، فهي من مجال الفلسفة بدرجة تقل أو تزيد درجة التحديد والوضوح اللذين بلغتهما ألفاظها ] ، ( 4 ) .
إن الفلسفةَ هنا تغدو ثلاث فلسفات ؛ [ فهناك الفلسفة التي تبحث في ( أشياء ) لا تقع لنا في الخبرة الحسية ، وأما أشياء مما تصادفه في مباحث العلوم الأخرى كالإنسان ، والمجتمع والتاريخ .. ] ، [ ومن ذلك نرى أن نختار للفلسفة أن تحصر نفسها حصراً في التحليل المنطقي وحده ] ، ( 6 ) .
ولا نعرفُ العلاقات التي تتشكلُ بين هذه الفلسفات ، فكيف ستقومُ الفلسفةُ الوضعية المنطقية بكشفِ وتحليل الفلسفتين السابقتين ، حيث إنهما تنتميان إلى مستوىً ليس هو مستوى الأشياء ، بل مستوى الأفكار ، وهو مستوى حسب الوضعية المنطقية ، ليس شيئياً ؟
إنها تجاه القضايا التي تطرحها الفلسفة الميتافيزيقية ك [ الشيء في ذاته ] و [ المطلق ] و [ العدم ] و [ القيم ] فإنها تعتبرها خارجَ البحث [ فليس اختيارنا للمجموعة المنطقية ، وتركنا للمجموعة (( الشيئية )) تعسفاً وجزافاً ، بل هو قائم على إننا ننكرُ الميتافيزيقيا إنكاراً تاماً ... ونريد من جهة أخرى أن نترك (( الأشياء )) كالإنسان والمجتمع والتاريخ واللغة والطبيعة ، إلى العلوم ، لأن العلماء وحدهم ، بما لديهم من أدوات ومناهج للبحث ، هم القادرون على الوصول بهذه المباحث إلى نتائج يمكن الاعتماد على صدقها ] ، ( 6 ) .
هنا نجدُ بعضَ الحيرة في وصف المجموعات الشيئية ، فمرةً تغدو داخل الميتافيزيقيا ، ومرة تصبح في دائرة العلوم .
لكن الحكم باعتبار الطبيعة وحدها هي ميدان العلوم يتضح لاحقاً ، فهو يقول في صفحة 27 [ إن العبارات المقبولة من هذه الكومة كلها هي القضايا الرياضية وقضايا العلوم الطبيعية ، لأن هاتين الطائفتين هما وحدهما العبارات ذوات المعنى ، أما العبارات التي لا هي من هذه ولا من تلك فينبغي حذفها ] ، ( 7 ) .
إن ذلك التردد بين فلسفة [ العلوم الطبيعية والرياضة ] باعتبارها هي الفلسفة ، وبين العلوم الإنسانية باعتبارها فلسفة بين قوسين ، يحسم هنا ولكن ليس بشكل نهائي ، لأنه في عبارات شاردة هنا أو هناك سوف يعود لاعتبار العلوم الإنسانية علوماً ومنتجة لفلسفة وضعية منطقية ما ، لكن هذه المنطقة الأخيرة ستكون غامضة .
يعلق على عبارة للكندي يقول فيها [ علوم الفلسفة ثلاث : فأولها العلم الرياضي في التعليم وهو أوسطها في الطبع ، والثاني علم الطبيعيات وهو أسفلها في الطبع ، والثالث هو علم الربوبية وهو أعلاها في الطبع .. ] فيقول زكي نجيب : [ والذي أريد أن اعترض به على أمثال هذا القول ، هو أنك حين تبحث في الإلهيات فأنت من رجال الدين ولست بالفيلسوف ، وحين تبحث في الرياضة فأنت رياضيٌ لا فيلسوف ، وحين تبحث في الطبيعة فأنت من علماء الطبيعة لا فيلسوف ] .
إن الفلسفة القديمة والوسيطة كانتا شاملتان ، لكن الفلسفة الحديثة لم تعد حاوية للعلوم بل غدت طريقة تفكير ، ولكن هذه الطريقة في التفكير لدى زكي نجيب هي لاحقة للعلوم فهو لا يقوم هنا بتحليل عبارات الكندي فيحلل طريقته في رؤية الألوهية ، ولا رؤيته في تحليل الطبيعة ، بل يرفض هذه النظرة تماماً ، منتظراً نتائج العلوم في شتى هذه الفروع المعرفية ، عبر معايير الصدق والكذب ، فسوف تغدو البحوث حول الكائنات المجردة الغيبية خارج البحث لأنها لا تملس شيئاً محدداً ، فهي تريد كائنات ملموسة تقوم باختبارها وتحليلها ، وحين لا تجد ذلك سوف تغدو قضايا مثل هذه الفلسفة خارج الفلسفة .
ومن هنا سيستمر التناقضُ السابقُ الذكر في مثل هذا الوعي لدى زكي نجيب ، فالفلسفة تدرسُ الأشياء ، والأديانُ لا تشكلُ ظاهرات ملموسة يمكن درسها ، فالكينونة هي ماديةٌ محضة في عُرف هذه الفلسفة الوضعية ، وليست هي علاقات موضوعية كذلك ، فأشكال التفكير ومواده عبر العصور تغدو خارج المادة ، في حين هي جزءٌ من بناء ثقافي يعكس علاقات مادية اقتصادية واجتماعية ، وحين يفسر الكندي مبادئ الألوهية حسب تفكيره فهو يعبر عن علاقات موضوعية ، عن سلطة واقتصاد ومستويات فكرية مرتبطة بتلك السلطة الإلهية - الاجتماعية وذلك الاقتصاد .
فهو إضافة لبحثه في الفكر الديني يبحث كذلك في العلوم الطبيعية ولديه الكثير من الأبحاث في مجال الظاهرات الطبيعية المختلفة ، وقد قام بتجارب كثيرة في هذا المجال ولديه بحوث تقنية ، فكيف تكون هذه خارج الفلسفة ؟ أي لماذا لم تقم الوضعية المنطقية لدى زكي نجيب محمود بتتبع النتائج العلمية لدى الكندي وترى مدى صحتها وخطئها ؟ وبالتالي (( تتسقط نتائج العلوم )) على حد تعبير زكي نجيب وتقرأ المحدودية العلمية للفلسفة وأسبابها ؟
إن الفلسفة الوضعية المنطقية هنا لا تبدأ من تجذير نفسها داخل السياق العربي الإسلامي ، بل تبدأ من نقطةٍ أخرى .
يذهب زكي نجيب هنا نحو المادة العلمية الجاهزة القادمة من الغرب ، وعبر المصادر المتوفرة ، فيعرض أن الوضعية المنطقية لها جذور في تاريخ الفلسفة الغربية وليست هي نبتاً مقطوعاً ظهرت فجأة في القرن التاسع عشر وتم استيرادها إلى مصر ، فيذكر بأن سقراط وأفلاطون وأرسطو لديهم بذور بحث لغوي منطقي ، ولكن المدرسة تشكلت في أوربا الحديثة ، ولا يقوم بذكر جذور هذه المدرسة في البناء الصناعي والحديث عموماً ، فهو يقطف زهرات التفكير التجريبية في دول وفترات متعددة ، فهذه الزهرات تظهر بلا حقول :
[ والفلاسفة التجريبيون من الإنجليز : ( لوك ) و( باركلي ) و( هيوم ) وأتباعهم ، هم – على وجه الإجمال – من أولئك الذي نظروا إلى الفلسفة على أنها طريقة في التحليل ] ، [ أن أعظم ما كتبه هؤلاء الفلاسفة يندرج تحت ما يسمى في فروع الفلسفة بنظرية المعرفة ] ، ( 8 ) .
[ إن الفلسفة على أيديهم كانت عملية تحليلية ، ولم تكن – في الأعم الأغلب – تقريراً عن ظواهر الكون المختلفة بإثبات صفات معينة لها أو نفيها عنها ] ولهذا فإن[ الذي نتصدى لإنكاره في هذا الكتاب إنكاراً قاطعاً ، هو إمكان التحدث عن [ أشياء ] غير محسة – وهو موضوع الميتافيزيقيا بالمعنى الذي نرفضه - ] ، ( 9 ) .
يقوم هنا زكي نجيب بقطع جذور المدرسة التجريبية عن بيئتها الصناعية والثقافية التي تراكمت عبر عدة قرون ، فقد بدأت هذه الفلسفة تحسم العلاقة مع الدين عبر نشوء دول صناعية علمانية ، وغدت بنى الجامعات والمدارس مربوطة بشبكة اجتماعية ثقافية كبيرة .
ولكن حسم علاقاتها مع الدين لم يكن بالتوجه لتحليل الدين ونقده ، بل تم ترك مسافة له في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية ، وما تفعله هنا عبر تكريس هذه التجريبية هو كشف طبيعة المواد المختلفة ، ولهذا فإن العلوم الطبيعية والرياضية هي المدعوة للنمو بشكل واسع ، في حين إن العملية التغييرية قد تمت على يد المدارس التنويرية والعقلانية التي وجهت نقداً كاسحاً للمسيحية الكاثوليكية ، ففتحت الطرقَ الاجتماعية والسياسية لسير المدارس التجريبية الفلسفية التي ستكون مهمتها المحورية هي تطوير العلوم والصناعة .
إن حلقات ديكارت ونيوتن وبيكون وغيرهم من العلماء – المنظرين تجري في بلدان ومراحل مختلفة ، وهم يعبرون عن درجات من التطور العلمي والفلسفي حسب دوائرهم الاقتصادية – الثقافية ، ورغم أنهم يمثلون الخط العلمي التجريبي ، فلا يعني ذلك إنهم منقطعون عن الخطوط الفلسفية ، أو أن هذه الخطوط الفلسفية التي بحثت قضايا [ ليست شيئية ] لم تكن مندغمة مع هذه التيارات .
ولكن لدى زكي نجيب فإن علاقتهم بالتحولات الاجتماعية الصناعية الكبرى التي وفرت لهم أرضية البحوث مقطوعة ، كما لو أنهم يعملون في مجتمعات قروية ، وليس كون تجريبيتهم الدقيقة تجري لأجل جوانب صناعية هامة ، كما أنها لا تنقطع عن أسئلة الفلسفة الكبيرة ، كما أن أشكال وعيهم التجريبية لا ترتبط لديه بمستوى تطور تلك القواعد الصناعية والعلمية . وهو يصر في مواقع أخرى على الترابط الوثيق بين العلوم وتطبيقاتها وبشكل آلي ، وكأن ليس ثمة علوم نظرية . وهذه كلها تدل على النقل لأهمية العلوم لا لاستفادة الحقيقية من تشكلها الوطني .
ولهذا فيتكون أساس الوضعية المنطقية لديه وفي المدرسة عامة عند الفيلسوف الألماني [ كانت ] . إن تأخر ألمانيا الصناعي والثوري عامةً عن إنجلترا وفرنسا ، سوف يتمظهرُ فلسفياً لدى التجريبية الألمانية وقد غدت باسم الوضعية التجريبية .
يقول زكي نجيب محمود :
[ لقد بدأ [ كانت ] عمله هذا بوعدٍ قطعه على نفسه ، وهو أن يترك الموضوعات الميتافيزيقية جانباً – وهي عنده البحث في الله والحرية والخلود – حتى يفرغَ من تحليله لبناء العلم الرياضي وبناء العلم الطبيعي ، وبعدئذٍ يعود إلى البحث الميتافيزيقي ، ليقيمه على نفس الأسس التي رآها في ذينك العلمين ؛ لكنه فرغ من ( نقده ) للرياضة وعلم الطبيعة ، ثم لم يتم ما كان قد وعد به من تشييد بناء الميتافيزيقا على غرارهما ، ولما سئل في ذلك ، قال إنه وجد أن ( النقد ) هو نفسه الميتافيزيقا التي أرادها ] ، ( 10 ) .
ولم يستطع زكي نجيب محمود أن يعلل لماذا توقف ( كانت ) عن تطبيق منهجه على القضايا خارج العلوم الطبيعية ، إلا بأن أورد القول الشهير ل ( كانت ) :
[ نرى كانت يرفضها على أساس أن العقل البشري بحكم طبيعته لا يستطيع الحكم إلا على ظواهر الأشياء ، وإنه إذا غامر في مجال (( الأشياء في ذاتها )) وقع في المتناقضات ]] ، ( 11 ) .
ويرد زكي نجيب على ذلك قائلاً :
[ أما أصحاب المذهب الوضعي المنطقي فيبنون استحالة الميتافيزيقا على أساس أن أقوالها فارغة من المعنى بحكم ما اتفقنا عليه في طرائق استعمال اللغة ] ، ( 12 ) .
إن عدمَ قدرةِ ( كانت ) على تحليل موضوعات الله والحرية والخلود إذن لا تعود إلى كونها قضايا وموضوعات في ذاتها ، بل إلى مشكلة أعمق من هذه ، وذلك أن المنهج التحليلي الخاص بمعرفة المادة والطبيعة لا يستطيع أن يقوم بتحليل مستوى آخر مختلفاً .
فظاهرات المادة وطبيعة الأشياء هي حقائقٌ موضوعيةٌ في أي مكانٍ أو عبر العصور ، والمنهجُ الذي يقومُ بتحليلها هو منهجٌ مفيد وصحيح ، لكن نقل هذا المنهج المحلل للأشياء إلى مستوى تحليل الظاهرات الفكرية والاجتماعية غير ممكن ، كمن يستخدم السنارة المخصصة لصيد السمك لصيد الحيوانات البرية ، وتباين المستويين الطبيعي ، والمستوى الفكري الاجتماعي ، هو ما شكل التقسيم المعروف بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية أو الإنسانية .
لكن لماذا تم إدخال المنهج التجريبي المعملي إلى مجالات الوعي ؟
لم يقمْ زكي نجيب بطرحِ هذا السؤال وهو يقومُ بعمليةِ نقل الوضعية المنطقية إلى البُنى العربية ، ونجدُ في مفرداتِ المنهج الغائرةِ وعياً فردياً يسقطُ ذاته على الظاهرات المدروسة ، فهو يحللُ وعياً يتصور بأنه مماثل لطبيعته هو ، فهذا الوعي الفردي المجرد الذي يتوهمه في مركز الرؤية ، يعتبره خالياً من الوعي الاجتماعي ، وحين يكتشف مثل هذا الوعي قوانين المادة الطبيعية بموضوعية ، وهذه عملية تاريخية كذلك ، فهو يتصوره إن بإمكانه أن يطبق ذات المنهجية على وعيه الفردي في مجال الحياة الفكرية – الاجتماعية .
لكن هذا الفرد ليس فرداً في حقيقة أمره ، بل هو تمثل للجماعة ، وهو حامل لتراث وعلاقات الجماعة ، ولهذا فإن الوعي الجماعي في أي بنية اجتماعية محكوم بعلاقاتها وإرثها المستقل عنه .
ولهذا فإن تحليل مفهوم المطلق أو الإله ، لا يمكن أن يتم بأدواتٍ تجريبية معملية ، لأن تحليله يتم في مستوى معرفي مختلف ، هو التحليل الفكري الاجتماعي ، والذي هو بالضرورة يتمظهر في عدة تيارات ورؤى ، فليست العملية التحليلية له مماثلة لعملية تحليل الحديد والذهب .
إن تصورَ الوضعية المنطقية بأنه يمكن مماثلة المنهجين ، والوصول إلى حل للمعضلة التي منعت تطورها ، سواء عبر الهروب المنهجي حين وضع ( كانت ) هذه المسائل في الحفرة العميقة التي لا يمكن الوصول إليها وهي حفرة ( الشيء في ذاته ) أو عبر حفرة أخرى لتلاميذه حيث ألقيت هذه المسائل الميتافيزيقية خارج البحث لأنها لا تعبر عن أشياء ملموسة في الطبيعة يمكن جرها إلى المعمل .
يناقش زكي نجيب عبارة لـ (برادلي ) يقول فيها :
[ ( يدخل المطلق في تطور العالم وتقدمه ، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطور أو تقدم )) . ومعنى ذلك عنده – فيما أظن – أن العالم في سيره التطوري الذي جعل يتقدم به من الحالة السديمية إلى الحالة التي هو عليها الآن ، بما فيها من نبات وحيوان وإنسان ، قد تأثر بعدة عوامل من بينها عامل اسمه (( المطلق )) – على الرغم من أنه قد عمل على تطور العالم وتقدمه من حالة إلى حالة – فإنه هو نفسه ثابت على حالة واحدة ، لا تطور فيه ولا تقدم . ] .
[ لو طالبت ( برادلي ) بأن يشير لي إلى المطلق الذي يحدثني عنه ، كان أقل ما يعترضُ علي به ، هو أن ما يــُشارُ إليه إنما يكون في مكانٍ معلوم وزمان معلوم ، أما (( المطلق )) فلا مكان له ولا زمان ، وإلا لما صح وصفهُ بأنهُ مطلقٌ من القيود .. كيف إذن عرفته يا صاحبي ؟ إنك لا تعرف إلا الأشياءَ ذوات المكان المعين والزمان المعين ، أم وهبك الله باباً من أبواب المعرفة لم يفتحه أمامي ؟ أليست حواسي وحواسك سواء ؟ ] ، ( 13 ) .
إن عبارة ( برادلي ) الدينية تعبر عن وعيه الديني المسيحي ، حيث يتصورُ الإلهَ قوةً خالقة أبدية للوجود ، ولكنه ليس إلهاً منفصلاً عن هذا العالم بل هو يدخلُ فيه ويغيره ، ولكنه يبقى ثابتاً لكونه إلهاً.
إن فكرة برادلي هي من وعي مسيحي تشكل في ظروف تاريخية معينة ، أي يعود لرؤية تشكلت في بنية اجتماعية ، وبالتالي فإن مطالبة زكي نجيب يرى هذا المطلق في زمان ومكان معينين ، أمر صحيح لكي يرى هذه الفاعلية التي يقول عنها برادلي .
ولكنه يريد أن يطبق أدوات معمله التجريبية على المطلق ، لا أن يدرسه كظاهرة فكرية واجتماعية وتاريخية ، بمعنى إن هذا المطلق في الدرس الموضوعي يتحول إلى صورٍ متعددة لهذا الإله ، كما تجلت هذه الصورُ في اللوحات الفنية وفي جمل الكتب المقدسة ، وتعابير الرهبان والقساوسة والفلاسفة والجمهور .
وبطبيعة الحال فهذا الدرسُ لا يتم في الطبيعة بل في مجال الوعي الإنساني ، ومن هنا يتمُ درسَ الصور باعتبارها منتجات لهذا الوعي في مختلف المراحل ، ويتم درس كيفية فاعلياتها المتعددة ، وكيف قامت بتغيير المجتمعات ، وذلك كله عبر [ الملموس ] ؛ أي في الكتب الدينية ، واللوحات التعبيرية ، وفي القصص ، والأناشيد والأمثال ، والأفكار وفي الثورات والتضحيات للرهبان تحت عسف سلطة روما الخ .. وكيف قامت الصور هذه بتدمير الإمبراطورية الكبرى وتشكيل حضارة مختلفة الخ . . ، وذلك كله من أجل أن نرى (( المطلق )) وقد تجسد في النسبي ، والغيبي وقد تمظهرَ في اليومي ، والكلي وقد توغلَ في الجزئي ، واستحال إلى كليات جديدة من المفاهيم لعصورٍ تالية .
إن تطبيق المناهج المعملية على ظاهرات فكرية – اجتماعية مركبة ، والمطالبة بصور محسوسة لأي مفردة ، هو أمر يمكن تحقيقه ولكن عبر استخدام أدوات منهجية مختلفة ، كالشواهد التاريخية المكتوبة والمنحوتة والآثار المختلفة ودرس ظاهرات الحياة في العصور من سكنٍ وعملٍ ونقود الخ .. فتصير الظاهرات الروحية والفكرية في متناول التشريح .
ولهذا فإن إلغاء زكي نجيب لظاهرات روحية أخرى كالخير والجمال هو أمر مماثل لإلغائه المطلق ، وهي مفاهيم بشرية نسبية تعود لحقل الوعي ، فلا يمكن دراستها إلا عبر هذا الحقل في تطوره الاجتماعي التاريخي لاستخلاص رؤى وتوجهات البشر في تجسيد وتمثل هذه القيم التي هي أيضاً (( كائنات )) موضوعية لها تجسد خارجي يقع في الوعي والظاهرات الاجتماعية بالنسبة للخير ، وكذلك في الوجود الطبيعي بالنسبة للجمال ، أما المطالبة بحضورها الملموس كالتفاح فهو أمر غير ممكن .
وقد مضى زكي نجيب محمود إلى تطبيق منهجه التقني التجريبي المستورد على الواقع العربي الإسلامي المسيحي الخ ، لكن هذه المنهجية حدث لها انفصامٌ كبيرٌ ، خاصة في فكرتها الأساسية بالابتعاد عن تحليل المفردات والجوانب الغيبية حيث أن هذه لا تخضع للفحص المعملي والتأكد الملموس ، فلم يفعل مثلما قالت الفيلسوف الألماني ( كانت ) بترك هذه الجوانب الميتافيزيقية .
علينا هنا أن نقول بأن ثمة مسافة بين ( كانت ) وزكي نجيب فدرجة الموضوعية المثالية والعلمانية لم تتوفر لدى زكي نجيب ، فذاك يقف فوق مجتمع ألماني ذي صناعة كبيرة رغم أنه بعدُ لم يحسم تطوره الرأسمالي الديمقراطي بشكل أساسي ، نظراً لتخلف طبقته البرجوازية ، عن مثيلتيها الإنكليزية والفرنسية ، لكن المجتمع المصري / العربي الذي يقف عليه زكي نجيب ، لم تظهر فيه هذه البرجوازية إلا بشكل فئات وسطى تابعة للإقطاع ، وبهذا فإن العلوم الطبيعة والاجتماعية لم تكن بمستوى يتيح إعطائه وفرةً من المعلومات والنتائج العلمية ليتوجه بعدها إلى تعميمات فلسفية كما فعل ( كانت ) . وكما أشارَ هو بأن الفلسفة تأتي لتحصد ما زرعه العلماء .
ومن هنا فهو لم يلتزم بمدرسته وقوانينها ، سواء بترك الاشتغال في الجوانب الميتافيزيقية والتركيز على الجوانب التقنية الملموسة واستثمارها فلسفياً ، فتوجه ليس إلى تحليل الواقع الراهن المصري العربي ، بل إلى تحليل التراث والإيمان مسبقاً بكائناته وظواهره الميتافزيقية ، وجعلها أساساً للمجتمع الذي يقوم بتحليله .
وهو من بداية كتابه [ تجديد الفكر العربي ] يحس بالتناقض بين عصره وأفكاره وبين التراث ، يقول:
[ فبدأتُ بتعصبٍ شديد لإجابة تقول إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بتراً ، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علماً وحضارة ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم ] ، ( 14 ) .
يقوم زكي نجيب بتحليل التراث عبر المرويات والقصص والاستشهادات المقتطعة من هنا وهناك عبر العصور ، وخارج سياقاتها الاجتماعية البنيوية المحددة ، بأسلوب أدبي شخصي يعترف فيه بقصوره عن درس التراث بشكل منظم .
فهنا هو لا يقوم بجعل ميدان التراث ميدان فحص تقني لغوي كما اقترح في كتابه [ خرافة الميتافيزيقيا ] ، ولا بالاستعانة بعلماء فحصوا التراث قبله ، فيقوم بالاستفادة من تحليلاتهم الواسعة والعميقة لكي يقدم خلاصات وضعية منطقية كما تقترح فلسفته ، بل يقوم بالتحليل الشخصي من منطلقاته المشروخة هذه .
فتلك الميتافيزيقيا التي شن عليها كل هجومه في الكتاب السابق المذكور ، قام بجعلها الأساس المعترف به للمجتمع التراثي الذي يقوم بنقده ، وهنا ترتبت على ذلك إشكالية كبيرة ، وتمظهرت الإشكالية أولاً في موقفه الأول الساذج بضرورة رفض التراث كلياً وعدم بعثه ، لكنه لم يستطع أن يستمر في هذا الموقف ولا يعلمنا لماذا ، ثم حلت الحيرة وليس الإشكالية جملة قرأها لهربرت ريد موجزها :
[ إنني لعلى علم بأن هنالك شيئاً أسمه (( التراث )) ، ولكن قيمته عندي هي في كونه مجموعةً من وسائل تقنية يمكن أن نأخذها عن السلف لنستخدمها اليوم ونحن آمنون بالنسبة إلى ما استحدثناه من طرائق جديدة ؟ ] ، ( 15 ) .
تلعب الطرائق والأسماء الفلسفية الغربية التجريبية كمواد مستوردة دور المفاتيح الكلية للمعضلة ، مثلما حدث ذلك للسابقين ، وهنا يلعب مفتاح الاستعمال القني للتراث المجلوب عن طريق هربرت ريد الدور المطلوب لحل الإشكالية :
[ أقول إنني وجدت في هذه العبارة مفتاحاً للموقف كله ؛ فماذا عسانا أن نأخذ من تراث الأقدمين ؟ الجواب : نأخذ من تراث الأقدمين ما نستطيع تطبيقه اليوم تطبيقاً عملياً ] ، ( 16 ) .
لا يحدد زكي نجيب هنا طبيعة الضمير الجماعي في ( عسانا ) و( نأخذ ) و( نأخذ ) الثانية ، و(نستطيع ) ، فمن هم الذين يأخذون ويفرزون في حالات الأخذ ؟
لقد أقام من هذا الضمير المجردِ سلطةً كلية على التراث وإعادة تجديده في الزمن الراهن ، وحددت السلطةُ عمليةَ الجلبِ التراثي هذه بمدى نفعيةِ المواد في البناء الاجتماعي الإسلامي - المسيحي - العربي الراهن .
ويمضي الفرزُ في تحديد نفعية أو ضرر ، وتحلل واهتراء الأدوات أو استمرار دورها النفعي المفيد حديثاً . وبهذا فإن المواد المضرة وغير المفيدة تـُهمل وتترك في الزمن السابق .
وقد لاحظنا أن الهيكلَ الميتافيزيقي الغيبي برموزهِ وعالمهِ العام قد أُعتبر من قبل ضمير الفرز الجماعي السابق ذكره ، هيكلاً مؤسساً للنظام المفروز ، ولم يقم الأنا الجماعي الفارز بأي رفض أو تحليل لتاريخية هذا الهيكل ورموزه ، فُجعل كما هو غيبياً ميتافيزيقياً مقبولاً .
وبهذا فإن الدعوى الأساسيةَ في الكتاب السابق غدت منتفيةً ، فبدلاً من (( خرافة )) الميتافيزيقيا كما كان الأمر في الطبعة الأولى من الكتاب ، يغدو العنوان (( موقف )) من الميتافيزيقيا ، كما قرأنا ذلك في الطبعة الثانية ، ولكن الآن يتحول حتى ذلك الموقف وتغدو الميتافيزيقيا غير منتحية من عالم البحث ، بل تعتبر أساسه !
وهكذا فإن الفرز يتم من قبل الأنا الجماعية التي يتكلم بها باسمها زكي نجيب محمود ، في عالم تسيطر عليه الميتافيزيقيا . والإشكالية تتعمق هنا بدلاً من أن تنحل .
لأن الميتافيزيقيا المُبعَّدة من ميدان البحث في الكتاب الأول لم تــُبحث ، فهي أُبعدت عن مجال البحث باعتبارها قضايا خارج التحليل الملموس ، فغدت ثمة هوة غير مدروسة ، لأنه كان ينبغي تحليل تلك الميتافيزيقيا سواء بفحص رموزها تاريخياً ، وكذلك بأن يجري الفحص داخل الأبنية الاجتماعية المتنامية عبر التاريخ في المنطقة ، ولكن هنا عبر القفزة من غياب التحليل الكلي إلى أن تكون هي أساس العالم الُمراد بحثه ، حدث تصدعٌ في تبيانِ جذورِها وطرقِ تطورها ، فغدت معلقة هنا في الهواء !
إن الضمير الجماعي الفارز سيتعامل مع المواد المفروزة من خلال تلك الرؤية السابقة الذكر ، فهو قد أكد على أن البنيةَ الاجتماعية الماضية والمعاصرة أساسها هو الدين ، وهو هذا الضربُ من الوعي الميتافيزيقي - الواقعي الذي يشكلُ أبنيةً اجتماعية ، كما يتمظهرُ ذلك للوعي الفارز ، ولأنه يشكل هذه الأبنية التي تغدو مقدسة ، فإنه لا بد من استمرارها للوعي الذي يقوم بعملية الفرز ، رغم أنه قد بدأ كتابه بالتفكير في إلغاء ذلك البناء القديم بكليته !
ويتمحور الوعي التحديثي هنا وقد فقدَّ تاريخيتـَهُ وفقدَّ تجريبيته النقدية فصار مثالياً ، بمعنى أنه جعل العالم الواقعي مخلوقاً من تلك الرموز الغيبية الميتافيزيقية ، حيث أن هذه الرموز لم تــُبحثْ في مسارها التاريخي الإنساني ، فلم تقرأ باعتبارها نتاج هذا التطور التاريخي الخاص للمنطقة ، ولم تــُـقرأ باعتبارها خالقة للتطور التاريخي في مراحل تالية ، وبهذا فإن موقعَ الحلقة الإسلامية فيها ، غيرَ محددٍ ولا مدروس ولا معروف ، بل هي حلقةٌ تراثية كما يراها زكي نجيب محمود قد انقطعت ، ولكنها في الزمن الحاضر مستمرة ، ولا يعرف لماذا تستمر رغم أن العصر الغربي الكامل موجودٌ خارجها ؟ ! وهذا العصر الغربي هو أيضاً مأخوذٌ في كماله وليس في تاريخيته ، بمعنى أنه كان ناقصاً ودينياً في مرحلة سابقة ، ثم صار حديثاً . ولأنه غير مأخوذ في سيرورة تناقضاته ، ويبدو كياناً تجريدياً ، فكذلك تبدو الحلقة الإسلامية من ذلك التاريخ الشرقي الميتافيزيقي ، كحلقةٍ مقطوعةٍ عن سلستها ، ومعلقةٍ في فراغ تاريخي .
بمعنى أن المنطق اللاتاريخي في رؤيته لتجريبية الغرب النهائية ، هو نفسه المنطق الذي لا يكشف ميتافيزيقية الشرق في سيرورتها المركبة والمعقدة ، فالحلقات التاريخية تتقطع ، والبنى التي تتشكل فيها غير مدروسة ، ولهذا يروحُ الوعي الفارزُ يستورد عناصرَ من الغرب يراها هي أدوات الشغل التحديثي ، ومن ثم يبحثُ عن مثيلاتها وأشباهها في ماضي المشرق . وهذه العناصرُ مقطوعةُ السياقات ، متناثرةُ الأحوال .
لكن أي منطقٍ إيديولوجي يتحكمُ في عملية الفرز ؟
يغدو الغرب التحديثي هو النموذج ، وهو يظهر في مرات عدةٍ كأسماء وحركة علمية مقطوعة بسياقاتها العميقة كالحديث عن (( المعهد القومي للعلوم )) في فرنسا الذي أنشئ بعد ثورة 1789 ، والمناقشات العميقة التي دارت فيه حول اللغة ، ( الفصل السابع ) تغدو مفصولة عن متن بحث ( تجديد الفكر العربي ) ، فهنا يقوم رواد البرجوازية الفرنسية الثورية بإنشاء معاهد علمية لكشف الظاهرات بموضوعية ، وهو أمر يود زكي نجيب نقله إلى الوسط العربي العلمي لكن بدون المسار الثوري البرجوازي الفرنسي . أي أن تظهر عمليات البحث الموضوعية بدون اصطدام بالقوى التقليدية العربية الإسلامية المسيحية الخ .. ، ومن خلال الدراسات العقلية واللغوية المتخصصة فحسب .
إن الفرز كذلك يتوجه إلى ترك الجوانب الميتافيزيقية الكلية كمبحث صور الإله والغيب عموماً ، ويتناول التيارات والأفكار الدينية بملاحظات جزئية ، تحبذ ما هو قريب من المعاصرة ، كاهتمامه بمسألة الحرية لدى المعتزلة رغم أنهم ربطوا الحرية كما يقول بالغيب ، ولم يبحثوها بشكل واقعي .
هنا يصل زكي نجيب محمود إلى [ جوهر الروح العربية ]، أي إلى القسم الميتافيزيقي من الوعي الذي يظل خارج سيرورة التاريخ :
[ إن نظرتنا إلى الكون في صميمها ، تفرق تفرقة واضحة بين عالمين : عالم الكائنات المتناهية – أعني الكائنات المقيدة في وجودها بمكان وزمان معينين ، وعالم اللامتناهي ، الذي يتعالى عن أية صفة تحدد له مكاناً أو زماناً . هذه التفرقة الحادة الواضحة لا تجدها في أية ثقافة أخرى بمثل هذا الوضوح الناصع الذي تجدها به عندنا ] ، ( 17 ) .
هنا تتضح بعض جوانب الوعي الفارز ، فهو وعي ديني – واقعي ، فهو يترك مساحة الجذور الدينية وظاهراتها المعاصرة بلا تحليل تجريبي منطقي ، كالذي اعتزم عليه تجاه الظاهرات عموماً ، و[ الشيء في ذاته ] لدى [ كانت ] يصبح ظاهرات كبرى في ذاتها ، فيضم مع الدين الأخلاق وغيرها ، بحيث تصبح الظواهر التي هي خارج البحث الموضوعي جوانب كبيرة من البناء الفكري والاجتماعي .
أما الجوانب القابلة للتحليل العلمي فهي الظاهرات الفيزيقية عموماً . وبهذا فإن البناء الديني وظواهره تبقى خارج التحليل والنقد ، وبهذا فإن الميتافيزيقيا كما تتشكل في أذهان الجمهور وفي البناء الفكري – الاجتماعي تغدو خارج العلوم ، بل تغدو [ القيم غيث من السماء ] ، ص 285 ، [ وهذا ما حاوله الإمام محمد عبده ، وما حاوله من بعده كل أعلام الفكر في بلادنا ، كل بطريقته الخاصة ] ، ( 18 ) .
وبهذا فإن إغلاق أبواب العصر أمام التراث قد تم بشكل موارب ، فقد جُعل ذلك التراث الغيبي خارج المعمل اللغوي التجريبي لزكي نجيب محمود ، وهو معمل تعيش في حظائره وخلفياته كافة الكائنات الميتافيزيقية المشكلة لعصير القيم ، والوجود الروحي .
أي أن العصر القديم صار منتهياً ، وما عاد التراث سوى قيم مضيئة من الماضي الغابر ، وبهذا فإن البناء الإقطاعي – المذهبي تم استمراره في حداثة الوضعية المنطقية التي اعترفت بوجوده ضمنياً ، وحددت نطاق عملها في التحليل المنطقي لعمل العلوم ، أي هي تتحول إلى هتاف من أجل الصناعة .
إن النظام الاجتماعي القروسطي الذي يلحق الصناعة بالهيكل السياسي والاقتصادي الإقطاعي ، يتأبد عبر الوعي الديني المحافظ الذي أيد استمراريته زكي نجيب ولم يقم بتحليله ونقد ظواهره ، مثلما فعلت مدرسة محمد عبده عموماً ، أي تتم السيطرة على نتاجات العلوم من قبل الوعي الديني ، فنظراً لشموليته واستمراريته الطويلة وعدم تحليله ونقده ، يغدو أقوى من الوضعية المنطقية التي تستخلص نتائج العلوم فلسفياً وتعممها لكن داخل هذه السيطرة للوعي الديني .
إن قراءتها تكون للعالم الطبيعي وظواهره وهي قد أبعدت جزءً كبيراً من البناء الاجتماعي عن التحليل ، وهذه التعميمات الفلسفية تغدو عن الظاهرات الطبيعية وليس عن الظاهرات الاجتماعية التي يلعب الدينُ دوراً أساسياً في تشكيلها ، فتنحشرُ الوضعيةُ المنطقيةُ في زاويةٍ أصغر من الزاوية التي انحشرَ فيها عمانويل كانت .
هنا تقدم الوضعية المنطقية أداة للجمع بين الوعي الديني المحافظ والوعي التقني غير المتدخل في ظواهره ، وتغدو الأساطير الغيبية والآراء المنتهية الصلاحية علمياً واجتماعياً ، غير معرضة للفحص العلمي ، وبالتالي يتم الحفاظ على شبكة الوعي المتخلف جماهيرياً ، وهو أمر يناقض منطلقات الوضعية المنطقية التي كرست نفسها من أجل نقد الخرافات وفتح السبل للتصنيع .
إن المشكلة الرئيسية في وعي الوضعية المنطقية تبقى قائمة وهي اقتصارها الفهم العلمي على معامل الصناعة ومختبرات الفيزياء والكيمياء ، وليس أيضاً ميدان العلوم الإنسانية ، وبالتالي حيرتها إزاء إخضاع الظواهر الدينية والفكرية والاجتماعية عامة للدرس الموضوعي .
إن شبكة الإقطاع – المذهبي المستعادة عند الوضعية المنطقية وهي تتمصر لدى زكي نجيب محمود تقوم برفض المذاهب الإمامية عامةً ، ولا تقوم بتحليل جذورها الاجتماعية العائدة لسيطرة ذلك الإقطاع ، ثم تقترب من المركز العقلي المعتدل في سيطرة الإقطاع – المذهبي عبر المذاهب السنية الاجتهادية والاعتزال ، ورفض التطرف السني المحافظ لدى ابن تيمية وغيره ، أي أن الوضعية المنطقية الممصرة هنا تواصل عمل محمد عبده فيما يتعلق بسيطرة الإقطاع – المذهبي المعتدل ، مع فتح المجال للصناعة والعقل التجريبي داخل الطبيعة المسيطر عليها غيبياً ، والمجتمع المهيمن عليه دينياً ونخبوياً .
إن الفرق بين جان لوك وهيوم وغيرهما من الفلاسفة التجريبيين الإنجليز وبين زكي نجيب محمود ، إن أولئك الفلاسفة كانوا مستقيمين في رفضهم لإدخال الوعي الديني إلى مجال الفلسفة ، جاعلين التجريبية الحسية الكاملة سداً أمام تسلل العلاقات والكائنات الغيبية إليها ، وهذا أمر عضدته الثورة الصناعية في إنجلترا ، ولكن التي أتاحت للدين مجالاً اجتماعياً واسعاً بعيداً عن المعامل والصناعة والبحوث ، وليس بعيداً عن رؤوس العاملين .
أما زكي نجيب فإنه لا يمتلك أصلاً مثل هذه الثورة الصناعية ولا مثل هذه البرجوازية الحاسمة ، ولهذا فإن تجريبيته مخترقة على كافة المستويات ، ومن هنا فهي تتحول إلى نثر أدبي وإلى ما يشبه دعوات العجائز بتمني انتصار الصناعة والعلوم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر عبــدالله خلـــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الرابع ، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015 .
ـــــــــــــــــ
المصادر :
( 1 ) ، ( 2 ) : ( موقف من الميتافيزيقيا ، د . زكي نجيب محمود ، دار الشروق ، ط 4 ، ص ح ) .
( 4 ) : ( المصدر السابق ، ص ( ص ) ) .
( 5 ) ( المصدر السابق ، ص 20 )
( 6 ) ( المصدر السابق ص 22 – 23 ) .
( 7 ) : ( المصدر السابق ص 27 .) .
( 8 ) : ( المصدر السابق ص 34 . ) .
( 9 ) : ( المصدر السابق ، ص 36 ) .
( 10 ) : ( المصدر السابق ص 48 ) .
( 11 ) ، 12 : ( المصدر السابق ص 51 ) .
( 13 ) : ( المصدر السابق ص 12 – 13 ) .
( 14 ) : ( تجديد الفكر العربي ، دار ومكتبة الهلال ، ط9 ، 1993 ، ص 12 – 13 ) .
( 15 ) : ( المصدر السابق ، ص 17 ) .
( 16 ) : ( المصدر السابق ، ص 17 – 18 ) .
( 17 ) : ( المصدر السابق ، ص 280 ) .
( 18 ) ( المصدر السابق ، ص 272 ) .
https://www.alawan.org/2018/06/07/%D8...
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية+الجزء الرابع
Published on October 30, 2019 18:43
•
Tags:
زكي-نجيب-محمود
التنوير الرومانتيكي عند جبران خليل جبران ㋡
(1931 – 1883)
إن قدرة المسيحيين العرب على خلق التنوير المبكر في القرن التاسع عشر في المشرق العربي تحديداً، حيث لا نشهد مثل هذا التنوير في المغرب، تعود إلى كون الفئات الوسطى المسيحية التي تشكلت في الشام، ذات ظروف اجتماعية وثقافية أفضل من المسلمين الذين كان الإقطاع الديني مطبقاًعليهم بصورة أشد من إطباقه على المسيحيين.
فنظراً لصغر العائلات المسيحية وارتباطها بالمهن الحرة وبداية نمو المدن السورية «سوريا ولبدنان حينذاك» والتاثيرات الغربية الثقافية والسياسية المتدفقة بقوة في هذا الوقت، أمكن لأفراد ورموز من هذه العائلات أن يتحرروا نسبيا من النفوذ الديني الإقطاعي، وبدأت عملية تحرير الوعي العربي الحديث من الوعي الطائفي والتقليدي. وهو أمر كما قلنا مراراً يماثل دور هذه الجماعات المسيحية في العصر الوسيط حينما قامت بذات الوظيفة في نمو النهضة الفكرية العربية، ولكن الآن تتشكل الظواهر في بُنى مختلفة وظرف عالمي جديد.
ولدينا هنا الآن نموذج الشاعر جبران خليل جبران وخطواته ومساهماته في عملية النهضة العربية الجديدة، التي سنحاول منها اكتشاف مساهمته في هذه العملية.
وبطبيعة الحال سوف تتسع عمليات التحرر للفئات الوسطى العربية اجتماعياً وسياسياً، على مدى التاريخ القادم فيما بعد جبران عبر القرن العشرين كله، وسوف يتعقد الوعي ويغدو ذا مستويات عدة، بدءاً من جبران مرورا بطه حسين وانتهاء بعابد الجابري وأدونيس وغيرهما، لكن وعي الفئات الوسطى وحركيتها التاريخية لن يخرج عن التشكيلة الإقطاعية، ولن يقطع للخروج إلى التشكيلة الرأسمالية الحداثية المكتملة.
وجبران خليل جبران شاعر وفنان عربي سوري ولد سنة 1883، من أب فقير كان يعمل راعياً، في أسرة مسيحية، وقد دمر الأب هذه الأسرة بسبب سكره وعدم مراعاته لها، لولا قوة شخصية الأم التي أنقذت هذه الأسرة وهاجرت بها إلى أمريكا ببوسطن، وهناك عاشت بين المهاجرين العرب، وتربى جبران فى الوسط العربي الأمريكي، عاجزاً عن تعلم اللغتين العربية والإنكليزية، لولا عودته لوطنه وهناك بدأ يتعلم بشكل مدهش.
هذا التعليم المحدود، والمآسي المستمرة على هذه الأسرة الصغيرة، التي مات معظم أفرادها بشكل متتال في أمريكا، وخيبات الحب المستمرة التي عانى منها جبران سواء من معلمته الأمريكية أم من مراسلته عبر البحار والتي لم يرها وهي مي زيادة، قد أطلقت في جبران نزعات الشطح الديني والصوفي والشعرية القائمة عليهما، وتغييب التصوير البنائي التحليلي للحياة.
ومن خلال هذا التصوف الديني الشعري حاول أن يعبر عن معارضته الشديدة للنظام الاجتماعي الإقطاعي الثقيل ومحدود الانفتاح في ذلك الحين.
يقيم جبران تناقضات كلية بين الطبيعة «النقية» والمجتمع الفاسد، بين عوالم الأرواح الحرة وبين المواد والأشياء الوضيعة.
ويذكرنا هذا بموتيفات الفلسفة العربية الدينية القروسطية لدى الفارابي وابن سينا وغيرهما، وهما اللذان شكلا تضاداً عميقاً بين عالم الأرواح النقي والمادة الوضيعة، معبرين عن الرؤية الدينية للفئات الوسطى العربية في العصر السابق، في علاقتها بالنظام الأرستقراطي الحاكم، حيث اتفقت معه في هيمنة الدين والقوى الفوقية على الناس، الذين هم مثابة المادة الدنيا غير القادرة على الفعل التاريخي المستقل.
واعتماد جبران خليل جبران على هذه الموضوعة الأساسية للفلسفة المثالية السابقة، هو امتداد لتاريخ طويل من هيمنة الأرواح والبنى الفوقية الروحية على الجمهوروعلى تحليل الواقع.
وتساهم غربتا جبران: الغربة الاجتماعية والغربة الجغرافية في تذكية تلك المادة الصوفية الدينية وجعلها بديلا عن الغربتين والتحليل.
يجسد جيران كثيراً التضاد العميق بين عالم الأرواح والطبيعة من جهة وعالم الكون والفساد الأرضي من جهة أخرى، وفي الفصل الثاني من «الآجنحة المتكسرة» يقول صورأ نفسه المتنازعة بين قوتين: (قوة تحلق به السحاب وتريه محاسن الكائنات من وراء ضباب الأحلام، وقوة ظاهرة تقيده بالأرض وتغمر بصيرته بالغبار وتتركه ضائعاً خائفاً في ظلمة حالكة)، (ص ١٢، من نسخة دار المدى، سنة ٢٠٠٣).
ثم تتمظهر وتتجسد هذه الكائنات اجتماعياً في الفصل التالي حين يتغنى بإله الربيع، وهي احتفالية غائرة منذ تموز وأدونيس، المعبرين عن قوى الطبقة العليا الزراعية في إعادة إنتاجها وتملكها للطبيعة والمجتمع، في ميثولوجيا الخصوبة والفداء في العصر القديم، وستتجلي لاحقاً احتفالية الفداء في المسيحية، أو في تضحية الحسين، ي العصر الوسيط المسيحي - الإسلامي، يقول:
(الربيع روح إله غير معروف تتطوف في الأرض مسرعة، وعندما تبلغ
سوريا تسير ببطء متلفتة إلى الوراء مستأنسة بأرواح الملوك والأنبياء الحائمة في الفضاء)، السابق ص ١٤.
هذه الهيمنة للأرواح على الفضاء الروحي المشرقي، هي هيمنة اجتماعية وسياسية للقوى الأرستقراطية والدينية المتنوعة والتي جسدت عمليات سيطرتها التاريخية الطويلة بهذا الوعي الديني والسياسي الروحي المُفارق، والموجود وراء الأشياء والطبيعة.
يتجسد التضاد العميق الذي لا يُحل بين ما وراء الطبيعة والواقع، بين عالم الأرواح النقي وعالم الفساد الأرضي، في الكثير من سرد جبران الذي عادة يقتحم البناء القصصي:
(الشبيبة أجنحة.. ترتفع بالفتيان إلى ما وراء الغيوم فيرون الكيان مغموراً بأشعة ملونة.. ولكن تلك الأجنحة الشعرية لا تلبث أن تمزقها عواصف اختبار فيهبطون إلى عالم الحقيقة - وعالم الحقيقة مرآة غريبة يرى فيها المرء نفسه مصغرة مشوهة)، ص ١٩.
ولا يقوم جران بتصوير عالم الحقيقة المشوهة هذا، حيث هو مربوط بعالم مغاير هو العالم الروحي النوراني، وكل شيء صادق في العالم الأرضي(الدنس) هو من إنتاج الروح، ولهذا فإن الحب لا ينبثق من علاقات حياتية متنامية بل هو يتدفق من الأعلى، من عالم الأرواح، فحين يرى حبيبته سلمى لأول جلسة يهتف:
(إن للجمال لغة سماوية تترفع عن الأصوات والمقاطع، وهكذا شاءت السماء وعتقتني على حين غفلة من عبودية الحيرة والحداثة لأسير. حواً في
موكب المحبة).
وتغدوهذه الحبة الرومانتيكية المتدفقة من الأعاني النوارتية متضادة مع شرائع البشر وتقاليدهم.
غن التضاد بين المنطقة البيضاء النوارتية، والتي هي هنا الحب، وبين المنطقة السوداء ، التي هي هنا شرائع البشر وتقاليدهم، سيقوم الشاعر بالتعبير عنها، في كتابه عن المحبة، وستغدوالأنوار والنبوة والمثل وغيرها هي الطاقة الروحية المغيرة لعالم الدنس والفقر الروحي.
إن التضاد بين الروح والمادة من القضايا التي لم تحل تناقضاتها الفلسفة المثالية الدينية في المنطقة، وجبران يواصل إنتاج هذا التضاد غير المحلول بشكل تصويري شعري، فيقول عن جمال سلمى حبيبة الراوي:
(بل كان غريباً كالحلم أو كالرؤيا أو كفكر علوي لا يُقاس ولا يُحد ولا يتسخ بريشة المصور)، فالدخول إلى تجسيد الحياة وتحليلها يغدو اتساخاً.
ولهذا فإن جبران يحول الظاهرات التاريخية العميقة والواسعة إلى عمليات نوارنية شخصية فيقطرها في شعاع وحيد:
(كل ما نراه اليوم من أعمال الأجيال الغابرة كان قبل ظهوره فكراً خفياً في عاقلة رجل أوعاطفة لطيفة في صدر امرأة.. الثورات التي أجرت الدماء كالسواقي وجعلت الحرية تُعبد كالآلهة كانت فكواً خيالياً مرتعشاً بين تلافيف دماغ رجل فرد عاش بين ألوف من الرجال... التعاليم السامية التي غيرت مسيرة الحياة البشرية كانت ميلاً شعرياً في نفس رجل واحد منفصل بنبوغه عن محيطه) السابق ص ٢٩، ٣٠.
إن التحولات الاجتماعية الكبرى في التاريخ لا تغدوعبر هذا الوعي عمليات تراكم فكرية واجتماعية وسياسية لمجموعات بشرية، بل هي وليدة لإنتاج وعي فردي مفصول عن هذه السيرورة، وهنا يقطع جبران حتى مع عملية تراكم الوعي التاريخي العربي، فذلك عودة لوعى ما قبل ابن خلدون وغيره، الذي يقرأ التحولات على ضوء التراكم والصراع الاجتماعي.
إن تصور جبران للثورات أنها نتاج فعل فردي، وبالتالي فظهور الأديان هى عملية فردية محضة، لبشر مفصولين عن المجتمعات التي يعيشون فيها، وتتشكل لديهم الأفكار عبر الرؤيا والغيب، هي عملية ستجعله لا يدرس الأديان باعتبارها ثورات اجتماعية تاريخية، تداخلت فيها الصراعات الاجتماعية والقيادات الفكرية الطليعية، وبالتالي قامت بردم الهوة بين الفكرة والواقع، بين السماء والأرض، بين النور والمادة، بل سوف يُسقط عليها أفكاره المختزلة الصوفية، لعدم قدرته على خلق فعل ثوري على المستوى المعاصر، أوعلى مستوى القراءة، فعل يجمع المثالي والواقعي في تكوين مشترك.
إن عدم استطاعة جبران التضفير بين النور السماوي والفعل الكفاحي، لا تعود فقط لمثاليته الغيبية، بل لغربته الاجتماعية والجغرافية كذلك.
إن جبران يقف أمام الواقع المتخلف كفارس قادم من الغيب، ويقوم باستثمار مفردات ديانته المسيحية، وقد انفصلت عن تاريخها الكفاحي الاجتماعي الطويل، وتحولت إلى لغة صوفية، وبالتالي فقد القدرة على تحليل هذه الديانة كثورة شعبية، ولهذا فهو يأخذ بعض المفردات كالمحبة ويشغلها فى فضاء رومانتيكي، يقول كلماته الجميلة في كتاب النبي:
(المحبة تضمكم إلى قلبها كأغمار حنطة / المحبة على بيادرها تدرسكم لتظهر عريكم / المحبة تغربلكم لتحرركم من قشوركم / المحبة تطحنكم فتجعلكم كالثلج أنقياء / ثم تعدكم لنارها المقدسة، لكي تصيروا خبزاً مقدساً يُقرب على مائدة الرب المقدسة).
ومن الواضح هنا تدفق قاموس الريف المهبط الاجتماعي للمسيحية، وتتشكل عملية البعث الروحية عبر التسامي عن التضادات الاجتماعية والسياسية، وبتشكيل وحدة رومانتيكية بين البشر بعد إزالة جذور التناقض بينهم، التي لا تزول بل تُقصى، فيُعجن المجموعُ الاجتماعيُ فى خبزٍ ديني بدلا من أن يَكتشف تضاداته ويحلها. فالاختلافات والمسئويات المعيشية المتباينة والفكرية المختلفة، تصبح قشوراً، وتتكفل المحبة باستخراج الجوهر الروحي الداخلي، لأن التكوينات الاجتماعية والتاريخية، وهي المُشكلة على الأرض هي مجرد قشور وأنسجة خارجية.
إن تصوره بأن التعاليم السامية كانت ميلاً شعرياً عند فرد واحد، منفصل عن عصره، وبالتالي عن واقعه وتراثه، تجعل التعاليم السامية ليست نتاج الجدل بين القائد والواقع، وبالتالي فإن الانفصال الذي يعيشه جبران عن الواقع وقواه، ليس مهماً، بل هو قادر على ردمه كما فعل الطليعيون الآخرون السابقون، النين كانوا منفصلين وشكلوا ثوراتهم بفكرهم المفارق، أي الذي جاء من اللاواقع، من المنطقة النورانية، مصدر الخير والجمال... الخ.
نستطيع أن نقول إن هذه هي قراءة جبرانية للتحول فى المنطقة، ومحاولة لتكرارها في أوائل القرن العشرين وقتذاك. وقد أعطى فقدان القوى الاجتماعية الفاعلة، وعدم بروز التناقضات فى صفوفها، إمكانية فكرية لجبران لخلق عملية تاريخية من هذا الانسجام الاجتماعي البكر، الذي لم تفجرهُ الصراعات الطبقية الضارية بعد، أو التي لم تظهر في مشاهد وعى جبران، لأن التاريخ السوري اللبناني السابق حافل بها.
لكن هذه القراءة تُلغي ما هو أرضي وتربط كل شيء بالسماء. يقول الراوي لسلمى حين نشأ حبهما من أول ومضة شعاعية روحية:
(إن حياة الإنسان يا سلمى لا تبتدئ فى الرحم كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الوسيع المملوء بأشعة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبة والنفوس المتضامنة بالتفاهم،)، الأجنحة المتكسرة، ص ٣٣.
إن وجود الأرواح الحائمة في الفضاء وتداخل الكواكب بها، يشير إلى مفردات مغمورة في الفلسفة العربية الدينية للعصر الوسيط، حيث الكواكب أرواح. وهي التي تهيمن على الحركة الأرضية.
يصور جبران خليل جبران الإقطاع المهيمن على الحياة الاجتماعية والروحية كقوى فردية وكاختلال روحي، وليس كبنية اجتماعية موضوعية، استمراراً لنهجه الفاصل بين الروحي والاجتماعي، بين الراهن وجذوره، فالمطران المهيمن على بلدة سلمى "فارس كرامة" يطمع في ثروة ابيها الكهل، ويقوم بفرض إرادته على الكهل وابنته فيزوجها من ابن أخيه الفاسد. ويقول الراوي عن المطران:
(هذا الرجل هو مطران تسير قبائحه بظل الإنجيل فتظهره للناس كالفضائل)، (جامعاً في قبضة الشريعة الفاسدة روحاً سماوية بذات ترابية).
وكما يفعل جبران في فصل الفكرة عن جذورها الموضوعية وتطوراتها، فهويفصل كذلك الفرد عن الجماعة التي ينتمي لها، فالمطران يبدو ممثلاً للشريعة الفاسدة، وبالتالي فهو يشيرإلى تاريخ جماعي واجتماعي، وإلى وجود شريعتين: فاسدة ونقية، لكن لا نعرف لماذا هيمنت الشريعة الفاسدة، حيث بدت في تكون فرداي مستقل عن الوجود الجماعي والإرث التاريخي وتحولاته.
مثلما أن سلمى وأباها والراوي، الذي هو المولف جبران نفسه، حيث لا مسافة موضوعية فنية بين الكاتب وأثره، يكونون الشريعة النقية، ولكنها ليست في موقع السلطة، بل ليست في موقع التاثير والمقاومة. إنها مُضمرة متوارية في الذوات الفردية المُحاصرة بالكهنوت، الذي يهيمن على الثروة الروحية، فهو الذي يُنتج مفاهيم هذه الثروة ويجعلها متداولة لمصلحته المادية، أي عبرها يقوم بالاستيلاء على الثروة المادية، ليوسع كذلك من سيطرته الروحية.
وبخلاف المطران فإن الشخصيات الخيرة المُستلبة تَذوبُ في الصراع ولا تقوم بإنتاج شريعتها النقية، أي لا تقوم بفهم المسيحية كثورة اجتماعية قام الكهنوتث بالسيطرة فيها على المعنى والمضمون، وتنحيته، وحولها إلى عبادات مُفرّغة من دلالاتها الثورية السابقة.
ولهذا فإن هذه الشخصيات الخيرة تتلاشى عبر الموت أوالصمت، فسلمى تتزوج من الشخصية الفاسدة، وأبوها يموت، وهي تلد طفلاً يموت فتموتُ معه، والراوي يقف على القبر راثياً، دون أن ينقد عجزه.
ولا تختلف بقية آثار جبران عن هذا المنحى، ففي مسرحيته «لعازر وحبيبته» المنشورة حديثاً في صحيفة النهار البيروتية بتاريخ كانون الأول ٢٠٠٢، نرى لعازر الذي أحياه السيد المسيح حسب الرواية الإنجيلية، وهو مستغرق في الطبيعة، متصلاً بحبيبته في السماء، قاضياً معها زمناً خارج الزمن الأرضي، وهذه اللحظة الدهرية بالنسبة اليه كانت لأسرته أمه وشقيقته عدة ساعات من النهار، ولكن الزمن الميتافيزيقي والزمن البشري الموضوعي متباينان، مثلما أن لعازر يرى الوجود المادي وضيعاً فلا يحب أن يمتد جذراً في الأرض المظلمة (مثلما يأبى أن أتلقى الزبدية من أيد ذابلة وأستمدث الحياة من كؤوس الطين).
وهو لهذا يرى بعثه حرماناً لاتصاله بحبيبته، ذلك الاتصال السرمدي النوراني، ويقول لعازرلمريم أخته:
(أنت وأنا وهذه الحديقة مجرد وهم، بل ظل للحقيقة). إن هذه العبارة لابد أن تذكرنا بمُثُل أفلاطون، لكنها هنا تندمج بصوفية عريقة في المشرق، في حين ان أسرته الصغيرة البشرية الأرضية تواصل حيثيات الوجود العادي. ولكن لماذا لم يكن بعثاً لعازر الجبرانى اندماجاً في هذه الحياة الأسرية وتطويراً لها وبحثاً عن حبيبة أرضية حقيقية، وتغييراً داخل الحياة؟
إن هذا السؤال يعبر عن التضادات العميقة في الأدب الجبراني، وعن غياب الفعل الثوري الجبراني على مستوى الواقع والموروث، فيتشكل النقد لظاهرات من الواقع، ويغدو الحل الاتجاه غيباً، ولهذا فإن لعازر حين سمع أن السيد المسيح قام، اتجه إليه، مندمجاً في مسيرته، مستعداً للفداء.
إن هذا الموقف هو بشكل فلسفي عام، لأن لجبران نظرات إصلاحية اجتماعية جزئية، يؤكد مشاركته في أحداث الأرض الواقعية، وهو ليس الداعية للانقطاع الكلي.
ولا يتسع المجال هنا لعرض ذلك.
https://isaalbuflasablog.wordpress.co...
إن قدرة المسيحيين العرب على خلق التنوير المبكر في القرن التاسع عشر في المشرق العربي تحديداً، حيث لا نشهد مثل هذا التنوير في المغرب، تعود إلى كون الفئات الوسطى المسيحية التي تشكلت في الشام، ذات ظروف اجتماعية وثقافية أفضل من المسلمين الذين كان الإقطاع الديني مطبقاًعليهم بصورة أشد من إطباقه على المسيحيين.
فنظراً لصغر العائلات المسيحية وارتباطها بالمهن الحرة وبداية نمو المدن السورية «سوريا ولبدنان حينذاك» والتاثيرات الغربية الثقافية والسياسية المتدفقة بقوة في هذا الوقت، أمكن لأفراد ورموز من هذه العائلات أن يتحرروا نسبيا من النفوذ الديني الإقطاعي، وبدأت عملية تحرير الوعي العربي الحديث من الوعي الطائفي والتقليدي. وهو أمر كما قلنا مراراً يماثل دور هذه الجماعات المسيحية في العصر الوسيط حينما قامت بذات الوظيفة في نمو النهضة الفكرية العربية، ولكن الآن تتشكل الظواهر في بُنى مختلفة وظرف عالمي جديد.
ولدينا هنا الآن نموذج الشاعر جبران خليل جبران وخطواته ومساهماته في عملية النهضة العربية الجديدة، التي سنحاول منها اكتشاف مساهمته في هذه العملية.
وبطبيعة الحال سوف تتسع عمليات التحرر للفئات الوسطى العربية اجتماعياً وسياسياً، على مدى التاريخ القادم فيما بعد جبران عبر القرن العشرين كله، وسوف يتعقد الوعي ويغدو ذا مستويات عدة، بدءاً من جبران مرورا بطه حسين وانتهاء بعابد الجابري وأدونيس وغيرهما، لكن وعي الفئات الوسطى وحركيتها التاريخية لن يخرج عن التشكيلة الإقطاعية، ولن يقطع للخروج إلى التشكيلة الرأسمالية الحداثية المكتملة.
وجبران خليل جبران شاعر وفنان عربي سوري ولد سنة 1883، من أب فقير كان يعمل راعياً، في أسرة مسيحية، وقد دمر الأب هذه الأسرة بسبب سكره وعدم مراعاته لها، لولا قوة شخصية الأم التي أنقذت هذه الأسرة وهاجرت بها إلى أمريكا ببوسطن، وهناك عاشت بين المهاجرين العرب، وتربى جبران فى الوسط العربي الأمريكي، عاجزاً عن تعلم اللغتين العربية والإنكليزية، لولا عودته لوطنه وهناك بدأ يتعلم بشكل مدهش.
هذا التعليم المحدود، والمآسي المستمرة على هذه الأسرة الصغيرة، التي مات معظم أفرادها بشكل متتال في أمريكا، وخيبات الحب المستمرة التي عانى منها جبران سواء من معلمته الأمريكية أم من مراسلته عبر البحار والتي لم يرها وهي مي زيادة، قد أطلقت في جبران نزعات الشطح الديني والصوفي والشعرية القائمة عليهما، وتغييب التصوير البنائي التحليلي للحياة.
ومن خلال هذا التصوف الديني الشعري حاول أن يعبر عن معارضته الشديدة للنظام الاجتماعي الإقطاعي الثقيل ومحدود الانفتاح في ذلك الحين.
يقيم جبران تناقضات كلية بين الطبيعة «النقية» والمجتمع الفاسد، بين عوالم الأرواح الحرة وبين المواد والأشياء الوضيعة.
ويذكرنا هذا بموتيفات الفلسفة العربية الدينية القروسطية لدى الفارابي وابن سينا وغيرهما، وهما اللذان شكلا تضاداً عميقاً بين عالم الأرواح النقي والمادة الوضيعة، معبرين عن الرؤية الدينية للفئات الوسطى العربية في العصر السابق، في علاقتها بالنظام الأرستقراطي الحاكم، حيث اتفقت معه في هيمنة الدين والقوى الفوقية على الناس، الذين هم مثابة المادة الدنيا غير القادرة على الفعل التاريخي المستقل.
واعتماد جبران خليل جبران على هذه الموضوعة الأساسية للفلسفة المثالية السابقة، هو امتداد لتاريخ طويل من هيمنة الأرواح والبنى الفوقية الروحية على الجمهوروعلى تحليل الواقع.
وتساهم غربتا جبران: الغربة الاجتماعية والغربة الجغرافية في تذكية تلك المادة الصوفية الدينية وجعلها بديلا عن الغربتين والتحليل.
يجسد جيران كثيراً التضاد العميق بين عالم الأرواح والطبيعة من جهة وعالم الكون والفساد الأرضي من جهة أخرى، وفي الفصل الثاني من «الآجنحة المتكسرة» يقول صورأ نفسه المتنازعة بين قوتين: (قوة تحلق به السحاب وتريه محاسن الكائنات من وراء ضباب الأحلام، وقوة ظاهرة تقيده بالأرض وتغمر بصيرته بالغبار وتتركه ضائعاً خائفاً في ظلمة حالكة)، (ص ١٢، من نسخة دار المدى، سنة ٢٠٠٣).
ثم تتمظهر وتتجسد هذه الكائنات اجتماعياً في الفصل التالي حين يتغنى بإله الربيع، وهي احتفالية غائرة منذ تموز وأدونيس، المعبرين عن قوى الطبقة العليا الزراعية في إعادة إنتاجها وتملكها للطبيعة والمجتمع، في ميثولوجيا الخصوبة والفداء في العصر القديم، وستتجلي لاحقاً احتفالية الفداء في المسيحية، أو في تضحية الحسين، ي العصر الوسيط المسيحي - الإسلامي، يقول:
(الربيع روح إله غير معروف تتطوف في الأرض مسرعة، وعندما تبلغ
سوريا تسير ببطء متلفتة إلى الوراء مستأنسة بأرواح الملوك والأنبياء الحائمة في الفضاء)، السابق ص ١٤.
هذه الهيمنة للأرواح على الفضاء الروحي المشرقي، هي هيمنة اجتماعية وسياسية للقوى الأرستقراطية والدينية المتنوعة والتي جسدت عمليات سيطرتها التاريخية الطويلة بهذا الوعي الديني والسياسي الروحي المُفارق، والموجود وراء الأشياء والطبيعة.
يتجسد التضاد العميق الذي لا يُحل بين ما وراء الطبيعة والواقع، بين عالم الأرواح النقي وعالم الفساد الأرضي، في الكثير من سرد جبران الذي عادة يقتحم البناء القصصي:
(الشبيبة أجنحة.. ترتفع بالفتيان إلى ما وراء الغيوم فيرون الكيان مغموراً بأشعة ملونة.. ولكن تلك الأجنحة الشعرية لا تلبث أن تمزقها عواصف اختبار فيهبطون إلى عالم الحقيقة - وعالم الحقيقة مرآة غريبة يرى فيها المرء نفسه مصغرة مشوهة)، ص ١٩.
ولا يقوم جران بتصوير عالم الحقيقة المشوهة هذا، حيث هو مربوط بعالم مغاير هو العالم الروحي النوراني، وكل شيء صادق في العالم الأرضي(الدنس) هو من إنتاج الروح، ولهذا فإن الحب لا ينبثق من علاقات حياتية متنامية بل هو يتدفق من الأعلى، من عالم الأرواح، فحين يرى حبيبته سلمى لأول جلسة يهتف:
(إن للجمال لغة سماوية تترفع عن الأصوات والمقاطع، وهكذا شاءت السماء وعتقتني على حين غفلة من عبودية الحيرة والحداثة لأسير. حواً في
موكب المحبة).
وتغدوهذه الحبة الرومانتيكية المتدفقة من الأعاني النوارتية متضادة مع شرائع البشر وتقاليدهم.
غن التضاد بين المنطقة البيضاء النوارتية، والتي هي هنا الحب، وبين المنطقة السوداء ، التي هي هنا شرائع البشر وتقاليدهم، سيقوم الشاعر بالتعبير عنها، في كتابه عن المحبة، وستغدوالأنوار والنبوة والمثل وغيرها هي الطاقة الروحية المغيرة لعالم الدنس والفقر الروحي.
إن التضاد بين الروح والمادة من القضايا التي لم تحل تناقضاتها الفلسفة المثالية الدينية في المنطقة، وجبران يواصل إنتاج هذا التضاد غير المحلول بشكل تصويري شعري، فيقول عن جمال سلمى حبيبة الراوي:
(بل كان غريباً كالحلم أو كالرؤيا أو كفكر علوي لا يُقاس ولا يُحد ولا يتسخ بريشة المصور)، فالدخول إلى تجسيد الحياة وتحليلها يغدو اتساخاً.
ولهذا فإن جبران يحول الظاهرات التاريخية العميقة والواسعة إلى عمليات نوارنية شخصية فيقطرها في شعاع وحيد:
(كل ما نراه اليوم من أعمال الأجيال الغابرة كان قبل ظهوره فكراً خفياً في عاقلة رجل أوعاطفة لطيفة في صدر امرأة.. الثورات التي أجرت الدماء كالسواقي وجعلت الحرية تُعبد كالآلهة كانت فكواً خيالياً مرتعشاً بين تلافيف دماغ رجل فرد عاش بين ألوف من الرجال... التعاليم السامية التي غيرت مسيرة الحياة البشرية كانت ميلاً شعرياً في نفس رجل واحد منفصل بنبوغه عن محيطه) السابق ص ٢٩، ٣٠.
إن التحولات الاجتماعية الكبرى في التاريخ لا تغدوعبر هذا الوعي عمليات تراكم فكرية واجتماعية وسياسية لمجموعات بشرية، بل هي وليدة لإنتاج وعي فردي مفصول عن هذه السيرورة، وهنا يقطع جبران حتى مع عملية تراكم الوعي التاريخي العربي، فذلك عودة لوعى ما قبل ابن خلدون وغيره، الذي يقرأ التحولات على ضوء التراكم والصراع الاجتماعي.
إن تصور جبران للثورات أنها نتاج فعل فردي، وبالتالي فظهور الأديان هى عملية فردية محضة، لبشر مفصولين عن المجتمعات التي يعيشون فيها، وتتشكل لديهم الأفكار عبر الرؤيا والغيب، هي عملية ستجعله لا يدرس الأديان باعتبارها ثورات اجتماعية تاريخية، تداخلت فيها الصراعات الاجتماعية والقيادات الفكرية الطليعية، وبالتالي قامت بردم الهوة بين الفكرة والواقع، بين السماء والأرض، بين النور والمادة، بل سوف يُسقط عليها أفكاره المختزلة الصوفية، لعدم قدرته على خلق فعل ثوري على المستوى المعاصر، أوعلى مستوى القراءة، فعل يجمع المثالي والواقعي في تكوين مشترك.
إن عدم استطاعة جبران التضفير بين النور السماوي والفعل الكفاحي، لا تعود فقط لمثاليته الغيبية، بل لغربته الاجتماعية والجغرافية كذلك.
إن جبران يقف أمام الواقع المتخلف كفارس قادم من الغيب، ويقوم باستثمار مفردات ديانته المسيحية، وقد انفصلت عن تاريخها الكفاحي الاجتماعي الطويل، وتحولت إلى لغة صوفية، وبالتالي فقد القدرة على تحليل هذه الديانة كثورة شعبية، ولهذا فهو يأخذ بعض المفردات كالمحبة ويشغلها فى فضاء رومانتيكي، يقول كلماته الجميلة في كتاب النبي:
(المحبة تضمكم إلى قلبها كأغمار حنطة / المحبة على بيادرها تدرسكم لتظهر عريكم / المحبة تغربلكم لتحرركم من قشوركم / المحبة تطحنكم فتجعلكم كالثلج أنقياء / ثم تعدكم لنارها المقدسة، لكي تصيروا خبزاً مقدساً يُقرب على مائدة الرب المقدسة).
ومن الواضح هنا تدفق قاموس الريف المهبط الاجتماعي للمسيحية، وتتشكل عملية البعث الروحية عبر التسامي عن التضادات الاجتماعية والسياسية، وبتشكيل وحدة رومانتيكية بين البشر بعد إزالة جذور التناقض بينهم، التي لا تزول بل تُقصى، فيُعجن المجموعُ الاجتماعيُ فى خبزٍ ديني بدلا من أن يَكتشف تضاداته ويحلها. فالاختلافات والمسئويات المعيشية المتباينة والفكرية المختلفة، تصبح قشوراً، وتتكفل المحبة باستخراج الجوهر الروحي الداخلي، لأن التكوينات الاجتماعية والتاريخية، وهي المُشكلة على الأرض هي مجرد قشور وأنسجة خارجية.
إن تصوره بأن التعاليم السامية كانت ميلاً شعرياً عند فرد واحد، منفصل عن عصره، وبالتالي عن واقعه وتراثه، تجعل التعاليم السامية ليست نتاج الجدل بين القائد والواقع، وبالتالي فإن الانفصال الذي يعيشه جبران عن الواقع وقواه، ليس مهماً، بل هو قادر على ردمه كما فعل الطليعيون الآخرون السابقون، النين كانوا منفصلين وشكلوا ثوراتهم بفكرهم المفارق، أي الذي جاء من اللاواقع، من المنطقة النورانية، مصدر الخير والجمال... الخ.
نستطيع أن نقول إن هذه هي قراءة جبرانية للتحول فى المنطقة، ومحاولة لتكرارها في أوائل القرن العشرين وقتذاك. وقد أعطى فقدان القوى الاجتماعية الفاعلة، وعدم بروز التناقضات فى صفوفها، إمكانية فكرية لجبران لخلق عملية تاريخية من هذا الانسجام الاجتماعي البكر، الذي لم تفجرهُ الصراعات الطبقية الضارية بعد، أو التي لم تظهر في مشاهد وعى جبران، لأن التاريخ السوري اللبناني السابق حافل بها.
لكن هذه القراءة تُلغي ما هو أرضي وتربط كل شيء بالسماء. يقول الراوي لسلمى حين نشأ حبهما من أول ومضة شعاعية روحية:
(إن حياة الإنسان يا سلمى لا تبتدئ فى الرحم كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الوسيع المملوء بأشعة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبة والنفوس المتضامنة بالتفاهم،)، الأجنحة المتكسرة، ص ٣٣.
إن وجود الأرواح الحائمة في الفضاء وتداخل الكواكب بها، يشير إلى مفردات مغمورة في الفلسفة العربية الدينية للعصر الوسيط، حيث الكواكب أرواح. وهي التي تهيمن على الحركة الأرضية.
يصور جبران خليل جبران الإقطاع المهيمن على الحياة الاجتماعية والروحية كقوى فردية وكاختلال روحي، وليس كبنية اجتماعية موضوعية، استمراراً لنهجه الفاصل بين الروحي والاجتماعي، بين الراهن وجذوره، فالمطران المهيمن على بلدة سلمى "فارس كرامة" يطمع في ثروة ابيها الكهل، ويقوم بفرض إرادته على الكهل وابنته فيزوجها من ابن أخيه الفاسد. ويقول الراوي عن المطران:
(هذا الرجل هو مطران تسير قبائحه بظل الإنجيل فتظهره للناس كالفضائل)، (جامعاً في قبضة الشريعة الفاسدة روحاً سماوية بذات ترابية).
وكما يفعل جبران في فصل الفكرة عن جذورها الموضوعية وتطوراتها، فهويفصل كذلك الفرد عن الجماعة التي ينتمي لها، فالمطران يبدو ممثلاً للشريعة الفاسدة، وبالتالي فهو يشيرإلى تاريخ جماعي واجتماعي، وإلى وجود شريعتين: فاسدة ونقية، لكن لا نعرف لماذا هيمنت الشريعة الفاسدة، حيث بدت في تكون فرداي مستقل عن الوجود الجماعي والإرث التاريخي وتحولاته.
مثلما أن سلمى وأباها والراوي، الذي هو المولف جبران نفسه، حيث لا مسافة موضوعية فنية بين الكاتب وأثره، يكونون الشريعة النقية، ولكنها ليست في موقع السلطة، بل ليست في موقع التاثير والمقاومة. إنها مُضمرة متوارية في الذوات الفردية المُحاصرة بالكهنوت، الذي يهيمن على الثروة الروحية، فهو الذي يُنتج مفاهيم هذه الثروة ويجعلها متداولة لمصلحته المادية، أي عبرها يقوم بالاستيلاء على الثروة المادية، ليوسع كذلك من سيطرته الروحية.
وبخلاف المطران فإن الشخصيات الخيرة المُستلبة تَذوبُ في الصراع ولا تقوم بإنتاج شريعتها النقية، أي لا تقوم بفهم المسيحية كثورة اجتماعية قام الكهنوتث بالسيطرة فيها على المعنى والمضمون، وتنحيته، وحولها إلى عبادات مُفرّغة من دلالاتها الثورية السابقة.
ولهذا فإن هذه الشخصيات الخيرة تتلاشى عبر الموت أوالصمت، فسلمى تتزوج من الشخصية الفاسدة، وأبوها يموت، وهي تلد طفلاً يموت فتموتُ معه، والراوي يقف على القبر راثياً، دون أن ينقد عجزه.
ولا تختلف بقية آثار جبران عن هذا المنحى، ففي مسرحيته «لعازر وحبيبته» المنشورة حديثاً في صحيفة النهار البيروتية بتاريخ كانون الأول ٢٠٠٢، نرى لعازر الذي أحياه السيد المسيح حسب الرواية الإنجيلية، وهو مستغرق في الطبيعة، متصلاً بحبيبته في السماء، قاضياً معها زمناً خارج الزمن الأرضي، وهذه اللحظة الدهرية بالنسبة اليه كانت لأسرته أمه وشقيقته عدة ساعات من النهار، ولكن الزمن الميتافيزيقي والزمن البشري الموضوعي متباينان، مثلما أن لعازر يرى الوجود المادي وضيعاً فلا يحب أن يمتد جذراً في الأرض المظلمة (مثلما يأبى أن أتلقى الزبدية من أيد ذابلة وأستمدث الحياة من كؤوس الطين).
وهو لهذا يرى بعثه حرماناً لاتصاله بحبيبته، ذلك الاتصال السرمدي النوراني، ويقول لعازرلمريم أخته:
(أنت وأنا وهذه الحديقة مجرد وهم، بل ظل للحقيقة). إن هذه العبارة لابد أن تذكرنا بمُثُل أفلاطون، لكنها هنا تندمج بصوفية عريقة في المشرق، في حين ان أسرته الصغيرة البشرية الأرضية تواصل حيثيات الوجود العادي. ولكن لماذا لم يكن بعثاً لعازر الجبرانى اندماجاً في هذه الحياة الأسرية وتطويراً لها وبحثاً عن حبيبة أرضية حقيقية، وتغييراً داخل الحياة؟
إن هذا السؤال يعبر عن التضادات العميقة في الأدب الجبراني، وعن غياب الفعل الثوري الجبراني على مستوى الواقع والموروث، فيتشكل النقد لظاهرات من الواقع، ويغدو الحل الاتجاه غيباً، ولهذا فإن لعازر حين سمع أن السيد المسيح قام، اتجه إليه، مندمجاً في مسيرته، مستعداً للفداء.
إن هذا الموقف هو بشكل فلسفي عام، لأن لجبران نظرات إصلاحية اجتماعية جزئية، يؤكد مشاركته في أحداث الأرض الواقعية، وهو ليس الداعية للانقطاع الكلي.
ولا يتسع المجال هنا لعرض ذلك.
https://isaalbuflasablog.wordpress.co...
Published on October 30, 2019 11:41
تنوير يعقوب صروف ☮
يعتبر يعقوب صروف من الرعيل الأول في النهضة العربية الحديثة، فقد تخرج من الكلية السورية الإنجيلية التي ستُعرف فيما بعد بالجامعة الامريكية سنة ١٨٧٠، وعمل في الكلية التي تخرج منها مدرسا في مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء.
وقد توجه منذ وقت مبكرللربط بين الثقافة العلمية والحياة الاجتماعية، بمنهج معين، وشارك في تأسيس المجمع العلمي الشرقي، ولصروف كذلك تجربة ثقافية,عالمية، اذ أخذ الدكتوراه من جامعة أمريكية، وزار الغرب، وصادق المنور الآخر فارس نمر الذي كانت له أهميته في الثقافة العربية الحديثة المبكرة.
إن نمو الاتجاهات الحديثة في لبنان وسوريا وبين المسيحيين خاصة، ليس بالأمر الغريب، فقد لعب المسيحيون في الحضارة العربية السابقة دوراً ثقافياً كبيراً، وأدت جذورهم الاجتماعية كفئات وسطى مدنية، دورها في تميزهم وسط الجمهور العادي، وإذا كانوا قد لعبوا دورهم كطليعة ثقافية، فإن الجمهور العربي المسلم سوف يلتحق بهم لاحقاً وبكثافة، كما حدث في العصر العباسي، وفي بدء العصر الحديث العربي كذلك، فهنا ظاهرات متشابهة لها قوانين معينة، تتمظهر في كل عصر حسب تطوره الاجتماعي والاقتصادي، ولا بد لنا من قراءة هذه الطليعية الراهنة عبر يعقوب صروف نموذجا .
لقد كان ليعقوب صروف نشاطات اجتماعية وفكرية كثيرة، ولكن البؤرة المركزية فيها، هو إنشائه لمجلة المقتطف ونشره للعلوم المختلفة. لقد ظهر العدد الأول من المجلة سنة ١٨٧٦.
ان إصدار المجلة وكتابة مقالاتها عمليتين ليستا بسيطتين في تلك الظروف، فكان هو الذي يكتب معظم مقالات المجلة، وفي السابق كان يساعده ويندغم في عمله فارس نمر، ولكنه بعد فترة تخصّص في المجلة، فكان هوالكاتب أيضاً لكل أبوابه كباب الصناعة وباب الزراعة وباب تدبير المنزل وباب التقاريظ وباب المسائل والاخبار، وقد يمضي عليه أسبوع كامل وهو يبحث عن المادة اللازمة لمقالة واحدة، بل قد يمضي عليه أيام وهو يبحث عن كلمة واحدة. ناصيف نصار، «الفلسفة في معركة الإيديولوجية»، دار الطليعة، ط١، ١٩٨٠، ص٤٤.
والهدف الذي يبتغيه صروف من نشر هذه المعلومات هو علاقتها بالصناعة، دون أن يحدد لنا العلاقة التي يتصورها بين العلوم والصناعة، ولكنه يقول: «إن الصناعة مؤسسة على العلم... فالأحرى بنا أن نقصد العلوم من حيث تؤدي إلى الصناعة جادين في تلك، غير مهملين هذه» (السابق، ص ٤٠)، فالعلاقة بين العلوم والصناعة هنا علاقة غير مرئية، بل هي عملية ربط تقريظية أكثر منها بحثا فيها، وهذا التقريظ للعلوم والصناعة سيكون بهذا المنوال الخطابي حيث يأمل من الطلاب «إحراز العلم وإتقان الصناعة وإحياء رسمها وترميم باليها لشدة افتقارنا إليهما كليهما» (السابق ص ٤٠).
ان صروف عبر هذه المجلة الرائدة سيقوم بالدعاية للعلم والصناعة والحداثة التقنية دون ربطها بأية جوانب اجتماعية وسياسية، ولهذا يقول: «العلم والصناعة والزراعة دعائم الحضارة، بل روح العمران، والاسباب اللازمة لارتقاء نوع الإنسان الخ.. » نفسه، ص ٤٦.
فعمله التثقيفي يقوم على نشر المعلومات العلمية والتقنية التي تظهر في الغرب وترويجها في الشرق، لكن أي علم وأي زراعة وأية ظروف اقتصادية واجتماعية وفكرية تتشكل فيها هذه المعلومات، وهل من الممكن أن تتجذر وكيف؟
إنه يقول إن مهمته هي بسط العلوم أمام أهل الشرق، وقد كانت هذه مهمة صعبة كذلك، فالمجلة حين دخلت العراق مثلاً واجهت معارضة حتى من المثقفين، الذي وجدوا فيها تبدلاً عما ألفوه من مطبوعات فرفضوها فترة حتى أصبحت مألوفة بعد جهد.
اعتمد يعقوب صروف في نشره للعلوم على جوانبها التقنية، ويمكن القول إن هذا التركيز عنى هذه الجوانب يعكس عملية توظيف غير مودلجة بشكل مباشر، نظراً لصدور المجلة في سوريا ولبنان وهما حينذاك خاضعتان للسلطة العثمانية الإقطاعية المتخلفة، فكان في نشر العلوم بحد ذاتها عملية كفاحية.
وهكذا كان صروف وهو ينشر مجلته يركز على هدفها التحديثي فيقول: «التمدن الأوروبي كما لا يخفى عليكم أيها السادة والسيدات تمدن ليس منا ولا لنا، ولا ننتفع منه النفع الحقيقي إلا إذا نقلناه إلى بلادنا وغرسناه في ترابنا» .
يغدو نقل المعلومات العلمية والتجارب الصناعية الحديثة هو هدف يعقوب صروف بدرجة كلية، ومنهج النقل هذا منهج ميكانيكي، فهو تناول مادة من منطقه ونقلها إلي منطقة أخرى، وحسب أسلوب صروف هنا، فنحن أمام نبتة تنتقل من جهة جغرافية إلى أخرى، في الأولى نجد الظروف جيدة، وفي الثانية نجد الظروف سيئة، ولكن
المنطقتين المتضادتين، ليس لهما تاريخ وجذور، فهو لا يقوم بدراسة بنية الإنشاء وأسباب نجاحها، ولا بنية الاستيراد وأسباب عدم ظهورها.
فنحن أمام عقلية نقل معلومات علمية وليس أمام عقلية علمية، حيث يتطلب من العقل العلمي قراءة المشكلة وتحديد ظروفها وجذورها التاريخية والراهنة، أي يتطلب تحويلها إلي قضية سياسية واقتصادية وفكرية، وبالتالي تكوين رأي أوحركة لتغييرها.
إن تعبير «لا مستقبل لسوريا ما لم تغزل خيوط تمدنها وتنسجها في نولها»، الذي يقوم على مفردات الصناعة اليدوية، هو تعبير إنشائي فضفاض، وهو يقود الوعى النهضوي التقني هنا إلي فضاء غير سياسي واجتماعي، فتغدو الحداثة التقنية أداة بيد قوى مالية واقتصادية عربية مجهولة الصلات والأهداف التاريخية. صحيحٌ ان
الخطاب هنا يعكس العداء للإقطاع الشرقي العثماني، ولكنه عداء مضمر، لم يتبلور في رؤية، فيمكننا أيضاً أن نعده عداءً دينياً للإسلام، لأنه كان عاماً مجرداً، ولهذا ربما يغدو عبر هذه الرؤية إن الإسلام المجرد هذا هو سبب تخلف المشرق، وليس التركيبة الإقطاعية المذهبية، كما تمظهرت في الإقطاع العثماني، بصفته آخر أشكال الإقطاع المذهبي المعروفة حينئذ، ولعله لو كان إقطاعاً دينياً يرتدي عباءة المسيحية، لربما كان ليعقوب صروف موقف آخر.
ويمكن هنا أن نتصور كذلك، من جهة مقابلة، إن الحداثة التقنية هذه، وقد فقدت طابعها التاريخي والوطني والقومي، تغدو في حاملها الغرب الاستعماري شيئاً مهماً ومفيداً، حيث ان صروف قد جرد هذه الحداثة من طابعها الاجتماعى السابق ودلالاتها، لتغدو أداة تقنية، مجرد قوى إنتاج مفسرة على أوجه عديدة، بدلاً من أن يشكلها في رؤية وطنية واجتماعية، كعلاقات إنتاج تاريخية.
وهو يشكلها عبر تضادات جغرافية، فهناك أوروبا التحديثية والنهضة، وهنا التخلف، وهذا يشير إلي طابع علماني كذلك، ولكنه علماني بلا جنور إسلامية مسيحية، حيث لم يقم كذلك بفحص العلوم. والنهضة من جوانب تاريخية مناطقية، ولهذا يغدو الوعي تقنياً تابعاً للغرب، مواكباً للفئات الوسطى الاستيرادية، التي بدأت النمو بشكل كبير في هذه الفترة، جالبة البضائع المادية والفكرية من الغرب وخاصة: فرنسا.
ولهذا فإن حديث صروف عن الصناعة والعلوم يغدو إنشائياً مجردأ، وليس بحثاً حقيقياً في كيفية تشكيل الصناعة. ولهذا فإن الفئات الوسطى المسيحية وهي تنمو بشكل حديث سوري، تقوم بإعادة إنتاج دورها التاريخي في العصر الوسيط الإسلامي، حيث كانت تابعة للاقطاع المذهبي الإسلامي بألوانه المختلفة، ولكن الإقطاع الذي وصل بقيادته التركية إلي الحضيض وغدا لقمة سائفة للسيطرة
الاستعمارية، غدا مرفوضاً وبدأت الجسور تتشكل مع الغرب المتصاعد، ذي النفوذ المتعاظم في المشرق، وإذا كانت البقعة السورية قريبة من فم هذا الإقطاع المحتضر، فإن البقعة المصرية بعيدة عن سيطرته، وهناك من الممكن أن يتكّشف المضمون الحقيقي لهذا الوعي النهضوي ليعقوب صروف وجملة من النهضويين السوريين المهاجرين.
في فضاء مصر السياسي والاجتماعي كان يمكن للفئات السورية اللبنانية أن تجد مساحة أكبر لإنتاج الحرية، ولكن لكونها فئات منتقلة ومهاجرة فخضوعها للفضاء السياسي الذي هاجرت اليه كان أقوى.
كذلك فإن الفئات المتوسطة السورية اللبنانية هذه سوف تحمل علاقات الإنتاج الإقطاعية المذهبية في أي مكان تذهب إليه، على الرغم من الاشتغال الكثيف في عمليات رأس المال، لكون تلك العلاقات هي التي تحكم بلد المنشأ وجذور الوعي.
فيعقوب صروف وهو يشتغل على رسملة الحياة «أي جعلها رأسمالية» يجعلها بلا أهداف سياسية موجهة لتشكيل مجتمع رأسمالي حر، مما يجعل عملياته التحديثية تابعة لعلاقات الإنتاج الإقطاعية السائدة.
ومن هنا فان خطاب مجلة المقتطف في مصر التي تم الهجرة إليها يتضاءل فيه الجانب التحرري الوطني الذي كان أقوى في بلاد الشام، نظراً لاصطدامه بالأتراك المسلمين، ولكن في مصر التي تنامت فيها السيطرة البريطانية، فإن هذا الجانب سيخفت، نظراً لنموها حسب تصورها تحت مظلة حداثة غربية مسيحية مهيمنة، وستبدوهذه الحداثة في وعي المجلة وأصحابها بمثابة إنقاذ للشرق، وليس باعتبارها حداثة محدودة تحافظ على علاقات الإنتاج الإقطاعية الدينية هنا، التي ستقاوم بضراوة هذه الحداثة الشكلية.
أي أن يعقوب صروف سوف يركز على تطور العلوم وانتشارها في مصر، كتقنيات، وليس كمنهج علمي، ومن هنا فإن التجريبية لديه محدودة، سواء على مستوى التجربة العملية أم على مستوى الوعي النظري، فهو يقول:
«الاعتقاد والمشاهدة، بين ثلاثة أنواع من الحوادث: نوع يؤيده الاختبار. ونوع لا يؤيده الاختبار ويناقض الحقائق العلمية، ونوع لا يؤيده الاختبار ولكنه لا يناقض العلم» (السابق 54،55)، فكيف لا يؤيده الاختبار ولكنه لا يناقض العلم؟ وهكذا يقوم بفتح النوافذ للوعي غير العلمي، بدلاً من أن يجعل التجريبية شاملة.
وهذا التردد والتناقض في المستوى المنهجي النظري، يتشكل كذلك عبر نضاله من أجل نشر العلوم والوعي النظري بالصناعة دون أن يدرك الآفاق التاريخية الوطنية المشرقية لهما. فهو يظن انه لا يوجد حاجز يمنع الأقطار العربية من المشاركة مجدداً في الحركة العلمية الصناعية العالمية.
ويرى مؤلف الكتاب السابق ان الحديث عن نشر العلوم والصناعة دون التطرق إلى نظام الحكم غير ممكن، فالنظام ذو علاقة وثيقة بذلك، ولكن طرح مثل هذه الموضوعات لدى صروف «كانت عملاً ثورياً، قليل الحظ من النجاح، وبعد، فهو لم يكن بطبعه وفلسفته والتزامه ميالاً إلى الأعمال الثورية» (نفسه ص5٧).
ومع ذلك فإن العلاقات وثيقة بين العلوم والصناعة وعلاقات الإنتاج، فالنظام الإقطاعي الذي تهيمن عليه بريطانيا في مصر، أو فرنسا في سوريا، كانت مساحة التطور الصناعي فيه محدودة، وبالتالي فإن أي تحول جذري فيه يتطلب تجاوز هذه العلاقات الإقطاعية المهيمن عليها استعمارياً، التي اخترقها بعض العلاقات الرأسمالية دون أن تزيح البنية القديمة.
ولهذا فدون نقد جذري لهذه البنية يجعل الوعي النهضوي مُلحقاً بها، وخاضعا ً لمستواها الإيديولوجي، وغير قادر على الخروج من مدارها، فالمسالة هنا هي أحجام المنشات الصناعية وأنواعها وأعدادها، ومستوى تطور العمل المأجور، وطبقة الفلاحين وحجمها وتطورها ونسبة تحولها إلى الصناعة وإلى العمل المأجور والتصنيع، ومسالة السوق الوطنية وتطورين البرجوازية الصناعية الوطنية، وعلاقة التعليم والثقافة بالتطور التقني الصناعي، ونسبة تحرر المرأة ودخولها إلى السوق والصناعة الخ..
أي أن المسألة ليست شعارات عن النهضة والصناعة والعلم، بل دراسات وتغلغلٌ للمنهج العلمي في قراءة الظاهرات الطبيعية والاجتماعية والفكرية، وتقود القراءة الأولى الشعارية إلى الضمور والشكلانية والالتحاق بعمليات التحديث الأجنبية، وهوالمسار الذي أخذت مجلة المقتطف تتوجه اليه.
في حين ان القراءة الثانية لن تستطيع رؤية المقتطف أن تحققها، لفصلها عمليات التحرر الوطني والاجتماعي عن العلوم، وهذه القراءة الثانية سوف يحققها اليسار المصري الذي استفاد ولا شك من المنورين السوريين ودورهم الفكري، ولكنه سوف يتجاوزهم نظراً لتوحيده عمليات التنوير الثقافي بالكفاح السياسي.
https://isaalbuflasablog.wordpress.co...
تطور الأنواع الأدبية العربية
وقد توجه منذ وقت مبكرللربط بين الثقافة العلمية والحياة الاجتماعية، بمنهج معين، وشارك في تأسيس المجمع العلمي الشرقي، ولصروف كذلك تجربة ثقافية,عالمية، اذ أخذ الدكتوراه من جامعة أمريكية، وزار الغرب، وصادق المنور الآخر فارس نمر الذي كانت له أهميته في الثقافة العربية الحديثة المبكرة.
إن نمو الاتجاهات الحديثة في لبنان وسوريا وبين المسيحيين خاصة، ليس بالأمر الغريب، فقد لعب المسيحيون في الحضارة العربية السابقة دوراً ثقافياً كبيراً، وأدت جذورهم الاجتماعية كفئات وسطى مدنية، دورها في تميزهم وسط الجمهور العادي، وإذا كانوا قد لعبوا دورهم كطليعة ثقافية، فإن الجمهور العربي المسلم سوف يلتحق بهم لاحقاً وبكثافة، كما حدث في العصر العباسي، وفي بدء العصر الحديث العربي كذلك، فهنا ظاهرات متشابهة لها قوانين معينة، تتمظهر في كل عصر حسب تطوره الاجتماعي والاقتصادي، ولا بد لنا من قراءة هذه الطليعية الراهنة عبر يعقوب صروف نموذجا .
لقد كان ليعقوب صروف نشاطات اجتماعية وفكرية كثيرة، ولكن البؤرة المركزية فيها، هو إنشائه لمجلة المقتطف ونشره للعلوم المختلفة. لقد ظهر العدد الأول من المجلة سنة ١٨٧٦.
ان إصدار المجلة وكتابة مقالاتها عمليتين ليستا بسيطتين في تلك الظروف، فكان هو الذي يكتب معظم مقالات المجلة، وفي السابق كان يساعده ويندغم في عمله فارس نمر، ولكنه بعد فترة تخصّص في المجلة، فكان هوالكاتب أيضاً لكل أبوابه كباب الصناعة وباب الزراعة وباب تدبير المنزل وباب التقاريظ وباب المسائل والاخبار، وقد يمضي عليه أسبوع كامل وهو يبحث عن المادة اللازمة لمقالة واحدة، بل قد يمضي عليه أيام وهو يبحث عن كلمة واحدة. ناصيف نصار، «الفلسفة في معركة الإيديولوجية»، دار الطليعة، ط١، ١٩٨٠، ص٤٤.
والهدف الذي يبتغيه صروف من نشر هذه المعلومات هو علاقتها بالصناعة، دون أن يحدد لنا العلاقة التي يتصورها بين العلوم والصناعة، ولكنه يقول: «إن الصناعة مؤسسة على العلم... فالأحرى بنا أن نقصد العلوم من حيث تؤدي إلى الصناعة جادين في تلك، غير مهملين هذه» (السابق، ص ٤٠)، فالعلاقة بين العلوم والصناعة هنا علاقة غير مرئية، بل هي عملية ربط تقريظية أكثر منها بحثا فيها، وهذا التقريظ للعلوم والصناعة سيكون بهذا المنوال الخطابي حيث يأمل من الطلاب «إحراز العلم وإتقان الصناعة وإحياء رسمها وترميم باليها لشدة افتقارنا إليهما كليهما» (السابق ص ٤٠).
ان صروف عبر هذه المجلة الرائدة سيقوم بالدعاية للعلم والصناعة والحداثة التقنية دون ربطها بأية جوانب اجتماعية وسياسية، ولهذا يقول: «العلم والصناعة والزراعة دعائم الحضارة، بل روح العمران، والاسباب اللازمة لارتقاء نوع الإنسان الخ.. » نفسه، ص ٤٦.
فعمله التثقيفي يقوم على نشر المعلومات العلمية والتقنية التي تظهر في الغرب وترويجها في الشرق، لكن أي علم وأي زراعة وأية ظروف اقتصادية واجتماعية وفكرية تتشكل فيها هذه المعلومات، وهل من الممكن أن تتجذر وكيف؟
إنه يقول إن مهمته هي بسط العلوم أمام أهل الشرق، وقد كانت هذه مهمة صعبة كذلك، فالمجلة حين دخلت العراق مثلاً واجهت معارضة حتى من المثقفين، الذي وجدوا فيها تبدلاً عما ألفوه من مطبوعات فرفضوها فترة حتى أصبحت مألوفة بعد جهد.
اعتمد يعقوب صروف في نشره للعلوم على جوانبها التقنية، ويمكن القول إن هذا التركيز عنى هذه الجوانب يعكس عملية توظيف غير مودلجة بشكل مباشر، نظراً لصدور المجلة في سوريا ولبنان وهما حينذاك خاضعتان للسلطة العثمانية الإقطاعية المتخلفة، فكان في نشر العلوم بحد ذاتها عملية كفاحية.
وهكذا كان صروف وهو ينشر مجلته يركز على هدفها التحديثي فيقول: «التمدن الأوروبي كما لا يخفى عليكم أيها السادة والسيدات تمدن ليس منا ولا لنا، ولا ننتفع منه النفع الحقيقي إلا إذا نقلناه إلى بلادنا وغرسناه في ترابنا» .
يغدو نقل المعلومات العلمية والتجارب الصناعية الحديثة هو هدف يعقوب صروف بدرجة كلية، ومنهج النقل هذا منهج ميكانيكي، فهو تناول مادة من منطقه ونقلها إلي منطقة أخرى، وحسب أسلوب صروف هنا، فنحن أمام نبتة تنتقل من جهة جغرافية إلى أخرى، في الأولى نجد الظروف جيدة، وفي الثانية نجد الظروف سيئة، ولكن
المنطقتين المتضادتين، ليس لهما تاريخ وجذور، فهو لا يقوم بدراسة بنية الإنشاء وأسباب نجاحها، ولا بنية الاستيراد وأسباب عدم ظهورها.
فنحن أمام عقلية نقل معلومات علمية وليس أمام عقلية علمية، حيث يتطلب من العقل العلمي قراءة المشكلة وتحديد ظروفها وجذورها التاريخية والراهنة، أي يتطلب تحويلها إلي قضية سياسية واقتصادية وفكرية، وبالتالي تكوين رأي أوحركة لتغييرها.
إن تعبير «لا مستقبل لسوريا ما لم تغزل خيوط تمدنها وتنسجها في نولها»، الذي يقوم على مفردات الصناعة اليدوية، هو تعبير إنشائي فضفاض، وهو يقود الوعى النهضوي التقني هنا إلي فضاء غير سياسي واجتماعي، فتغدو الحداثة التقنية أداة بيد قوى مالية واقتصادية عربية مجهولة الصلات والأهداف التاريخية. صحيحٌ ان
الخطاب هنا يعكس العداء للإقطاع الشرقي العثماني، ولكنه عداء مضمر، لم يتبلور في رؤية، فيمكننا أيضاً أن نعده عداءً دينياً للإسلام، لأنه كان عاماً مجرداً، ولهذا ربما يغدو عبر هذه الرؤية إن الإسلام المجرد هذا هو سبب تخلف المشرق، وليس التركيبة الإقطاعية المذهبية، كما تمظهرت في الإقطاع العثماني، بصفته آخر أشكال الإقطاع المذهبي المعروفة حينئذ، ولعله لو كان إقطاعاً دينياً يرتدي عباءة المسيحية، لربما كان ليعقوب صروف موقف آخر.
ويمكن هنا أن نتصور كذلك، من جهة مقابلة، إن الحداثة التقنية هذه، وقد فقدت طابعها التاريخي والوطني والقومي، تغدو في حاملها الغرب الاستعماري شيئاً مهماً ومفيداً، حيث ان صروف قد جرد هذه الحداثة من طابعها الاجتماعى السابق ودلالاتها، لتغدو أداة تقنية، مجرد قوى إنتاج مفسرة على أوجه عديدة، بدلاً من أن يشكلها في رؤية وطنية واجتماعية، كعلاقات إنتاج تاريخية.
وهو يشكلها عبر تضادات جغرافية، فهناك أوروبا التحديثية والنهضة، وهنا التخلف، وهذا يشير إلي طابع علماني كذلك، ولكنه علماني بلا جنور إسلامية مسيحية، حيث لم يقم كذلك بفحص العلوم. والنهضة من جوانب تاريخية مناطقية، ولهذا يغدو الوعي تقنياً تابعاً للغرب، مواكباً للفئات الوسطى الاستيرادية، التي بدأت النمو بشكل كبير في هذه الفترة، جالبة البضائع المادية والفكرية من الغرب وخاصة: فرنسا.
ولهذا فإن حديث صروف عن الصناعة والعلوم يغدو إنشائياً مجردأ، وليس بحثاً حقيقياً في كيفية تشكيل الصناعة. ولهذا فإن الفئات الوسطى المسيحية وهي تنمو بشكل حديث سوري، تقوم بإعادة إنتاج دورها التاريخي في العصر الوسيط الإسلامي، حيث كانت تابعة للاقطاع المذهبي الإسلامي بألوانه المختلفة، ولكن الإقطاع الذي وصل بقيادته التركية إلي الحضيض وغدا لقمة سائفة للسيطرة
الاستعمارية، غدا مرفوضاً وبدأت الجسور تتشكل مع الغرب المتصاعد، ذي النفوذ المتعاظم في المشرق، وإذا كانت البقعة السورية قريبة من فم هذا الإقطاع المحتضر، فإن البقعة المصرية بعيدة عن سيطرته، وهناك من الممكن أن يتكّشف المضمون الحقيقي لهذا الوعي النهضوي ليعقوب صروف وجملة من النهضويين السوريين المهاجرين.
في فضاء مصر السياسي والاجتماعي كان يمكن للفئات السورية اللبنانية أن تجد مساحة أكبر لإنتاج الحرية، ولكن لكونها فئات منتقلة ومهاجرة فخضوعها للفضاء السياسي الذي هاجرت اليه كان أقوى.
كذلك فإن الفئات المتوسطة السورية اللبنانية هذه سوف تحمل علاقات الإنتاج الإقطاعية المذهبية في أي مكان تذهب إليه، على الرغم من الاشتغال الكثيف في عمليات رأس المال، لكون تلك العلاقات هي التي تحكم بلد المنشأ وجذور الوعي.
فيعقوب صروف وهو يشتغل على رسملة الحياة «أي جعلها رأسمالية» يجعلها بلا أهداف سياسية موجهة لتشكيل مجتمع رأسمالي حر، مما يجعل عملياته التحديثية تابعة لعلاقات الإنتاج الإقطاعية السائدة.
ومن هنا فان خطاب مجلة المقتطف في مصر التي تم الهجرة إليها يتضاءل فيه الجانب التحرري الوطني الذي كان أقوى في بلاد الشام، نظراً لاصطدامه بالأتراك المسلمين، ولكن في مصر التي تنامت فيها السيطرة البريطانية، فإن هذا الجانب سيخفت، نظراً لنموها حسب تصورها تحت مظلة حداثة غربية مسيحية مهيمنة، وستبدوهذه الحداثة في وعي المجلة وأصحابها بمثابة إنقاذ للشرق، وليس باعتبارها حداثة محدودة تحافظ على علاقات الإنتاج الإقطاعية الدينية هنا، التي ستقاوم بضراوة هذه الحداثة الشكلية.
أي أن يعقوب صروف سوف يركز على تطور العلوم وانتشارها في مصر، كتقنيات، وليس كمنهج علمي، ومن هنا فإن التجريبية لديه محدودة، سواء على مستوى التجربة العملية أم على مستوى الوعي النظري، فهو يقول:
«الاعتقاد والمشاهدة، بين ثلاثة أنواع من الحوادث: نوع يؤيده الاختبار. ونوع لا يؤيده الاختبار ويناقض الحقائق العلمية، ونوع لا يؤيده الاختبار ولكنه لا يناقض العلم» (السابق 54،55)، فكيف لا يؤيده الاختبار ولكنه لا يناقض العلم؟ وهكذا يقوم بفتح النوافذ للوعي غير العلمي، بدلاً من أن يجعل التجريبية شاملة.
وهذا التردد والتناقض في المستوى المنهجي النظري، يتشكل كذلك عبر نضاله من أجل نشر العلوم والوعي النظري بالصناعة دون أن يدرك الآفاق التاريخية الوطنية المشرقية لهما. فهو يظن انه لا يوجد حاجز يمنع الأقطار العربية من المشاركة مجدداً في الحركة العلمية الصناعية العالمية.
ويرى مؤلف الكتاب السابق ان الحديث عن نشر العلوم والصناعة دون التطرق إلى نظام الحكم غير ممكن، فالنظام ذو علاقة وثيقة بذلك، ولكن طرح مثل هذه الموضوعات لدى صروف «كانت عملاً ثورياً، قليل الحظ من النجاح، وبعد، فهو لم يكن بطبعه وفلسفته والتزامه ميالاً إلى الأعمال الثورية» (نفسه ص5٧).
ومع ذلك فإن العلاقات وثيقة بين العلوم والصناعة وعلاقات الإنتاج، فالنظام الإقطاعي الذي تهيمن عليه بريطانيا في مصر، أو فرنسا في سوريا، كانت مساحة التطور الصناعي فيه محدودة، وبالتالي فإن أي تحول جذري فيه يتطلب تجاوز هذه العلاقات الإقطاعية المهيمن عليها استعمارياً، التي اخترقها بعض العلاقات الرأسمالية دون أن تزيح البنية القديمة.
ولهذا فدون نقد جذري لهذه البنية يجعل الوعي النهضوي مُلحقاً بها، وخاضعا ً لمستواها الإيديولوجي، وغير قادر على الخروج من مدارها، فالمسالة هنا هي أحجام المنشات الصناعية وأنواعها وأعدادها، ومستوى تطور العمل المأجور، وطبقة الفلاحين وحجمها وتطورها ونسبة تحولها إلى الصناعة وإلى العمل المأجور والتصنيع، ومسالة السوق الوطنية وتطورين البرجوازية الصناعية الوطنية، وعلاقة التعليم والثقافة بالتطور التقني الصناعي، ونسبة تحرر المرأة ودخولها إلى السوق والصناعة الخ..
أي أن المسألة ليست شعارات عن النهضة والصناعة والعلم، بل دراسات وتغلغلٌ للمنهج العلمي في قراءة الظاهرات الطبيعية والاجتماعية والفكرية، وتقود القراءة الأولى الشعارية إلى الضمور والشكلانية والالتحاق بعمليات التحديث الأجنبية، وهوالمسار الذي أخذت مجلة المقتطف تتوجه اليه.
في حين ان القراءة الثانية لن تستطيع رؤية المقتطف أن تحققها، لفصلها عمليات التحرر الوطني والاجتماعي عن العلوم، وهذه القراءة الثانية سوف يحققها اليسار المصري الذي استفاد ولا شك من المنورين السوريين ودورهم الفكري، ولكنه سوف يتجاوزهم نظراً لتوحيده عمليات التنوير الثقافي بالكفاح السياسي.
https://isaalbuflasablog.wordpress.co...
تطور الأنواع الأدبية العربية
Published on October 30, 2019 11:39
•
Tags:
تنوير-يعقوب-صروف
تنوير: التنوير الاجتماعي عند فرح أنطون ☮
فرح أنطون هو من المثقفين الشوام الذين هاجروا إلى مصر هروباً من القمع العثماني، وكسربه المهاجر اشترك في الجهود الثقافية المتنامية في مصر وهي تحت الاحتلال البريطاني، وقد أصدر جريدته [ الجامعة] بالإسكندرية، منذ أوائل القرن العشرين، ونشر فيها مقالاته ورواياته، وقد أدت بعض كتاباته إلى معارك شهيرة مع الإمام محمد عبده والتيار الديني عامة.
ليس تحت أيدينا ثمرة هذه المعركة وهو كتاب [ في أبن رشد وفلسفته]، ولكن روايته المعروفة والمنشورة مجدداً وهي [الدين والعلم والمال]، والتي كتب مقدمتها جابر عصفور موضحاً إن كتابة فرح أنطون للرواية الفكرية يأتي في سياق دور المثقفين النهضويين في ذلك الوقت لنشر المعرفة: كما فعل جورجي زيدان في رواياته التاريخية، التي اهتمت بعرض التاريخ الإسلامي بشكل قصصي.
وبطبيعة الحال، فإن اختيار فرح أنطون وجورجي زيدان للرواية كأداة عرض للأفكار، يعبر عن هذه العملية في تثقيف القراء، وبالتالي هذا أدى إلى تغيير طابع اللغة العربية المثقلة بزخارف العصر الوسيط، وجعل هذا النوع [ الرواية] ذا طابع شعبي.
ولهذا فإن فرح أنطون وهو يعرض مسألة التيارات الفكرية المعاصرة في ذلك الوقت، لم يطرحها كبحث فكري يتغلغل في هذه التيارات فحصاً وتحليلاً، بل جعل عملية البحث أشبه بقصة، فهناك راوٍ، وهناك شخصيات يقابلها، وموضوع يكشفه وهو موضوع ثلاث مدن متضادة، هي مدن الدين والعلم والمال.
لقد جعل التيارات الفكرية: التيار الديني، والتيار العلمي، والتيار المالي، أجساماً جغرافية وتاريخية مُجسدة في تكوينات.فلم تعد هذه التيارات متداخلة وأجزاء من تكوين تاريخي في مجتمع واحد، بل جعلها مدناً.
وهو يقيم تاريخاً خاصاً لتكون وانفصال هذه المدن، يقول الشيخ شارحاً ذلك للراوي البطل وهو الفنان المتجول:
[وقد حدث هذا الانقسام على ما نرى منذ زمن بعيد، فإن أولئك الفتيان والفتيات الذي أسسوا هذه الجمهورية الصغيرة بعد اشتغالهم بزراعة الأرض وإتقان المصنوعات أصابوا من نصيباً من الثروة والسعة، فلما تزاوجوا وتكاثروا جاء أبناؤهم أرقى منهم وأكثر ميلاً إلى الشئون النفسية، فعكف بعضهم على التجارة وبعضهم على العلم وبعضهم على الأدب وبعضهم على الدين]، [الدين والعلم والمال، دار المدى، ص27].
يقيم فرح أنطون تاريخاً خيالياً لهذه المدن، فهناك مجموعة من الشباب تقوم بإنشاء جمهورية تعاونية تتوسع وتتنوع في الإنتاج المادي والروحي.وبغض النظر عن الإمكانية الاجتماعية لمثل ذلك، إلا أن فرح سرعان ما يقفز على سياق التجربة، وهو لم يعلمنا بجذور هذا التعاون وطبيعة الملكية والإنتاج، وكيف يمكن لأساس اجتماعي تعاوني أن يتفكك، وهل المسألة تعود لتطور الأجيال؟
إن هذا يعطينا فكرة عن عدم درس فرح أنطون للتجربة المشاعية في المشرق، وإنه أخذ فكرة الجمهورية المشتركة هذه من أفكار الاشتراكيين الخياليين أمثال روبرت أوين وسان سيمون وشارل فورييه، الذي قام بعضهم بالفعل بتجارب فاشلة لمثل ذلك.
ولكن فرح أنطون ينقلها إلى مدار آخر.فهي ليست تجربة اشتراكية بالفعل، وهي ليست عودة لاكتشاف الجذور التاريخية للشرق، بل هي فكرة قصصية لأمر آخر.إنها تبرير لوجود مثل هذه المدن الخيالية على هيئة تيارات فكرية.
ولهذا فإنه يتقدم لتمرير هذه الفكرة وتجسيدها:
[فلم يمر زمنٌ طويل حتى قام النزاع بينهم على ساق وقدم].لا يقدم المؤلف أي حيثيات معقولة في تفسير هذا النزاع، فكيف يتشكل نظامٌ اجتماعي دون تداخل بين رجال المال والعلم والدين؟ وهل مسألة تغير الأجيال دون تبدل في الملكية وعلاقات الإنتاج يمكن أن يؤدي إلى هدم تجربة تعاونية؟!إننا نرى هنا مفهوماً مثالياً للتاريخ متوارياً.ويضيف:
[ فارتأى بعض منهم زيادة في توسيع المعيشة على السكان أن ينشئوا بلدتين أخريين قريبتين من البلدة الأصلية. ثم رغبة في حصر النزاع في مكان واحد أو منعاً للنزاع قرروا أن تسكن كل طبقة في بلدة، فطبقة المال تسكن في البلدة الشرقية، وطبقة العلم في البلدة الغربية، وطبقة الدين في البلدة الجنوبية]، [ نفسه ،ص27].
هنا جملة من الإشكاليات، فمحاولة فرح تصوير التيارات الفكرية الأساسية في المجتمع الحديث الغربي، في الواقع، على شكل مدن، تبدو غير متنامية بشكل منطقي اجتماعي وفني في آن، ولكن فرزه كذلك للمدن هو فرز يأتي على أسس متناقضة، فمدينة المال، وهي مدينة أصحاب الثروة والرأسماليين، هي مدينة طبقية، حقيقية، أما مدينة أهل العلم، فهؤلاء فئة مستخدمة ذات اتجاهات متعددة، في حين كان ينبغي أن تكون مدينة العمال أو الفعلة، كما سيذكر لاحقاً.لأن مدينة العمال يمكن أن تكون جسماً اجتماعياً متبلوراً، حتى في مساكن وأحياء، لكن فرح أنطون لم يفعل ذلك، وجعل فئة العلماء ومن ثم فئة رجال الدين تكوّنان مدينتين مختلفتين.
وهو فيما بعد سوف يحتار في فئة العلماء لأنه يجعلهم عمالاً تارة، ومدافعين عن العمال تارةً أخرى.فهل كان يريد عرض طبقات المدينة الحديثة وصراعها أم عرض الصراعات الفكرية؟ هذه العملية ستكون متداخلة.
إن هذا التأثيث المتردد لطبقات المجتمع وتياراتها ستكون له نتائجه في سيرورة المدن، وتصوره للحضارة الحديثة.
لكن علينا قبل ذلك أن نعرف لماذا قام باختيار المدن كنموذج لعرض التيارات.
لقد ظهر أسم الفيلسوف الفارابي في هذا الكتاب [ ص 42]، وهي إشارة بكون المؤلف فرح أنطون يعرف الفارابي وتجربة كتاباته، فالفارابي الذي أسس في الفلسفة العربية عملية التداخل بين التيارات الفكرية والاجتماعية وبين المدن، حيث كانت لديه تعبيرات: المدن الجاهلة، المدن الفاسقة، المدن الضالة، المدن الفاضلة..
وقد مرّكز الفارابي في مدنه سمات اجتماعية فكرية متداخلة، فالمدينة الجاهلة على سبيل المثال هي التي عرفت الحقيقة ولكنها لم تطبقها وانهمكت في شئون حياتها اليومية من أكل وتوالد الخ..والمدينة عرفت الحقيقة وتوجهت لضدها من أنانية وفجور الخ..
هذه الفكرة الفارابية استلهما فرح مزاوجاً بينها وبين فكرة الاشتراكيين الخياليين عن الجمهورية الصغيرة ذات المشروعات الإصلاحية في مزاوجة مركبة ضعيفة عموماً في بنائها.
والفارق بين فكرة الفارابي عن المدينة المثالية من جهة، وفكرة فرح أنطون وفكرة الاشتراكيين الخياليين من جهة أخرى، إن الأول اتخذها نقداً للحياة الأرضية وطلب العيش فيها،رافضاً إياها مقدماً حياة الغيب والذوبان في المطلق والفيض، معتبراً الزهد شكلاً من هذا الرفض للحياة الدنيا (الوضيعة)، وهو أمر كان يعبر عن رفضه للبذخ الأرستقراطي الهائل في عصره، متساوقاً مع الإيديولوجية الدينية الزهدية المتصاعدة في الحياة.
وإذا كان الفارابي يدعو للغياب عن تطوير المدن والتوجه للعزلة والزهد، فإن فرح أنطون والاشتراكيين الطوباويون يصورون المدن أو يناضلون من أجل إنشائها بهدف تطوير الحياة الدنيوية ورفع مستوى معاش الإنسان وثقافته، وهو هدف مغاير للفارابي الذي انسدت أمامه آفاق التغيير الاجتماعي الخلاق.
ولهذا فإن الأبيات التي أستشهد بها فرح أنطون في كتابه وهي كما نوه لها من نظم الفارابي، إذا صحت الرواية، أقول إن هذه الأبيات في تضاد مع ما يريده أنطون، تقول الأبيات المنسوبة للفارابي:
أخي خل ذي باطـــــــــــــل وكن للحقائـــــــق في حيز
فما الدار دارُ مقامٍ لنـــــــــــا وما المرءُ في الأرض بالمعجز
ينافس هذا لهذا علــــــــــــى أقلِّ من الــكلم الموجــــــــز
وهل نحن إلا خطوط وقعــــــ ن على نقطة وقع مســـتوفز
محيط الــسماوات أولــــى بنا فماذا التنافس في مركــــــز
نرى هنا التضاد واضحاً بين رؤية الفارابي لضرورة عدم التنافس الأرضي، واعتبار الدار دار عبور، وكون الإنسان مجرد نقطة، في حين ينتظره محيط السماوات.إن هذه الفلسفة الغيبية المفارقة، المهمّشة لدور الإنسان وعالمه، يستشهد بها فرح أنطون وهو في سبيل بناء فلسفة دنيوية تحويلية للإنسان، تركز على تغيير واقعه؟! ولهذا فإن قول الشيخ التالي للمتخاصمين قبل ترديده للأبيات يعبر أفدح تعبير عن هذا التناقض:
[هل إن حطام الدنيا وخيراتها الزائلة ومسراتها الفانية تستحق هذا الاقتتال الشديد عليها.].
لكن هذا لا يمنع من وجود خط سري ديني زهدي لدى فرح أنطون كما سيظهر لاحقاً.
وفي الواقع إن مهمة كتاب فرح أنطون هي النضال من أجل هذه الخيرات وهذه المسرات، المسروقة من الأغلبية العاملة، ولقد كان ومازال الاقتتال عليها هو مضمون التاريخ الاجتماعي، وهو القتال الذي رفض أن ينخرط فيه الفارابي مفضلاً العزلة وتقديم مشروع مؤجل ومغيّب، ودخله فرح أنطون نفسه، ولكنه هنا لم يستطع سبر غور مدن الفارابي، ولم يكتشف تضادها مع مشروعه، ولم يأت لذكرها إلا من أجل سند شرعي من التراث العربي الإسلامي يسوغ به مشروعه عن مدن مختلفة.
ينطلق فرح أنطون لتشكيل كتابه وعرض تجربة اجتماعية من فكرة [ اليتوبيا]، وهي تعني كما يقول إنه لمح في أثناء الدراسة [ عصراً يسميه مؤرخو اليونان العصر الذهبي ويسميه كتاب المسيحية عصر الفردوس الأرضي فبقى منه في فكره أثر كان يحضر فيه كلما رأى زحام الحياة وجهادها بين أفرادها]، ص28.
يبدو هنا إن فكرة المؤلف تشوبها كذلك نوازع دينية، خاصة في تعبيره عن الفردوس الأرضي وهي فكرة خالجت الأديان أو بعض تياراتها، من أجل خلق مجتمع العدالة الأرضية، المفقود دائماً، والذي يُراد أن يكون أرضياً وليس مؤجلاً ليوم الدينونة، ولهذا برزت لدى المسيحيين فكرة الفردوس الأرضي، ولدى المسلمين فكرة ظهور المهدي وتحقيق العدالة الشاملة الخ..
ويتضح الطابع الديني في تصوره من اعتقاده بوجود مدن فاضلة نقية، أي فراديس انتقلت من السماء إلى الأرض، ومن ظهور الشيخ المعتدل في القصة الذي يبدو كأنبياء الشرق.
لكنه فيما بعد يقوم بعرض وجهات نظر المتخاصمين الاجتماعيين، فرجال المال يقولون:[ شكوانا من بعض الطامعين الذين يثيرون خواطرهم( أي خواطر العمال)علينا ويحرضون طبقتهم على طبقتنا].ويطالبون الحكومة بإبعاد هؤلاء المحرضين ليستتب السلام.
أما أهل العلم فيهاجمون أهل الدين قائلين:
[تراهم يكثرون التزلف للأغنياء، وأرباب الأموال ويجارونهم.. ويلهون الشعب بالتدجيل عليه ليشغلوه بالأوهام والأحلام عن مصالحه الحقيقية].
أما شكوى رجال الدين فهي من:[أولئك الجاحدين الكفرة الذين يبثون روح ضلالهم وكفرهم في النفوس].
ولعل البرنامج العلمي العمالي الاشتراكي هو الذي يتردد في كتاب فرح أنطون الصغير هذا بوفرة، وهو ينقل أوضاع العمال الفرنسيين المحسوبة بالفرنك، أكثر من تصويره لأوضاع العمال المصريين أو العرب، وهو يبدأ ببرنامج اشتراكي فيقول زعيم العمال:
[فعلى الأمة إذاً أن تتولى إدارتها بنفسها وتوزع أرباحها بين أبنائها، أي أن الحكومة تجعل من نفسها التاجر الكبير الوحيد الذي تنحصر في يده المتاجر والمصانع والمزارع وتستخدم أفراد الأمة وتعطيهم أجرتهم..]، ص45.أما دعوة رجال المال فهي على النقيض ترك السوق الحرة تعمل بقوانينها.
ويقف رجال العلم والدين على طرفي نقيض، فرجال العلم مع العمال، ورجال الدين مع أرباب الأعمال، وهكذا ينقل فرح أنطون الصراع الاجتماعي الفرنسي بحذافيره إلى أجواء مصرية لم يحدث فيها مثل هذا الاستقطاب.
ولكنه هو يؤيد خطاً وسطاً معتدلاً ويتمثل ذلك في آراء شيخ العلم، وهو صورة لرجل الدين الشرقي وقد لبس مسوح الاشتراكيين، وهو يحاول أن يوفق بين الدين والعلم، وبين الرأسمالية والاشتراكية، ليس من خلال برنامج اجتماعي واقتصادي مرحلي معقول، بل أيضاً من خلال عبارات إنشائية أيديولوجية ليس فيها تشخيص دقيق للدين وللعلم.
لكن هذه الوسطية لا تنجح في تهدئة رؤساء العمال الغاضبين، ولا توجد في مدن فرح أنطون أي داع للاضطرابات، لكن هؤلاء الرؤساء يفجرون الأوضاع ويرد عليهم الآخرون والجيش فتحترق المد الثلاث!
وهذه أيضاً من الأجواء الأوربية والفرنسية تحديداً، ومناخ كومونة باريس يظلل المشهد الناري قبل الأخير.ومن المدهش إن نصيحة فرح أنطون للاعتدال سبقت محاولة العمال المصريين التي استولوا فيها على بعض المصانع في حركة اشتراكية متسرعة وأثناء الحكم الوطني الأول لسعد زغلول الذي قمع الانتفاضة العمالية بقسوة.ويبدو إن هؤلاء العمال والاشتراكيين المصريين لم يقرأوا تحذير فرح أنطون في كتابه الذي صدر قبل عشرين عاماً من عملهم.
ـــــــــــــــــ
انظر عبــدالله خلـــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الرابع ، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015 .
https://isaalbuflasablog.wordpress.co...
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية+الجزء الرابع
ليس تحت أيدينا ثمرة هذه المعركة وهو كتاب [ في أبن رشد وفلسفته]، ولكن روايته المعروفة والمنشورة مجدداً وهي [الدين والعلم والمال]، والتي كتب مقدمتها جابر عصفور موضحاً إن كتابة فرح أنطون للرواية الفكرية يأتي في سياق دور المثقفين النهضويين في ذلك الوقت لنشر المعرفة: كما فعل جورجي زيدان في رواياته التاريخية، التي اهتمت بعرض التاريخ الإسلامي بشكل قصصي.
وبطبيعة الحال، فإن اختيار فرح أنطون وجورجي زيدان للرواية كأداة عرض للأفكار، يعبر عن هذه العملية في تثقيف القراء، وبالتالي هذا أدى إلى تغيير طابع اللغة العربية المثقلة بزخارف العصر الوسيط، وجعل هذا النوع [ الرواية] ذا طابع شعبي.
ولهذا فإن فرح أنطون وهو يعرض مسألة التيارات الفكرية المعاصرة في ذلك الوقت، لم يطرحها كبحث فكري يتغلغل في هذه التيارات فحصاً وتحليلاً، بل جعل عملية البحث أشبه بقصة، فهناك راوٍ، وهناك شخصيات يقابلها، وموضوع يكشفه وهو موضوع ثلاث مدن متضادة، هي مدن الدين والعلم والمال.
لقد جعل التيارات الفكرية: التيار الديني، والتيار العلمي، والتيار المالي، أجساماً جغرافية وتاريخية مُجسدة في تكوينات.فلم تعد هذه التيارات متداخلة وأجزاء من تكوين تاريخي في مجتمع واحد، بل جعلها مدناً.
وهو يقيم تاريخاً خاصاً لتكون وانفصال هذه المدن، يقول الشيخ شارحاً ذلك للراوي البطل وهو الفنان المتجول:
[وقد حدث هذا الانقسام على ما نرى منذ زمن بعيد، فإن أولئك الفتيان والفتيات الذي أسسوا هذه الجمهورية الصغيرة بعد اشتغالهم بزراعة الأرض وإتقان المصنوعات أصابوا من نصيباً من الثروة والسعة، فلما تزاوجوا وتكاثروا جاء أبناؤهم أرقى منهم وأكثر ميلاً إلى الشئون النفسية، فعكف بعضهم على التجارة وبعضهم على العلم وبعضهم على الأدب وبعضهم على الدين]، [الدين والعلم والمال، دار المدى، ص27].
يقيم فرح أنطون تاريخاً خيالياً لهذه المدن، فهناك مجموعة من الشباب تقوم بإنشاء جمهورية تعاونية تتوسع وتتنوع في الإنتاج المادي والروحي.وبغض النظر عن الإمكانية الاجتماعية لمثل ذلك، إلا أن فرح سرعان ما يقفز على سياق التجربة، وهو لم يعلمنا بجذور هذا التعاون وطبيعة الملكية والإنتاج، وكيف يمكن لأساس اجتماعي تعاوني أن يتفكك، وهل المسألة تعود لتطور الأجيال؟
إن هذا يعطينا فكرة عن عدم درس فرح أنطون للتجربة المشاعية في المشرق، وإنه أخذ فكرة الجمهورية المشتركة هذه من أفكار الاشتراكيين الخياليين أمثال روبرت أوين وسان سيمون وشارل فورييه، الذي قام بعضهم بالفعل بتجارب فاشلة لمثل ذلك.
ولكن فرح أنطون ينقلها إلى مدار آخر.فهي ليست تجربة اشتراكية بالفعل، وهي ليست عودة لاكتشاف الجذور التاريخية للشرق، بل هي فكرة قصصية لأمر آخر.إنها تبرير لوجود مثل هذه المدن الخيالية على هيئة تيارات فكرية.
ولهذا فإنه يتقدم لتمرير هذه الفكرة وتجسيدها:
[فلم يمر زمنٌ طويل حتى قام النزاع بينهم على ساق وقدم].لا يقدم المؤلف أي حيثيات معقولة في تفسير هذا النزاع، فكيف يتشكل نظامٌ اجتماعي دون تداخل بين رجال المال والعلم والدين؟ وهل مسألة تغير الأجيال دون تبدل في الملكية وعلاقات الإنتاج يمكن أن يؤدي إلى هدم تجربة تعاونية؟!إننا نرى هنا مفهوماً مثالياً للتاريخ متوارياً.ويضيف:
[ فارتأى بعض منهم زيادة في توسيع المعيشة على السكان أن ينشئوا بلدتين أخريين قريبتين من البلدة الأصلية. ثم رغبة في حصر النزاع في مكان واحد أو منعاً للنزاع قرروا أن تسكن كل طبقة في بلدة، فطبقة المال تسكن في البلدة الشرقية، وطبقة العلم في البلدة الغربية، وطبقة الدين في البلدة الجنوبية]، [ نفسه ،ص27].
هنا جملة من الإشكاليات، فمحاولة فرح تصوير التيارات الفكرية الأساسية في المجتمع الحديث الغربي، في الواقع، على شكل مدن، تبدو غير متنامية بشكل منطقي اجتماعي وفني في آن، ولكن فرزه كذلك للمدن هو فرز يأتي على أسس متناقضة، فمدينة المال، وهي مدينة أصحاب الثروة والرأسماليين، هي مدينة طبقية، حقيقية، أما مدينة أهل العلم، فهؤلاء فئة مستخدمة ذات اتجاهات متعددة، في حين كان ينبغي أن تكون مدينة العمال أو الفعلة، كما سيذكر لاحقاً.لأن مدينة العمال يمكن أن تكون جسماً اجتماعياً متبلوراً، حتى في مساكن وأحياء، لكن فرح أنطون لم يفعل ذلك، وجعل فئة العلماء ومن ثم فئة رجال الدين تكوّنان مدينتين مختلفتين.
وهو فيما بعد سوف يحتار في فئة العلماء لأنه يجعلهم عمالاً تارة، ومدافعين عن العمال تارةً أخرى.فهل كان يريد عرض طبقات المدينة الحديثة وصراعها أم عرض الصراعات الفكرية؟ هذه العملية ستكون متداخلة.
إن هذا التأثيث المتردد لطبقات المجتمع وتياراتها ستكون له نتائجه في سيرورة المدن، وتصوره للحضارة الحديثة.
لكن علينا قبل ذلك أن نعرف لماذا قام باختيار المدن كنموذج لعرض التيارات.
لقد ظهر أسم الفيلسوف الفارابي في هذا الكتاب [ ص 42]، وهي إشارة بكون المؤلف فرح أنطون يعرف الفارابي وتجربة كتاباته، فالفارابي الذي أسس في الفلسفة العربية عملية التداخل بين التيارات الفكرية والاجتماعية وبين المدن، حيث كانت لديه تعبيرات: المدن الجاهلة، المدن الفاسقة، المدن الضالة، المدن الفاضلة..
وقد مرّكز الفارابي في مدنه سمات اجتماعية فكرية متداخلة، فالمدينة الجاهلة على سبيل المثال هي التي عرفت الحقيقة ولكنها لم تطبقها وانهمكت في شئون حياتها اليومية من أكل وتوالد الخ..والمدينة عرفت الحقيقة وتوجهت لضدها من أنانية وفجور الخ..
هذه الفكرة الفارابية استلهما فرح مزاوجاً بينها وبين فكرة الاشتراكيين الخياليين عن الجمهورية الصغيرة ذات المشروعات الإصلاحية في مزاوجة مركبة ضعيفة عموماً في بنائها.
والفارق بين فكرة الفارابي عن المدينة المثالية من جهة، وفكرة فرح أنطون وفكرة الاشتراكيين الخياليين من جهة أخرى، إن الأول اتخذها نقداً للحياة الأرضية وطلب العيش فيها،رافضاً إياها مقدماً حياة الغيب والذوبان في المطلق والفيض، معتبراً الزهد شكلاً من هذا الرفض للحياة الدنيا (الوضيعة)، وهو أمر كان يعبر عن رفضه للبذخ الأرستقراطي الهائل في عصره، متساوقاً مع الإيديولوجية الدينية الزهدية المتصاعدة في الحياة.
وإذا كان الفارابي يدعو للغياب عن تطوير المدن والتوجه للعزلة والزهد، فإن فرح أنطون والاشتراكيين الطوباويون يصورون المدن أو يناضلون من أجل إنشائها بهدف تطوير الحياة الدنيوية ورفع مستوى معاش الإنسان وثقافته، وهو هدف مغاير للفارابي الذي انسدت أمامه آفاق التغيير الاجتماعي الخلاق.
ولهذا فإن الأبيات التي أستشهد بها فرح أنطون في كتابه وهي كما نوه لها من نظم الفارابي، إذا صحت الرواية، أقول إن هذه الأبيات في تضاد مع ما يريده أنطون، تقول الأبيات المنسوبة للفارابي:
أخي خل ذي باطـــــــــــــل وكن للحقائـــــــق في حيز
فما الدار دارُ مقامٍ لنـــــــــــا وما المرءُ في الأرض بالمعجز
ينافس هذا لهذا علــــــــــــى أقلِّ من الــكلم الموجــــــــز
وهل نحن إلا خطوط وقعــــــ ن على نقطة وقع مســـتوفز
محيط الــسماوات أولــــى بنا فماذا التنافس في مركــــــز
نرى هنا التضاد واضحاً بين رؤية الفارابي لضرورة عدم التنافس الأرضي، واعتبار الدار دار عبور، وكون الإنسان مجرد نقطة، في حين ينتظره محيط السماوات.إن هذه الفلسفة الغيبية المفارقة، المهمّشة لدور الإنسان وعالمه، يستشهد بها فرح أنطون وهو في سبيل بناء فلسفة دنيوية تحويلية للإنسان، تركز على تغيير واقعه؟! ولهذا فإن قول الشيخ التالي للمتخاصمين قبل ترديده للأبيات يعبر أفدح تعبير عن هذا التناقض:
[هل إن حطام الدنيا وخيراتها الزائلة ومسراتها الفانية تستحق هذا الاقتتال الشديد عليها.].
لكن هذا لا يمنع من وجود خط سري ديني زهدي لدى فرح أنطون كما سيظهر لاحقاً.
وفي الواقع إن مهمة كتاب فرح أنطون هي النضال من أجل هذه الخيرات وهذه المسرات، المسروقة من الأغلبية العاملة، ولقد كان ومازال الاقتتال عليها هو مضمون التاريخ الاجتماعي، وهو القتال الذي رفض أن ينخرط فيه الفارابي مفضلاً العزلة وتقديم مشروع مؤجل ومغيّب، ودخله فرح أنطون نفسه، ولكنه هنا لم يستطع سبر غور مدن الفارابي، ولم يكتشف تضادها مع مشروعه، ولم يأت لذكرها إلا من أجل سند شرعي من التراث العربي الإسلامي يسوغ به مشروعه عن مدن مختلفة.
ينطلق فرح أنطون لتشكيل كتابه وعرض تجربة اجتماعية من فكرة [ اليتوبيا]، وهي تعني كما يقول إنه لمح في أثناء الدراسة [ عصراً يسميه مؤرخو اليونان العصر الذهبي ويسميه كتاب المسيحية عصر الفردوس الأرضي فبقى منه في فكره أثر كان يحضر فيه كلما رأى زحام الحياة وجهادها بين أفرادها]، ص28.
يبدو هنا إن فكرة المؤلف تشوبها كذلك نوازع دينية، خاصة في تعبيره عن الفردوس الأرضي وهي فكرة خالجت الأديان أو بعض تياراتها، من أجل خلق مجتمع العدالة الأرضية، المفقود دائماً، والذي يُراد أن يكون أرضياً وليس مؤجلاً ليوم الدينونة، ولهذا برزت لدى المسيحيين فكرة الفردوس الأرضي، ولدى المسلمين فكرة ظهور المهدي وتحقيق العدالة الشاملة الخ..
ويتضح الطابع الديني في تصوره من اعتقاده بوجود مدن فاضلة نقية، أي فراديس انتقلت من السماء إلى الأرض، ومن ظهور الشيخ المعتدل في القصة الذي يبدو كأنبياء الشرق.
لكنه فيما بعد يقوم بعرض وجهات نظر المتخاصمين الاجتماعيين، فرجال المال يقولون:[ شكوانا من بعض الطامعين الذين يثيرون خواطرهم( أي خواطر العمال)علينا ويحرضون طبقتهم على طبقتنا].ويطالبون الحكومة بإبعاد هؤلاء المحرضين ليستتب السلام.
أما أهل العلم فيهاجمون أهل الدين قائلين:
[تراهم يكثرون التزلف للأغنياء، وأرباب الأموال ويجارونهم.. ويلهون الشعب بالتدجيل عليه ليشغلوه بالأوهام والأحلام عن مصالحه الحقيقية].
أما شكوى رجال الدين فهي من:[أولئك الجاحدين الكفرة الذين يبثون روح ضلالهم وكفرهم في النفوس].
ولعل البرنامج العلمي العمالي الاشتراكي هو الذي يتردد في كتاب فرح أنطون الصغير هذا بوفرة، وهو ينقل أوضاع العمال الفرنسيين المحسوبة بالفرنك، أكثر من تصويره لأوضاع العمال المصريين أو العرب، وهو يبدأ ببرنامج اشتراكي فيقول زعيم العمال:
[فعلى الأمة إذاً أن تتولى إدارتها بنفسها وتوزع أرباحها بين أبنائها، أي أن الحكومة تجعل من نفسها التاجر الكبير الوحيد الذي تنحصر في يده المتاجر والمصانع والمزارع وتستخدم أفراد الأمة وتعطيهم أجرتهم..]، ص45.أما دعوة رجال المال فهي على النقيض ترك السوق الحرة تعمل بقوانينها.
ويقف رجال العلم والدين على طرفي نقيض، فرجال العلم مع العمال، ورجال الدين مع أرباب الأعمال، وهكذا ينقل فرح أنطون الصراع الاجتماعي الفرنسي بحذافيره إلى أجواء مصرية لم يحدث فيها مثل هذا الاستقطاب.
ولكنه هو يؤيد خطاً وسطاً معتدلاً ويتمثل ذلك في آراء شيخ العلم، وهو صورة لرجل الدين الشرقي وقد لبس مسوح الاشتراكيين، وهو يحاول أن يوفق بين الدين والعلم، وبين الرأسمالية والاشتراكية، ليس من خلال برنامج اجتماعي واقتصادي مرحلي معقول، بل أيضاً من خلال عبارات إنشائية أيديولوجية ليس فيها تشخيص دقيق للدين وللعلم.
لكن هذه الوسطية لا تنجح في تهدئة رؤساء العمال الغاضبين، ولا توجد في مدن فرح أنطون أي داع للاضطرابات، لكن هؤلاء الرؤساء يفجرون الأوضاع ويرد عليهم الآخرون والجيش فتحترق المد الثلاث!
وهذه أيضاً من الأجواء الأوربية والفرنسية تحديداً، ومناخ كومونة باريس يظلل المشهد الناري قبل الأخير.ومن المدهش إن نصيحة فرح أنطون للاعتدال سبقت محاولة العمال المصريين التي استولوا فيها على بعض المصانع في حركة اشتراكية متسرعة وأثناء الحكم الوطني الأول لسعد زغلول الذي قمع الانتفاضة العمالية بقسوة.ويبدو إن هؤلاء العمال والاشتراكيين المصريين لم يقرأوا تحذير فرح أنطون في كتابه الذي صدر قبل عشرين عاماً من عملهم.
ـــــــــــــــــ
انظر عبــدالله خلـــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الرابع ، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015 .
https://isaalbuflasablog.wordpress.co...
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية+الجزء الرابع
Published on October 30, 2019 11:28
October 25, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : صراع الطوائف والطبقات في لبنان
فصل من كتاب صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران
أقيم البناءُ السياسيُّ اللبناني الحديث على طوابقٍ قديمة من الطوائفِ الكثيرة ذات الارتباطات المختلفة، فهناك أكثر من عشرين طائفة، فهو مجتمعٌ من فسيفساءٍ سكانية لم يَعرفْ الدولة المركزية، ولعبت فيه بعضُ الطوائف دوراً مركزياً في فترات معينة دون أن تستطيع إقامة دولة محورية وطنية، حين قامت هذه الطوائفُ بدورٍ مركزي في الحياة السياسية المناطقية، أو حين هيأتها ظروفٌ عالمية مستجدة للتحرك بما يغاير من الخريطة السائدة حولها، وتلعبُ هنا الكثافة السكانية دوراً مهماً، فبدونها يستحيلُ تشكيلَ قوى عسكرية – سياسية في هذه الفسيفساء السكانية.
فجرجرتْ الطوائفُ الممزقة المتصارعة ذاتَها إلى العصر الحديث بدون تغيير جوهري في بناها المختلفة.
كان للطوائف جذور قديمة، ولكن تاريخها الحديث وتوظيفها في عصر تنامي الرأسمالية الغربية بدأ مع تضعضع الأمبراطورية العثمانية، وبين سنتي 1840 – 1860 نشأت الثورة الفلاحية ضد الإقطاع، ثورة طانيوس شاهين، وتم توظيف التحركات الشعبية لهندسة نظام الطوائف وتفجير الصراع الطائفي بينها، فجرى العملُ لصنع منطقتين سياسيتين، الأولى يسيطرُ عليها الدروز، والثانية يسيطرُ عليها المسيحيون.
ومن أواخر القرن التاسع عشر حتى الثلث الأول من القرن العشرين تشكل نظامُ المتصرفية، الذي نصَّ على قيامِ كلِ دولةٍ أوربية بحماية جماعتها الطائفية، (فرعت) فرنسا الطائفة المارونية، وانجلترا الدروز، وروسيا الأرذوكس ورعت المسلمين سنة وشيعة الدولة العلية أو العليلة الدولة العثمانية.
مع الاستعمار الفرنسي نشأ لبنانُ الكبير، الذي بدأ ينسلخُ عن سوريا الطبيعية والسياسية، وقد ثبت الفرنسيون نظامَ الطوائف وكرسوه، وصنعوا رئيساً للجمهورية من المسيحيين.
وقد قامت القوى الوطنية اللبنانية في صراعها ضد الاستعمار على أزواجية فكرية تتضمن وحدة سياسية تقوم على التقاسم الطائفي، فتمَّ توزيعُ المناصب بعد الاستقلال، بعد سنة 1943، على أساسين ديني ومذهبي، لكن بأن يكون ذلك مؤقتاً، وليس دائماً، وأن يتشكلَّ لبنانُ الوطني، لكن فكرة رياض الصلح هذه تم دفنها مع تنامي حضور الطوائف. وقد نصت المادة 95 من الدستور على أن الطائفية مؤقتة.
وكان هناك صراعٌ كبيرٌ منذ بداية تشكل لبنان بين ولائين، ولاءٌ لفرنسا أساسه الموارنة، وولاءٌ لسوريا أساسه المسلمون، وبين هذا وذاك، تشكل حلٌ وسط هو لبنان الراهن المتذبذب بين سوريا – البعث، وبين الغرب – فرنسا والليبرالية.
أقر اتفاقُ الطائفِ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في المجلس النيابي والحكومة، وبين موظفي الفئة الأولى، رغم أن اتفاق الطائف طرحَ انتخابَ النواب دون قيد طائفي مع استحداث مجلس شيوح للطوائف، فكرس اتفاقُ الطائفِ التقاسمَ الطائفيَّ بدلاً من إلغائه.
(من مواد الحزب الشيوعي اللبناني، دائرة التثقيف، تاريخ الطائفية في لبنان).
ويُقدر عدد المسلمين ككل في لبنان بــ(59،7%) من أجمالي عدد السكان، والسنة تقدر نسبتهم ب(27%) من السكان، في حين تقدر نسبة الشيعة بــ(41%)، والدروز(7%)، أما الطوائف المسيحية فتشكلُ ما نسبته (39%)، أكبرها طائفة الموارنة (16%) من السكان، وتعبر الأثرى في المجتمع اللبناني، وهناك طوائف مسيحية أخرى أصغر حجماً، كالكاثوليك اليونانيين، والرومانيين(1%) والأرثوذكس (5%) واليعاقبة والنسطوريين.
من أهم أحزاب المسيحيين حزب (الكتائب) الذي تأسس سنة 1936 بقيادة بيير الجميل، تأثراً في زيارة له لأسبانيا بكتائب فرانكو الدكتاتور الأسباني.
شكل حزبا الكتائب والحزب الشيوعي اللبناني أساس الوطنية اللبنانية النهضوية، من موقفين متضادين شكلاً متوحدين في الجوهر.
فكانت الدكتاتورية الهتلرية أوالستالينية أساس وعيهما، وهو ما ينطبقُ على أحزاب وقوى يمينية ويسارية عديدة في الوطن العربي، ولكن للبنان ظروفه الخاصة، فهو أكثر حيوية وحرية، وهو أسرع توجهاً للمغامرة وأخطارها كذلك، مرة لأنه لا يمتلك دولة استبدادية مركزية، ومرة لأن إحدى الطوائف تحول نفسها إلى ذلك.
كانت (الكتائبُ) بتوجهها إلى نماذج الفاشية تريد حلاً سريعاً لمسائل التشتت الوطني، وقفزاً على جذور التخلف والإقطاع، وباستخدام العنف الشعبي الموظف لقوى اليمين، وكان العدد السكاني يسمح لها بالقيام بهذه المغامرة، وعبر تعضيد فرنسا، التي ما لبثت هي نفسها أن واجهت كارثة الهتلرية.
إن العصبوية السكانية اتاحت للكتائب ذلك؛ فثمة تكتل ماروني، وتراث من التمردات المسلحة، وغياب التراكم الديمقراطي الثقافي العميق.
وحتى بعد هزيمة الفاشية في الحرب العالمية الثانية لم تتحول (الكتائب) إلى تنظيم ديمقراطي، وهذا بسبب جديد كذلك وهو نشؤ المعارضة القومية المتشددة، ونمو الحزب الشيوعي الذي أوغل في دكتاتورية مختلفة، يسارية هذه المرة.
وتقوم عملياتُ التحول السياسي هنا على استيراد فكري مقولب من مخازن الدكتاتوريات العالمية، الصاعدة بقوة، والمؤثرة على الكيانات السياسية الطفولية الناشئة وقتذاك.
إن طرح خطابين دكتاتوريين حادين متنافسين، ومن طبقتين متضادتين لكنهما تمثلان قطبي الحداثة، هو بسبب عملية الاستيراد الفوقية تلك، ولعدم النشؤ الطبيعي للطبقتين الحداثيتين المتصارعتين؛ البرجوازية والعمال، فيغدو خطاباهما السياسيان خطابي مراهقة.
كانت المطابقة مع فرنسا هو هدف المسيحية السياسية ولكن هذه المطابقة مبنية على الديانة، وعلى إرث ثقافي في اللغة والآداب، أما في استيعاب الحداثة الفرنسية وتطوراتها فلم يتشكل ذلك، خاصة في بُنى الأحزاب، فظهرت الكتائبُ ومتوالداتها السياسية كجماعاتٍ أبوية أشبه بالمافيا، نظراً لأن البناء الاقتصادي لم يقم على انتشار المصانع كما في فرنسا، فغدت البنية الفرنسية اللبنانية محض استيراد شكلاني.
كما أن القوى العاملة اللبنانية من جهة أخرى، هي عمال زراعيون وحرفيون وعمال مصانع صغيرة ووزارات، ذوو علاقات قوية بالوسط التقليدي وبالأمية.
وبهذا كانت الشعارات السياسية المستوردة وفرض القوالب تنمو أكثر من عمليات التحليل والتأصل العلمي الوطني، وتقود إلى مواجهة محورية كما حدث في العراق بين البعث والشيوعي، في مسلسل متشابه لتصادم قوى الحداثة بدلاً من صراعها الطبقي وتعاونها الوطني، مع اختلافات التجربة وتراكمها في كل من البلدين.
يصور مندوبُ الحزبِ الشيوعي اللبناني تاريخَ الصراع الاجتماعي بصورةٍ مختزلةٍ في ندوةِ توحيد اليسار اللبناني السيد أيمن ضاهر، فيقول؛ (ساهم الاحتلالُ الفرنسي باختلال بنية المجتمع اللبناني وهو الذي ساهم بتكوين البرجوازية المارونية، حيث تكدست الأموال في هذه الطائفة دون سواها مما ساهم في تشويه الصراع، مروراً بالحرب اللبنانية التي بدأت بصراع طبقي ما لبث أن تحول إلى صراع طائفي، وصولاً إلى وقتنا الحالي، حيث تقوم القيادات السياسية بتشويه الصراع وأخذ شكله الطبقي بهدف تحويله إلى صراع طائفي من خلال التهويل بقدوم حرب طائفية جديدة)،(المؤتمر المذكور وقد عُقد في 19 يونيو 2007).
تعطينا هذه الفقرة اختزالاً زائفاً أيديولوجياً لتاريخ الصراع الاجتماعي في لبنان، حيث يجري تصوير طائفة واحدة هي الطائفة المسيحية بأنها هي الطائفة الغنية الوحيدة، وأنها شكل البرجوازية، وهو تصورٌ عامٌ مجرد يلغي التاريخَ الاجتماعي الملموس ويدخل تصوراته السياسية المسبقة في أحشاء السرد التاريخي.
وإذا كانت الطوائفُ الدينية والمذهبية الإسلامية قد تكونتْ في بعض مناطق سوريا وجبل لبنان كتكويناتٍ مقموعةٍ هاربة أو محتمية بالتضاريس من عسفِ الدول التي سُميت إسلامية، وهي دولُ طوائفٍ يهيمنُ عليها الإقطاع، فإن التكوينات الحديثة لها تراوحت بين البقاء في النظام التقليدي والنزوح نحو الحداثة، والتجارة، والغرب.
وقد لعبت الطائفةُ المارونية دور القيادة لعملية التحديث هذه، وخاصة الفئات الوسطى منها، وفي ظل التبعية لفرنسا، وقد ساعدها في ذلك بدايةً أفولُ دور الدولة العثمانية التقليدية الشائخة، وصعودُ العلاقات التجارية والفكرية الحديثة التي روج لها الغرب، لتفكيك الدولة العثمانية وإيجاد وكلاء تجاريين وثقافيين له.
ومن هنا وجدنا إن بدايةَ النهضةِ العربية تتشكلُ في سوريا ولبنان عبر هذه الفئات، ومعروف جيداً دور بعض العائلات المثقفة في تأسيس مختلف صنوف الأدب والفن العربيين الحديثين، ثم بعد قامت بنقل ثمار هذه الثروة المعرفية لمصر، نظراً لاستمرار القمع في الشام، وبدء الانفتاح المصري القيادي لعملية تغيير المنطقة.
ولكن ظهور الفئات الوسطى لم يقتصر على الطائفة المارونية بل سارعت طوائف أخرى لاحتضان بذور هذه الحداثة، كالطائفة الدرزية والسنية والشيعية، وافرزتْ قوىً برجوازية لم تخرج من كيانات الطوائف، ويمكن اعتبار الحركة الوطنية اللبنانية هي نتاجُ التفاعل بين هذه القوى الوسطى – التقليدية، وقضايا لبنان المحورية.
إنها برجوازياتٌ طالعةٌ من كياناتٍ مذهبية محافظة، وتحملُ دمغات نشأتِها في إبقائها على تكويناتها السياسية الطائفية، مثلما هي تقومُ على ملكية الأرض الزراعية والحرف والتجارة والمعامل الصغيرة.
وتتشكلُ تناقضاتٌ حادةٌ في هذا التكوين اللبناني، فكلُ طائفةٍ تغدو دولةً، وكلُ دولةٍ تحتاجُ إلى جهازٍ سياسي مسيطر بشكل أبدي، ولا يظهر التغيير من تراكم العناصر التجارية والديمقراطية داخل كيان الطائفة، بل من خلال انشقاقها، عبر ظهور دولة طائفية مختلفة أو مضادة، يؤسسها زعيمٌ تحديثي – تقليدي آخر.
إن التطورات تجري في لبنان بشكلٍ تفتتي وانقسامي، مما يضعفُ ويخربُ هذه التطورات ويعيدُها لسابق عهدها.
إن الفئات الوسطى الصغيرة الذابلة في كل طائفة لا تقيمُ تحالفاً، بسبب أنها لا تصل في عملها السياسي إلى سمات الحداثة وهي العلمانية والوطنية والديمقراطية، مثلما أنها تعجزُ على الانتقال إلى الصناعة الكبيرة وانتشار العمل بالأجرة وحرية النساء الواسعة.
وإذا كانت تستطيع بشطارتها أن تقفز على بعض الحواجز الاقتصادية، وتتفن في طرق التجارة، وتهاجر إلى اقصى بلدان الأرض، لكنها لا تستطيع أن تقفز حدود الطوائف القريبة.
وإذا كانت بعض الدول العربية تجاوزت هذه الفسيفساء الطائفية نظراً لوجود دولة مركزية موحدة، أتاحت تشكل سوق وطنية واحدة، إلا أنها تظل طائفيةً لغياب نفس السمات السابقة الذكر، وهي لحظةٌ تاريخيةٌ تعبرُ عن عجز قوى إنتاج الصناعة الصغيرة أو الاستخراجية والتحويلية في عموم البلدان العربية عن نقل البلدان إلى بنى جديدة.
لكن في لبنان تتضاعفُ الخسائرُ المفردةُ المحسوبة في كل دولة عربية، ففي لبنان عدةُ دولٍ مضمرةٍ فيه، يقومُ شيوخُها وإقطاعيوها وبشواتها، كلٌ في مركزه الصغير بتمثيل دور صاحب العظمة والفخامة.
والزعيمُ من جهةٍ يحافظُ على ألقاب الباشا الموروثة طائفياً، وهي ألقابٌ تتحولُ مع تبدل دور الطائفة وتحالفاتها، الوطنية والمناطقية والعالمية، كما لا ينسى دورَ التاجر البارع في التقاط أي ثمرة مالية تتيحها التجارةُ والسياسة والدين.
ولكن ليس دائماً تؤدي الشطارة إلى أرباح، فكثيراً ما كانت التحالفات مدمرة وضارة، فتحالفات الباشوات اللبنانيين تـُؤسَّسُ سياسياً وليس على التراكم العقلاني العلماني الوطني، يقومُ بها الباشواتُ في حكمِهم المطلق على الملأ، فيختار الساسةُ الموارنة التحالفَ مع الغرب الاستعماري ضد تيار القومية العربية الكاسح حينئذٍ، وإذا كان ذلك فيه شطارة التاجر اللبناني المرهف الحس للرأسمالية الغربية ودورها التاريخي وأرباحها الجزيلة، إلا أنه وقوف ضد سوقه القومية وما يُنتظر لهذه السوق من تطورات عظيمة.
وإذا كان ذلك قد حدث حين أثبتت الصحراءُ العربية النفطية كرمَها الباذخ، وأخذ بعضُ هؤلاء الساسة يتنسمون نسائم نجد العليلة، فيغيرون من ولاءاتهم بلمح البصر، إلا أن ذلك يظل في عقل الباشا، وليس في عقل البرجوازي الحديث.
وعلى عكس ما يقوله مندوبُ الحزب الشيوعي اللنباني في الندوة السالفة الذكر بكون الطائفة المارونية هي حجرُ العثرة في تطور لبنان لأنها حازت على كل الثروة، فقد كانت هي بعضُ الانقاذ المأمول، لو أن أمثاله وتياره واليسار اللبناني عامة أمتلكَ شيئاً من بُعد النظر. فتيار تصعيد العداء لم يؤد إلا إلى إنهيار بذور الحداثة.
تمظهر العداءُ الطبقي (الشيوعي)، (البروليتاري) للبرجوازية كما يتمظهر ذلك في جملة أيمن ضاهر بالعداء للموارنة، وهو أمرٌ كان يخفي عداوة الفقراء المحدودة للأغنياء، كما يتماشى ذلك مع توجيهات الحركة الشيوعية وقتذاك بتصفية البرجوازية وإقامة النظام الاشتراكي.
لقد تملكت الحزبَ الشيوعي واليسارَ رغبةٌ تسريعيةٌ وهدفٌ مباشر هو القضاء على البرجوازية، فالبرجوازيات لا تستطيعُ أن تقيمَ دولةً ديمقراطية، كما أنها عميلةٌ خائنة، ومظاهرُ ذلك لدي هذا الوعي كثيرة، فهي تعادي المعسكرَ الاشتراكي وهي تقيمُ علاقات مع الغرب، وهي تشغلُ العمال بأجور متدنية، وهي ترفض التصنيع الواسع، وهي أساس النظام الطائفي، ثم هي تعادي الوجود الفلسطيني المسلح ذروة حركة التحرر العربية الخ..
إن الدخولَ في هذا السياق السياسي علامةٌ واضحة على المراهقة، لكن تنفيذه على صعيد الحياة كان انتحاراً. وإذا كان ذلك لا يستندُ لفهمٍ حقيقيٍّ عن الاشتراكية ومدى وجودها في المعسكر (الاشتراكي)، لكن هذا يشيرُ كذلك إلى وجود دكتاتورية قوية في اليسار اللبناني، وإلى اعتمادهِ على نقل النسخ المستوردة من الشرق، ولهذا كانت الأدبيات السياسية وقتذاك تصدح بمنجزات الشقيق الأكبر وعظمة البلدان الاشتراكية وتندفع الوفود السياسية والشبابية للاندماج بهذه التجربة العالمية ويجري تحضير القوى السياسية لهذه المعركة الفاصلة مع البرجوازية المارونية.
وكان ذلك مفيداً ومهماً في العديد من الجوانب وبنشر ثقافة جديدة في المنطقة لعب فيها لبنان الجديد هذا دوراً كبيراً، لكن صيغة تلك الإيديولوجية لم تخضع لتحليل عميق وأدت إلى مشكلات كبيرة للحركة السياسية العربية التقدمية، وكان دورها في لبنان أخطر وأفدح.
لكن ذلك لا يعني أيضاً عدم رعونة حزب الكتائب والتيارات اليمينية المتطرفة الأخرى، فكان العداء للمسلمين وارداً على جدول الأعمال منذ نضال الاستقلال، وظهور التيارين الأساسيين تيار الوحدة مع سوريا وتيار الوحدة مع فرنسا.
وبطبيعة الحال كان هذا ميراثاً لقمع المسيحيين في الأمبراطوريات المذهبية السابقة، ولكن عوضاً عن إنتاج فكر وطني علماني تكرست التيارات المسيحية في الهياكل الطائفية، والأخطر ذهابها للفاشية، مما كان يقود إلى تطاحن هائل.
ولم يكن لعداء التيارات (الإسلامية) ضد المسيحيين جذور طبقية في فقراء غير مثقفين وفي مثقفين فقراء في الفكر فحسب، بل تربضُ تحته العداءاتُ الدينية بين المذاهب الإسلامية والمذاهب المسيحية. ويجري تصويره كصراعٍ طبقي بين البروليتاريا الثورية والبرجوازية الطائفية المتعفنة!
كانت عمليةُ إنتاجِ فكرٍ ديمقراطي وطني علماني متعثرة في تاريخ لبنان كما في الدول العربية. كان الحزبُ الشيوعي اللبناني قد تأسسَّ بفاعليةِ بعض المثقفين المسيحيين! ثم قام يسرعُ دورَهُ في مجتمع اكثر إنفتاحاً من بقية الدول المجاورة، فتراجعت القياداتُ (المسيحية) داخل الحزب، وأخذت القياداتُ(الإسلامية) في الصعود وخاصة القيادات الشيعية، وبهذا توجه الحزب أكثر فأكثر نحو قوى الشرق التقليدية، فأخذ طابعهُ الدينيُّ الشرقيُّ المتماثل مع ديانات الشرق المحافظة عموماً في البروز. فقد كانت تجاربُ الأحزاب الشيوعية العربية واعدةً في توجهاتها الوطنية الديمقراطية حتى إذا تجاوزت هذا الدور أخفقت، لأنها تكون حينئذٍ ناسخة لدور عالمي لا يجد إمكانية حقيقية في واقعها وفي أعضائها.
وكان الانتحار هو في الدخول إلى سياق الحرب الأهلية، الذي ترتب على تشكيل مواجهة داخلية يسارية – يمينية، رفدها الحضور المسلح الفلسطيني والتآمر الإسرائيلي الغربي.
لقد لعبت تلك الجذور الفكرية السياسية دورها في دفع اليسار اللبناني للمواجهة، ولم يشتغل على المهمات الديمقراطية والتحديثية بشكل استراتيجي مطول، فأدى هذا إلى نضوب طاقاته حتى الجسدية منها، وتراجعه عن بؤرة الحياة السياسية، وصارت أجنحةً منه تعود للوراء، إلى المعسكرات المذهبية السياسية، بشكل اصطفافات بدلاً من نقد ذلك الماضي وتجاوزه.
ويمكن أن نرى في اصطفاف الحزب الشيوعي اللبناني مع المحور السوري _ الإيراني تتويجاً لهذا المسار المتعثر، فتظهر جملٌ مماثلة للزمن القديم تحت مضمون مغاير، فهذه الجمل تؤكد على أهمية التصدي للأمبريالية ولدعم القوى التي تواجهها في المنطقة، لكنها لا تنتقد غياب الديمقراطية في هذه الدول، وهو الغياب الذي أدى إلى الانهيار في مواجهة الاستعمار.
بل أن هذا الغياب شديد الخطورة على دول المنطقة، وفي تصعيد التسلح والحروب، وهي الأمور التي تقود إلى أوضاع مضادة لتلك النوايا.
وكما رأينا في تراجع الحزب الشيوعي العراقي نحو مواقع مذهبية معينة يحدث هذا أيضاً في الحزب اللبناني، فقد صارت القوى المذهبية ذات طابع مؤثر بدلاً من أن يقود التقدميون هذه القوى إلى آفاق النضال الحقيقية..
إن غياب النضال الوطني العلماني قاد هذه الأحزاب تدريجياً إلى التماهي مع المحور الإيراني – السوري، يقول بيان من الحزب الشيوعي اللنباني:
(إننا نستطيع أن نؤكد إن نضالنا وتضحياتنا وفق النهج الذي سرنا عليه بتوجيهات مؤتمري الحزب الثاني والثالث قد أعطت حزبنا رصيداً نضالياً، استمر خلال السنوات اللاحقة للحرب الأهلية، ومن شأنه أن يزيد من دورنا اللاحق في معركة البديل الجذري لنهج التراجع والاستسلام في قيادة حركة التحرر الوطني لشعبنا ليس فقط في لبنان بل في العالم العربي عامة. إننا نؤكد من رحم هذا الوعي الثوري، بأن الشيوعيين ربطوا مصيرهم بمصير حركة التاريخ، بمصير انتصار إرادة الشعوب العربية، وربطنا مصير القوى المنحرفة قومياً مصيرها بمصير المد الأمبريالي في منطقتنا الذي هو اليوم في أوجه. بمصير الصهيونية والرجعية العربية).
هل تصنع العبارات الحماسية شيئاً إيجابياً؟ لقد تدهور اليسار بعمليات المغامرة، ودون أن يعني ذلك عدم تجميع القوى الممكنة والعمل على حشد كافة الفرقاء لتغيير ديمقراطي علماني ووطني.
ليست المصالحات اللبنانية تقوم على أرض صلبة، بل هي مصالحات تكتيكية، نتيجة لتغير ظروف خارجية، خاصة لتوجه سوريا للمفاوضات مع إسرائيل بشكل سري، مما جعل القوى المتصلبة تدرك بأن لا شيء ثابت وقوي في الدول العربية الشمولية.
تغدو المصالحات توافقات تكتيكية ولا تدخل إلى عظم الهيكل النخر للنظام الطائفي، فلم تصل حتى وثيقة الطائف إلا إلى محاصصات طائفية، وواصلت القوى السياسية العيش والعمل في نظام القرن التاسع عشر دون تغيير جوهري.
فالقوى التقليدية تظل هي السقف المسيطر ولا أحد قادر على تشكيل ثوابت الحداثة في النظام، لتستمر صراعات القوى المذهبية التقليدية، بشكل ثم تتصارع بشكل آخر، دون إحداث تراكم ديمقراطي وطني.
بعض قوى اليسار اتخذت مطالب العمال والكادحين لتأييد جهة طائفية ضد أخرى، وليس لتغيير حياة هؤلاء باتجاه وطني شامل.
إن المحاصصة الطائفية وتوزيع الكراسي والوزارات ثم توزيعها بشكل آخر ثم إجراء مواجهات دامية وغير هذا من ألعاب السياسة، تجعل فريقي السلطة والمعارضة، أو فريقي السلطة الآن، يواصلان تمزيق لبنان، وإعداده لمذبحة أخرى.
هل يمكن لبعض الفرقاء اللبنانيين كتحالف تيارات المستقبل والكتائب واليسار الديمقراطي والحزب الاشتراكي التقدمي أن يؤسسوا تياراً ديمقراطياً لبنانياً توحيدياً؟
ليس ذلك ممكناً وهم قد اعتمدوا على نفس الأسس الطائفية في بناء تنظيماتهم السياسية، باستثناء اليسار الديمقراطي، ولم يفصلوا بين السياسة والدين، ولم يشكلوا فريقاً فكرياً واحداً يعتمد عناصر الوطنية والعلمانية والخطوات الوطنية المتفق عليها لتغيير حياة أغلبية الشعب، فذلك لوحدث يتطلب إعادة قراءة تاريخ لبنان، وطرح فهم مغاير للأديان عن الرؤية التقليدية الإقطاعية السائدة، وتشكيل علاقة تعاون معينة واستراتيجية بين الفئات المتوسطة والعمال.
وليس ذلك بسبب إن إيران دولة دينية شمولية تريد فرض نموذج الدولة الدينية هذه فقط، بل لأن كل دول المنطقة غير قادرة على تصعيد مثل هذه الدولة الوطنية العلمانية، فتغدو الصراعات ثم الحروب هي المعجلة لمثل هذا الحل، وهي كوارث بامتياز.
وتغدو هذه أشد وأقسى في لبنان بسبب التاريخ والتكوينات الطائفية الكثيرة التي تم استعراضها سابقاً، وبسبب كون الفلاحين والعمال لا يحصلون على حياة تليق بهم.
وإذا رأينا الكتل السكانية المذهبية فسنجد إن كتل الفقراء الواسعة الكثيفة هي التي تدعم السياسات المذهبية المعارضة، وسنجد إن الطوائف التي تحوزُ على نسبة كبيرة من الثروة الوطنية هي التي تدعم الطائفية المحافظة، والتبعية.
ولكن مختلف الطبقات والقوى السياسية لا تعترف بأن الصراع على الثروة والحكم هو سبب المشكلات لا الأديان والمذاهب.
وبسبب هذا الصراع على الثروة المتشابك مع الحكم تـُقام علاقات غير وطنية وتحالفات فوق رؤوس المواطنين وتعدهم لمشروعات رهيبة. ويخف الصراع ويشتد بسبب هذا التداخل، وفي بلد بمثل هذه الفسيفساء يغدو عسكرياً عنيفاً في قممه الحمقاء.
أخذت قوى عديدة تريد فض الاشتباك بين المذاهب والسلطة، بين الثروة والحكم.
يقول أحد الكتاب (ثمة خياران: إما أن تغرق المنطقة في سلسلة حروب طائفية تفضي في النهاية لاستهلاك طاقة الطائفة ذاتها، وهذا ما تفعله الصراعات العنيفة دائماً أقصد استهلاك الطاقة الكامنة في عواملها، أو ينتصر الوعيُّ والعقلانية، وتنتفض شعوب المنطقة لتمسك يدها بمصيرها، وتختصر مساراً طويلاً من الألم والدم والخراب)، (معقل زهور عدي، الصراع الاجتماعي والانقسام الطائفي).
نرجو أن لا تنتفض الشعوب بل أن تراكم الثقافة الديمقراطية الحديثة وتتشبع بها أحزابها المناضلة، وتغير من القوانين العتيقة والتشكيلات السياسية المذهبية واحتكار السلطة والثروة، لأن الانتفاضات عادة دامية حادة، ولا تتصف بعقلانية سياسية ولكنها غير مستبعدة.
وقد توصل أغلبية المجتمعين في ندوة توحيد اليسار اللبناني إلى أفكار مهمة مثل هذه:
(وجدوا أن اليسار يفتقد إلى تنظيم قادر على بلورة شكل الصراع، من خلال تكوين الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة، وأن جزءً من اليسار اتخذ قراره بدعم دولة المؤسسات بحجة أن النظام اللبناني ليس رأسمالياً، وأن اليسار لم يعرف كيفية التعاطي مع تشوه الصراع وإصلاح هذا التشوه، ورأوا أن دور اليسار يكمن في تسليط الضوء على الصراع الطبقي بمواجهة الأقطاب التي تعطي هذا الصراع طابعاً طائفياً، وفي رفض الصراعات الفئوية والطائفية، بالإضافة إلى إعادة صياغة شكل الوعي والعمل على تحقيق مكاسب أكبر للطبقة العاملة)، (ملتقى اليسار اللبناني، 2007).
إن تكوين مصالح وثقافة لليسار الموحد لا تنفصل كذلك عن توسيع بذور العناصر الديمقراطية والعلمانية والوطنية في كل الاتجاهات الأخرى، ففي النهاية سوف تظل القوى الوسطى هي المسيطرة على السلطة، لكن باتجاه تلك الثوابت التحديثية.
والنظام اللبناني ليس رأسمالياً حديثاً على المقاس الغربي، ككل الأنظمة العربية، فهو نظامٌ انتقاليٌّ بين الإقطاع والرأسمالية، ودرجات الانتقال تحددها تطوراتُ القوى المنتجة والوعي والتشكيلات السياسية، ونمو السياسة التحديثية يتشكل باستبصار هذه العوامل الموضوعية والذاتية المتداخلة وتوظيفها لمصلحة الأغلبية من السكان بغض النظر عن مذاهبهم وأديانهم.
أقيم البناءُ السياسيُّ اللبناني الحديث على طوابقٍ قديمة من الطوائفِ الكثيرة ذات الارتباطات المختلفة، فهناك أكثر من عشرين طائفة، فهو مجتمعٌ من فسيفساءٍ سكانية لم يَعرفْ الدولة المركزية، ولعبت فيه بعضُ الطوائف دوراً مركزياً في فترات معينة دون أن تستطيع إقامة دولة محورية وطنية، حين قامت هذه الطوائفُ بدورٍ مركزي في الحياة السياسية المناطقية، أو حين هيأتها ظروفٌ عالمية مستجدة للتحرك بما يغاير من الخريطة السائدة حولها، وتلعبُ هنا الكثافة السكانية دوراً مهماً، فبدونها يستحيلُ تشكيلَ قوى عسكرية – سياسية في هذه الفسيفساء السكانية.
فجرجرتْ الطوائفُ الممزقة المتصارعة ذاتَها إلى العصر الحديث بدون تغيير جوهري في بناها المختلفة.
كان للطوائف جذور قديمة، ولكن تاريخها الحديث وتوظيفها في عصر تنامي الرأسمالية الغربية بدأ مع تضعضع الأمبراطورية العثمانية، وبين سنتي 1840 – 1860 نشأت الثورة الفلاحية ضد الإقطاع، ثورة طانيوس شاهين، وتم توظيف التحركات الشعبية لهندسة نظام الطوائف وتفجير الصراع الطائفي بينها، فجرى العملُ لصنع منطقتين سياسيتين، الأولى يسيطرُ عليها الدروز، والثانية يسيطرُ عليها المسيحيون.
ومن أواخر القرن التاسع عشر حتى الثلث الأول من القرن العشرين تشكل نظامُ المتصرفية، الذي نصَّ على قيامِ كلِ دولةٍ أوربية بحماية جماعتها الطائفية، (فرعت) فرنسا الطائفة المارونية، وانجلترا الدروز، وروسيا الأرذوكس ورعت المسلمين سنة وشيعة الدولة العلية أو العليلة الدولة العثمانية.
مع الاستعمار الفرنسي نشأ لبنانُ الكبير، الذي بدأ ينسلخُ عن سوريا الطبيعية والسياسية، وقد ثبت الفرنسيون نظامَ الطوائف وكرسوه، وصنعوا رئيساً للجمهورية من المسيحيين.
وقد قامت القوى الوطنية اللبنانية في صراعها ضد الاستعمار على أزواجية فكرية تتضمن وحدة سياسية تقوم على التقاسم الطائفي، فتمَّ توزيعُ المناصب بعد الاستقلال، بعد سنة 1943، على أساسين ديني ومذهبي، لكن بأن يكون ذلك مؤقتاً، وليس دائماً، وأن يتشكلَّ لبنانُ الوطني، لكن فكرة رياض الصلح هذه تم دفنها مع تنامي حضور الطوائف. وقد نصت المادة 95 من الدستور على أن الطائفية مؤقتة.
وكان هناك صراعٌ كبيرٌ منذ بداية تشكل لبنان بين ولائين، ولاءٌ لفرنسا أساسه الموارنة، وولاءٌ لسوريا أساسه المسلمون، وبين هذا وذاك، تشكل حلٌ وسط هو لبنان الراهن المتذبذب بين سوريا – البعث، وبين الغرب – فرنسا والليبرالية.
أقر اتفاقُ الطائفِ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في المجلس النيابي والحكومة، وبين موظفي الفئة الأولى، رغم أن اتفاق الطائف طرحَ انتخابَ النواب دون قيد طائفي مع استحداث مجلس شيوح للطوائف، فكرس اتفاقُ الطائفِ التقاسمَ الطائفيَّ بدلاً من إلغائه.
(من مواد الحزب الشيوعي اللبناني، دائرة التثقيف، تاريخ الطائفية في لبنان).
ويُقدر عدد المسلمين ككل في لبنان بــ(59،7%) من أجمالي عدد السكان، والسنة تقدر نسبتهم ب(27%) من السكان، في حين تقدر نسبة الشيعة بــ(41%)، والدروز(7%)، أما الطوائف المسيحية فتشكلُ ما نسبته (39%)، أكبرها طائفة الموارنة (16%) من السكان، وتعبر الأثرى في المجتمع اللبناني، وهناك طوائف مسيحية أخرى أصغر حجماً، كالكاثوليك اليونانيين، والرومانيين(1%) والأرثوذكس (5%) واليعاقبة والنسطوريين.
من أهم أحزاب المسيحيين حزب (الكتائب) الذي تأسس سنة 1936 بقيادة بيير الجميل، تأثراً في زيارة له لأسبانيا بكتائب فرانكو الدكتاتور الأسباني.
شكل حزبا الكتائب والحزب الشيوعي اللبناني أساس الوطنية اللبنانية النهضوية، من موقفين متضادين شكلاً متوحدين في الجوهر.
فكانت الدكتاتورية الهتلرية أوالستالينية أساس وعيهما، وهو ما ينطبقُ على أحزاب وقوى يمينية ويسارية عديدة في الوطن العربي، ولكن للبنان ظروفه الخاصة، فهو أكثر حيوية وحرية، وهو أسرع توجهاً للمغامرة وأخطارها كذلك، مرة لأنه لا يمتلك دولة استبدادية مركزية، ومرة لأن إحدى الطوائف تحول نفسها إلى ذلك.
كانت (الكتائبُ) بتوجهها إلى نماذج الفاشية تريد حلاً سريعاً لمسائل التشتت الوطني، وقفزاً على جذور التخلف والإقطاع، وباستخدام العنف الشعبي الموظف لقوى اليمين، وكان العدد السكاني يسمح لها بالقيام بهذه المغامرة، وعبر تعضيد فرنسا، التي ما لبثت هي نفسها أن واجهت كارثة الهتلرية.
إن العصبوية السكانية اتاحت للكتائب ذلك؛ فثمة تكتل ماروني، وتراث من التمردات المسلحة، وغياب التراكم الديمقراطي الثقافي العميق.
وحتى بعد هزيمة الفاشية في الحرب العالمية الثانية لم تتحول (الكتائب) إلى تنظيم ديمقراطي، وهذا بسبب جديد كذلك وهو نشؤ المعارضة القومية المتشددة، ونمو الحزب الشيوعي الذي أوغل في دكتاتورية مختلفة، يسارية هذه المرة.
وتقوم عملياتُ التحول السياسي هنا على استيراد فكري مقولب من مخازن الدكتاتوريات العالمية، الصاعدة بقوة، والمؤثرة على الكيانات السياسية الطفولية الناشئة وقتذاك.
إن طرح خطابين دكتاتوريين حادين متنافسين، ومن طبقتين متضادتين لكنهما تمثلان قطبي الحداثة، هو بسبب عملية الاستيراد الفوقية تلك، ولعدم النشؤ الطبيعي للطبقتين الحداثيتين المتصارعتين؛ البرجوازية والعمال، فيغدو خطاباهما السياسيان خطابي مراهقة.
كانت المطابقة مع فرنسا هو هدف المسيحية السياسية ولكن هذه المطابقة مبنية على الديانة، وعلى إرث ثقافي في اللغة والآداب، أما في استيعاب الحداثة الفرنسية وتطوراتها فلم يتشكل ذلك، خاصة في بُنى الأحزاب، فظهرت الكتائبُ ومتوالداتها السياسية كجماعاتٍ أبوية أشبه بالمافيا، نظراً لأن البناء الاقتصادي لم يقم على انتشار المصانع كما في فرنسا، فغدت البنية الفرنسية اللبنانية محض استيراد شكلاني.
كما أن القوى العاملة اللبنانية من جهة أخرى، هي عمال زراعيون وحرفيون وعمال مصانع صغيرة ووزارات، ذوو علاقات قوية بالوسط التقليدي وبالأمية.
وبهذا كانت الشعارات السياسية المستوردة وفرض القوالب تنمو أكثر من عمليات التحليل والتأصل العلمي الوطني، وتقود إلى مواجهة محورية كما حدث في العراق بين البعث والشيوعي، في مسلسل متشابه لتصادم قوى الحداثة بدلاً من صراعها الطبقي وتعاونها الوطني، مع اختلافات التجربة وتراكمها في كل من البلدين.
يصور مندوبُ الحزبِ الشيوعي اللبناني تاريخَ الصراع الاجتماعي بصورةٍ مختزلةٍ في ندوةِ توحيد اليسار اللبناني السيد أيمن ضاهر، فيقول؛ (ساهم الاحتلالُ الفرنسي باختلال بنية المجتمع اللبناني وهو الذي ساهم بتكوين البرجوازية المارونية، حيث تكدست الأموال في هذه الطائفة دون سواها مما ساهم في تشويه الصراع، مروراً بالحرب اللبنانية التي بدأت بصراع طبقي ما لبث أن تحول إلى صراع طائفي، وصولاً إلى وقتنا الحالي، حيث تقوم القيادات السياسية بتشويه الصراع وأخذ شكله الطبقي بهدف تحويله إلى صراع طائفي من خلال التهويل بقدوم حرب طائفية جديدة)،(المؤتمر المذكور وقد عُقد في 19 يونيو 2007).
تعطينا هذه الفقرة اختزالاً زائفاً أيديولوجياً لتاريخ الصراع الاجتماعي في لبنان، حيث يجري تصوير طائفة واحدة هي الطائفة المسيحية بأنها هي الطائفة الغنية الوحيدة، وأنها شكل البرجوازية، وهو تصورٌ عامٌ مجرد يلغي التاريخَ الاجتماعي الملموس ويدخل تصوراته السياسية المسبقة في أحشاء السرد التاريخي.
وإذا كانت الطوائفُ الدينية والمذهبية الإسلامية قد تكونتْ في بعض مناطق سوريا وجبل لبنان كتكويناتٍ مقموعةٍ هاربة أو محتمية بالتضاريس من عسفِ الدول التي سُميت إسلامية، وهي دولُ طوائفٍ يهيمنُ عليها الإقطاع، فإن التكوينات الحديثة لها تراوحت بين البقاء في النظام التقليدي والنزوح نحو الحداثة، والتجارة، والغرب.
وقد لعبت الطائفةُ المارونية دور القيادة لعملية التحديث هذه، وخاصة الفئات الوسطى منها، وفي ظل التبعية لفرنسا، وقد ساعدها في ذلك بدايةً أفولُ دور الدولة العثمانية التقليدية الشائخة، وصعودُ العلاقات التجارية والفكرية الحديثة التي روج لها الغرب، لتفكيك الدولة العثمانية وإيجاد وكلاء تجاريين وثقافيين له.
ومن هنا وجدنا إن بدايةَ النهضةِ العربية تتشكلُ في سوريا ولبنان عبر هذه الفئات، ومعروف جيداً دور بعض العائلات المثقفة في تأسيس مختلف صنوف الأدب والفن العربيين الحديثين، ثم بعد قامت بنقل ثمار هذه الثروة المعرفية لمصر، نظراً لاستمرار القمع في الشام، وبدء الانفتاح المصري القيادي لعملية تغيير المنطقة.
ولكن ظهور الفئات الوسطى لم يقتصر على الطائفة المارونية بل سارعت طوائف أخرى لاحتضان بذور هذه الحداثة، كالطائفة الدرزية والسنية والشيعية، وافرزتْ قوىً برجوازية لم تخرج من كيانات الطوائف، ويمكن اعتبار الحركة الوطنية اللبنانية هي نتاجُ التفاعل بين هذه القوى الوسطى – التقليدية، وقضايا لبنان المحورية.
إنها برجوازياتٌ طالعةٌ من كياناتٍ مذهبية محافظة، وتحملُ دمغات نشأتِها في إبقائها على تكويناتها السياسية الطائفية، مثلما هي تقومُ على ملكية الأرض الزراعية والحرف والتجارة والمعامل الصغيرة.
وتتشكلُ تناقضاتٌ حادةٌ في هذا التكوين اللبناني، فكلُ طائفةٍ تغدو دولةً، وكلُ دولةٍ تحتاجُ إلى جهازٍ سياسي مسيطر بشكل أبدي، ولا يظهر التغيير من تراكم العناصر التجارية والديمقراطية داخل كيان الطائفة، بل من خلال انشقاقها، عبر ظهور دولة طائفية مختلفة أو مضادة، يؤسسها زعيمٌ تحديثي – تقليدي آخر.
إن التطورات تجري في لبنان بشكلٍ تفتتي وانقسامي، مما يضعفُ ويخربُ هذه التطورات ويعيدُها لسابق عهدها.
إن الفئات الوسطى الصغيرة الذابلة في كل طائفة لا تقيمُ تحالفاً، بسبب أنها لا تصل في عملها السياسي إلى سمات الحداثة وهي العلمانية والوطنية والديمقراطية، مثلما أنها تعجزُ على الانتقال إلى الصناعة الكبيرة وانتشار العمل بالأجرة وحرية النساء الواسعة.
وإذا كانت تستطيع بشطارتها أن تقفز على بعض الحواجز الاقتصادية، وتتفن في طرق التجارة، وتهاجر إلى اقصى بلدان الأرض، لكنها لا تستطيع أن تقفز حدود الطوائف القريبة.
وإذا كانت بعض الدول العربية تجاوزت هذه الفسيفساء الطائفية نظراً لوجود دولة مركزية موحدة، أتاحت تشكل سوق وطنية واحدة، إلا أنها تظل طائفيةً لغياب نفس السمات السابقة الذكر، وهي لحظةٌ تاريخيةٌ تعبرُ عن عجز قوى إنتاج الصناعة الصغيرة أو الاستخراجية والتحويلية في عموم البلدان العربية عن نقل البلدان إلى بنى جديدة.
لكن في لبنان تتضاعفُ الخسائرُ المفردةُ المحسوبة في كل دولة عربية، ففي لبنان عدةُ دولٍ مضمرةٍ فيه، يقومُ شيوخُها وإقطاعيوها وبشواتها، كلٌ في مركزه الصغير بتمثيل دور صاحب العظمة والفخامة.
والزعيمُ من جهةٍ يحافظُ على ألقاب الباشا الموروثة طائفياً، وهي ألقابٌ تتحولُ مع تبدل دور الطائفة وتحالفاتها، الوطنية والمناطقية والعالمية، كما لا ينسى دورَ التاجر البارع في التقاط أي ثمرة مالية تتيحها التجارةُ والسياسة والدين.
ولكن ليس دائماً تؤدي الشطارة إلى أرباح، فكثيراً ما كانت التحالفات مدمرة وضارة، فتحالفات الباشوات اللبنانيين تـُؤسَّسُ سياسياً وليس على التراكم العقلاني العلماني الوطني، يقومُ بها الباشواتُ في حكمِهم المطلق على الملأ، فيختار الساسةُ الموارنة التحالفَ مع الغرب الاستعماري ضد تيار القومية العربية الكاسح حينئذٍ، وإذا كان ذلك فيه شطارة التاجر اللبناني المرهف الحس للرأسمالية الغربية ودورها التاريخي وأرباحها الجزيلة، إلا أنه وقوف ضد سوقه القومية وما يُنتظر لهذه السوق من تطورات عظيمة.
وإذا كان ذلك قد حدث حين أثبتت الصحراءُ العربية النفطية كرمَها الباذخ، وأخذ بعضُ هؤلاء الساسة يتنسمون نسائم نجد العليلة، فيغيرون من ولاءاتهم بلمح البصر، إلا أن ذلك يظل في عقل الباشا، وليس في عقل البرجوازي الحديث.
وعلى عكس ما يقوله مندوبُ الحزب الشيوعي اللنباني في الندوة السالفة الذكر بكون الطائفة المارونية هي حجرُ العثرة في تطور لبنان لأنها حازت على كل الثروة، فقد كانت هي بعضُ الانقاذ المأمول، لو أن أمثاله وتياره واليسار اللبناني عامة أمتلكَ شيئاً من بُعد النظر. فتيار تصعيد العداء لم يؤد إلا إلى إنهيار بذور الحداثة.
تمظهر العداءُ الطبقي (الشيوعي)، (البروليتاري) للبرجوازية كما يتمظهر ذلك في جملة أيمن ضاهر بالعداء للموارنة، وهو أمرٌ كان يخفي عداوة الفقراء المحدودة للأغنياء، كما يتماشى ذلك مع توجيهات الحركة الشيوعية وقتذاك بتصفية البرجوازية وإقامة النظام الاشتراكي.
لقد تملكت الحزبَ الشيوعي واليسارَ رغبةٌ تسريعيةٌ وهدفٌ مباشر هو القضاء على البرجوازية، فالبرجوازيات لا تستطيعُ أن تقيمَ دولةً ديمقراطية، كما أنها عميلةٌ خائنة، ومظاهرُ ذلك لدي هذا الوعي كثيرة، فهي تعادي المعسكرَ الاشتراكي وهي تقيمُ علاقات مع الغرب، وهي تشغلُ العمال بأجور متدنية، وهي ترفض التصنيع الواسع، وهي أساس النظام الطائفي، ثم هي تعادي الوجود الفلسطيني المسلح ذروة حركة التحرر العربية الخ..
إن الدخولَ في هذا السياق السياسي علامةٌ واضحة على المراهقة، لكن تنفيذه على صعيد الحياة كان انتحاراً. وإذا كان ذلك لا يستندُ لفهمٍ حقيقيٍّ عن الاشتراكية ومدى وجودها في المعسكر (الاشتراكي)، لكن هذا يشيرُ كذلك إلى وجود دكتاتورية قوية في اليسار اللبناني، وإلى اعتمادهِ على نقل النسخ المستوردة من الشرق، ولهذا كانت الأدبيات السياسية وقتذاك تصدح بمنجزات الشقيق الأكبر وعظمة البلدان الاشتراكية وتندفع الوفود السياسية والشبابية للاندماج بهذه التجربة العالمية ويجري تحضير القوى السياسية لهذه المعركة الفاصلة مع البرجوازية المارونية.
وكان ذلك مفيداً ومهماً في العديد من الجوانب وبنشر ثقافة جديدة في المنطقة لعب فيها لبنان الجديد هذا دوراً كبيراً، لكن صيغة تلك الإيديولوجية لم تخضع لتحليل عميق وأدت إلى مشكلات كبيرة للحركة السياسية العربية التقدمية، وكان دورها في لبنان أخطر وأفدح.
لكن ذلك لا يعني أيضاً عدم رعونة حزب الكتائب والتيارات اليمينية المتطرفة الأخرى، فكان العداء للمسلمين وارداً على جدول الأعمال منذ نضال الاستقلال، وظهور التيارين الأساسيين تيار الوحدة مع سوريا وتيار الوحدة مع فرنسا.
وبطبيعة الحال كان هذا ميراثاً لقمع المسيحيين في الأمبراطوريات المذهبية السابقة، ولكن عوضاً عن إنتاج فكر وطني علماني تكرست التيارات المسيحية في الهياكل الطائفية، والأخطر ذهابها للفاشية، مما كان يقود إلى تطاحن هائل.
ولم يكن لعداء التيارات (الإسلامية) ضد المسيحيين جذور طبقية في فقراء غير مثقفين وفي مثقفين فقراء في الفكر فحسب، بل تربضُ تحته العداءاتُ الدينية بين المذاهب الإسلامية والمذاهب المسيحية. ويجري تصويره كصراعٍ طبقي بين البروليتاريا الثورية والبرجوازية الطائفية المتعفنة!
كانت عمليةُ إنتاجِ فكرٍ ديمقراطي وطني علماني متعثرة في تاريخ لبنان كما في الدول العربية. كان الحزبُ الشيوعي اللبناني قد تأسسَّ بفاعليةِ بعض المثقفين المسيحيين! ثم قام يسرعُ دورَهُ في مجتمع اكثر إنفتاحاً من بقية الدول المجاورة، فتراجعت القياداتُ (المسيحية) داخل الحزب، وأخذت القياداتُ(الإسلامية) في الصعود وخاصة القيادات الشيعية، وبهذا توجه الحزب أكثر فأكثر نحو قوى الشرق التقليدية، فأخذ طابعهُ الدينيُّ الشرقيُّ المتماثل مع ديانات الشرق المحافظة عموماً في البروز. فقد كانت تجاربُ الأحزاب الشيوعية العربية واعدةً في توجهاتها الوطنية الديمقراطية حتى إذا تجاوزت هذا الدور أخفقت، لأنها تكون حينئذٍ ناسخة لدور عالمي لا يجد إمكانية حقيقية في واقعها وفي أعضائها.
وكان الانتحار هو في الدخول إلى سياق الحرب الأهلية، الذي ترتب على تشكيل مواجهة داخلية يسارية – يمينية، رفدها الحضور المسلح الفلسطيني والتآمر الإسرائيلي الغربي.
لقد لعبت تلك الجذور الفكرية السياسية دورها في دفع اليسار اللبناني للمواجهة، ولم يشتغل على المهمات الديمقراطية والتحديثية بشكل استراتيجي مطول، فأدى هذا إلى نضوب طاقاته حتى الجسدية منها، وتراجعه عن بؤرة الحياة السياسية، وصارت أجنحةً منه تعود للوراء، إلى المعسكرات المذهبية السياسية، بشكل اصطفافات بدلاً من نقد ذلك الماضي وتجاوزه.
ويمكن أن نرى في اصطفاف الحزب الشيوعي اللبناني مع المحور السوري _ الإيراني تتويجاً لهذا المسار المتعثر، فتظهر جملٌ مماثلة للزمن القديم تحت مضمون مغاير، فهذه الجمل تؤكد على أهمية التصدي للأمبريالية ولدعم القوى التي تواجهها في المنطقة، لكنها لا تنتقد غياب الديمقراطية في هذه الدول، وهو الغياب الذي أدى إلى الانهيار في مواجهة الاستعمار.
بل أن هذا الغياب شديد الخطورة على دول المنطقة، وفي تصعيد التسلح والحروب، وهي الأمور التي تقود إلى أوضاع مضادة لتلك النوايا.
وكما رأينا في تراجع الحزب الشيوعي العراقي نحو مواقع مذهبية معينة يحدث هذا أيضاً في الحزب اللبناني، فقد صارت القوى المذهبية ذات طابع مؤثر بدلاً من أن يقود التقدميون هذه القوى إلى آفاق النضال الحقيقية..
إن غياب النضال الوطني العلماني قاد هذه الأحزاب تدريجياً إلى التماهي مع المحور الإيراني – السوري، يقول بيان من الحزب الشيوعي اللنباني:
(إننا نستطيع أن نؤكد إن نضالنا وتضحياتنا وفق النهج الذي سرنا عليه بتوجيهات مؤتمري الحزب الثاني والثالث قد أعطت حزبنا رصيداً نضالياً، استمر خلال السنوات اللاحقة للحرب الأهلية، ومن شأنه أن يزيد من دورنا اللاحق في معركة البديل الجذري لنهج التراجع والاستسلام في قيادة حركة التحرر الوطني لشعبنا ليس فقط في لبنان بل في العالم العربي عامة. إننا نؤكد من رحم هذا الوعي الثوري، بأن الشيوعيين ربطوا مصيرهم بمصير حركة التاريخ، بمصير انتصار إرادة الشعوب العربية، وربطنا مصير القوى المنحرفة قومياً مصيرها بمصير المد الأمبريالي في منطقتنا الذي هو اليوم في أوجه. بمصير الصهيونية والرجعية العربية).
هل تصنع العبارات الحماسية شيئاً إيجابياً؟ لقد تدهور اليسار بعمليات المغامرة، ودون أن يعني ذلك عدم تجميع القوى الممكنة والعمل على حشد كافة الفرقاء لتغيير ديمقراطي علماني ووطني.
ليست المصالحات اللبنانية تقوم على أرض صلبة، بل هي مصالحات تكتيكية، نتيجة لتغير ظروف خارجية، خاصة لتوجه سوريا للمفاوضات مع إسرائيل بشكل سري، مما جعل القوى المتصلبة تدرك بأن لا شيء ثابت وقوي في الدول العربية الشمولية.
تغدو المصالحات توافقات تكتيكية ولا تدخل إلى عظم الهيكل النخر للنظام الطائفي، فلم تصل حتى وثيقة الطائف إلا إلى محاصصات طائفية، وواصلت القوى السياسية العيش والعمل في نظام القرن التاسع عشر دون تغيير جوهري.
فالقوى التقليدية تظل هي السقف المسيطر ولا أحد قادر على تشكيل ثوابت الحداثة في النظام، لتستمر صراعات القوى المذهبية التقليدية، بشكل ثم تتصارع بشكل آخر، دون إحداث تراكم ديمقراطي وطني.
بعض قوى اليسار اتخذت مطالب العمال والكادحين لتأييد جهة طائفية ضد أخرى، وليس لتغيير حياة هؤلاء باتجاه وطني شامل.
إن المحاصصة الطائفية وتوزيع الكراسي والوزارات ثم توزيعها بشكل آخر ثم إجراء مواجهات دامية وغير هذا من ألعاب السياسة، تجعل فريقي السلطة والمعارضة، أو فريقي السلطة الآن، يواصلان تمزيق لبنان، وإعداده لمذبحة أخرى.
هل يمكن لبعض الفرقاء اللبنانيين كتحالف تيارات المستقبل والكتائب واليسار الديمقراطي والحزب الاشتراكي التقدمي أن يؤسسوا تياراً ديمقراطياً لبنانياً توحيدياً؟
ليس ذلك ممكناً وهم قد اعتمدوا على نفس الأسس الطائفية في بناء تنظيماتهم السياسية، باستثناء اليسار الديمقراطي، ولم يفصلوا بين السياسة والدين، ولم يشكلوا فريقاً فكرياً واحداً يعتمد عناصر الوطنية والعلمانية والخطوات الوطنية المتفق عليها لتغيير حياة أغلبية الشعب، فذلك لوحدث يتطلب إعادة قراءة تاريخ لبنان، وطرح فهم مغاير للأديان عن الرؤية التقليدية الإقطاعية السائدة، وتشكيل علاقة تعاون معينة واستراتيجية بين الفئات المتوسطة والعمال.
وليس ذلك بسبب إن إيران دولة دينية شمولية تريد فرض نموذج الدولة الدينية هذه فقط، بل لأن كل دول المنطقة غير قادرة على تصعيد مثل هذه الدولة الوطنية العلمانية، فتغدو الصراعات ثم الحروب هي المعجلة لمثل هذا الحل، وهي كوارث بامتياز.
وتغدو هذه أشد وأقسى في لبنان بسبب التاريخ والتكوينات الطائفية الكثيرة التي تم استعراضها سابقاً، وبسبب كون الفلاحين والعمال لا يحصلون على حياة تليق بهم.
وإذا رأينا الكتل السكانية المذهبية فسنجد إن كتل الفقراء الواسعة الكثيفة هي التي تدعم السياسات المذهبية المعارضة، وسنجد إن الطوائف التي تحوزُ على نسبة كبيرة من الثروة الوطنية هي التي تدعم الطائفية المحافظة، والتبعية.
ولكن مختلف الطبقات والقوى السياسية لا تعترف بأن الصراع على الثروة والحكم هو سبب المشكلات لا الأديان والمذاهب.
وبسبب هذا الصراع على الثروة المتشابك مع الحكم تـُقام علاقات غير وطنية وتحالفات فوق رؤوس المواطنين وتعدهم لمشروعات رهيبة. ويخف الصراع ويشتد بسبب هذا التداخل، وفي بلد بمثل هذه الفسيفساء يغدو عسكرياً عنيفاً في قممه الحمقاء.
أخذت قوى عديدة تريد فض الاشتباك بين المذاهب والسلطة، بين الثروة والحكم.
يقول أحد الكتاب (ثمة خياران: إما أن تغرق المنطقة في سلسلة حروب طائفية تفضي في النهاية لاستهلاك طاقة الطائفة ذاتها، وهذا ما تفعله الصراعات العنيفة دائماً أقصد استهلاك الطاقة الكامنة في عواملها، أو ينتصر الوعيُّ والعقلانية، وتنتفض شعوب المنطقة لتمسك يدها بمصيرها، وتختصر مساراً طويلاً من الألم والدم والخراب)، (معقل زهور عدي، الصراع الاجتماعي والانقسام الطائفي).
نرجو أن لا تنتفض الشعوب بل أن تراكم الثقافة الديمقراطية الحديثة وتتشبع بها أحزابها المناضلة، وتغير من القوانين العتيقة والتشكيلات السياسية المذهبية واحتكار السلطة والثروة، لأن الانتفاضات عادة دامية حادة، ولا تتصف بعقلانية سياسية ولكنها غير مستبعدة.
وقد توصل أغلبية المجتمعين في ندوة توحيد اليسار اللبناني إلى أفكار مهمة مثل هذه:
(وجدوا أن اليسار يفتقد إلى تنظيم قادر على بلورة شكل الصراع، من خلال تكوين الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة، وأن جزءً من اليسار اتخذ قراره بدعم دولة المؤسسات بحجة أن النظام اللبناني ليس رأسمالياً، وأن اليسار لم يعرف كيفية التعاطي مع تشوه الصراع وإصلاح هذا التشوه، ورأوا أن دور اليسار يكمن في تسليط الضوء على الصراع الطبقي بمواجهة الأقطاب التي تعطي هذا الصراع طابعاً طائفياً، وفي رفض الصراعات الفئوية والطائفية، بالإضافة إلى إعادة صياغة شكل الوعي والعمل على تحقيق مكاسب أكبر للطبقة العاملة)، (ملتقى اليسار اللبناني، 2007).
إن تكوين مصالح وثقافة لليسار الموحد لا تنفصل كذلك عن توسيع بذور العناصر الديمقراطية والعلمانية والوطنية في كل الاتجاهات الأخرى، ففي النهاية سوف تظل القوى الوسطى هي المسيطرة على السلطة، لكن باتجاه تلك الثوابت التحديثية.
والنظام اللبناني ليس رأسمالياً حديثاً على المقاس الغربي، ككل الأنظمة العربية، فهو نظامٌ انتقاليٌّ بين الإقطاع والرأسمالية، ودرجات الانتقال تحددها تطوراتُ القوى المنتجة والوعي والتشكيلات السياسية، ونمو السياسة التحديثية يتشكل باستبصار هذه العوامل الموضوعية والذاتية المتداخلة وتوظيفها لمصلحة الأغلبية من السكان بغض النظر عن مذاهبهم وأديانهم.
Published on October 25, 2019 12:25


