عبـــــــدالله خلــــــــيفة : صراع الطوائف والطبقات في لبنان

فصل من كتاب صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران
أقيم البناءُ السياسيُّ اللبناني الحديث على طوابقٍ قديمة من الطوائفِ الكثيرة ذات الارتباطات المختلفة، فهناك أكثر من عشرين طائفة، فهو مجتمعٌ من فسيفساءٍ سكانية لم يَعرفْ الدولة المركزية، ولعبت فيه بعضُ الطوائف دوراً مركزياً في فترات معينة دون أن تستطيع إقامة دولة محورية وطنية، حين قامت هذه الطوائفُ بدورٍ مركزي في الحياة السياسية المناطقية، أو حين هيأتها ظروفٌ عالمية مستجدة للتحرك بما يغاير من الخريطة السائدة حولها، وتلعبُ هنا الكثافة السكانية دوراً مهماً، فبدونها يستحيلُ تشكيلَ قوى عسكرية – سياسية في هذه الفسيفساء السكانية.
فجرجرتْ الطوائفُ الممزقة المتصارعة ذاتَها إلى العصر الحديث بدون تغيير جوهري في بناها المختلفة.
كان للطوائف جذور قديمة، ولكن تاريخها الحديث وتوظيفها في عصر تنامي الرأسمالية الغربية بدأ مع تضعضع الأمبراطورية العثمانية، وبين سنتي 1840 – 1860 نشأت الثورة الفلاحية ضد الإقطاع، ثورة طانيوس شاهين، وتم توظيف التحركات الشعبية لهندسة نظام الطوائف وتفجير الصراع الطائفي بينها، فجرى العملُ لصنع منطقتين سياسيتين، الأولى يسيطرُ عليها الدروز، والثانية يسيطرُ عليها المسيحيون.
ومن أواخر القرن التاسع عشر حتى الثلث الأول من القرن العشرين تشكل نظامُ المتصرفية، الذي نصَّ على قيامِ كلِ دولةٍ أوربية بحماية جماعتها الطائفية، (فرعت) فرنسا الطائفة المارونية، وانجلترا الدروز، وروسيا الأرذوكس ورعت المسلمين سنة وشيعة الدولة العلية أو العليلة الدولة العثمانية.
مع الاستعمار الفرنسي نشأ لبنانُ الكبير، الذي بدأ ينسلخُ عن سوريا الطبيعية والسياسية، وقد ثبت الفرنسيون نظامَ الطوائف وكرسوه، وصنعوا رئيساً للجمهورية من المسيحيين.
وقد قامت القوى الوطنية اللبنانية في صراعها ضد الاستعمار على أزواجية فكرية تتضمن وحدة سياسية تقوم على التقاسم الطائفي، فتمَّ توزيعُ المناصب بعد الاستقلال، بعد سنة 1943، على أساسين ديني ومذهبي، لكن بأن يكون ذلك مؤقتاً، وليس دائماً، وأن يتشكلَّ لبنانُ الوطني، لكن فكرة رياض الصلح هذه تم دفنها مع تنامي حضور الطوائف. وقد نصت المادة 95 من الدستور على أن الطائفية مؤقتة.
وكان هناك صراعٌ كبيرٌ منذ بداية تشكل لبنان بين ولائين، ولاءٌ لفرنسا أساسه الموارنة، وولاءٌ لسوريا أساسه المسلمون، وبين هذا وذاك، تشكل حلٌ وسط هو لبنان الراهن المتذبذب بين سوريا – البعث، وبين الغرب – فرنسا والليبرالية.
أقر اتفاقُ الطائفِ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في المجلس النيابي والحكومة، وبين موظفي الفئة الأولى، رغم أن اتفاق الطائف طرحَ انتخابَ النواب دون قيد طائفي مع استحداث مجلس شيوح للطوائف، فكرس اتفاقُ الطائفِ التقاسمَ الطائفيَّ بدلاً من إلغائه.
(من مواد الحزب الشيوعي اللبناني، دائرة التثقيف، تاريخ الطائفية في لبنان).
ويُقدر عدد المسلمين ككل في لبنان بــ(59،7%) من أجمالي عدد السكان، والسنة تقدر نسبتهم ب(27%) من السكان، في حين تقدر نسبة الشيعة بــ(41%)، والدروز(7%)، أما الطوائف المسيحية فتشكلُ ما نسبته (39%)، أكبرها طائفة الموارنة (16%) من السكان، وتعبر الأثرى في المجتمع اللبناني، وهناك طوائف مسيحية أخرى أصغر حجماً، كالكاثوليك اليونانيين، والرومانيين(1%) والأرثوذكس (5%) واليعاقبة والنسطوريين.
من أهم أحزاب المسيحيين حزب (الكتائب) الذي تأسس سنة 1936 بقيادة بيير الجميل، تأثراً في زيارة له لأسبانيا بكتائب فرانكو الدكتاتور الأسباني.
شكل حزبا الكتائب والحزب الشيوعي اللبناني أساس الوطنية اللبنانية النهضوية، من موقفين متضادين شكلاً متوحدين في الجوهر.
فكانت الدكتاتورية الهتلرية أوالستالينية أساس وعيهما، وهو ما ينطبقُ على أحزاب وقوى يمينية ويسارية عديدة في الوطن العربي، ولكن للبنان ظروفه الخاصة، فهو أكثر حيوية وحرية، وهو أسرع توجهاً للمغامرة وأخطارها كذلك، مرة لأنه لا يمتلك دولة استبدادية مركزية، ومرة لأن إحدى الطوائف تحول نفسها إلى ذلك.
كانت (الكتائبُ) بتوجهها إلى نماذج الفاشية تريد حلاً سريعاً لمسائل التشتت الوطني، وقفزاً على جذور التخلف والإقطاع، وباستخدام العنف الشعبي الموظف لقوى اليمين، وكان العدد السكاني يسمح لها بالقيام بهذه المغامرة، وعبر تعضيد فرنسا، التي ما لبثت هي نفسها أن واجهت كارثة الهتلرية.
إن العصبوية السكانية اتاحت للكتائب ذلك؛ فثمة تكتل ماروني، وتراث من التمردات المسلحة، وغياب التراكم الديمقراطي الثقافي العميق.
وحتى بعد هزيمة الفاشية في الحرب العالمية الثانية لم تتحول (الكتائب) إلى تنظيم ديمقراطي، وهذا بسبب جديد كذلك وهو نشؤ المعارضة القومية المتشددة، ونمو الحزب الشيوعي الذي أوغل في دكتاتورية مختلفة، يسارية هذه المرة.
وتقوم عملياتُ التحول السياسي هنا على استيراد فكري مقولب من مخازن الدكتاتوريات العالمية، الصاعدة بقوة، والمؤثرة على الكيانات السياسية الطفولية الناشئة وقتذاك.
إن طرح خطابين دكتاتوريين حادين متنافسين، ومن طبقتين متضادتين لكنهما تمثلان قطبي الحداثة، هو بسبب عملية الاستيراد الفوقية تلك، ولعدم النشؤ الطبيعي للطبقتين الحداثيتين المتصارعتين؛ البرجوازية والعمال، فيغدو خطاباهما السياسيان خطابي مراهقة.
كانت المطابقة مع فرنسا هو هدف المسيحية السياسية ولكن هذه المطابقة مبنية على الديانة، وعلى إرث ثقافي في اللغة والآداب، أما في استيعاب الحداثة الفرنسية وتطوراتها فلم يتشكل ذلك، خاصة في بُنى الأحزاب، فظهرت الكتائبُ ومتوالداتها السياسية كجماعاتٍ أبوية أشبه بالمافيا، نظراً لأن البناء الاقتصادي لم يقم على انتشار المصانع كما في فرنسا، فغدت البنية الفرنسية اللبنانية محض استيراد شكلاني.
كما أن القوى العاملة اللبنانية من جهة أخرى، هي عمال زراعيون وحرفيون وعمال مصانع صغيرة ووزارات، ذوو علاقات قوية بالوسط التقليدي وبالأمية.
وبهذا كانت الشعارات السياسية المستوردة وفرض القوالب تنمو أكثر من عمليات التحليل والتأصل العلمي الوطني، وتقود إلى مواجهة محورية كما حدث في العراق بين البعث والشيوعي، في مسلسل متشابه لتصادم قوى الحداثة بدلاً من صراعها الطبقي وتعاونها الوطني، مع اختلافات التجربة وتراكمها في كل من البلدين.
 يصور مندوبُ الحزبِ الشيوعي اللبناني تاريخَ الصراع الاجتماعي بصورةٍ مختزلةٍ في ندوةِ توحيد اليسار اللبناني السيد أيمن ضاهر، فيقول؛ (ساهم الاحتلالُ الفرنسي باختلال بنية المجتمع اللبناني وهو الذي ساهم بتكوين البرجوازية المارونية، حيث تكدست الأموال في هذه الطائفة دون سواها مما ساهم في تشويه الصراع، مروراً بالحرب اللبنانية التي بدأت بصراع طبقي ما لبث أن تحول إلى صراع طائفي، وصولاً إلى وقتنا الحالي، حيث تقوم القيادات السياسية بتشويه الصراع وأخذ شكله الطبقي بهدف تحويله إلى صراع طائفي من خلال التهويل بقدوم حرب طائفية جديدة)،(المؤتمر المذكور وقد عُقد في 19 يونيو 2007).
تعطينا هذه الفقرة اختزالاً زائفاً أيديولوجياً لتاريخ الصراع الاجتماعي في لبنان، حيث يجري تصوير طائفة واحدة هي الطائفة المسيحية بأنها هي الطائفة الغنية الوحيدة، وأنها شكل البرجوازية، وهو تصورٌ عامٌ مجرد يلغي التاريخَ الاجتماعي الملموس ويدخل تصوراته السياسية المسبقة في أحشاء السرد التاريخي.
وإذا كانت الطوائفُ الدينية والمذهبية الإسلامية قد تكونتْ في بعض مناطق سوريا وجبل لبنان كتكويناتٍ مقموعةٍ هاربة أو محتمية بالتضاريس من عسفِ الدول التي سُميت إسلامية، وهي دولُ طوائفٍ يهيمنُ عليها الإقطاع، فإن التكوينات الحديثة لها تراوحت بين البقاء في النظام التقليدي والنزوح نحو الحداثة، والتجارة، والغرب.
وقد لعبت الطائفةُ المارونية دور القيادة لعملية التحديث هذه، وخاصة الفئات الوسطى منها، وفي ظل التبعية لفرنسا، وقد ساعدها في ذلك بدايةً أفولُ دور الدولة العثمانية التقليدية الشائخة، وصعودُ العلاقات التجارية والفكرية الحديثة التي روج لها الغرب، لتفكيك الدولة العثمانية وإيجاد وكلاء تجاريين وثقافيين له.
ومن هنا وجدنا إن بدايةَ النهضةِ العربية تتشكلُ في سوريا ولبنان عبر هذه الفئات، ومعروف جيداً دور بعض العائلات المثقفة في تأسيس مختلف صنوف الأدب والفن العربيين الحديثين، ثم بعد قامت بنقل ثمار هذه الثروة المعرفية لمصر، نظراً لاستمرار القمع في الشام، وبدء الانفتاح المصري القيادي لعملية تغيير المنطقة.
ولكن ظهور الفئات الوسطى لم يقتصر على الطائفة المارونية بل سارعت طوائف أخرى لاحتضان بذور هذه الحداثة، كالطائفة الدرزية والسنية والشيعية، وافرزتْ قوىً برجوازية لم تخرج من كيانات الطوائف، ويمكن اعتبار الحركة الوطنية اللبنانية هي نتاجُ التفاعل بين هذه القوى الوسطى – التقليدية، وقضايا لبنان المحورية.
إنها برجوازياتٌ طالعةٌ من كياناتٍ مذهبية محافظة، وتحملُ دمغات نشأتِها في إبقائها على تكويناتها السياسية الطائفية، مثلما هي تقومُ على ملكية الأرض الزراعية والحرف والتجارة والمعامل الصغيرة.
وتتشكلُ تناقضاتٌ حادةٌ في هذا التكوين اللبناني، فكلُ طائفةٍ تغدو دولةً، وكلُ دولةٍ تحتاجُ إلى جهازٍ سياسي مسيطر بشكل أبدي، ولا يظهر التغيير من تراكم العناصر التجارية والديمقراطية داخل كيان الطائفة، بل من خلال انشقاقها، عبر ظهور دولة طائفية مختلفة أو مضادة، يؤسسها زعيمٌ تحديثي – تقليدي آخر.
إن التطورات تجري في لبنان بشكلٍ تفتتي وانقسامي، مما يضعفُ ويخربُ هذه التطورات ويعيدُها لسابق عهدها.
إن الفئات الوسطى الصغيرة الذابلة في كل طائفة لا تقيمُ تحالفاً، بسبب أنها لا تصل في عملها السياسي إلى سمات الحداثة وهي العلمانية والوطنية والديمقراطية، مثلما أنها تعجزُ على الانتقال إلى الصناعة الكبيرة وانتشار العمل بالأجرة وحرية النساء الواسعة.
وإذا كانت تستطيع بشطارتها أن تقفز على بعض الحواجز الاقتصادية، وتتفن في طرق التجارة، وتهاجر إلى اقصى بلدان الأرض، لكنها لا تستطيع أن تقفز حدود الطوائف القريبة.
وإذا كانت بعض الدول العربية تجاوزت هذه الفسيفساء الطائفية نظراً لوجود دولة مركزية موحدة، أتاحت تشكل سوق وطنية واحدة، إلا أنها تظل طائفيةً لغياب نفس السمات السابقة الذكر، وهي لحظةٌ تاريخيةٌ تعبرُ عن عجز قوى إنتاج الصناعة الصغيرة أو الاستخراجية والتحويلية في عموم البلدان العربية عن نقل البلدان إلى بنى جديدة.
لكن في لبنان تتضاعفُ الخسائرُ المفردةُ المحسوبة في كل دولة عربية، ففي لبنان عدةُ دولٍ مضمرةٍ فيه، يقومُ شيوخُها وإقطاعيوها وبشواتها، كلٌ في مركزه الصغير بتمثيل دور صاحب العظمة والفخامة.
والزعيمُ من جهةٍ يحافظُ على ألقاب الباشا الموروثة طائفياً، وهي ألقابٌ تتحولُ مع تبدل دور الطائفة وتحالفاتها، الوطنية والمناطقية والعالمية، كما لا ينسى دورَ التاجر البارع في التقاط أي ثمرة مالية تتيحها التجارةُ والسياسة والدين.
ولكن ليس دائماً تؤدي الشطارة إلى أرباح، فكثيراً ما كانت التحالفات مدمرة وضارة، فتحالفات الباشوات اللبنانيين تـُؤسَّسُ سياسياً وليس على التراكم العقلاني العلماني الوطني، يقومُ بها الباشواتُ في حكمِهم المطلق على الملأ، فيختار الساسةُ الموارنة التحالفَ مع الغرب الاستعماري ضد تيار القومية العربية الكاسح حينئذٍ، وإذا كان ذلك فيه شطارة التاجر اللبناني المرهف الحس للرأسمالية الغربية ودورها التاريخي وأرباحها الجزيلة، إلا أنه وقوف ضد سوقه القومية وما يُنتظر لهذه السوق من تطورات عظيمة.
وإذا كان ذلك قد حدث حين أثبتت الصحراءُ العربية النفطية كرمَها الباذخ، وأخذ بعضُ هؤلاء الساسة يتنسمون نسائم نجد العليلة، فيغيرون من ولاءاتهم بلمح البصر، إلا أن ذلك يظل في عقل الباشا، وليس في عقل البرجوازي الحديث.
 وعلى عكس ما يقوله مندوبُ الحزب الشيوعي اللنباني في الندوة السالفة الذكر بكون الطائفة المارونية هي حجرُ العثرة في تطور لبنان لأنها حازت على كل الثروة، فقد كانت هي بعضُ الانقاذ المأمول، لو أن أمثاله وتياره واليسار اللبناني عامة أمتلكَ شيئاً من بُعد النظر. فتيار تصعيد العداء لم يؤد إلا إلى إنهيار بذور الحداثة.
تمظهر العداءُ الطبقي (الشيوعي)، (البروليتاري) للبرجوازية كما يتمظهر ذلك في جملة أيمن ضاهر بالعداء للموارنة، وهو أمرٌ كان يخفي عداوة الفقراء المحدودة للأغنياء، كما يتماشى ذلك مع توجيهات الحركة الشيوعية وقتذاك بتصفية البرجوازية وإقامة النظام الاشتراكي.
لقد تملكت الحزبَ الشيوعي واليسارَ رغبةٌ تسريعيةٌ وهدفٌ مباشر هو القضاء على البرجوازية، فالبرجوازيات لا تستطيعُ أن تقيمَ دولةً ديمقراطية، كما أنها عميلةٌ خائنة، ومظاهرُ ذلك لدي هذا الوعي كثيرة، فهي تعادي المعسكرَ الاشتراكي وهي تقيمُ علاقات مع الغرب، وهي تشغلُ العمال بأجور متدنية، وهي ترفض التصنيع الواسع، وهي أساس النظام الطائفي، ثم هي تعادي الوجود الفلسطيني المسلح ذروة حركة التحرر العربية الخ..
إن الدخولَ في هذا السياق السياسي علامةٌ واضحة على المراهقة، لكن تنفيذه على صعيد الحياة كان انتحاراً. وإذا كان ذلك لا يستندُ لفهمٍ حقيقيٍّ عن الاشتراكية ومدى وجودها في المعسكر (الاشتراكي)، لكن هذا يشيرُ كذلك إلى وجود دكتاتورية قوية في اليسار اللبناني، وإلى اعتمادهِ على نقل النسخ المستوردة من الشرق، ولهذا كانت الأدبيات السياسية وقتذاك تصدح بمنجزات الشقيق الأكبر وعظمة البلدان الاشتراكية وتندفع الوفود السياسية والشبابية للاندماج بهذه التجربة العالمية ويجري تحضير القوى السياسية لهذه المعركة الفاصلة مع البرجوازية المارونية.
وكان ذلك مفيداً ومهماً في العديد من الجوانب وبنشر ثقافة جديدة في المنطقة لعب فيها لبنان الجديد هذا دوراً كبيراً، لكن صيغة تلك الإيديولوجية لم تخضع لتحليل عميق وأدت إلى مشكلات كبيرة للحركة السياسية العربية التقدمية، وكان دورها في لبنان أخطر وأفدح.
لكن ذلك لا يعني أيضاً عدم رعونة حزب الكتائب والتيارات اليمينية المتطرفة الأخرى، فكان العداء للمسلمين وارداً على جدول الأعمال منذ نضال الاستقلال، وظهور التيارين الأساسيين تيار الوحدة مع سوريا وتيار الوحدة مع فرنسا.
وبطبيعة الحال كان هذا ميراثاً لقمع المسيحيين في الأمبراطوريات المذهبية السابقة، ولكن عوضاً عن إنتاج فكر وطني علماني تكرست التيارات المسيحية في الهياكل الطائفية، والأخطر ذهابها للفاشية، مما كان يقود إلى تطاحن هائل.
ولم يكن لعداء التيارات (الإسلامية) ضد المسيحيين جذور طبقية في فقراء غير مثقفين وفي مثقفين فقراء في الفكر فحسب، بل تربضُ تحته العداءاتُ الدينية بين المذاهب الإسلامية والمذاهب المسيحية. ويجري تصويره كصراعٍ طبقي بين البروليتاريا الثورية والبرجوازية الطائفية المتعفنة!
كانت عمليةُ إنتاجِ فكرٍ ديمقراطي وطني علماني متعثرة في تاريخ لبنان كما في الدول العربية. كان الحزبُ الشيوعي اللبناني قد تأسسَّ بفاعليةِ بعض المثقفين المسيحيين! ثم قام يسرعُ دورَهُ في مجتمع اكثر إنفتاحاً من بقية الدول المجاورة، فتراجعت القياداتُ (المسيحية) داخل الحزب، وأخذت القياداتُ(الإسلامية) في الصعود وخاصة القيادات الشيعية، وبهذا توجه الحزب أكثر فأكثر نحو قوى الشرق التقليدية، فأخذ طابعهُ الدينيُّ الشرقيُّ المتماثل مع ديانات الشرق المحافظة عموماً في البروز. فقد كانت تجاربُ الأحزاب الشيوعية العربية واعدةً في توجهاتها الوطنية الديمقراطية حتى إذا تجاوزت هذا الدور أخفقت، لأنها تكون حينئذٍ ناسخة لدور عالمي لا يجد إمكانية حقيقية في واقعها وفي أعضائها.
وكان الانتحار هو في الدخول إلى سياق الحرب الأهلية، الذي ترتب على تشكيل مواجهة داخلية يسارية – يمينية، رفدها الحضور المسلح الفلسطيني والتآمر الإسرائيلي الغربي.
لقد لعبت تلك الجذور الفكرية السياسية دورها في دفع اليسار اللبناني للمواجهة، ولم يشتغل على المهمات الديمقراطية والتحديثية بشكل استراتيجي مطول، فأدى هذا إلى نضوب طاقاته حتى الجسدية منها، وتراجعه عن بؤرة الحياة السياسية، وصارت أجنحةً منه تعود للوراء، إلى المعسكرات المذهبية السياسية، بشكل اصطفافات بدلاً من نقد ذلك الماضي وتجاوزه.
ويمكن أن نرى في اصطفاف الحزب الشيوعي اللبناني مع المحور السوري _ الإيراني تتويجاً لهذا المسار المتعثر، فتظهر جملٌ مماثلة للزمن القديم تحت مضمون مغاير، فهذه الجمل تؤكد على أهمية التصدي للأمبريالية ولدعم القوى التي تواجهها في المنطقة، لكنها لا تنتقد غياب الديمقراطية في هذه الدول، وهو الغياب الذي أدى إلى الانهيار في مواجهة الاستعمار.
بل أن هذا الغياب شديد الخطورة على دول المنطقة، وفي تصعيد التسلح والحروب، وهي الأمور التي تقود إلى أوضاع مضادة لتلك النوايا.
وكما رأينا في تراجع الحزب الشيوعي العراقي نحو مواقع مذهبية معينة يحدث هذا أيضاً في الحزب اللبناني، فقد صارت القوى المذهبية ذات طابع مؤثر بدلاً من أن يقود التقدميون هذه القوى إلى آفاق النضال الحقيقية..
إن غياب النضال الوطني العلماني قاد هذه الأحزاب تدريجياً إلى التماهي مع المحور الإيراني – السوري، يقول بيان من الحزب الشيوعي اللنباني:
(إننا نستطيع أن نؤكد إن نضالنا وتضحياتنا وفق النهج الذي سرنا عليه بتوجيهات مؤتمري الحزب الثاني والثالث قد أعطت حزبنا رصيداً نضالياً، استمر خلال السنوات اللاحقة للحرب الأهلية، ومن شأنه أن يزيد من دورنا اللاحق في معركة البديل الجذري لنهج التراجع والاستسلام في قيادة حركة التحرر الوطني لشعبنا ليس فقط في لبنان بل في العالم العربي عامة. إننا نؤكد من رحم هذا الوعي الثوري، بأن الشيوعيين ربطوا مصيرهم بمصير حركة التاريخ، بمصير انتصار إرادة الشعوب العربية، وربطنا مصير القوى المنحرفة قومياً مصيرها بمصير المد الأمبريالي في منطقتنا الذي هو اليوم في أوجه. بمصير الصهيونية والرجعية العربية).
هل تصنع العبارات الحماسية شيئاً إيجابياً؟ لقد تدهور اليسار بعمليات المغامرة، ودون أن يعني ذلك عدم تجميع القوى الممكنة والعمل على حشد كافة الفرقاء لتغيير ديمقراطي علماني ووطني.
 ليست المصالحات اللبنانية تقوم على أرض صلبة، بل هي مصالحات تكتيكية، نتيجة لتغير ظروف خارجية، خاصة لتوجه سوريا للمفاوضات مع إسرائيل بشكل سري، مما جعل القوى المتصلبة تدرك بأن لا شيء ثابت وقوي في الدول العربية الشمولية.
تغدو المصالحات توافقات تكتيكية ولا تدخل إلى عظم الهيكل النخر للنظام الطائفي، فلم تصل حتى وثيقة الطائف إلا إلى محاصصات طائفية، وواصلت القوى السياسية العيش والعمل في نظام القرن التاسع عشر دون تغيير جوهري.
فالقوى التقليدية تظل هي السقف المسيطر ولا أحد قادر على تشكيل ثوابت الحداثة في النظام، لتستمر صراعات القوى المذهبية التقليدية، بشكل ثم تتصارع بشكل آخر، دون إحداث تراكم ديمقراطي وطني.
بعض قوى اليسار اتخذت مطالب العمال والكادحين لتأييد جهة طائفية ضد أخرى، وليس لتغيير حياة هؤلاء باتجاه وطني شامل.
إن المحاصصة الطائفية وتوزيع الكراسي والوزارات ثم توزيعها بشكل آخر ثم إجراء مواجهات دامية وغير هذا من ألعاب السياسة، تجعل فريقي السلطة والمعارضة، أو فريقي السلطة الآن، يواصلان تمزيق لبنان، وإعداده لمذبحة أخرى.
هل يمكن لبعض الفرقاء اللبنانيين كتحالف تيارات المستقبل والكتائب واليسار الديمقراطي والحزب الاشتراكي التقدمي أن يؤسسوا تياراً ديمقراطياً لبنانياً توحيدياً؟
ليس ذلك ممكناً وهم قد اعتمدوا على نفس الأسس الطائفية في بناء تنظيماتهم السياسية، باستثناء اليسار الديمقراطي، ولم يفصلوا بين السياسة والدين، ولم يشكلوا فريقاً فكرياً واحداً يعتمد عناصر الوطنية والعلمانية والخطوات الوطنية المتفق عليها لتغيير حياة أغلبية الشعب، فذلك لوحدث يتطلب إعادة قراءة تاريخ لبنان، وطرح فهم مغاير للأديان عن الرؤية التقليدية الإقطاعية السائدة، وتشكيل علاقة تعاون معينة واستراتيجية بين الفئات المتوسطة والعمال.
وليس ذلك بسبب إن إيران دولة دينية شمولية تريد فرض نموذج الدولة الدينية هذه فقط، بل لأن كل دول المنطقة غير قادرة على تصعيد مثل هذه الدولة الوطنية العلمانية، فتغدو الصراعات ثم الحروب هي المعجلة لمثل هذا الحل، وهي كوارث بامتياز.
وتغدو هذه أشد وأقسى في لبنان بسبب التاريخ والتكوينات الطائفية الكثيرة التي تم استعراضها سابقاً، وبسبب كون الفلاحين والعمال لا يحصلون على حياة تليق بهم.
وإذا رأينا الكتل السكانية المذهبية فسنجد إن كتل الفقراء الواسعة الكثيفة هي التي تدعم السياسات المذهبية المعارضة، وسنجد إن الطوائف التي تحوزُ على نسبة كبيرة من الثروة الوطنية هي التي تدعم الطائفية المحافظة، والتبعية.
ولكن مختلف الطبقات والقوى السياسية لا تعترف بأن الصراع على الثروة والحكم هو سبب المشكلات لا الأديان والمذاهب.
وبسبب هذا الصراع على الثروة المتشابك مع الحكم تـُقام علاقات غير وطنية وتحالفات فوق رؤوس المواطنين وتعدهم لمشروعات رهيبة. ويخف الصراع ويشتد بسبب هذا التداخل، وفي بلد بمثل هذه الفسيفساء يغدو عسكرياً عنيفاً في قممه الحمقاء.
أخذت قوى عديدة تريد فض الاشتباك بين المذاهب والسلطة، بين الثروة والحكم.
يقول أحد الكتاب (ثمة خياران: إما أن تغرق المنطقة في سلسلة حروب طائفية تفضي في النهاية لاستهلاك طاقة الطائفة ذاتها، وهذا ما تفعله الصراعات العنيفة دائماً أقصد استهلاك الطاقة الكامنة في عواملها، أو ينتصر الوعيُّ والعقلانية، وتنتفض شعوب المنطقة لتمسك يدها بمصيرها، وتختصر مساراً طويلاً من الألم والدم والخراب)، (معقل زهور عدي، الصراع الاجتماعي والانقسام الطائفي).
نرجو أن لا تنتفض الشعوب بل أن تراكم الثقافة الديمقراطية الحديثة وتتشبع بها أحزابها المناضلة، وتغير من القوانين العتيقة والتشكيلات السياسية المذهبية واحتكار السلطة والثروة، لأن الانتفاضات عادة دامية حادة، ولا تتصف بعقلانية سياسية ولكنها غير مستبعدة.
وقد توصل أغلبية المجتمعين في ندوة توحيد اليسار اللبناني إلى أفكار مهمة مثل هذه:
(وجدوا أن اليسار يفتقد إلى تنظيم قادر على بلورة شكل الصراع، من خلال تكوين الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة، وأن جزءً من اليسار اتخذ قراره بدعم دولة المؤسسات بحجة أن النظام اللبناني ليس رأسمالياً، وأن اليسار لم يعرف كيفية التعاطي مع تشوه الصراع وإصلاح هذا التشوه، ورأوا أن دور اليسار يكمن في تسليط الضوء على الصراع الطبقي بمواجهة الأقطاب التي تعطي هذا الصراع طابعاً طائفياً، وفي رفض الصراعات الفئوية والطائفية، بالإضافة إلى إعادة صياغة شكل الوعي والعمل على تحقيق مكاسب أكبر للطبقة العاملة)، (ملتقى اليسار اللبناني، 2007).
إن تكوين مصالح وثقافة لليسار الموحد لا تنفصل كذلك عن توسيع بذور العناصر الديمقراطية والعلمانية والوطنية في كل الاتجاهات الأخرى، ففي النهاية سوف تظل القوى الوسطى هي المسيطرة على السلطة، لكن باتجاه تلك الثوابت التحديثية.
والنظام اللبناني ليس رأسمالياً حديثاً على المقاس الغربي، ككل الأنظمة العربية، فهو نظامٌ انتقاليٌّ بين الإقطاع والرأسمالية، ودرجات الانتقال تحددها تطوراتُ القوى المنتجة والوعي والتشكيلات السياسية، ونمو السياسة التحديثية يتشكل باستبصار هذه العوامل الموضوعية والذاتية المتداخلة وتوظيفها لمصلحة الأغلبية من السكان بغض النظر عن مذاهبهم وأديانهم.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 25, 2019 12:25
No comments have been added yet.