عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الكلمة من أجل الإنسان✶
قوة الكلمة
لا تأتي قوة الكلمة من شقشقة اللغة، والتلاعب بالألفاظ ، وترفيع المؤدلجين الكذابين، وتغييب الكتاب الحقيقيين، بل من التعبير عن المعاناة العامة، وقضايا الوطن المتخثرة في الدهاليز والفساد وثقافة الكذب.
كلما امتلكت الكلمة سحر التعبير الشعبي، وصور البطولة اليومية ارتفعت في سماوات الأدب البشري الخالد.
الكلمة ليست حروفاً مجردة بل قوة تعبير سحرية عن مضمون شعبي مقاوم يتصدى للصدأ والغبار التاريخي ونشر الجهل، هي صور للبسطاء وهم يُدهسون في شوارع الحياة، وتصوير لأصابعهم وهي تتحرك ضد الحشرات.
ليس الكاتب الخائب، والصحفي المنعزل، ومروج الأكاذيب اليومية المليئة بالصواريخ الفضائية، بل الكاتب المدافع عن شعبه، المعبر عن تاريخه، عن قضاياه المضيعة في ثرثرات المثقفين، وورق الدجل اليومي.
هو من يصور في قصصه وقصائده ومقالاته ما يدور في الواقع، وليس من يصنع صوراً زائفة، ويتباهى باتصالات الوزارات، والمؤتمرات الفاشلة المقامة لسرقة الشعوب، يتباهى بالرسائل المصنوعة من الدوائر العامة الفاشلة، وإقامة علاقة رفيعة عليا مع الحرامية، بل هو الذي يعيش في زاوية العتمة وقلبه على الوطن، يُجلد ويُحبس ويتعطل ويُغيّب ولا تزال القضايا العامة تنبضُ في حروفه.
سجل كلماته أرشيف كاشف للبلد، للحارات، للمحرومين، لم يقل أنا طوال حياته ويعرض سفراته المدفوعة الأجر مسبقاً من فاشلين إدارياً، لو أُعطي تذكرة كشف أرقامها وكيفية صناعة الخداع فيها.
الصحف الفاشلة تموت، وسجل التمويه لو أستمر قروناً لا يصمد للزمن، والبلدان المقطوعة اللسان تتفجر وتتساقط حممها على الرؤوس، ويهرب كذابو الكلمات خارجاً حاملين الغنائم، وسجل الثورات الهائل يعري التحولات المذهلة حيث لم يبق طاووس مهما طال به الزمن، ولا يتعذب شعبٌ إلى الأبد.
الكلمة تتصحر بين أيدي المنافقين لا يجدون أنهم قادرون على الكلام، وببغاء واحدة أفضل صدقاً من مليون كاتب مزيف، لا يَسمع سوى السخرية من كلماته لأنه أصم وبلا معرفة تاريخية منفصم عن الواقع، يعيش في قصر من المرايا التي تعكس ذاته العظمى، ومن يملك ذرة من الصدق ينزوي ويحترم نفسه.
الكلمة نار الحقيقة إلى الأبد، ومن الكلمة نشأت الحضارات والرسالات، وظهرت الرموز والدساتير تشع للبشرية الخير والجمال، والمنافقون لديهم كافة مجلدات اللغة، وموسوعات العطاء المدفوعة، لكنهم غير قادرين على صنع كلمة واحدة مؤثرة تنزل في التربة الوطنية الشعبية التاريخية وتزهر.
لم يؤسسوا تنويراً
حديثُ الأنوارِ الذي ظل يبهروننا به، تصورنا إنه سوف تنبثقُ منهُ كتبٌ ومرجعياتٌ وموسوعات.
حين كتب الفيلسوف الفرنسي ديدرو موسوعته ورواياته أثرى الثقافة الإنسانية. لكن كيف كان سيفعل ذلك إذا لم ينعزل ويداوم على القراءة والبحث؟
كيف كان لجان جاك روسو أن يكتبَ إعترافاته ويُظهر جسدُهُ الروحي الحقيقي عارياً أمام البشر لو أنه إحتفظ بذرةٍ من غرور؟
كيف للفلاسفة والمفكرون والكتاب أن يمهدوا لتطور الإنسانية إذا بقوا في المستنقعاتِ ولم يصعدوا للجبال المعرفية الشوامخ؟
في الوعي العربي نشأتْ نماذجٌ من ذلك، كالعلامة العراقي (جواد علي) الذي حفر كثبان الجزيرة العربية الورقية اليابسة وكشف أخاديدها ووديانها التاريخية القديمة، بحيث تمكن الباحثون القادمون اللاحقون من السير نحو فهم العربية والإسلام والفلسفة؟
ولهذا فإن الخليج الثقافي يعيش ما قبل التنوير، ومع تأجج معاركه السياسية تبدو التربة الغضة لفكرهِ وثقافته، فالعربُ غيرُ عربٍ، والتحضرُ لم يتحول إلى تحضرٍ إلا في العمارة والأشياء، والمثقفون ليسوا مثقفين، والتنويورن ظلاميين، والغنمُ الاجتماعي أسرع لــ(المريس) النفطي يأكلهُ بسرعةٍ وشهوةٍ وحشيةٍ لا يريدُ حتى أن يبقي للأجيالِ القادمة إلا المباني النخرة والمؤسسات المحلوبة.
أول ما يمنع ظهور التنوير هو الإنتفاخات الشخصية، فالمسرحُ المليءُ بالشخوصِ المتضخمةِ يمنعُ رؤية أين يقع الظلام وكيف ينبثق النور.
حين تظهر المؤسساتُ ذاتُ المصروفاتِ الهائلة من أجل أن تشير لعظمة دولة لا تبقى دولة.
ثمة نفط وثمة غاز ولكن الغاز حين ينفخ البالونات ويطيرها في الهواء لكي يرى العالم كم يمتلك الخليج من بالونات ملونة رائعة، تنفجر من أي ضربة ريح.
كان يُفترض لأي تنوير أن يقف أمام المشكلات المحورية المفجرة للصراعات الدائمة ويكشفُ البقعَ المظلمةَ فيها.
لذلك أن الكتابَ والمبدعين يشكلون طلائع التحسس للأرض الشعبية وما فيها من حكايات وقصص وأمثال تكمن وراءها مشكلات البشر ومعاناتهم فتحدثُ هنا قراءات للإنسان الملموس الحقيقي، وليس الإنسان الموهوم المؤدلج، ومن هنا إمتلأت الموسوعات بمعرفة الشعوب.
لهذا فإن الفاعلين في الثقافة السياسية ظهروا كنبتٍ صحراوي، يغيبُ التحليلُ عن أعمالهم، وحين تحدث الأزماتُ الصاخبة وتُظهر الحصادَ الهزيل المريع، تتفجر لغةُ الشتائمِ والسخرياتِ والاحتقار والإلغاء وهم قبل قليل كانوا يتحدثون كلهم عن لغةِ الديمقراطية وإحترام الآخر وضرورة أن نصعد مثل بقية الدول حتى العربية منها إلى عالم الحداثة والديمقراطية.
لماذا حدث التغييب الكلي في زمن صعود أي طرف؟ لماذا تعني البلاغة الألغاء والدوس؟
بسبب إن التنوير وتعلم الديمقراطية وثقافة التعددية والتبادلية لم تصل إلى الداخل.
الدكتاتور في الداخل صعد وحصل على فرصة، وهنا سوف يلغي مظهر التنويري والموسوعي الزائف ويصيرُ(شوارعياً) بذيئاً، يعودُ إلى مستوى العامي الأمي البسيط المحترم في زمنهِ ولا يرددُ حكمَهُ بل شتائمه في حالةِ ضيقه ويأسه وتتحول أمثاله المُنتزعة من خبرته ومعاناته إلى زجاجات مسكورة في جسمه وروحه.
البلد الذي تضخم بالمباني والعلوم والمؤسسات يعودُ مثل (الفريج) العتيق المنقسم إلى ناحيتين وكلٌ منهما (تردح) ضد الأخرى.
الوعي لم ينحدرْ لأنه لم يتأسس، ولكن ثقافةَ (الردح) والاستعانة بــ(قبضايات) من الخارج، أظهرتْ أن ما تم النضال من أجله خلال عقود كأنه لم يكن، في ظل ثقافة التسييس الفاقع، وإنفلات الأعصاب، حيث عادت مناظرُ الشجارات في المقاهي ودور السينما الرثة، لكن بصورة مناطقية عالمية، وحدث الانكسارُ للمزهريات الصغيرة التي تجمعت فيها بعضُ الورود، وغاصتْ الشظايا في الأرجل الحافية.
ــــــــــــــــــــــــــ
✶ تحت الطبع : الكلمة من أجل الإنسان
لا تأتي قوة الكلمة من شقشقة اللغة، والتلاعب بالألفاظ ، وترفيع المؤدلجين الكذابين، وتغييب الكتاب الحقيقيين، بل من التعبير عن المعاناة العامة، وقضايا الوطن المتخثرة في الدهاليز والفساد وثقافة الكذب.
كلما امتلكت الكلمة سحر التعبير الشعبي، وصور البطولة اليومية ارتفعت في سماوات الأدب البشري الخالد.
الكلمة ليست حروفاً مجردة بل قوة تعبير سحرية عن مضمون شعبي مقاوم يتصدى للصدأ والغبار التاريخي ونشر الجهل، هي صور للبسطاء وهم يُدهسون في شوارع الحياة، وتصوير لأصابعهم وهي تتحرك ضد الحشرات.
ليس الكاتب الخائب، والصحفي المنعزل، ومروج الأكاذيب اليومية المليئة بالصواريخ الفضائية، بل الكاتب المدافع عن شعبه، المعبر عن تاريخه، عن قضاياه المضيعة في ثرثرات المثقفين، وورق الدجل اليومي.
هو من يصور في قصصه وقصائده ومقالاته ما يدور في الواقع، وليس من يصنع صوراً زائفة، ويتباهى باتصالات الوزارات، والمؤتمرات الفاشلة المقامة لسرقة الشعوب، يتباهى بالرسائل المصنوعة من الدوائر العامة الفاشلة، وإقامة علاقة رفيعة عليا مع الحرامية، بل هو الذي يعيش في زاوية العتمة وقلبه على الوطن، يُجلد ويُحبس ويتعطل ويُغيّب ولا تزال القضايا العامة تنبضُ في حروفه.
سجل كلماته أرشيف كاشف للبلد، للحارات، للمحرومين، لم يقل أنا طوال حياته ويعرض سفراته المدفوعة الأجر مسبقاً من فاشلين إدارياً، لو أُعطي تذكرة كشف أرقامها وكيفية صناعة الخداع فيها.
الصحف الفاشلة تموت، وسجل التمويه لو أستمر قروناً لا يصمد للزمن، والبلدان المقطوعة اللسان تتفجر وتتساقط حممها على الرؤوس، ويهرب كذابو الكلمات خارجاً حاملين الغنائم، وسجل الثورات الهائل يعري التحولات المذهلة حيث لم يبق طاووس مهما طال به الزمن، ولا يتعذب شعبٌ إلى الأبد.
الكلمة تتصحر بين أيدي المنافقين لا يجدون أنهم قادرون على الكلام، وببغاء واحدة أفضل صدقاً من مليون كاتب مزيف، لا يَسمع سوى السخرية من كلماته لأنه أصم وبلا معرفة تاريخية منفصم عن الواقع، يعيش في قصر من المرايا التي تعكس ذاته العظمى، ومن يملك ذرة من الصدق ينزوي ويحترم نفسه.
الكلمة نار الحقيقة إلى الأبد، ومن الكلمة نشأت الحضارات والرسالات، وظهرت الرموز والدساتير تشع للبشرية الخير والجمال، والمنافقون لديهم كافة مجلدات اللغة، وموسوعات العطاء المدفوعة، لكنهم غير قادرين على صنع كلمة واحدة مؤثرة تنزل في التربة الوطنية الشعبية التاريخية وتزهر.
لم يؤسسوا تنويراً
حديثُ الأنوارِ الذي ظل يبهروننا به، تصورنا إنه سوف تنبثقُ منهُ كتبٌ ومرجعياتٌ وموسوعات.
حين كتب الفيلسوف الفرنسي ديدرو موسوعته ورواياته أثرى الثقافة الإنسانية. لكن كيف كان سيفعل ذلك إذا لم ينعزل ويداوم على القراءة والبحث؟
كيف كان لجان جاك روسو أن يكتبَ إعترافاته ويُظهر جسدُهُ الروحي الحقيقي عارياً أمام البشر لو أنه إحتفظ بذرةٍ من غرور؟
كيف للفلاسفة والمفكرون والكتاب أن يمهدوا لتطور الإنسانية إذا بقوا في المستنقعاتِ ولم يصعدوا للجبال المعرفية الشوامخ؟
في الوعي العربي نشأتْ نماذجٌ من ذلك، كالعلامة العراقي (جواد علي) الذي حفر كثبان الجزيرة العربية الورقية اليابسة وكشف أخاديدها ووديانها التاريخية القديمة، بحيث تمكن الباحثون القادمون اللاحقون من السير نحو فهم العربية والإسلام والفلسفة؟
ولهذا فإن الخليج الثقافي يعيش ما قبل التنوير، ومع تأجج معاركه السياسية تبدو التربة الغضة لفكرهِ وثقافته، فالعربُ غيرُ عربٍ، والتحضرُ لم يتحول إلى تحضرٍ إلا في العمارة والأشياء، والمثقفون ليسوا مثقفين، والتنويورن ظلاميين، والغنمُ الاجتماعي أسرع لــ(المريس) النفطي يأكلهُ بسرعةٍ وشهوةٍ وحشيةٍ لا يريدُ حتى أن يبقي للأجيالِ القادمة إلا المباني النخرة والمؤسسات المحلوبة.
أول ما يمنع ظهور التنوير هو الإنتفاخات الشخصية، فالمسرحُ المليءُ بالشخوصِ المتضخمةِ يمنعُ رؤية أين يقع الظلام وكيف ينبثق النور.
حين تظهر المؤسساتُ ذاتُ المصروفاتِ الهائلة من أجل أن تشير لعظمة دولة لا تبقى دولة.
ثمة نفط وثمة غاز ولكن الغاز حين ينفخ البالونات ويطيرها في الهواء لكي يرى العالم كم يمتلك الخليج من بالونات ملونة رائعة، تنفجر من أي ضربة ريح.
كان يُفترض لأي تنوير أن يقف أمام المشكلات المحورية المفجرة للصراعات الدائمة ويكشفُ البقعَ المظلمةَ فيها.
لذلك أن الكتابَ والمبدعين يشكلون طلائع التحسس للأرض الشعبية وما فيها من حكايات وقصص وأمثال تكمن وراءها مشكلات البشر ومعاناتهم فتحدثُ هنا قراءات للإنسان الملموس الحقيقي، وليس الإنسان الموهوم المؤدلج، ومن هنا إمتلأت الموسوعات بمعرفة الشعوب.
لهذا فإن الفاعلين في الثقافة السياسية ظهروا كنبتٍ صحراوي، يغيبُ التحليلُ عن أعمالهم، وحين تحدث الأزماتُ الصاخبة وتُظهر الحصادَ الهزيل المريع، تتفجر لغةُ الشتائمِ والسخرياتِ والاحتقار والإلغاء وهم قبل قليل كانوا يتحدثون كلهم عن لغةِ الديمقراطية وإحترام الآخر وضرورة أن نصعد مثل بقية الدول حتى العربية منها إلى عالم الحداثة والديمقراطية.
لماذا حدث التغييب الكلي في زمن صعود أي طرف؟ لماذا تعني البلاغة الألغاء والدوس؟
بسبب إن التنوير وتعلم الديمقراطية وثقافة التعددية والتبادلية لم تصل إلى الداخل.
الدكتاتور في الداخل صعد وحصل على فرصة، وهنا سوف يلغي مظهر التنويري والموسوعي الزائف ويصيرُ(شوارعياً) بذيئاً، يعودُ إلى مستوى العامي الأمي البسيط المحترم في زمنهِ ولا يرددُ حكمَهُ بل شتائمه في حالةِ ضيقه ويأسه وتتحول أمثاله المُنتزعة من خبرته ومعاناته إلى زجاجات مسكورة في جسمه وروحه.
البلد الذي تضخم بالمباني والعلوم والمؤسسات يعودُ مثل (الفريج) العتيق المنقسم إلى ناحيتين وكلٌ منهما (تردح) ضد الأخرى.
الوعي لم ينحدرْ لأنه لم يتأسس، ولكن ثقافةَ (الردح) والاستعانة بــ(قبضايات) من الخارج، أظهرتْ أن ما تم النضال من أجله خلال عقود كأنه لم يكن، في ظل ثقافة التسييس الفاقع، وإنفلات الأعصاب، حيث عادت مناظرُ الشجارات في المقاهي ودور السينما الرثة، لكن بصورة مناطقية عالمية، وحدث الانكسارُ للمزهريات الصغيرة التي تجمعت فيها بعضُ الورود، وغاصتْ الشظايا في الأرجل الحافية.
ــــــــــــــــــــــــــ
✶ تحت الطبع : الكلمة من أجل الإنسان
Published on October 30, 2019 19:23
No comments have been added yet.


