عبد العزيز الخضر's Blog, page 7
November 22, 2014
نضال إعلامي ضد (حفرة) .. ومسؤولية الفرد
كانت بدايات الشهرة العالمية لقناة «سي إن إن» في الثمانينات قبل عصر الفضائيات بسبب تغطيتها المتواصلة لحادثة سقوط طفلة في بئر، وظلت
كانت بدايات الشهرة العالمية لقناة «سي إن إن» في الثمانينات قبل عصر الفضائيات بسبب تغطيتها المتواصلة لحادثة سقوط طفلة في بئر، وظلت محاصرة فيه نحو 58 ساعة، وواصلت تغطيتها للحدث لإنقاذها، وحدث تفاعل إنساني مع الحدث عبر إرسال مقترحات وأفكار لإنقاذها. تغطية الكوارث في الإعلام المتقدم بالرغم من أنها خدمة إنسانية كبيرة، إلا أنها أيضا سبب للنجاح والانتشار الإعلامي الواسع. ولهذا فالكوارث الإنسانية بحاجة إلى إعلام وأساليب تغطية خاصة لكل حدث، يدرك متطلباته في عرض المعلومة، والصورة والتعليق.
هل تزايدت أخبار السقوط المؤسفة في فتحات خزانات الصرف الصحي، والآبار المهجورة، أم إنها ما زالت في المعدل نفسه منذ سنوات مضت، لكن إعلام الأفراد الجديد فرض بث هذه الأخبار المؤلمة فور حدوثها للرأي العام. خلال الأشهر الماضية تفاعل الإعلام ومواقع التواصل مع عدة أحداث مؤلمة، من سقوط الطفلة لمى الروقي، والتي تفاعل معها الرأي العام فترة طويلة، حتى تدخلت الأحلام والرؤى. مرورا بحوادث أخرى.. إلى مأساة الشهر الماضي في سقوط طفل وتبعه والده لإنقاذه، وفي الأسبوع الماضي يأتي خبر آخر مؤلم لطالب المرحلة الثانوية بجدة.
مع كل حدث تنشغل البرامج والمقالات والتغريدات بالتفاعل الإنساني والتعاطف الإنشائي، يرافقه نقد انفعالي عشوائي تقحم فيه الكثير من القضايا والأمور النقدية في رؤية الفساد والموقف منه. هذه الانفعالات والتعبيرات الإنشائية الساخرة تتحول إلى منافسة تعبيرية أيهم أكثر سخرية، وأقوى نقدا خاصة في مواقع التواصل وبعض المقالات، ويشارك في مثل هذه الحفلات حتى المشتغلون في نقد وملاحقة المناضلين في ساحات أخرى، ليبدو وكأنه متوازن وعقلاني وصاحب مواقف في نقد للفساد. والمشكلة ليست في هذه المشاعر النبيلة والتفاعلات الغاضبة ضد المقصرين في أداء مهامهم العملية، والمطالبة بمحاسبة المسؤول.. على طريق صاحب الثامنة «يا جماعة الخير ملينا.. نبي مسؤول يحاسب». يبدو الخلل أن هذه البرامج الجماهيرية، والتغطيات الصحفية والمقالات وإعلام التواصل.. تفوت فرصة التوعية الفردية وإحياء ضمائر الجمهور، حول السلامة ومسؤولية الأفراد في ذلك، ودورهم الأخلاقي في التبليغ الفوري، ومتابعة الموضوع بأنفسهم لأي مشهد خطر على سلامة الأفراد، وأنه قد يكون شريكا في الجريمة أخلاقيا عندما يشاهد حفرة خطرة على سلامة الناس، ويتجاوزها دون تصرف مباشر ولحظي ومبادرة منه، وأن مجرد الشتم بينه وبين نفسه لمن تسبب بها وكتابة تغريدة، ليس حلا يخلي مسؤوليتة الأخلاقية في الخطأ لو تضرر أحد منها بعده.
إن لكل نوع من الأخطاء التي تتعلق بالسلامة، وتسبب كوارث إنسانية نقدا خاصا بها، فكوارث السيول مثلا تتحملها جهات محددة مباشرة، ولا علاقة لها بدور الأفراد كثيرا، إلا من يعرض نفسه لأماكن خطرة كالأودية وغيرها. في موضوع الحفر، وأغطية الصرف الصحي.. تتحمل جهات محددة المسؤولية، وأيضا الأفراد عليهم مسؤولية كبرى داخل الحي والشارع نفسه. من الناحية العملية ظهور حفرة وفقد أغطية وانكسارها متوقع في أي لحظة مهما كانت يقظة تلك الجهات التي يستحيل أن تكتشف الخلل فور حدوثه ودون بلاغ سريع من أحد، فالأحياء والأزقة مساحات واسعة جدا.. بحاجة لمبادرات من الناس أنفسهم، في الاهتمام بأصول السلامة وتبليغ الجهات. لاحظت في التغطيات الإعلامية المتعددة أخطاء مهنية كثيرة. فتصوير موقع الحدث.. ينقصه الكثير من المعلومات لتوعية الجمهور. الحفرة نفسها وشكلها ليسا مهمين لأن جميع الحفر في العالم متشابهة جدا. المهم المكان وطبيعته، حركة الشارع طوال اليوم، هل هناك مشاة يمرون من عندها. متى وجدت الحفرة، سؤال أهل الحي والقريبين من الموقع؛ سكان، أصحاب محلات.. واكتشاف المعدل الزمني لترك الحفرة الخطرة مكشوفة، وهل تم البلاغ عنها. تفاصيل كثيرة من المهم أن تصاحب هذه التغطيات لكشف جوانب كثيرة.. وتطور وعي الأفراد في السلامة ودورهم الأخلاقي والاجتماعي. كل هذا لا يبرر للمسؤول والمقاول.. وإنما يوثق أكثر نوع التقصير الذي حدث، ويعمق المسؤولية القانونية، ويطور الوعي في نقد البنية التحتية، بدلا من الصراخ والكليشهات السائدة في النقد والاستعراض اللفظي.
November 15, 2014
الطائفية.. بين الفكري والسياسي
هناك تداخل في معالجة الطائفية بين المجال السياسي، والمجال الديني والثقافي، يحدث معه أحيانا سوء تفاهم وخلافات بين أكثر من خطاب، واتجاه فكري لتحديد الأولويات بين رؤية وأخرى، ولهذا تبدو ضرورة التمييز بين كل مجال وتفهم شروطه الواقعية. ففي المجال الديني تمتد الرؤية اضطرارا لعمق زمني تاريخي سحيق لأكثر من ألف وثلاثة مئة عام،
هناك تداخل في معالجة الطائفية بين المجال السياسي، والمجال الديني والثقافي، يحدث معه أحيانا سوء تفاهم وخلافات بين أكثر من خطاب، واتجاه فكري لتحديد الأولويات بين رؤية وأخرى، ولهذا تبدو ضرورة التمييز بين كل مجال وتفهم شروطه الواقعية. ففي المجال الديني تمتد الرؤية اضطرارا لعمق زمني تاريخي سحيق لأكثر من ألف وثلاثة مئة عام، ولهذا التعامل معه أدواته العلمية، وإطاره الخاص بين الفقهي والتاريخي وأسباب تراكم الخلافات، وأسلوب معالجتها. من الخطأ أن يتعامل معه البعض بأوامر فوقية بدعوى تغييره.. ففي هذا المجال حتى الرمز الديني لا يستطيع التمرد عليه، بعجرفة وبلا منهج.. وإلا سيجد نفسه خارجه، ولا يضيف للإصلاح الديني شيئا جديدا، وقد حدث هذا لنماذج كثيرة.
في المجال الثقافي سيكون الحال أفضل وأكثر مرونة.. حيث النخب الفكرية من المفترض أن تكون متسلحة بمفاهيم الحداثة التي شكلت وعي العالم المعاصر في السياسة ومفهوم الوطن. هذه المفاهيم تحاصر الجميع بشروطها ومعاييرها بما فيه المجال السياسي والديني، وتفرض شئيا من الاقتراب لها. ولهذا هو أكثر المجالات قدرة على الحراك لصناعة خطاب ووعي في المجتمع مختلف وتجاوز.. للإشكاليات الدينية التاريخية، ومتغيرات السياسة وبراغماتيتها في المنطقة.
في الإطار السياسي لا مجال أحيانا للانتظار الطويل.. حتى تحل الإشكاليات التاريخية والدينية والثقافية، ولهذا هو الأكثر قدرة لحسم الكثير من القضايا العملية، والسيطرة على أي توترات في مسارات لا يمكن لغيره القيام بها. لكن أيضا هذا المجال محاصر بطبيعته في ظروف خاصة، فوضع القوانين والأنظمة لها حسابات مختلفة، والكثير منها لا علاقة له بأفكار وخطاب هذه الفئة أو تلك، وإنما تحكمها الشروط السياسية للتغيير، وتوازن القوى داخليا وخارجيا في كل مرحلة. يتذكر كثيرون كيف كان الاحتفاء بمبادرة الحوار الوطني عام 2003 م، وكيف فتحت سجالات وحوارات متفائلة، وكيف دفنت بعدها بركام هائل من متغيرات السياسة في المنطقة، وتلاشى مفعولها.
في المجال الديني وبالرغم من صعوبة التغيير فيه.. إلا أن هناك الكثير من الملاحظات التي يمكن للنخب من الفئة الدينية تفهمها، والتجاوب معها للمصلحة العامة. فمثلا في بيان «سعوديون بلا أقواس» والذي نشرته جريدة الشرق الأوسط في الأسبوع الماضي، تضمن دعوة عقلانية لعلماء الدين والدعاة والمحتسبين «بأن يمارسوا مسؤوليتهم في ألا يجلبوا مناظراتهم وجدالاتهم المُنافِحَة عن اجتهاداتهم وقناعاتهم إلى الساحة الإعلامية بكل المتاح فيها من وسائل، تقليدية وجديدة، وليُبْقوا مثل هذه المناظرات والمجادلات ضمن دوائرها المختصة» وهي رؤية تستحق الاحترام، والتجاوب معها. فهي ستمنع إقحام الجمهور في قضايا جدلية في التاريخ والفقه.. والتي بحاجة إلى خلفية علمية لا يملكها الفرد العادي، ولا حتى بعض النخب في المجتمع. ولهذا تجد الكتب المطولة في هذه السجالات منذ عقود طويلة لا أحد يتابعها إلا الباحثون الجادون، وحتى عناوين الكتب المشهورة لا تقرأ إلا من فئة مهتمة بهذا المجال. فعبدالله القصيمي بالرغم من شهرته، وشهرة كتابه «الصراع بين الإسلام والوثنية» لم يقرأه إلا قلة جدا من النخب. إن التمييز بين كل مجال وطريقة معالجة لهذه الإشكاليات.. يتيح مساحات أكثر للتغيير الإيجابي، إذا تجمد أحد هذه المجالات في ظروف زمنية خاصة.
November 8, 2014
السلم الأهلي.. وشبكة التواصل التحريضية
يستقبل عبر جواله الذكي العشرات من المقاطع بين فترة وأخرى، تتداول بين قروبات متنوعة، كل مقطع من دقائق معدودة.. مختار بعناية حول السنة والشيعة، لمتحدث ينتمي لرؤيته الدينية يهاجم فيه آخرين بحماسة شديدة، ويتحدث عن مؤامراتهم، ومقاطع أخرى مختارة من كلام الخصوم وهم يهاجمون مذهبه وشخصياتهم. المئات والآلاف من المقاطع الموبوءة تتجول بين الملايين من العقول بوعيها التقليدي منذ سنوات،
يستقبل عبر جواله الذكي العشرات من المقاطع بين فترة وأخرى، تتداول بين قروبات متنوعة، كل مقطع من دقائق معدودة.. مختار بعناية حول السنة والشيعة، لمتحدث ينتمي لرؤيته الدينية يهاجم فيه آخرين بحماسة شديدة، ويتحدث عن مؤامراتهم، ومقاطع أخرى مختارة من كلام الخصوم وهم يهاجمون مذهبه وشخصياتهم. المئات والآلاف من المقاطع الموبوءة تتجول بين الملايين من العقول بوعيها التقليدي منذ سنوات، وتقتحم هذه المقاطع ذهنيتهم، وتشحنهم بأفكار ومعارك تاريخية، وسجالات ليسوا من المؤهلين لها. الحقيقة الواقعية أن كثيرا من أفراد المجتمع لا يجلسون الساعات الطوال لمتابعة قنوات التحريض هنا أو هناك، وليست جذابة لهم، ولا ملاحقتها في الإنترنت واليوتيوب، فلا تتابعها إلا نوعية محددة، وقليل من الجمهور من كل فريق. إذا تأملت حولك من الأفراد العاديين ستجد الكثيرين اهتماماتهم بأشياء أخرى، بعيدة عن هذه القضايا. لا يلاحقون هذه الفضائيات الشعبوية الموجهة لصناعة خطابات متوترة ضد الآخر، وهم في الحقيقة لا تعنيهم حتى الفضائيات القوية ذات النفوذ والحضور.
تبدأ المشكلة من خدمات التوصيل التلقائية.. لهذه المقاطع التي يرسلها للأسف الكثيرون بدون وعي وتفكير بخطورتها، وأحيانا من أشخاص يفترض فيهم الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية. هذه المقاطع هي الأخطر في التأثير على السلم الأهلي. فهي لا تقدم معرفة أو علما.. وإنما كبسولات لشحن أذهان فارغة. هذه المقاطع المعلبة والمشحونة بخطابات غوغائية تقتحم هدوءهم.. بنغمة “واتس ابية” بدون إذن ولا فائدة، فلا تقدم علما شرعيا مفيدا لأحد، يقال فيها ما يرى أنه صواب في العقائد والمفاهيم الإسلامية بهدوء دون شتائم وتحريض على الآخرين، وإذا تأملت محتواها.. ستجدها مجرد تكثيف متراكم للأحقاد بلا وعي. ومما يساعد على تناقل بعضها بصورة أكثر وأسرع انتشارا أن يكون المقطع متضمنا ما هو مثير للسخرية والضحك.. من أحد الحمقى من أي طرف، لفضح الآخر وجهله.
حادثة الأحساء في الأسبوع الماضي.. مثيرة لقلق من نوع خاص، فهذا النوع من العمليات من أخطر أنواع الإرهاب، فهي قد تبدو عشوائية، لكنها تستهدف بدقة فتح مسار آخر من المواجهة، تصعب السيطرة عليه، حيث تصبح فيه الأهداف المدنية متاحة في أي مكان وأي شارع. في العقدين الأخيرين أصبحت قطع الخرسانة التي تحيط بالكثير من المنشآت والمؤسسات لحمايتها جزءا من تصميم هذه المباني، وأحد علامات المرحلة الماضية. في حماية السلم الأهلي أين ستضع هذه الخرسانة.. هل سيكون لكل مواطن قطع من هذه الخرسانة لحمايته.
ولهذا يبدو رعب الدول والمجتمعات من الحروب الأهلية في تدمير مجتمعاتهم، ومن أهم مقومات الحفاظ على السلم الأهلي رفض كل أشكال التحريض في المجتمع، وعدم صناعة مبررات لها داخلية أو خارجية. وهذا لا يعني عدم وجود اختلافات بالآراء والأفكار.. وليس مطلوبا منك ألا تحافظ على مفاهيمك الدينية التي تراها صوابا، وتدافع عنها وتدعو إليها، فهناك فارق كبير بين الخطاب الفقهي والفكري والدعوة إلى “سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”، وهذه الأصوات الغوغائية التي تشحن جزءا من أفراد المجتمع ضد بعضه، عبر أدوات سميت بـ”وسائط التواصل الاجتماعي”!
November 1, 2014
الخداع في شروط التنمية
مع تراكم الفشل العربي، وتعثر النهوض والتنمية من عقد إلى آخر، تتيح هذه الأجواء لنوعية من الخطاب النمطي عن الفرد العربي، يقدم فيه أنواعا كثيرة من التحطيم والجلد للشخصية العربية، وتحميلها مسؤولية التخلف، وأنه «مفيش فايدة». هذا الميل النقدي للشخصية والفرد العربي، يكون مقبولا عندما يأتي في سياق دراسات وأبحاث دينية واجتماعية ونفسية واقتصادية محترمة، لكشف بعض الجوانب الشخصية وميزاتها وعيوبها، ودورها في مسألة التخلف والنهضة، وهذا ما وجد فعلا في كثير من القراءات النقدية منذ أكثر من نصف قرن، لكن عندما يتحول هذا الميل إلى نوع من الكتابات التحقيرية والهجائية التي تريد أن تكرس الفشل التنموي، وتحمله بصورة إنشائية على الفرد والمجتمع، وأننا بحاجة لأزمنة عديدة مفتوحة.. حتى نكون مؤهلين للنهضة والتطور.
مع تراكم الفشل العربي، وتعثر النهوض والتنمية من عقد إلى آخر، تتيح هذه الأجواء لنوعية من الخطاب النمطي عن الفرد العربي، يقدم فيه أنواعا كثيرة من التحطيم والجلد للشخصية العربية، وتحميلها مسؤولية التخلف، وأنه «مفيش فايدة». هذا الميل النقدي للشخصية والفرد العربي، يكون مقبولا عندما يأتي في سياق دراسات وأبحاث دينية واجتماعية ونفسية واقتصادية محترمة، لكشف بعض الجوانب الشخصية وميزاتها وعيوبها، ودورها في مسألة التخلف والنهضة، وهذا ما وجد فعلا في كثير من القراءات النقدية منذ أكثر من نصف قرن، لكن عندما يتحول هذا الميل إلى نوع من الكتابات التحقيرية والهجائية التي تريد أن تكرس الفشل التنموي، وتحمله بصورة إنشائية على الفرد والمجتمع، وأننا بحاجة لأزمنة عديدة مفتوحة.. حتى نكون مؤهلين للنهضة والتطور.
خطورة تنميط هذه الأفكار ليست فقط أنها تبرر الوضع السائد، وأن المشكلات ليس لها حل، وأن هذا قدرنا، وإنما في قتل إرادة التغيير في العمق، وتكريس مفاهيم مغالطة لشروط ومتطلبات التنمية والنهوض، التي أكدتها تجارب تنموية عديدة في كل منطقة من العالم، ومن ثقافات وأديان متعددة. للأسف ارتبط التنظير العربي حول هذه القضايا بوعي مخادع ومسيس يريد أن يقلب الهرم في أولويات التنمية، وأصبح موجها بين رؤية كانت تؤصل للانقضاض على السلطة، ورؤية مقابلة لها تريد أن تقلب حقائق حول متطلبات الاقتصاد والنهضة. التنمية والنهوض مسؤولية مؤسسات لا أفراد، والحديث عن أهمية ودور الفرد في التغيير مناسب في قاعات التعليم والتربية والوعظ والإرشاد لتحميله المسؤولية، وتأهليه لينخرط في مؤسسات كبرى يسهم فيها مستقبلا، وليس لتضليله والتغرير به بأنه سيغير العالم من حوله بمفرده، وتحميله هذه المهمة التاريخية. الخطأ يبدأ من وضع أهمية الفرد في غير مكانها.. في شروط التنمية، ولهذا تطرح أسئلة مضللة من نوع.. أين الخلل في الفرد أم المؤسسة!؟ ومن هنا يبدأ التنظير المغالط عن أفراد المجتمع وتعميمه عليهم، فيحملون مسؤولية ومهاما لا علاقة لهم بها، ففشل العديد من المؤسسات والوزارات في المجتمع هو فشل القيادات فيها.. وإذا كانت هناك مسؤولية فردية.. فيجب أن يكون الفرد هنا محددا، أين مكانه ومسؤوليته في المؤسسة، وليس كائنا هلاميا في المجتمع..! والدليل العملي على أن المجتمع غير مسؤول، هو وجود مؤسسات أخرى ناجحة، وتقاوم التخلف العام. ولهذا عندما يتحول المخطط والمسؤول الإداري والاقتصادي والسياسي.. أو المثقف بالنيابة عنهم.. إلى منظر إنثربولوجي يريد أن يحمل فشله إلى مقولات نمطية عن التخلف، وغيبيات تاريخية في بنية المجتمع فهو تضليل من الناحية العملية، وهروب من المسؤولية، وتبرير للفساد في مؤسسته. لهذا فالحديث عن تنمية الدول هو في الواقع حديث عن مؤسسات وقياداتها. الفرد يكون مؤثرا وله معنى في تحمل المسؤولية عندما يكون قائدا.. ولهذا تجد المؤسسات والشركات الكبرى شديدة الدقة في اختيار قياداتها الناجحة بدون مجاملات وتلاعب لأن هذا سيؤثر على مسار ومستقبل المؤسسة. في تجربة الدول ونهوضها.. تبدو حالة ألمانيا الشرقية والغربية سابقا، والآن تجربة كوريا الجنوبية مقارنة بكوريا الشمالية من أقوى الأمثلة على أن التقدم صناعة وسياسة مؤسسية وقيادات ناجحة صنعت التغيير، وليس ثقافة الشعب والفرد. واستطاعت تجربة إمارة دبي أن تخلق نموذجا عربيا يستحق التأمل في دور المؤسسة وإدارتها وقياداتها، فهل هناك مسافات حضارية كبرى.. بين الفرد في إمارة الشارقة، والفرد في إمارة دبي. للأسف هناك نظرة رومانسية للتقدم يتورط بها بعض المثقفين والكتاب. التأمل في الشعوب وثقافاتها يفيد في تطوير الخطط التنموية، ووضع الخطة المناسبة لكل مجتمع، لكن لا يوجد مجتمع غير قابل للتطور إذا توفرت له شروط موضوعية ومادية، وهذا ما أكدته تطورات القرن الماضي في قارات مختلفة. في كأس العالم الأخيرة.. عندما تم تداول صورة أحد أفراد الجمهور الياباني وهو ينظف مدرج فريقه، ظهرت التعليقات والمدائح لهذا المشهد وثقافة الشعب وربطها بالتقدم.. ومع أن الصورة لا تظهر الجمهور نفسه وإنما فرد وفردين، هم من يقومون بتنظيف مدرج زملائهم اليابانيين الذين قاموا برمي هذه الأوساخ! ولهذا إذا كان هناك مدح فيوجه للمؤسسة، ومن يدير بعثة الفريق الياباني وجمهوره الذي يكلف أحد أفراده بتحسين مظهرهم.
من يعرف تاريخ الجماهير الكروية وعنفها، فلا يوجد أشهر من عنف جمهور فريق ليفربول الإنجليزي، وكيف أدى عنفه في منتصف الثمانينات إلى حادثة مفجعة تسببت في قتل العشرات في مباراة فريقه مع يوفنتوس الإيطالي، وكيف صدرت العقوبات بحقه وحق الفرق الإنجليزية الأخرى حينها. فهل هذا دليل على تخلف بريطانيا وشعبها.
October 25, 2014
تجاوز الندرة..في تحولات المرأة السعودية
ما عجز عنه النفط من تغيير في بعض المسارات خلال أكثر من نصف قرن، جاء مع عصر الايفون وتطبيقات مواقع التواصل في سنوات قليلة. كان من أهم ملامح تطور نخب نسائية في مجتمعنا هو ندرتها العددية منذ السبعينات بالرغم من توسع التعليم لعدة عقود، حيث انحسر ظهورها في منابر ونشاطات محددة كالصحافة والثقافة، لضيق المساحة المتاحة في المجال العام، فحتى نهاية التسعينات الماضية كانت حالة التغيير في حياة المرأة شبه مجمدة في إطار محدد مع استمرار التوسع في تعليمها.
ما عجز عنه النفط من تغيير في بعض المسارات خلال أكثر من نصف قرن، جاء مع عصر الايفون وتطبيقات مواقع التواصل في سنوات قليلة. كان من أهم ملامح تطور نخب نسائية في مجتمعنا هو ندرتها العددية منذ السبعينات بالرغم من توسع التعليم لعدة عقود، حيث انحسر ظهورها في منابر ونشاطات محددة كالصحافة والثقافة، لضيق المساحة المتاحة في المجال العام، فحتى نهاية التسعينات الماضية كانت حالة التغيير في حياة المرأة شبه مجمدة في إطار محدد مع استمرار التوسع في تعليمها.
واجه تشكل النخبة النسائية ظروفا مختلفة عن عالمنا العربي، أخرت حضورها العددي وتنوعها، وظلت المقالة الصحفية والظهور الإعلامي التقليدي هو المتاح لظهورها في المجتمع العام.
ربيع المرأة السعودية الحقيقي والأوسع تأثيرا بدأ مع ظهور الانترنت وتطور تقنية الاتصال، وتجاوزت بذلك حواجز اجتماعية ودينية وسياسية، وكسرت عزلتها، والتي ربما ستتأخر زمنا أطول في متاهة صراعات وحسابات لا نهاية لها.
الانترنت في حالتها البدائية ساهمت في أولى سنوات ظهورها في حدوث وعي جديد، واحتكاك وتمازج الوعي بين الجنسين خلال التفاعل اليومي مع كل قضية وحادثة في المجتمع، وتجاوز مشكلات مسألة الاختلاط، وأعادت تأسيس قيم أخرى لمفهوم العيب الاجتماعي. بدأت تظهر شخصية المرأة السعودية للمجتمع على حقيقتها، وأصبحت طريقة تفكيرها وهمومها وتفاعلها مع قضايا الشأن العام بدون وسيط يعبر عنها.
الطفرة الأهم التي أدت إلى اتساع دوائر الاتصال واشتراك مختلف النساء والأعمار ومستويات التعليم حدثت مع انتشار الأجهزة الذكية، ومواقع التواصل وتبادل الصور الحية، فخلال سنوات قليلة بدت طفرة تغيير داخلية في بنية الأسرة التقليدية وسلوكياتها، وتبادل ثقافي اجتماعي كبير في العادات اليومية والحفلات والسفر، وكسر الحدود بين الأسر المحافظة والأسر الأكثر انفتاحا، وتأثرت الأسر المتوسطة الدخل بتفاصيل عادات الأسر الغنية.
فقد تحول السفر السياحي إلى الخارج إلى مجال تنافسي بين الكثير من الأسر، وتبادل صور الرحلات. ومع أن السفر إلى الخارج ظل موجودا منذ السبعينات وكان محصورا عند أسر محدودة، لكن مرحلة الصحوة بين منتصف الثمانينات ومنتصف التسعينات تحديدا، قدمت خطابا مقاوما لهذه العادة الصيفية، فأصبحت بعض الأسر تخفي سفرها إلى الخارج لأنه قد يؤثر على سمعتها، بعكس الآن الذي أصبح فيه السفر جزءا من البريستيج الاجتماعي.
هذه التحولات أظهرت سمات جديدة تميز خطاب المرأة السعودية في هذه المرحلة من أجيال مختلفة، برزت في قوة الشخصية، والثقة في التعبير عن الرأي، والجرأة في الطرح مع السخرية اللاذعة، والأهم تنوع الاهتمامات والقضايا، فلم تعد منمطة في مواضيع محدودة كما كان في الماضي، احترام لدور الرائدات في قضاياهن، وعدم ظهور صراع أجيال في العلن، يقدم العديد من الأسماء التي لم تعرف عن طريق الصحافة والإعلام التقليدي خطابا نقديا سياسيا واجتماعيا متقدما، مع صعوبة التصنيف الأيديولوجي التقليدي.
أهم ما يميز الخطاب الجديد الاتجاه العملي في تناول القضايا، وخلوه من الاستعراض والإثارة والمشاحنات الجانبية التي تسطح القضايا، وهذا ما نشاهده مثلا في انضباط خطاب المطالبة بالسماح بقيادة السيارة، حيث لم تستفز المشاركات لخروج المطلب من إطاره كقضية خدمية كغيرها من القضايا لمواجهة متطلبات الحياة اليومية، بعيدا عن الصراعات الدينية والسياسية بالرغم من محاولة البعض أثارتهن والتحريض ضدهن. أصبح الخطاب واقعيا، مع عدم التظاهر بالتمرد النضالي من أجل التمرد والاستعراض، وعدم الإغراق في نقد المجتمع والتباكي عليه كما في خطابات قديمة للظهور بمظهر متحضر ومتعال عليه، والإغراق في الجانب الديني لتحميله مسؤولية التأخر، فهناك اتساع في رؤية الأسباب بعيدا عن التنميطات الموجهة.
ولم يكن هذا التغيير المتسارع ليحدث لو أنه لم يحدث تغير اجتماعي يسمح لشرائح واسعة من نساء وفتيات المجتمع بالتواجد في مواقع التواصل، واستعمال مختلف تطبيقات الأجهزة الذكية. فالتقييم الاجتماعي الآن تجاوز شكليات معينة، وأخذ يهتم بمضمون المشاركة في قضايا الشأن العام في النقد السياسي والاجتماعي والديني.
October 18, 2014
في تفخيم الحركات الجهادية
يختلف أسلوب التفخيم لهذه الحركات عن أسلوب التضخيم، كما هو في الإعلام الغربي الذي له طريقته وأجندته، ولكل مؤسسة إعلامية طريقتها.
يختلف أسلوب التفخيم لهذه الحركات عن أسلوب التضخيم، كما هو في الإعلام الغربي الذي له طريقته وأجندته، ولكل مؤسسة إعلامية طريقتها.
لو كان خلف سقوط الطائرة الماليزية فوق أجواء أوكرانيا جهات عربية أو إسلامية لتناولها الإعلام الغربي بصورة مختلفة، ولأخذت زمنا أطول في تغطيتها.
الأنظمة العربية لها أسلوبها منذ الثمانينات لتوظيف ذلك في مواجهة أي استحقاقات سياسية قبل أن تلقى مصيرها مع متغيرات هذا العقد. ومع هذا فإن بعض حالات التضخيم كان لها أسباب معقولة، ويبررها الواقع كما حدث مع توابع سبتمبر.
التفخيم لهذه الحركات نوع آخر ومختلف من الطرح الإعلامي والصحفي برز منذ بداية العقد الماضي في تناول الظاهرة الجهادية، يأتي تحت غطاء التحليل السياسي والفكري من نخب ليست محسوبة عليها، وقد لا تصنف أنها تحمل أيديولوجية مقاربة لها. لكن الميول النضالية، والاستمتاع بالحكي الثوري ضد الغرب وأمريكا له جاذبيته عند أكثر من اتجاه عربي.
يبدو عبدالباري عطوان في مرحلة مضت أحد الوجوه التي تفخم هذه الظاهرة، وتتناولها بأسلوب تبجيلي في مواجهة أمريكا وغطرستها، وبأن أمريكا فشلت، وعجزت في مواجهتهم، فيستقبل جمهور هذه الرسالة في لا وعيه وكأن هؤلاء أبطال فعلا، واستطاعوا هزيمة قوى الاستكبار!
عبدالله النفيسي تفوق على عطوان.. بعرضه المسرحي في لقاءاته القديمة مع أحمد منصور، وأطلق مصطلحه الشهير: “غزوة منهاتن” الذي خلق حالة إعجاب بالنفيسي وجمهورا جديدا له، وكنت أشرت له حينها بأنه يبدو وكأنه محمد حسنين هيكل “للقاعدة”.
في تلك الفترة وجدت أصوات تفخيمية كثيرة للقاعدة في الانترنت، الكثير منهم ابتلعوا كلاما ضخما كانوا يقولونه.. بعد أن شاهدو العبثية والخراب الذي تصنعها مثل هذه الظواهر.
الخلل هنا ليس في أسلوب التعبير الذي هو حق للجميع، وإنما في المغالطات وتشويه الواقع بمثل هذا الطرح، ودوره في التضليل الشعبي من هؤلاء النخب. ويتوهم البعض بأن لهؤلاء منجزات فعلية أفادت الشعوب العربية، وصنعت تغييرا سياسيا، ويتجاهل هؤلاء مسارات الخراب والدمار الطويل على كل شعب وجدت عنده هذه الظاهرة ودورها في إفساد المناخ السياسي.
يضخمون جانب النكاية بالخصم وهو عمل تستطيع أي عصابة القيام به وبإمكانات أقل، وبدون شعارات دينية وليس صعبا أن تجد من كل مئة ألف من يتأثر وينضم إليهم، من أكثر من مليار مسلم.
وبالرغم من أن طالبان كانت فرصتها أقوى في تكوين دولة واستمرار نظامها، لكن إيواءها لرموز القاعدة.. أنهى تجربتها السياسية القصيرة، ومع ذلك لم تجد تفخيما كما حظيت به داعش، وكانت طالبان تتهم منذ بدايات ظهورها بأنها تدعم من استخبارات دول معينة.
ولولا حالات بث قطع الرؤوس على الطريقة الداعشية، لوجدت “داعش” كتابات تفخيمية لها بصورة أكبر.
في الأسبوع الماضي يتناول الكاتب (حسن أبو هنية) هذه الظاهرة بأسلوب مطول وتفخيمي بداية من العنوان “الجهادية العالمية والعولمة: من النكاية إلى التمكين” إلى محتوى المقال الطويل، عبر مقدمة مليئة بتعبيرات تجميلية. ويتحدث عن هذه الظاهرة بأنها “كانت تؤسس لمنظومة جهادية... تسعى لرفع الهيمنة الغربية عن المنطقة العربية..”.
ويستمر بمثل هذا التبجيل عبر التحليل السياسي بالرغم من أنه يستدرك في فقرة قصيرة.. بأن نتائج 11 سبتمبر “أدت إلى نتائج كارثية على خلاف توقعات تنظيم القاعدة” تضيع في متاهات مقال ممتلئ بتفخيم الظاهرة. من خلال سرد للعديد من الأماكن التي تلاشت فيها سلطة الدولة والأنظمة، وكأن التحرك في هذه الفراغات الشاسعة عمل عظيم، وليس مجرد فراغات ستوجد فيها أي تنظيمات مسلحة جهادية أو غيرها.
مع هذا التفخيم يقدم البعض طرحا آخر من خلال رؤية إصلاحية وحقوقية، وما يتوهم أنه تخويف للأنظمة العربية، وبأن عدم الإصلاح والتضييق على الحريات الفردية يقود إلى العنف والإرهاب، ليخوفها من هذا المصير! ومع أنهم يقدمون في طرح آخر بأن هذا المسار من خلال مشروعات العنف هو الذي ينقذ بعض هذه الأنظمة ويخلق لها غطاء أخلاقيا ولو لم يوجد لعملت على صناعته بطريقتها.
October 11, 2014
المصرفية الإسلامية.. بين مرحلتين
سيشهد سوق المال السعودي في الأسبوع القادم اكتتابا ضخما لأحد أكبر البنوك السعودية.. والذي طال انتظار الاقتصاديين له منذ سنوات، وقد اعتذرت أربعة مصارف إسلامية عن تسلم طلبات الاكتتاب نتيجة لرأي الهيئات الشرعية التابعة لها.
سيشهد سوق المال السعودي في الأسبوع القادم اكتتابا ضخما لأحد أكبر البنوك السعودية.. والذي طال انتظار الاقتصاديين له منذ سنوات، وقد اعتذرت أربعة مصارف إسلامية عن تسلم طلبات الاكتتاب نتيجة لرأي الهيئات الشرعية التابعة لها.
ما يلفت النظر نشر هذا الخبر عبر تقارير صحفية محلية من دون توتر أو حساسيات، وأصبح مجرد خبر عادي غير مثير، فلم تعد مثل هذه الأخبار تضيف بريقا لطرف على حساب آخر، فقد أصبحت المحصلة النهائية لتقييم الفوارق بين البنوك التقليدية والإسلامية وفق مصطلحات السوق الحالية، محصورة في أشياء محددة، وجزئيات الكثير منها ليس متفقا عليها.
لم تكن مشكلة البنوك التقليدية سهلة على الوعي المسلم المعاصر والنخب الدينية، فقد شكلت لهم مأزقا وتحديا حضاريا لم يعرفوا كيف يتصرفون أمامه. وتمثل تجربة المصارف الإسلامية نموذجا جيدا في كيف أن الفقيه والواعظ التقليدي لا يعتمد عليهما في مبادرات من هذا النوع، فلم تنجح هذه المصارف إلا من خلال عقليات تجارية بحتة ومتدينة، وقد واجهت الكثير من العوائق في البدايات، قبل أن يقتنع الكثير منهم بقيمة هذه التجربة الآن.
وقد اضطرت الدولة في البدايات أن تكون متشددة وصارمة لتأسيس بنوك عصرية قبل أن تنضج هذه التجربة التي استفادت من هذا الحزم، وهي نموذج لأهمية القرار السياسي في مواجهة مثل هذا النوع من الإشكاليات المبكرة.
لكن هذه التجربة بالرغم من كل الملاحظات عليها، والنقد الذي وجه لها منذ البدايات، فقد واجهت أزمات عديدة مع العقليات المتشددة دينيا وهي قصة بحد ذاتها، وأزمة مع خصومها من تيارات أخرى. تكمن أهميتها الآن مهما كان موقفك منها في أنها تجربة إسلامية شبه مكتملة أخذت فرصتها في بيئات نفطية كغيرها، وانتهت ذهنية المؤامرة عليها، وأصبحت تواجه النقد لها والتحدي التجاري كغيرها، وتحولت فكرتها إلى نموذج مربح ومغر حتى للبنوك التقليدية! ولم يؤثر عليها النقد الكلامي العام، مثل غيرها من قضايا الإسلاميين، فالجدل الاقتصادي بحاجة إلى أدوات ومصطلحات نخبوية دقيقة، لا يملكها هواة الإثارة الصحفية.
بعد أكثر من أربعة عقود تبدو تجربة المصرفية الإسلامية ثرية بالممارسة والعديد من التفاصيل والتحديات الخاصة بها، وتراكم خبرات لأجيال عديدة، وتدير أصولا مالية ضخمة تفوق 300 مليار دولار، وتنتشر جغرافيا في مساحات واسعة من العالم.
وتشير التقديرات إلى أن منطقة الشرق الأوسط والخليج تستحوذ على حوالي s من النشاط المصرفي الإسلامي. رؤية هذه التجربة الآن تختلف عنها في السبعينيات والثمانينيات. والأسئلة التي تواجهها في الحاضر والمستقبل أصعب منها في البدايات وهو عكس ما يتوقع المتابع لمراحل تطور الظاهرة.
أتذكر في مراحل مبكرة، وقبل نضج هذه التجربة كيف كانت تجذبنا الكتب والدراسات التي تقارن بين الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي مع الاقتصاد الإسلامي، فهل اقتربت هذه البنوك الآن من نموذجها الإسلامي المتخيل أم أنها رأسمالية محجبة؟! وهذا بدوره يعيد الكثير من النقاشات الاقتصادية التي تثار حول حقيقة الاقتصاد الإسلامي الذي نظر له منذ الخمسينات!
لم يعد السؤال الآن: هل التجربة ناجحة أم لا؟، وإنما: ناجحة لمصلحة من؟ للمستثمر وليس للعميل الذي يدفع زيادة تكلفة تجنبه الحرام حسب تعريفات الفقيه المرتبط بهذه البنوك، ولا يوجد مقابل من البنك الذي يراهن على التزام العميل بهذه الآراء الفقهية، ولهذا فإن السؤال عن كفاءتها الإدارية بحاجة لدراسات تفصيلية، وقد يساعد الانتشار الأفقي لها وتعددها على اختبار قدراتها الإدارية من خلال المنافسة بينها. يشير د. محمد بوجلال إلى أن: معظم النقد الذي يوجه لهذه البنوك الآن من الاقتصاديين الإسلاميين يتمثل في أنها لم تستطع الانتقال من «الهامش المعلوم» إلى مرحلة «المشاركة» في الأرباح والخسائر، امتثالا للشعار الذي نادت به عند نشأتها، حيث تشير الأرقام إلى أن من تمويلات المصارف الإسلامية تتم في إطار صيغ الهامش المعلوم.
فهل انتصرت المصرفية الإسلامية لشعارات الاقتصاد الإسلامي الذي نظّر له مفكرون إسلاميون في هذا العصر أم ابتعدت عنه؟ وهل حافظت على جاذبيتها القديمة أم تغيرت النظرة لها؟ وما نوع الورع الفقهي المستعمل في تعامله مع الجشع التجاري؟
الكثير من الأسئلة لا يمكن أن تجيب عليها ذهنيات مشحونة ضد التجربة، وتريد أن تضخم العيوب، ولن يجيب الاقتصادي المتعاطف مع هذه التجربة، ولن يجيب عليها الفقيه التقليدي وحتى البنكي المشغول بفقه معاملات مطور لإجراء مقارنات بيوع حديثة وقديمة في تراثنا الفقهي، وإنما هي بحاجة لوعي يملك فكرا اقتصاديا حقيقيا مستقلا عنها، لتقييم التجربة وتحديد الفوارق بينها وبين البنوك التقليدية وتأثيرها الاقتصادي في المجتمع.
October 4, 2014
أخطاء في تقدير حجم المشكلات
شاهدت مقدم أحد البرامج اليوتيوبية يعرض إحصاءات وأرقاما عن إدمان المخدرات، والانتحار والسرقة والعنف الأسري في مجتمعنا
شاهدت مقدم أحد البرامج اليوتيوبية يعرض إحصاءات وأرقاما عن إدمان المخدرات، والانتحار والسرقة والعنف الأسري في مجتمعنا.
كثيرا ما نقرأ إحصاءات عن مشكلات متنوعة عبر مقالات وخطب منبرية وتغريدات وغيرها.
ما هو لافت استعمال مثل هذه الأرقام للنقد والوعظ والتباكي دون أن يكون مقدم هذه الأرقام لديه وعي بتفاصيلها، وقدرة على فهم حجم الأزمة من خلال مقارنات متنوعة حول العالم.
وكيف تمت عملية التقدير والإحصاء، وماهي الجهة التي قامت بهذا.
إذا كان هناك خلل في ثقافة التعامل مع الأرقام لتقدير حجم المشكلات في مجتمعاتنا، فكيف بتلك القضايا التي يصعب تقديرها بأرقام، وتعتمد على الخبرة والحدس الفردي، الذي يتطور بالمتابعة والتأمل.
كيف يندهش البعض من أرقام بمجرد سماعها، والمدهش أكثر من يعرضها للجمهور وهو ليس لديه أي خلفية عنها! الأرقام لا معنى لها إلا إذا توفرت المعلومة بصورة متكاملة، أو أن لديك خبرة في هذا المجال أو ذاك.
بمعنى لو خفضت بعض الأرقام إلى النصف أو ضاعفتها فلن يشعر بالفارق إلا من يمتلك معرفة تراكمية في الموضوع.
فأي رقم - مثلا- حول أعداد المنتحرين لو عرض عليك..فلا معنى له بدون مقارنات بين أرقام من الماضي والحاضر لعدة عقود، أو مقارنة مع دول قريبة أو بعيدة.
يلجأ بعض المثقفين والكتاب دون شعور بالخطأ لتضخيم القضايا والمسائل التي يطرحونها، حول العديد من الظواهر الاجتماعية والدينية لعرض نقدهم.
يتوهم البعض أن طرحه لا يكون مهما وخطيرا إلا إذا بالغ في تضخيم المشكلة التي يتناولها، وتصويرها بأكبر من حجمها.
فتحولت لديهم إلى ممارسة تلقائية.
التضخيم يجعله يبدو المنقذ والنذير لحلها كواعظ لقومه.
الادعاء بأنها سائدة ومنتشرة في المجتمع يوهم بقيمة ما يطرح، والواقع أن القضايا والأمراض ليست بحاجة لهذا الأسلوب.
أي مرض في المجتمع مهم تناوله، ونقده حتى وإن كان محدودا جدا، وأي خلل أوموقف متطرف، أو رأي شاذ يستحق مناقشته دون الحاجة إلى الادعاء بأنه رأي شائع في المجتمع.
قبل فترة تضررت إحدى الحدائق الجديدة بوجود تجمعات شبابية وازدحام زوار، ومع التجمهر والازدحام يحدث أحيانا فوضى متوقعة.
عندما حدث تخريب من مراهقين، لاحظت أن ردة الفعل عبر مواقع التواصل مبالغ فيها، والهجوم ليس على هذه الفئة أو المجموعة، وإنما تحول إلى المجتمع وتخلفه بصورة مفرطة، وأننا لسنا كفؤ مرافق حضارية! مع أن الرؤية المتزنة تدرك أن هناك آلاف الحدائق منذ سنوات طويلة تبدو بشكل جيد، ونشاهدها في أحيائنا، لا تتعرض لأي تخريب، ولا نخاف عليها إلا من المقاولين إذا زادت الميزانية بتكسير بلاط هنا أو إزالة أشجار هناك، بهدر مالي غير موفق.
فمشكلة هذا النقد أن رؤيته للحدث مشوشة، ويسهل تعميمها بسهولة على المجتمع والشباب وكأن الهمجية هي الأصل.
مثال آخر.
مثقف يتعرض لنقد وهجوم من شاب متحمس في تدينه، ويهاجمه بتطرف، وأحيانا باسم مستعار، فيبدأ هذا المثقف بالتباكي، وأنه لا فائدة من هذا المجتمع، ويسرد معاناته والآلام التي يواجهها لتنويرهم، بالرغم من أنه في حياته اليومية يستقبل باحترام وتقدير من شرائح عديدة في مجتمعه.
في حواراتنا أصبح من الممل التحذير من التعميم، فيتم التحايل عليها بأسلوب يوهم بالدقة “لا أعمم ولكن..”! مشكلتنا ليست بالتعميم لأنه خطأ مكشوف، وإنما في تقدير حجم المشكلات التي نتناولها، ووضعها في إطارها الصحيح.
ظهور “داعش” مثلا بشكلها العبثي، أنقذ بعض الكتاب العرب..من إفلاسهم في فهم وتناول المتغيرات العربية الكبيرة، فوجدوا فيها ملاذا لتفريغ هجائهم ونقدهم للمجتمع العربي وظلاميته، وكأن “داعش” معبرة عنه، بدلا من أن يتعامل معها كظاهرة مزعجة خاصة بفئة أو تيار وعدد أيا كان تقديره، ساهمت عوامل وصراعات محيطة في نشوئه، لنقد ممارساتهم وطرحهم بقوة ووضوح.
والبعض الآخر يتناقض، فمرة يتحدث عن أفول هذه التيارات المتطرفة وأن المجتمعات لفظتهم، ومرة يدعي أن لهم شعبية..ويتحدث عن انتشار الجهل والأمية.
ليس بالضرورة أن تكون كل قضايانا شائعة وعامة حتى تصبح مهمة.
هذه من أخطاء الوعي الصحفي لدينا، فكثير من الأعمال الصحفية الناجحة عالميا كانت حول قضايا لم يفكر فيها أحد وتبدو هامشية، وقصص فردية مهملة.
فالتركيز على قضية محددة ولو كانت صغيرة، ومعالجتها من كل الزوايا بأعمال صحفية أو بحثية جادة هو الإبداع، فليس من شروط الأهمية الانتشار للظواهر وشيوعها، بالعكس أحيانا تكون الندرة واكتشافها هو الأهم، من خلال التركيز على جوانب غير مرئية في زوايا مظلمة من مجتمعاتنا، لتنويرنا مبكرا..قبل انتقال عدواها للجميع.
September 27, 2014
الموقف من التنظيمات المسلحة
بعد عشر سنوات من الصراعات شهدت صنعاء في 21 سبتمبر من هذا الشهر تحولا تاريخيا بعد سقوطها بيد تنظيم مسلح، لينضم إلى ذاكرة اليمنيين السبتمبرية! استطاع هذا التنظيم الذي أسسه حسين بدر الحوثي أن يحقق نجاحا مبكرا في مدة قصيرة جدا لتحقيق طموح أي حركة مسلحة
بعد عشر سنوات من الصراعات شهدت صنعاء في 21 سبتمبر من هذا الشهر تحولا تاريخيا بعد سقوطها بيد تنظيم مسلح، لينضم إلى ذاكرة اليمنيين السبتمبرية! استطاع هذا التنظيم الذي أسسه حسين بدر الحوثي أن يحقق نجاحا مبكرا في مدة قصيرة جدا لتحقيق طموح أي حركة مسلحة.
أسهمت عوامل عديدة في الوصول إلى هذه المرحلة كما بدت في الأشهر الأخيرة.
أخذت هذه التطورات تفسيرات متعددة، تداخلت فيها الحقائق بالأوهام والتوقعات.
ما حدث هو جزء من مشهد تآكل بعض الدول العربية.
في لحظات السقوط السريعة للعاصمة صنعاء، يبدو مثيرا ارتخاء الوعي السياسي عند بعض المثقفين في تعليقاتهم، لتمرير نوع من التسامح مع ما حدث، بحجج تؤثر في عمق احترام مفهوم الدولة الحديثة.
فأي محاولة لعقلنة وجود أي تنظيم مسلح في المجتمع، هي هدم مباشر لمفهوم الدولة مهما كانت الذريعة التي يلتمسها البعض.
فكيف يقبل مثقف عقلاني التغيير السياسي عبر تنظيم مسلح مهما كان مذهبه وفكره؟ وبعيدا عن المواقف أو ظروف الواقعية السياسية لدى الأنظمة والحكومات..فهناك أسس صارمة وعقلانية في مفاهيمنا السياسية يجب أن لا تتعرض لأي اهتزاز بحيل متنوعة، ودور المثقف هو حماية هذه المفاهيم السياسية للدولة الحديثة مهما كانت طبيعة الصراعات اللحظية وظروفها.
قارن هؤلاء التنظيم الحوثي المسلح بداعش والقاعدة..لتمرير وتجميل فكرتهم! والواقع أن فكرة استحضار داعش والقاعدة وغيرها تبدو مغالطة وتذاكيا مكشوفا في استعمال تاريخهم الأسود، فالإشكال في الأصل هو خطورة التنظيم المسلح..وليس درجة اعتداله ونوعية مذهبه، وهل قام بالتفجير هنا أو هناك أم لم يقم.
فالرفض لهذه التنظيمات يجب أن يكون مبدئيا وشاملا للجميع ولكل التيارات والمذاهب باعتباره مسارا لتدمير الدولة ذاتها.
لم يقارن هؤلاء التنظيم الحوثي ..بما فعله «حزب الله» في لبنان، وكيف أصبح التنظيم دولة داخل دولة.
فمجرد معاكسة الرؤى المتطرفة السلفية والحركية في رغباتها ومواقفها..ليست معيارا للاستنارة الفكرية.
من المثير أن يكتب بعضهم كثيرا في نقد الإسلام السياسي إلا الإسلام الحوثي هنا، وكأنه ليس إسلاما سياسيا.
فالموقف من كل تنظيم مسلح يجب أن يكون مبدئيا، بدون ولكن..وليس له علاقة بأي حسابات سياسية ومذهبية، أو بأن هذا التنظيم أفضل من الآخر..أو أن هذا يتزين باسم المقاومة، أو أن أفراده من أبناء البلد نفسه.
التنظيم المسلح داخل أي دولة..هو تنظيم إرهابي حتى لو لم يستعمله، أو يدعي أن لن يستعمله إلا ضد الأعداء..فالقوة التي تقف في الظاهر فوق المجتمع، سلطة تهدئ الصراع وتبقيه في حدود النظام هي الدولة كما يرى إنجلز.
قبل أيام صدر «نداء إلى المثقفين العرب لمناهضة الفاشية الدينية» في جريدة السفير مع قائمة من الموقعين أكثرهم من لبنان، والبيان جاء بصيغة انفعالية ومشحون بالخطابية، وحاول تحديد أسباب هذا التدهور ووجود هذه الفاشية الدينية، ولوم المال النفطي.
لكن تبدو ظاهرة حصانة تنظيم «حزب الله» من أي نقد ولوم مثيرة فعلا، ومستثنى في ذاكرة بعض النخب العربية، فهي لم تر أن وجوده الطويل في المشهد العربي، كتنظيم مسلح خارج الدولة جزء من أزمة الدولة العربية، وأن الوضع الخاص بهذا التنظيم لأكثر ربع قرن خلق تشوهات عربية كبرى في الوعي بالدولة عبر شعارات المقاومة والممانعة.
عنوان هذه اللحظة السياسية العالمية هو التصدي للتنظيمات المسلحة التي تتكاثر وتنتشر في أماكن عديدة..هذا التصدي يجب أن يكون على أكثر من مستوى، بعيدا عن اختلاف القراءات السياسية لروايات الإرهاب وأسبابه، فالأنظمة لها رواياتها..والنخب المثقفة لها رؤيتها.
هناك خطورة كبرى على الوعي العام لأي محاولة لتبرير وجود أي تنظيم مسلح..مهما كانت الظروف في بعض الدول والمناطق.
ويجب التأكيد على أن هذه التنظيمات بكل ألوانها المذهبية ومبرراتها ستقود إلى مزيد من التدهور في الدولة والمجتمع العربي.
تجربة «حزب الله» التي كانت موجودة في ظروف أحسن من هذه الظروف العربية، هي أفضل درس لتأكيد خطورة السماح والتبرير لمثل هذه التنظيمات داخل الدول، وبقاء السلاح معها، وكيف تحولت مع مرور الوقت إلى أداة لمصالح سياسية محددةلا علاقة لها بالمقاومة ضد إسرائيل.
أعلن الحزب الآن أنه ضد التحالف الدولي سواء المستهدف داعش أو غيره، وأن «أمريكا ليست في موقع أخلاقي يؤهلها لقيادة تحالف على الإرهاب»..لقد رأينا الموقع الأخلاقي..للحزب في تدخله في الحالة السورية، وكيف كان سببا في تكاثر مثل هذه التنظيمات برؤية مذهبية.
September 20, 2014
نصوص وطنية مفقودة
في يوم من أيامنا الوطنية
في يوم من أيامنا الوطنية..كنت حينها في المرحلة الابتدائية، لفت نظر الصغير تغير محتوى الجرائد بالكامل مع صور جديدة، وكنوع من الهوايات الطفولية أخذت بقص العديد من الصفحات والصور لوضع هذه القصاصات في ألبوم خاص، كانت مفاجئة الصغير واكتشافه المثير أنه في أعوام تالية وجد أن هذا المحتوى لا يتغير ويكرر كل عام.
ثم كبرنا وبدأنا نلوم الإعلام والصحافة على صناعة الملل وفقدان المفاجئات في هذا اليوم، قبل أن تنكشف لنا التقاليد الإعلامية المقيدة للإبداع الصحفي، ثم كبر الإعلام ذاته وتضخمت الصحافة وتحللت من بعض قيودها وأصبح الجميع يعيش في شروط ليست خاضعة لذوقه ومتطلباته.
وبدأت هذه البنى الوطنية القديمة في تشكل مفهوم الوطن والوطنية تتشوه في بعض ملامحها، وأصبحت المشكلة أكبر من ذهنية وقدرات خبير العلاقات العامة، ورؤية الرسمي المحاط بأولويات محددة.
لم يعد الجيل الجديد الذي ولد منذ ربع قرن يتشكل وعيه الوطني وفق نماذج محددة، ففي اللحظة التي فقد فيها الاتصال بالرؤى التقليدية عبر مصادرها وقنواتها، لم تتشكل لديه رؤية جديدة في نمو الحس الوطني.
بناء الوعي الوطني تعرض مع متغيرات كثيرة لبعض التشوهات، ووجدت ولا تزال محاولات عديدة لترميم الخلل في التعليم والخطاب الإعلامي والديني.
في جيل سابق كانت البرامج الوثائقية عن النهضة والتطور تؤدي دروا مهما في الشعور بالوطن، وكانت الأرقام مع كل خطة تنموية وميزانية لها جاذبية وشعور بقيمة المنجز في حوارات المجالس والجلسات الخاصة، عندما تقارن ذلك بما يحدث الآن سنجد أن أرقام المشاريع فقدت هذه الجاذبية، إن لم تكن ترتد سلبيا بأن تكون مناسبة للتذمر والحديث عن الفساد، وحتى عرضها إعلاميا ووثائقيا لم يعد قادرا على كسب المشاهد الآن.
لا نستطيع أن نستمر بتوزيع اللوم على هذه الجهة وتلك أو ذلك التيار، إذا لم تتطور رؤيتنا للقضية بأنها تحد بذاتها، وأن تراكم الأعمال الوطنية بحاجة لوعي فكري ونقدي من نوع خاص، وأننا بحاجة للتعامل مع هذا الوعي بعيدا عن التسيس من أي نوع، فهو يفسد ويضعف قيمة هذه الأعمال، وأننا بحاجة لأعمال ثقافية قادرة على تنمية الحس الوطني بمعزل عن المواقف والظروف الصراعية اللحظية.
فالرؤى التقليدية التي تصنعها ذهنية إدارات العلاقات العامة في عدة جهات، هي خطاب خدمي، والخطاب المنتج في مواد وأفلام عن الوطن في عدة مناسبات ليس ثريا بالأفكار، ويبدو باهتا، ولا يتم تداوله ومناقشته..في دوائر عديدة.
قدرات هذه الجهات مقيدة بظروفها الرسمية..ويبدو أن استمرار توجيه اللوم لها ليس مجديا أيضا، فصناعة هذه الأفكار أكبر من قدراتها.
هناك نماذج تاريخية لأعمال إعلامية تستحق التقدير وإعادة النظر بتجربتها، كالبرنامج الشهير بعنوانه «ربوع بلادي» الذي كان يعده ويقدمه خالد زارع، وأخراج يحيى توفيق..ومع أن البرنامج يبدو للأطفال إلا أن محتواه متقدم في التعريف ببلدات وقرى ومدن سعودية كثيرة، وأسلوب إخراجه غير تقليدي، وحتى النص للبرنامج ثري بالمعلومات.
أدرك أن البرنامج أصبح في مراحل لاحقة..لا يستعمل عنوانه إلا للسخرية والتنكيت بين سطور بعض الكتابات والتعليقات العابرة عن إعلامنا التقليدي، والواقع أن هذا التنميط ظلم هذا البرنامج الناجح كثيرا، وترك غيرها من البرامج الفاشلة التي لا يذكرها أحد! الرؤى التي تشترط مسبقا شكلا معينا للوطن عبر رؤية دينية أو سياسية هي مشكلة بذاتها، فهو (صاحب الرؤية) لا يفصل بين الوطن ورؤيته النقدية ورؤيته للتاريخ والواقع وطموحات وأحلام هي من حق أي فرد في التعبير عنها.
ويبدو لي أن إدخال الوطنية بالتهم المتبادلة في الصراعات والخصومات ضررها أكثر من نفعها، على تنمية الحس الوطني..وينجح فقط في تراكم أحقاد وخلق تشوهات داخلية.
الرؤى التي تريد أن تصمم نوعا معينا للخطاب، تضع فيه معاييرها الوطنية الخاصة ستعوق أي تقدم في هذا الشأن، فالوطن واسع جدا جدا..بحاجة لملايين من النصوص الثقافية والأعمال الجادة في كل مجال، والتي لن تقوم بها جهة واحدة، أو عدد محدود من النخب.
فالنصوص الخالدة التي ستبقى في ذاكرة كل الأجيال لن توجد الآن وفي المستقبل بدون عدد غير محدود من المحاولات.
أعجبتني عبارة قالها أحمد أبو دهمان في لقاء له قبل شهرين، وعشق أبو دهمان للقرية أحد النماذج التي يمكن أن تدرس: «هذه البلاد بلا مثقف تظل لوحة سوداء..هي وغيرها، يظل الوطن غابة».
فبدون دور المثقف..لن تُفهم الأوطان..أي وطن لن يتم الوعي به إلا عبر خطاب ثقافي.
عبد العزيز الخضر's Blog
- عبد العزيز الخضر's profile
- 44 followers
