عبد العزيز الخضر's Blog, page 6
February 7, 2015
في الخلط بين مشكلات الوزارة والوزير
يخرج وزير ويأتي آخر، وتبقى كل وزارة بهمومها ومشكلاتها التنموية التي تتراكم مع الزمن. الخلط بين دور الوزير وماذا يمكن أن يفعله في عملية التغيير، والحدود التي يمكن له التطوير فيها واتخاذ قرارات خاصة بها، وبين الوزارة وطبيعة مشكلاتها.. قلل الاستفادة من تراكم الكتابات حول هموم الوزارت مع قدوم كل مسؤول جديد. تفقد النصائح فعاليتها، لأن كثيرا من الرسائل التي تقدم عبر كتابات صحفية تخاطب هذا المسؤول أو ذاك لا تدرك طبيعة الشكوى، وهل هي من صلاحيات المسؤول أم هي أعلى منه، ودوره الذي يمكن القيام به، ولماذا عجز المسؤول الذي قبله.
يخرج وزير ويأتي آخر، وتبقى كل وزارة بهمومها ومشكلاتها التنموية التي تتراكم مع الزمن. الخلط بين دور الوزير وماذا يمكن أن يفعله في عملية التغيير، والحدود التي يمكن له التطوير فيها واتخاذ قرارات خاصة بها، وبين الوزارة وطبيعة مشكلاتها.. قلل الاستفادة من تراكم الكتابات حول هموم الوزارت مع قدوم كل مسؤول جديد. تفقد النصائح فعاليتها، لأن كثيرا من الرسائل التي تقدم عبر كتابات صحفية تخاطب هذا المسؤول أو ذاك لا تدرك طبيعة الشكوى، وهل هي من صلاحيات المسؤول أم هي أعلى منه، ودوره الذي يمكن القيام به، ولماذا عجز المسؤول الذي قبله.
بناء خبرات في الوعي العام ليصل إلى صاحب القرار بحاجة إلى نوعية أفضل في المطالبات خاصة في الصحافة ومواقع التواصل، ولهذا عندما تجمع بعض الملفات الصحفية حول موضوعات ومشكلات معينة، ستجد أن الإشكاليات تعرض حتى من كتاب وصحفيين مخضرمين بصورة إنشائية، دون متابعة للمشكلة وتطوراتها، والإضافة الفعلية في وصف المشكلة أو تقديم الحلول. في هذه المرحلة من تطورات العصر يبدو لي أن نصف المشكلات التي كانت تعرضها الصحافة بالكاريكاتير الساخر والمقالات في عقود مضت عن الموظفين والتسيب والإهمال حلتها تقنية الاتصال.. فلم يعد الموظف غير الموجود على مكتبه مشكلة كبيرة مثلا.. وقد كانت تأخذ حيزا في أفكار رسومات الكاريكاتير، فالموظف عندما يغيب عن الأنظار حتى داخل مبنى الوزارة لأي سبب يصعب الحصول عليه قبل تقنية الاتصالات، في المقابل الآن يمكن أن يتصل عليه أحد زملائه وهو في سيارته أو في إجازة ويستفسر عن الموضوع.
هناك أعمال ضخمة بيروقراطية انتهت مع الزمن بسبب التطور التقني في عالم اليوم، وهي غالبا تتعلق بالشكليات، ولهذا حتى فكرة نزول المسؤول إلى الميدان والتصوير والتظاهر بالمتابعة لم يعد لها قيمة عملية وجدوى كما كان يتصور الوزراء والمسؤولون في السابق، فطريقة المتابعة للعمل تغيرت سواء كان نزوله مفاجأة أو بالتخطيط له، فقياس إنتاجية الموظف ومتابعتها، وتسيير أمور المواطنين بحاجة إلى أعمال أخرى.
الاهتمام بالإعلام وتغطياته لا يفيد طالما حقيقة العمل لم تتغير! ولهذا هناك نماذج أكثر من تجربة وزارية قديمة وقريبة تؤكد أن الاهتمام بالإعلام لم يغير من حقيقة تقييم أداء هذا المسؤول أو ذاك. فسهولة الدخول على الوزير ومقابلته مهمة في الأعمال التي من صلاحية الوزير، ووفق الأنظمة لمعالجتها والبت فيها.. لكنها ليست جيدة في إضاعة الأوقات في استقبال الباحثين عن وساطات تضر بمسألة تكافؤ الفرص. وجزء كبير من ثقافة المجتمع القديمة تفهم سهولة الدخول على الوزير هو الضغط عليه لقبول وساطة لفلان، أو تقوية العلاقات العامة.
هناك خلط سائد أيضا بين مشكلات الوزير والمسؤول مع موظفيه، وهمومهم الوظيفية وبين هموم الوطن والمواطن وما يجب عليه تجاهه في مجال التنمية، وأحيانا يحدث تصادم بين الموظفين والمسؤول حول قضايا معينة، يتبنى الوزير فكرة معينة في العمل، ويرى الموظف التابع لوزارته فكرة أخرى وطريقة أخرى. وللأسف أغلب الموظفين وشكاواهم يخلط بين مشكلاتهم الخاصة، وبين مشكلات المجتمع ودور الوزير الذي كان مسؤولا معهم. لهذا عندما سألت في مرات عدة بعض الموظفين في جهات حكومية عن وزيرهم، لاحظت أن المديح أو الشكوى يخرج وفقا لموقف الوزير منهم، وأسلوبه الإداري فلا يستطيع هؤلاء التمييز بين المجالين. فنفقد قيمة شهادة هؤلاء العاملين تحت مظلة وزراء ومسؤولين.
ليس بالضرورة عندما يكون الوزير قويا ضد موظفيه أن يكون منجزا وأفاد الوطن أو العكس، فلكل قضية حكمها الخاص، وللأسف أحيانا تختلط على أفراد من المجتمع بعض المواقف الأيديولوجية بالإدارية بقضية مصلحة الوطن والتنمية، ولهذا لفت نظري قبل أيام في إطار الفرح الذي حدث عند البعض بإقالة مسؤولين.. وهو فرح يحدث في حالات وأسباب كثيرة. السبب الأيديولوجي عند فئة وتيار يجب أن لا يكون صك براءة في كفاءة ذلك المسؤول إداريا. هذا الفرح يبدو لافتا عندما يعبر عنه العاملين في الجهة الحكومية نفسها، وقد استحضر البعض في مواقع التواصل كلام القصيبي بعد رحيله عن وزارة الصحة وقوله «بعد إعفائي من وزارة الصحة، كانت هناك احتفالات في المستشفيات، احتفل الأطباء والممرضون، وليس المرضى»، وهو في سياق توضيح قيمة ما عمله. والواقع أن فرح الموظفين عادة لا علاقة له بموقف أيديولوجي ولا إداري هو شعور موظف تلقائي يتكرر لأسباب خاصة فيه، ولا يؤخذ كدليل على نجاح أو فشل. فتقييم أداء الوزير.. يتحدد من خلال عدة معطيات مهمة، آخرها حديث الوزير عن نفسه وتجربته.
January 31, 2015
في التغيير والمراحل السعودية
يمكن اعتبار المملكة مرحلة واحدة بعمرها الممتد منذ حوالي قرن إذا جاءت النظرة شاملة، لكن رؤية المراحل التاريخية القصيرة والطويلة ضرورة يحتاجها الذهن النخبوي والشعبي، يميز فيها بين زمن وآخر، وظروف كل مرحلة داخليا وخارجيا.
يمكن اعتبار المملكة مرحلة واحدة بعمرها الممتد منذ حوالي قرن إذا جاءت النظرة شاملة، لكن رؤية المراحل التاريخية القصيرة والطويلة ضرورة يحتاجها الذهن النخبوي والشعبي، يميز فيها بين زمن وآخر، وظروف كل مرحلة داخليا وخارجيا.
وإذا كان هناك العديد من المميزات التي تبدو ثابتة في كل المراحل فإن شخصية الدولة في الوعي العام ما زالت متقاربة كما هي منذ مرحلة التأسيس بالرغم من كل المتغيرات الزمنية، وظروف التحديث التنموي، ورياح العصر.
أحدثت العشر سنوات الأخيرة مع تطورات تقنية الاتصال فجوة ملحوظة عند الجيل الأخير بينه وبين الخطاب الإعلامي والتعليمي الرسمي وتعدد أدوات الـتأثير.
كثرة المتغيرات بين زمن وآخر، تفرض بعض الفوارق بين كل عهد وتميزه عن غيره، بعضها لأسباب كونية مع تحولات العالم، وبعضها لأسباب داخلية مع تغيرات الوعي والأجيال، لهذا يبدو لكل عهد سياسي أسلوبه وشخصيته في الوعي الجمعي، هذا التصور أحيانا يكون دقيقا ومعبرا فعلا عن تمييز بين مرحلة وأخرى، وأحيانا يكون مجرد وهم عام بالذاكرة الشعبية المشوشة.
إن عدم استحضار طبيعة العصر ونوعية القوى المؤثرة في كل مرحلة، هو الذي يجعل بعض النخب تقدم طرحا غير دقيق، في تقييم أشياء كثيرة ومنها السقف الإعلامي وأسلوب الإدارة.. وتأثير النمو الديموغرافي في الإدارة، كما أن نوعية النظام المؤسسي يفرض شخصية ثابتة إلا أن الفرد يظل مؤثرا فيها وعلى روح الفريق.
لهذا تبدو السمات الشخصية للقائد مؤثرة كثيرا حتى في نظم غربية عريقة في مؤسساتها، ويبرز الاختلاف فيها بين مرحلة وأخرى. السياسة الداخلية عادة تكون أقل تغيرا من الخارجية التي تفرضها نوعية التحديات المتجددة، وموازين القوى الإقليمية والعالمية.. ونوعية المواقف. ولهذا لا يمكن الحديث عن شكل محدد لهذه المواقف مسبقا. لكن أسلوب إدارة الملفات الخارجية يحدث فيه بعض التغيرات بسبب هذه العوامل ومنها تأثير الأفراد على نوعية الخطاب الإعلامي وإدارة الصراعات.
عند كل مرحلة جديدة تبالغ بعض التكهنات والكتابات في النت ومواقع التواصل، حيث تختلط عند بعض المنخرطين في صراعات شخصية داخلية بين التيارات مصالحهم الذاتية مع الحديث باسم هموم الوطن الكبرى، فتبدو رغباتهم المشخصنة في تصور طبيعة المرحلة حول قضايا المجتمع، لتحدد نوعية المواقف وطبيعة الخطاب الإعلامي.
هذه النوعية من الكتابات تظهر مبكرا عند بداية كل مرحلة للتأثير عليها، وتمارس قدرا كبيرا من المغالطات. ولهذا تجتهد في صناعة رؤية حدية بين طرفين.. لتمارس الصراخ المفتعل حول قضايا ليست عميقة في هموم المجتمع، وإنما من أجل تشكيل المواجهة وفق إطار مشخصن يكسب فيه الحضور والسمعة المنخرط في معارك فارغة من أي مضمون مفيد للوطن.
شخصية الملك سلمان بن عبدالعزيز تتجسد فيها شخصية الدولة بمراحلها الثلاث بكل أطوراها، وهي حاضرة في صناعة القرار السياسي منذ أكثر من نصف قرن، عاصرت فيه مختلف التحديات والظروف، ويدرك المجتمع بأفراده ونخبه خصوصية هذا القائد السياسي، وهي ميزة نادرة في لحظة تاريخية تزامنت مع الحضور التدريجي للجيل الثالث في صناعة القرار، مما يجعل أي تغيير وتطوير قادم في جوانب مختلفة.. قادر على تجاوز أي توترات، والبعد عن الرؤية الصراعية المؤامراتية في تناول مشكلات التنمية الاجتماعية والسياسية والثقافية.
وقد جاءت الأوامر الملكية ليلة الجمعة معبرة عن طبيعة مرحلة، ومنهج في القرار السياسي أحدثت صدى كبيرا في المجتمع السعودي لم يحدث مثله منذ زمن بعيد.
January 17, 2015
صناعة.. القابلية للاستفزاز
يتغير شكل التطرف بين مرحلة وأخرى، ويظهر بملامح جديدة وأزمات ذهنية وحضارية لكل جيل. تبدو الصورة الآن مشوشة بين عدة خطابات وأجندات تريد أن تنمطه في إطار مصالحها وأولوياتها.
يتغير شكل التطرف بين مرحلة وأخرى، ويظهر بملامح جديدة وأزمات ذهنية وحضارية لكل جيل. تبدو الصورة الآن مشوشة بين عدة خطابات وأجندات تريد أن تنمطه في إطار مصالحها وأولوياتها. إذا كنا جادين ونملك روح المسؤولية في معالجة التطرف فيجب أن نميز بين دور كل جهة وفئة. بالنسبة للمثقفين وعلماء الشريعة والإعلاميين والدعاة والمرشدين والآباء، ولكل من يملك أداة توجيه لشريحة في المجتمع، من أكبر الأخطاء أن يربطوا خطابهم من أجل الاعتدال واللا عنف بأسباب خارجية. إن شحن الوعي العام بالأسباب الخارجية وتكرارها مربك للتصورات، وسيكون على حساب بناء ذهنية معتدلة، تتحكم في ردات فعلها .. مهما كانت استفزازات الآخر وتطرفه وعنفه.
يجب على الفئة الموجهة للوعي العام عبر عدة منابر .. ألا تنتظر من أنظمة ودول كبرى تستفيد من الإرهاب وتوظفه لمصالحها أن تكون حكيمة في معالجة الأسباب، وأن تفرط في أمر تستفيد منه. ثقافة الاعتدال وروحها لن تنتشرا في مجتمعاتنا.. إذا ربطتا بتصرفات جهات عالمية وإقليمية تستفيد من التطرف والإرهاب. إن اجتثاث التطرف والإرهاب من جذوره يبدأ في بناء الذات بغض النظر عن سلوك الآخرين والأنظمة. بناء خطاب اللا عنف.. يجب ألا يسمح بأن تشوش الأسباب الخارجية على صناعة الفكر المعتدل، لأن تكرارها مع كل حدث يتحول في الوعي الشعبي إلى مبرر لهذه الذهنية بمشروعية ردات فعلها وتتوهم أخلاقيته.
إذا أردنا تقديم تحليلات سياسية، تنتقد سياسات الأنظمة والدول الكبرى وسلوك الجماعات والخطاب الإعلامي فهذا متاح في أوقات كثيرة.. ولست هنا ضد هذا الطرح، لكن أن يتزامن ويربط بالحديث عن العنف والتطرف فإنه تاريخيا لم يردع تلك الأنظمة والدول والجماعات المستفيدة من ذلك. ليست القضية التشكيك في نيات من يطرحون مثل هذا بأنهم مع الإرهاب ويتخفون .. عبر الأسئلة التقليدية عند كل حدث أين العالم من إرهاب ذلك النظام أو تلك الدولة، أو هذا الخطاب الإعلامي. إن هذا التزامن المستمر .. هو أكثر ما يخدم خطاب التطرف، ولللأسف هذا النوع من الكتابات يغري الكثيرين، لأنه جذاب للجمهور، ويظهر أكثر نضالية .. لهذا يزداد معدل الاحتفاء به.. وإرساله للآخرين، فهذا معيار المقالات القوية لديهم .. والمعبرة عن ضمير الأمة.
ليست المهارة أن نعدد استفزازات الآخرين وسلوكيات أنظمة ودول هي تتعمده وتعرف نتائجه، وفي الوقت نفسه نظن أن هذا الخطاب يعالج الإرهاب. إن هذا النوع هو أكثر ما ينفخ في ذهنية التطرف ويشعرها بمبررات عملها، وبأن ردة فعلها للدفاع عن قضايا الأمة، ولهذا يتم تداولها بكثرة. خطابنا لمعالجة التطرف في ذهنية الجيل الجديد يجب أن يكون معزولا عن تصرفات الآخرين، وأن يكون التحكم في ردات الفعل، وعدم القابلية للاستفزاز، وعدم السماح للآخرين بمعارك تخدمهم، نابعة من الذات وتربية شخصية، وأن يؤمن بعمق بأن خيار العنف فاشل.
وعلى الخطاب الإسلامي بالذات إذا أراد التحصين من أن يكون داعما للعنف هو التخلص من هذه اللغة التي تصنع القابلية للاستفزاز، عبر الخطابات الموجهة للشرق والغرب.. وفي الواقع لا يستقبلها إلا الصغار ومحدودو الوعي والعامة في المسجد أو عبر أدوات التواصل الخاصة بهم. واللافت أن السيرة النبوية مليئة بالخطاب والحوادث التي تبني القدرة على التحكم في ردات الفعل، وألا يكون الأعداء مؤثرين على سلوكياتك.. بحجة أنه فعل كذا وقال كذا، لأن القيم الأخلاقية وجدوى كل عمل مستقلة عن استفزازات الآخر.
عمليا لا يمكن إزالة كل أسباب التطرف والإرهاب والاستفزاز الخارجي، ولو أزيل بعضها فسيبقى الكثير منها، وحتى لو لم توجد الأسباب الحالية، ستجد الشخصية المنحرفة في تطرفها أسبابها ومبرراتها. إن الاستقلال بحل مشكلات التطرف والعنف.. هو بعدم ربطه بسلوكيات الآخرين والغرب. واقعيا التطرف الذي يتحول إلى عنف وإرهاب مكلف جدا، فلا يلتحق به إلا نوعية من الأشخاص لظروف خاصة بهم، لكن الحاضنة الذهنية هي أن تنتشر مثل هذه اللغة السياسية الممتزجة بالخطاب الفكري والديني.. وتصبح هي السائدة في الأحاديث الجانبية، ويضطر الآخرون لمجاملته خوفا من الاتهام بأنهم يقفون مع الغرب والأعداء.
January 10, 2015
شارلي.. من السياسة إلى الحريات
تبدو عملية «شارلي إيبدو» نقطة تحول كبرى في مسألة الحريات والوجود الإسلامي، وقضايا التطرف والتطرف المضاد. حدث من نوع مختلف، يقوم بعمل مركز ومباشر ضد جهة إعلامية مارست الاستفزاز الصحفي لسنوات عديدة، وليست مجرد تفجيرات عشوائية عامة في شوارع ومحطات مترو، تنقل إشكالية الإرهاب كردة فعل من مواقف السياسة إلى منطقة حريات التعبير. حققت العملية بهذا العدد من القتلى أقوى ضرر ضد هذه الشخصيات الصحفية ومؤسستهم، وأحدثت صدمة للذهنية الغربية وبالذات الإعلامية. هذا النوع من العنف أكثر إرباكا لذهنية المسلم العادي وانطباعاته، فقد ضرب العنف هذه المرة في منطقة بالغة الحساسية، لتعدد زوايا النظر في تصور المشهد فيتبنى المعتدل موقف المتطرف. لذا شعرت العديد من الدول والمؤسسات بخطورة ما حدث، وأثارت ردود فعل دولية واسعة، ودانت جهات سياسية ومؤسسات دينية رسمية في العالم العربي والإسلامي خلال أقل من أربع وعشرين ساعة، ومنها مؤسسات تعودنا منها على الحركة البطيئة في ردة الفعل، وهي سرعة تؤكد الشعور بخطورة هذا النوع من الأعمال غير المسؤولة.
تبدو عملية «شارلي إيبدو» نقطة تحول كبرى في مسألة الحريات والوجود الإسلامي، وقضايا التطرف والتطرف المضاد. حدث من نوع مختلف، يقوم بعمل مركز ومباشر ضد جهة إعلامية مارست الاستفزاز الصحفي لسنوات عديدة، وليست مجرد تفجيرات عشوائية عامة في شوارع ومحطات مترو، تنقل إشكالية الإرهاب كردة فعل من مواقف السياسة إلى منطقة حريات التعبير. حققت العملية بهذا العدد من القتلى أقوى ضرر ضد هذه الشخصيات الصحفية ومؤسستهم، وأحدثت صدمة للذهنية الغربية وبالذات الإعلامية. هذا النوع من العنف أكثر إرباكا لذهنية المسلم العادي وانطباعاته، فقد ضرب العنف هذه المرة في منطقة بالغة الحساسية، لتعدد زوايا النظر في تصور المشهد فيتبنى المعتدل موقف المتطرف. لذا شعرت العديد من الدول والمؤسسات بخطورة ما حدث، وأثارت ردود فعل دولية واسعة، ودانت جهات سياسية ومؤسسات دينية رسمية في العالم العربي والإسلامي خلال أقل من أربع وعشرين ساعة، ومنها مؤسسات تعودنا منها على الحركة البطيئة في ردة الفعل، وهي سرعة تؤكد الشعور بخطورة هذا النوع من الأعمال غير المسؤولة.
هذا الحدث يأتي بعد مرور سنوات على عدد كبير من الاستفزازات الصحفية والإعلامية وحتى العنف المباشر، واستهداف أماكن العبادة والتي لا تحصل عادة على تغطية إعلامية واسعة، حيث تحسب كأعمال فردية في الغرب وليست على مؤسسات. مرت العديد من الممارسات الاستفزازية بهدوء، وبعضها بتصعيد جماهيري في العالم الإسلامي وخاصة هذه الرسوم، وأكدت قدرة الجاليات الإسلامية في الدول الأوروبية على التكيف مع مثل هذه التحديات ومعالجتها بأساليب حضارية.
حساسية العملية أنه قد ينظر لمن يبالغ في إدانتها، وكأنه ليس مهتما بمسألة الإساءة للمقدس الديني لديه. والأكثر إشكالا أن يوجد انطباع مخفي ورؤية لدى جمهور ونخب لا تقولها في العلن، بأنهم «يستاهلون ما جاهم» دون التفكير بكلفتها المستقبلية على أشياء كثيرة في تعميق مشكلات المسلمين في العالم، وأنها لن تحقق هدف الدفاع عن المقدسات التي قد تواجه إشكاليات من نوع آخر عند مختلف الثقافات بما فيها ثقافة المسلم المعاصر.
فمشكلة الحريات ليست فقط مشكلة قوانين وأنظمة، وإنما مشكلة ثقافة وفكر ووعي عام. الذهنية الغربية منذ قرون مرت بتحولات الحداثة، وجعلت المسألة الدينية والدين في جانب بعيد ومهمش، ولهذا لا تثير السخرية من أديانهم ومعتقداتهم أي حساسية شعبية. وعندما يشير البعض إلى أن هذه الصحيفة وغيرها أساءت لجميع الأديان، تبدو المقارنة في هذه القضية غير متكافئة. تطرح هذه القضية وغيرها حدود الحرية بين ثقافتين مختلفتين، لن يخسر الغرب أي قيم فيها فقد تجاوز الكثير من الممنوعات، بعكس الجانب الإسلامي.
لقد كانت الساعات الأولى من ردود الفعل الغربية تركز على مسألة الدفاع عن حريات التعبير، فقد اعتبر الرئيس الفرنسي هولاند العملية بأنها «هجوم على حرية التعبير في بلاده»، وأشارت العديد من الصحف الغربية إلى هذا الجانب للدفاع عن حرية التعبير. وعندما كتب توني باربر مقالا في فايننشال تايمز ضد اتجاه التيار الإعلامي في التفاعل مع الحدث، ووصف هذه الصحف التي تنشر الرسومات المسيئة بأنها «غبية» واجه ردود أفعال كبيرة وتعليقات معترضة.
لقد عجزت الكثير من السجالات الفكرية والسياسية في الوصول إلى رؤية محددة المعالم، منذ أن برزت هذه القضايا مع الانفتاح الإعلامي في عصر الانترنت لأكثر من عقد. أي تفكير بإقرار أنظمة وقوانين عالمية فإنها ستقيد الخطاب الإسلامي أكثر من الغربي لاعتبارات كثيرة، فما زالت تواجه دولنا مشكلة النظر الغربي لمحتويات المناهج والخطاب الديني.
المثير لعدد من الأسئلة في هذه العملية هو توقيتها المتأخر كرد فعل مقارنة بسخونة القضية قبل سنوات، لهذا ربط البعض الحدث بمواقف فرنسا السياسية وإرثها الاستعماري ومشكلة أكبر أقلية مسلمة في أوروبا التي لا تزال تعاني من عدم الاندماج. وهناك إشارة إلى أحدث تغريدة للصحيفة في تويتر بأنها كانت عن زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي. يعيد هذا الحدث طرح ظاهرة «الذئاب المنفردة» التي ربما تقوم بأعمال بدون تخطيط مع تنظيمات وجماعات كبيرة.
قد يشكل تحول شارلي إيبدو تحديا للدول الغربية إلا أن لديها مؤسسات قادرة على امتصاص أي ردود فعل فردية متهورة، فلا تنفرد جهات معينة بمعالجة المشكلات، بعكس عالمنا العربي والإسلامي الذي ظل في دائرة العنف لعدة عقود محاصرا في حلوله بين الذئاب المنفردة والأنظمة، والجماعات العبثية.
January 3, 2015
"سوء الخاتمة" في الخطاب الوعظي
من أكثر الخطابات التي وجه لها نقد في العقدين الأخيرين هو الخطاب الوعظي، من اتجاهات مختلفة، من داخل الخطاب الإسلامي نفسه أو من خارجه، من خصومه المتربصين به، ومن أقرب الناس إليه. وإذا كان بعض الخصوم وقعوا في ملاحقة الشذوذات والصور الطريفة الحمقاء التي لا تمثل الخطاب بصورة عامة، والتي توفر مظهرا كريكاتوريا عنه، فإن النقد الداخلي استمر حول العموميات النقدية التي تلامس المظهر الخارجي للخلل وليس العمق مباشرة. وفي السنوات الأخيرة استفاد من شعروا بأهمية المراجعة من النقد الذي وفرته ردود الأفعال التلقائية من العامة في الانترنت ومواقع التواصل، والكتابات التنويرية النقدية المتنوعة منذ سنوات.
من أكثر الخطابات التي وجه لها نقد في العقدين الأخيرين هو الخطاب الوعظي، من اتجاهات مختلفة، من داخل الخطاب الإسلامي نفسه أو من خارجه، من خصومه المتربصين به، ومن أقرب الناس إليه. وإذا كان بعض الخصوم وقعوا في ملاحقة الشذوذات والصور الطريفة الحمقاء التي لا تمثل الخطاب بصورة عامة، والتي توفر مظهرا كريكاتوريا عنه، فإن النقد الداخلي استمر حول العموميات النقدية التي تلامس المظهر الخارجي للخلل وليس العمق مباشرة. وفي السنوات الأخيرة استفاد من شعروا بأهمية المراجعة من النقد الذي وفرته ردود الأفعال التلقائية من العامة في الانترنت ومواقع التواصل، والكتابات التنويرية النقدية المتنوعة منذ سنوات.
في الواقع ظهر وعاظ جدد فعلا في العالم العربي، وأصبح بعضهم نجوما لكن القضية ليست إصلاح الوعاظ فهم بالآلاف بقدر ما هو إصلاح الوعظ نفسه، والمادة التربوية التي ينطلق خطابه منها من التراث ومن الحاضر، وما يضيفه الواعظ من اجتهادات شخصية، وتقليد متبادل بينهم. هو الذي بحاجة إلى تقييمه فقهيا وتربويا، ومواجهة هذه المواد المرئية والمسموعة والمنشورات ونقدها مباشرة، وقد توجد اليوم منفردة في مقاطع صغيرة وأحيانا في داخل مادة دينية طويلة، وللأسف قد تجد هذه المواعظ التي تحتوي أخطاء منهجية في مواقع انترنيتية خاصة بأسماء علمية وفقهية بارزة، دون تنقيح أو تعليق عليها.
يقع بعض نقاد الخطاب الوعظي بخطأ منهجي مكرر، وكأنهم يريدون تحويله إلى خطاب فقهي وعلمي صارم، والواقع أن الوعظ المؤثر هو أحد الخطابات التي تحتاجها النفس البشرية كما تحتاج الشعر والأدب والفن والترفيه، وحرفه عن مساره بحجة العلمية هو تطرف آخر كما هو تطرف الوعظ المتشدد في مواجهة أهمية بعض الفنون الأخرى وجعلها نقطة مركزية في خطابه. الوعظ بطبيعته ليس خطابا علميا جافا، وإنما هو نوع من الفن الذي يشتغل في منطقة التأثير على المتلقي، وتبرز موهبة الخطيب وشهرته كلما زادت مهارته في التأثير على الجمهور وإحداث الصدمة، ورفع مستوى تأنيب الضمير وتهييج المشاعر والبكاء. ولهذا قد يطرح خطيب قصة من التراث معروفة ومكررة فتمر مرورا عابرا على الجمهور، وقد يطرح آخر القصة نفسها بأسلوبه فتبدو القصة وكأنها جديدة عليهم ومؤثرة.
لكن الوعاظ أنفسهم إذا لم توجد رقابة على خطابهم، ونقد مباشر لهم من النخب العلمية والفقهية، فإنهم يلجؤون في طرقهم للتأثير بأساليب خاطئة، وهذا ما يحدث كثيرا، فتخلق تصورات مشوهة في وعي الجمهور عن حقائق شرعية وترتيب الأولويات الفقهية للحرام والحلال والكبائر والصغائر والمكروهات والمباحات. ويمكن رصد أنواع كثيرة من الأخطاء الضارة بالتصور الإسلامي الصحيح للأمور في خطابنا الوعظي المحلي، ومن أشهرها التصور الوعظي لسوء الخاتمة، وأصبحت هي اللحظة السينمائية لإثارة المتلقي وتختزل الخاتمة بالثواني الأخيرة من حياة الإنسان.. وللأسف أصبحت تمرر نماذج حديثه تختزل سوء الخاتمة بمشاهد معينة، وتربطها بنمط معين من المنكر في نظره يركز عليها الخطيب والواعظ، وتتحول هذه الصغائر وبعضها مختلف عليها لدى الخطيب إلى كبائر ليربك تدين الفرد بالكامل وخاصة الأطفال والصغار بالمدارس، فتتحول إلى قضية مفاصلة بينه وبين التدين.
حسن الخاتمة أمنية كل مسلم، وهناك كثير من الآثار الدالة على أهمية أن يوفق الإنسان لعمل صالح في آخر حياته، وفي الحديث المتفق عليه «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب.. إلخ»، وهناك كلام طويل للسلف حول هذا الحديث وغيره، لفهم أكثر فقها لهذه القضية.
سوء الخاتمة لا يعلمه أي إنسان عن الآخرين.. فهي من أمور الغيب، فلا نستطيع أن نحكم على أن فلانا ختم له بسوء أو بخير، مهما كانت الصورة الظاهرة لللآخرين.. فقد يموت في أرض الجهاد أو غيره وتبدو خاتمة حسنة وهي ليست كذلك، وقد يكون قارئا للقرآن.. وقد وردت آثار من السنة في ذلك. لكن الخطاب الوعظي المحلي أخذ مسارات عديدة في هذا الاتجاه، وأصبح ينمط صورة سوء الخاتمة وحسنها بصور معينة.. ثم تطورت القضية لديهم وأصبح غسيل الموتى هو المختبر الوعظي الذي يستدلون بها في كشف هذا الغيب.. بهذا النوع من القصص الوعظية المتكاثرة التي لم تعهد في العصر الأول، وتخالف التصور الإسلامي لمثل هذه القضايا.
December 27, 2014
مشكلة التفكير الإسلامي.. في تحديد النسل
عند التأمل الطويل لكثير من أطروحات الفكر الإسلامي المعاصر، والآراء الفقهية يجب التنبه للمؤثرات المعاصرة، وليست القديمة فقط في القرون الأولى، التي أثرت على اتجاه الرؤية، وطريقة التفكير فيها، ولماذا أصبحت هناك حساسية لهذه القضية أو تلك. هناك عدد كبير من القضايا العصرية التي كان أقوى مؤثر فيها هو ظروف البدايات والأجواء التي طرحت فيها في القرن الماضي، في مسائل سياسية واجتماعية وثقافية. ويمكن عرض الكثير من الأمثلة لإشكالية هذا التأثير، وعدم إدراك البعض لتغير المعطيات الزمنية، وتطور الأفكار والمعلومات في كل مسألة يتم تناولها خلال عدة عقود. وللأسف ما زال البعض يعيش في ذهنية مرحلة عشرينيات القرن الماضي وظروفها وأجوبتها، وخلقت حصارا ذهنيا لرؤية المسلم لأزمات عصره ومرحلته. حيث تنمطت تلك المحاولات الأولى وفق ظروفها في ذهنية العديد من المثقفين الإسلاميين، وطلبة العلم الشرعي، والوعظ الديني، وأصبحت رؤى محددة يدافع عنها بشراسة، وكأنها مسلمات تعبر عن القيم الفاضلة، وتحمي عالمنا الإسلامي من الغرب وشروره.
عند التأمل الطويل لكثير من أطروحات الفكر الإسلامي المعاصر، والآراء الفقهية يجب التنبه للمؤثرات المعاصرة، وليست القديمة فقط في القرون الأولى، التي أثرت على اتجاه الرؤية، وطريقة التفكير فيها، ولماذا أصبحت هناك حساسية لهذه القضية أو تلك. هناك عدد كبير من القضايا العصرية التي كان أقوى مؤثر فيها هو ظروف البدايات والأجواء التي طرحت فيها في القرن الماضي، في مسائل سياسية واجتماعية وثقافية. ويمكن عرض الكثير من الأمثلة لإشكالية هذا التأثير، وعدم إدراك البعض لتغير المعطيات الزمنية، وتطور الأفكار والمعلومات في كل مسألة يتم تناولها خلال عدة عقود. وللأسف ما زال البعض يعيش في ذهنية مرحلة عشرينيات القرن الماضي وظروفها وأجوبتها، وخلقت حصارا ذهنيا لرؤية المسلم لأزمات عصره ومرحلته. حيث تنمطت تلك المحاولات الأولى وفق ظروفها في ذهنية العديد من المثقفين الإسلاميين، وطلبة العلم الشرعي، والوعظ الديني، وأصبحت رؤى محددة يدافع عنها بشراسة، وكأنها مسلمات تعبر عن القيم الفاضلة، وتحمي عالمنا الإسلامي من الغرب وشروره.
وقضية تحديد النسل إحدى هذه الأمثلة، التي تشكلت رؤيتها وفق نمط متقارب في طرحها منذ اللحظة التي أثيرت فيها مع بدايات القرن الماضي. وفرضت تصورات البدايات نفسها على كثير ممن تناولها وأفتى فيها لاحقا، بالرغم من أن شكل القضية اختلف. فرؤية بدايات القرن الماضي ليست كما هي الآن في بدايات هذا القرن، حيث أصبح العديد من الدول الإسلامية أمام مأزق حقيقي في مسألة السكان، وتأثير ذلك على التنمية، وأصبحت الكثافة السكانية أحد الأعباء المخيفة للنخب العاقلة في إحساسها بالمسؤولية تجاه مجتمعها، وتخطيطها للمستقبل.
كان هذا الخوف من الانفجار السكاني في بدايات القرن خوفا متوقعا، في زمن كانت هناك معدلات الوفيات عالية، وقلة سكان، ولذلك كان البعض يرى أنها مؤامرة غربية، واستعمارية للسيطرة على عالمنا الإسلامي. فاستمرت المقالات والدراسات، والآراء في هذا الاتجاه، وكأن هؤلاء لا يريدون أن يفكروا معنا بالمشكلة التنموية كما هي في حقيقتها الآن، فالحديث عن التنمية دون الحديث عن السكان والسيطرة عليه مجرد عبث لفظي، فجزء من تقدم وقوة الغرب هو في هذا التخطيط للمستقبل. لماذا لا يضع هؤلاء شتم الغرب ومؤامراته في ملحق خاص بكتاباتهم وأطروحاتهم، ويفكرون قليلا بالمشكلة التي لم تعد مجرد توقعات، وإنما نشاهدها أمامنا الآن.
عند متابعة بعض ردود الأفعال مع نقاشات مجلس الشورى الأخيرة بشأن وثيقة السياسة السكانية، كان المثير بالنسبة لي وأنا أطلع منذ الثمانينات على ما يطرح فيها، ليس هو الرأي ذاته الذي يتم تبنيه والدفاع عنه، وإنما زاوية الرؤية، وأسلوبها المتقادم جدا والمنتهي صلاحيته في رؤية الأزمة الحضارية التي تواجه المجتمع المسلم المعاصر. فمعطيات ثلاثينيات القرن الماضي ليست معطيات بداية هذا القرن.. بمكتشفاته وتطوراته الطبية. وحال بعض الدول الإسلامية في هذا الزمن مع إشكالية السكان ليست كما هي قبل مئة عام. وقد رأينا فعلا تأثيرها على خطط التنمية في أغلب دول العالم العربي والإسلامي، وقد تحدث الكارثة لدول أخرى إذا لم تتنبه لها مبكرا.
فالتفكير بالقضية يجب أن يكون وفق محدداتها في هذا الظرف التاريخي، وتأثيرها على تطور عالمنا الإسلامي، وليس بالخروج عن الموضوع إلى تنميطات خطابية مكررة، وكأنه لم تستجد حقائق واقعية في القضية، ولهذا تجد في كثير من المراجع، والمؤلفات والفتاوى التي ظهرت تشير إلى قضية أساسية وهي تآمر الغرب، وأن دعاة هذا القول بتحديد النسل تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين «حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعمار أهلها» كما ورد في فتوى اللجنة الدائمة في منتصف السبعينات واستند إليها مجمع الفقه الإسلامي.
القضية ليست هل يوجد تآمر غربي أم لا، ولست من أنصار النظر إلى الغرب كقطة أليفة، وأنه يحب الخير لنا. في هذه المرحلة يجب أن تواكب الرؤية والتصورات المتغيرات التي حدثت فعلا، وأن يتم التعامل مع أزمة الإسكان كمشكلة تنموية خاصة بنا، وليس باستحضار الغرب، والهروب عن حقيقة الأزمة. وإذا كانت الآراء الفقهية تسامحت مع ظروف الأم في تنظيم النسل خوفا عليها، أو من أجل التربية، فلماذا لا ينتقل هذا الخوف على الأم الكبرى المجتمع نفسه، عندما تظهر التطورات التاريخية والمعطيات مسارا مخيفا.. في بلدان قد تجد صعوبة مستقبلا في تأمين حتى مياه الشرب، ولا تملك حتى الآن مقومات الحياة بدون قطرات نفط.
December 20, 2014
طرد المواطن من سوق الأسهم
عندما تتحرك مؤشرات أسواق المال خلال تذبذبها بموجة تصاعدية، يرافق ذلك أحيانا ظواهر اجتماعية حيث تصبح حديث المجالس، مما يزيد من مستوى سيولة السوق ويعزز ارتفاعها.
عندما تتحرك مؤشرات أسواق المال خلال تذبذبها بموجة تصاعدية، يرافق ذلك أحيانا ظواهر اجتماعية حيث تصبح حديث المجالس، مما يزيد من مستوى سيولة السوق ويعزز ارتفاعها. في هذه المرحلة ينسحب بجزء كبير من السيولة المتداول المحترف مبكرا قبل لحظة النزيف للشراء بمستويات سعرية مغرية لاحقا. بعد أن يكون تعلق بأسعار مرتفعة كثيرون من المتداولين الصغار، والذين لم يسترد الكثير منهم خسائر انهيارات متعددة منذ ثمانية أعوام.
في هذه اللحظة يبدأ الحديث عن خطورة أسواق المال، وهجاء السوق وهواميره، لطرد المواطن من السوق، بحجة الخوف على ماله. لا يسأل هؤلاء كيف يستثمر المواطن الموظف في القطاع الحكومي أمواله المحدودة بعشرات الآلاف والتي لا توفر له عقارا، ولا قيمة أرض، ولا يتيح له النظام أن يستخرج تصريحا لأي نشاط تجاري صغير، وحتى المشاريع الصغيرة هي الأخرى أصبحت اليوم بحاجة إلى مبالغ كبيرة بمئات الآلاف من الريالات. ولهذا يظل سوق المال هو الأفضل على المدى الطويل للمواطن والموظف الحكومي، ليستفيد من قوة اقتصاد الدولة.
تجاوزنا أكثر من عقد على نظام التداول الالكتروني في سوقنا المالية، وحدث للسوق خلالها العديد من الارتفاعات والانهيارات المروعة. ما هو لافت أن جميع هذه الانهيارات المؤلمة جدا، وشعور الفرد العادي بالغدر المالي لحدوثها.. لم يكن لهما علاقة بقوة اقتصادنا أو ضعفه، فهذه السنوات العشر بأرقامها التريليونية سجلت مرحلة ذهبية فارقة في تاريخ الوطن، لكن أسواق المال بطبيعتها تخترع لحظات انهيارها وتشاؤمها، كما تخترع لحظات صعودها وتفاؤلها. وفي أسواق المال بدون خبرات شخصية ومتابعة دقيقة لسلوكها وممارسة اتخاذ قرارات لحظية واستراتيجية، لن يتمكن الفرد العادي من استيعاب نصائح وتحذيرات المحللين للأسواق، ولن يدرك لماذا في حالات كثيرة تمكر بالمتعاملين، فهي ليست مجرد بيع وشراء وتوصيات ونصائح تقليدية عامة، وانطباعات وتصريحات خبراء، وإنما شبكة معقدة من التصورات لحركة الاقتصاد العالمي المعاصر، والسلوك الإنساني.. لتطوير القدرات الذاتية للتنبؤ بالخطر. «يشير ستيغليتز إلى أنه حتى في البلدان المتقدمة جدا تعمل الأسواق بطريقة مختلفة بشكل كبير عن الطريقة المتخيلة في نظريات الأسواق الصحيحة»، لذا يصعب تعريف أسواق المال للآخرين بدقة كما هي في الواقع، ويكشف كثير من التعليقات عن سوق المال حجم الجهل وخطأ التصورات حول ماذا يعني سوق مال، وأسلوب التعامل معه.
لهذا يلاحظ في أحاديث نقد الفساد عدم التمييز بين سلوك خاص بطبيعة الأسواق المالية، لا يمكن تعديله والتدخل فيه، والفساد الخاص بتفاصيل حول أداء الشركات والمضاربين، وكبار الملاك والمديرين التنفيذيين، وأخطاء هيئة سوق المال في أكثر من مرحلة، ومشكلات قطاع المحاسبة الذي ما زال بحاجة إلى رقابة، حيث تطبخ القوائم المالية وتسجل أرباح غير حقيقية وتجمل على حساب المستثمر الصغير.
هناك أخطاء عديدة خاصة بالتعامل الإعلامي، فالحديث الموسع إعلاميا عن السوق لا يأتي إلا عند النزيف الحاد للمؤشر فقط، ولا توجد هذه التغطيات الموسعة لعشرات الأخطاء والفضائح لشركات عدة، واكتتابات في قطاع التأمين، والاتصالات، والمقاولات كقضية شركة المعجل وغيرها. وفي الأسبوع الماضي جاءت تصريحات وزير المالية، ووزير البترول متأخرة بعد انهيار حدث لأيام عدة، وبعد أن كسر السوق عدة دعوم، وتضرر عدد كبير من المستثمرين، قبل أن يسترد ألف نقطة خضراء في آخر جلستي تداول. بطء المسؤول يتكرر كثيرا، فبالنسبة لمستثمري سوق المال يعد اليوم والأسبوع مدة طويلة جدا، ويمكن حصر هذه النماذج من الأخطاء الإعلامية والتصريحات بقصص صحفية مستقلة منذ 2006م، ليستفيد منها المسؤول ويتجنبها. في هذه المرحلة ما هو أهم من التحذير الغامض من السوق ومن خطر الهوامير، وكأنهم يجب أن يكونوا فاعلي خير.. يجب أن يكون التحذير من الجهل بطبيعة الأسواق المالية، وليس من السوق لطرد المستثمر الصغير وتركه للكبار.
December 13, 2014
تغيير مسقط الرأس والمناطقية!
يتشكل وعينا بالمكان الذي ننتمي له منذ اللحظة التي يبدأ فيها إدراكنا للحياة، فتبدو مدينتنا أو قريتنا التي عشنا فيها طفولتنا قريبة من مشاعرنا وتذكرنا بمحيطنا العائلي الحميم، فنبدأ في سن مبكرة في الدفاع عن مسقط الرأس، كما ندافع عن نادينا الرياضي الذي نشجعه. بعدها تبدأ مراحل أخرى من النضج بالحياة ومجتمعنا الأوسع والعالم من حولنا، متزامنة مع وعينا بإشكاليات المجتمع والسياسة والوطن وتعقيدات الواقع. ويتيح لنا السؤال التقليدي المبكر»من وين الأخ؟» في مناسبات ولقاءات الحياة المتنوعة قراءة ردود أفعال الآخرين وأنماطها وتعليقاتهم لمعرفة رؤية وتقييم الآخرين لمسقط رأسك، وتنميطهم له ومواقفهم منه، وبالتالي تنميطهم لك، مهما كانت هذه الانطباعات محاطة بقدر كبير من المجاملة الشخصية والاحترام، حيث تكشف الكثير من النكات المتبادلة بعض ملامح هذه الانطباعات، مهما كانت سطحية وغبية في تصور الآخر من وطنك.
يتشكل وعينا بالمكان الذي ننتمي له منذ اللحظة التي يبدأ فيها إدراكنا للحياة، فتبدو مدينتنا أو قريتنا التي عشنا فيها طفولتنا قريبة من مشاعرنا وتذكرنا بمحيطنا العائلي الحميم، فنبدأ في سن مبكرة في الدفاع عن مسقط الرأس، كما ندافع عن نادينا الرياضي الذي نشجعه. بعدها تبدأ مراحل أخرى من النضج بالحياة ومجتمعنا الأوسع والعالم من حولنا، متزامنة مع وعينا بإشكاليات المجتمع والسياسة والوطن وتعقيدات الواقع. ويتيح لنا السؤال التقليدي المبكر»من وين الأخ؟» في مناسبات ولقاءات الحياة المتنوعة قراءة ردود أفعال الآخرين وأنماطها وتعليقاتهم لمعرفة رؤية وتقييم الآخرين لمسقط رأسك، وتنميطهم له ومواقفهم منه، وبالتالي تنميطهم لك، مهما كانت هذه الانطباعات محاطة بقدر كبير من المجاملة الشخصية والاحترام، حيث تكشف الكثير من النكات المتبادلة بعض ملامح هذه الانطباعات، مهما كانت سطحية وغبية في تصور الآخر من وطنك.
مع تطور الخبرة في الحياة وإشكاليات المجتمع لفتت نظري في سن مبكرة، وأثارت في وعيي الكثير من الأسئلة حالة وجود آباء لديهم حرص على أن يختاروا مسقط رأس لأولادهم، ليكون ميلاد أبنائهم في مدن ومناطق محددة مسبقا كجزء من التخطيط لمستقبلهم، غير المكان الذي ينتمي له أحدهم حقيقة. اختيار مكان الولادة في دول أجنبية وغربية متقدمة مفهوم له أسبابه المباشرة لأي فرد من العالم الثالث، لكن أن يختار من داخل الوطن مكان ميلاد آخر، كرؤية مستقبلية لمصلحة الأبناء بعد تراكم خبرتهم الاجتماعية والتجارية والوظيفية والسياسية، حيث يتجه بعضهم بهذا الاختيار إلى مدن كبرى تحييدا لأبنائهم عن أي تنميط يضر بمصلحتهم، ويضيع عليهم فرص يتوقع أنه سيفقدها بسبب أنه ليس من هنا أو هناك. وبعضهم قد يشعر بأن قريته ومنطقته لا تزوده ببرستيج اجتماعي كاف فيريد أن يجنب أبناءه هذه المشكلة في تصوره الشخصي.
لكل من التفكير المناطقي أو الطائفي أو القبلي إشكالياته الخاصة عندما يأخذ مسارا متطرفا، لكنها جميعا تشترك في أنها رؤى وانطباعات محكومة بمؤثرات يصعب السيطرة عليها، بمجرد تقدم أوامر ونصائح وعظية، فهي تظهر بحالاتها المرضية تلقائيا بسبب وجود خلل ما. هناك جوانب كثيرة في المناطقية ذات حساسية عند أي مصارحة حولها لتفسير قضية تفسيرا واقعيا من خلال رؤية اجتماعية تاريخية لها، ولهذا يصعب التشخيص العلمي والعقلاني لها، مع وجود خلل في تصور المجتمع وتشكله التاريخي ونوعية المصالح التي تؤثر عليه.
التفكير في المناطقية ومعالجتها لا يأتي من خلال الاستعراض المجرد لأرقام مباشرة، بدون قراءة وتحليل لكل مرحلة تاريخية وظروفها الاقتصادية والسياسية، وهذا أحد مظاهر الضعف في الدراسات الاجتماعية والثقافية للوعي بمدن وقرى بلادنا وشخصيتها التاريخية، وطبيعة أهلها، وقراءة تأثير النفط على مسارها التاريخي.
تبدو المناطقية في أكثر حالاتها حضورا بالوعي الشعبي المباشر في دوائر الوظيفة والعمل في القطاع العام والخاص، ولهذا تجد السؤال الأول المباشر في الأحاديث الجانبية بين الموظفين عن الرئيس فلان والمدير فلان: من أين؟ يسبق السؤال عما هو أهم، مؤهلاتهم وخبراتهم الوظيفية وسيرتهم الإدارية وكفاءتهم. هذا الاهتمام الشعبي التلقائي بسبب الحرص على المصالح الخاصة. وجزء من إشكال اجتماعي تاريخي، يتعلق بمفهوم الواسطة، والفزعة مع جماعته، وأهل ديرته، حيث تتداخل أخلاقيات العمل وصرامته ونزاهته المطلوبة مع أخلاقيات وواجبات مساعدة العشيرة والأهل، فيصعب التمييز بينهما، ولهذا فإشكالية الواسطة والمحسوبيات الجزء الأكبر منها مرتبط بهذا الجانب. التفكير بإشكالية المناطقية بصورتها السلبية بحاجة إلى عمق تاريخي واجتماعي، وإحساس وطني بالمسؤولية، للتمييز بين ما هو مناطقي مقبول وإيجابي في بث روح التنافس العلمي والعملي.. وبين ما هو ضار بحاضر الوطن ومستقبله.
December 6, 2014
الوزير والتنمية: أدلجة الموقف والتقييم
عندما بدأت تعود الحياة تدريجيا لوزارة التجارة والصناعة، وأخذ المواطن يشعر بوجودها في قضايا عديدة، فإن ميزة هذه العودة في تدرجها التصاعدي.. وبدون خلفية صراعية، وفقاعة إعلامية. في البداية كأن
عندما بدأت تعود الحياة تدريجيا لوزارة التجارة والصناعة، وأخذ المواطن يشعر بوجودها في قضايا عديدة، فإن ميزة هذه العودة في تدرجها التصاعدي.. وبدون خلفية صراعية، وفقاعة إعلامية. في البداية كأن الفرد العادي لم يصدق.. فقد توقع بأنها مجرد حماس موقت، كعادة أي مسؤول جديد! هذه اليقظة كانت من بوابة.. هم المواطن اليومي، فقد مرت سنوات لا يعرف الكثير من أبناء المجتمع من هو وزيرها، إلا من لديهم أنشطة تجارية. وظلت لعقود طويلة حكاية حماية المستهلك، والغش التجاري، ووكالات السيارات وغيرها، وليمة صحفية يومية.. في مقال أو تحقيق أو كاريكاتير.
لم يسبق هذا التطور تغطيات صحفية وبروباغاندا وفلاشات شخصية، وإنما حضور جاد وعملي وموفق في استغلال مواقع التواصل الاجتماعي.. لمعالجة المشكلات مباشرة، وتجاوز للبيروقراطية. هذه التجربة لا زال أمامها الكثير من التحديات العملية، لضبط مخلفات قديمة في المجال التجاري، وإعادة ثقة المواطن بأن هذه الجهات تهتم بمصلحته، ولست مع المبالغة في الاحتفاء بها. ما هو مزعج أن تتحول مثل هذه النماذج إلى منطقة صراع فكري، ومواقف تعيق التقييم الموضوع للأداء كما حدث لوزارة العمل.. فقد عطلت المواقف الفكرية حول بعض الجوانب، الرؤية للأداء بصورة عامة. وكما حدث أيضا لوزارة الإعلام قبل سنوات.. وفي الفترة الأخيرة. وكثيرا ما ظهرت مثل هذه المواقف في وزارة التربية والتعليم وغيرها.
للأسف يحدث هذا بمجرد مقالة أو تغريدة، تؤطر الرؤية بملامح أيدولوجية ليثور صراع عبثي، لا يخدم التنمية وهمومها. فمثلا عندما نشر خبر طرح البنك الأهلي للاكتتاب، مرت بعد الخبر فترة هادئة بلا ضجيج. لأن سوق الأسهم منذ بداياته يتعامل مع الاستثمار وفق تنوع يعرفه المستثمر ويحدد خياراته اقتصاديا وفقهيا .. بعيدا عن الصراعات والمواقف. لكن عندما جاءت مقالة الكاتب جاسر الجاسر في الحياة بعنوان «اكتتاب البنك الأهلي: سطوة «الصحوة» أم سقوطها؟ « وهي مقالة ينقصها التصور لطبيعة سوق الأسهم، والاكتتابات وتفاصيل مالية أخرى. كانت المفاجأة بأن الموضوع أصبح في هاشتاق تويتري فتضخمت القضية، وكأنه تم إعادة اكتشاف البنوك في مجتمعنا! وتحول الموضوع إلى صراع من نوع آخر، ووجد الكثير من العاطلين في الصراعات الفكرية فرصة لصناعة انتصارات وهمية، مع أنه لم يغير هذا الحدث من حقيقة السوق شيئا.
وكان عنوان المقال الآخر الذي كاد أن يتحول إلى صراع جديد بعنوان (توفيق الربيعة «إخواني»!) إلا أن المقالة كانت إيجابية، وهي أحد أساليب كتابة الجاسر «المخاتلة» عادة. لكن ما كتبه الكاتب هاني الظاهري قبل أيام.. بعنوان «مسؤول الفلاشات السرية» أخذ اتجاها غير مفهوم، وكان يستطيع أن يقدم نقدا ذكيا، وتنبيها راقيا.. لممارسة قد تؤثر سلبيا على ما هو أهم.. لكن اتجاه المقال أخذ بعدا يسمم كثيرا أجواء النقد في قضايا التنمية وهموم المجتمع. الرؤية الشعبية لأداء الوزارات والمؤسسات الحكومية، تكون عادة وفقا للمنجز على أرض الواقع، ولهذا عندما نعود إلى الخلف أكثر من نصف قرن، فإن ذاكرتنا وذاكرة أكثر من جيل تحتفظ بتقدير للكثير من الأسماء والشخصيات التي خدمت وطنها بكفاءة إدارية. بعد منتصف الثمانينات الميلادية بدأت هذه المواقف ترتبك، وتتأثر بالمواقف الفكرية، بصورة حادة مع صراعات الصحوة، لكن زمن الصحوة المؤثر فعلا كان محدودا في إطار زمني وانتهت الكثير من مقوماته.. مهما حاول البعض تمطيطه.. فقد حدثت تغيرات عديدة بعد منتصف التسعينات، كانت سببا في إعادة هيكلة الكثير من المواقف والآراء والصراعات. إن أهمية عزل المواقف الفكرية، وأن لا يكون التقييم لأداء المؤسسات بناء على رؤى مؤدلجة، يساعد المجتمع على التقييم العادل لتجربة كل وزير ومسؤول في مؤسسة حكومية ودوره في التنمية.
November 29, 2014
فيرجسون.. وقصة أكبر وهم جهادي
مع نهاية الثمانينات وإعلان الاتحاد السوفيتي انسحابه رسميا عام 1989 من أفغانستان.. أخذ الخطاب الديني في قمة عصر الكاسيت يتكلم عن هزيمة المجاهدين الأفغان
مع نهاية الثمانينات وإعلان الاتحاد السوفيتي انسحابه رسميا عام 1989 من أفغانستان.. أخذ الخطاب الديني في قمة عصر الكاسيت يتكلم عن هزيمة المجاهدين الأفغان لقوى عظمى، تضخمت الفكرة واختزلت ودفنت معها كل التفاصيل السياسية للمرحلة، فتحولت إلى وهم يكبر، في وعي مراهقي السياسة والحروب، وأصبح للعائدين من هناك ترميز خاص، يتحدثون بفخر وخيلاء عن إنجازهم، حتى وإن لم يذهب هناك إلا أسبوعا للتمشية في معسكرات آمنة.
وقبل أن يتم محاصرة هذا الفكرة لتوضع في إطارها الحقيقي بدون تهويل، أعلن عن تفكك الاتحاد السوفيتي رسميا بعد أكثر من عامين في نهاية عام 1991. أخذ الوهم يكبر.. وينفخ فيه الخطاب الديني الحماسي، فربط بين تفكك المعسكر الاشتراكي وبين المجاهدين الأفغان. أخذت الأسطورة عند هذا الخطاب مسارا تصاعديا.. وقد كانت على موعد آخر في المشهد الصومالي، لينقلها إلى مستوى آخر. أسقطت طائرتا هيلوكوبتر عام 1993، وسحل جندي أمريكي، وأعلن كلنتون انسحاب القوات الأمريكية. هنا بدأ هذا الوهم في قمة تضخمه وبدأ يشعر ويفكر بأنه يمكنه إسقاط زعيمة المعكسر الغربي أمريكا. تبدو الفكرة صبيانية الآن، لكن في ذلك الوقت كان لها جاذبية وسحر خاص. ظلت تكبر في وعي أسامة بن لادن وقيادات أخرى، وتلمسها في ثنايا كل خطاب جهادي من مرحلة المنشورات إلى عصر النت.. منذ أكثر من ربع قرن. للبحث عن الزر الذي سيضغط لتدمير أمريكا، وهي التي أدت إلى استمرار الخط الجهادي، واستقلاله عن الخطابات الأخرى.. إلى أن أصبح تيارا مكتفيا بذاته، مع سكوت أطراف أخرى عنه، وعدم نقده في حينه. بعد الحدث الصومالي أصبح الحديث عن سقوط إمبراطورية الشر..
قبل أيام انفجرت أحداث شغب ومظاهرات فيرجسون، بسبب تبرئة الشرطي الأبيض الذي قتل مراهقا أسود، وتزامنت مع استقالة وزير الدفاع الأمريكي، وظهرت معها ملامح هذا الوهم القديم، وفرحة المعرفات الداعشية، في عدة هاشتقات عن الربيع الأمريكي، وأمريكا تنهار، وأمريكا تشتعل مع هاشتاق الدولة الإسلامية. وأعدت مقاطع يوتيوب مشحونة بالأناشيد وفقرات من خطب «وأبشري يا أمة الإسلام فإن أمريكا طاغوت العصر وأذنابها باتت تتهاوى تحت ضربات المجاهدين».
من المؤكد أنها ليست بنفس زخم الماضي، لكنها مؤثرة، خاصة أن هذا الوهم لا يتم نقده.. ويغذى من عدة خطابات تستمتع بهجاء أمريكا والغرب وديمقراطيتهم. وظهرت بعدة مسارات فكرية وثقافية في عالمنا العربي منذ الخمسينات. يكتب جهاد الخازن قبل يومين بمناسبة هذا الحدث في جريدة الحياة مقالا بعنوان «ديمقراطيتهم قشرة زائفة»، ويقول «بأن الحضارة الغربية قشرة تخفي ما تحتها من زيف»، هذا العبارة ليست لمنظر ديني يقيم الأمر من ناحية أخروية، فيبدو مقبولا وفق رؤيته التي يقدمها.
نقد أمريكا والغرب وديمقراطيتهم من حق أي كاتب، وليس من شروطها أن تكون من دولة ديمقراطية أو متقدمة، النقد السياسي والمعرفي له أدواته التي يستطيع أي فرد تحصيلها، والواقع أن كثيرا من هذا الطرح مجرد تجميع لإحصائيات ومقولات بدون ربط منهجي وتصورات كلية لمسار التحولات التاريخية سياسيا واقتصاديا، وإنما لتوظيفه في استغباء القارئ، وتبرير واقع وسلوكيات أخرى، لجعل السيئ والأقل سوءا في نفس الدرجة من هذا العالم.
والأوهام في حقيقتها تتضخم من خلال كل حدث.. ولو عدت لصحافة 1993 وقرأت التعليقات والمقالات العربية في حينها على سحل الجندي الأمريكي، وانسحاب القوات الأمريكية، لوجدت أن المسافة بين خطاب واعظ جهادي مبتدئ.. ليست بعيدة كثيرا عن تنظيرات بعض النخب العربية!
عبد العزيز الخضر's Blog
- عبد العزيز الخضر's profile
- 44 followers
