أخطاء في تقدير حجم المشكلات
شاهدت مقدم أحد البرامج اليوتيوبية يعرض إحصاءات وأرقاما عن إدمان المخدرات، والانتحار والسرقة والعنف الأسري في مجتمعنا
شاهدت مقدم أحد البرامج اليوتيوبية يعرض إحصاءات وأرقاما عن إدمان المخدرات، والانتحار والسرقة والعنف الأسري في مجتمعنا.
كثيرا ما نقرأ إحصاءات عن مشكلات متنوعة عبر مقالات وخطب منبرية وتغريدات وغيرها.
ما هو لافت استعمال مثل هذه الأرقام للنقد والوعظ والتباكي دون أن يكون مقدم هذه الأرقام لديه وعي بتفاصيلها، وقدرة على فهم حجم الأزمة من خلال مقارنات متنوعة حول العالم.
وكيف تمت عملية التقدير والإحصاء، وماهي الجهة التي قامت بهذا.
إذا كان هناك خلل في ثقافة التعامل مع الأرقام لتقدير حجم المشكلات في مجتمعاتنا، فكيف بتلك القضايا التي يصعب تقديرها بأرقام، وتعتمد على الخبرة والحدس الفردي، الذي يتطور بالمتابعة والتأمل.
كيف يندهش البعض من أرقام بمجرد سماعها، والمدهش أكثر من يعرضها للجمهور وهو ليس لديه أي خلفية عنها! الأرقام لا معنى لها إلا إذا توفرت المعلومة بصورة متكاملة، أو أن لديك خبرة في هذا المجال أو ذاك.
بمعنى لو خفضت بعض الأرقام إلى النصف أو ضاعفتها فلن يشعر بالفارق إلا من يمتلك معرفة تراكمية في الموضوع.
فأي رقم - مثلا- حول أعداد المنتحرين لو عرض عليك..فلا معنى له بدون مقارنات بين أرقام من الماضي والحاضر لعدة عقود، أو مقارنة مع دول قريبة أو بعيدة.
يلجأ بعض المثقفين والكتاب دون شعور بالخطأ لتضخيم القضايا والمسائل التي يطرحونها، حول العديد من الظواهر الاجتماعية والدينية لعرض نقدهم.
يتوهم البعض أن طرحه لا يكون مهما وخطيرا إلا إذا بالغ في تضخيم المشكلة التي يتناولها، وتصويرها بأكبر من حجمها.
فتحولت لديهم إلى ممارسة تلقائية.
التضخيم يجعله يبدو المنقذ والنذير لحلها كواعظ لقومه.
الادعاء بأنها سائدة ومنتشرة في المجتمع يوهم بقيمة ما يطرح، والواقع أن القضايا والأمراض ليست بحاجة لهذا الأسلوب.
أي مرض في المجتمع مهم تناوله، ونقده حتى وإن كان محدودا جدا، وأي خلل أوموقف متطرف، أو رأي شاذ يستحق مناقشته دون الحاجة إلى الادعاء بأنه رأي شائع في المجتمع.
قبل فترة تضررت إحدى الحدائق الجديدة بوجود تجمعات شبابية وازدحام زوار، ومع التجمهر والازدحام يحدث أحيانا فوضى متوقعة.
عندما حدث تخريب من مراهقين، لاحظت أن ردة الفعل عبر مواقع التواصل مبالغ فيها، والهجوم ليس على هذه الفئة أو المجموعة، وإنما تحول إلى المجتمع وتخلفه بصورة مفرطة، وأننا لسنا كفؤ مرافق حضارية! مع أن الرؤية المتزنة تدرك أن هناك آلاف الحدائق منذ سنوات طويلة تبدو بشكل جيد، ونشاهدها في أحيائنا، لا تتعرض لأي تخريب، ولا نخاف عليها إلا من المقاولين إذا زادت الميزانية بتكسير بلاط هنا أو إزالة أشجار هناك، بهدر مالي غير موفق.
فمشكلة هذا النقد أن رؤيته للحدث مشوشة، ويسهل تعميمها بسهولة على المجتمع والشباب وكأن الهمجية هي الأصل.
مثال آخر.
مثقف يتعرض لنقد وهجوم من شاب متحمس في تدينه، ويهاجمه بتطرف، وأحيانا باسم مستعار، فيبدأ هذا المثقف بالتباكي، وأنه لا فائدة من هذا المجتمع، ويسرد معاناته والآلام التي يواجهها لتنويرهم، بالرغم من أنه في حياته اليومية يستقبل باحترام وتقدير من شرائح عديدة في مجتمعه.
في حواراتنا أصبح من الممل التحذير من التعميم، فيتم التحايل عليها بأسلوب يوهم بالدقة “لا أعمم ولكن..”! مشكلتنا ليست بالتعميم لأنه خطأ مكشوف، وإنما في تقدير حجم المشكلات التي نتناولها، ووضعها في إطارها الصحيح.
ظهور “داعش” مثلا بشكلها العبثي، أنقذ بعض الكتاب العرب..من إفلاسهم في فهم وتناول المتغيرات العربية الكبيرة، فوجدوا فيها ملاذا لتفريغ هجائهم ونقدهم للمجتمع العربي وظلاميته، وكأن “داعش” معبرة عنه، بدلا من أن يتعامل معها كظاهرة مزعجة خاصة بفئة أو تيار وعدد أيا كان تقديره، ساهمت عوامل وصراعات محيطة في نشوئه، لنقد ممارساتهم وطرحهم بقوة ووضوح.
والبعض الآخر يتناقض، فمرة يتحدث عن أفول هذه التيارات المتطرفة وأن المجتمعات لفظتهم، ومرة يدعي أن لهم شعبية..ويتحدث عن انتشار الجهل والأمية.
ليس بالضرورة أن تكون كل قضايانا شائعة وعامة حتى تصبح مهمة.
هذه من أخطاء الوعي الصحفي لدينا، فكثير من الأعمال الصحفية الناجحة عالميا كانت حول قضايا لم يفكر فيها أحد وتبدو هامشية، وقصص فردية مهملة.
فالتركيز على قضية محددة ولو كانت صغيرة، ومعالجتها من كل الزوايا بأعمال صحفية أو بحثية جادة هو الإبداع، فليس من شروط الأهمية الانتشار للظواهر وشيوعها، بالعكس أحيانا تكون الندرة واكتشافها هو الأهم، من خلال التركيز على جوانب غير مرئية في زوايا مظلمة من مجتمعاتنا، لتنويرنا مبكرا..قبل انتقال عدواها للجميع.
عبد العزيز الخضر's Blog
- عبد العزيز الخضر's profile
- 44 followers
