المصرفية الإسلامية.. بين مرحلتين
سيشهد سوق المال السعودي في الأسبوع القادم اكتتابا ضخما لأحد أكبر البنوك السعودية.. والذي طال انتظار الاقتصاديين له منذ سنوات، وقد اعتذرت أربعة مصارف إسلامية عن تسلم طلبات الاكتتاب نتيجة لرأي الهيئات الشرعية التابعة لها.
سيشهد سوق المال السعودي في الأسبوع القادم اكتتابا ضخما لأحد أكبر البنوك السعودية.. والذي طال انتظار الاقتصاديين له منذ سنوات، وقد اعتذرت أربعة مصارف إسلامية عن تسلم طلبات الاكتتاب نتيجة لرأي الهيئات الشرعية التابعة لها.
ما يلفت النظر نشر هذا الخبر عبر تقارير صحفية محلية من دون توتر أو حساسيات، وأصبح مجرد خبر عادي غير مثير، فلم تعد مثل هذه الأخبار تضيف بريقا لطرف على حساب آخر، فقد أصبحت المحصلة النهائية لتقييم الفوارق بين البنوك التقليدية والإسلامية وفق مصطلحات السوق الحالية، محصورة في أشياء محددة، وجزئيات الكثير منها ليس متفقا عليها.
لم تكن مشكلة البنوك التقليدية سهلة على الوعي المسلم المعاصر والنخب الدينية، فقد شكلت لهم مأزقا وتحديا حضاريا لم يعرفوا كيف يتصرفون أمامه. وتمثل تجربة المصارف الإسلامية نموذجا جيدا في كيف أن الفقيه والواعظ التقليدي لا يعتمد عليهما في مبادرات من هذا النوع، فلم تنجح هذه المصارف إلا من خلال عقليات تجارية بحتة ومتدينة، وقد واجهت الكثير من العوائق في البدايات، قبل أن يقتنع الكثير منهم بقيمة هذه التجربة الآن.
وقد اضطرت الدولة في البدايات أن تكون متشددة وصارمة لتأسيس بنوك عصرية قبل أن تنضج هذه التجربة التي استفادت من هذا الحزم، وهي نموذج لأهمية القرار السياسي في مواجهة مثل هذا النوع من الإشكاليات المبكرة.
لكن هذه التجربة بالرغم من كل الملاحظات عليها، والنقد الذي وجه لها منذ البدايات، فقد واجهت أزمات عديدة مع العقليات المتشددة دينيا وهي قصة بحد ذاتها، وأزمة مع خصومها من تيارات أخرى. تكمن أهميتها الآن مهما كان موقفك منها في أنها تجربة إسلامية شبه مكتملة أخذت فرصتها في بيئات نفطية كغيرها، وانتهت ذهنية المؤامرة عليها، وأصبحت تواجه النقد لها والتحدي التجاري كغيرها، وتحولت فكرتها إلى نموذج مربح ومغر حتى للبنوك التقليدية! ولم يؤثر عليها النقد الكلامي العام، مثل غيرها من قضايا الإسلاميين، فالجدل الاقتصادي بحاجة إلى أدوات ومصطلحات نخبوية دقيقة، لا يملكها هواة الإثارة الصحفية.
بعد أكثر من أربعة عقود تبدو تجربة المصرفية الإسلامية ثرية بالممارسة والعديد من التفاصيل والتحديات الخاصة بها، وتراكم خبرات لأجيال عديدة، وتدير أصولا مالية ضخمة تفوق 300 مليار دولار، وتنتشر جغرافيا في مساحات واسعة من العالم.
وتشير التقديرات إلى أن منطقة الشرق الأوسط والخليج تستحوذ على حوالي s من النشاط المصرفي الإسلامي. رؤية هذه التجربة الآن تختلف عنها في السبعينيات والثمانينيات. والأسئلة التي تواجهها في الحاضر والمستقبل أصعب منها في البدايات وهو عكس ما يتوقع المتابع لمراحل تطور الظاهرة.
أتذكر في مراحل مبكرة، وقبل نضج هذه التجربة كيف كانت تجذبنا الكتب والدراسات التي تقارن بين الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي مع الاقتصاد الإسلامي، فهل اقتربت هذه البنوك الآن من نموذجها الإسلامي المتخيل أم أنها رأسمالية محجبة؟! وهذا بدوره يعيد الكثير من النقاشات الاقتصادية التي تثار حول حقيقة الاقتصاد الإسلامي الذي نظر له منذ الخمسينات!
لم يعد السؤال الآن: هل التجربة ناجحة أم لا؟، وإنما: ناجحة لمصلحة من؟ للمستثمر وليس للعميل الذي يدفع زيادة تكلفة تجنبه الحرام حسب تعريفات الفقيه المرتبط بهذه البنوك، ولا يوجد مقابل من البنك الذي يراهن على التزام العميل بهذه الآراء الفقهية، ولهذا فإن السؤال عن كفاءتها الإدارية بحاجة لدراسات تفصيلية، وقد يساعد الانتشار الأفقي لها وتعددها على اختبار قدراتها الإدارية من خلال المنافسة بينها. يشير د. محمد بوجلال إلى أن: معظم النقد الذي يوجه لهذه البنوك الآن من الاقتصاديين الإسلاميين يتمثل في أنها لم تستطع الانتقال من «الهامش المعلوم» إلى مرحلة «المشاركة» في الأرباح والخسائر، امتثالا للشعار الذي نادت به عند نشأتها، حيث تشير الأرقام إلى أن من تمويلات المصارف الإسلامية تتم في إطار صيغ الهامش المعلوم.
فهل انتصرت المصرفية الإسلامية لشعارات الاقتصاد الإسلامي الذي نظّر له مفكرون إسلاميون في هذا العصر أم ابتعدت عنه؟ وهل حافظت على جاذبيتها القديمة أم تغيرت النظرة لها؟ وما نوع الورع الفقهي المستعمل في تعامله مع الجشع التجاري؟
الكثير من الأسئلة لا يمكن أن تجيب عليها ذهنيات مشحونة ضد التجربة، وتريد أن تضخم العيوب، ولن يجيب الاقتصادي المتعاطف مع هذه التجربة، ولن يجيب عليها الفقيه التقليدي وحتى البنكي المشغول بفقه معاملات مطور لإجراء مقارنات بيوع حديثة وقديمة في تراثنا الفقهي، وإنما هي بحاجة لوعي يملك فكرا اقتصاديا حقيقيا مستقلا عنها، لتقييم التجربة وتحديد الفوارق بينها وبين البنوك التقليدية وتأثيرها الاقتصادي في المجتمع.
عبد العزيز الخضر's Blog
- عبد العزيز الخضر's profile
- 44 followers
