محمد إلهامي's Blog, page 24
June 21, 2018
عجائب الصين كما رواها المؤرخون المسلمون
ذكرنا في مقال سابق موجزا للعلاقة بين المسلمين والصين، ثم ذكرنا في المقال السابق المنافذ والمصادر التي تعرف المسلمون منها على الصين وأحوالها وعجائب أهلها، وفي هذا المقال نرى كيف ظهرت صورة الصين لدى المسلمين كما روتها مؤلفات التاريخ والآداب والرحلات والبحث العلمي.
قدمت رحلة سليمان التاجر، في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، صورة ممتازة عن الصين في ذلك الوقت المبكر. ورغم كونها مختصرة إلا أنها مكثفة واستوعبت الكثير من صورة الصين: في السياسة والاقتصاد والأخلاق والتقاليد والملابس والطعام والشراب، وهي أول أثر معروف يقدم تلك الصورة المتكاملة. بينما ظلت صورة الصين تتناثر وتجتمع في كتب العلوم المختلفة: المتخصصة والموسوعية.
وأبرز ما يلفت النظر في تلك البذور المبكرة المتينة لصورة "الدولة الحديثة" التي تُحْصِي البشر وأموالهم وتقوم على الحفاظ عليها وتراقب الطرق والبضائع وتشرف على التعليم وتستعمل التصوير، وهو ما يجعل فكرة الدولة الحديثة القائمة الآن لا تزيد عن أن تكون تطورا في التقنيات والأدوات فحسب. وهو أمر لا ريب سيُدْهِش من لم يكن يعرفه.
وسعيا لجمع أجزاء الصورة بما يسمح به المقام فقد اخترنا منها عشرة عناصر فحسب، نستعرض في هذا المقال ثلاثة منها:احتفى التراث الإسلامي بما لملوك الصين من قوة السياسية وما تحفل به بلادهم من العدل، ووصف أهل الصين بأن "الخصب والعدل لهم شامل، والجور في بلادهم معدوم"ويلفت النظر وصف المؤرخين المسلمين لملك الصين "كو خان" الذي تسبب بالهزيمة الكبرى للجيوش الإسلامية (531هـ) بالعدل والحكمة والسياسة وكراهية الخمر، إلا أنه لا ينهى عن الزنا ولا يُقبحهوحيث ذُكِرَ ملوك الصين في الكتب الإسلامية يتوقع المرء مباشرة فصلا من الحكمة والسياسة، والمحاورات التي سجلها التراث الإسلامي لملوك الصين تنضح بتلك الصورة، كمحاورة ملك الصين مع الإسكندر المقدونيويرجع نظام الصين إلى الملك المؤسس، المعروف في الرواية العربية باسم "توتال"، فهو الذي قرر أن "الملك لا يثبت إلا بالعدل، فإن العدل ميزان الرب"، وأنه أول من قرر أهمية اجتماع الناس على دين وشريعة فإنه أحكم للنظام وأعدل للمحكومين وألزم للحاكم "لجمع الشمل وتساوي النظام، فإنه متى عدم الملك الشريعة لم يؤمن هليه الخلل ودخول الفساد والزلل"ومن طريف وسائل إقاة العدل في الصين أن العامة يستطيعون إيصال شكاواهم إلى الملوك عبر ما يشبه الآن شبكة الاتصالات أو شبكة إنذار، حيث تمتد شبكة من الحبال في سائر المدينة تنتهي بجرس في قاعة الحكم، فما على صاحب الشكوى إلا أن يحرك الحبل فيدق الجرس عند رأس الملك في قصره فيؤذن له بالدخول وعرض شكايتهوقرر قانون الصين ألا يتولى الملك إلا من بلغ الأربعين ليكون ممن حنكته التجارب، فإن تولى الملك صغيرا كان في مجلسه من يقف وراءه فيصحح له ما يغلط فيه من الحُكم، ولا ينبغي أن يجلس الملك للفصل في المظالم إلا وقد أكل وشرب لئلا يغلط. ومن دلائل العدل وحسن السياسة أنه إن وقع الغلاء بالصين أخرج الملك الغذاء من خزائنه وباعه بأرخص الأسعار فيكثر المعروض وينتهي الغلاءواستمر المسلمون الذين عاشوا في الصين في وضع مكرم محترم منذ البداية حتى ما قبل عهد أسرة منج، بل تشير بعض الروايات إلى ما لهم من امتيازات حتى على أهل الصين، إذ يورد ابن فضل الله العمري رواية عن شيخه الشريف السمرقندي أنه رأى بالصين احترام المسلمين، "متى قَتَل أحدُ من الكفار مسلما، قُتِل الكافر القاتل، هو وأهل بيته، وتُنْهَب أموالهم، وإن قَتَلَ مسلم كافرا، لا يُقتل وإنما يطلب بالدية، ودية الكافر عندهم حمار، لا يطلب غير ذلك"، ولا ريب أن هذا من الظلم، إلا أن تلك الفترة كانت ذروة التميز الإسلامي في الصين لأن منهم عدد من أهم رجال الدولة ذوي المناصب الرفيعة في عهد قوبيلاي خان، وهو من سلالة المغولوالصيني إن شاء السفر حمل معه كتابين من الملك ومن الخصي، فكتاب الملك فيه اسمه وعمره وقبيلته ورفقته (ما يشبه الآن بطاقة الهوية) وكتاب الخصي فيه ما يحمله من الأموال والمتاع (يشبه الآن بطاقة البنك)، وتنتشر في الطرق نقاط شرطة تسجل بيانات من ورد عليها وتاريخ ورودهم وما معهم من الأملاك، فبهذا يُضمَن لكل واحد حقه، فإن فقد شيئا مما معه عُلِم أين فُقِد ومتى ومن الجهة المسؤولة عن رده، فرُدَّ ما فقد عليه أو على ورثته من بعدهويستعين جهاز الأمن بالرسامين في رسم صور الغرباء بحيث إذا فعل غريب شيئا يستوجب المعاقبة وهرب بُعث إلى الأنحاء بصورته حتى يُقبض عليهوالتاجر المسلم حين ينزل بالصين إما أن يدخل في ضمان تاجر مسلم مُعيَّن من قبل السلطة لتلك المهمة، فيتسلم من التاجر القادم أمواله وأمتعته وينفق عليه منها بالمعروف، فإن ضاع منها شيء فيضمنها التاجر الكافل. وإما أن ينزل بفندق فتكون مسؤوليته على صاحب الفندق الذي يتسلم منه أمواله وأمتعته ويحسن الإنفاق عليه ويعينه على ما يريد من الإتجار أو التسري أو الزواجوتتسلم السلطات من البحارة أسماء المسافرين القادمين مع السفن والراحلين إليها، ويوضع هذا في سجلات تُحفظ، فإن عادت سفينة بعد السفر صعد إليها رجال السلطة وقارنوا قائمة المسافرين بقائمة العائدين، فإن فُقِد أحد كان على صاحب المركب تقديم الدليل على أنه مات أو فر أو ما سوى ذلك، وإلا كان هو المتهم فيه. وعليه أن يقدم إحصاء بما في السفينة من البضائع، ثم يُنزل ما فيها تحت إشراف الشرطة فإن عُثِر على أنه كتم شيئا منها صودرت أموالهويخضع الصناع التابعون للسلطة إلى رقابة إضافية، وعددهم ألف وستمائة –في زمن ابن بطوطة- يعملون فيما يخص حاجة السلطة من الثياب وآلات الحرب، ولا يسمح لأحدهم بمغادرة العمل قبل عشر سنوات، ويُعرضون يوميا على الخان لإثبات عددهم، فإن مرت السنوات العشر خُير الصانع بين أن يواصل العمل أو يعمل حيث يشاء لكن لا يخرج من الصينفي المقال القادم إن شاء الله نستعرض صورة الصين في الأخلاق والثقافة والتعليم والصناعات.
نشر في مدونات الجزيرة
Published on June 21, 2018 02:52
June 20, 2018
مذكرات الشيخ رفاعي طه (3) أول اصطدام بالنظام، وأول صدمة فكرية، وأول تفكير في إقامة دولة إسلامية
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
أنهيت المرحلة الابتدائية وكنت الأول على مستوى الصف السادس الابتدائي بالمدرسة، والعشرين على مستوى المحافظة، كانت درجاتي تجعلني في المركز العاشر ولكن المتكرر من المتفوقين أنزلني إلى المرز العشرين، وكانت عادتهم في ذلك الوقت أن يأخذوا المتفوقين إلى "تنظيم البراعم" الملحق بالطلائع، وكانت الطلائع ملحقة بالاتحاد الاشتراكي العربي، فدخلت تنظيم البراعم في الصف الأول الإعدادي وبقيت فيه فترة، فلما انتهت المرحلة الإعدادية دخلت الطلائع وبقيت بها حتى الصف الثالث الثانوي، ثم دخلت منظمة الاتحاد الاشتراكي العربي، وكنت مسؤول تثقيف وحدة بندر ادفو في المنظمة، وعندما دخلت الجامعة انضممت إلى الحزب الشيوعي لامصري لفترة، وبقيت فيه طوال فترة السنة الأولى في كلية التجارة، ولمست ظاهرة الفساد الأخلاقي إذ كنت متدينا بطبيعتي، وكنت قد التحقت بطريقة صوفية بعد أن أنهيت المرحلة الإعدادية.
أذكر حين كنت في الصف الثالث الإعدادي كان معنا زميل اسمه محمود حسن عبد الرسول، كان في عائلته على ما يبدو أحدٌ ممن يفهم السياسة أو أكثر، أو كان متدينا، المهم أن محمود حسن كان يقول لي:
- لا بد أن نغيِّر جمال عبد الناصر، هل تعلم كيف أمسك جمال عبد الناصر بالحكم؟ - كان ضابطا بالجيش وقام بثورة ثم حكم البلد- يمكننا أن نفعل مثله- ولماذا نفعل؟ هو رجل جيد- لا، ليس هو كذلك- لماذا؟ في الطلائع يعلموننا أنه رجل جيد. وأذكر له بعض الخطب- لا ليس كذلك.
كان من الواضح أنه متشبع برأي، إلا أنه لا يستطيع التدليل عليه. ولم يكن هو من الإخوان، لكني أتذكر أن أخاه الأكبر كان يملك متجرا للقماش "ماني فاتورة"، وكنت إذا ذهبت أجد عنده أصحاب كثيرون يجلسون ولا يشترون، وكان بيتهم في القرية كبيرا ويغلب عليهم التدين، ولعلهم من الإخوان القدامى، والله أعلم. إذ لم تطل صحبتنا، فقد افترقنا في الصف الثالث الثانوي.
مما أذكره من تلك الأيام أننا انتقلنا من مدرستنا إلى مدرسة أخرى أفضل أنشأها مصنع السكر، كانت مدرسة نموذجية نظيفة وبها فناء واسع على النمط الحديث وبها حديقة وبالحديقة صوبة لزراعة الورد، وجاءت مُدَرِّسة تدرس لنا مادة "التربية الزراعية"، وكانت ملابسها قصيرة جدا "الميني جيب والميكرو جيب" كما هي عادة أهل المدن في تلك الفترة، وأغلب الظن أنها من الوجه البحري وإنما جاءت في سياق المساكن التابعة لمصنع السكر، وهذه المساكن كانت كبيرة كأنها مدينة سكنية وكنا نسميها "المستعمرة"، وكانت كأنها قطعة من خارج البلد. وذات يوم كانت تعلمنا زراعة الورد، فكانت تميل إلى الأسفل فانكشفت ملابسها الداخلية، فصرخت فيها:
- هذا عيب جدا، لا ينبغي أن تنكشف ملابسك الداخلية
ففزعت واعتدلت وقالت لي: - ايه يا رفاعي حد يقول للمُدَرِّسة كده؟.. كسفتني (أحرجتني) أمام التلاميذ يا رفاعي! - هذا لا يصح، هذا عيب جدا. - هل إذا أتيت إلى المدرسة بملابس طويلة تضحكون عليَّ (تهزؤون وتسخرون مني)؟" - ولماذا نضحك عليكِ، إن ملابس أمي تصل إلى الأرض.
ثم فيما بعد أخبرت ناظرة المدرسة، ونصحتها الناظرة أن ترتدي ملابس طويلة، ثم جاءت الناظرة فحدثتني وقالت "عيب أن تقول هذا للمدرسة"، لكنه حديث تقدير أكثر من حديث لوم وعتاب. وهذه الناظرة كان زوجها مأمور مركز ادفو، وكان برتبة عقيد واسمه عبد المنعم حمودة، وكان لها بنت اسمها عزة، وكانت تمازحني أحيانا وتقول: سأزوجك من عزة!
وكان في المدرسة مدرس للغة الإنجليزية يدعى محمود عبد الرحمن، وهذا الأستاذ من أسباب تأخر اللغة الإنجليزية في المدرسة، فلقد كان يكتب الإنجليزي بالحروف العربية، فمثلا كلمة book يكتبها "بوك"، ولم أدرك فداحة هذه الطريقة إلا بعد أن كبرت. وكان هذا الأستاذ حريصا على أن يعطيني درسا خصوصيا، وكنت أقول له: إنني متميز ولا أحتاج إلى درس خاص وأنا الأول على المدرسة دائما. فنشأت بيني وبينه ما يشبه العداوة، حتى أنه جاءنا ذات يوم فأخبرنا أنه سيمتحننا غدا في حفظ قصة باللغة الإنجليزية تقع في صفحتين ونصف، وحاول الطلاب أن يعترضوا بضيق الوقت، لكنه أصرَّ، وشعرت أنه فخٌ مُعَدٌّ للانتقام مني، وتجنبا لما قد يحدث فقد بذلت جهدي فحفظتها عن ظهر قلب، لكن جاء الغد فلم يمتحنَّا ثم الذي بعده ثم الذي بعده، وكنت أطالبه بأن يختبرنا في القصة فيتجاهلني أو ينهرني بقوله "هذا ليس من شأنك"، فلما جاء اليوم الرابع، فاجأنا بالامتحان، وسأل بقية الطُّلاب قبلي وكانوا قد نسوا ما حفظوه منها، فمن لم يستطع تسميع القصة أبقاه واقفا بانتظار العقاب، حتى إذا وصل إليَّ سمَّعتُها له دون أي خطأ، فقال مغتاظا "يخرب بيت أبوك"، ولم يعاقب أحدا من الطُّلاب، ولو أني أخطأت لكان قد عاقبنا جميعا فلا يظهر أنه عاقبني منفردا.
لم أكن أستفيد من حصة هذا الأستاذ، وكان بالمدرسة أستاذة أخرى نصرانية اسمها "نادية" وكانت جيدة، فكنت أنتهز الفرص فأذهب إليها في وقت الراحة لتدرسني، وكانت تشعر أنني مجتهد، فضبطني هذا الأستاذ يوما معها وهي تشرح لي الدرس الذي كان يشرحه، فوبخني وضربني بالعصا، لكنني أمسكت بالعصا وصحت في وجهه: لن تضربني مرة أخرى، فظهر أننا نتشاجر، ولما شتمني بأبي شتمته بأبيه، ثم حضر أستاذ آخر فأخبره أني مريض بالربو، وحضرت الأستاذة فوزية ناظرة المدرسة فلامته وهدأتني فقد بدأت أزمة الربو في الظهور.
حضرتُ مرتين حفلات أوائل الطلاب على مستوى المحافظة، ومما أذكره أيضا أني حين كنت في الصف الثالث الإعدادي تلك المسابقة التي خسرناها من مسابقات المدارس، وكانت مسابقات المدارس تجري بانتخاب مجموعة من الطلاب يمثلون مدرستهم ثم تُطرح عليهم الأسئلة، فيتميز بعضهم على بعض، وقد نجحنا أن نحصل على المركز الأول على مستوى أسوان، ثم كان ينبغي أن ننافس على مستوى الجمهورية، لكنني أخطأت في الإجابة عن سؤال "27 رجب" فسارعت بالقول: "ليلة القدر"، اختلط على الأمر بين 27 رجب و27 رمضان، ثم سرعان ما استدركت قائلا: الإسراء والمعراج، لكن الممتحن كان قد سجَّل الإجابة الأولى، وبهذا خسرنا وتفوقت المدرسة المنافسة علينا، خصوصا وقد فازوا علينا في مسابقة الغناء.
وفاة عبد الناصر
أتذكر جيدا يوم وفاة جمال عبد الناصر، كان الحزن يخيم على مركز ادفو كله، حتى إن امرأة ألقت بنفسها من الطابق الثالث حين سمعت خبر موته، وخرجنا جميعا من المدارس نبكي بكاء هيستيريا، وكنت أبكي بحرقة!
لقد كان دخولي منظمة الطلائع من أسباب تعلقي الشديد بعبد الناصر، كنت أحفظ خطبه عن ظهر قلب، إذ كنتُ حينئذ قويّ الحفظ سريعه، فلذلك بكيته بكاء شديدا ومُرًّا. وكان الناس يحملون نعشا فارغا يجوبون به الشوارع، كأنهم بجنازتهم الرمزية هذه يشاطرون الجنازة الحقيقية في مصر.
مرَّ يوم ثم الثاني في حالة الحزن هذه ثم قدر الله لي أن أتحول تحولا شديدا، فعند انتهاء الجنازة في مركز ادفو، وكنت حينئذ في ادفو لكون مدرستي الثانوية هناك، صار الناس يعودون إلى بيوتهم، فشاء الله أن مرَّ بي أستاذ التربية الرياضية في المدرسة الإعدادية محمد الشاهد فرآني، وسألني:
- ما بك يا رفاعي لماذا تبكي؟ - هل هذا سؤال؟ - نعم، أسألك لماذا تبكي؟- أبكي جمال عبد الناصر طبعا.- لا، أنت لا تبكي جمال عبد الناصر.- فسألت مندهشا: كيف؟! لماذا لا أبكي جمال؟- من أين لك أن تعرف جمال عبد الناصر حتى تبكيه؟ - هل يوجد أحد لا يعرف جمال عبد الناصر؟ - إنما رأيتَ الناس تبكي فبكيت، فلا تعاند!- فانتبهت لهذا المعنى لأول مرة وسألته: إذن ألست حزينا على جمال عبد الناصر؟ - لا لست حزينا- كيف ذلك؟- تعال معي وسأشرح لك: لماذا لست حزينا عليه.
مضيت مع الأستاذ محمد، وكان من حي السيدة زينب في القاهرة، فقال: - أنت كنت معي مدة سنتين في المدرسة الاعدادية، وأنا أحبك، فأنت شاب متدين، ولهذا فإني أريد أن أُسِرَّ لك بأشياء لكن لا تخبر بها أحدا. لقد كنتُ ضابط احتياط في حرب اليمن، هل تعلم يا رفاعي أننا كنا نُحَزِّم المساجد بالديناميت ثم نفجِّرها فوق رؤوس الناس أثناء صلاة الجمعة؟! هؤلاء الذين نقتلهم ونفجرهم كانوا مسلمين، هكذا كانت تأتينا الأوامر العسكرية!- ولماذا تطيعون هذه الأوامر التي تأمر بقتل الناس وهم يصلون الجمعة؟- لقد أردنا أن نهزم ثورة اليمن، خرجنا من مصر وذهبنا للحرب لأجل هذا الغرض.- وما ثورة اليمن؟
فحكى لي عن الثورة، وعن عبد الله السلال والانقلاب الذي تم على الإمام أحمد البدر وأن أحمد البدر كان ملكا صوفيا وشيعيا من الزيدية، وأن جمال عبد الناصر أراد الوقوف مع الضباط لتكون مثل "الثورة في مصر". ثم قال:
"جمال عبد الناصر هذا مجرم، وليس زعيما كما يقال وكما تسمعون في المدارس، ولا يحب الدين. أنا من الإخوان يا رفاعي وأبي مات في السجن، مات في مذبحة طرة حيث اقتحموا على الناس الزنازين وقتلوهم".
كان في غاية التأثر، مما أثَّر فيّ كثيرا، فسألته:- معنى هذا أن جمال عبد الناصر سيء؟ - كلمة "سيئ" لا تكفي للتعبير عنه.- فكيف يا أستاذ لا تخبرونا بالحقيقة كل هذه الفترة؟- لا نستطيع أن نقول هذا، وإلا ألقينا في السجون، الآن يمكن أن نقول هذا لأنه مات، أما ما قبل ذلك فلا يمكن.
وهكذا حصلت المفارقة، اليوم الذي كنت أشد ما يكون حزنا على عبد الناصر هو اليوم الذي أمسيت أبغضه أشد ما يكون البغض، انقلب الحب بغضا بنفس الدرجة!
جزى الله هذا الأستاذ محمد الشاهد عني خير الجزاء، كان له عظيم الأثر في أن يتحول مساري كثيرا، لا أقول بأني شهدتُ تحولا جذريا إذ أنني بقيت بعد هذه الصدمة في منظمة الشباب الملحقة بالاتحاد الاشتراكي العربي، وبقيت كذلك في الطريقة الصوفية التي كنت قد انتسبت إليها.. لقد تم تحولي الجذري بالتدريج!
لم أفكر أبدا فيما إن كان كلامه كذبا أو مبالغة، لقد سلَّمت بما قال، كنت أحبه كأستاذ وكانت علاقتي به طيبة، وكان كذلك يحبني ويحترمني ولم يكن يتعامل معي كتلميذ بل كشاب ناضج، وكنت استشعر دفء العلاقة بيننا، كما هي بيني وبين كثير من الأساتذة في المرحلة الإعدادية والثانوية، إذ كانوا يعاملونني كصديق، لذلك لم أفكر في أنه قد يكذب علي أو يخدعني، إلا أنني لكي أستوعب هذا الكلام اضطررت إلى سؤال أساتذة آخرين، ولم تكن أسئلة مباشرة إنما جاءت عفويا في سياق أحداث أخرى.
بعد هذه الجلسة مع الأستاذ محمد الشاهد ذهبت إلى بيتي ودخلت في بكاء شديد، شعرتُ أننا نُخدَع، وأنه من الضروري أن تتغير هذه الأحوال، وتذكرت ذلك الكلام القديم الذي كان بيني وبين زميل المقعد في المدرسة الإعدادية محمد عبد الرسول حين كان يقول: يجب أن نقيم دولة إسلامية، نفعل مثلما فعل جمال عبد الناصر، ندخل الكلية الحربية، وننفذ انقلابا عليه!
وقتها لم أعطِ هذا الكلام كثير اهتمام، لكن بعد الذي قاله الأستاذ محمد الشاهد صرت أهتم به وأتذكره، لا سيما وأنا في المرحلة الثانوية، أي أنه بالإمكان بعد سنتين أن أدخل الكلية الحربية ثم ننقلب على عبد الناصر ونقيم الدولة الإسلامية، وبطبيعة الحال لم يكن في ذهني شيء واضح عن طبيعة الدولة الإسلامية، إنما هي أشواق طالب متدين وإن لم يكن لديه علم شرعي.. مجرد طالب في الصف الأول الثانوي.
نشر في مجلة كلمة حق
Published on June 20, 2018 12:23
June 17, 2018
أوضاع مصر قبل وبعد الحداثة (2) رحلتان إلى مصر
ذكرنا في المقال السابق أن الحداثة برغم ما تلاقيه من نقد في الغرب إلا أنها تُقابَل بالتسليم في عالمنا العربي، ويسود الاعتقاد بأن عصور الحداثة هي بالضرورة أفضل من عصور ما قبلها، وأن الأوطان مع الحداثة تتقدم وتتطور وتزدهر. وفي إطار تفنيد هذه الصورة الخادعة نحاول في سلسلة المقالات هذه أن نرى أوضاع مصر قبل وبعد الحداثة من خلال مصادر تاريخية جديدة، تلك هي الرحلات التي سجلها غربيون تمكنوا من الوصول إلى الحج ومرُّوا في طريقهم بمصر فكتبوا عن أحوالها، واخترنا من بين تلك الرحلات رحلتي جوزيف بتس وريتشارد بيرتون، ويفصل بينهما قرنان من الزمان، وكانت الثانية منهما بعد عصر محمد علي مباشرة في زمن ابنه سعيد باشا.
في هذا المقال نلقي نظرة على الرحلتين والفوارق بينهما:
الموضوعية والذاتية
كانت رحلة بتس أكثر موضوعية بينما رحلة بيرتون أكثر ذاتية، فالأول يصف المدينة وآثارها والبحر والنهر والأهرام والأسماك والطيور والبط الذي يسبح في النيل وكيف يُصاد والخانات والأزياء والأسواق والبضائع والمباني وقطعان الماعز التي تدخل القاهرة وصاحبها الذي يحلبها مباشرة لمن يشتري منه اللبن كدليل على أنه لبن طازج وآبار المياه وكيف يُسحب منها الماء بالسواقي التي تجرها الثيران، يصف بتس كل هذا وَصْفَ المُشاهد المحايد الذي يرسم صورة موضوعية لما يراهبينما الثاني يصف مشاعره ووقع المشاهد على نفسه ويمزج الصورة الخارجية بانعكاسها في نفسه وما يؤلفه خياله منها، لذا تأتي عباراته في الوصف على هذا النحو: "لنستمتع بالمشهد"، "فيعطي سحرا وفتنة تعجز اللغة في التعبير عنهما"، "كأنما كنا نستقبل هذا القفر بودٍّ شديد"، "وكأنها أرواح سلاطين تحرس رعايا من الأشباح في سلطنة من ظلال"، "الحرارة المنعكسة تصفعنا بشكل محسوس والوهج المنبعث من حصباء الطريق يكيل لنا مزيدا من الحرارة"... وهكذاسائح ومستعمر
وفيما كانت رحلة بتس رحلة سائح يصف ناظرا ومشاهدا، كانت في رحلة بيرتون لهجة استعلاء على الشرقيينانفرادات الرحلتين
وحيث كانت رحلة بيرتون أكثر توسعا وتفصيلا فقد انفرد فيها بأشياء كثيرة لم يأت بتس على ذكرها مطلقا، فمن ذلك حديثه عن البقشيش وتدخين الشيشة والقهوة، وعن الدراويش والسحرة، والمذاهب الفقهية، وشهر رمضان واحتفالات العيد، وعن كرم الضيافة، وأنواع الخدم وصفاتهم، وعن العطارين وطلب العلم، وعن الطب وممارسته والمرضى وأحوالهم وتعاملهم مع الطبيب ونظرة الناس إلى الطب الأوروبي وكيف يحتقرونه مقابل تقديرهم للطب الهندي والصيني، ونظرتهم وعلاقتهم مع العجم (الذين هم: الفرس الشيعة) وكيف تعودوا على التقية وإخفاء حقيقة آرائهم وكيف يفهم المصريون هذا عنهم، وشهد بيرتون تنادي الناس بالجهاد ضد الروس في حرب القرم وهو مشهد لم يرد مثله عند بتسومع هذا فأن الاختصار الشديد في رحلة بتس والتوسع في رحلة بيرتون لم يمنع أن ينفرد بتس بذكر أمور لم يذكرها بيرتون كحديثه عن الخصيان وهطول الأمطار –مصححا بذلك خطأ شائعا في وقته عن قلة الأمطار في مصر- والفيضان السنوي للنيل وأثره في الزراعة، والوصف الجغرافي لمصب النيل ورسو السفنلكن أهم ما يفرق بين الرحلتين هو آثار "التحديث" التي تبدو في رحلة بيرتون، فعلى غير ما يبدو للوهلة الأولى من أن التحديث عاد على البلاد بالقوة والرفاه والاستقلالية، نجد أن التحديث الذي أسس له محمد علي عاد بمزيد من الضعف السياسي والتبعية للغرب، ولم تكن القوانين في مصلحة الشعب بل في مصلحة تقوية السلطة ونفوذ الأجانب، فزاد بطش السلطة وتغولها، وتقوض الأمان الاجتماعي إذ صارت السلطة مصدر رعب بانتهاجها أسلوب خطف الشباب والرجال للتجنيد، وفرضها حظرا للتجوال ليلا لمحاصرة أي ردود فعل شعبية، ، كما لم توفر مؤسسة الشرطة الحديثة أمنا من اللصوص بل كان الخوف والتحرز منهم قائما، كذلك فقد أهملت أوضاع المساجد باستيلاء الدولة على أوقافها، وكُسِرت القبائل والزعامات الأهلية، ولم تتحقق العدالة بنظام التقاضي الجديد بل صار يعاني من البطء الشديد، ولم توفر الإدارة الحديثة تسهيلات في الخدمات العامة بل غلب الكسل على الموظفين وتلقي الرشا لضعف –أو انعدام- جهة الرقابة، وتعقدت أمور أخرى كإجراءات السفر والحصول على تذكرة.. إلى غير هذا من المظاهر السلبية التي ترصدها بوضوح رحلة بيرتونفي المقال القادم إن شاء الله ننظر ونقارن بين أوضاع مصر: أهلها ومساجدها والأجانب فيها وأسواقها وتعامل الشرطة مع الناس وغيرها.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية - العدد 2120، رمضان 1439هـ = يونيو 2018
Published on June 17, 2018 15:11
June 13, 2018
ساعات الضعفاء في رمضان
هذه الساعات الأخيرة من رمضان.. ساعاتٌ وينفضُّ السوق.. سوق الرحمات الكبير..
وتلك هي ساعات أمثالنا ممن يرجو أن يلحق بركب المقبولين والعتقاء رغم ضعفه ووهنه وسوء بضاعته..
تلك هي ساعاتنا وفرصتنا، فإن أهل الهمة والسبق والنشاط قد حصلوا على العتق في الأيام الأولى، ومن كان أدنى منهم همة فقد أدركه فضل الله في الأيام الوسطى.. وأما أمثالنا ممن يأتي على عرج وعلى عوج وعلى مهل فإننا نطمع فيما بقي من الرحمة التي نهل منها السابقون..
قد جعل الله آخر رمضان أفضله لتشتد فيه الهمم، وما أحسبها إلا همم المتبطلين المقصرين.. أولئك الذين لم تنهض همتهم ولا أعمالهم لتقتنص الفضل الوافر من أيامه الأولى..
ثم من يدري..
من يدري، هل نستطيع أن نعبد الله في رمضان مرة أخرى أم لا..
فلعله الموت يأتينا فلا نرى شمس رمضان ولا غروبها أبدا.. وكم في القبور الآن من يتمنى لو أنه اغتنم ساعة أخيرة من رمضانه الأخير! إذن لتغير مصيره الأبدي كله..
ترى ما قدر حسرة امرئ في قبره يتذكر ساعة أخيرة من رمضانه الأخيرة فرَّط فيها واستعجل على نفسه لهو العيد وعبثه.. أكاد أراه يتقطع من الغيظ والغضب على نفسه وعلى ما فرطت..
فها نحن في تلك الفرصة.. فلنغتنم ما استطعنا!
ثم من يدري..
من يدري لعله يصيبنا مرض فيحرمنا من الصيام أو القيام أو لذة تلاوة القرآن.. وكم على سرير المرض الآن من يتمنى لحظة قيام أو ساعة صيام أو تلاوة صفحة من كتاب الله..
كم من مريض يمر عليه رمضان وهو في غيبوبة لا يشعر به، أو يشعر به ولا يستطيع أن يؤدي العبادة فيه، فيجول بخاطره رمضانه الأخير الذي كان فيه يصوم ويصلي ويتلو.. فكيف تكون أشواق هذا ليعود لما كان فيه؟ وكيف هي أحزانه أن عجز عن عادته في رمضان؟!
ثم من يدري..
من يدري، ونحن أبناء الأمة المستضعفة المضطهدة التي تتقلب أحوالها وتضطرب أيامها، وتأتيها الكوارث على غير حساب.. من يدري كيف سيكون حالنا في رمضان القادم؟!
نسأل الله السلامة والعافية والعزة والنصر.. ولكن!
كم من مسلم كان سليما معافى في رمضان سابق جاء عليه هذا وهو قد فقد جارحة: عينا أو لسانا أو يدا أو رجلا..كم من مسلم كان حرا طليقا فإذا به اليوم أسير، أسير لا يملك أن يعبد الله في رمضان، بل هو في حكم سجانه الطاغية الذي يتفنن في إيذائه..
كم من مسلم كان في بلده وأهله هو اليوم مغترب في بلاد كفر لا يسمع فيها الأذان ولا يجد حوله صلاة تراويح..لا أتحدث هنا عن أجر هؤلاء، فإن الله يكتب لعباده أجر عمل اعتادوه وعجزوا عنه، إنما الحديث عن الفرصة المفقودة.. الفرصة التي يعجزون عن إدراكها بعد أن ذاقوا حلاوتها.
تلك الفرصة ما زلنا نحن فيها، ولا تزال أمامنا منها ساعات.. ساعات قد تكون الأخيرة!
أكثرنا اليوم يختم القرآن.. وفي أجزاء القرآن الأخيرة آيات ذات أثر عميق، كأنها آيات تنبه العبد إلى أحوال نهايته..مثلا:
- في سورة الحديد تقرأ: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون * اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها، قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون)
هذه الآية تقول ألم يحن الوقت بعد كل هذا القرآن الذي تلوته أن يخشع قلبك لذكر الله.. هل سيطول عليك أمد ترك كتاب الله فيقسو قلبك؟ هكذا فعل الذين أوتوا الكتاب قديما، لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم.. اعلموا أن الله يحيي القلوب بعد قسوتها كما يحيي الأرض بعد موتها!
- في سورة الحشر تقرأ (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)
ربما تتلو القرآن وأنت غافل عن المعنى فتأتي هذه الآية لتكشف لك حجم الأزمة التي أنت فيها.. إن هذا القرآن الذي توشك على ختمه لو كان قد نزل على جبل لكان الآن قد خشع وتصدع من خشيته لله.. ألم يحدث هذا لقلبك بعد؟!
تحاول أن تستوعب المعنى من جديد، تقرأ الآية التي تسبقها لتفهم السياق، فإذا أنت أمام قوله تعالى (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أولئك هم الفاسقون)..
لا تترك كتاب الله، فتنسى الله، وحين تنسى الله فستذهب منك نفسك، تضيع وتتوه في أودية الدنيا، والدنيا كثيرة الأودية كثيفة المسالك والمهالك.. لا يمسك نفسه فيها إلا من تعلق بحبل الله وذكره.
- في سورة المنافقين والتغابن تقرأ نفس المعنى في آيات مختلفة:
(يا أيها الذين آمنوا لا تُلْهِكُم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) [المنافقون]
(يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم، وإن تعفو وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم * إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) [التغابن]
وقع في قلبي أنها تحذير من العودة بعد رمضان إلى مشاغل الأهل والولد حتى ليغفل المرء بها عن ذكر الله الذي كان يمارسه في رمضان..
والوصية التي تتلو كلا الآيتين، وصية إنفاق.. يبدو أن الإنفاق هو العمل الذي يحفظ النفس من هذا التيه والضياع، وهو العمل الذي يربطها بالله رباطا وثيقا.. اقرأ لكن بقلبك:
(وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدَّق وأكن من الصالحين)
(فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا وأطيعوا، وأنفقوا خيرا لأنفسكم. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم، والله شكور حليم) [التغابن]
- في آخر سور القرآن تكثر وبشكل عجيب ومثير للدهشة كلمة "تذكرة".. فمن بين 7 مرات ذكرت فيها هذه اللفظة كانت 5 منها في السور الأخيرة، مع معاني لاذعة قوية كأنها تمسك بتلابيب الإنسان أن يتذكر ولا ينسى، وألا يعود بعد ختمه القرآن إلى ما كان فيه كأنه لم يقرأه ولم يمر به..
اسمع:
في سورة الحاقة بعد ذكر إغراق قوم نوح (لنجعلها لكم تذكرة وتَعِيَها أذنٌ واعية)
في سورة المزمل بعد ذكر فرعون ومشهد القيامة (إن هذه تذكرة، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا)
في سورة المدثر يوصف القرآن بأنه تذكرة بعد ذكر النافرين منه الهاربين من معانيه (كلا إنه تذكرة، فمن شاء ذكره)
في سورة الإنسان (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا)
وفي سورة عبس (كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره)
وهكذا خمس وصايا تتركز في نهاية القرآن تقول للمرء: تذكر ولا تنسى..
كأن القرآن يعرف أن كثيرا من قارئيه سيودعه بعد رمضان.. فهو يذكرهم وينبههم، تنبيه الحريص الشفوق..
ومن ذا يدري.. لعله الوداع النهائي.. فترى كم واحد منا ستكون تلك آخر ختماته في حياته!
اللهم، يا ذا الفضل الواسع، يا من كتبت على نفسك الرحمة.. اشمل عبادك الضعفاء برحمتك وإن لم يكونوا أهلا لها.. ولئن كان عبادك كثير، فلا رب لنا سواك.. أنت الغني عنا ونحن الفقراء إليك.. خذ بأيدينا ونواصينا إليك، أخذ الكرام عليك.. واجعلنا من المقبولين..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
Published on June 13, 2018 15:20
June 6, 2018
حازم أبو إسماعيل
افتتاحية العدد 11 من مجلة كلمة حق
في لحظة كتابة هذه السطور تأكد عندي خبر إضراب الشيخ حازم أبو إسماعيل عن الطعام في سجنه، اعتراضا منه على سوء المعاملة وانتهاك الحقوق للسجناء، وهذا بالإضافة إلى أنه لم يَرَ أهله منذ نحو العامين لا في زيارات السجن كما أنهم يُمنعون من حضور المحاكمة.. والشيخ منذ سُجِنَ في يوليو 2013 وحتى اللحظة وهو في زنزانة انفرادية ويُقصد ألا يكون له اختلاط ببقية الأسرى.
الكلام عن الشيخ حازم يطول ويطول، والذكريات والتأملات في مواقفه لا تنتهي، فلقد كان بغير منافس أقوى شخصية سياسية وإسلامية في مصر كلها ولا أعرف له شبيها في العالم العربي والإسلامي أيضا، والذي ما كان ليقف أمامه أحد ولا لينافسه أحد إن وصل إلى الانتخابات، فلم يكن في مصر استطلاع رأي شبه نزيه إلا ويكشف عن الاكتساح الكامل للشيخ حازم وبفارق واسع عن أقرب منافس.
حازم أبو إسماعيل كان حجة الله على الإسلاميين جميعا، فيه التزام وانضباط وهدي ظاهر هو حجة على السلفيين، وفيه هدوء وعقل وسياسة وإقناع وأسلوب دعوي هو حجة على الإخوان، وفيه ثورية ومفاصلة وجرأة هي حجة على الجهاديين، وفيه أخلاق ورحمة وخفض جناح ولين هو حجة على المتصوفة والتبليغيين.. لم ير الناس مثله، ولم ير هو مثل نفسه.
وكنت قبل خمس سنوات (بالتحديد: 17 مايو 2013م) وقبل وقوع الانقلاب العسكري قد كتبت فيه مقالا، رأيت الآن أنه من المفيد إعادة نشره تذكيرا بملخص سيرة الرجل:
حازم أبو إسماعيل.. فَصْلٌ في التجرد
ليشهد الناس أن الشيخ حازم أبو إسماعيل كان أبعد الناس -في كل الفترة الماضية- عن محاولة صناعة مجد شخصي له، وأنه كان الحاضر في المغرم والمتعفف المبتعد عند المغنم، وأن السهام التي أصابته قد أصابته من الجميع حتى من يُتَّهَم بأنه منهم ويعمل لمصلحتهم، وأن بعض ما نزل به جاءه من مأمنه.. وهذه بعض مشاهد مما يعرفها الجميع، ثم تبقى المشاهد الكبرى إلى حين يأتي وقتها لتكتب في صفحة التاريخ.
1. كان الشيخ حازم من الوجوه الرئيسية في ميدان التحرير ومنذ اليوم الأول، لكنه عزف عن الظهور الإعلامي قبل وبعد تنحي المخلوع حتى أن أغلب أنصاره وتابعيه الذين تعرفوا عليه فيما بعد اكتشفوا أنه ذلك الذي كان يخطب على منصة التحرير ولم يكونوا يعرفون اسمه.
2. ولم يظهر الشيخ حازم إعلاميا ولم يخرج على الساحة إلا حين فشلت كل مساعيه في إقناع الكيانات الإسلامية بالترشح للرئاسة التي أصرت في ذلك الوقت على أن الإسلاميين لا يصلحون لهذه المرحلة، وكانوا يبحثون عن "الرئيس التوافقي"!
3. وحين كانت كل الكيانات (إسلامية وغير إسلامية) تلين مع المجلس العسكري كان الشيخ حازم هو الوحيد الذي كشف تلاعبهم بالثورة ومحاولات ترويضهم للشعب وقال كلمته المشهورة التي ارتاع لها الجميع "هؤلاء ذئاب وثعالب"، ورغم علمه أن أحدا لن يدعمه في موقف كهذا إلا أنه نطق به، وأثبتت الأيام صحة رؤيته.
4. وحين خفت صوت الثورة، وظهر التراخي في تسليم السلطة، خرج الشيخ حازم وحيدا في جمعة 28 أكتوبر ثم في 18 نوفمبر لتكون جمعة "المطلب الوحيد.. تسليم السلطة"، وهي الجمعة التي تلتها أحداث محمد محمود والتي لم ينزل فيها من الإسلاميين إلا الشيخ حازم وأنصاره، وبه وبأنصاره فشلت فكرة المجلس الرئاسي المدني وأُجْبِر المجلس العسكري على تحديد موعد الانتخابات الرئاسية (بعد أن توافقت كل الأحزاب -إسلامية وغير إسلامية- على تأجيلها إلى منتصف 2013 بحد أدنى وكتابة الدستور تحت حكم العسكر).. وبهاتين الجمعتين وأحداث محمد محمود عاد صوت الثورة عاليا بعدما ظن الجميع أنه إلى زوال.
5. هذا الرجل الذي وضع جهوده لاستكمال مسار الثورة والحفاظ على المسار السياسي الذي اختاره الشعب لم يحاول أن يصنع لنفسه حزبا أو أن يدخل في تحالف في الانتخابات البرلمانية، وفضَّل أن يقف وراء الكيانات الإسلامية القائمة وأن يدعمها بكل قوته، وقد كان، ثم تعهدها بالنصيحة التي كان أهمها وأشهرها: سرعة إصدار قانون السلطة القضائية، لكن الجميع كان يراه مندفعا وكان يحسب أن الأمر ليس بهذه الخطورة حتى أثبتت الأيام من الذي كان على بصيرة.
6. لقد كان وجود الشيخ حازم وأنصاره في المواطن الثورية مما رفع عن الإسلاميين أخطاء الكيانات الإسلامية التي شملها الخوف والحذر والحرص حتى ابتعدت بنفسها عن كل موطن شرف خشية أن يكون فخا منصوبا، لقد كان وجوده مما عصم شباب الإسلاميين من فتنة هائلة في مشايخهم ورموزهم، وهي فتنة الله أعلم كيف كان سيكون اتساعها إذا خلت الصورة من إسلامي ثائر في لحظة ثورية!!
7. ونجحت تجربة الشيخ حازم في الرئاسة كما لم يتوقع أحد، لا الكيانات الإسلامية ولا غيرها، وكانت حملته هي الأضخم على الإطلاق، وحقق الشيخ في كل استطلاعات الرأي المركز الأول وبفارق كبير عمن بعده.. وهي التجربة التي لم يدعمه فيها أحد من الكيانات الإسلامية بل إنهم حاربوها لكثرة ما اجتذبت من شبابهم.
8. بل لقد تحرك كيان إسلامي ليضغط على آخر ليرشح مرشحا للرئاسة (من بعد ما رضي الجميع بعدم صلاحية الإسلامي للرئاسة، ومن بعد ما فشلوا في إيجاد الرئيس التوافقي) واستجاب الآخرون (رغم إصرارهم السابق على عدم الترشح للرئاسة)، ولم يتكلم الشيخ حازم في حق أحدهم بسوء رغم أن هذا مما يضر به على مستوى الحملة الانتخابية بشدة.
9. ثم أخرج الفاسدون تمثيلية "جنسية والدة الشيخ حازم"، وهي المؤامرة التي ما كان لها أن تنجح لولا سكوت -بل ومشاركة- بعض الكيانات الإسلامية في بعض فصولها -وهذه أمور قد نكشفها فيما بعد- لم يجد الشيخ دعما منهم، رغم أنه الذي مهد الطريق لفكرة المرشح الإسلامي. وظهرت أول مفسدة لعدم صدور قانون السلطة القضائية، فبذلك استبعد أقوى المرشحين الإسلاميين وبقي في المنافسة رجال النظام القديم، في إعلان صريح بأن ما فشل فيه مبارك والعسكر نجح فيه القضاة الفاسدون.
10. وحين حصل الشيخ حازم على حكم قضائي بأحقيته في خوض انتخابات الرئاسة ولم ينفذ، أوشك حكم آخر أن يصدر بوقف انتخابات الرئاسة (وهو الشق المستعجل من الدعوى) لكن الشيخ سارع بالتنازل عن الشق المستعجل لكي لا تقف انتخابات الرئاسة ولكي ينتقل الحكم إلى السلطة المنتخبة بأسرع وقت.. وهذا وحده موقف عظيم في التجرد وتقديم المصلحة العامة.
11. ودعم الشيخ حازم من تبقى من المرشحين الإسلاميين بكل ما يملك، وكان أنصاره من أقوى الفاعلين ضد مرشح النظام السابق ودعما وتأييدا للمرشح الإسلامي الباقي الذي صار بعدئذ رئيسا للجمهورية!
12. واعتصم الشيخ حازم في الميدان اعتراضا على الإعلان الدستوري الذي أصدره العسكر قبيل أيام من تسليم السلطة، وظل معتصما هو وأنصاره أكثر من شهر، حتى صاروا وحدهم بل لقد انصرف مؤيدوا الرئيس أنفسهم، فلا استأذنه أحدهم ولا شاوره أحدهم، رغم أنه لا يدافع عن مصلحته الشخصية.
13. ورغم أن الشيخ حازم لم يحصل على منصب بل ولا على شكر إلا أنه كان حاضرا في كل موطن دعما للسلطة المدنية المنتخبة ضد النظام القديم، فكان من أوائل الواقفين على باب دار القضاء العالي مؤيدا للإعلان الدستوري الذي يعزل النائب العام ويحصن مجلس الشورى والجمعية التأسيسية.. ثم كانت وقفته الكبرى أمام مدينة الإنتاج الإعلامي والتي غيرت ميزان القوى في تلك اللحظة الحرجة بما أفشل مخطط الفاسدين وأنقذ سلطة رئيس الجمهورية!
14. ورغم التجارب المتعددة والمواقف المتكررة إلا أن الكيانات الإسلامية لم تغير منهجها الذي ينقل الإسلاميين من هوان إلى هوان ومن نزول إلى نزول، فساعتها ومع فشل كل النصائح والرسائل فكر الشيخ حازم في تكوين حزب ليؤسس للكيان الإسلامي الثوري البصير بالواقع ليترجم فكرته ومنهجه إلى عمل منظم واسع.
15. أيا كان موقفك أيها القارئ، إسلامي أو غير إسلامي، وأيا كان اتفاقك أو اختلافك مع كل ما سبق، فأحسب أنك لن تجادل في أن كل ما فعله حازم أبو إسماعيل لم يعد عليه بفائدة شخصية، بل كان خدمة لمبادئه ومنهجه ومواقفه حتى لو اختلفت معها.
في النهاية، فإن هذه مجرد فصول، وهي معروفة للجميع، ولم نكشف عن بعض ما في الكواليس من أحداث.. وهي فصول في التجرد للمبدأ وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
ولهذا يظل الشيخ حازم نموذجا فريدا في مصر، بل نحن نسأل: دلونا على رجل كانت له مثل هذه المواقف التي إن نجحت عاد النفع على غيره وإن فشلت فإن بعضها كان سيدفع الثمن فيها وحده....اللهم نسألك فرجا قريبا للشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل وسائر الأسرى في مصر وفي كل مكان.
نشر في مجلة كلمة حق
Published on June 06, 2018 05:07
June 5, 2018
أمل عبد الفتاح.. قصة مصر كلها في امرأة
عملت السينما والدراما المصرية لعقود طويلة على تكوين صورة نمطية للمرأة المصرية، حتى أن البعض صار يرى مصر ونساءها كلها تُخْتَزَل في شارع الهرم سيئ السمعة، وهي الصورة التي يؤكد المصريون أنفسهم على أنها زائفة ولا تعبر عنهم، وأن تلك الشريحة التي تضخمها السينما والدراما لا تمثل شيئا من النساء المصريات اللاتي يعانين ويكافحن ضمن جموع المصريين.
من بين النساء جميعا تبرز قصة سيدة واحدة تُخْتَزَل فيها قصة مصر في الحقبة العسكرية.. أمل عبد الفتاح إسماعيل!
سيدة في الخامسة والخمسين من عمرها، تفتحت عينها على الحياة في اللحظة التي كان والدها يُعلق على المشنقة الناصرية عام 1966، إذ كان والدها عبد الفتاح إسماعيل ثاني ثلاثة أُعْدِموا في خبر هزَّ العالم الإسلامي وقتها، ذلك أن رفيقه في الشنق كانا: المفكر الإسلامي المعروف سيد قطب والشيخ ويوسف هواش! غطَّت شهرة قطب على رفيقيه عند جموع الناس، لكن ابنة السنوات الثلاث حينئذ كانت تتذكر أباها أكثر من أي وقت آخر.
ما إن بلغت هذه الفتاة سن الشباب حتى كان الحكم العسكري يُعِدَّ لها محنة أخرى، إذ جرى اعتقالها في عصر السادات كذلك، في خريفه الذي طال رموز مصر وشبابها، ولقد كانت هي رقما من بين المشاهير فلم يكد يلتفت إليها أحد.
وفي عصر السيسي قرر النظام العسكري استكمال مهمته مع الفتاة التي صارت سيدة، فمن بعد وقوع الانقلاب العسكري عام 2013 جرى اعتقال شقيقها نجيب عبد الفتاح إسماعيل (أكتوبر 2014) واتهم بأنه تابع لتنظيم الدولة الإسلامية، وبعدها اعتقل ابنها حنظلة أحمد الماحي وصار نزيل السجون المصرية، ثم لم تنقض شهور أخرى حتى اختفى ابنها الثاني المثنى أحمد الماحي قسريا بتاريخ 23 إبريل 2016 ولا يزال مجهول المصير حتى لحظة إعداد هذا التقرير.
لم يتوقف الأمر هنا، فبعدها بعام واحد اختفى ابنها الثالث سهيل أحمد الماحي، وبعد أسبوعين وبالتحديد في 15 يوليو 2017 عُرِف مصيره، إذ أعلنت الأجهزة المصرية عن تصفيته ضمن خلية اتهمتهم بالانتماء لحركة حسم.
وبعد أقل من عام آخر اختفى ابنها الرابع مصعب، وهو أكبر أبنائها، بتاريخ 2 مايو 2018، ولم يمض يوم واحد حتى اختفت هي نفسها قسريا بتاريخ 3 مايو 2018 ليظل مصيرهما مجهولا حتى هذه اللحظة.
قبل اثنتين وستين سنة كان عبد الفتاح إسماعيل يُشنق بحكم أصدرته محكمة عسكرية برئاسة اللواء عبد الفتاح الدجوي، وهو العسكري الذي حكم قطاع غزة لما كان تابعا للإدارة المصرية وكان بحكم منصبه مسؤولا عن اعتقال المقاومين للاحتلال الإسرائيلي في سجن غزة المركزي، ولما وقع عدوان 1956 سلَّم نفسه وقطاع غزة لقوات الاحتلال الإسرائيلي في مشهد تحتفظ به الذاكرة التاريخية كواحد من أقسى مشاهد التاريخ العربي. وبدلا من أن يُحاكَم بتهمة التقصير العسكري والاستسلام للعدو عاد فكان قاضيا –دون أن يحمل مؤهلا في القانون- ليصدر أحكامه بالشنق على سيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل ويوسف هواش.
لم يبق من أسرة أمل عبد الفتاح إسماعيل إلا ولدٌ واحد، تلاحقه السلطات المصرية أيضا التي فيما يبدو قررت إبادة هذه العائلة لتكتمل مسيرة السيدة التي ولدت مع فجر الحكم العسكري ولا تزال منذ هذه اللحظة تشهد المعاناة المستمرة.
تصلح أمل عبد الفتاح إسماعيل أن تكون رمزا لمصر كلها تحت حكم الطبقة العسكرية، فمصر التي حكمها العسكر وهي الأولى عربيا وفي طليعة الدول النامية شرقيا، لا تزال تتآكل وتتقزم حدودها ومكانتها وسمعتها، حتى يبدو كأنها تشهد فصولها الأخيرة مع حكم عبد الفتاح السيسي.
بقي ولدٌ مطارد واحد لأمل عبد الفتاح إسماعيل، كما بقل أملٌ واحد لمصر كلها.. فهل يغلب الأملُ العسكر أم سيغلب العسكر الأمل.. أمل مصر، وأمل عبد الفتاح إسماعيل.
إذا كنت قد وصلت إلى هذا السطر، فأسألك بالله ألا تنسى هذه السيدة وأبناءها من دعوة مخلصة بظهر الغيب، عسى الله أن يفرج عنها وعن أبنائها، وأن يفرج عن مصر كلها وأبنائها.. وأن يأذن بخلاص من حكم العسكر المجرمين الخونة الذين أفسدوا في الأرض وأهلكوا الحرث والنسل.
نشر في مدونات الجزيرة
Published on June 05, 2018 01:17
May 17, 2018
مذكرات رفاعي طه (2) أول الطريق إلى المسجد وأول الطريق إلى السياسة
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لما أقمنا في إدفو، بالتحديد في قرية كوم الأمير التي بها المصنع، ذهبت إلى كُتَّاب الشيخ حسين، وهو الكُتَّاب الثاني في حياتي، كان شيخه حسين أشهب، ثم حدثت واقعة طريفة كانت طريق دخولي للمدرسة الابتدائية:
قدَّر الله أن جارنا في منزلنا بإدفو الأستاذ صادق كان مدرسا ابتدائيا، وكان يعطي الدروس الخصوصية لتلميذين: متولي وعبد الرازق، فكنت أذهب لأحضر معه هذه الدروس بحكم الجيرة، ولم يكن يصرفني ولم يطالبني بأموال أيضا، وأحيانا حين كان يسأل متولي أو عبد الرازق أسئلة كنت أجيبه عنها، وتكرر هذا مني حتى سألني بعد نحو شهر: أين تتعلم فإني لا أراك في المدرسة؟! ولم يكن بالمركز سوى هذه المدرسة التي يدرس فيها، فذكرت له أني أذهب إلى كُتَّاب الشيخ حسين!
فقال: هل تريد الذهاب إلى المدرسة؟ فقلت: لا أدري اسأل والدي.
وحين عاد أبي من عمله بادره الأستاذ صادق فسأله: يا عم أحمد، أي مدرسة يذهب إليها ابنك؟فقال أبي: المدرسة بعيدة عنا، ولكنه يذهب إلى الكُتَّاب.فقال: يمكن أن آخذه معي إلى المدرسة.فقال أبي: يكون لك جزيل الشكر!وهكذا دخلت إلى المدرسة الابتدائية!
كان الأستاذ صادق يدرس في الصف الثالث الابتدائي، فاصطحبني معه فأجلسني في الصف الثالث مباشرة، ثم أجلسني في مقدمة الفصل، وحين جاءت حصة القراءة قال لي: اقرأ. فلم أعرف، فأخذ يشجعني ويقول: اقرأ.. اقرأ، فلم يكن مني إلا أن بكيت، فأخذ يربت عليه ويهدئني، ثم حين جاءت الراحة التي تكون في منتصف اليوم الدراسي، أخذ بيدي ووضعني في الصف الثاني الابتدائي، وكان يدرس به الأستاذ محمد عبد الجواد، ولم يكن ثمة مكان فارغ إلا آخر مكان، فأجلسني فيه، ولم يطلب مني القراءة في البداية، ثم بدأ الأطفال بالقراءة واحدا تلو الآخر، فلما جاء دوري كنت قد حفظت النصّ الذي يقرؤونه، فلاحظ الأستاذ أني لا أقرأ ولا أقلب الصحفة، لقد وضعت كل تركيزي في حفظ النص، وهو ما كان، فاقترب مني الأستاذ محمد كأنه معجب بي، وقال: اقرأ صفحة أخرى، فعجزت عن ذلك، فأدرك أنني لا أعرف القراءة ولكنني أحفظ بسرعة، فقال:
- ما اسمك؟ - اسمي رفاعي أحمد طه- من أين أنت؟- من أرمنت- أنت جيد يا رفاعي
وأعطاني صباع طباشير أحمر كمكافأة، وصار يعاملني بلطف، ويعلمني القراءة كل يوم، ويعلمني في وقت الراحة وحدي بعيدا عن بقية التلاميذ، وهكذا بقيت في الصف الثاني ولم أدخل الصف الأول، واستمررت في هذه المدرسة، وكنت دائما صاحب المركز الأول.
ومع هذا فقد استمر انتظامي في الكُتَّاب، إذ كنت أذهب إلى المدرسة صباحا وإلى الكُتَّاب عصرًا، وقد طلبت من الشيخ حسين أن أغير موعدي إلى العصر، وكان في الكُتَّاب شاب في الخامسة عشرة من عمره يحفظ القرآن ويُحفِّظ آخرين كذلك، وفي ذلك الوقت عرفنا الألواح الخشبية وعرفنا "الطفلة" التي نمسح بها المكتوب. لقد كان الفارق بين القريتين كبيرا، ويرجع ذلك بالأساس بسبب المصنع، إذ أنه يستجلب الكفاءات للعمل، مما يعود على ارتفاع مستوى القرية، وكانت المدرسة جميلة نسبيا، وكنت أول مرة أعرف هذا الذي نجلس عليه يسمى "الدُّرْج".
في تلك الفترة كان أكثر الناس تأثيرا فيّ الأستاذان: صادق ومحمد عبد الجواد، كان الأستاذ محمد يحبني كثيرا، ويوليني عناية خاصة، وكنت مستمرا بالحضور في درس الأستاذ صادق مع متولي وعبد الرازق دون أن يطالبني بنقود لفترة طويلة، وكان يعلمني الصلاة، وعلى الرغم من أن الشيخ حسن كان يعلمني القرآن لكنه لم يكن مهتما بهذا الأمر ولم نكن نصلي في الكُتَّاب.
بدأت مرحلة التدين حين انتظمت في الذهاب إلى المسجد، كان هذا في السنة الرابعة الابتدائية، كان والدي يصلي الجمعة في المسجد ويأخذني معه، ولا أتذكر أنه اصطحبني في أي صلاة أخرى، وعندما ذهبت أول مرة للمسجد غمرتني السعادة، إذ وجدت كثيرا من الناس يصلون، فتعلقت بالمسجد، فكنت أقول لأبي: سأذهب للصلاة، وأذهب بمفردي، ثم لاحظ الشيخ محمود عسران إمام المسجد أني أصلي وليس معي والدي، فقال لي:
- أنت يا عزّ (واشتهرت في تلك الفترة باسم عزّ) تأتي دائما للصلاة، فلماذا لا تصلي معنا الفجر؟- وما الفجر؟- صلاة الصبح، هناك صلاة نصليها عند الصبح اسمها صلاة الفجر.. ألا تصلي الفجر في البيت؟- لا، أنا أصلي الصبح قبل الذهاب إلى المدرسة.- ألا تصليها في وقت الظلمة؟- لا، أصليها عند ذهابي للمدرسة والشمس مشرقة- إن صلاة الصبح تكون في الظلام وليس عند الشروق.
فكنت بعدها أريد أن أسهر الليل حتى يؤذن الفجر فأصلي، ولكني نمت وقلت لأمي: أيقظيني في صلاة الفجر، لكنها لم تفعل. ثم استيقظت في الظلام فظننت أن الفجر قد حان وقته، فتوضأت وصليت ركعتين، ثم رويت هذا للشيخ محمود عسران فضحك كثيرا، ووعدني أنه سيمرّ عليّ عند صلاة الفجر ليصطحبني معه، وأوفى بوعده.
لكن أزمة الربو كانت تشتد علي، ففي طريقي إلى المسجد أتوقف فأجلس خمس أو ست مرات لشدة الألم، وحاولت أمي أن تقنعني بالصلاة في البيت لسبب المرض، وذات مرة شتمت الشيخ محمود وصاحت به: ألا ترى أنه مريض؟! ولا يستطيع الذهاب. فقال لها: إن هواء الفجر جميل، ولعله يُشفى به، دعيه يصلي لعل الله يشفيه!
وكان الشيخ محمود على معرفة بممرض نصراني اسمه ميلاد، فسأله عن حالتي، فكشف عليَّ ثم سألني: من والدك؟ ولما عرف أنه يعمل قريبا من المصنع سألني: لماذا لا يأخذك إلى العيادة الطبية بالمصنع؟ أنا أشتغل هناك، ولعل الطبيب يعالجك، ثم أعطاني حقنة كالسيوم لتخفيف المرض، ولما سألت والدي تعجَّب وقال: فعلا أنا أعرف ميلاد، كيف لم أفكر فيه من قبل؟ ثم أخذني إلى الطبيب وأعطاني نفس تلك الحقن، وكانت تخفف من حالتي وبهذا انتظمت في الصلوات الخمسة جميعا.
كان الشيخ محمود عسران حاصلا على الثانوية الأزهرية، ويعمل كاتبا بالمصنع، وكلفته إدارة المصنع إلى جوار هذا العمل بمسؤولية المسجد، فكان يعمل كاتبا وإماما للمسجد، كان متدينا بسيطا، لم يكن على كثير علم وكانت أكثر خطبته باللغة العامة لا الفصحى، وكان يقول لي: يا بني هذا الملك (فاروق) كان ملكا صالحا، بل لقد كان لقبه "الملك الصالح"، ولكن أولئك العسكر أشاعوا عنه ما يسيئ إليه ليدينوه به.
لقد كنت صغيرا لا أدرك معنى ما يقول، ولست أدري الآن ما هي المناسبة التي قال لي فيها هذا الكلام.
أول ما أتذكره من الأمور العامة هي إعدام سيد قطب، كنت في الصف الخامس الابتدائي، وأتذكر أن أمي كانت تدعو على الإخوان وتقول "ربنا ينتقم منكم يا إخوان، انتو عايزين تهدوا السدّ العالي ليه؟"، فعلقت في ذهني كلماتها فسألتها: من هم الإخوان؟ فقالت لي: شخص يُدعى سيد أعدموه لأنهم يريدون هدم السد العالي، ولكن الرئيس أمسك بهم ونصره الله عليهم. كذلك كانت تقول عنهم "ناس عِفْشين"!
أما ما أتذكره جيدا فهو نكبة 1967، فقبل وقوع الحرب حدثنا مدرس المواد الاجتماعية، وكان اسمه عبد العظيم، بأننا سوف ننتصر في هذه الحرب حتما، يقول: هذا العالم منقسم تحت دولتين: الاتحاد السوفيتي وأمريكا، فنحن سوف نهزم إسرائيل، فإذا ساعدتها أمريكا فسيتدخل الاتحاد السوفيتي ويساعدنا، والاتحاد السوفيتي أقوى من أمريكا، وحين سننتصر سيكون اسم دولتنا "مصر وفلسطين"، فغزة هي جزء من فلسطين ولكن مصر هي التي تحكمها.
قامت الخرب وهُزِمنا، ولم أكن حينئذ أدرك معنى الهزيمة، وأتذكر أن أبي عاد يومذاك حوالي الساعة 12 ظهرا، وكان يبكي بكاء شديدا، وفزعت أمي وصارت تسأله: "مالك فيه ايه؟ مالك؟"، فيقول لها: "اسكتي اسكتي جمال استقال".
ثم أعطونا عطلة وجاءوا بسيارات كبيرة وجمعونا من البيوت لنذهب من قرية كوم الأمير إلى ادفو للتظاهر رفضا لاستقالة جمال عبد الناصر، وهي مظاهرات 9 و 10 يونيو. وأذكر أن تلميذا كان إلى جواري وقع على الأرض فمرت عليه السيارة، فسحقت رأسه تماما! لقد رأيت بنفسي رأسه مسحوقة ملتصقة بالأرض، وكان مشهدا لا أنساه أبدا، ولكن الناس صاحوا: فداء لجمال عبد الناصر! فداء لجمال عبد الناصر. ولم تتوقف السيارة!
كان الناس كثيرون في ادفو، كانوا يهتفون "أنور أنور يا سادات.. احنا اخترنا جمال بالذات"، وكان السادات وقتها رئيسا لمجلس الأمة (البرلمان)، وكانت الاستقالة قد قدمها عبد الناصر أمام مجلس الأمة واستخلف فيها زكريا محي الدين، ولم يزل هذا الهتاف محفورا في ذهني، ثم عدنا إلى القرية وأخبرونا في اليوم التالي بأن جمال عبد الناصر قد تراجع عن الاستقالة.
كان الناس في سعادة غامرة لما يأتيهم من أخبار الانتصار وما أسقطناه من الطائرات، ثم فجأهم خبر الهزيمة والتنحي كالصاعقة، وفي ذلك الوقت لم أكن أدرك كيف انتصرنا أو انهزمنا، ولم أكن أدرك لماذا استقال جمال عبد الناصر ولماذا تطالب الناس بعودته؟ لم أكن أدري كل هذا في هذه المرحلة ولكني أسمعه فقط.
نشر في مجلة كلمة حق
Published on May 17, 2018 16:31
May 9, 2018
كيف تعرف المسلمون على الصين؟
ذكرنا في المقال السابق كيف بدأت العلاقات السياسية بين الدولة الإسلامية وإمبراطورية الصين، وفي هذا المقال سنرى ما هي المنافذ التي فتحت بين المسلمين والصين، وكيف تعرفوا عليها، وكيف تكونت صورتها في أذهانهم.
عمل التجاور بين الأمتين كواحد من أوسع منافذ الاتصال بين المسلمين والصينيين، وكان العنصر التركي واسطة كبرى بين الصينيين والمسلمين، فمن أسلم من الأتراك كان على اتصال مباشر بالصين جغرافيا، كما أن كثيرا من الأتراك انتقلوا إلى مركز الخلافة الإسلامية؛ فمنذ العصر الأموي تدفقت حركة الجواري والعبيد من بلاد الترك بأثر حركة الفتح الإسلامي، ثم ازداد الأمر قوة واتساعا عند نهاية عصر المأمون (الخليفة العباسي السابع) وأخيه المعتصم (الخليفة العباسي الثامن) حيث اعتمدت الدولة الإسلامية على العنصر التركي في قيادة الجيوش فاستكثرت من استجلاب الأتراك، وكان كثير من أمهات الخلفاء وزوجاتهن تركيات. فكان هذا من عوامل سعة التواصل الإسلامي الصيني، إذ أن كثيرا من هؤلاء كان يجاور الصين ويعرف لغتها وعاداتها.
لكننا نستطيع أن نعد ثلاثة من المنافذ الرئيسية الكبرى التي نقلت صورة الصين إلى المسلمين، تلك هي: التجارة، البحث العلمي، الرحلة.كان الخط البحري الرئيسي يمتد من سيراف، أهم المدن الساحلية الإسلامية، وينتهي إلى مدينة خانفو (كانتون، جوانج زو Guangzhou) الساحلية في الصين، وبقية المدن التجارية على الساحل هي في حكم المحطات الفرعية الخادمة لهذا الخط الرئيسي. وحفلت تلك المدن بالحركة التجارية حتى قيل في شأن ميناء عدن "لا يخلو أسبوع من عدّة سفن وتجّار واردين عليها (عدن)"وفي مدينة خانفو تكونت جالية إسلامية كبيرة من التجار وأصحاب الأموال وَجَدَتْ رعاية ومعاملة ممتازة من ملوك الصين، فالبضائع تُحمل إلى ملك الصين فما أعجبه منها أخذه بضعف الثمن في أقصر وقت ولم يظلم فيه، ويدفع التاجر ضريبة مقابل تكفل الدولة بحفظ ماله، وفوق ما لهم من الحقوق المكفولة للتجار كان لهم رئيس مسلم مُفوض من قبل ملك الصين فيحكم بين المسلمين بشريعتهم، ويخطب فيهم الجمعة، ويصلي بهم العيد، ويدعو للخليفة العباسيأسهم جميع هذا في ازدهار التجارة الإسلامية الصينية عبر الطريق البحري الذي ظل مستمرا حتى ظهور فاسكو دوجاما ودخول البرتغاليين على خط الاحتلال مع عصر الكشوف الجغرافية في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، ولا تزال كثير من آثار السفن الغارقة أمام السواحل الممتدة بين اليمن والصين تشهد للثراء التجاري لهذا الخط البحري، وهي تمثل منجما للأثريين والباحثين في هذا البابأسفرت معركة طلخ (طالس) عن 1500 أسير صيني حُمِلوا إلى الكوفة، وظلوا بها أحد عشر عاما، علموا فيها المسلمين كثيرا من الصناعات، وقد ذكر الأسير الصيني (دو هوان) أنهم علموا المسلمين المنسوجات الحريرية وصناعة الورق والنقش على الذهب وعلى الخزف الصيني. وكان المعتصم معجبا بالمصنوعات الصينية فوَجَّهَ الصُنَّاع إلى تقليدها، فتعلموا طلاء الأواني بعجينة بيضاء مزخرفة تشبه الخزف الصيني، وهو ما مَكَّنهم من صناعة مواد عازلة استفادوا منها في صناعة الأدوية، وفي تصديرها إلى مناطق بعيدة وصلت حتى هولندا ولندن، حيث اكتشف في لندن ثمان جرار آتية من دمشقلم يكن أولئك الأسرى أول اتصال علمي بالصين، فالنهضة العلمية التي بزغت منذ العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي بلغت شمسها الصين بطرق متعددة، إذ حضرت الصين في التراث العلمي الإسلامي على تنوع مجالاته: فنجد للصين حضورا في كتب الأدب والشعر والجغرافيا والتاريخ والأديان والملل والنحل والفلسفة والرحلات والسياسة (أدب الملوك) وطبقات الأمم، بل وفي كتب النبات التي تستكشف عالم النبات وأدويته ومنابته وكتب الحيوان التب تبحث أنواعه وتوزعها وطرائق معيشته وطباعه.
ويبدو طبيعيا لأمة تجاور الصين أن تفيد من تراثها، فلقد " كان العلم يثب على قدميه وثبا في كل موضع وطئته قدم الفاتح العربي"وقد نقل المسلمون عن الصين إلى سائر العالم صناعة الورق، وأصلها من أسرى صينيين بسمرقندأقدم رحلة في المصادر المتاحة هي وصول المسلمين إلى بلاد الصنف (فيتنام)، وهي داخلة في بلاد الصين عند الجغرافيين والرحالة المسلمين، في عهد عثمان رضي الله عنه، وإليها التجأ العلويون الفارون من سطوة الحجاج الثقفي في زمن الدولة الأمويةوكان الخليفة العباسي الواثق بالله من محبي الاستكشاف، فأرسل سلام الترجمان في رحلة ليستطلع له موضع السد الذي بناه ذو القرنين حاجزا على يأجوج ومأجوج، وكان المسلمون يظنون أنه بعد بلاد الصين، وكان سلام يجيد فيما يزعمون ثلاثين لغة، وزعم أنه وصل إلى موضع السد ووصفه، والأغلب أنه وصف شيئا رآه من حصون الممالك والحضارات القديمة على أنه السد المطلوبثم تبدأ صورة واضحة عن الصين برحلة ابن وهب القرشي، وكانت في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وهو رجل ركب مع التجار إلى الصين، وهناك أصر على لقاء ملكها متذرعا إلى ذلك بأنه ابن عم نبي العرب، فتحقق ملك الصين من صدق ادعائه بسؤال التجار العرب في خانفو (كانتون)، ثم سمح له بلقائه، وجرت بينهما محاورة طويلة جرى فيها ذكر الأنبياء وأخبارهم، ونقل ابن وهب براعة الصينيين في الرسم والتصوير حيث عرضوا عليه رسوما للأنبياء تصور أحوالهم: موسى (عليه السلام) وعصاه مع بني إسرائيل في البحر، وعيسى (عليه السلام) مع حوارييه على البغلة، ومحمد (صلى الله عليه وسلم) في لباس العرب وعلى الإبل. وكثير من تفاصيل رواية القرشي عضدتها الرحلات التاليةوقد وصل الرحالة الأشهر ابن بطوطة إلى الصين كسفير من سلطان الهند، ووصف كثيرا من أحوالها ومشاهدها، وبرغم قيمتها المهمة إلا أنه شوهها ما وقع فيها من مبالغات وأساطير، وقد اختلف الباحثون حول كونها أساطير نسبها ابن بطوطة لمشاهداته أو هو من خلط واختصار ابن جزي كاتب رحلتهوثمة العديد من الرحلات لم يكتب لنا معرفة شيء عنها كرحلة الرحالة العماني أبو أبايضة الصغير في القرن الثالث الهجريوأسهمت تلك الرحلات في تطور العلم والمعرفة فما من شك في أن المسلمين ساهموا في تعريف بالشرق الأقصى وأفريقية، فضلا عن آفاق دولتهم المتراخية؛ فالرومان كانوا يتخيلون وجود الصين، ولكن الرحالة المسلمين عرفوها وكتبوا عنها منذ بداءة العصور الوسطى أخبارا أيدتها رحلة ماركوبولو البندقي في القرن الثالث عشر الميلادي"نشر في مدونات الجزيرة
Published on May 09, 2018 04:25
May 6, 2018
أوضاع مصر قبل وبعد الحداثة: أضواء من مصادر جديدة (1)
بالرغم مما تعانيه الحداثة من نقد شديد في البيئة الفكرية الغربية، إلا أن بيئتنا العربية والإسلامية تتعامل معها عموما كأنها من الثوابت الكونية ومن الغايات العظيمة التي انتهى إليها التطور الإنساني، وأعني بالحداثة نمط وجود الدولة ذات المؤسسات المتعددة المتدخلة في تفاصيل الناس من لحظة الميلاد وحتى لحظة الوفاة، فليس ثمة نشاط إنساني إلا وهو ممكن بقدر ما تصرح به الدولة.
لا يزال هذا النمط جذابا في عالمنا العربي كما كان جذابا قبل قرنين، وقليلون هم من يفكرون في تجاوزه، ورغم الولع بمتابعة نشاط الفكر الغربي في وجوه كثيرة فإن هذا الولع يتوقف ويخمد في المتابعة الجادة لنقد نمط الحداثة، ومحاولة التحرر من هيمنة الدولة التي صارت "إلها" يتحكم في الأمور الصغيرة والكبيرة، ويقدم لمواطنيه أفكارهم ونظامهم وحتى أنماط رفاهيتهم وسلوكهم الاستهلاكي والإنتاجي وغيره. وهي الصورة التي يبدو معها الفراعنة والقياصرة والأكاسرة القدماء كمستبدين بائسين، إذ لم يكن يستطيع أحدهم –مثلا- أن يلغي الوجود الحقيقي للإنسان من رعيته، وهو الأمر الذي تستطيعه السلطة المعاصرة بمجرد سحب الجنسية!
في هذه السلسلة نلقي الضوء على رحلة الحداثة في مصر، وكيف كان أثرها ووقعها على المجتمع، ولكن من خلال مصدر تاريخي جديد، وهو المدونات التي كتبها غربيون وصلوا إلى البيت الحرام وسجلوا مذكراتهم عن هذه الرحلة.
رحلات الحج كمصدر تاريخي
تركت الرحلة إلى الحج ثروة تاريخية لا تقدر بثمن، وذلك من بركات هذه الشعيرة المباركة وثمراتها الغزيرة.
لقد ألقى الله محبة بيته الحرام في القلوب، فاشتعلت إليه شوقا، فسارت الجموع منذ لحظة نداء إبراهيم عليه السلام إليه رجالا وعلى كل ضامر، وصنعت رحلة الحج أوضاعا تاريخية وجغرافية أوسع من الحصر، وكتب المسلمون مؤلفات واسعة في رحلتهم إلى بيت الله الحرام، فحفظوا لنا تاريخا عزيزا وثروة ما كان بالإمكان التحصل عليها بغير هذا السبيل.
لم تكن أنظار المسلمين فقط، بل سار إلى البيت الحرام عدد من غير المسلمين يريدون استكشاف أمره واكتناه سره، فلقد أحيطت مكة والكعبة بالكثير من الأساطير كونها المكان الذي انبعث منه الإسلام ووُلِد فيه محمد (صلى الله عليه وسلم)، لقد كان القساوسة الأوروبيون في العصور الوسطى يعتقدون أن المسلمين يحجون إلى مكة ليَرَوْا نبيهم في الهواء في وسط حلقة حديدية موضوعة في نقطة اتزان وسط قبة حجر مغناطيسي فيحسب المسلمون أن نبيهم معلق في الهواء وأنها من معجزاتهنبحث في هذه السلسلة الجديدة في رحلتين من رحالات غير المسلمين إلى الحج، لتستكشف منهما صفحة من التاريخ الاجتماعي للمصريين، باعتبار المجتمع المصري واحدا من أهم المجتمعات المحلية التي كانت مركزا من مراكز عبور الحجيج إلى مكة، ففيه تجلت العديد من الصور: السياسية والاقتصادية والثقافية لما لمصر من موقع جغرافي وثقل علمي ووفرة مالية وقوة بشرية، وبهذا صارت مصر مركزا شرقيا لم يفقد أهميته –في أمر الحج ورعاية الحجيج والحرمين- منذ دخله الإسلام وإلى وقت قريب بعد اختراع الطائرات وظهور النفط في الجزيرة العربية، ففي مصر رُبِط الشرق الإسلامي بغربه علميا وثقافيا، وكان اقتصاد الحرمين لزمان طويل فرعا من الاقتصاد المصري، وكانت الهيمنة السياسية على الحرمين لزمن طويل هيمنة مصرية. كذلك قصدت الورقة أن تفهم المجتمع المصري وترصد تطوره من خلال رحالتيْن غربييْن وذلك لقلة ما تعرض الباحثون لهذا الأمر مقارنة بتعرضهم له في مؤلفات الرحلة العربية.
وقد وقع الاختيار على رحلتي جوزيف بتس وريتشارد بيرتون لأسباب أهمها: أنهما من أهم الرحلات الأوروبية للبيت الحرام؛ فرحلة بتس من أوائل تلك الرحلات ورحلة بيرتون من أوسعها وأكثرها تفصيلا، ويفصل بينهما قرنان من الزمان تغير فيهما الكثير وبالذات في مصر التي دخلت في طور الدولة الحديثة واندمجت بالنموذج الغربي، فقد كان رحلة بتس في عصر المماليك تحت السيادة العثمانية، بينما كانت رحلة بيرتون في أعقاب وفاة محمد علي باشا الذي أسس حكما مستقلا في مصر وأنشأ دولة على النمط الغربي في المؤسسات والإدارة، ومن ثم ظهرت فروق واضحة بين العصرين تُمَكِّن من رصد تطورات فارقة.
الرِّحْلتان والرحَّالتان
كان جوزيف بيتس (1663 – 1735) بحارًا إنجليزيًا، وقع في أسر الجزائريين عند السواحل الإسبانية، وكان حينئذ في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره، وظل عبدا في الجزائر سنينا ثم رافق سيده في رحلة الحج (1091هـ = 1680م)، وهي أول رحلة تصف طريق الحج المصري في الشمال الإفريقي.
سلك بتس طريق البحر من الجزائر إلى الإسكندرية، ثم منها بحرا إلى رشيد، ثم نزل في النيل إلى بولاق، ثم برا إلى السويس ثم بحرا إلى الطور ثم إلى رابغ ومنها إلى جدة ثم إلى مكة، ثم إلى المدينة، ثم قفل راجعا إلى القاهرة ثم الإسكندرية ثم الجزائر.
أما ريتشارد بيرتون (1821 – 1890م) فواحد من أهم الرحالة الأوروبيين، إذ نشر رحلاته في ثلاثة وأربعين مجلدا، وهو مكتشف بحيرة تنجانيقا، وترجم ثلاثين كتابا من العربية والفارسية إلى الإنجليزية، وكان يتقن خمسا وعشرين لغة وأربعين لهجة، وطاف شرقا وغربا فزار باكستان والهند ومصر والحجاز وشرق إفريقيا وغربها والولايات المتحدة. ورحلته ثرية تدل على غزارة معارفه واتساع رحلاته.
وكانت رحلته إلى الحج كالآتي: ركب السفينة من ساوثمبتون البريطانية مبحرا إلى الإسكندرية، ثم عاش بها فترة، ثم سافر إلى القاهرة، ومنها برا إلى السويس، ثم إلى البحر الأحمر ونزل بالطور ثم إلى ينبع إلى المدينة المنورة، فكان حجه في عام (1269هـ = 1853م).
جاءت رحلة بتس مختصرة وسريعة وطُبِعت في أقل من مائة صفحة وتكاد كل فقرة منها تمثل موضوعا إذ يندر أن يشغل الموضوع أكثر من فقرة، بينما بلغت رحلة بيرتون ثلاثة أجزاء، استغرق الأول سفره من بريطانيا وحياته بمصر حتى المدينة المنورة. ولهذا حفلت رحلة الثاني بتفاصيل مطولة وقضايا كثيرة لم يتطرق إليها الأول أو تطرق إليها في فقرة واحدة لا أكثر.
في المقال القادم إن شاء الله تعالى نرى الفوارق بين الرحلتين، وكيف رصد كل منهما واقع المجتمع المصري لنرى كيف تطورت الأوضاع في مصر بين هذين القرنيْن.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية
Published on May 06, 2018 11:51
May 5, 2018
في ضرورة تأمين القيادات والكفاءات المسلمة
قبل سنوات قليلة حذرت السلطات الأردنية الإخوان من إجراء الانتخابات الداخلية، وهددت بأن إجراءها يعني اتخاذ إجراءات ضد الجماعة. وقد حصل تردد وارتباك في الجماعة إزاء هذا التهديد، فحاولوا جس نبض السلطة وهل هي جادة، فأجروا انتخابات في منطقة ما، وكان للسلطة رد فعلها الجاد والقوي، فاضطر الإخوان إلى إلغاء إجراء الانتخابات الداخلية.
تبدو الصورة غريبة لأول وهلة، فالنظام الذي يعادي جماعة ما ينبغي أن يكون حريصا على إجراء هذه الانتخابات لتتغير القيادات التي دخل معها في احتكاك أو نزاع، فلربما جاء من هو ألين منهم أو هو أكثر "انفتاحا" و"اعتدالا"، فإن لم يكن هذا وجاء من هو مثلهم فعلى الأقل سيأتي من ليست له الخبرة الوافرة التي تكونت وترسخت عند القيادات القديمة، وهو ما يجعل التعامل معه أسهل.. هكذا ينبغي أن تفكر السلطة فيما يبدو لأول وهلة. لكن الذي حصل هو العكس!
لقد كانت السلطة أحرص من الجماعة نفسها على بقاء القيادات القديمة في مكانها! فهل يصعب توقع السبب؟! أبدا: السبب أن السلطة خبرت وعرفت تلك القيادات ومخارجها ومداخلها وطرائق التعامل معها والسيطرة عليها كذلك!.. ومن ثَمَّ فالسلطة أحرص على عدم المخاطرة بالتعامل مع الجديد من الجماعة نفسها!!
تلك القيادات الإسلامية التي بقيت في مكانها أدنى من نصف القرن وثلثه وربعه، تسافر وتروح وتغدو بين المؤتمرات والمنتديات واللقاءات، كأنها لا تمثل أي نوع من الخطر ولا المنافسة للأنظمة الحاكمة والنظام الدولي، بل النظام الدولي يفتح لهم عواصمه ليتخذوا فيها مقرات!
وقبل أيام صرَّح قيادي إخواني على صفحته بالفيس بوك بما كان معروفا بين الأوساط الإسلامية المصرية من أن إبراهيم منير –الذي هو في مكانه منذ أربعين عاما- هدد في لقاء مغلق بأنه سيبلغ المخابرات البريطانية في جلسته الشهرية معها عن الإخوان "المؤيدين للعنف"! وذلك لأنه صادق لا يكذب!! وهو التصريح الذي فاجأ الكثيرين بأن له لقاءات دورية مع المخابرات البريطانية.
حسنا.. فما الغرض من كل هذا الكلام الآن؟!
الغرض بسيط وواضح، إن الذي يمثل خطرا حقيقيا لا يُسمح له بالحياة.. هذا هو الدرس الذي ذكَّرنا به اغتيال الشهيد الدكتور المهندس فادي البطش في ماليزيا، لقد كان وهو في الخامسة والثلاثين من عمره يمثل خطرا على إسرائيل لأنه يساهم في تطوير البنية العسكرية لحركة حماس. وهو ما أعاد إلى الذاكرة –المثقلة التي تنسى من كثرة الهموم- اغتيال الشهيد المهندس محمد الزواري في بيته بتونس لأنه من مهندسي طائرات حماس بدون طيار.. وكلاهما يذكر بطابور طويل من القيادات السياسية والأمنية والعسكرية والعلمية التي اغتيلت حول العالم.
بينما أولئك الذين تحرص السلطات وأجهزة المخابرات على بقائهم في أماكنهم ومناصبهم هم مصدر الأمان الحقيقي، هم أولئك الذين يقومون بدور لا تستطيع تلك الأجهزة أن تفعله ولو اجتهدت، إنهم يُمسكون بقرون الحركة الإسلامية ومفاصلها، الحركة الإسلامية التي إن ثارت وهاجت فلا يمكن توقع ماذا يمكن أن تفعل!
تتبع المستهدفين بالاغتيال يرسم لنا ملامح السياسة العامة لأولئك الخطرين الذين يُسْتَهدفون..
1. يأتي على أول القائمة القادة الذين يستطيعون تحريك الأتباع نحو الوجهة الصحيحة، فأولئك قد اجتمع لهم علمٌ وعمل، فبالعلم يحددون الوجهة والرؤية والطريق الصحيح، وبالعمل يحركون الأتباع الذين نجحوا في تكوينهم وتنظيمهم، وهنا يمكن أن نضرب أمثلة طويلة من عمر المختار والقسام وحسن البنا وأحمد ياسين وأسامة بن لادن وغيرهم من زعماء وقيادات حركات المقاومة.
2. ويأتي بعدهم العلماء والمخترعون وأصحاب القفزات النوعية في مسارات المقاومة، طالما أن أولئك يعملون بالفعل في سياق المقاومة أو يحملون من الأفكار والتوجهات ما يجعلهم ممتنعين عن الذوبان في الحضارة الغربية وتجنيد مجهوداتهم في صالحها.. مثل هذا لا بد من التخلص منه، فذلك الذي يمثل الأنياب والمخالب التي تضرب بها حركة المقاومة، أولئك الذين يوفرون الأدوات والوسائل التي تتحول بها الأفكار النظرية المحلقة في الخيال والحائمة في الرؤوس إلى أسلحة على الأرض تقاتل في الحروب وتغير موازين القوى وخرائط الصراعات.
أما إن كان صاحب الفكر والعلم بلا جماعة ولا أتباع ولا وسائل فلا بأس بتركه حتى يموت كمدا أو يموت من الصراخ.. كذلك إن كانت الجماعة أو الحركة بلا أنياب ولا مخالب ولا وسائل فلا بأس بتركها تعمل في الإطار الذي يُحدد لها، بل قد توظف في خدمة السياسة الحاكمة وكبح انفلات الأتباع وتخديرهم بالنسخة المخففة من الدين.
وعلى الجانب الآخر طالما أن الأنياب والمخالب تقبل بتوظيفها واستعمالها ضمن المنظومة الحضارية الغربية فهي محل ترحيب، أما حيث استنكفت عن هذا وكانت لها طموحات أخرى، فمصيرها الاغتيال.
القاعدة أن يمتنع اجتماع العلم والعمل معا، العقل والمخلب معا، القدرة على التفكير والقدرة على التنفيذ معا..
ذكر تقرير بريطاني عن الشيخ رشيد رضا أنه "مسلم صعب ، متعصب، لا يتساهل، وتنطلق أفكاره من باعث رئيسي هو التوق لتحويل الإسلام إلى قوة سياسية في أوسع مجال ممكن. إن غطرسته الفكرية في تقديري يمكن أن تعزى بالدرجة الأولى إلى الاعتقاد بأن بريطانيا العظمى تخشى الإسلام... وعلى الرغم من دماثة خلقه وحسن سلوكه، فلا يسعني وصف موقفه إلا بأنه مشاكس… تسيطر عليه فكرة خيالية هى أن الإسلام كيان دولي مستقل ، وأن المسلمين يستطيعون أن يملوا على بريطانيا سياستها بلهجة تكاد تشبه لهجة الفاتحين، وأنه لا يستطيع أن يحمل نفسه على تقديم أي تنازل أو تبني أي أمل في صداقة فعلية أو ولاء من جانب المسلمين"عاش رشيد رضا بعد هذا التقرير عشرين عاما، ومات وهو في السبعين من عمره، وترك لنا المنار شاهدة على ما حمله صدره من علم ثرٍّ غزير واسع ومن لهيب وأحزان وحماسة لا تنتهي..
وذكرت برقية للسفارة البريطانية عن الشيخ حسن البنا: "يمكن لجماعة الإخوان أن تنهار إلى الأبد، إذا أزيح حسن البنا عن قيادتها لأي سبب، مع غياب أي خليفة له نفس القدر من الشخصية القيادية والذكاء اللذين يتمتع بهما حسن البنا"عاش البنا بعد هذا التقرير أياما ثم اغتيل وهو في الثالثة والأربعين من عمره.. لم يكن الفارق بين البنا ورشيد رضا إلا أن البنا له أتباع يملك تحريكهم، اجتمع له التفكير والتنفيذ! بينما كان علم رشيد رضا وحرقته وحماسته بلا مخالب تحيلها إلى واقع يغير موازين الأوضاع.
في حالات أخرى يكون الحبس الطويل أفضل من الاغتيال، هذا إن أمكن.. فالاغتيال يثمر أسطورة بطولة وشهادة، بينما الحبس الطويل يُغيِّب ذكرى الزعيم وقد يكسره، وإن لم يكسره كسر صورته في النفوس والخيال.. وهذا اغتيال مضاعف، ونجاح أكبر.. لكن الاختيار بين الحبس والاغتيال تحوطه ظروف موضوعية وتفصيلية يقدِّرها صاحب القرار.لا يزال على جدول المهمومين بأحوال الأمة عمل كثير طويل، من صلب هذا العمل: تأمين القيادات والكفاءات والحفاظ عليها. ولقد كان النبي في الحراسة المسلحة منذ لحظته الأولى في المدينة حتى نزل قوله تعالى (والله يعصمك من الناس) فصرف الحراسة.
نشر في مجلة كلمة حق
Published on May 05, 2018 11:53