محمد إلهامي's Blog, page 27
February 10, 2018
كيف عاش اليهود في الأندلس
ذلك هو المقال الرابع من سلسلة المقالات المستمرة التي تقارن بين أوضاع اليهود في ظلال الأمة الإسلامية، وبين أوضاعهم التي عاشوها في ظلال الأمم الأخرى، وآثرنا أن تكون مادة المقالات جميعها من مؤرخين غربيين ومستشرقين كي تكون الحجة أبلغ. استعرضنا في المقال الأول نظرة عامة، وفي المقال الثاني تناولنا أحوالهم في عصر النبوة والخلافة الراشدة، وفي المقال الثالث تناولنا أحوالهم في عصر الدولتين الأموية والعباسية، وفي هذه السطور نرى كيف عاشوا في ظل الأندلس. وبداية يجب العلم بأن فتح المسلمين للأندلس أنقذ اليهود فيها من الإبادةيلخص اليهودي الصهيوني ليفي أبو عسل حياة اليهود في الأندلس بقوله:
"ولوا (اليهود) وجههم شطر الأندلس، ثم اقتفى أثرهم جماعات من يهود مصر، فنزلوا ضيوفا على أمراء العرب المسلمين، ولجأوا إلى سخائهم الفطري، وكرمهم الحاتمي، ولم يكن من هؤلاء الأجاويد إلا أن أحسنوا ضيافتهم، وأكرموا وفادتهم، وأنزلوهم بين ظهرانيهم، وأحاطوهم بشيء كثير من العطف والعناية، فرفلوا في مروط المرح، وطاب عيشهم نالك، واستمرأوا لذة الحياة وعذوبة المعيشة بعد طول الإحن التي ألمت بهم والكوارث التي ساورتهم، وهكذا سكن ثائر روعهم، وانقشعت غياهب بؤسهم، فأنشأوا معهدا علميا فخما. كان كعبة العلماء ومحط رحال الشعراء وقبلة الأدباء ونطس الأطباء، وأسفر ذلك التضافر العلمي والاجتماعي والتعاون العقلي والأدبي عن إبراز نفائس العلوم وكنوزها وتحف الفنون ورموزها، نفائس تسامى ذكرها، وتعالى قدرها، وطبق صيت مؤلفيها الآفاق، وشهرة واضعيها العالمين"ويضرب المستشرق الألماني كارل بروكلمان بعض الأمثلة على هذا، فيقول: "شارك اليهود في هذه الحياة الثقافية (في الأندلس) مشاركة فعالة، والواقع أنهم كانوا [قبل الفتح الإسلامي] منبثين في طول البلاد وعرضها بين القوط، وأنهم عملوا في خدمة أمراء النصارى كموظفين ماليين. فلما آلت مقاليد الدولة الأموية إلى عبد الرحمن الثالث (الناصر) عهد إلى طبيبه اليهودي حسداي بن شبروط بشؤون المال أيضا. ليس هذا فحسب، بل لقد استطاع أحد اليهود، إسماعيل بن نغرالة أن يبلغ منصب الوزارة في ظل الأمير البربري حبوس الذي استولى على الأمر في غرناطة حوالي سنة 1024- بعد أن اعتزل الحكم عمه زاوي بن زيري- والذي دام عهده حتى سنة 1038. وهكذا خلعت عليه الجالية اليهودية، وكانت كثيرة العدد هناك منذ العصور القديمة، لقب "ناجد" الخاص بالأمراء"وبالجملة، كما تقول الراهبة السابقة والباحثة في الأديان كارين أرمسترونج، فقد "كانت العلاقات طيبة في العادة بين المسلمين والمسيحيين، وكان المسلمون يسمحون للمسيحيين، مثلما يسمحون لليهود، بالحرية الدينية الكاملة في أرجاء الإمبراطورية الإسلامية، وكان معظم أهل إسبانيا يعتزُّون بانتمائهم إلى تلك الثقافة الرفيعة، فقد كانت تسبق سائر أوربا سبقًا يُقاس بالسنين الضوئية، وكان كثيرًا ما يُطْلَق عليهم المستعربون"ولم يكن هذا ليحدث لولا تفوق الإسلام على المسيحية، كما يقول الباحث والناقد الأديب الإسباني أميركو كاسترو: "يمكن أن نفهم تاريخ باقي دول أوروبا دون الحاجة لوضع اليهود في المقام الأول، أما في الحالة الإسبانية فالوضع مختلف، فالوظيفة الرئيسية للإسبان العبريين لا تنفصل عن ظروف التعايش والتلاحق مع التاريخ الإسباني الإسلامي، وكانت العربية العربية هي اللغة المستخدمة بين عمالقتهم (نذكر هنا ابن ميمون) ورغم ذلك كانوا يكتبونها بالحروف العبرية، ومن الواضح أن تفوقهم على أقرانهم في أوروبا يرتبط بتفوق الإسلام على المسيحية خلال الفترة من القرن العاشر وحتى الثاني عشر، ولولا احتكاكهم بالإسلام لما عنوا بالفلسفة الدينية"وإن أي مقارنة بين العهد الإسلامي وبين ما سبقه وما تلاه ستكون كاشفة، أو كما تقول زيجريد هونكه: "بينما عاشت النصرانية في ظلِّ الحكم الإسلامي قرونًا طوالاً -في الأندلس، وفي صقلية، والبلقان- فإن انتصار النصرانية على الإسلام -في الأندلس سنة (1492م) - لم يَعْنِ سوى طرد المسلمين واليهود، واضطهادهم وإكراههم على التنصُّر، واستئناف نشاط محاكم التفتيش، التي قامت بتعقُّبِ كلَّ مَنْ يَتَّخِذَ سوى الكاثوليكية دينًا، والحرقِ العلني -في احتفالات رسمية تحفُّها الطقوس والشعائر الكنسية- لكل من اعتنق الإسلام أو اليهودية"وإن من أبلغ الأدلة على ما لقي اليهود من المعاملة الحسنة أنهم هرعوا إلى تعمير مدينة فاس حين إنشائها، حتى لقد بلغت الجزية التي يدفعها اليهود –ومن معهم- ثلاثين ألف دينار في السنة، وهو دليل على كثر عدد اليهود، أو على غناهم لو قُلْنا بقلة عددهم، وكلا الاحتمالين ينفيان احتمال اضطهاد اليهودفي المقال القادم إن شاء الله تعالى ننظر في أحوال اليهود في ظل الدولة العثمانية، فالله المستعان.
نشر في مجلة المجتمع
Published on February 10, 2018 02:56
February 8, 2018
الشريعة للمقاومة.. عاطفة ووضوح
تفضل فريق المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية فأعاد نشر مقالي "مسألة الشرعية لدى حركة المقاومة" المنشور بالعدد السادس من مجلة كلمة حق، وقد أكرمني أخي الكريم الأستاذ الباحث ياسر فتحي فنشر ردا كريما عليه، مما أحوجني إلى كتابة هذا التعقيب.
مختصر فكرة المقال أن حركة المقاومة لا بد لها من شرعية، فمعنى "الشرعية" هو ما يجعلها حركة مقاومة لا حركة خروج على النظام والقانون، ولذلك سعى كل نظام لبناء شرعيته التي تجعل مقاوميه خارجين عليها ومنحرفين ومنبوذين، كما سعت كل حركة مقاومة لبناء شرعيتها التي تجعلها حركة نضال وكفاح ضد نظام يفتقد إلى الشرعية ولا يتمتع بها. فإذا أنزلنا هذا الحال على أمتنا الإسلامية فسنرى بوضوح أن الإسلام، الذي هو روح الأمة وهويتها وانتماؤها، يجعل مسألة شرعية النظام متوقفة على إقامته للدين وإنفاذه للشريعة. وهو الأمر الذي سار في التاريخ الإسلامي وفي تراث الفقه كله، فالشرعية الوحيدة للحاكم المتغلب الذي قبلت به الأمة اضطرارا هو أنه يقيم الدين والشريعة ويحفظ بيضة الأمة. وبناء على هذا كله فإن كل نظام لا يأخذ شرعيته من الدين ولا يسعى لإقامة الشريعة فهو نظام فاقد للشرعية. وهذه الفكرة هي أهم ما ينبغي على أي ثورة وأي حركة مقاومة في بلادنا أن تغرسه وتنشره في الناس، فتلك هي أقوى ضربة تسدد لشرعية النظم القائمة وهي أقوى معين يأتي للثورة وحركة المقاومة بالأمداد والأفواج لأنه يخاطب الناس بلسان الدين الذي هو المؤثر فيهم والملهب لشعورهم والمفجر لطاقاتهم.
وافقني أخي ياسر على ضرورة الشرعية لحركة المقاومة، لكنه توقف ليقول: إن التغيرات الهائلة التي حدثت بين عصرنا وعصور تطبيق الشريعة تمنع الآن من وجود تصور واضح للشريعة، حيث لا يوجد الآن "بشكل واضح ومحدد نظام معاصر للشريعة"، وتختلف الاجتهادات والرؤى المعاصرة اختلافا واسعا في محاولاتها استنباط الاجتهاد الأمثل لزماننا وأوضاعنا. وحيث كان الحال هكذا فإن رفع شعار الشريعة لن نجني منه سوى العاطفة، وهي العاطفة التي ستأتينا معها بالصراعات والسجالات التي ستندلع حول تفسيره والتي قد تؤدي إلى اقتتال الصف الواحد. ولتجنب هذا علينا أن نضع شعار الشريعة جانبا ريثما يتوصل المجتهدون إلى صياغة عليها اتفاق، وهذا لن يعطل حركتنا الثورية فإن كل نظام مستبد هو فاقد للشرعية، وكل اغتصاب لإرادة الأمة هو مبرر كاف للثورة على النظام وخلعه.
تلك خلاصة فكرته كما فهمتها، وأحسب أني نقلتها بأمانة، ورابط المقال موجود لمن أراد الاطلاع عليه كاملا.
سأجمل تعقيبي على أخي ياسر في نقاط هي:
1. إن انتظار وصول المفكرين والمجتهدين إلى اتفاق حول النظام المعاصر للشريعة هو انتظار ما لا يأتي أبدا. ذلك أن عالَم التفكير والتنظير لم ينته في أي يوم لرأي حاسم واضح متفق عليه في أي قضية. المفكرون يقضون الوقت في التحليل والتفسير والاقتراحات والسجالات، ثم يأتي الحركيون العمليون فيغيرون الواقع طبقا لما حملوه هم من أفكار واضحة آمنوا بها واعتنقوها بحماسة، فينتقل عالم التنظير والتفكير إلى تحليل وتفسير الواقع الجديد وتقديم الاقتراحات حوله.
إنه بقدر ما نشأت كل حركة مقاومة وتغيير عن فكرة، بقدر ما ابتعدتت نفس هذه الحركة عن السجال المكثف حول الفكرة وتفاصيلها وآفاقها وأعماقها وآثارها.. العمليون يتحركون بناء على فكرة واضحة وبسيطة دون أن ينتظروا من تيار الفلاسفة والعلماء حسم تفاصيلها، أولئك هم من يغيرون الواقع على الأرض، وبقدر ما ينجحون في تغييره وتأسيس دولتهم بقدر ما تكتسب فكرتهم مزيدا من القوة والعمق بما ينشأ حولها من تراث فكري تخدمه جيوش من المفكرين والفلاسفة، أولئك المفكرون والفلاسفة هم أصلا نتيجة انتصار هذه الفكرة على أرض الواقع.
نعم، إن خالد بن الوليد نفسه لا يستطيع التعبير عن الإسلام بتقعيد وتنظير وتقسيم الشافعي أو الغزالي أو الشاطبي.. لكن وضوح الفكرة البسيطة في نفسه وإيمانه بها أشد وأعمق وأقوى من كل هؤلاء، ولولا هو لما وصل الإسلام إلى هؤلاء، وأغلب الظن أن عقولهم الذكية هذه كانت ستنتج فلسفات ميتة إن لم تنتج فلسفات تؤصل لكسرى وقيصر ضمن الحضارات التي ستكون سائدة عليهم! ففضل خالد بن الوليد علينا وعليهم هو الفضل الأعظم.
المقصود ببساطة: أن حركة المقاومة بما تغيره على الأرض هي من تنشيء الأوضاع التي تقدح أذهان المفكرين في تأصيلها وإنضاجها لا العكس.. والعمليون لا يحتاجون إلا إيمانا عميقا قويا بفكرة بسيطة واضحة طالما هم في سياق المقاومة وفي لحظة التأسيس. وهكذا فإن رفع الشريعة يؤدي المطلوب في لحظة المقاومة والتأسيس.
2. إن الذي يصنع الخلاف والتنازع والاقتتال هو محاولات التفصيل والتفسير للشعار، محاولة الوصول إلى الفصل فيما لم يأت زمنه ولا وقته بعد.. الذي يصنع الخلاف هو محاولات المفكرين والفلاسفة والباحثين ترك واجب اللحظة الذي يخدمه الشعار والإصرار على استطلاع ما بعد المرحلة وما وراء الكلام.
إن الاتفاق يعم الإسلاميين ما داموا يجيبون على سؤال: كيف نسقط الطاغية، ثم يأتي الاختلاف كله حين يُطرح سؤال: ماذا سنفعل في الخمور والسياحة العارية وحجاب النساء ونحوه، ثم يقع التنازع حين تطرح هذه الأسئلة والطاغية لم يسقط بعد.
وبتوسيع الصورة: يعم الاتفاق سائر أطياف الشعب ما داموا يفكرون في نجاح الثورة، ثم يزرع المتنفذون الكراهية والبغضاء بينهم حين يطرحون عليهم وبإلحاح: ماذا يكون الوضع حين ينجح الإسلاميون فيفعلون كذا وكذا، أو: ماذا يكون الوضع أيها الإسلامي إذا لم يختر الناس الشريعة أو إذا تظاهر ضدك العلمانيون؟.. طرح هذه الأسئلة في وقت الثورة والنظام لا يزال قائما هو ما يفجرها ويزرع بينها بذور الاقتتال.
فالواقع –أخي ياسر- هو عكس ما تتصور، إن دخول الفلاسفة والمفكرين على خط أسئلة ما بعد المرحلة هو ما يشتت حركة المقاومة ويفجر الثورة، لأنه يضرب فكرتها البسيطة الواضحة المستقرة في الأذهان والتي تتحمس لها المشاعر وتبذل في سبيلها التضحيات ويحولها إلى مجموعة من الأسئلة المعقدة.. وهكذا كانت تجربة ثورتنا في 25 يناير.
الخلاصة: أنه بقدر ما ترك المفكرون والكُتَّاب والباحثون إزعاج حركة المقاومة بأسئلة لم تطرح بعد ولم يأت وقتها، بقدر ما استطاعت حركة المقاومة والثورة أن تحتفظ بتماسكها وتتجنب تمزقها وتشتتها.
3. نعم، لا يوجد نظام معاصر للشريعة.. والاجتهاد في سبيله هو واجب المسلمين كما ذكرت، لكن الاجتهاد لا يكون أبدا عملا فكريا فحسب يتخصص له المفكرون والمجتهدون، بل هو عمل واقعي، وإجابات على أسئلة ينتجها الواقع والتحديات العملية. الواقع أنه لا قيمة للمفكرين بل ولا ضرورة لهم ما داموا لا يستطيعون تقديم إجابات عملية يسكبون فيها رحيق وخلاصة علومهم النظرية.
وبالتالي فعدم وجود نظام معاصر للشريعة هو تحدٍّ يستدعي العمل على إيجاده، العمل الواقعي الحركي، ولا يكون عدم وجوده مبررا لترك البحث عنه بحثا عمليا واقعيا. وأول واجب واقعي في هذا هو مقاومة هذه النظم القائمة التي تعمل على حرب الشريعة نفسها وقتل وطرد كوادرها.
4. الشريعة كشعار يوفر لحركة المقاومة العديد من المزايا، إن قدرتها العاطفية التعبوية الهائلة التي لا يستطيع شعار آخر أن يكافئها فيه ليست الميزة الوحيدة. بل الشريعة نظام يجعل التصور البديل في مرحلة ما بعد انتصار الثورة يتمتع بالحد الأدنى من الوضوح.
صحيحٌ قد وقعت متغيرات هائلة بين أزمنة تطبيق الشريعة وزماننا لكن كثيرا من الثوابت باقية كما هي في عالم النفس والاجتماع والعلاقات الدولية.. وبالتالي فأكثر ما بني من فقه وتراث وأفكار في هذه المجالات سيظل قائما وفاعلا ومفيدا ومطلوبا! كما أننا نستطيع أن نجد ثوابت في الفكر الغربي ومسيرته الحضارية تمتد إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو، وهذا في كل حضارة.. فالإنسان لم ينفصل عن ماضيه انفصالا تاما، وتجربتنا الحضارية امتدت إلى ما قبل مائة سنة، ولديها تراث ضخم ضخم من الاجتهادات القريبة فضلا عن اجتهادات عصر ما بعد سقوط الخلافة حتى الآن. المهم أن أمورا كثيرة تظل واضحة في تصورنا لما نريد أن يكون عليه المستقبل. ولو افتقدنا مرجعية الشريعة لكان الخلاف بين الثائرين أوسع بكثير وأضخم بكثير وأعقد بكثير، تماما كما هو الفارق بين اختلاف مذاهب الفلسفة وبين اختلاف مذاهب الفقه الإسلامي، الفارق بين اختلاف في الأصول والمنطلقات والاختلاف داخل الأصول والمنطلقات المتفق عليها.
يكفي لحركة المقاومة أن تعمل تحت ظل المتفق عليه، الأصول والثوابت، وعلى جمهرة المفكرين والمثقفين أن يعملوا على ترسيخ تلك الثوابت والأصول دائما، ثم عليهم أن يحتفظوا بالخلافات الفروعية والاجتهادية لتظل في إطار بيئتهم العلمية وفي ظل العمل المشترك المستند إلى الثوابت.
5. توفر مرجعية الشريعة كذلك وضوحا قويا لمعنى الشرعية نفسه.. فبغير مرجعية الشريعة سنختلف اختلافا واسعا حول شرعية النظام نفسه وشرعية حركة المقاومة، مرجعية الشريعة تحدد لنا معنى الشرعية، واستبعادها يدخلنا في متاهات فكرية وفلسفية حول معنى الشرعية وتفسيرها وشروط من يحوزها. إن استبعاد الشريعة كمرجعية وشعار يجعلنا ندخل مباشرة تحت مرجعية ينتجها الواقع (فالسلطة تنتج المعرفة) أو ينتجها مذهب فكري وضعي آخر وهو في حالتنا: المرجعية الغربية باعتبارها الثقافة الغالبة.
إن استبعاد مرجعية الشريعة سيدخلنا في خلاف واسع حول المرجعية البديلة، فلا شيء في الحياة بلا مرجعية، ولا يكفي في هذه الحال أن يقال طالما وجد ظلم فشرعية الثورة قائمة، لأن الظلم نفسه معنى يختلف فيه الناس، ويختلفون فيما يُتحمَّل منه أو لا يُتَحمَّل، وفي القدر الذي تكون الثورة معه مبررة أو لا تكون.. كل المعاني التي تبدو متفقا عليها كالعدل والمساواة والأخلاق ونحوه هي ليست كذلك عند النزول إلى التجربة العملية، لأن المرجعية التي تفسرها تعمل على بيان حدودها وضوابطها ومراتبها.
(وهنا أرجو بشدة قراءة هذا المقاللنكتشف أن الفكر الغربي الذي يعرف بأنه ليبرالي حرياتي ديمقراطي حقوقي، هو أشد في مذهبه العملي من مقولة "تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك"، فهذه المقولة التي هي موضع خلاف ضخم في الفكر الإسلامي هي في حكم الثابت في الفكر الغربي الحديث.. ذلك لنعلم أن الشعارات المرفوعة حين تنزل على أرض الواقع تفقد سموها المفارق للمرجعية وتكتسب من المرجعية خصائصها الواقعية).
كذلك فإن استبعاد مرجعية الشريعة سيدخلنا في اشتباك فكري وقيمي وأخلاقي مع أمتنا المسلمة وشبابنا المسلم. تلك الأمة وهؤلاء الشباب الذين هم مدد حركة المقامة ومادتها وعدتها، والواقع يثبت يوميا أن رفع شعار الشريعة هو ما يجذبهم ويلهبهم حتى لو أن الذين رفعوها كانوا عبثيين وعدميين وبلا عقل (كما هي حالة داعش).
ثم إن الذين نحاول إرضاءهم –أو جذبهم- باستبعاد مرجعية الشريعة هم القلة في بلادنا، حتى لو تضخموا بالحضور التليفزيوني والإعلامي، لكنهم على أرض الواقع بلا تأثير حقيقي. والواقع أيضا أن هؤلاء عند اللحظات الفاصلة ينحازون إلى عداء الأمة وثورتها ويفضلون جحيم العسكر والاستبداد على جنة الإسلاميين.. والأمثلة طويلة ومتعددة بحجم قرنين من الحقبة العلمانية في بلادنا.
خلاصة ما أود قوله في كلمات معدودة:
الشريعة هي الشعار المنسجم مع أمتنا، الملهب لطاقات شبابنا، الذي يوفر لنا مرجعية فكرية متينة ذات ثوابت وأصول متفق عليها تعصمنا من التيه بين الأفكار والمذاهب، وتعصمنا من سطوة الثقافة الغالبة والسلطة القاهرة التي تنتج الأفكار لتصنع شرعيتها، ولا داعي للخوف من أن بعض الأمور تحتاج اجتهادا معاصرا ما دامت هذه الأمور تناقش في بيئتها العلمية، تلك البيئة التي عليها واجب الاجتهاد المعاصر بإجابة الأسئلة التي تتطلبها المرحلة أولا قبل الجدال حول إجابات الأسئلة المستقبلية، وعليها واجب هداية وإنضاج الثورة وحركات المقاومة بالمتفق عليه والثوابت لا تفتيتها وتمزيقها بطرح الخلافات والسجالات حول المختلف فيه.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
Published on February 08, 2018 01:34
February 7, 2018
لحظة سقوط السيسي
لا يعلم الغيب إلا الله، واليأس من روح الله كفر كما قال تعالى (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)، والله وحده هو المتصرف في الكون، وهو مدبره والقائم عليه، هو الحي القيوم. وقديما قال الشاعر:
ما بين طرفة عين وانتباهتها .. يُغيِّر الله من حال إلى حال
وقد جرى في التاريخ أمثال هذا كثيرا كثيرا، فكم من طغاة هلكوا في طرفة عين، أشهرهم فرعون وقارون، هذا هلك وهو في قلب جيشه الضخم تحت أمواج المياه، والآخر هلك وهو في أوج زينته تحت خسف الأرض.
ولماذا نذهب بعيدا.. هذا عبد الناصر ودَّع ضيوف القمة العربية نهارا ثم لم يصبح عليه نهار، وكان في الثانية والخمسين من عمره في لحظة لم يتوقع أحد أن يهلك فيها، وقُتِل السادات وهو في زينته وحاشيته في ذكرى يومه الكبير، وكان ضابط أمن الدولة يقسم للمعتقلين أن "ربنا مش قادر على مبارك" فإذا بها أيام وينقلب الحال ويسقط مبارك!
هذه ليست محاولة ترويج مخدرات، وإن كان نشر الأمل واجب.. ولا هي من باب أولى محاولة تسويق الاكتفاء بانتظار الفرج، بل على العكس: هي محاولة حث على العمل بعد تثبيت الأمل.. وإليك تفصيل ما أريد:
قضت سنة الله في خلقه أن يؤول المُلك إلى واحد فقط، ولذلك عرفت الانقلابات والثورات وسائر أشكال تغيير السلطة استتبابها في نهاية الأمر لشخص واحد، يتخلص من أعوانه في الوصول إليها رغبا أو رهبا، فالمُلك لا يقبل الشِّركة، وقديما قالها عمر رضي الله عنه، وكفى بالشيء إن قاله عمر أن يصدق ويُصَدَّق، وذلك حين قال الحباب بن المنذر في سقيفة بني ساعدة: منا معشر الأنصار أمير ومنكم معشر المهاجرين أمير، فقال عمر: سيفان في غمد؟! لا يجتمعان. هكذا شبه عمر مسألة السلطة على وجه الحقيقة: غمدٌ واحد لسيف واحد.
وقد عرَّف الله نفسه بالوحدانية لخلقه فضرب مثلا بسيطا: أنهم لا يقبلون شركاء لأنفسهم في زوجاتهم وأبنائهم وأموالهم (ضرب لكم مثلا من أنفسكم، هل لكم من ما ملكت أيمانكم شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء، تخافونهم كخيفتكم أنفسكم؟! كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون).
ومنذ اللحظة الأولى في الانقلاب كان كل من لم يتلوث عقله يعرف أن السيسي سيأخذها لنفسه، وأنه سيتخلص من أعوانه وشركائه.. مثلما فعل سائر من انقلبوا قبله، وهو ما قد كان، وليس أمام من حوله إلا أن ينازعوه حتى يغلبونه، أو يسلِّموا له فيقبلون بتبدل العلاقة من الشركاء إلى الأتباع المخلصين.
والمهم الذي نريد أن نخلص إليه أن حالة النزاع على السلطة في مصر لم تهدأ ولم تستقر، شفيق وعنان مثالا، الإقالات الواسعة في صفوف المخابرات ووضع رجله وابنه في قيادة الجهاز مثالا، توتره وغضبه الذي ظهر عليه في اللقاء الأخير دليل أكيد لا يقبل الشك على أنه يتخوف ويعاني ويهدد.. غلقه سائر المنافذ التي يمكن أن تمثل تهديدا محتملا وبعيدا أكبر دليل.
ربما يغلب السيسي ويتمكن وينفرد بالأمر، وساعتها إما أن يختفي صدقي صبحي أو تراه راضيا بموقع العبد الخاضع، ولكن الأمر الذي لا أرى أحدا يريد التفكير فيه هو: ماذا لو غُلِب السيسي؟! ومن كان في مثل السيسي فليست له سوى وسيلة وحيدة لأن يُغلب: عبَّر هو عنها بنفسه حين تحدث عن أنه لا طريق إلا بالخلاص منه أولا.
بقدر ما يهلك الطغاة فجأة بلا مؤشرات، بقدر ما كان الرجاء في هلاكهم مع وجود المؤشرات أملا أقوى.. ولعل السيسي بانفعاله الأخير أعطى الناسَ أقوى أمل في أنه يعاني ويصارع وأنه لم يتمكن بعد!
السؤال المهم هنا: ماذا يمكن أن يفعل المنتسبون إلى معسكر الثورة لحظة سقوط السيسي؟!
بقدر ما يبدو السؤال مهما بقدر ما يبدو مُغَيَّبًا، كأنما لا أحد يريد التفكير فيه.. وبقدر ما سيتجنب الجميع هذا السؤال بقدر ما ستكون لحظة سقوطه هي نفسها لحظة سقوط أخرى لخصومه، ذلك أن رد الفعل العشوائي المرتبك أمام المفاجأة سيعيد ويكرر من جديد مشهد الفرص الضائعة، وإفلات اللحظة الفارقة.
حينما طرحت السؤال على صفحتي فوجئت بأن أغلب الإجابات اتجهت إلى تحرير المعتقلين، بالذات تحرير الشيخ حازم أبو إسماعيل ليقود المرحلة أو ليوجه ويشير.. ترى لو جاءت تلك اللحظة فهل من المستطاع حقا تحرير المعتقلين؟! هل هناك من يفكر في هذا ويدبر له ويستعد؟ هل ثمة من فكر في أبرز الشخصيات التي يجب أن تتحرر لتغير الموقف السياسي، على رأسهم الرئيس مرسي والشيخ حازم وقيادات الصف الأول من الحركيين والشباب الثائر الذين يستطيعون التأثير في الواقع؟!
هل ثمة من فكر في الخطاب الإعلامي المناسب الذي ينبغي أن تسمعه الجماهير في اللحظة الأولى لتغير الموقف، فالجماهير بطبيعتها تستجيب لأول توجيه، ولو أن التوجيهات الأولى حفلت بالارتباك والتناقض والمفاجأة لكانت لحظة فشل جديدة (لعل الناس لم تنس أن الجماهير يوم فض رابعة كانت بانتظار توجيه واحد بعدما ارتبكت سائر الأمور يومها، لكن غياب هذا التوجيه أعاد الناس إلى البيوت، وثبَّت السيسي –الذي اهتز هو ومن معه- في مواقعهم).
ترى ما الذي ينبغي أن يقوله العلماء والدعاة للجماهير في لحظة فوضى بخلاف دعوتهم للسكون والتهدئة والبقاء في البيوت.. وهي الدعوة السهلة التي تجعلهم يرجعون صفر اليدين بلا مكاسب لتعود السلطة فيما بعد أكثر توحشا!.. هل ثمة ما ينبغي على العلماء والدعاة قوله لتكون حركة الجماهير واعية وناضجة ومفيدة لا ليكون خطابهم في صالح السلطة؟!
تلك الاتصالات التي ستنهمر على قيادات تحالف دعم الشرعية والمجلس الثوري من أطراف عديدة داخلية وخارجية، من بعد ما كانت هواتفهم تشكو الصمت والإهمال، هل ثمة من فكر في إجابات متسقة –إن لم نقل موحدة- تجعلهم يستثمرون اللحظة لمصلحتهم لا لمصلحة المتصل الذي سيسعى إلى تهدئتهم ريثما تنتهي الأمور لمصلحته؟!
ماذا ينبغي على الشباب أن يفعل؟ في المهجر وفي الداخل؟ في السجون وخارجها؟.. من يفكر في هذا كله، ومن يوصل إليهم توجها موحدا يجعل حركتهم في لحظة المفاجأة والارتباك حركة ناضجة صحيحة.
أرى قائلا يقول: قد أسرفتَ في الوهم وغرقت في الحلم وتصورت أمورا لن تكون.. فكل شيء تحت السيطرة والسيسي متمكن، وحتى لو حصل له شيء فالعسكر من خلفه على قلب رجل واحد سيقاتلون على الحكم ولو خربوا البلد وهدموها حجرا حجرا، فإن لم يستطيعوا فسينزل الأمريكان بأنفسهم –ولهم في بلادنا قواعد عسكرية وفرق عسكرية أيضا- ليعيدوا السيطرة على البلد قبل أن تنفلت.
وأقول: دعني أصدق كل ما قلت وأمضي معك فيه.. أليس هذا نفسه يحتاج إلى تفكير وتدبير في التصرف الأمثل تجاهه، فإن بديل ذلك أن نكون حجرا أو دجاجا أو خرافا.. يأتي عليها الظالمون تباعا ويرحلون، كلهم يصفع ويركل ويذبح وينهب نصيبه ثم يُسَلِمنا لمن خلفه ليأخذ دوره فينا وقسمته من لحومنا ودمائنا!
يوما ما قال الأفغاني للهنود يحثهم على حرب الإنجليز: "يا أهل الهند وعزة الحق وسر العدل لو كنتم -وأنتم تعدون بمئات الملايين- ذباباً مع حاميتكم البريطانيين، ومن استخدمتهم من أبنائكم فحملتهم سلاحها لقتل استقلالكم واستنفاد ثروتكم وهم بمجموعهم لا يتجاوزن عشرات الألوف، لو كنتم أنتم مئات الملايين كما قلت ذباباً! لكان طنينكم يصم آذان بيرطانيا العظمى، ويجعل في آذان كبيرهم غلادستون وقرا. لو كنتم أنتم مئات الملايين من الهنود وقد مسخكم الله فجعل كل منكم سلحفاة، وخضتم البحر، وأحطتم جزيرة بيرطانيا العظمى لجررتموها إلي القعر وعدتم إلي هنكم أحراراً".
فأين كانت المشكلة؟!
كانت في عدم وجود قرار بأن نكون ذبابا مزعجا أو سلاحف تقاوم، لهذا ظل السيسي يحكمنا ويتحكم فينا. ولو لم يوجد هذا القرار وهلك السيسي، فسيأتي بعده غيره ليكون كما كان، ونكون معه كما كنا.
نشر في مدونات الجزيرة
Published on February 07, 2018 00:49
February 4, 2018
القرآن المحفوظ دليل المقاومة!
لو لم يكن نص القرآن محفوظا من عند الله لكان الذين حرفوه وبدلوه هم المسلمون أنفسهم لا أعداؤهم!
ربما تكون هذه مفاجئة للأكثرين، لكن الواقع أن هذا هو ما كان سيكون، فكذلك فعلت الأمم السابقة بكتبها، هم من بدلوه وغيروه وليس أعداؤهم!
ولو لم يحدث هذا لشهوة حاكم أو لانحراف عالِم لحدث للأمة في وقت استضعافها، ففي ذلك الوقت يُنتج المهزومون نفسيا نسخة من الإسلام توافق وتتماهي مع الثقافة الغالبة، يحاولون بها التوفيق بين أصولهم وجذورهم الإسلامية وبين إكراهات وضغوط الواقع الذي يمتحن دينهم ويضعهم في قفص الاتهام!
ها نحن في زمن استضعاف، وكثير من الناس، بمن فيهم محسوبون على المشيخة والعلماء يعملون بكل جد واجتهاد في إنتاج نسخة من الإسلام توافق الثقافة الغربية الحديثة ذات السطوة والهيمنة، ويمكنك ببساطة أن تعرف هؤلاء من طريقتهم في التعامل مع النصوص.. فإذا كثر في كلامه رد النص أو تأويله أو تمييعه أو صرفه عن وجهه إلى معانٍ أخرى فأغلب الظن أن هذا من هؤلاء الذين نتحدث عنهم.
لنضرب مثليْن:
1. حين سادت الثقافة الشيوعية الاشتراكية في بلادنا، اضطر جمهرة من المشايخ والعلماء إلى بيان ما في الإسلام من عدالة اجتماعية وتكافل ومحاربة للغنى الفاحش وفرض للزكاة على الأغنياء باعتبارها حقا للفقراء، وافتخروا بأن أبا بكر حارب مانعي الزكاة لأنها حق الله الذي قرره للفقير.
إلى هذا الحد والأمر مفهوم وطبيعي وهو استجابة للتحدي الشيوعي.. لكن المؤسف أن بعضهم زاد في الانحراف فزعم مثلا أن رأي أبا ذر (وقد كان يرى ألا يحتفظ المرء إلا بقوت يومه، وما زاد على هذا فهو اكتناز) هو منهج الإسلام مع أن أبا ذر هو المخالف في هذه المسألة لبقية الصحابة، فعمدوا إلى رفع قول أبي ذر وتعظيمه، فصار مخالفوه هم المخطئون، وصار هو وحده المصيب. وهي نتيجة عظيمة ترمي جمهرة الصحابة والتابعين بحب الدنيا والانحراف عن الإسلام. ثم منهم من زاد في الانحراف مزيدا فجعل تمردا دمويا قبيحا شنيعا انتهك الأعراض وأسرف في الدماء كثورة الزنج ثورة مشروعة، وصار زعيمها ثوريا مطالبا بحق الفقراء في وجه السلطة المترفة!!
2. فأما حين انتصرت الرأسمالية الليبرالية ورفعت شعارات حقوق الإنسان فقد تغير التحدي، وصارت الثقافة الغالبة تنحو منحى آخر، فهنا كان طبيعيا أن ينتج العلماء خطابا يظهر أثر الإسلام في تحرر البشر وفي كفالته للحرية والخصوصية والحق في التعبير والاعتراض في وجه الحكام ورفعه لشأن المرأة وما وفره لها من حقوق وما قيَّد فيه السلطة لئلا تستبد.. إلخ!
أيضا إلى هنا والأمر مفهوم، وهو الواجب الطبيعي في ظل التحدي.. لكن المؤسف أن بعضهم زاد في الانحراف ليجعل من ضمن الحريات الشخصية التي يكفلها الإسلام حق الردة فاجتهد في نفي حد الردة وتأويل ما جاء فيه، وفي نفي الرجم للزاني المحصن.. بل زاد آخرون فجعلوا من حقوق المرء حقه في اللواط فقالوا بأنه لا ينبغي للدولة أن تعاقب على مثل هذا لأنه من الحرية، وكذلك ترك الصلاة والمجاهرة بالفطر في نهار رمضان وحق المرأة في أن ترتدي الحجاب أو تخلعه أو تسافر بمحرم أو بغير محرم... وهكذا!
ولدى هؤلاء صارت مسائل كجهاد الطلب أو كحرب أبي بكر للمرتدين ومانعي الزكاة أو لضرب عمر لبعض الناس بالدرة أو غير ذلك من المسائل التي ترفضها "الثقافة الغالبة" من الأمور الحرجة التي يعانون في ردها وصرفها وتأويلها على غير وجهها وإنتاج فتاوى تجعلها من خصوصيات الزمان والمكان السابقين.
لا شك أن هناك من انحرف أكثر من هذا وأكثر فجعل كل السنة نصا تاريخيا، بمعنى أنه إنتاج بشري من الرسول متعلق بآثار الزمان والمكان والبيئة والطبيعة الشخصية، فليست له قداسة الوحي.. وهناك من انحرف فجعل القرآن نفسه نصا تاريخيا ناتجا عن البيئة ولا يمكن أن يكون ملبيا لحاجات الناس بعد نزوله بألف وخمسمائة سنة وفي بيئة تغيرت تماما عن بيئة العرب!
وهكذا نشأت غابة ضخمة من آثار الثقافة الغالبة، الثقافة ذات السطوة والحضور والسلاح والإعلام، فمنهم من كان صريحا ومباشرا في تطويع الإسلام لها ودعوته لهذا كالعلمانيين، ومنهم من تلبس ببعض هذا حتى وصل به الحال أن يلبس العلمانية ثوبا إسلاميا، يتوسل إلى هذا بعناوين عريضة منها: المقاصد الشرعية ودلالة اللغة وحجية السنة وتقسيمها إلى تشريعية وغير تشريعية وحجية تصرفات النبي في السياسة والتجديد في الأصول والتجديد في الفقه... إلى آخر هذه العناوين التي بعضها حق لا شك وقد وضعها العلماء أصلا لضبط الدين وفهم أحكامه ورسم بنيانه وإرشاد المفتي والقاضي إلى سواء السبيل، فجاء هؤلاء فأخرجوها عن المقصد من وضعها لتكون وسيلة لتمييع الدين وتفكيكه وإذابته وإخضاعه للثقافة الغالبة المعاصرة.
كيف نعرف هؤلاء؟!
نعرفهم في لحن القول.. ذلك أن الذي يتعامل مع نص القرآن أو السنة باعتباره هاديا يخالف الذي يتعامل معه باعتباره أزمة، أولئك الذين نتحدث عنهم يظهر في كلامهم بوضوح التعامل مع النص وكأنه أزمة، فيجتهد في التخلص منه وإهداره:
- فإن كان النص قول عالم أو فقيه مهما بلغ مقامه من الإمامة تحول إلى ناقد متشدد وقال: ليس هو بالمعصوم، واجتهد في البحث عما يعارضه.. لا للوصول إلى ترجيح في المسألة بل لضرب الأقول المتعارضة بعضها ببعض ليسهل عليه إخراج قول لم يقل به أحد من أهل العلم!- فإن كان النص قول صحابي تحول إلى ظاهري متشدد وقال: ليس لأحد حجة دون رسول الله. فإن كان الرأي في المسألة إجماعا من الصحابة لا قول واحد منهم تحول إلى منطقي متشدد في ثوب أصولي متشدد يتحدث عن حجية الإجماع وإمكانية وقوعه، أو صار حنبليا متشددا يرفع قول أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب (وهي قولة لا يفقه معناها كما أراده أحمد نفسه).- فإن كان النص في السنة تحول إلى محدث متشدد لا يقبل ما يتطرق إليه أقل الضعف، فإن كان النص صحيحا اجتهد في تأويله وصرف معناه إلى معنى آخر، ودخل في سبيل الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد لا لكي يضبط المسألة وينزل النص عليها بل ليجعل النص بلا حجة ولا إلزام.- فإن كان النص في القرآن فربما تحول إلى لغوي متشدد يقيس ألفاظ القرآن (حتى ما صار منها مصطلحا له دلالة شرعية) على معجم لغة العرب، ونعى على المفسرين مناهجهم في التفسير ووجود الضعيف في تفاسيرهم، وتوسع في دلالة اللفظ على المعنى.. لا للوصول إلى المعنى المطلوب بل لرفع دلالة الآية.
هذا بخلاف ما يقع كثيرا من إيراد نصوص مع السكوت على الرد على ما يخالفها (كما هو منهج الفقهاء الذي يتوصلون به لضبط المسائل وإنزال النصوص في مواضعها)، أو إيراد بعض النصوص مع تغييب النصوص المخالفة لرأيه، أو البحث عن مخالفات وشذوذات العلماء والفرق ليتكون منها فقه جديد لا يعرف من قبل، أو رفع شعار المصلحة (التي لم تعد المصلحة الشرعية التي أرادها علماء الأصول) ليكون الهوى هو المصلحة، أو رفع شعار المقاصد لإهدار النصوص باعتبار المقاصد كلية والنصوص جزئية (بينما العلماء استخرجوا المقاصد نفسها من النصوص)... وهكذا!
لهذا نقول بأن هؤلاء لو استطاعوا أن يحرفوا القرآن لحرفوه، وربما ظنوا أنهم يؤدون بهذا خدمة للإسلام بتجنبيه العداء مثلا أو حمايته في لحظة الضعف مثلا أو غير ذلك مما يسوله المرء لنفسه.. ولهذا كان حفظ القرآن هو نعمة الله العظمى على الأمة! وكان حفظه –تبارك وتعالى- لسنة نبيه بعمل الجهابذة المحدثين الذين بذلوا مجهودا خرافيا لم تبذله أمة قط في تاريخها هو نعمة عظمى على الأمة أيضا.. نعمة حفظت الدين وصانته عن أيدي العابثين مهما كانوا مهزومين.
وهنا يأتي السؤال الذي أحسب أنه طاف برأس قارئ هذه المجلة التي ليست مجلة علم ولا فقه ولا دخل لها بهذا الاشتباك.. وهو: ما مناسبة كل هذا الكلام في مجلة كمجلة "كلمة حق"؟
والجواب ببساطة ووضوح شديد: أننا إذا كنا نتحدث في سياق ثورة أمة ومواجهة طغيان ومقاومة استبداد وتحدي الثقافة الغالبة بسلاحها وأفكارها، فأول خطوات هذا كله أن نقرأ ديننا قراءة من يريد فهم الدين كما هو لا من يريد أن يتصالح به مع الواقع.
إن أول الواجب لأهل الثورة والمقاومة: مطالعة فقه النبي في البحث عن دولة، وتأسيسها، ومقاومة خصومه داخلها وخارجها، ثم جهاده لتثبيتها وترسيخها، ثم معاهداته ثم دعوته العالمية ثم جهاده خارجها. وإن مطالعة هذا كله بروح وغرض من يريد الفهم والاقتداء سيثمر ثمرة لا علاقة لها أبدا بمن سيطالع هذا كله بروح وغرض من يريد إقناع خصومه أن الإسلام دين جميل ورحيم وإنساني... إلخ! نعم! الإسلام دين عظيم وجميل ورحيم وإنساني لكن بغير المعاني التي يفهمها الغربيون من كل هذا. فمحاولة حشر الإسلام في القالب الذي يفهمه الغربي ليست فقط محاولة تزوير بل هي ضربة في صميم فكرة الدعوة نفسها.. فلماذا ندعو الغربي إلى شيء هو يظن أن حضارته تنتجه مع إلحادها؟!
ثم مطالعة سير الراشدين: حرب أبي بكر للمرتدين ومانعي الزكاة، وهي كنز دروس ساطعة جامعة في تأسيس الدولة وسط أمواج المتربصين بها، وفيها من المواقف ما لا يفهمه إلا السياسي المجرب الخبير بينما الداعية اللطيف المتأنسن المتفلسف لا يستطيع ابتلاعها.. وكذا سيرة عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعا!
وبعد هذا تأتي سيرة مؤسسي الدول، وأولى السير التي ينبغي أن نقتدي بها سير أجدادنا الذين أسسوا الدول العظمى: معاوية وعبد الملك بن مروان وأبو العباس وأبو جعفر وهارون الرشيد والمعتضد وعثمان بن أرطغرل، فضلا عن مؤسسي الدول الأصغر كعبد الرحمن الداخل وإبراهيم الأغلبي وابن طولون ونور الدين زنكي وصلاح الدين وقطز وبيبرس.. وكل هؤلاء مع ما فيهم من أخطاء أعلى شرفا وأحسن أخلاقا وأقوم طريقة من كل مؤسسي الدول الأخرى الذين يقدمون كقدوات ومُثُل! بل إن أخطائهم لم تصر أصلا أخطاء إلا لأننا نحاكمهم إلى الإسلام وإلى سيرة الراشدين، ولو أنهم كانوا في سياق حضارة أخرى وتاريخ آخر لكانت قُوِّمت على أنها ضرورات وخسائر لا بد منها في الطريق إلى بناء المجد!
الواجب الأول ألا نستحيي من ديننا وألا نحاكمه إلى ثقافة غالبة مهيمنة تأثرنا بها.. بل لا بد من فهم الدين كما أراده الله ورسوله، ساعتها سنستطيع أن نبدأ مقاومة راشدة حقيقية!
نشر في مجلة كلمة حق - العدد السابع
ربما تكون هذه مفاجئة للأكثرين، لكن الواقع أن هذا هو ما كان سيكون، فكذلك فعلت الأمم السابقة بكتبها، هم من بدلوه وغيروه وليس أعداؤهم!
ولو لم يحدث هذا لشهوة حاكم أو لانحراف عالِم لحدث للأمة في وقت استضعافها، ففي ذلك الوقت يُنتج المهزومون نفسيا نسخة من الإسلام توافق وتتماهي مع الثقافة الغالبة، يحاولون بها التوفيق بين أصولهم وجذورهم الإسلامية وبين إكراهات وضغوط الواقع الذي يمتحن دينهم ويضعهم في قفص الاتهام!
ها نحن في زمن استضعاف، وكثير من الناس، بمن فيهم محسوبون على المشيخة والعلماء يعملون بكل جد واجتهاد في إنتاج نسخة من الإسلام توافق الثقافة الغربية الحديثة ذات السطوة والهيمنة، ويمكنك ببساطة أن تعرف هؤلاء من طريقتهم في التعامل مع النصوص.. فإذا كثر في كلامه رد النص أو تأويله أو تمييعه أو صرفه عن وجهه إلى معانٍ أخرى فأغلب الظن أن هذا من هؤلاء الذين نتحدث عنهم.
لنضرب مثليْن:
1. حين سادت الثقافة الشيوعية الاشتراكية في بلادنا، اضطر جمهرة من المشايخ والعلماء إلى بيان ما في الإسلام من عدالة اجتماعية وتكافل ومحاربة للغنى الفاحش وفرض للزكاة على الأغنياء باعتبارها حقا للفقراء، وافتخروا بأن أبا بكر حارب مانعي الزكاة لأنها حق الله الذي قرره للفقير.
إلى هذا الحد والأمر مفهوم وطبيعي وهو استجابة للتحدي الشيوعي.. لكن المؤسف أن بعضهم زاد في الانحراف فزعم مثلا أن رأي أبا ذر (وقد كان يرى ألا يحتفظ المرء إلا بقوت يومه، وما زاد على هذا فهو اكتناز) هو منهج الإسلام مع أن أبا ذر هو المخالف في هذه المسألة لبقية الصحابة، فعمدوا إلى رفع قول أبي ذر وتعظيمه، فصار مخالفوه هم المخطئون، وصار هو وحده المصيب. وهي نتيجة عظيمة ترمي جمهرة الصحابة والتابعين بحب الدنيا والانحراف عن الإسلام. ثم منهم من زاد في الانحراف مزيدا فجعل تمردا دمويا قبيحا شنيعا انتهك الأعراض وأسرف في الدماء كثورة الزنج ثورة مشروعة، وصار زعيمها ثوريا مطالبا بحق الفقراء في وجه السلطة المترفة!!
2. فأما حين انتصرت الرأسمالية الليبرالية ورفعت شعارات حقوق الإنسان فقد تغير التحدي، وصارت الثقافة الغالبة تنحو منحى آخر، فهنا كان طبيعيا أن ينتج العلماء خطابا يظهر أثر الإسلام في تحرر البشر وفي كفالته للحرية والخصوصية والحق في التعبير والاعتراض في وجه الحكام ورفعه لشأن المرأة وما وفره لها من حقوق وما قيَّد فيه السلطة لئلا تستبد.. إلخ!
أيضا إلى هنا والأمر مفهوم، وهو الواجب الطبيعي في ظل التحدي.. لكن المؤسف أن بعضهم زاد في الانحراف ليجعل من ضمن الحريات الشخصية التي يكفلها الإسلام حق الردة فاجتهد في نفي حد الردة وتأويل ما جاء فيه، وفي نفي الرجم للزاني المحصن.. بل زاد آخرون فجعلوا من حقوق المرء حقه في اللواط فقالوا بأنه لا ينبغي للدولة أن تعاقب على مثل هذا لأنه من الحرية، وكذلك ترك الصلاة والمجاهرة بالفطر في نهار رمضان وحق المرأة في أن ترتدي الحجاب أو تخلعه أو تسافر بمحرم أو بغير محرم... وهكذا!
ولدى هؤلاء صارت مسائل كجهاد الطلب أو كحرب أبي بكر للمرتدين ومانعي الزكاة أو لضرب عمر لبعض الناس بالدرة أو غير ذلك من المسائل التي ترفضها "الثقافة الغالبة" من الأمور الحرجة التي يعانون في ردها وصرفها وتأويلها على غير وجهها وإنتاج فتاوى تجعلها من خصوصيات الزمان والمكان السابقين.
لا شك أن هناك من انحرف أكثر من هذا وأكثر فجعل كل السنة نصا تاريخيا، بمعنى أنه إنتاج بشري من الرسول متعلق بآثار الزمان والمكان والبيئة والطبيعة الشخصية، فليست له قداسة الوحي.. وهناك من انحرف فجعل القرآن نفسه نصا تاريخيا ناتجا عن البيئة ولا يمكن أن يكون ملبيا لحاجات الناس بعد نزوله بألف وخمسمائة سنة وفي بيئة تغيرت تماما عن بيئة العرب!
وهكذا نشأت غابة ضخمة من آثار الثقافة الغالبة، الثقافة ذات السطوة والحضور والسلاح والإعلام، فمنهم من كان صريحا ومباشرا في تطويع الإسلام لها ودعوته لهذا كالعلمانيين، ومنهم من تلبس ببعض هذا حتى وصل به الحال أن يلبس العلمانية ثوبا إسلاميا، يتوسل إلى هذا بعناوين عريضة منها: المقاصد الشرعية ودلالة اللغة وحجية السنة وتقسيمها إلى تشريعية وغير تشريعية وحجية تصرفات النبي في السياسة والتجديد في الأصول والتجديد في الفقه... إلى آخر هذه العناوين التي بعضها حق لا شك وقد وضعها العلماء أصلا لضبط الدين وفهم أحكامه ورسم بنيانه وإرشاد المفتي والقاضي إلى سواء السبيل، فجاء هؤلاء فأخرجوها عن المقصد من وضعها لتكون وسيلة لتمييع الدين وتفكيكه وإذابته وإخضاعه للثقافة الغالبة المعاصرة.
كيف نعرف هؤلاء؟!
نعرفهم في لحن القول.. ذلك أن الذي يتعامل مع نص القرآن أو السنة باعتباره هاديا يخالف الذي يتعامل معه باعتباره أزمة، أولئك الذين نتحدث عنهم يظهر في كلامهم بوضوح التعامل مع النص وكأنه أزمة، فيجتهد في التخلص منه وإهداره:
- فإن كان النص قول عالم أو فقيه مهما بلغ مقامه من الإمامة تحول إلى ناقد متشدد وقال: ليس هو بالمعصوم، واجتهد في البحث عما يعارضه.. لا للوصول إلى ترجيح في المسألة بل لضرب الأقول المتعارضة بعضها ببعض ليسهل عليه إخراج قول لم يقل به أحد من أهل العلم!- فإن كان النص قول صحابي تحول إلى ظاهري متشدد وقال: ليس لأحد حجة دون رسول الله. فإن كان الرأي في المسألة إجماعا من الصحابة لا قول واحد منهم تحول إلى منطقي متشدد في ثوب أصولي متشدد يتحدث عن حجية الإجماع وإمكانية وقوعه، أو صار حنبليا متشددا يرفع قول أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب (وهي قولة لا يفقه معناها كما أراده أحمد نفسه).- فإن كان النص في السنة تحول إلى محدث متشدد لا يقبل ما يتطرق إليه أقل الضعف، فإن كان النص صحيحا اجتهد في تأويله وصرف معناه إلى معنى آخر، ودخل في سبيل الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد لا لكي يضبط المسألة وينزل النص عليها بل ليجعل النص بلا حجة ولا إلزام.- فإن كان النص في القرآن فربما تحول إلى لغوي متشدد يقيس ألفاظ القرآن (حتى ما صار منها مصطلحا له دلالة شرعية) على معجم لغة العرب، ونعى على المفسرين مناهجهم في التفسير ووجود الضعيف في تفاسيرهم، وتوسع في دلالة اللفظ على المعنى.. لا للوصول إلى المعنى المطلوب بل لرفع دلالة الآية.
هذا بخلاف ما يقع كثيرا من إيراد نصوص مع السكوت على الرد على ما يخالفها (كما هو منهج الفقهاء الذي يتوصلون به لضبط المسائل وإنزال النصوص في مواضعها)، أو إيراد بعض النصوص مع تغييب النصوص المخالفة لرأيه، أو البحث عن مخالفات وشذوذات العلماء والفرق ليتكون منها فقه جديد لا يعرف من قبل، أو رفع شعار المصلحة (التي لم تعد المصلحة الشرعية التي أرادها علماء الأصول) ليكون الهوى هو المصلحة، أو رفع شعار المقاصد لإهدار النصوص باعتبار المقاصد كلية والنصوص جزئية (بينما العلماء استخرجوا المقاصد نفسها من النصوص)... وهكذا!
لهذا نقول بأن هؤلاء لو استطاعوا أن يحرفوا القرآن لحرفوه، وربما ظنوا أنهم يؤدون بهذا خدمة للإسلام بتجنبيه العداء مثلا أو حمايته في لحظة الضعف مثلا أو غير ذلك مما يسوله المرء لنفسه.. ولهذا كان حفظ القرآن هو نعمة الله العظمى على الأمة! وكان حفظه –تبارك وتعالى- لسنة نبيه بعمل الجهابذة المحدثين الذين بذلوا مجهودا خرافيا لم تبذله أمة قط في تاريخها هو نعمة عظمى على الأمة أيضا.. نعمة حفظت الدين وصانته عن أيدي العابثين مهما كانوا مهزومين.
وهنا يأتي السؤال الذي أحسب أنه طاف برأس قارئ هذه المجلة التي ليست مجلة علم ولا فقه ولا دخل لها بهذا الاشتباك.. وهو: ما مناسبة كل هذا الكلام في مجلة كمجلة "كلمة حق"؟
والجواب ببساطة ووضوح شديد: أننا إذا كنا نتحدث في سياق ثورة أمة ومواجهة طغيان ومقاومة استبداد وتحدي الثقافة الغالبة بسلاحها وأفكارها، فأول خطوات هذا كله أن نقرأ ديننا قراءة من يريد فهم الدين كما هو لا من يريد أن يتصالح به مع الواقع.
إن أول الواجب لأهل الثورة والمقاومة: مطالعة فقه النبي في البحث عن دولة، وتأسيسها، ومقاومة خصومه داخلها وخارجها، ثم جهاده لتثبيتها وترسيخها، ثم معاهداته ثم دعوته العالمية ثم جهاده خارجها. وإن مطالعة هذا كله بروح وغرض من يريد الفهم والاقتداء سيثمر ثمرة لا علاقة لها أبدا بمن سيطالع هذا كله بروح وغرض من يريد إقناع خصومه أن الإسلام دين جميل ورحيم وإنساني... إلخ! نعم! الإسلام دين عظيم وجميل ورحيم وإنساني لكن بغير المعاني التي يفهمها الغربيون من كل هذا. فمحاولة حشر الإسلام في القالب الذي يفهمه الغربي ليست فقط محاولة تزوير بل هي ضربة في صميم فكرة الدعوة نفسها.. فلماذا ندعو الغربي إلى شيء هو يظن أن حضارته تنتجه مع إلحادها؟!
ثم مطالعة سير الراشدين: حرب أبي بكر للمرتدين ومانعي الزكاة، وهي كنز دروس ساطعة جامعة في تأسيس الدولة وسط أمواج المتربصين بها، وفيها من المواقف ما لا يفهمه إلا السياسي المجرب الخبير بينما الداعية اللطيف المتأنسن المتفلسف لا يستطيع ابتلاعها.. وكذا سيرة عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعا!
وبعد هذا تأتي سيرة مؤسسي الدول، وأولى السير التي ينبغي أن نقتدي بها سير أجدادنا الذين أسسوا الدول العظمى: معاوية وعبد الملك بن مروان وأبو العباس وأبو جعفر وهارون الرشيد والمعتضد وعثمان بن أرطغرل، فضلا عن مؤسسي الدول الأصغر كعبد الرحمن الداخل وإبراهيم الأغلبي وابن طولون ونور الدين زنكي وصلاح الدين وقطز وبيبرس.. وكل هؤلاء مع ما فيهم من أخطاء أعلى شرفا وأحسن أخلاقا وأقوم طريقة من كل مؤسسي الدول الأخرى الذين يقدمون كقدوات ومُثُل! بل إن أخطائهم لم تصر أصلا أخطاء إلا لأننا نحاكمهم إلى الإسلام وإلى سيرة الراشدين، ولو أنهم كانوا في سياق حضارة أخرى وتاريخ آخر لكانت قُوِّمت على أنها ضرورات وخسائر لا بد منها في الطريق إلى بناء المجد!
الواجب الأول ألا نستحيي من ديننا وألا نحاكمه إلى ثقافة غالبة مهيمنة تأثرنا بها.. بل لا بد من فهم الدين كما أراده الله ورسوله، ساعتها سنستطيع أن نبدأ مقاومة راشدة حقيقية!
نشر في مجلة كلمة حق - العدد السابع
Published on February 04, 2018 07:01
January 31, 2018
متى وُجِد لدينا موسى مصطفى موسى؟
حينما أراد مبارك تمثيل مسرحية الانتخابات في 2005م لم يجد من يفكر في الترشح، كانت المسرحية مفضوحة، فأعلنت أجهزة الدولة أن كل حزب سيتقدم بمرشح سيحصل على 10 ملايين جنيه لمصاريف الدعاية الانتخابية. هنا اكتشف المصريون أن لديهم عشرة أحزاب مرخص لها في مصر، وقد تقدم كل منها بمرشح طمعا في الأموال، وبهم تمت المسرحية.. واكتشفنا ساعتها رجلا لا يزال يرتدي الطربوش واسمه أحمد الصباحي ويقال إنه رئيس لحزب اسمه الأمة، وكان ساعتها أكبر من مبارك نفسه، كان يخطو إلى التسعين من عمره، ويعاني من مشكلات في السمع فضلا عن مشكلات الفهم فضلا عن مشكلات أنه خارج التاريخ. أحمد الصباحي هذا هو أول من قال الإجابة البديعة التي ذهبت مثلا، وذلك أنه سُئل: من ستنتخب؟ فقال: الرئيس مبارك! ولم ير في هذه الإجابة أي تناقض مع المنافسة المفترضة والتي يُفترض أنه يخوضها.
بعد أن اكتمل عدد المرشحين أعلنت أجهزة الدولة أنها ستراقب العشرة ملايين جنيه، جنيها جنيها، لتتأكد من إنفاقها في الشأن الانتخابي فقط.. وهكذا خسر المرشحون الأموال بعدما خسروا سمعتهم وصاروا أضحوكة الإعلام والجمهور.
هل تعلم أحد الدرس؟!
بالطبع لا، فليس يتعلم إلا الحريص على التعلم، أما الذي يؤدي دوره في المسرحية فهو موظف بالأجر.. ولقد احتاج النظام إلى موظف بالأجر في 2014 فوقع الاختيار على حمدين صباحي! دخل صباحي الانتخابات تيسا مستعارا أمام السيسي ليخسر ما بقي له في نفوس المغفلين، ثم أهانه السيسي الإهانة المخزية حين خرجت النتائج فجاء في المركز الثالث بعد الأصوات الباطلة!
بعد بحث وتعثر وجد السيسي تيسا مستعارا ليركبه ويعبر به الانتخابات ثم يركله.. فذلك هو: موسى مصطفى موسى. ولا يُعرف بعد هل قبض ثمن فضيحته، أم ارتكبها إيمانا واحتسابا لوجه السيسي! المهم أنه يحاول الآن تمثيل الدور أمام جمهور يعرف أنه تيس مستعار، وهو يعرف أنهم يعرفون.. ومع هذا فإنه سيقوم بالدور.
متى وُجِد فينا أمثال هؤلاء؟!
أحد الظرفاء قال عنه: موسى مصطفى هذا حصيلة اندماج بين أحمد موسى ومصطفى بكري! وصحيحٌ أنه لم يخل زمن من نفاق ومنافقين، ولكن زماننا هذا شهد في هذا الباب عجائب وغرائب مدهشة.. حتى لقد صار المرء يترحم على زمن إبراهيم نافع! الذي كنا في زمنه نترحم على زمن موسى صبري، وقد كانوا في زمنه يترحمون على هيكل، الذين كان أهل عصره يترحمون على زمن التابعي وداود بركات!
وبمناسبة إبراهيم نافع فقد شاءت صراعات أجنحة السلطة قبل نحو ثلاث عشرة سنة أن تسرب له بعض الفضائح، فعرفنا أن راتبه الشهري بلغ 2 مليون جنيه، وهذا بخلاف أنواع النهب الأخرى التي تجري في الظاهر وفي الباطن عبر الإعلانات وشركات الأحبار والمطابع ونحوها.. فقال أستاذنا –وكنا في مجلس علم- مم تعجبون؟ الرجل يستيقظ فيجد تحت الوسادة يوميا 67 ألف جنيه.. ألا يكفي هذا ليبيع بها شرفه؟!
لقد كانت صفقة رابحة.. بل هي صفقة يتزاحم على بابها آلاف المنافقين، كلهم يعرض شرفه في المزاد! قبل أسابيع مات إبراهيم نافع.. كما مات قبله أنيس منصور وهيكل! وبقيت أموالهم في الدنيا، وبقي لهم الحساب في الآخرة.
بغير أي تبرير لهؤلاء ولا انتقاص من جرائمهم، فإنما هم على الحقيقة نتاج لهذا العصر الذي هيمنت فيه الحضارة الغربية.. الحضارة المادية التي حكَّمَتْ معاييرها ومقاييسها في دنيا الناس، فصار المرء يُقاس في عالمه بما يملكه من مال وما يطاله من نفوذ وما تستطيعه يده من الأذى! الحضارة التي رفضت الاعتراف بإله وعبدت العلم فانهارت الأخلاق والمبادئ والقيم لأنها ليست حقائق علمية بل هي مواقف إنسانية!
طبيعي أن الحضارة التي تحكمها المعايير المادية تقف والأخلاق على طرفي نقيض، فالأخلاق بطبيعتها ضد مكاسب الربح والخسارة، بل هي لا تصير أخلاقا إلا إن سمت وارتفعت عن حسابات المكسب والخسارة. الأخلاق بطبيعتها استجابة ومظهر للروح الإنسانية التي لا تستطيع المقاييس المادية أن تقيسها. نعم ربما يبستم في وجهك البائع لا لأنه يعبر عن بشاشة صادقة ولكن لأنها أداة ترويج السلعة، مثلما يستقبلك عامل الفندق ومضيفة الطائرة ومذيعة النشرة بابتسامة ميتة تتلاشى بعد لحظة. بقدر ما يبدو هذا من حسن الخلق لأول وهلة، بقدر ما يبدو أنه في الحقيقة من سوء الخلق، فكل هذا مصنوع ومتكلف، كله وجه من وجوه الكذب والخداع. ويسقط القناع حين يتعرض هذا كله لاختبار حقيقي تتضرر فيه المصالح!
على ما كان لدى العرب في الجاهلية من خطايا على ما كان فيهم صدق ومكاشفة ووضوح، ولقد تأثر بهم من عايشهم حتى صار مضرب المثل فيهم، فهذا اليهودي السموأل بن عادياء قد ضربت به العرب المثل في الوفاء، وذلك أنه رفض تسليم أمانة امرئ القيس لعدوه الذي طلبها منه، حتى لقد حوصر السموأل في حصنه، ثم ظفر الذي حاصره بابنه وساومه بولده على أمانة امرئ القيس، فرفض، فقُتِل ولده! فخلد بهذا اسمه في عالم الوفاء.. وهو القائل في قصيدته العصماء المشهورة:
تُعَيِّرُنا أنّا قليلٌ عديدنا .. فقلت لها: إن الكرام قليلوما قلَّ من كانت بقاياه مثلنا .. شبابٌ تسامى للعلا وكهولوما ضرنا أنا قليل وجارنا .. عزيزٌ، وجار الأكثرين ذليل
ولسنا نذهب بعيدا، فقد ظلت تلك الأخلاق فينا إلى وقت قريب. وكان بيع المرء لشرفه مقابل المال من عمل الأسافل القلة المنبوذين.. ومما قرأته مؤخرا في هذا ما ذكره الأديب المفكر المبدع وليد سيف في مذكراته أخلاق أهل القرى في فلسطين زمان آبائه، فيقول: "تلك قرية عُرف أهلها بكثرة المنازعات مع الحفاظ على آداب التعامل، فإذا تقاضى شخص مع عمه حول حق متنازَع عليه، وصارا إلى باب المحكمة لم يسع ابن الأخ أن يعبر الباب قبل عمه، فيقدمه تجلة واحتراما، وهو الذي يتهم ذمَّته".
ولقد ذكرني هذا بصديق لي كان يروي ويتعجب من سلوك جديه اللذين أدركهما، فربما أَوْلَم الرجل منهما فيدعو الآخر إلى وليمة الطعام، فيأتي هذا مسرورا ويستقبله هذا مرحبا، ثم يأخذان بأطراف الحديث حتى يقول أحدهما للآخر: تذكر بعد غد موعد الجلسة في قضية الأرض التي بناحية كذا، فيقول الثاني: بل الجلسة التي بعد غد هي قضية الأرض الأخرى. أي أن الرجلين يتحاكمان إلى السلطة في أكثر من نزاع ولا يمنعهما هذا من الوصال والاحترام.
ولقد أدركت بنفسي في قريتنا الصعيدية أخلاقا تقاوم الفناء وتعيش في الرمق الأخير، لقد أدركت زمن هروب الأطفال الصغار من اللعب إن برز شيخ الكُتَّاب أو أستاذ المدرسة في أول الطريق، فمن واجب الحياء ومن احترام الأستاذ الأ يراهم على تلك الحال. ثم أدركت بعدها بقليل في المدينة التلاميذ الذين يضربون أستاذهم ويستهزؤون به! أدركت في القرية كيف يمكن لكل كبير أن يأمر كل صغير، فلا يسع الصغير إلا الاستجابة ولو كان ابن شيخ البلد ولو كان الآمر هو من فقرائها. وأدركت في المدينة ابن ضابط الشرطة يبصق على الصول ولو كان أكبر من عمر أبيه!
قد انهارت أمور كثيرة من الأخلاق القديمة التي كانت تسري في المجتمع، فتكون هي القانون فوق وقبل القانون، وهي الحاكمة قبل وفوق الحاكم.
والمشكلة أن تلك الأمور تُنْسَى مع طول الزمن حتى كأنها لم تكن، بل حتى تكون مستغربة منبوذة لا تكاد تُصَدَّق. وكنت كثيرا في بعض المحاضرات أرى هذا حين يستغرب الناس ما أحكيه من أن الصحابة قد يقع بينهم اقتتال في النهار ثم يجمعهم إمام واحد بصلاة واحدة حين يتوقف القتال أو يجنّ الليل. وما استغرابهم هذا إلا لبعد العهد بتلك الأخلاق، ولا يمكن تفتيت هذا الاستغراب إلا بذكر بعض المواقف من زمن الآباء والأجداد التي تدل على حضور المروءة والاحترام والأدب والكرم في حياة الناس.
تلك البيئة التي طبعتها الحضارة المادية الحديثة بطابعها منزوع الأخلاق هي التي أفرزت أمثال عمرو أديب وإخوته وأبيه وزوجته، أمثال جيل من الصحافيين والإعلاميين والسياسيين والعسكريين والأمنيين ممن يبيعون أنفسهم للشيطان وللعار وللفضيحة طالما ثمة من سيشتري ويدفع الثمن!
ولن يكون مستغربا أن بلادنا يهيمن عليها العدو الأجنبي لأن هؤلاء هم من يحكموننا، وأولئك بعدما باعوا شرفهم هان عليهم بيع كل شيء.. ولو أن حمدين صباحي أو موسى مصطفى مكان السيسي لفعلوا مثلما فعل ويفعل، إلا أن كلا منهم يندب حظه لأن دوره في المسرحية دور صغير ومؤقت، ويودُّ لو كان أكبر وأطول.
والبلاد التي يكثر فيها من لا أخلاق لهم هي البلاد المعرضة للانهيار، فعند أول اختبار حقيقي لن تجد أمام هذه الطبقة الحاكمة إلا خيارا من اثنين: إن نشبت فيها ثورة هدموها على رؤوس أهلها وجاؤوا بالاحتلال الأجنبي ليحفظ لهم عروشهم ولو قتل ملايين الناس. وإن جاء احتلال سلموا لهم البلاد وهربوا.. وتلك سيرة بلادنا المنكوبة منذ حكمها العسكر: فجور وقتل للناس وانسحاب وهروب أمام الاحتلال، فلم يسجل لهم التاريخ نصرا واحدا على عدو أجنبي، مع أنهم أكلوا الأموال وشربوا الدماء بدعوى الحفاظ على البلاد!
وكثير من مفكري الغرب أنفسهم يشعرون بالتهدد من شيوع الانهيار الأخلاقي، ومن أن الحضارة الغربية نفسها مهددة لأنها بطبيعتها تنتج الإنسان المهتم بمصالحة الذاتية ولذته المؤقتة، فهي لا تهتم بالبطولة ولا المثالية ولا النموذج، ويرتقبون لها أن تكرر تجربة جمهورية فايمار التي سقطت أمام البرابرة لسبب بسيط: أنها لم تجد من يدافع عنهاوصدق شوقي: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
نشر في مدونات الجزيرة
انظر مثلا كتاب "الاستغراب: تاريخ النزعة العدائية للغرب" لإيان بوروما وأفيشاي مرجليت، ص65 وما بعدها.
بعد أن اكتمل عدد المرشحين أعلنت أجهزة الدولة أنها ستراقب العشرة ملايين جنيه، جنيها جنيها، لتتأكد من إنفاقها في الشأن الانتخابي فقط.. وهكذا خسر المرشحون الأموال بعدما خسروا سمعتهم وصاروا أضحوكة الإعلام والجمهور.
هل تعلم أحد الدرس؟!
بالطبع لا، فليس يتعلم إلا الحريص على التعلم، أما الذي يؤدي دوره في المسرحية فهو موظف بالأجر.. ولقد احتاج النظام إلى موظف بالأجر في 2014 فوقع الاختيار على حمدين صباحي! دخل صباحي الانتخابات تيسا مستعارا أمام السيسي ليخسر ما بقي له في نفوس المغفلين، ثم أهانه السيسي الإهانة المخزية حين خرجت النتائج فجاء في المركز الثالث بعد الأصوات الباطلة!
بعد بحث وتعثر وجد السيسي تيسا مستعارا ليركبه ويعبر به الانتخابات ثم يركله.. فذلك هو: موسى مصطفى موسى. ولا يُعرف بعد هل قبض ثمن فضيحته، أم ارتكبها إيمانا واحتسابا لوجه السيسي! المهم أنه يحاول الآن تمثيل الدور أمام جمهور يعرف أنه تيس مستعار، وهو يعرف أنهم يعرفون.. ومع هذا فإنه سيقوم بالدور.
متى وُجِد فينا أمثال هؤلاء؟!
أحد الظرفاء قال عنه: موسى مصطفى هذا حصيلة اندماج بين أحمد موسى ومصطفى بكري! وصحيحٌ أنه لم يخل زمن من نفاق ومنافقين، ولكن زماننا هذا شهد في هذا الباب عجائب وغرائب مدهشة.. حتى لقد صار المرء يترحم على زمن إبراهيم نافع! الذي كنا في زمنه نترحم على زمن موسى صبري، وقد كانوا في زمنه يترحمون على هيكل، الذين كان أهل عصره يترحمون على زمن التابعي وداود بركات!
وبمناسبة إبراهيم نافع فقد شاءت صراعات أجنحة السلطة قبل نحو ثلاث عشرة سنة أن تسرب له بعض الفضائح، فعرفنا أن راتبه الشهري بلغ 2 مليون جنيه، وهذا بخلاف أنواع النهب الأخرى التي تجري في الظاهر وفي الباطن عبر الإعلانات وشركات الأحبار والمطابع ونحوها.. فقال أستاذنا –وكنا في مجلس علم- مم تعجبون؟ الرجل يستيقظ فيجد تحت الوسادة يوميا 67 ألف جنيه.. ألا يكفي هذا ليبيع بها شرفه؟!
لقد كانت صفقة رابحة.. بل هي صفقة يتزاحم على بابها آلاف المنافقين، كلهم يعرض شرفه في المزاد! قبل أسابيع مات إبراهيم نافع.. كما مات قبله أنيس منصور وهيكل! وبقيت أموالهم في الدنيا، وبقي لهم الحساب في الآخرة.
بغير أي تبرير لهؤلاء ولا انتقاص من جرائمهم، فإنما هم على الحقيقة نتاج لهذا العصر الذي هيمنت فيه الحضارة الغربية.. الحضارة المادية التي حكَّمَتْ معاييرها ومقاييسها في دنيا الناس، فصار المرء يُقاس في عالمه بما يملكه من مال وما يطاله من نفوذ وما تستطيعه يده من الأذى! الحضارة التي رفضت الاعتراف بإله وعبدت العلم فانهارت الأخلاق والمبادئ والقيم لأنها ليست حقائق علمية بل هي مواقف إنسانية!
طبيعي أن الحضارة التي تحكمها المعايير المادية تقف والأخلاق على طرفي نقيض، فالأخلاق بطبيعتها ضد مكاسب الربح والخسارة، بل هي لا تصير أخلاقا إلا إن سمت وارتفعت عن حسابات المكسب والخسارة. الأخلاق بطبيعتها استجابة ومظهر للروح الإنسانية التي لا تستطيع المقاييس المادية أن تقيسها. نعم ربما يبستم في وجهك البائع لا لأنه يعبر عن بشاشة صادقة ولكن لأنها أداة ترويج السلعة، مثلما يستقبلك عامل الفندق ومضيفة الطائرة ومذيعة النشرة بابتسامة ميتة تتلاشى بعد لحظة. بقدر ما يبدو هذا من حسن الخلق لأول وهلة، بقدر ما يبدو أنه في الحقيقة من سوء الخلق، فكل هذا مصنوع ومتكلف، كله وجه من وجوه الكذب والخداع. ويسقط القناع حين يتعرض هذا كله لاختبار حقيقي تتضرر فيه المصالح!
على ما كان لدى العرب في الجاهلية من خطايا على ما كان فيهم صدق ومكاشفة ووضوح، ولقد تأثر بهم من عايشهم حتى صار مضرب المثل فيهم، فهذا اليهودي السموأل بن عادياء قد ضربت به العرب المثل في الوفاء، وذلك أنه رفض تسليم أمانة امرئ القيس لعدوه الذي طلبها منه، حتى لقد حوصر السموأل في حصنه، ثم ظفر الذي حاصره بابنه وساومه بولده على أمانة امرئ القيس، فرفض، فقُتِل ولده! فخلد بهذا اسمه في عالم الوفاء.. وهو القائل في قصيدته العصماء المشهورة:
تُعَيِّرُنا أنّا قليلٌ عديدنا .. فقلت لها: إن الكرام قليلوما قلَّ من كانت بقاياه مثلنا .. شبابٌ تسامى للعلا وكهولوما ضرنا أنا قليل وجارنا .. عزيزٌ، وجار الأكثرين ذليل
ولسنا نذهب بعيدا، فقد ظلت تلك الأخلاق فينا إلى وقت قريب. وكان بيع المرء لشرفه مقابل المال من عمل الأسافل القلة المنبوذين.. ومما قرأته مؤخرا في هذا ما ذكره الأديب المفكر المبدع وليد سيف في مذكراته أخلاق أهل القرى في فلسطين زمان آبائه، فيقول: "تلك قرية عُرف أهلها بكثرة المنازعات مع الحفاظ على آداب التعامل، فإذا تقاضى شخص مع عمه حول حق متنازَع عليه، وصارا إلى باب المحكمة لم يسع ابن الأخ أن يعبر الباب قبل عمه، فيقدمه تجلة واحتراما، وهو الذي يتهم ذمَّته".
ولقد ذكرني هذا بصديق لي كان يروي ويتعجب من سلوك جديه اللذين أدركهما، فربما أَوْلَم الرجل منهما فيدعو الآخر إلى وليمة الطعام، فيأتي هذا مسرورا ويستقبله هذا مرحبا، ثم يأخذان بأطراف الحديث حتى يقول أحدهما للآخر: تذكر بعد غد موعد الجلسة في قضية الأرض التي بناحية كذا، فيقول الثاني: بل الجلسة التي بعد غد هي قضية الأرض الأخرى. أي أن الرجلين يتحاكمان إلى السلطة في أكثر من نزاع ولا يمنعهما هذا من الوصال والاحترام.
ولقد أدركت بنفسي في قريتنا الصعيدية أخلاقا تقاوم الفناء وتعيش في الرمق الأخير، لقد أدركت زمن هروب الأطفال الصغار من اللعب إن برز شيخ الكُتَّاب أو أستاذ المدرسة في أول الطريق، فمن واجب الحياء ومن احترام الأستاذ الأ يراهم على تلك الحال. ثم أدركت بعدها بقليل في المدينة التلاميذ الذين يضربون أستاذهم ويستهزؤون به! أدركت في القرية كيف يمكن لكل كبير أن يأمر كل صغير، فلا يسع الصغير إلا الاستجابة ولو كان ابن شيخ البلد ولو كان الآمر هو من فقرائها. وأدركت في المدينة ابن ضابط الشرطة يبصق على الصول ولو كان أكبر من عمر أبيه!
قد انهارت أمور كثيرة من الأخلاق القديمة التي كانت تسري في المجتمع، فتكون هي القانون فوق وقبل القانون، وهي الحاكمة قبل وفوق الحاكم.
والمشكلة أن تلك الأمور تُنْسَى مع طول الزمن حتى كأنها لم تكن، بل حتى تكون مستغربة منبوذة لا تكاد تُصَدَّق. وكنت كثيرا في بعض المحاضرات أرى هذا حين يستغرب الناس ما أحكيه من أن الصحابة قد يقع بينهم اقتتال في النهار ثم يجمعهم إمام واحد بصلاة واحدة حين يتوقف القتال أو يجنّ الليل. وما استغرابهم هذا إلا لبعد العهد بتلك الأخلاق، ولا يمكن تفتيت هذا الاستغراب إلا بذكر بعض المواقف من زمن الآباء والأجداد التي تدل على حضور المروءة والاحترام والأدب والكرم في حياة الناس.
تلك البيئة التي طبعتها الحضارة المادية الحديثة بطابعها منزوع الأخلاق هي التي أفرزت أمثال عمرو أديب وإخوته وأبيه وزوجته، أمثال جيل من الصحافيين والإعلاميين والسياسيين والعسكريين والأمنيين ممن يبيعون أنفسهم للشيطان وللعار وللفضيحة طالما ثمة من سيشتري ويدفع الثمن!
ولن يكون مستغربا أن بلادنا يهيمن عليها العدو الأجنبي لأن هؤلاء هم من يحكموننا، وأولئك بعدما باعوا شرفهم هان عليهم بيع كل شيء.. ولو أن حمدين صباحي أو موسى مصطفى مكان السيسي لفعلوا مثلما فعل ويفعل، إلا أن كلا منهم يندب حظه لأن دوره في المسرحية دور صغير ومؤقت، ويودُّ لو كان أكبر وأطول.
والبلاد التي يكثر فيها من لا أخلاق لهم هي البلاد المعرضة للانهيار، فعند أول اختبار حقيقي لن تجد أمام هذه الطبقة الحاكمة إلا خيارا من اثنين: إن نشبت فيها ثورة هدموها على رؤوس أهلها وجاؤوا بالاحتلال الأجنبي ليحفظ لهم عروشهم ولو قتل ملايين الناس. وإن جاء احتلال سلموا لهم البلاد وهربوا.. وتلك سيرة بلادنا المنكوبة منذ حكمها العسكر: فجور وقتل للناس وانسحاب وهروب أمام الاحتلال، فلم يسجل لهم التاريخ نصرا واحدا على عدو أجنبي، مع أنهم أكلوا الأموال وشربوا الدماء بدعوى الحفاظ على البلاد!
وكثير من مفكري الغرب أنفسهم يشعرون بالتهدد من شيوع الانهيار الأخلاقي، ومن أن الحضارة الغربية نفسها مهددة لأنها بطبيعتها تنتج الإنسان المهتم بمصالحة الذاتية ولذته المؤقتة، فهي لا تهتم بالبطولة ولا المثالية ولا النموذج، ويرتقبون لها أن تكرر تجربة جمهورية فايمار التي سقطت أمام البرابرة لسبب بسيط: أنها لم تجد من يدافع عنهاوصدق شوقي: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
نشر في مدونات الجزيرة
انظر مثلا كتاب "الاستغراب: تاريخ النزعة العدائية للغرب" لإيان بوروما وأفيشاي مرجليت، ص65 وما بعدها.
Published on January 31, 2018 01:25
January 24, 2018
كم دبابة لدى سامي عنان؟!
جاء بيان قيادة العسكر المصري ثم اعتقال سامي عنان ليقطع عليَّ كثيرا مما كانت أودُّ قوله، أو يوضحه ويؤكده. وخلاصته ببساطة: أن معركة الحكم في مصر لا تحسم عبر الصناديق، وأن نزول عنان إلى انتخابات الرئاسة يشير بطبيعة الحال لحصوله على بعض الدعم الخارجي واستناده لأجنحة في جهاز الدولة العسكرية والأمنية بالمقام الأول. وأن المعركة الحقيقة ستدور في الأروقة والدهاليز بينما ستكون الانتخابات مجرد غطاء وزخرف لا قيمة له؛ فأصوات الناخبين هي الأقل أهمية من بين كل أوراق القوة في هذه المعركة.
سيكون من السذاجة أن يعتبر عنان أو أي مرشح آخر أن المعركة ضد السيسي هي معركة قانونية انتخابية، لا طبيعة العسكر ولا طبيعة السيسي تسمح بهذا، فالحاكم إما في القصر أو في القبر. ومن يريد خوض معركة حقيقية ضد السيسي فسيعمل على إرساله للقبر باعتبارها الوسيلة الوحيدة الممكنة.
الحمد لله، السيسي نفسه وفَّرَ علينا عناء إثبات هذا الكلام كله، ووضع سامي عنان في السجن.. ترى هل انتهت المعركة أم بدأت؟ لا أحد يدري على وجه الحقيقة.. فالصراع العميق بين أجنحة السلطة في الداخل وحلفاء الرجلين في الخارج لا تظهر لنا سوى آثاره. وهذا مشهد من مشاهد غياب الأمة عن الصراعات التي تحدد مصيرها، وهي المشاهد التي تثبت أن بلادنا تحت الاحتلال الأجنبي حقيقة.
المثير للدهشة والحسرة أننا عند كل مفصل نحتاج لإثبات أشياء هي من البديهيات، وما ذلك إلا لأن الخطاب السائد الذي هو نتيجة لعلاقات القوة يُصِرُّ على تمثيل مسرحية أن بلادنا بلاد مستقلة وليست محتلة وأن حكامها وطنيون وليسوا عملاء، وهو الخطاب الذي تردده وسائل إعلام تستقدم من يفترض أنهم محللون سياسيون وصحافيون وخبراء ليؤدي كل منهم دوره في المسرحية، بعضهم يعلم أنه يمثل ويقبض أجره وبعضهم اندمج في الدور حتى أنه يقبض أجره وهو يظن أنه يؤدي رسالة!
وطالما استمرت المسرحية واستمر الخطاب المضلل باستمرار القوى المهيمنة التي تنتجه، استمرت محاولاتنا للتصحيح والمقاومة. تلك هي وسيلة الدفاع عن الناس قبل أن يتشربوا الخرافات ويصيروا عبيدا مخلصين لموقعهم من العبودية. إن الطغيان يستطيع السيطرة على البشر بخطاب الخرافات والأوهام، ولقد عبد الناس الأصنام وظنوا أنها تنفع وتضر حتى كانت معركة الأنبياء عسيرة وهم يحاولون انتزاع هذه الخرافات من عقول الناس، وبقدر ما كانت معركتهم مع الملأ (الحكام) الذين صنعوا الخرافات لتحمي مصالحهم ومكاسبهم وتُمَكِّنهم من استعباد الناس، بقدر ما كانت معركتهم أيضا مع أولئك العبيد الذين شربوا الخرافات واستعذبوها وتشبعوا بها حتى صاروا يحسبون الخروج من العبودية تهديدا عظيما كأنه هدم لقوانين الكون وسنة الحياة!! (راجع: زمن الجاهلية الجميل)
1. هل يملك الضعيف قراره؟
سؤال بديهي وإجابته بديهية، الضعيف مفعول به لا يملك لنفسه إلا ما يسمح له به الأقوياء من حوله، إن شاءوا سحقوه وإن شاءوا استبقوه. فإذا اتفقنا على أن مصر في وضعها الحالي دولة ضعيفة اتفقنا في اللحظة نفسها على أنها في خانة المفعول به وفي خانة التابع، وأنها لا تملك قرارها، بل قرارها مرهون بمن تتبعه.
عند هذه النقطة تنحل نصف المشكلات، ومنها مشكلتنا التي نتناولها في هذا المقال: من شاء أن يحكم في مصر فلا بد له من الحصول على الرضا الأمريكي والموافقة الإسرائيلية (هكذا قال مصطفى الفقي بنفسه في أواخر عصر مبارك، قالها ببساطة وبدهية ووضوح، تبدو كجملة خارج نص المسرحية الكبرى لكنها لا تجاوز الحقيقة للحظة عند سائر المتابعين). ولهذا يهرع جميع المتصارعين في مصر للراعي الأمريكي ليفصل بينهم!
وأمريكا تختار من بينهم من يستطيع أن يقدم أفضل أداء! أن يكون سمعها وبصرها ويدها ورجلها في البلد، مع قدرته على ضبط الشعب واحتوائه بالرغبة أو بالرهبة، وحينما يسوء الأداء يمكن التفكير في استبدال غيره به.
2. فما بال الديمقراطية؟!
الديمقراطية يا صديقي هي عنصر المسرحية الأهم، وإذا رجعت بذاكرتك قليلا إلى الوراء لرأيت الإنجليز، الذين هم آباء الأمريكان وسلفهم في تمثيل الحضارة الغربية، يحتلون مصر بالجيوش والدبابات ويجلس مندوبهم في قصر الدوبارة، ومع ذلك يسمحون بحياة ديمقراطية وأحزاب وبرلمانات ودستور وصحافة شبه حرة.. حتى ليخيل إليك أن الديمقراطية تعيش أزهى عصورها في مصر الإنجليزية! فإذا جَدَّ الجدّ حُلَّتْ الحكومة والبرلمان وحوصر قصر الملك وأوقفت الصحف ونهب الإنجليز كل ما يحتاجونه من مصر في المجهود الحربي (حتى الحمير والبغال) لخوض الحرب العالمية الأولى أو الثانية.
الديمقراطية هي العنصر الذي تغلف به عملية صناعة القرار لتبدو محلية وطبيعية وشرعية، فالحضارة الغربية مغرمة للغاية بصناعات التغليف والتعبئة، ولا يصح أن تخرج عملية الاحتلال ونهب الشعوب دون غلاف مناسب يجعلها زاهية براقة!
الديمقراطية لو أنها حقيقة تحكم المجتمعات الغربية (وفي هذا شك كبير ليس هنا مقام النقاش فيه) فهي أبعد من أن يحصل عليها ضعيف تابع! البلاد التي حصلت على الديمقراطية حصلت عليها بعد التحرر، بعد أن امتلكت قرارها، بعد أن صارت مستقلة لا تعاني من الهيمنة الأجنبية.. هنا ربما تكون الديمقراطية حقيقية! أما غير ذلك فالديمقراطية ليست إلا وَهْمًا وزخرفا وطلاء لأبشع عمليات ذبح الشعوب ونهب خيراتها وشرب دمائها.
وأمامك مرسي في سجنه ومرضه أبلغ دليل على مصير الديمقراطية!
3. فما الحل؟!
الحل في التحرر.. الاستقلال.. الخروج من الهيمنة.. امتلاك القرار!
حل بسيط بديهي واضح، مشكلته الوحيدة أنه مكلف، دونه بحور من الدماء والدموع وأمواج من الأرواح والأموال وجبال من الجماجم والأشلاء.. تلك المرحلة التي عبرت بها كل الأمم التي نالت استقلالها، إن أوروبا وأمريكا التي تتمتع شعوبها الآن بما هي فيه وتعيش من أموالنا ومواردنا إنما وصلت لكل هذا بما دفعته من أرواح وضحايا لتحصل على الاستقلال ثم بما دفعته من أرواح وضحايا لتصل إلى هذا العلو في الأرض.
قاعدة كالشمس تجري في التاريخ ولا معقب لها، صاغها شوقي بقوله:ولا يبني الممالك كالضحايا .. ولا يُدني الحقوق ولا يُحِقُّففي القتلى لأجيال حياة .. وفي الأسرى فدىً لهمُ وعتقوللحرية الحمراء بابٌ .. بكل يد مضرجة يُدَقُّ
إن الذين استمتعوا ببلادنا لقرنين من الزمان لن يتركوها احتراما للديمقراطية، كما أنهم حين جاءوا واحتلونا لم يدخلوا إلينا بالدعوة ونشر الفكرة وتأسيس الأحزاب ودخول البرلمانات ثم فازوا في انتخابات ديمقراطية.. أبدا! بل دخلوا بالجيوش والدبابات، فلما هزمونا وقهرونا واستقروا في بلادنا أنشأوا أنظمة حكم على مثالهم وصنعوا نخبهم وأحزابهم وإعلامهم، ونشروا أفكارهم وحرسوا كل هذا بسلاحهم ولا زالوا، وقواعدهم العسكرية في بلادنا تشهد على كل هذا. (راجع: طبقات الاستبداد ومقاومة الأمة)
فإن كنت في شك مما أقول فاسأل سوريا تشهد: كيف أن قتل الملايين وتشريد عشرات الملايين ومسح البلد كلها ثمن ترضاه أمريكا لأنها لم تجد البديل المناسب لها بعد بشار، فلتستمر المعركة حتى نجد البديل المناسب أو يهلك الشعب دون ذلك! (راجع: في مكافحة الوهم اللذيذ).
وإن من طبائع الهزيمة أن يفرَّ بعضنا من هذه الحقيقة لأن مواجهتها والتفكير فيها يؤدي مباشرة للقيام بواجب الإعداد، الإعداد للثورة والمقاومة والجهاد، حيث السبيل الوحيد للتحرر والاستقلال.. وذلك أمر يضرب توازنات الكُتَّاب والمفكرين والعلماء والنخب والأحزاب والكيانات وكافة المستفيدين ببقاء الوضع على ما هو عليه، مثالهم كما قال الشاعر القديم:
أقول وقد هبوا إلى الحرب غارة .. دعوني، فإني آكل العيش بالجبن
والخلاصة:
صراع السيسي مع عنان أو مع غيره صراعٌ لن تحسمه أصوات الناس، ومن أراد أن يدخل فيه لترجيح كفة عنان فليدخل شرط أن يملك أصلا القدرة على الترجيح، أما أن يضحك على نفسه وعلى الناس ويتوهم أنه قادر على الترجيح بمجرد التصويت والحملات الانتخابية فهذا يشارك في المسرحية نفسها، فلئن كان يعلم فهو مجرم، وإن لم يكن يعلم فهو أحمق الناس طرًّا!
فحتى المصالحة، حتى التفاوض، حتى الحلول الوسط، حتى الحد الأدنى من الحلول.. كل حل لا يُمكن التوصل إليه إلا بوجود (القدرة) على الوصول إليه! لا بد أن يكون لديك ما يجبر عدوك على أن يصالحك أو يفاوضك أو يصل معك إلى حل وسط أو حتى يمنحك الحد الأدنى من الحل! أما الفراغ وخلو اليد من كل قوة ومن كل قدرة فهذا حال المهزوم الذي تُملى عليه الشروط. ويوما ما قيل لستالين: البابا غاضب منك. فقال: كم دبابة لدى البابا؟
سيكون من السذاجة أن يعتبر عنان أو أي مرشح آخر أن المعركة ضد السيسي هي معركة قانونية انتخابية، لا طبيعة العسكر ولا طبيعة السيسي تسمح بهذا، فالحاكم إما في القصر أو في القبر. ومن يريد خوض معركة حقيقية ضد السيسي فسيعمل على إرساله للقبر باعتبارها الوسيلة الوحيدة الممكنة.
الحمد لله، السيسي نفسه وفَّرَ علينا عناء إثبات هذا الكلام كله، ووضع سامي عنان في السجن.. ترى هل انتهت المعركة أم بدأت؟ لا أحد يدري على وجه الحقيقة.. فالصراع العميق بين أجنحة السلطة في الداخل وحلفاء الرجلين في الخارج لا تظهر لنا سوى آثاره. وهذا مشهد من مشاهد غياب الأمة عن الصراعات التي تحدد مصيرها، وهي المشاهد التي تثبت أن بلادنا تحت الاحتلال الأجنبي حقيقة.
المثير للدهشة والحسرة أننا عند كل مفصل نحتاج لإثبات أشياء هي من البديهيات، وما ذلك إلا لأن الخطاب السائد الذي هو نتيجة لعلاقات القوة يُصِرُّ على تمثيل مسرحية أن بلادنا بلاد مستقلة وليست محتلة وأن حكامها وطنيون وليسوا عملاء، وهو الخطاب الذي تردده وسائل إعلام تستقدم من يفترض أنهم محللون سياسيون وصحافيون وخبراء ليؤدي كل منهم دوره في المسرحية، بعضهم يعلم أنه يمثل ويقبض أجره وبعضهم اندمج في الدور حتى أنه يقبض أجره وهو يظن أنه يؤدي رسالة!
وطالما استمرت المسرحية واستمر الخطاب المضلل باستمرار القوى المهيمنة التي تنتجه، استمرت محاولاتنا للتصحيح والمقاومة. تلك هي وسيلة الدفاع عن الناس قبل أن يتشربوا الخرافات ويصيروا عبيدا مخلصين لموقعهم من العبودية. إن الطغيان يستطيع السيطرة على البشر بخطاب الخرافات والأوهام، ولقد عبد الناس الأصنام وظنوا أنها تنفع وتضر حتى كانت معركة الأنبياء عسيرة وهم يحاولون انتزاع هذه الخرافات من عقول الناس، وبقدر ما كانت معركتهم مع الملأ (الحكام) الذين صنعوا الخرافات لتحمي مصالحهم ومكاسبهم وتُمَكِّنهم من استعباد الناس، بقدر ما كانت معركتهم أيضا مع أولئك العبيد الذين شربوا الخرافات واستعذبوها وتشبعوا بها حتى صاروا يحسبون الخروج من العبودية تهديدا عظيما كأنه هدم لقوانين الكون وسنة الحياة!! (راجع: زمن الجاهلية الجميل)
1. هل يملك الضعيف قراره؟
سؤال بديهي وإجابته بديهية، الضعيف مفعول به لا يملك لنفسه إلا ما يسمح له به الأقوياء من حوله، إن شاءوا سحقوه وإن شاءوا استبقوه. فإذا اتفقنا على أن مصر في وضعها الحالي دولة ضعيفة اتفقنا في اللحظة نفسها على أنها في خانة المفعول به وفي خانة التابع، وأنها لا تملك قرارها، بل قرارها مرهون بمن تتبعه.
عند هذه النقطة تنحل نصف المشكلات، ومنها مشكلتنا التي نتناولها في هذا المقال: من شاء أن يحكم في مصر فلا بد له من الحصول على الرضا الأمريكي والموافقة الإسرائيلية (هكذا قال مصطفى الفقي بنفسه في أواخر عصر مبارك، قالها ببساطة وبدهية ووضوح، تبدو كجملة خارج نص المسرحية الكبرى لكنها لا تجاوز الحقيقة للحظة عند سائر المتابعين). ولهذا يهرع جميع المتصارعين في مصر للراعي الأمريكي ليفصل بينهم!
وأمريكا تختار من بينهم من يستطيع أن يقدم أفضل أداء! أن يكون سمعها وبصرها ويدها ورجلها في البلد، مع قدرته على ضبط الشعب واحتوائه بالرغبة أو بالرهبة، وحينما يسوء الأداء يمكن التفكير في استبدال غيره به.
2. فما بال الديمقراطية؟!
الديمقراطية يا صديقي هي عنصر المسرحية الأهم، وإذا رجعت بذاكرتك قليلا إلى الوراء لرأيت الإنجليز، الذين هم آباء الأمريكان وسلفهم في تمثيل الحضارة الغربية، يحتلون مصر بالجيوش والدبابات ويجلس مندوبهم في قصر الدوبارة، ومع ذلك يسمحون بحياة ديمقراطية وأحزاب وبرلمانات ودستور وصحافة شبه حرة.. حتى ليخيل إليك أن الديمقراطية تعيش أزهى عصورها في مصر الإنجليزية! فإذا جَدَّ الجدّ حُلَّتْ الحكومة والبرلمان وحوصر قصر الملك وأوقفت الصحف ونهب الإنجليز كل ما يحتاجونه من مصر في المجهود الحربي (حتى الحمير والبغال) لخوض الحرب العالمية الأولى أو الثانية.
الديمقراطية هي العنصر الذي تغلف به عملية صناعة القرار لتبدو محلية وطبيعية وشرعية، فالحضارة الغربية مغرمة للغاية بصناعات التغليف والتعبئة، ولا يصح أن تخرج عملية الاحتلال ونهب الشعوب دون غلاف مناسب يجعلها زاهية براقة!
الديمقراطية لو أنها حقيقة تحكم المجتمعات الغربية (وفي هذا شك كبير ليس هنا مقام النقاش فيه) فهي أبعد من أن يحصل عليها ضعيف تابع! البلاد التي حصلت على الديمقراطية حصلت عليها بعد التحرر، بعد أن امتلكت قرارها، بعد أن صارت مستقلة لا تعاني من الهيمنة الأجنبية.. هنا ربما تكون الديمقراطية حقيقية! أما غير ذلك فالديمقراطية ليست إلا وَهْمًا وزخرفا وطلاء لأبشع عمليات ذبح الشعوب ونهب خيراتها وشرب دمائها.
وأمامك مرسي في سجنه ومرضه أبلغ دليل على مصير الديمقراطية!
3. فما الحل؟!
الحل في التحرر.. الاستقلال.. الخروج من الهيمنة.. امتلاك القرار!
حل بسيط بديهي واضح، مشكلته الوحيدة أنه مكلف، دونه بحور من الدماء والدموع وأمواج من الأرواح والأموال وجبال من الجماجم والأشلاء.. تلك المرحلة التي عبرت بها كل الأمم التي نالت استقلالها، إن أوروبا وأمريكا التي تتمتع شعوبها الآن بما هي فيه وتعيش من أموالنا ومواردنا إنما وصلت لكل هذا بما دفعته من أرواح وضحايا لتحصل على الاستقلال ثم بما دفعته من أرواح وضحايا لتصل إلى هذا العلو في الأرض.
قاعدة كالشمس تجري في التاريخ ولا معقب لها، صاغها شوقي بقوله:ولا يبني الممالك كالضحايا .. ولا يُدني الحقوق ولا يُحِقُّففي القتلى لأجيال حياة .. وفي الأسرى فدىً لهمُ وعتقوللحرية الحمراء بابٌ .. بكل يد مضرجة يُدَقُّ
إن الذين استمتعوا ببلادنا لقرنين من الزمان لن يتركوها احتراما للديمقراطية، كما أنهم حين جاءوا واحتلونا لم يدخلوا إلينا بالدعوة ونشر الفكرة وتأسيس الأحزاب ودخول البرلمانات ثم فازوا في انتخابات ديمقراطية.. أبدا! بل دخلوا بالجيوش والدبابات، فلما هزمونا وقهرونا واستقروا في بلادنا أنشأوا أنظمة حكم على مثالهم وصنعوا نخبهم وأحزابهم وإعلامهم، ونشروا أفكارهم وحرسوا كل هذا بسلاحهم ولا زالوا، وقواعدهم العسكرية في بلادنا تشهد على كل هذا. (راجع: طبقات الاستبداد ومقاومة الأمة)
فإن كنت في شك مما أقول فاسأل سوريا تشهد: كيف أن قتل الملايين وتشريد عشرات الملايين ومسح البلد كلها ثمن ترضاه أمريكا لأنها لم تجد البديل المناسب لها بعد بشار، فلتستمر المعركة حتى نجد البديل المناسب أو يهلك الشعب دون ذلك! (راجع: في مكافحة الوهم اللذيذ).
وإن من طبائع الهزيمة أن يفرَّ بعضنا من هذه الحقيقة لأن مواجهتها والتفكير فيها يؤدي مباشرة للقيام بواجب الإعداد، الإعداد للثورة والمقاومة والجهاد، حيث السبيل الوحيد للتحرر والاستقلال.. وذلك أمر يضرب توازنات الكُتَّاب والمفكرين والعلماء والنخب والأحزاب والكيانات وكافة المستفيدين ببقاء الوضع على ما هو عليه، مثالهم كما قال الشاعر القديم:
أقول وقد هبوا إلى الحرب غارة .. دعوني، فإني آكل العيش بالجبن
والخلاصة:
صراع السيسي مع عنان أو مع غيره صراعٌ لن تحسمه أصوات الناس، ومن أراد أن يدخل فيه لترجيح كفة عنان فليدخل شرط أن يملك أصلا القدرة على الترجيح، أما أن يضحك على نفسه وعلى الناس ويتوهم أنه قادر على الترجيح بمجرد التصويت والحملات الانتخابية فهذا يشارك في المسرحية نفسها، فلئن كان يعلم فهو مجرم، وإن لم يكن يعلم فهو أحمق الناس طرًّا!
فحتى المصالحة، حتى التفاوض، حتى الحلول الوسط، حتى الحد الأدنى من الحلول.. كل حل لا يُمكن التوصل إليه إلا بوجود (القدرة) على الوصول إليه! لا بد أن يكون لديك ما يجبر عدوك على أن يصالحك أو يفاوضك أو يصل معك إلى حل وسط أو حتى يمنحك الحد الأدنى من الحل! أما الفراغ وخلو اليد من كل قوة ومن كل قدرة فهذا حال المهزوم الذي تُملى عليه الشروط. ويوما ما قيل لستالين: البابا غاضب منك. فقال: كم دبابة لدى البابا؟
Published on January 24, 2018 01:53
January 23, 2018
حماس وولاية سيناء: النظر الشرعي والسياسي
"إن إعانة هذه العصابة المرتدة بالمال والسلاح هي ردة واضحة عن دين الله، ففيها مظاهرة لهم على حرب المجاهدين، وتثبيت لعروشهم الزائلة، ليواصلوا مهادنة اليهود والطواغيت، وتصدير بنادقهم نحو صدور الموحدين".
بهذه العبارة التي نطق بها حمزة الزاملي (أبو كاظم المقدسي) الذي يشغل منصب القاضي الشرعي، حكمت "ولاية سيناء" على حركة حماس في قطاع غزة، ضمن إصدارها الأخير "ملة إبراهيم" المنشور بتاريخ 4 يناير 2018م، ثم ساقت هذه العبارة كمقدمة للحكم على واحد من أعضائها، موسى أبو زماط، "بالقتل ردة على من أعان المشركين"، وذلك أنه "أوصل السلاح إلى المرتدين في كتائب عز الدين القسام".
وأوكلت تنفيذ المهمة إلى "رجل تائب منهم" أي من كتائب القسام، وهو محمد الدجني. وقبل أن يطلق الدجني النار على رأس أبو زماط أنهى أبو كاظم كلامه بالقول: "ونحن كما عرفتمونا نقيم حدود الله على الشريف قبل الضعيف، ولا تأخذنا في الله لومة لائم".
تناقش هذه الورقة مسألة الخطاب الشرعي لدى "ولاية سيناء" عَبْر هذا الحكم، مُحاوِلةً استنباط مدى تحقق الاستدلال الشرعي فيه، محيلة إياه إلى أقوال وتنظيرات السلفية الجهادية الفقهية والسياسية.
سيحتاج نقاش الاستدلال الشرعي لهذا الحكم (القضائي) إلى بحث في عدد من الأمور لتحقيق مناط الحكم (الشرعي)، أهمها: فهم الاتهامات الموجهة لحماس، ثانيا: حكم إعانة المشركين، ثالثا: إنزال وصف الشرك والردة على حماس، رابعا: إنزال وصف الردة على موسى أبو زماط، خامسا وأخيرا: اعتبارات الفتوى في الواقعة نفسها.
1. فهم الاتهامات الموجهة لحماس
أجملت "ولاية سيناء" تهمة الردة بتهريب السلاح لحماس في أربعة بنود: التمكين للحكم بغير ما أنزل الله، حرب المجاهدين بغزة وسيناء، مهادنة طواغيت مصر، الصد عن سبيل الله ومنع الهجرة لدار الإسلام بسيناء.
وفي محاولة معرفة الحكم الشرعي في هذه الاتهامات، فإنه لا يُجدي اللجوء إلى فتاوى المؤسسات الرسمية في مصر أو السعودية أو غيرها، فإن تلك المرجعيات غير معترف بها لدى الحركات السلفية الجهادية.
كذلك فإن مشكلة أخرى تبدو في الأفق، ذلك أن تنظيم الدولة لم تتكون له بعدُ مدونة فقهية ولم يبرز فيه منظرون شرعيون ولهم مؤلفات يمكن الاستناد إليها، وعامة ما يستدل به التنظيم في إصداراته يكون كلمات مقتبسة من ابن تيمية وآخرين. ومع أن التنظيم يعد خروجا عن تنظيم القاعدة إلا أنه مندرج في تصنيف "السلفية الجهادية" التي تستند في العموم إلى فتاوى ابن تيمية وابن القيم وفتاوى أئمة الدعوة النجدية مع تطويرات وأقيسة معاصرة، بلغت مستوى من النضج لدى تنظيم القاعدة الذي يمكن القول بوضوح بأنه له مدونة فقهية وتراثا علميا مكتوبا.
ومع هذا فلا تزال المناطات التي تنبني عليها أحكامٌ غيرَ محررةٍ في كثير من الأمور، إلا أن ما يخُصُّنا في سياقنا الآن هو هذه المفردات الواردة في اتهامات "ولاية سيناء" لحماس، وهي: التمكين، الحكم بغير ما أنزل الله، حرب المجاهدين، مهادنة الطواغيت، الهجرة، دار الإسلام.
وهي تلك المفردات التي ستصوِّر لنا كيف تكونت صورة المسألة لدى "ولاية سيناء" من جهة النظر الشرعي، التي انتهت إلى تنفيذها قتل من أعان كتائب القسام بالسلاح.
التمكين للحكم بغير ما أنزل الله: لا يختلف العلماء على أن تفضيل حكم غير الله على حكم الله كفر، أو أن جَحْدَ الحكم بما أنزل الله واستحلال تحكيم غيره كفر كذلك، لوضوح نص الآية ولإجماع العلماء فيه، ويمكن الاستدلال على هذا بفتاوى الأزهر الشريف وفتاوى اللجنة الدائمة الممثلة للموقف الديني الرسمي في السعودية، فالمسألة من حيث التأصيل يصعب إيراد خلاف فيهالكن موضع الخلاف العملي الكبير، في سياق الحركات الإسلامية المعاصرة، يكمن في مسألة "القدرة" أو "الاستطاعة" التي هي مناط التكليف. ومن البديهي أن الخلاف في شأن "الاستطاعة" سيثمر خلافا في شأن تطبيق الشريعة (وأظهر صورها: الحدود الشرعية الجنائية)، فالذي يرى أن تحرير شبر واحد ليوم واحد يوجب عليه إقامة شرع الله وتطبيق حدوده، لن يتفق بحال مع من يضع شروطا للتمكين والاستطاعة قد تجعل تأجيل الحكم بما أنزل الله يمتد لسنوات. وبهذا فإن الذي يؤجل هو عنده واقع في الكفر والردة. وهو الوصف الذي أنزلته ولاية سيناء على حكم حماس في قطاع غزة.
حرب المجاهدين: يستتبع الوصف بالكفر والردة لحركة حماس في غزة أن تكون واحدة من الأنظمة الكافرة التي تحيط بـ "المجاهدين" في "ولاية سيناء"، وأي خلاف قد يقع بين الطرفين لن يُفسَّر في ضوء الخلاف الممكن بين المسلمين أو الخلاف الناتج عن اختلاف المصالح أو تفاوت المراتب أو الأولويات، بل سيكون خلافا منشؤه العداوة الطبيعية بين الكفر والإيمان، حيث تمثل حماس معسكر الكفر في مقابل السلفية الجهادية في غزة أو سيناء.
مهادنة الطواغيت: توقيع الهدنة مع العدو جائز لدى الجميع من حيث هي حكم شرعي، وفي مسيرة الحركات الجهادية –بما فيها: السلفية الجهادية- مراحل وعروض هدنة على العدوالهجرة إلى دار الإسلام: من المعروف أن الهجرة كانت في بداية الدولة الإسلامية فرضا على المسلمين، حتى توقف هذا بعد فتح مكة حين قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية". ومن الطبيعي على حركات تقتفي أثر النبي وتحاول إقامة الدولة الإسلامية التي لم يعد لها وجود واقعي في العالم المعاصر أن تكون مسألة الهجرة في طليعة المسائل التي تستعين بها. وقد حشد تنظيم القاعدة وكثير من المتعاطفين مع تجربة طالبان أدلة الهجرة لتجميع الطاقات والقدرات البشرية المسلمة في بناء الدولة الإسلامية في أفغانستان (1996م). وهو ما تكرر فيما بعد في "دولة العراق الإسلامية" (2006م)، ثم في تجربة تنظيم الدولة الإسلامية (2014م).
كذلك فإن ثمة رافدا آخر في التراث الإسلامي يغذي مسألة الهجرة، وهي صورة المسألة التي بدأت كشذرات خفيفة متفرقة ولكنها تعززت وقويت واتضحت في زمن الانحسار الإسلامي مع سقوط الأندلس وسقوط المشرق الإسلامي بأيدي المغول ثم سقوط الدولة العثمانية، وهي ببساطة: ما حكم الإقامة تحت سلطة غير إسلامية. ومع وجود الاختلاف الطبيعي بين الفقهاء ثم الاختلاف في صورة الأحوال المتفاوتة لوضع السلطة غير الإسلامية ومدى حرية المسلم تحتها، إلا أن الرأي الأشهر والمعتمد عموما لدى السلفية عموما -وليس الجهادية فحسب- هو: وجوب الهجرة من الديار التي لا يستطيع المسلم فيها إقامة دينه إلى ديار الإسلام التي يتمكن فيها من هذابهذا التصور كان قيام ولاية سيناء يوجب على المسلمين في المناطق حولها الهجرة إليها، ومن ثم كانت الحيلولة دون هذا هو صورة من صور اضطهاد النظام الطاغوتي للمسلمين الواقعين تحت سلطانه، وصورة من صور معاداة الدولة الإسلامية نفسها، وقطع لأهم مواردها.
لهذا كله كانت إعانة موسى أبو زماط لحركة حماس، عند ولاية سيناء، هي ردة ناتجة عن كونه أعان المشركين (حماس) بالسلاح، وفي ذلك تقوية لهم على "الولاية الإسلامية في سيناء".
2. حكم إعانة المشركينليس ثمة خلاف في أن إعانة المشركين على المسلمين من الكبائر، فإن أضيف إليها ما يجعلها على صورة الولاء والمناصرة للكافرين على المسلمين فهو من الكفر، فكلام العلماء دائر في هذا بين أنها كبيرة وبين أنها كفر تبعا لتصورهم وجود أو انتفاء معنى الولاء والمظاهرة والمناصرة للكافرين.
ومن أمثلة هذا ما جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية "يحرم بيع السلاح لأهل الحرب ولمن يعلم أنه يريد قطع الطريق على المسلمين أو إثارة الفتنة بينهم، وقال الحسن البصري: لا يحل لمسلم أن يحمل إلى عدو المسلمين سلاحا يقويهم به على المسلمين، ولا كراعا، ولا ما يستعان به على السلاح والكراع؛ لأن في بيع السلاح لأهل الحرب تقوية لهم على قتال المسلمين، وباعثا لهم على شن الحروب ومواصلة القتال؛ لاستعانتهم به، وذلك يقتضي المنع"إلى هنا نكون قد انتهينا من تصوير الموقف كما فهمه "القاضي الشرعي" لولاية سيناء في إصداره حكم القتل ردة على موسى أبو زماط.
3. إنزال الوصف على حماس
بطبيعة الحال فلسنا نسعى هنا إلى تحرير هذه المسائل، وإنما المقصود هو بيان الإشكالات عليها، من مدونة السلفية الجهادية نفسها ومن معتمداتها المرجعية وسنركز في الاستدلال على مقولات من ابن تيمية في الجانب الشرعي، وعلى مقولات من أسامة بن لادن في الجانب السياسي والتنظيمي، لما لهما من مكانة مرجعية لدى تنظيم الدولة الإسلامية.
وهذه الإشكالات تجعل سائر ما سبق هو في أحسن أحواله نوعا من الاجتهاد الذي يوجد خلافه ويسوغ الخلاف فيه، فحيث كان في الأمر خلاف قوي كان هذا مانعا من إطلاق وصف الكفر والشرك وتنزيل حكم الردة، فمن المقرر شرعا: التشدد في التكفير وصرفه بما يندفع به ما أمكن من صوارف التأويل والإكراه. يقول ابن تيمية: "إن المُتَأَوِّل الذي قَصْدُه متابعةُ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يُكَفَّر، بل ولا يُفَسَّق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية"لكن حتى لو سلمنا الآن بأنه قراءة ممكنة للفقه والتراث فإن تنزيله على الحال متنازع عليه داخل تيار السلفية الجهادية نفسه. هذا مع أن كل تيار السلفية الجهادية لو اجتمع على رأي واحد في مسألة لم يجعله هذا راجحا بالضرورة فضلا عن أن يجعل القائل بغيره مستحقا لوصف الكفر، إذ تظل الاجتهادات الأخرى مانعة من إنزال حكم الكفر والردة على أصحابها. يقول ابن تيمية: "الصواب أنه من اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقصد الحق فأخطأ: لم يكفر؛ بل يغفر له خطؤه. ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين: فهو كافر. ومن اتبع هواه وقصَّر في طلب الحق وتكلم بلا علم: فهو عاص مذنب. ثم قد يكون فاسقا وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته. فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال يكون كافرا؛ بل ولا فاسقا بل ولا عاصيا"نبدأ بالسؤال: هل تحقق لحماس معنى "التمكين" الذي يخولها إقامة حكم الله في قطاع غزة؟
منذ تعرضت دولة طالبان إلى الانهيار على يد التحالف الدولي بعد غزو أفغانستان حتى ظهر في التنظير الجهادي مراجعات لمسألة "إعلان الدولة"، وهي مراجعات مبنية في أصلها على الخلاف في تحقق "التمكين" المطلوب لقيام الدولة، والسؤال هو: هل يتحقق التمكين في أرض لا يمكن للمجاهدين الدفاع عنها ولا حمايتها من القصف الجوي مثلا، فسلاح الطيران هو المعضلة الكبرى في مسألة التمكين.
جاء في وثائق بوت آباد رسالة من أسامة بن لادن إلى أبي بصير (ناصر الوحيشي، أمير تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية)، تقول بوضوح: "بخصوص قولكم إن أردتم صنعاء يوما من الدهر فهو اليوم؛ فنحن نريدها لإقامة شرع الله فيها إذا كان الراجح أننا قادرون على المحافظة عليها؛ فالعدو الأكبر رغم استنزافه وإضعافه عسكرّيا واقتصادّيا قبل الحادي عشر وبعده إلا أنه مازال يمتلك من المعطيات ما تمكنه من إسقاط أي دولة نقيمها رغم عجزه عن المحافظة على استقرار تلك الدول، والمجاهدون -بفضل الله- ينازعونه وحلفاءه، ولكم عبرة في إسقاط دولة الطالبان وإسقاط حكومة صدام ولا تخفى عليكم تجارب (سورية، ومصر، وليبيا) وإن استنفار الخصوم في اليمن لا يقارب البتة باستنفارهم في أفغانستان؛ فاليمن بالنسبة للأعداء كالذي هدده الخطر داخل بيته فهي في قلب الخليج أكبر مخزون نفطي في العالم، فلا نرى أن نزج أنفسنا وأهلنا في اليمن في هذا الأمر في هذا الوقت قبل أن تتهيأ الأوضاع فنكون كالذي يبني في مجرى سيل فإذا سال اجتاح ذلك البناء وأسقطه، ثم إذا ما أردنا بناء البيت مرة ثانية نفر الناس وانفضوا عن مساعدتنا في البناء؛ فإني أرى أن تبقى اليمن هادئة وإنا ندخرها كجيش احتياطي للأمة". واستشهد في نفس السياق بتجربة عبد الكريم الخطابي في المغرب وكيف انهارت دولته لما أقامها قبل وصول الصليبيين إلى مرحلة الضعف التي تعجزهم عن إسقاط دولته، وبتجربة جبهة الإنقاذ في الجزائر، وبتجربة مروان حديد في سوريا، والجماعة الإسلامية في مصر، والجماعة المقاتلة في ليبياوبالقياس إلى هذا الكلام فإن وجود حماس في خاصرة "إسرائيل"، وهي القاعدة العسكرية المتقدمة للنظام العالمي في بلادنا، فإن حساسية الوضع فيها مساوية لحساسية اليمن إن لم تكن أكبر وأخطر.
والأمر نفسه يتكرر في العديد من الرسائلويتفرع عن مفهوم "التمكين" هذا مفهوم آخر، وهو: هل المنطقة التي استطاع المجاهدون السيطرة عليها تحولت إلى دار إسلام يجب إقامة الحدود فيها لتوفر القدرة على ذلك، أم أنها لا تزال منطقة ثغور تجري عليها أحكام الحرب التي تحفها الكثير من الضرورات، ومن بينها: عدم تطبيق الحدود فيها لما قد يترتب عليه من أضرار. وهي المسألة التي شهدت جدالا طويلا باللسان وبالسلاح في الثورة السورية، بين تنظيم الدولة من جهة وبقية الفصائل من الجهة الأخرى.
من المعروف أن مجرد الوصول إلى السلطة لا يساوي التمكين، فإن للدولة الجديدة زمنا تقضيه في تمهيد أمرها وتثبيت سلطانها، وهذا أمر أظهر ما يكون في واقعنا المعاصر الذي صار فيه العالم محكوما بهيمنة غير مسبوقة من "نظام عالمي". ومن أشهر ما يُستدل به على مثل هذه الحالة: حالة النجاشي لما أسلم، فمع أنه كان ملكا على قومه النصارى وانتصر على انقلاب عليه واستعاد ملكه، إلا أنه عجز عن إقامة أحكام الإسلام، يقول ابن تيمية: "إن كانت خلافة النبوة واجبة مع القدرة؛ [فإنها تسقطومثل تلك الأمور مرجعها في النهاية إلى التقدير الذي يتفاوت فيه الرأي والاجتهاد، وإنما يُفرَّق بين العاجز وبين التارك بمجموع القرائن والأحوال المحتفة به.
وبالعودة إلى تنظيرات القاعدة، باعتبارها ما نملك من المدونات السياسية للسلفية الجهادية لنقيس إليها تصرفات ولاية سيناء، نجد وثيقة من بوت آباد، هي على الأرجح رسالة من أسامة بن لادن إلى طرف آخر هو على الأرجح أمير القاعدة في المغرب، وهي تطابق في بعض مقاطعها رسالته إلى ناصر الوحيشي أمير القاعدة في الجزيرة العربية، تذكر فقرة منها: "من المقومات المهمة لنجاح إقامة دولة في هذه الظروف والمحافظة عليها إعداد ما يكفي للقيام بشؤون الناس، عندما سنقيمها سيحاصرها العدو من كل جانب حيث أنه لا يخفى عليكم أن معظم المجتمعات العربية تحكمها الدول الحديثة، وقد خرجت منذ زمن عما كان عليه المسلمون قديما؛ فقد كانت مهمة الدول تطبيق أحكام الشرع بين الناس، وحفظ الأمن الداخلي، وصد الهجوم الخارجي، والناس في ظل الأمن تبحث عن أرزاقها بأنفسها، بينما الدولة الحديثة تجعل الناس أسرى لها وتجعل العرف في أذهان الناس عن الدولة أنها أملزمة بتوفير أرزاق ووظائف للناس، وعدم توفيرها من أهم عوامل ثورتهم عليها مع ملاحظة أن كثيرا من الكماليات في الحياة سابقا أصبحت من الضروريات حاليا. وهذا الفرق فرق جوهري فلم يعد توفير القوة العسكرية الكافية للسيطرة على البلاد والحسم مع العدو المحلي هو العامل الوحيد لحسم الأمر"ثانيا: فلو سَلَّمْنا بأن حماس قد حققت التمكين المطلوب من حكم قطاع غزة، فهل هذا التمكن بنفسه كافٍ في تطبيق الشريعة، أم أن تطبيق بعض صورها يترتب عليه من الضرر ما يبلغ درجة العجز وعدم تحقق الاستطاعة التي هي مناط التكليف؟ بصيغة أخرى: هل "الاستطاعة" هي مجرد القدرة على الإنفاذ بغض النظر عما يترتب عليه، أم هي تشمل وتستلزم القدرة على آثاره أيضا؟
يقول ابن تيمية: "مما ينبغي أن يُعْرَف أن الاستطاعة الشرعية المشروطة في الأمر والنهي لم يكتف الشارع فيها بمجرد المُكْنَة ولو مع الضرر، بل متى كان العبد قادرا على الفعل مع ضرر يلحقه جُعِل كالعاجز في مواضع كثيرة من الشريعة"وهذا التأصيل مستند إلى حديث تغيير المنكر، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم "فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه"، يدل على هذا المعنى، إذ مجرد القدرة على الإنكار باللسان يستطيعها أي قادر على الكلام، ولا يُتَصَوَّر فيها عدم الاستطاعة، فأما حيث عذر النبي من لم يستطع التغيير باللسان فقد عرفنا منه أن الاستطاعة تعني استطاعة ما يترتب عليه من آثار.
ثالثا: هل سياسة حماس تجاه ولاية سيناء تقع تحت وصف "حرب المجاهدين"؟
من المتفق عليه أن الحرب بمعناها الهجومي من قبل حماس على "ولاية سيناء" غير متحقق، بل غاية ما يمكن وصف سياسة حماس تجاه "ولاية سيناء" أنه تحصين مناطقها لئلا تُسْتَعْمَل لصالح الولاية.
وهنا يقدم الموقف الحمساوي العديد من المبررات تبدأ من مبدئها بعدم التدخل في شؤون الدول والصراعات الداخلية فيها، وهو ما جرت عليه الحركة حتى مع جماعة الإخوان نفسها التي تعد حماس جزءا منها أو فرعا عنها، وتنتهي عند الخطورة التي تمثلها ولاية سيناء على نظام حماس فكرا وسلطة حكم معا! وبين الأمرين طابور من المبررات التي تشتمل على نزع ذريعة النظام المصري التي هي مضطرة للتعامل معه في مسائل عديدة أهمها معبر رفح، نزع التهمة عنها بممارسة أو دعم الإرهاب، والاختلاف الفكري بين مدرستي الإخوان والسلفية الجهادية، وسلطتها الطبيعية كنظام حكم يلزمه السيطرة على الأوضاع الأمنية والعسكرية في نطاقه لما لها من تبعات سياسية وعسكرية وغيره.
وبصرف النظر الآن عن مدى الصحة والخطأ في كل هذا، إلا أن كل واحد من هذه المبررات –فضلا عن اجتماعها معا- يقف عائقا كبيرا أمام رمي سياستها بوصف "حرب المجاهدين" الذي ينصرف معه المعنى إلى موالاة الكافرين ضد المسلمين، وإعانة المشركين على المسلمين، إذ في كل مبرر منها من موانع التأويل والإكراه بل ويجوز إضافة مانع "الجهل" نظريا، بحيث يمنع كل هذا من إطلاق حكم الكفر عليها.
ثم إنه من الثابت بتواتر الأخبار والتصريحات والمواقف من قبل حماس والسلطة المصرية أن حماس قاومت ضغوط المخابرات المصرية لتقديم معلومات أو المساعدة في القبض على عناصر تتهمهم السلطة المصرية بالضلوع في العمليات "الإرهابية" من وجهة نظرها.
وبعد هذا كله فإن قناعة "حماس" بأن وصف "المجاهدين" لا ينطبق على "ولاية سيناء" مانع من جعل محاربتهم إياها، لو أنهم حاربوها فعلا، واقعة في وصف الكفر والردة، فإن وقوع القتال بين المسلمين لا يؤدي بنفسه إلى الوقوع في الكفر، إلا إذا احتف بقرائن أخرى، بل ولا هو مُخْرِجٌ من وصف الإيمان، ففي الآية {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه} [الحجرات: 9] فأثبت القرآن وصف الإيمان لهما مع اقتتالهما، بل ومع بغي أحدهما على الأخرى.
وفي هذا المعنى يذكر ابن تيمية أن "من عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون، وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفراً، وقد يكون كفراً لأنه تبيّن له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق، والآخر لم يتبيّن له ذلك فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يَكْفُر إذا قاله أن يُكَفِّر من لم يعلم بحاله"رابعا: كيف يكون استعمال السلاح في مهادنة الطواغيت؟
من بين قائمة الاتهامات ذكر إصدار الولاية أن حماس تستعمل السلاح المهرب إليها في "مهادنة طواغيت مصر"، وهو اتهام غريب واضح التعسف، ذلك أن الهدنة تكون بين عدوين الأصل بينهما الحرب، وعلى رغم العداوة المكتومة بين الطرفين إلا أن كليهما لم يسع في إنشاب حرب مباشرة ضد الآخر. وميثاق حماس الذي يحدد سياستها يؤكد على أنها لا تتدخل في شؤون الدول الأخرى، وعلى رغم التهديدات الكثيرة التي تلوح بها وسائل الإعلام المصرية من قصف مصري على غزة أو مشاركة في حرب عليها فإن الرد الحمساوي المتكرر هو: الرد بإطلاق الصواريخ على تل أبيب.
بهذا يظهر بوضوح أن تهريب السلاح إلى حماس لا يصب بحال في إقرار أو تثبيت هدنة مع النظام المصري، بل هو مدعاة إلى ردعه إن دخل في حرب مباشرة معها، أو ردعه بقصف العدو الإسرائيلي الذي يملك الضغط عليه وإيقافه. وهكذا يكون السلاح الذي تملكه حماس متوجها بالأساس إلى العدو الصهيوني، وهي جهة يتفق عليها المسلمون. ما يعني بشكل مباشر أن إعانة حماس بالسلاح مساويا لإعانتها وبشكل حصري ضد إسرائيل.
خامسا: هل ولاية سيناء هي دار الإسلام؟
دعوى أن سيناء هي "دار إسلام" بالمفهوم الذي تقصده ولاية سيناء هي دعوى ظاهرة البطلان، فلئن كنا جادلنا فيما سبق في حصول حماس على التمكين اللازم لها لتطبيق الشريعة فإن الجدال في حالة ولاية سيناء أظهر بكثير. إذ لا تحوز الولاية في مناطق سيناء على عشر معشار التمكين الذي تحوزه في غزة، ولا تزال السيادة عليها للنظام المصري. ومع هذا فإن حماس نفسها لا ترى أن غزة "دار إسلام" بالمعنى المقصود في الفكر الجهادي، وإن أحسن ما يمكن وصف سيناء به أنها دار مركبة، وهو الوصف الذي أطلقه ابن تيمية على ماردين حين حكمها المغول، فكانت دار إسلام من جهة أن أهلها مسلمون ودار حرب من جهة أن الأحكام التي تعلوها ليست إسلامية.
ولا أحسب أن هذا الأمر مما يحتاج نقاشا طويلا لوضوحه وظهوره، ومن ثم فإن مسألة "منع الهجرة إلى دار الإسلام" يقف أمام تحققها عوائق كثيرة، من حيث انطباق وصف دار الإسلام عليها، وانطباق صفة المجاهدين على "ولاية سيناء"، ثم من حيث الأضرار التي تقدر حماس أن تعود عليها جراء عدم "ضبط الحدود" إقليميا وعالميا.
ولمرة أخرى، وبغض النظر عن صحة أو خطأ حماس في سياستها هذه، فإن ورود هذه الموانع يحول دون إطلاق وصف الكفر عليها.
سادسا: وصف حماس لدى السلفية الجهادية
حضرت حماس مرات عديدة في أدبيات السلفية الجهادية، للعديد من الأسباب أهمها: كونها حركة مجاهدة ولكنها لا تعتنق أفكار السلفية الجهادية بل هي محسوبة على الإخوان المسلمين، وهو ما استدعى بيان الموقف منها ومن طريقتها في الجهاد والتعامل مع سلطة فتح. كذلك فإن مركزية قضية المسجد الأقصى تجعل حضور الجدال حول حماس يتجدد دائما. كذلك مثلت حركة حماس نقطة حرجة في العلاقة بين "الجهاد" وبين "منهج الإخوان" الذي اعتمد السلمية والإصلاح المتدرج، فحماس واقعة بين انتماء لمدرسة الإخوان لا يعتمد طريقة الإصلاح والتدرج وبين انتماء لسبيل الجهاد لم ينتج من افكار السلفية الجهادية. وهاهنا ثمة تناقض آخر يزيد المسألة حضورا وحرجا، ذلك أن الثناء الكبير الذي أزجاه لحماس زعيمُ الجهاديين العرب عبدُ الله عزام الذي هو بمثابة الأب الروحي للجهاديين المعاصرين يقف في مقابل الشجار المستعر المستمر بين السلفية الجهادية والإخوان، مما جعل حالة حماس حالة خاصة يدور حولها الكثير من الجدل.
على حد ما أعلم فإن أول محاولة تصنيفة مدرسية تحاول صياغة موقف من حماس كانت محاولة أبي معصب السوري –منظر ومؤرخ الجهاديين- في كتابه "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية"، حيث فرَّق بين "الجهادي" و"المجاهد"، وأكد على أن التفرقة هي تفرقة مدرسية تصنيفية، حيث صار "الجهادي" علما يعبر عن المدرسة التي تمتد من سيد قطب ثم عبد الله عزام ثم تأخذ من الاختيارات الفقهية السلفية فيما يخص الحكام ودخول المجالس النيابية، بينما صار "المجاهد" هو من جاهد ضد احتلال خارجي أو نظام محلي لكن دون أن يستقي مجمل أفكاره من "المدرسة الجهادية"وفي هذا الشأن نجد فتوى من أبرز رموز الشرعية في القاعدة وهو عطية الله الليبي، فبحسب ما نشر من وثائق بوت آباد، فقد أرسل تنظيم "جند الإسلام" في غزة يسأل عن الرأي الشرعي في قبول أموال من هذه التنظيمات للإعانة على جهاد اليهود، فتضمنت فتوى الشيخ محمود(عطية الله الليبي)وأما أسامة بن لادن نفسه، فآخر موقف نعرفه منه فيما يخص حماس ما جاء في رسالته إلى ناصر الوحيشي، قال: "بخصوص الحديث عن حماس فيجب أن نراعي أن حماس لها أنصار كثر نحسبهم أنهم حريصون على نصرة الحق والدين، وقد تغيب عليهم بعض المعاني الشرعية المهمة، ولا نريد أن نعين الشيطان عليهم ومرور الوقت مع توضيح أخطاء قادتهم بلطف يساعد في انتباههم لتلك الأخطاء وتجنبها"وهذا الموقف المتأخر سبقته مواقف أخرى لا تبعد عنها، فقد وصفها (1995م) بأنها في مقدمة الحركات الجهادية في فلسطينوكان أشد ما خرج من قيادة القاعدة تجاه حماس ما جاء في خطاب أيمن الظواهريمع أن الظواهري ليس مُقَدَّرًا لدى تنظيم الدولة، بل هم يتهمونه بالتبديل والانحراف ويطعنون فيه، كما ليس هذا مقام مناقشة كلامه وصحة توقعاته أو خطئها، إلا أننا أوردنا كلام الظواهري هنا لبيان أنه في أشد حالات المهاجمة من قبل تنظيم القاعدة –ممثل السلفية الجهادية وقتها- لم يصل إلى رميها بالكفر والردة، ولم يشمل بهذا الوصف عمومها، بل خصَّص قيادتها بالاتهام دون بقيتها، وحتى هذه القيادة لم يطلق عليها وصف الكفر والردة، مع ما يعتقده من وقوعهم في "انحراف عقدي".
وقد أحدثت الكلمة ردود فعل تجاه الظواهري، لما فيها من قسوة، فأظهر أسامة بن لادن دعمه لكلامه واعتبر أن دخول حماس للانتخابات إنما كان استجابة لإغواء السعودية، فقال: للعقلاء أن يعتبروا بما آلت إليه قيادة حماس، حيث أضاعت دينها ولم تسلم لها دنياها، عندما أطاعت حاكم الرياض وغيره بالدخول في دولة الوحدة الوطنية واحترام المواثيق الدولية الظالمة، فهلا قام الصادقون في حماس ليصححوا مسارها"وهكذا كان الخطاب القاعدي في أشد لحظاته هجوما على حماس مفرقا بين القيادة والأنصار، مقصرا هجومه على القيادة، ولم ينزل عليها وصف الكفر أو الردة مع قناعته بأن دخول المجالس النيابية هو من أعمال الشرك، لوجود مانع التأول حتى ولو كان فاسدا عندهم.
4. إنزال الوصف على موسى أبو زماط
كل ما سبق من الموانع التي تمنع إطلاق وصف الكفر والردة على حماس هي ذاتها موانع من إطلاق وصف الردة عن موسى أبو زماط حين أمدها بالسلاح. هذا أولا.
ثم لو سلمنا بصحة وقوع حماس في الكفر والردة فليس هذا كافيا لإنزال وصف الردة عليه، وذلك أنه قد يكون متأولا في إعانته لهم، بسابق جهادهم وسابق وحاضر الظاهر من أحوالهم في نصرة الدين والتمسك به والعمل له. فإن كان متأولا منع هذا من الحكم بردته. بل التأول هو أظهر الشبهات في حالة حماس، إذ أن عامة الأمة ترى فيها حركة مجاهدة ذات سبق وتضحية، بل لا يبعد أن تكون مثل هذه الشبهة العامة متحققة في حالة حزب الله اللبناني لدى عموم الناس ممن لا يطلعون على ما أحدث في الثورة السورية. فهذه شبهة عامة تمنع من إدراج من أعانهم في وصفهم.ثم لو سلمنا بأنه يراهم كفارا مرتدين، بل وحتى لو رآهم كفارا أصليين لكان على القاضي النظر في حجته، وما إن كان مضطرا لمثل هذا لحاجة إلى المال أو لمنفعة تعود عليه من بيع وتهريب هذا السلاح إليهم.
وبعد هذا كله، فإن إمداد حماس بالسلاح في ظل ما هو معروف عنها من النأي بنفسها عن الوضع المصري وانصرافها بالقتال إلى الإسرائيليين، لا ينطبق عليه وصف إعانة المشركين على المسلمين، بل هو إعانة فريق من "الكافرين والمرتدين" على اليهود المحتلين وهم كفار أصليون ومحتلون. وهذا ما لا يؤدي بحال إلى إنزال وصف الردة عليه بمساعدته إياهم بتهريب السلاح.
يقول ابن تيمية: "التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعيّن، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعيّن، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع"5. اعتبارات الفتوى
لو سلمنا لولاية سيناء بكل ما سبق: بوقوع وصف الردة والكفر على حماس، وبوقوعها على موسى أبو زماط، وباستحقاقه القتل عقوبة على هذا. فيبقى على صاحب الفتوى أو الحكم القضائي أن ينظر في آثار هذه الفتوى وما يترتب عليها في الحالة المخصوصة، ومنها: ما قد يهيجه هذا من عداوات قبلية للتنظيم، وآثاره على الحاضنة الشعبية السيناوية، وآثاره على نفور الشباب الإسلامي الذي لديه ميول لحماس أو للإخوان أو حتى الذي يقدم من خلفية حمساوية وإخوانية، وما يضيفه من التحفز والعداوة من قبل حركة حماس في غزة وحاضنتها الشعبية، وهو ما ينعكس سلبا على أحوال المناصرين للتنظيم في غزة وفي فلسطين، ثم ما يهيجه هذا من عداوات علمية وفقهية من مشايخ وعلماء لهم كلمتهم المسموعة أو حتى نصف أو ربع المسموعة لدى العديد من الشباب. وما يؤكده مثل هذا العمل مما يشاع عنهم من أنهم صنيعة إسرائيلية أو مخابراتية أو على الأقل مخترقون من قبل أجهزة أمنية تعمل على تنفيذ أهدافها من خلالهم.
ومع هذا، فإن إضعاف حماس بالحيلولة دون تهريب السلاح إليها إنما يصب في النهاية في المصلحة الإسرائيلية والمصرية، فلو أن الأطراف الثلاثة هم جبهة عداء لولاية سيناء لاقتضى النظر الشرعي والسياسي ألا يُصار إلى إضعاف أحدهم طالما أنه يقوم ببعض الغَناء تجاه عدو آخر، هذا فضلا عن أن يكون هذا الطرف هو الأضعف في ترتيب القوة، فليست الخطورة التي قد تمثلها حماس على ولاية سيناء كمثل التي تمثلها إسرائيل أو النظام المصري، فكلاهما يشترك ضد التنظيم في عمليات مشتركة وإسناد جوي فضلا عن التعاون الاستخباري بينهما.
كذلك فإن بعض القيود التي وضعها الشرع على تطبيق الحدود في حال الحرب، والتنظيم لا يزال يتراجع ويفقد قوته وقدرته تدريجيا أمام الجيش المصري، كما أنه يفقد تدريجيا حاضنته الشعبية السيناوية، ويفقد عددا مؤثرا من قياداته وعناصره طوال السنوات الماضيةثم يأتي السؤال: ما البديل المتوقع ظهوره في حال سقوط حماس في قطاع غزة؟ وهل هو أحسن من نظام حماس؟
إن مدونة تنظيم القاعدة تسفر عن مادة كبيرة في أمثال هذه الاعتبارات، ففي الرسالة التي وجهها أسامة بن لادن إلى ناصر الوحيشي أمير القاعدة في الجزيرة العربيةوعن اعتبارات البدائل: "ليس من المصلحة التسرع في العمل على إسقاط النظام فهو رغم ردته وسوء إدارته إلا أنه أخف ضررا ممن تريد أمريكا استبداله بهم"، فبالرغم من تصريحه بوقوع الردة إلا أنه اعتبر مآلات سقوط نظامه من جهة المصالح والمفاسد.
الخاتمةاقتصرت هذه الورقة على مناقشة الاستدلال الشرعي لولاية سيناء في إنزالها حكم الردة على موسى أبو زماط لتعاونه في تهريب السلاح إلى حركة حماس في قطاع غزة، واستندت في هذا النقاش على المدونات الفقهية والحركية لتيار السلفية الجهادية نفسه المتمثل في تنظيم القاعدة، وخلص إلى الآتي:
1. تقوم موانع عدة دون إنزال كل وصف وارد على الواقعة محل النظر2. ذلك النوع من المسائل ليس جديدا يتناوله التيار الجهادي لأول مرة، بل هي مسألة مبحوثة من قبل ولها فيه نقاش ونتائج3. وحركة حماس نفسها بوضعها الحالي كانت مسألة مبحوثة في فكر السلفية الجهادية ولم تصل فيها لا إلى حد تكفيرها فضلا عن تكفير من يتعاون معها4. إنزال الحكم بالردة على مثل هذه الواقعة هو خروج عن أصول تيار السلفية الجهادية نفسه، ومن هنا تبدأ داعش لتكون في تأصيلاتها أقرب إلى الخوارج في تكفيرهم بما ليس بمكفر5. وحتى لو سُلِّم من جهة النظر الشرعي ببناء الحكم القضائي فإن اعتبارات الفتوى في الواقعة نفسها تمنع من القضاء به لما له من آثار وتبعات تعود بالضرر على مجمل الحال
وهنا ينبغي التفكير بجدية وبعمق في الفصل بين تنظيم الدولة الإسلامية وبين تيار السلفية الجهادية، لنكون أمام فصيل أكثر تشددا من فصائل السلفية الجهادية، وربما يكون البداية لتيار جديد تكون السلفية الجهادية إلى جواره تيارا معتدلا وناضجا.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
انظر مثلا: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتاوى اللجنة الدائمة: المجموعة الأولى، جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، (الرياض: رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء)، 1/785 - فتوى رقم (5966). بل إن محاولة التهوين من الأمر ووجه بالردود من قبل علماء السعودية، وجُمِع بعض إنتاجهم في كتاب "التحذير من الإرجاء وبعض الكتب الداعية إليه"، ومما جاء فيه للشيخ صالح الفوزان في سياق رده على كتاب خالد العنبري، قول الفوزان:"كفر من حكم بغير ما أنزل الله لا يقتصر على الجحود ، بل يتناول الاستبدال التام ، وكذا من استحل هذا العمل في بعض الأحكام ولو لم يجحد ، أو قال : إن حكم غير الله أحسن من حكم الله ، أو قال : يستوي الأمران ، كما نص على ذلك أهل العلم ، حتى ولو قال : حكم الله أحسن ولكن يجوز الحكم بغيره ، فهذا يكفر مع أنه لم يجحد حكم الله وكفره بالإجماع". اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، التحذير من الإرجاء وبعض الكتب الداعية إليه، ط2 (مكة المكرمة: دار عالم الفوائد، 1422هـ)، ص35. الأمثلة كثيرة ومشهورة، منها إعلان الجماعة الإسلامية المصرية وقف العمليات ضد النظام المصري من جانب واحد، ومنها نصيحة أسامة بن لادن أمير تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية ناصر الوحيشي بالسعي نحو تهدئة مع النظام اليمني. (انظر: وثائق بوت آباد، الدفعة الأولى، وثيقة رقم 16، ص109). جاء في فتوى اللجنة الدائمة رقم (2635) "كل بلاد أو ديار، لا يقيم حكامها وذوو السلطان فيها حدود الله، ولا يحكمون في الرعية بحكم الإسلام، ولا يقوى المسلم فيها على القيام بما وجب عليه من شعائر الإسلام؛ فهي دار كفر، وذلك مثل مكة المكرمة قبل الفتح، فإنها كانت دار كفر، وكذا البلاد التي ينتسب أهلها إلى الإسلام، ويحكم ذوو السلطان فيها بغير ما أنزل الله، ولا يقوى المسلمون فيها على إقامة شعائر دينهم، فيجب عليهم أن يهاجروا منها، فرارا بدينهم من الفتن، إلى ديار يُحْكَم فيها بالإسلام، ويستطيعون أن يقوموا فيها بما وجب عليهم شرعا". وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الكويت، الموسوعة الفقهية الكويتية، ط1 (القاهرة: دار الصفوة، 1992)، 25/152. عبد العزيز بن باز، مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز، جمع وإشراف: محمد بن سعد الشويعر، (الرياض: دار القاسم، 1420ه)، 1/269. ابن تيمية، منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط1 (الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود، 1986م)، 5/239. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، (المدينة المنورة: مجمع الملك فهد، 1995م)، 12/180. وثائق بوت آباد، الدفعة الأولى، إشراف ونشر: مركز مكافحة الإرهاب في ويست بوينت (Combating Terrorism Centre at West Point)، تفريغ وجمع وإعداد: نخبة الفكر، (ربيع الآخر 1436هـ = يناير 2015م)، وثيقة رقم (16)، ص108 وما بعدها، ووثيقة رقم (17) ص119، 120، 125، 130 وما بعدها. وانظر: وثائق بوت آباد، الدفعة الثالثة، ص62، 63. في وثائق بوت آباد، الدفعة الثالثة، ص61 رسالة إلى القاعدة في المغرب يغلب على الظن من أسلوبها أنها لأسامة بن لادن جاء فيها: "التأكيد عليهم بعدم الإلحاح على قيام دولة إسلامية الآن، بل العمل على كسر شوكة العدو الأكبر، كضرب السفارات الأمريكية في دول إفريقيا كالسيراليون وتوجو وشركات النفط الأمريكية بالدرجة الأولى". إضافة يقتضيها السياق. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 35/ 25. وثائق بوت آباد، الدفعة الأولى، وثيقة رقم (17)، ص124؛ وانظر: أسامة بن لادن، مجموعة رسائل وتوجيهات الشيخ المجاهد أسامة بن لادن، (نسخة إلكترونية: نخبة الإعلام الجهادي – قسم التوثيق، 1436هـ = 2015م)، ص770. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 8/ 439. ابن تيمية، الصارم المسلول على شاتم الرسول، (السعودية: طبعة الحرس الوطني السعودي، 1403هـ = 1993م)، ص359. ابن تيمية، الصارم المسلول، ص359، 360. ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، 5/251. ابن تيمية، الرد على البكري، تحقيق: محمد علي عجال، (المدينة المنورة: مكتبة الغرباء، 1417هـ)؛ 2/ 494. انظر: أبو مصعب السوري، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، نسخة إلكترونية، ص697 وما بعدها. والدليل الأكيد على أن الشيخ محمود هو أبو عطية الله الليبي أن هذه الرسالة منشورة في الأعمال الكاملة لعطية الله الليبي. الدفعة الأولى، الوثيقة (8)، ص45، 47؛ الزبير الغزي (جمع وترتيب)، الأعمال الكاملة للشيخ الإمام الشهيد المجاهد عطية الله الليبي، ط1 (نسخة إلكترونية: دار المجاهدين، 2015م)، ص994، 995. الدفعة الأولى، الوثيقة (16)، ص115؛ وانظرها أيضا في: مجموعة رسائل وتوجيهات الشيخ المجاهد أسامة بن لادن، ص762. بيان رقم (17) من بيانات هيئة النصيحة والإصلاح، وهو رسالة مفتوحة للملك فهد، نشرت بتاريخ 5 ربيع الأول 1416 = 3 أغسطس 1995. وهي منشورة في: مجموعة رسائل وتوجيهات الشيخ المجاهد أسامة بن لادن، ص183. مجموعة رسائل وتوجيهات الشيخ المجاهد أسامة بن لادن، ص456. بعنوان: "إن فلسطين شأننا وشأن كل مسلم"، نشر بتاريخ 22 صفر 1428هـ = 11 مارس 2007م، عبر مؤسسة السحاب التابعة للقاعدة. مجموعة رسائل وتوجيهات الشيخ المجاهد أسامة بن لادن، ص644، ص654. الأعمال الكاملة للشيخ عطية الله الليبي، ص1372 وما بعدها. ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، 12/ 487، 488. ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، 12/ 466. انظر: التقرير الشهري للمشهد السيناوي الذي ينشره المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية. وثائق بوت آباد، الدفعة الأولى، وثيقة رقم (16)، ص108 وما بعدها.
بهذه العبارة التي نطق بها حمزة الزاملي (أبو كاظم المقدسي) الذي يشغل منصب القاضي الشرعي، حكمت "ولاية سيناء" على حركة حماس في قطاع غزة، ضمن إصدارها الأخير "ملة إبراهيم" المنشور بتاريخ 4 يناير 2018م، ثم ساقت هذه العبارة كمقدمة للحكم على واحد من أعضائها، موسى أبو زماط، "بالقتل ردة على من أعان المشركين"، وذلك أنه "أوصل السلاح إلى المرتدين في كتائب عز الدين القسام".
وأوكلت تنفيذ المهمة إلى "رجل تائب منهم" أي من كتائب القسام، وهو محمد الدجني. وقبل أن يطلق الدجني النار على رأس أبو زماط أنهى أبو كاظم كلامه بالقول: "ونحن كما عرفتمونا نقيم حدود الله على الشريف قبل الضعيف، ولا تأخذنا في الله لومة لائم".
تناقش هذه الورقة مسألة الخطاب الشرعي لدى "ولاية سيناء" عَبْر هذا الحكم، مُحاوِلةً استنباط مدى تحقق الاستدلال الشرعي فيه، محيلة إياه إلى أقوال وتنظيرات السلفية الجهادية الفقهية والسياسية.
سيحتاج نقاش الاستدلال الشرعي لهذا الحكم (القضائي) إلى بحث في عدد من الأمور لتحقيق مناط الحكم (الشرعي)، أهمها: فهم الاتهامات الموجهة لحماس، ثانيا: حكم إعانة المشركين، ثالثا: إنزال وصف الشرك والردة على حماس، رابعا: إنزال وصف الردة على موسى أبو زماط، خامسا وأخيرا: اعتبارات الفتوى في الواقعة نفسها.
1. فهم الاتهامات الموجهة لحماس
أجملت "ولاية سيناء" تهمة الردة بتهريب السلاح لحماس في أربعة بنود: التمكين للحكم بغير ما أنزل الله، حرب المجاهدين بغزة وسيناء، مهادنة طواغيت مصر، الصد عن سبيل الله ومنع الهجرة لدار الإسلام بسيناء.
وفي محاولة معرفة الحكم الشرعي في هذه الاتهامات، فإنه لا يُجدي اللجوء إلى فتاوى المؤسسات الرسمية في مصر أو السعودية أو غيرها، فإن تلك المرجعيات غير معترف بها لدى الحركات السلفية الجهادية.
كذلك فإن مشكلة أخرى تبدو في الأفق، ذلك أن تنظيم الدولة لم تتكون له بعدُ مدونة فقهية ولم يبرز فيه منظرون شرعيون ولهم مؤلفات يمكن الاستناد إليها، وعامة ما يستدل به التنظيم في إصداراته يكون كلمات مقتبسة من ابن تيمية وآخرين. ومع أن التنظيم يعد خروجا عن تنظيم القاعدة إلا أنه مندرج في تصنيف "السلفية الجهادية" التي تستند في العموم إلى فتاوى ابن تيمية وابن القيم وفتاوى أئمة الدعوة النجدية مع تطويرات وأقيسة معاصرة، بلغت مستوى من النضج لدى تنظيم القاعدة الذي يمكن القول بوضوح بأنه له مدونة فقهية وتراثا علميا مكتوبا.
ومع هذا فلا تزال المناطات التي تنبني عليها أحكامٌ غيرَ محررةٍ في كثير من الأمور، إلا أن ما يخُصُّنا في سياقنا الآن هو هذه المفردات الواردة في اتهامات "ولاية سيناء" لحماس، وهي: التمكين، الحكم بغير ما أنزل الله، حرب المجاهدين، مهادنة الطواغيت، الهجرة، دار الإسلام.
وهي تلك المفردات التي ستصوِّر لنا كيف تكونت صورة المسألة لدى "ولاية سيناء" من جهة النظر الشرعي، التي انتهت إلى تنفيذها قتل من أعان كتائب القسام بالسلاح.
التمكين للحكم بغير ما أنزل الله: لا يختلف العلماء على أن تفضيل حكم غير الله على حكم الله كفر، أو أن جَحْدَ الحكم بما أنزل الله واستحلال تحكيم غيره كفر كذلك، لوضوح نص الآية ولإجماع العلماء فيه، ويمكن الاستدلال على هذا بفتاوى الأزهر الشريف وفتاوى اللجنة الدائمة الممثلة للموقف الديني الرسمي في السعودية، فالمسألة من حيث التأصيل يصعب إيراد خلاف فيهالكن موضع الخلاف العملي الكبير، في سياق الحركات الإسلامية المعاصرة، يكمن في مسألة "القدرة" أو "الاستطاعة" التي هي مناط التكليف. ومن البديهي أن الخلاف في شأن "الاستطاعة" سيثمر خلافا في شأن تطبيق الشريعة (وأظهر صورها: الحدود الشرعية الجنائية)، فالذي يرى أن تحرير شبر واحد ليوم واحد يوجب عليه إقامة شرع الله وتطبيق حدوده، لن يتفق بحال مع من يضع شروطا للتمكين والاستطاعة قد تجعل تأجيل الحكم بما أنزل الله يمتد لسنوات. وبهذا فإن الذي يؤجل هو عنده واقع في الكفر والردة. وهو الوصف الذي أنزلته ولاية سيناء على حكم حماس في قطاع غزة.
حرب المجاهدين: يستتبع الوصف بالكفر والردة لحركة حماس في غزة أن تكون واحدة من الأنظمة الكافرة التي تحيط بـ "المجاهدين" في "ولاية سيناء"، وأي خلاف قد يقع بين الطرفين لن يُفسَّر في ضوء الخلاف الممكن بين المسلمين أو الخلاف الناتج عن اختلاف المصالح أو تفاوت المراتب أو الأولويات، بل سيكون خلافا منشؤه العداوة الطبيعية بين الكفر والإيمان، حيث تمثل حماس معسكر الكفر في مقابل السلفية الجهادية في غزة أو سيناء.
مهادنة الطواغيت: توقيع الهدنة مع العدو جائز لدى الجميع من حيث هي حكم شرعي، وفي مسيرة الحركات الجهادية –بما فيها: السلفية الجهادية- مراحل وعروض هدنة على العدوالهجرة إلى دار الإسلام: من المعروف أن الهجرة كانت في بداية الدولة الإسلامية فرضا على المسلمين، حتى توقف هذا بعد فتح مكة حين قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية". ومن الطبيعي على حركات تقتفي أثر النبي وتحاول إقامة الدولة الإسلامية التي لم يعد لها وجود واقعي في العالم المعاصر أن تكون مسألة الهجرة في طليعة المسائل التي تستعين بها. وقد حشد تنظيم القاعدة وكثير من المتعاطفين مع تجربة طالبان أدلة الهجرة لتجميع الطاقات والقدرات البشرية المسلمة في بناء الدولة الإسلامية في أفغانستان (1996م). وهو ما تكرر فيما بعد في "دولة العراق الإسلامية" (2006م)، ثم في تجربة تنظيم الدولة الإسلامية (2014م).
كذلك فإن ثمة رافدا آخر في التراث الإسلامي يغذي مسألة الهجرة، وهي صورة المسألة التي بدأت كشذرات خفيفة متفرقة ولكنها تعززت وقويت واتضحت في زمن الانحسار الإسلامي مع سقوط الأندلس وسقوط المشرق الإسلامي بأيدي المغول ثم سقوط الدولة العثمانية، وهي ببساطة: ما حكم الإقامة تحت سلطة غير إسلامية. ومع وجود الاختلاف الطبيعي بين الفقهاء ثم الاختلاف في صورة الأحوال المتفاوتة لوضع السلطة غير الإسلامية ومدى حرية المسلم تحتها، إلا أن الرأي الأشهر والمعتمد عموما لدى السلفية عموما -وليس الجهادية فحسب- هو: وجوب الهجرة من الديار التي لا يستطيع المسلم فيها إقامة دينه إلى ديار الإسلام التي يتمكن فيها من هذابهذا التصور كان قيام ولاية سيناء يوجب على المسلمين في المناطق حولها الهجرة إليها، ومن ثم كانت الحيلولة دون هذا هو صورة من صور اضطهاد النظام الطاغوتي للمسلمين الواقعين تحت سلطانه، وصورة من صور معاداة الدولة الإسلامية نفسها، وقطع لأهم مواردها.
لهذا كله كانت إعانة موسى أبو زماط لحركة حماس، عند ولاية سيناء، هي ردة ناتجة عن كونه أعان المشركين (حماس) بالسلاح، وفي ذلك تقوية لهم على "الولاية الإسلامية في سيناء".
2. حكم إعانة المشركينليس ثمة خلاف في أن إعانة المشركين على المسلمين من الكبائر، فإن أضيف إليها ما يجعلها على صورة الولاء والمناصرة للكافرين على المسلمين فهو من الكفر، فكلام العلماء دائر في هذا بين أنها كبيرة وبين أنها كفر تبعا لتصورهم وجود أو انتفاء معنى الولاء والمظاهرة والمناصرة للكافرين.
ومن أمثلة هذا ما جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية "يحرم بيع السلاح لأهل الحرب ولمن يعلم أنه يريد قطع الطريق على المسلمين أو إثارة الفتنة بينهم، وقال الحسن البصري: لا يحل لمسلم أن يحمل إلى عدو المسلمين سلاحا يقويهم به على المسلمين، ولا كراعا، ولا ما يستعان به على السلاح والكراع؛ لأن في بيع السلاح لأهل الحرب تقوية لهم على قتال المسلمين، وباعثا لهم على شن الحروب ومواصلة القتال؛ لاستعانتهم به، وذلك يقتضي المنع"إلى هنا نكون قد انتهينا من تصوير الموقف كما فهمه "القاضي الشرعي" لولاية سيناء في إصداره حكم القتل ردة على موسى أبو زماط.
3. إنزال الوصف على حماس
بطبيعة الحال فلسنا نسعى هنا إلى تحرير هذه المسائل، وإنما المقصود هو بيان الإشكالات عليها، من مدونة السلفية الجهادية نفسها ومن معتمداتها المرجعية وسنركز في الاستدلال على مقولات من ابن تيمية في الجانب الشرعي، وعلى مقولات من أسامة بن لادن في الجانب السياسي والتنظيمي، لما لهما من مكانة مرجعية لدى تنظيم الدولة الإسلامية.
وهذه الإشكالات تجعل سائر ما سبق هو في أحسن أحواله نوعا من الاجتهاد الذي يوجد خلافه ويسوغ الخلاف فيه، فحيث كان في الأمر خلاف قوي كان هذا مانعا من إطلاق وصف الكفر والشرك وتنزيل حكم الردة، فمن المقرر شرعا: التشدد في التكفير وصرفه بما يندفع به ما أمكن من صوارف التأويل والإكراه. يقول ابن تيمية: "إن المُتَأَوِّل الذي قَصْدُه متابعةُ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يُكَفَّر، بل ولا يُفَسَّق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية"لكن حتى لو سلمنا الآن بأنه قراءة ممكنة للفقه والتراث فإن تنزيله على الحال متنازع عليه داخل تيار السلفية الجهادية نفسه. هذا مع أن كل تيار السلفية الجهادية لو اجتمع على رأي واحد في مسألة لم يجعله هذا راجحا بالضرورة فضلا عن أن يجعل القائل بغيره مستحقا لوصف الكفر، إذ تظل الاجتهادات الأخرى مانعة من إنزال حكم الكفر والردة على أصحابها. يقول ابن تيمية: "الصواب أنه من اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقصد الحق فأخطأ: لم يكفر؛ بل يغفر له خطؤه. ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين: فهو كافر. ومن اتبع هواه وقصَّر في طلب الحق وتكلم بلا علم: فهو عاص مذنب. ثم قد يكون فاسقا وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته. فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال يكون كافرا؛ بل ولا فاسقا بل ولا عاصيا"نبدأ بالسؤال: هل تحقق لحماس معنى "التمكين" الذي يخولها إقامة حكم الله في قطاع غزة؟
منذ تعرضت دولة طالبان إلى الانهيار على يد التحالف الدولي بعد غزو أفغانستان حتى ظهر في التنظير الجهادي مراجعات لمسألة "إعلان الدولة"، وهي مراجعات مبنية في أصلها على الخلاف في تحقق "التمكين" المطلوب لقيام الدولة، والسؤال هو: هل يتحقق التمكين في أرض لا يمكن للمجاهدين الدفاع عنها ولا حمايتها من القصف الجوي مثلا، فسلاح الطيران هو المعضلة الكبرى في مسألة التمكين.
جاء في وثائق بوت آباد رسالة من أسامة بن لادن إلى أبي بصير (ناصر الوحيشي، أمير تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية)، تقول بوضوح: "بخصوص قولكم إن أردتم صنعاء يوما من الدهر فهو اليوم؛ فنحن نريدها لإقامة شرع الله فيها إذا كان الراجح أننا قادرون على المحافظة عليها؛ فالعدو الأكبر رغم استنزافه وإضعافه عسكرّيا واقتصادّيا قبل الحادي عشر وبعده إلا أنه مازال يمتلك من المعطيات ما تمكنه من إسقاط أي دولة نقيمها رغم عجزه عن المحافظة على استقرار تلك الدول، والمجاهدون -بفضل الله- ينازعونه وحلفاءه، ولكم عبرة في إسقاط دولة الطالبان وإسقاط حكومة صدام ولا تخفى عليكم تجارب (سورية، ومصر، وليبيا) وإن استنفار الخصوم في اليمن لا يقارب البتة باستنفارهم في أفغانستان؛ فاليمن بالنسبة للأعداء كالذي هدده الخطر داخل بيته فهي في قلب الخليج أكبر مخزون نفطي في العالم، فلا نرى أن نزج أنفسنا وأهلنا في اليمن في هذا الأمر في هذا الوقت قبل أن تتهيأ الأوضاع فنكون كالذي يبني في مجرى سيل فإذا سال اجتاح ذلك البناء وأسقطه، ثم إذا ما أردنا بناء البيت مرة ثانية نفر الناس وانفضوا عن مساعدتنا في البناء؛ فإني أرى أن تبقى اليمن هادئة وإنا ندخرها كجيش احتياطي للأمة". واستشهد في نفس السياق بتجربة عبد الكريم الخطابي في المغرب وكيف انهارت دولته لما أقامها قبل وصول الصليبيين إلى مرحلة الضعف التي تعجزهم عن إسقاط دولته، وبتجربة جبهة الإنقاذ في الجزائر، وبتجربة مروان حديد في سوريا، والجماعة الإسلامية في مصر، والجماعة المقاتلة في ليبياوبالقياس إلى هذا الكلام فإن وجود حماس في خاصرة "إسرائيل"، وهي القاعدة العسكرية المتقدمة للنظام العالمي في بلادنا، فإن حساسية الوضع فيها مساوية لحساسية اليمن إن لم تكن أكبر وأخطر.
والأمر نفسه يتكرر في العديد من الرسائلويتفرع عن مفهوم "التمكين" هذا مفهوم آخر، وهو: هل المنطقة التي استطاع المجاهدون السيطرة عليها تحولت إلى دار إسلام يجب إقامة الحدود فيها لتوفر القدرة على ذلك، أم أنها لا تزال منطقة ثغور تجري عليها أحكام الحرب التي تحفها الكثير من الضرورات، ومن بينها: عدم تطبيق الحدود فيها لما قد يترتب عليه من أضرار. وهي المسألة التي شهدت جدالا طويلا باللسان وبالسلاح في الثورة السورية، بين تنظيم الدولة من جهة وبقية الفصائل من الجهة الأخرى.
من المعروف أن مجرد الوصول إلى السلطة لا يساوي التمكين، فإن للدولة الجديدة زمنا تقضيه في تمهيد أمرها وتثبيت سلطانها، وهذا أمر أظهر ما يكون في واقعنا المعاصر الذي صار فيه العالم محكوما بهيمنة غير مسبوقة من "نظام عالمي". ومن أشهر ما يُستدل به على مثل هذه الحالة: حالة النجاشي لما أسلم، فمع أنه كان ملكا على قومه النصارى وانتصر على انقلاب عليه واستعاد ملكه، إلا أنه عجز عن إقامة أحكام الإسلام، يقول ابن تيمية: "إن كانت خلافة النبوة واجبة مع القدرة؛ [فإنها تسقطومثل تلك الأمور مرجعها في النهاية إلى التقدير الذي يتفاوت فيه الرأي والاجتهاد، وإنما يُفرَّق بين العاجز وبين التارك بمجموع القرائن والأحوال المحتفة به.
وبالعودة إلى تنظيرات القاعدة، باعتبارها ما نملك من المدونات السياسية للسلفية الجهادية لنقيس إليها تصرفات ولاية سيناء، نجد وثيقة من بوت آباد، هي على الأرجح رسالة من أسامة بن لادن إلى طرف آخر هو على الأرجح أمير القاعدة في المغرب، وهي تطابق في بعض مقاطعها رسالته إلى ناصر الوحيشي أمير القاعدة في الجزيرة العربية، تذكر فقرة منها: "من المقومات المهمة لنجاح إقامة دولة في هذه الظروف والمحافظة عليها إعداد ما يكفي للقيام بشؤون الناس، عندما سنقيمها سيحاصرها العدو من كل جانب حيث أنه لا يخفى عليكم أن معظم المجتمعات العربية تحكمها الدول الحديثة، وقد خرجت منذ زمن عما كان عليه المسلمون قديما؛ فقد كانت مهمة الدول تطبيق أحكام الشرع بين الناس، وحفظ الأمن الداخلي، وصد الهجوم الخارجي، والناس في ظل الأمن تبحث عن أرزاقها بأنفسها، بينما الدولة الحديثة تجعل الناس أسرى لها وتجعل العرف في أذهان الناس عن الدولة أنها أملزمة بتوفير أرزاق ووظائف للناس، وعدم توفيرها من أهم عوامل ثورتهم عليها مع ملاحظة أن كثيرا من الكماليات في الحياة سابقا أصبحت من الضروريات حاليا. وهذا الفرق فرق جوهري فلم يعد توفير القوة العسكرية الكافية للسيطرة على البلاد والحسم مع العدو المحلي هو العامل الوحيد لحسم الأمر"ثانيا: فلو سَلَّمْنا بأن حماس قد حققت التمكين المطلوب من حكم قطاع غزة، فهل هذا التمكن بنفسه كافٍ في تطبيق الشريعة، أم أن تطبيق بعض صورها يترتب عليه من الضرر ما يبلغ درجة العجز وعدم تحقق الاستطاعة التي هي مناط التكليف؟ بصيغة أخرى: هل "الاستطاعة" هي مجرد القدرة على الإنفاذ بغض النظر عما يترتب عليه، أم هي تشمل وتستلزم القدرة على آثاره أيضا؟
يقول ابن تيمية: "مما ينبغي أن يُعْرَف أن الاستطاعة الشرعية المشروطة في الأمر والنهي لم يكتف الشارع فيها بمجرد المُكْنَة ولو مع الضرر، بل متى كان العبد قادرا على الفعل مع ضرر يلحقه جُعِل كالعاجز في مواضع كثيرة من الشريعة"وهذا التأصيل مستند إلى حديث تغيير المنكر، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم "فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه"، يدل على هذا المعنى، إذ مجرد القدرة على الإنكار باللسان يستطيعها أي قادر على الكلام، ولا يُتَصَوَّر فيها عدم الاستطاعة، فأما حيث عذر النبي من لم يستطع التغيير باللسان فقد عرفنا منه أن الاستطاعة تعني استطاعة ما يترتب عليه من آثار.
ثالثا: هل سياسة حماس تجاه ولاية سيناء تقع تحت وصف "حرب المجاهدين"؟
من المتفق عليه أن الحرب بمعناها الهجومي من قبل حماس على "ولاية سيناء" غير متحقق، بل غاية ما يمكن وصف سياسة حماس تجاه "ولاية سيناء" أنه تحصين مناطقها لئلا تُسْتَعْمَل لصالح الولاية.
وهنا يقدم الموقف الحمساوي العديد من المبررات تبدأ من مبدئها بعدم التدخل في شؤون الدول والصراعات الداخلية فيها، وهو ما جرت عليه الحركة حتى مع جماعة الإخوان نفسها التي تعد حماس جزءا منها أو فرعا عنها، وتنتهي عند الخطورة التي تمثلها ولاية سيناء على نظام حماس فكرا وسلطة حكم معا! وبين الأمرين طابور من المبررات التي تشتمل على نزع ذريعة النظام المصري التي هي مضطرة للتعامل معه في مسائل عديدة أهمها معبر رفح، نزع التهمة عنها بممارسة أو دعم الإرهاب، والاختلاف الفكري بين مدرستي الإخوان والسلفية الجهادية، وسلطتها الطبيعية كنظام حكم يلزمه السيطرة على الأوضاع الأمنية والعسكرية في نطاقه لما لها من تبعات سياسية وعسكرية وغيره.
وبصرف النظر الآن عن مدى الصحة والخطأ في كل هذا، إلا أن كل واحد من هذه المبررات –فضلا عن اجتماعها معا- يقف عائقا كبيرا أمام رمي سياستها بوصف "حرب المجاهدين" الذي ينصرف معه المعنى إلى موالاة الكافرين ضد المسلمين، وإعانة المشركين على المسلمين، إذ في كل مبرر منها من موانع التأويل والإكراه بل ويجوز إضافة مانع "الجهل" نظريا، بحيث يمنع كل هذا من إطلاق حكم الكفر عليها.
ثم إنه من الثابت بتواتر الأخبار والتصريحات والمواقف من قبل حماس والسلطة المصرية أن حماس قاومت ضغوط المخابرات المصرية لتقديم معلومات أو المساعدة في القبض على عناصر تتهمهم السلطة المصرية بالضلوع في العمليات "الإرهابية" من وجهة نظرها.
وبعد هذا كله فإن قناعة "حماس" بأن وصف "المجاهدين" لا ينطبق على "ولاية سيناء" مانع من جعل محاربتهم إياها، لو أنهم حاربوها فعلا، واقعة في وصف الكفر والردة، فإن وقوع القتال بين المسلمين لا يؤدي بنفسه إلى الوقوع في الكفر، إلا إذا احتف بقرائن أخرى، بل ولا هو مُخْرِجٌ من وصف الإيمان، ففي الآية {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه} [الحجرات: 9] فأثبت القرآن وصف الإيمان لهما مع اقتتالهما، بل ومع بغي أحدهما على الأخرى.
وفي هذا المعنى يذكر ابن تيمية أن "من عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون، وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفراً، وقد يكون كفراً لأنه تبيّن له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق، والآخر لم يتبيّن له ذلك فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يَكْفُر إذا قاله أن يُكَفِّر من لم يعلم بحاله"رابعا: كيف يكون استعمال السلاح في مهادنة الطواغيت؟
من بين قائمة الاتهامات ذكر إصدار الولاية أن حماس تستعمل السلاح المهرب إليها في "مهادنة طواغيت مصر"، وهو اتهام غريب واضح التعسف، ذلك أن الهدنة تكون بين عدوين الأصل بينهما الحرب، وعلى رغم العداوة المكتومة بين الطرفين إلا أن كليهما لم يسع في إنشاب حرب مباشرة ضد الآخر. وميثاق حماس الذي يحدد سياستها يؤكد على أنها لا تتدخل في شؤون الدول الأخرى، وعلى رغم التهديدات الكثيرة التي تلوح بها وسائل الإعلام المصرية من قصف مصري على غزة أو مشاركة في حرب عليها فإن الرد الحمساوي المتكرر هو: الرد بإطلاق الصواريخ على تل أبيب.
بهذا يظهر بوضوح أن تهريب السلاح إلى حماس لا يصب بحال في إقرار أو تثبيت هدنة مع النظام المصري، بل هو مدعاة إلى ردعه إن دخل في حرب مباشرة معها، أو ردعه بقصف العدو الإسرائيلي الذي يملك الضغط عليه وإيقافه. وهكذا يكون السلاح الذي تملكه حماس متوجها بالأساس إلى العدو الصهيوني، وهي جهة يتفق عليها المسلمون. ما يعني بشكل مباشر أن إعانة حماس بالسلاح مساويا لإعانتها وبشكل حصري ضد إسرائيل.
خامسا: هل ولاية سيناء هي دار الإسلام؟
دعوى أن سيناء هي "دار إسلام" بالمفهوم الذي تقصده ولاية سيناء هي دعوى ظاهرة البطلان، فلئن كنا جادلنا فيما سبق في حصول حماس على التمكين اللازم لها لتطبيق الشريعة فإن الجدال في حالة ولاية سيناء أظهر بكثير. إذ لا تحوز الولاية في مناطق سيناء على عشر معشار التمكين الذي تحوزه في غزة، ولا تزال السيادة عليها للنظام المصري. ومع هذا فإن حماس نفسها لا ترى أن غزة "دار إسلام" بالمعنى المقصود في الفكر الجهادي، وإن أحسن ما يمكن وصف سيناء به أنها دار مركبة، وهو الوصف الذي أطلقه ابن تيمية على ماردين حين حكمها المغول، فكانت دار إسلام من جهة أن أهلها مسلمون ودار حرب من جهة أن الأحكام التي تعلوها ليست إسلامية.
ولا أحسب أن هذا الأمر مما يحتاج نقاشا طويلا لوضوحه وظهوره، ومن ثم فإن مسألة "منع الهجرة إلى دار الإسلام" يقف أمام تحققها عوائق كثيرة، من حيث انطباق وصف دار الإسلام عليها، وانطباق صفة المجاهدين على "ولاية سيناء"، ثم من حيث الأضرار التي تقدر حماس أن تعود عليها جراء عدم "ضبط الحدود" إقليميا وعالميا.
ولمرة أخرى، وبغض النظر عن صحة أو خطأ حماس في سياستها هذه، فإن ورود هذه الموانع يحول دون إطلاق وصف الكفر عليها.
سادسا: وصف حماس لدى السلفية الجهادية
حضرت حماس مرات عديدة في أدبيات السلفية الجهادية، للعديد من الأسباب أهمها: كونها حركة مجاهدة ولكنها لا تعتنق أفكار السلفية الجهادية بل هي محسوبة على الإخوان المسلمين، وهو ما استدعى بيان الموقف منها ومن طريقتها في الجهاد والتعامل مع سلطة فتح. كذلك فإن مركزية قضية المسجد الأقصى تجعل حضور الجدال حول حماس يتجدد دائما. كذلك مثلت حركة حماس نقطة حرجة في العلاقة بين "الجهاد" وبين "منهج الإخوان" الذي اعتمد السلمية والإصلاح المتدرج، فحماس واقعة بين انتماء لمدرسة الإخوان لا يعتمد طريقة الإصلاح والتدرج وبين انتماء لسبيل الجهاد لم ينتج من افكار السلفية الجهادية. وهاهنا ثمة تناقض آخر يزيد المسألة حضورا وحرجا، ذلك أن الثناء الكبير الذي أزجاه لحماس زعيمُ الجهاديين العرب عبدُ الله عزام الذي هو بمثابة الأب الروحي للجهاديين المعاصرين يقف في مقابل الشجار المستعر المستمر بين السلفية الجهادية والإخوان، مما جعل حالة حماس حالة خاصة يدور حولها الكثير من الجدل.
على حد ما أعلم فإن أول محاولة تصنيفة مدرسية تحاول صياغة موقف من حماس كانت محاولة أبي معصب السوري –منظر ومؤرخ الجهاديين- في كتابه "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية"، حيث فرَّق بين "الجهادي" و"المجاهد"، وأكد على أن التفرقة هي تفرقة مدرسية تصنيفية، حيث صار "الجهادي" علما يعبر عن المدرسة التي تمتد من سيد قطب ثم عبد الله عزام ثم تأخذ من الاختيارات الفقهية السلفية فيما يخص الحكام ودخول المجالس النيابية، بينما صار "المجاهد" هو من جاهد ضد احتلال خارجي أو نظام محلي لكن دون أن يستقي مجمل أفكاره من "المدرسة الجهادية"وفي هذا الشأن نجد فتوى من أبرز رموز الشرعية في القاعدة وهو عطية الله الليبي، فبحسب ما نشر من وثائق بوت آباد، فقد أرسل تنظيم "جند الإسلام" في غزة يسأل عن الرأي الشرعي في قبول أموال من هذه التنظيمات للإعانة على جهاد اليهود، فتضمنت فتوى الشيخ محمود(عطية الله الليبي)وأما أسامة بن لادن نفسه، فآخر موقف نعرفه منه فيما يخص حماس ما جاء في رسالته إلى ناصر الوحيشي، قال: "بخصوص الحديث عن حماس فيجب أن نراعي أن حماس لها أنصار كثر نحسبهم أنهم حريصون على نصرة الحق والدين، وقد تغيب عليهم بعض المعاني الشرعية المهمة، ولا نريد أن نعين الشيطان عليهم ومرور الوقت مع توضيح أخطاء قادتهم بلطف يساعد في انتباههم لتلك الأخطاء وتجنبها"وهذا الموقف المتأخر سبقته مواقف أخرى لا تبعد عنها، فقد وصفها (1995م) بأنها في مقدمة الحركات الجهادية في فلسطينوكان أشد ما خرج من قيادة القاعدة تجاه حماس ما جاء في خطاب أيمن الظواهريمع أن الظواهري ليس مُقَدَّرًا لدى تنظيم الدولة، بل هم يتهمونه بالتبديل والانحراف ويطعنون فيه، كما ليس هذا مقام مناقشة كلامه وصحة توقعاته أو خطئها، إلا أننا أوردنا كلام الظواهري هنا لبيان أنه في أشد حالات المهاجمة من قبل تنظيم القاعدة –ممثل السلفية الجهادية وقتها- لم يصل إلى رميها بالكفر والردة، ولم يشمل بهذا الوصف عمومها، بل خصَّص قيادتها بالاتهام دون بقيتها، وحتى هذه القيادة لم يطلق عليها وصف الكفر والردة، مع ما يعتقده من وقوعهم في "انحراف عقدي".
وقد أحدثت الكلمة ردود فعل تجاه الظواهري، لما فيها من قسوة، فأظهر أسامة بن لادن دعمه لكلامه واعتبر أن دخول حماس للانتخابات إنما كان استجابة لإغواء السعودية، فقال: للعقلاء أن يعتبروا بما آلت إليه قيادة حماس، حيث أضاعت دينها ولم تسلم لها دنياها، عندما أطاعت حاكم الرياض وغيره بالدخول في دولة الوحدة الوطنية واحترام المواثيق الدولية الظالمة، فهلا قام الصادقون في حماس ليصححوا مسارها"وهكذا كان الخطاب القاعدي في أشد لحظاته هجوما على حماس مفرقا بين القيادة والأنصار، مقصرا هجومه على القيادة، ولم ينزل عليها وصف الكفر أو الردة مع قناعته بأن دخول المجالس النيابية هو من أعمال الشرك، لوجود مانع التأول حتى ولو كان فاسدا عندهم.
4. إنزال الوصف على موسى أبو زماط
كل ما سبق من الموانع التي تمنع إطلاق وصف الكفر والردة على حماس هي ذاتها موانع من إطلاق وصف الردة عن موسى أبو زماط حين أمدها بالسلاح. هذا أولا.
ثم لو سلمنا بصحة وقوع حماس في الكفر والردة فليس هذا كافيا لإنزال وصف الردة عليه، وذلك أنه قد يكون متأولا في إعانته لهم، بسابق جهادهم وسابق وحاضر الظاهر من أحوالهم في نصرة الدين والتمسك به والعمل له. فإن كان متأولا منع هذا من الحكم بردته. بل التأول هو أظهر الشبهات في حالة حماس، إذ أن عامة الأمة ترى فيها حركة مجاهدة ذات سبق وتضحية، بل لا يبعد أن تكون مثل هذه الشبهة العامة متحققة في حالة حزب الله اللبناني لدى عموم الناس ممن لا يطلعون على ما أحدث في الثورة السورية. فهذه شبهة عامة تمنع من إدراج من أعانهم في وصفهم.ثم لو سلمنا بأنه يراهم كفارا مرتدين، بل وحتى لو رآهم كفارا أصليين لكان على القاضي النظر في حجته، وما إن كان مضطرا لمثل هذا لحاجة إلى المال أو لمنفعة تعود عليه من بيع وتهريب هذا السلاح إليهم.
وبعد هذا كله، فإن إمداد حماس بالسلاح في ظل ما هو معروف عنها من النأي بنفسها عن الوضع المصري وانصرافها بالقتال إلى الإسرائيليين، لا ينطبق عليه وصف إعانة المشركين على المسلمين، بل هو إعانة فريق من "الكافرين والمرتدين" على اليهود المحتلين وهم كفار أصليون ومحتلون. وهذا ما لا يؤدي بحال إلى إنزال وصف الردة عليه بمساعدته إياهم بتهريب السلاح.
يقول ابن تيمية: "التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعيّن، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعيّن، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع"5. اعتبارات الفتوى
لو سلمنا لولاية سيناء بكل ما سبق: بوقوع وصف الردة والكفر على حماس، وبوقوعها على موسى أبو زماط، وباستحقاقه القتل عقوبة على هذا. فيبقى على صاحب الفتوى أو الحكم القضائي أن ينظر في آثار هذه الفتوى وما يترتب عليها في الحالة المخصوصة، ومنها: ما قد يهيجه هذا من عداوات قبلية للتنظيم، وآثاره على الحاضنة الشعبية السيناوية، وآثاره على نفور الشباب الإسلامي الذي لديه ميول لحماس أو للإخوان أو حتى الذي يقدم من خلفية حمساوية وإخوانية، وما يضيفه من التحفز والعداوة من قبل حركة حماس في غزة وحاضنتها الشعبية، وهو ما ينعكس سلبا على أحوال المناصرين للتنظيم في غزة وفي فلسطين، ثم ما يهيجه هذا من عداوات علمية وفقهية من مشايخ وعلماء لهم كلمتهم المسموعة أو حتى نصف أو ربع المسموعة لدى العديد من الشباب. وما يؤكده مثل هذا العمل مما يشاع عنهم من أنهم صنيعة إسرائيلية أو مخابراتية أو على الأقل مخترقون من قبل أجهزة أمنية تعمل على تنفيذ أهدافها من خلالهم.
ومع هذا، فإن إضعاف حماس بالحيلولة دون تهريب السلاح إليها إنما يصب في النهاية في المصلحة الإسرائيلية والمصرية، فلو أن الأطراف الثلاثة هم جبهة عداء لولاية سيناء لاقتضى النظر الشرعي والسياسي ألا يُصار إلى إضعاف أحدهم طالما أنه يقوم ببعض الغَناء تجاه عدو آخر، هذا فضلا عن أن يكون هذا الطرف هو الأضعف في ترتيب القوة، فليست الخطورة التي قد تمثلها حماس على ولاية سيناء كمثل التي تمثلها إسرائيل أو النظام المصري، فكلاهما يشترك ضد التنظيم في عمليات مشتركة وإسناد جوي فضلا عن التعاون الاستخباري بينهما.
كذلك فإن بعض القيود التي وضعها الشرع على تطبيق الحدود في حال الحرب، والتنظيم لا يزال يتراجع ويفقد قوته وقدرته تدريجيا أمام الجيش المصري، كما أنه يفقد تدريجيا حاضنته الشعبية السيناوية، ويفقد عددا مؤثرا من قياداته وعناصره طوال السنوات الماضيةثم يأتي السؤال: ما البديل المتوقع ظهوره في حال سقوط حماس في قطاع غزة؟ وهل هو أحسن من نظام حماس؟
إن مدونة تنظيم القاعدة تسفر عن مادة كبيرة في أمثال هذه الاعتبارات، ففي الرسالة التي وجهها أسامة بن لادن إلى ناصر الوحيشي أمير القاعدة في الجزيرة العربيةوعن اعتبارات البدائل: "ليس من المصلحة التسرع في العمل على إسقاط النظام فهو رغم ردته وسوء إدارته إلا أنه أخف ضررا ممن تريد أمريكا استبداله بهم"، فبالرغم من تصريحه بوقوع الردة إلا أنه اعتبر مآلات سقوط نظامه من جهة المصالح والمفاسد.
الخاتمةاقتصرت هذه الورقة على مناقشة الاستدلال الشرعي لولاية سيناء في إنزالها حكم الردة على موسى أبو زماط لتعاونه في تهريب السلاح إلى حركة حماس في قطاع غزة، واستندت في هذا النقاش على المدونات الفقهية والحركية لتيار السلفية الجهادية نفسه المتمثل في تنظيم القاعدة، وخلص إلى الآتي:
1. تقوم موانع عدة دون إنزال كل وصف وارد على الواقعة محل النظر2. ذلك النوع من المسائل ليس جديدا يتناوله التيار الجهادي لأول مرة، بل هي مسألة مبحوثة من قبل ولها فيه نقاش ونتائج3. وحركة حماس نفسها بوضعها الحالي كانت مسألة مبحوثة في فكر السلفية الجهادية ولم تصل فيها لا إلى حد تكفيرها فضلا عن تكفير من يتعاون معها4. إنزال الحكم بالردة على مثل هذه الواقعة هو خروج عن أصول تيار السلفية الجهادية نفسه، ومن هنا تبدأ داعش لتكون في تأصيلاتها أقرب إلى الخوارج في تكفيرهم بما ليس بمكفر5. وحتى لو سُلِّم من جهة النظر الشرعي ببناء الحكم القضائي فإن اعتبارات الفتوى في الواقعة نفسها تمنع من القضاء به لما له من آثار وتبعات تعود بالضرر على مجمل الحال
وهنا ينبغي التفكير بجدية وبعمق في الفصل بين تنظيم الدولة الإسلامية وبين تيار السلفية الجهادية، لنكون أمام فصيل أكثر تشددا من فصائل السلفية الجهادية، وربما يكون البداية لتيار جديد تكون السلفية الجهادية إلى جواره تيارا معتدلا وناضجا.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
انظر مثلا: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتاوى اللجنة الدائمة: المجموعة الأولى، جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، (الرياض: رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء)، 1/785 - فتوى رقم (5966). بل إن محاولة التهوين من الأمر ووجه بالردود من قبل علماء السعودية، وجُمِع بعض إنتاجهم في كتاب "التحذير من الإرجاء وبعض الكتب الداعية إليه"، ومما جاء فيه للشيخ صالح الفوزان في سياق رده على كتاب خالد العنبري، قول الفوزان:"كفر من حكم بغير ما أنزل الله لا يقتصر على الجحود ، بل يتناول الاستبدال التام ، وكذا من استحل هذا العمل في بعض الأحكام ولو لم يجحد ، أو قال : إن حكم غير الله أحسن من حكم الله ، أو قال : يستوي الأمران ، كما نص على ذلك أهل العلم ، حتى ولو قال : حكم الله أحسن ولكن يجوز الحكم بغيره ، فهذا يكفر مع أنه لم يجحد حكم الله وكفره بالإجماع". اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، التحذير من الإرجاء وبعض الكتب الداعية إليه، ط2 (مكة المكرمة: دار عالم الفوائد، 1422هـ)، ص35. الأمثلة كثيرة ومشهورة، منها إعلان الجماعة الإسلامية المصرية وقف العمليات ضد النظام المصري من جانب واحد، ومنها نصيحة أسامة بن لادن أمير تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية ناصر الوحيشي بالسعي نحو تهدئة مع النظام اليمني. (انظر: وثائق بوت آباد، الدفعة الأولى، وثيقة رقم 16، ص109). جاء في فتوى اللجنة الدائمة رقم (2635) "كل بلاد أو ديار، لا يقيم حكامها وذوو السلطان فيها حدود الله، ولا يحكمون في الرعية بحكم الإسلام، ولا يقوى المسلم فيها على القيام بما وجب عليه من شعائر الإسلام؛ فهي دار كفر، وذلك مثل مكة المكرمة قبل الفتح، فإنها كانت دار كفر، وكذا البلاد التي ينتسب أهلها إلى الإسلام، ويحكم ذوو السلطان فيها بغير ما أنزل الله، ولا يقوى المسلمون فيها على إقامة شعائر دينهم، فيجب عليهم أن يهاجروا منها، فرارا بدينهم من الفتن، إلى ديار يُحْكَم فيها بالإسلام، ويستطيعون أن يقوموا فيها بما وجب عليهم شرعا". وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الكويت، الموسوعة الفقهية الكويتية، ط1 (القاهرة: دار الصفوة، 1992)، 25/152. عبد العزيز بن باز، مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز، جمع وإشراف: محمد بن سعد الشويعر، (الرياض: دار القاسم، 1420ه)، 1/269. ابن تيمية، منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط1 (الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود، 1986م)، 5/239. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، (المدينة المنورة: مجمع الملك فهد، 1995م)، 12/180. وثائق بوت آباد، الدفعة الأولى، إشراف ونشر: مركز مكافحة الإرهاب في ويست بوينت (Combating Terrorism Centre at West Point)، تفريغ وجمع وإعداد: نخبة الفكر، (ربيع الآخر 1436هـ = يناير 2015م)، وثيقة رقم (16)، ص108 وما بعدها، ووثيقة رقم (17) ص119، 120، 125، 130 وما بعدها. وانظر: وثائق بوت آباد، الدفعة الثالثة، ص62، 63. في وثائق بوت آباد، الدفعة الثالثة، ص61 رسالة إلى القاعدة في المغرب يغلب على الظن من أسلوبها أنها لأسامة بن لادن جاء فيها: "التأكيد عليهم بعدم الإلحاح على قيام دولة إسلامية الآن، بل العمل على كسر شوكة العدو الأكبر، كضرب السفارات الأمريكية في دول إفريقيا كالسيراليون وتوجو وشركات النفط الأمريكية بالدرجة الأولى". إضافة يقتضيها السياق. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 35/ 25. وثائق بوت آباد، الدفعة الأولى، وثيقة رقم (17)، ص124؛ وانظر: أسامة بن لادن، مجموعة رسائل وتوجيهات الشيخ المجاهد أسامة بن لادن، (نسخة إلكترونية: نخبة الإعلام الجهادي – قسم التوثيق، 1436هـ = 2015م)، ص770. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 8/ 439. ابن تيمية، الصارم المسلول على شاتم الرسول، (السعودية: طبعة الحرس الوطني السعودي، 1403هـ = 1993م)، ص359. ابن تيمية، الصارم المسلول، ص359، 360. ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، 5/251. ابن تيمية، الرد على البكري، تحقيق: محمد علي عجال، (المدينة المنورة: مكتبة الغرباء، 1417هـ)؛ 2/ 494. انظر: أبو مصعب السوري، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، نسخة إلكترونية، ص697 وما بعدها. والدليل الأكيد على أن الشيخ محمود هو أبو عطية الله الليبي أن هذه الرسالة منشورة في الأعمال الكاملة لعطية الله الليبي. الدفعة الأولى، الوثيقة (8)، ص45، 47؛ الزبير الغزي (جمع وترتيب)، الأعمال الكاملة للشيخ الإمام الشهيد المجاهد عطية الله الليبي، ط1 (نسخة إلكترونية: دار المجاهدين، 2015م)، ص994، 995. الدفعة الأولى، الوثيقة (16)، ص115؛ وانظرها أيضا في: مجموعة رسائل وتوجيهات الشيخ المجاهد أسامة بن لادن، ص762. بيان رقم (17) من بيانات هيئة النصيحة والإصلاح، وهو رسالة مفتوحة للملك فهد، نشرت بتاريخ 5 ربيع الأول 1416 = 3 أغسطس 1995. وهي منشورة في: مجموعة رسائل وتوجيهات الشيخ المجاهد أسامة بن لادن، ص183. مجموعة رسائل وتوجيهات الشيخ المجاهد أسامة بن لادن، ص456. بعنوان: "إن فلسطين شأننا وشأن كل مسلم"، نشر بتاريخ 22 صفر 1428هـ = 11 مارس 2007م، عبر مؤسسة السحاب التابعة للقاعدة. مجموعة رسائل وتوجيهات الشيخ المجاهد أسامة بن لادن، ص644، ص654. الأعمال الكاملة للشيخ عطية الله الليبي، ص1372 وما بعدها. ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، 12/ 487، 488. ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، 12/ 466. انظر: التقرير الشهري للمشهد السيناوي الذي ينشره المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية. وثائق بوت آباد، الدفعة الأولى، وثيقة رقم (16)، ص108 وما بعدها.
Published on January 23, 2018 04:00
January 17, 2018
الشيخ الغزالي، كيف يفكر وكيف يزن الرجال
لعل أحكم تعريف للتاريخ هو أنه "ما يحتاج الناس إلى تذكره"وقد ناهز الشيخ الغزالي ثمانين عاما وقعت فيها ثورتان في مصر، الأولى (1919م) لم يدركها وإنما عاش آثارها إذ وقعت وعمره عامان فحسب، وأما الثانية (1952م) فقد عاشها كلها منذ البذور وحتى الثمار، وكان عقدا الخمسينيات والستينيات حافلا بالثورات في أنحاء العالم العربي والإسلامي، فكان حضور شأن الثورة وأبطالها واقعا في فكر كل مهموم بحال الأمة فضلا عمن كان في الصدر من دعاتها ومشايخها كالغزالي. فإن زدنا على هذا أن الثورتين كلتيهما فشلتا وانتهتا إلى عكس مقصودهما وعادتا على المسلمين بالوبال الذي كان سابقه خيرا منه فلا بد لمن كان مثل الغزالي أن تكون له في تلك الأمور نظرات وتأملات وآراء أنشأتها المعاناة ومرارة الحصاد.
خلاصة مشروع الغزالي
يسوق الاستقراء العام لإنتاج الشيخ وتتبع مواضيعه المُلِحَّة إلى نتيجة مفادها أن نكبة الأمة التي كانت على يد الاستعمار الحقود والاستبداد المظلم إنما ترجع إلى تخلف الأمة وضعفها، وضعفها هذا راجع إلى أن أهل الدين فيها لم يقوموا بدورهم الواجب عليهم، وتقصيرهم هذا إما راجع إلى الجهل وسوء الفهم أو إلى الأمراض النفسية وسوء الخلق.وهكذا نستبين أربعة أمور متضافرة تعمل على إنهاك الأمة وإضعافها وإبقائها في الضعف: الاستعمار، الاستبداد، والجهل، وسوء الخلق. ومن تلك الأربعة تنتج سائر الأمراض:
1. الاستعمار يهودي وصليبي وشيوعي ووثني وكله يفتك بالمسلمين شرقا وغربا، ويحاول تثبيت هيمنته بالغزو الفكري والثقافي الذي يقوى ويتمدد في الفراغ الذي تحدثه الأسباب التالية
2. والاستبداد وريث الاستعمار وهو من ثمرته إلا أن له جذورا في تاريخنا وتراثنا ينبغي التصدي له إلا أنه في حالتنا المعاصرة مدعوم بالاستعمار وخادم له ومنشيء لأمراض غير مسبوقة من الفساد والمظالم والجرائم.
3. الجهل الذي يُمَكِّن للاستعمار والاستبداد في أرضنا، وأصله انحراف في الفهم الصحيح للدين يجعل المسلمين متعلقين بالوهم والخرافات أو لديهم تشوه في النظر الصحيح المعيق لفهم القرآن والسنة ومراتب الأدلة وطريقة الفقه والترجيح السليم، وهو ما يؤدي إلى انحراف المجهود من مواجهة العلل الحقيقية والكبرى إلى قضايا هامشية فرعية، وقد يحرف الغاية إلى حرب المصلحين أنفسهم
4. سوء الأخلاق الذي ينتج من سائر الأسباب السابقة ثم هو يرسخها ويُمَكِّنُها، ويكون من وسائلها وأدواتها في مهاجمة المصلحين وتشويه رسالتهم وأغراضهم.
والحل الذي دندن حوله الغزالي يتلخص في معالجة تلك الأمور الأربعة، وتكون بدايته بمجدد أو مجموعة منهم تحقق فيهم رقي الخلق وحسن الفهم، تبث في الأمة أو في شبابها على الأخص روح الهمة العالية المتسلحة بالفقه الصحيح لتجاهد موروثات الجهل والضعف ودعائمها من الاستبداد والاستعمار. ونستطيع أن نضع كل إنتاج الشيخ الغزالي في واحدة من تلك الأربعة، وبتقدير عام نستطيع القول إن مؤلفات الغزالي انقسمت بين مواجهة الاستعمار والاستبداد من ناحية وإصلاح الجهل وسوء الخلق من ناحية أخرى، مع زيادة ملحوظة في إنتاجه الموجهة نحو إصلاح الجهل وسوء الخلق.
على وفق مشروع الغزالي رُسِمت ملامح الزعماء في فكر الشيخ، فهو حفيٌّ بكل من انطلق من الإسلامرؤية جامعة
ولذلك يجتمع في عقل الغزالي وقلبه من يُنظر إليهم كاتجاهات متقابلة أو متوازية أو حتى متضادة في وعي آخرين أو في التصنيف المعتمد على اعتبارات أخرى، فالمصلحون الكبار عند الغزالي الذين تكرر منه ذكر أسمائهم هم "محمد بن عبد الوهاب، وابن إدريس السنوسى، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبى، وحسن البنا"ما يجمع بين هؤلاء عند الغزالي أنهم "نظروا إلى المسلمين على أنهم أمة واحدة، وإلى أسقامهم الموروثة على أنها علَّة مشتركة، وعالجوها بروح يستهدف كتاب الله وسنة رسوله مباشرة"ولا يضر بعدئذ أن تعددت طرقهم وتنوعت طرائقهم، "فجمال الدين الأفغاني كان مشغولا بالإصلاح السياسى، ونفخ روح الحياة فى أمة خمدت أنفاسها تحت أقدام الطغاة. ومحمد عبده وصاحبه رشيد رضا كانا مَعْنِيَيْن بالإصلاح العلمى ومحو الخرافات التى شلت التفكير الإسلامى دهرا طويلا. ومحمد بن عبد الوهاب ركز اهتمامه فى تطهير الإيمان من أدران الشرك والعودة بالأمة إلى اليقين المصفى الذى ورثته عن رسولها العظيم"حفاوة وتقدير
وكان الغزالي محتفيا بإنجاز أولئك الرجال وحركاتهم أشد الاحتفاء، فهم الذين "أبقوا سرادق الإسلام منصوبًا، وشأنه مرموقا! على حين كان الساسة الحاكمون يخبطون في دنيا الغرور و الهوى ولا يهتدون سبيلا"ولقد تحسر الغزالي على لحظات تاريخية فارقة أفلتت من الأمة لأنها لم تحظ فيها بقيادة واحد من أولئك الزعماء، وقد تساءل آسفا "لو أن جمال الدين (الأفغاني) عاصر مصطفى كمال فى تركيا، أكانت نهضة القائد المنتصر تميل عن الإسلام هذا الميل؟ أو لو كان محمد عبده العالم الثائر أو حسن البنا المربي النابه، لو أن أحدهما صاحَبَ الثورة الكبرى سنة 1919، أكانت تأخذ اتجاهها المدنى (العلماني) المحض مبتوتة الصلة بآلام الإسلام وآماله؟ إن القصور الشنيع فى أفكار علماء الدين ورؤساء الجماعات الإسلامية يومئذ جر على الإسلام هزائم متلاحقة"إنصاف وإعذار وحراسة
ومن هنا نرى الغزالي كثير التقدير لأولئك الزعماء، كثير الدعوة إلى إنصافهم والاعتذار لهم والإغضاء عما قد يكون وقع من أخطاء في مسار حركتهم، شديد الحساسية تجاه من يحتقرهم أو يطعن فيهم، ولديه في هذا مادة غزيرة ومتكررة في إنتاجه، وهو يصرح بأن مسلك هدم الكبار قد يُحتمل حين تكون الأمة في عفية وسعة، "أما اليوم وهم غنائم باردة لما هبَّ ودبَّ فليغيروا من سلوكهم وليحسنوا أدبهم مع الله ومع أنفسهم.. فجمع الشمل أولى والتلاقى على أركان رسالتنا أهم من التخاصم على سفساف الأمور"بل لقد اعتبر الطعن فيهم خيانة عظمى، يقول: "أدركت أننى أمام خيانة عظمى، وأن خصوم التوحيد وأعداء الله ورسوله قد نالوا من أمتنا منالا هائلا!! تحقير لأبى حنيفة فى الأولين، وتحقير لحسن البنا فى الآخرين، وتبقى أمتنا بلا تاريخ. ثم ينطلق الأقزام والأمساخ يعرضون أفكارهم على الأمة اليتيمة، لتجرى وراءهم إلى الهاوية.. إننى أحذر من الثقافة المسمومة التى تقدم للشباب الغض"وما ذلك إلا لأن الطعن فيهم ليس مجرد طعن في شخص، فإن "شتم جمال الدين، ومحمد عبده، ورشيد رضا، لا يعنينا لو كان تجريحا شخصيا، إنه محاولة للقضاء على نهضة أمة ورسالة دين؟ ماذا قلت؟ لماذا لا يعنينى تجريح رجالنا والنيل من مكانتهم؟ هذا خطأ كبير. إن الجهود المجنونة التى تستبيح قادتنا وكبراءنا فى ميدان العلم والأدب والسياسة لها غاية يجب فضحها، والتحذير من مغبتها، إنها تريد القضاء على تاريخ أمة، وعندما تكون أمتنا بلا تاريخ، فلن تكون أمة، ما قيمة أمة ليس لها رجال؟ وما قيمة دين لم يصنع رجالا على تراخى العصور؟ إنه لابد من استنقاذ تراثنا من أيدى المسعورين والهدامين، والواقفين على مبعدة ينبحون القوافل المارة"ويبدو من تلك العبارات ضيق نفسه بهذا المسلك في هدم الرجال، وهو أضيق نفسا حينما يكون مدخل الطعن فيهم سوء فهم الدين واضطراب المعايير، فعندها ينقلب الحال ليكون الطعنُ فيهم أداءَ واجبٍ في الدين عند فاعله، ومسألة اضطراب المعايير وتشوه الأولويات تلك من أكثر الأبواب التي خاضها الغزالي مقاتلا فيها حتى لربما اشتط أحيانا وخانته العبارة، وفي سياقنا هذا يستنكر الغزالي فهم السوء الذي جعل أمثال بعض أولئك الزعماء القادة ناطقين عن الغرب أو مخالبه في بلادنا، يقول: "وجمال الدين (الأفغاني) ومحمد عبده ورشيد رضا كانوا ينصرون الإسلام حين يذكِّرون بالشّورَى، وكانوا يستمدّون من تعاليمه لإصلاح ما ساد عصرهم من اعوجاج، بل لقد كانوا يعالنون بسلفيتهم إذ أن السلفية فيما يعلم أولو الألباب شيء آخر فوق إحفاء الشوارب! إن الإسلام يضيره أشَدّ الضير أن تختص أرضه وحدها بأجرأ الناس على اغتيال المال العام والخاص، وأجرأ الناس على تدويخ الشعوب وإذلال من أعز الله وإعزاز من أذلّ الله. وسيقال: طبيعة نظمه أوحت بذلك أو سكتت عليه. وهذه في نظرى أقبح فِرْيَة بعد الشِّرْك بالله"ولا يستنكف هو نفسه أن يعود فيرجع ويعتذر عن تقييم خاطئ وقع فيه لزعيم مسلم أو حركة إسلامية، فقد صدَّر الطبعة الثالثة من كتابه "الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية" بقوله: "كنا قد وقفنا من بعض الصور الاجتماعية والاقتصادية التى كانت قد وصَّلَّتْ إلينا الموقف الإسلامى الذى أملاه علينا ضميرنا الإسلامى.. لكن يبدو أن الأمر لم يكن كما وصلنا.. فقد كان هناك شطط فى المصادر التى نقلت هذه الصور وبالغت فى تشويهها..!! وقد أيقنت بعد تجارب كثيرة أن الحركات الإصلاحية السليمة تخضع لتشويه كبير من قبل أجهزة راصدة مشبوهة"* هذا المقال جزء من الورقة التي قدمها الباحث في مؤتمر مئوية الشيخ محمد الغزالي، الذي أقيم بمناسبة مائة عام على مولده، والمنعقد في اسطنبول (ديسمبر 2017).
نشر في مدونات الجزيرة
ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة: 1798 - 1939، ترجمة: كريم عزقول، (بيروت: دار النهار، 1962م)، ص19. توماس كارلايل، الأبطال، ترجمة: محمد السباعي، (القاهرة: مكتبة مصر، بدون تاريخ)، ص13. الدارمي (83)، والطبراني في الكبير (6734)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1106). الانطلاق من الإسلام هنا شرط أساسي في اعتبار الغزالي للزعماء، فإنه لا يلتفت لمن اعتمد على مناهج أخرى في التغيير، ويتلخص موقفه المبدئي في قوله: "الإسلام وحده هو وجودنا المادى والأدبى، وهو العنوان المشترك بل الموضوع المشترك بين ماضينا ومستقبلنا، ولن نقبل أن يبتعد حاضرنا عن الإسلام قيد أنملة". الغزالي، علل وأدوية: دراسات في أمراض أمتنا ووسائل الاستشفاء منها مع تصحيح لما وُجِّه إلى التاريخ الإسلامي من أخطاء، ط3 (القاهرة: دار الشروق، 1997م)، ص80. الغزالي، كيف نفهم الإسلام، ط3 (القاهرة: دار نهضة مصر، مارس 2005م)، ص63. الغزالي، من هنا نعلم، ط5 (القاهرة: دار نهضة مصر، يناير 2005م)، ص55. الغزالي، الإسلام والأوضاع الاقتصادية، ط3 (القاهرة: دار نهضة مصر، أكتوبر 2005م)، ص7 (مقدمة الطبعة الثانية). الغزالي، من هنا نعلم، ص55. الغزالي، في موكب الدعوة، ط4 (القاهرة: دار نهضة مصر، أغسطس 2005م)، ص95. الغزالي، مع الله: دراسات في الدعوة والدعاة، ط6 (القاهرة: دار نهضة مصر، إبريل 2005)، ص141. الغزالي، كيف نفهم الإسلام، ص63. الغزالي، مع الله، ص141. الغزالي، في موكب الدعوة، ص10. نفس المصدر. الغزالي، علل وأدوية، ص77. الغزالي، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، (القاهرة: دار الشروق، 1997م)، ص181. الغزالي، علل وأدوية، ص93. الغزالي، الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، (القاهرة: دار الشروق، 1997م)، ص36. الغزالي، الإسلام والأوضاع الاقتصادية، ص7.
خلاصة مشروع الغزالي
يسوق الاستقراء العام لإنتاج الشيخ وتتبع مواضيعه المُلِحَّة إلى نتيجة مفادها أن نكبة الأمة التي كانت على يد الاستعمار الحقود والاستبداد المظلم إنما ترجع إلى تخلف الأمة وضعفها، وضعفها هذا راجع إلى أن أهل الدين فيها لم يقوموا بدورهم الواجب عليهم، وتقصيرهم هذا إما راجع إلى الجهل وسوء الفهم أو إلى الأمراض النفسية وسوء الخلق.وهكذا نستبين أربعة أمور متضافرة تعمل على إنهاك الأمة وإضعافها وإبقائها في الضعف: الاستعمار، الاستبداد، والجهل، وسوء الخلق. ومن تلك الأربعة تنتج سائر الأمراض:
1. الاستعمار يهودي وصليبي وشيوعي ووثني وكله يفتك بالمسلمين شرقا وغربا، ويحاول تثبيت هيمنته بالغزو الفكري والثقافي الذي يقوى ويتمدد في الفراغ الذي تحدثه الأسباب التالية
2. والاستبداد وريث الاستعمار وهو من ثمرته إلا أن له جذورا في تاريخنا وتراثنا ينبغي التصدي له إلا أنه في حالتنا المعاصرة مدعوم بالاستعمار وخادم له ومنشيء لأمراض غير مسبوقة من الفساد والمظالم والجرائم.
3. الجهل الذي يُمَكِّن للاستعمار والاستبداد في أرضنا، وأصله انحراف في الفهم الصحيح للدين يجعل المسلمين متعلقين بالوهم والخرافات أو لديهم تشوه في النظر الصحيح المعيق لفهم القرآن والسنة ومراتب الأدلة وطريقة الفقه والترجيح السليم، وهو ما يؤدي إلى انحراف المجهود من مواجهة العلل الحقيقية والكبرى إلى قضايا هامشية فرعية، وقد يحرف الغاية إلى حرب المصلحين أنفسهم
4. سوء الأخلاق الذي ينتج من سائر الأسباب السابقة ثم هو يرسخها ويُمَكِّنُها، ويكون من وسائلها وأدواتها في مهاجمة المصلحين وتشويه رسالتهم وأغراضهم.
والحل الذي دندن حوله الغزالي يتلخص في معالجة تلك الأمور الأربعة، وتكون بدايته بمجدد أو مجموعة منهم تحقق فيهم رقي الخلق وحسن الفهم، تبث في الأمة أو في شبابها على الأخص روح الهمة العالية المتسلحة بالفقه الصحيح لتجاهد موروثات الجهل والضعف ودعائمها من الاستبداد والاستعمار. ونستطيع أن نضع كل إنتاج الشيخ الغزالي في واحدة من تلك الأربعة، وبتقدير عام نستطيع القول إن مؤلفات الغزالي انقسمت بين مواجهة الاستعمار والاستبداد من ناحية وإصلاح الجهل وسوء الخلق من ناحية أخرى، مع زيادة ملحوظة في إنتاجه الموجهة نحو إصلاح الجهل وسوء الخلق.
على وفق مشروع الغزالي رُسِمت ملامح الزعماء في فكر الشيخ، فهو حفيٌّ بكل من انطلق من الإسلامرؤية جامعة
ولذلك يجتمع في عقل الغزالي وقلبه من يُنظر إليهم كاتجاهات متقابلة أو متوازية أو حتى متضادة في وعي آخرين أو في التصنيف المعتمد على اعتبارات أخرى، فالمصلحون الكبار عند الغزالي الذين تكرر منه ذكر أسمائهم هم "محمد بن عبد الوهاب، وابن إدريس السنوسى، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبى، وحسن البنا"ما يجمع بين هؤلاء عند الغزالي أنهم "نظروا إلى المسلمين على أنهم أمة واحدة، وإلى أسقامهم الموروثة على أنها علَّة مشتركة، وعالجوها بروح يستهدف كتاب الله وسنة رسوله مباشرة"ولا يضر بعدئذ أن تعددت طرقهم وتنوعت طرائقهم، "فجمال الدين الأفغاني كان مشغولا بالإصلاح السياسى، ونفخ روح الحياة فى أمة خمدت أنفاسها تحت أقدام الطغاة. ومحمد عبده وصاحبه رشيد رضا كانا مَعْنِيَيْن بالإصلاح العلمى ومحو الخرافات التى شلت التفكير الإسلامى دهرا طويلا. ومحمد بن عبد الوهاب ركز اهتمامه فى تطهير الإيمان من أدران الشرك والعودة بالأمة إلى اليقين المصفى الذى ورثته عن رسولها العظيم"حفاوة وتقدير
وكان الغزالي محتفيا بإنجاز أولئك الرجال وحركاتهم أشد الاحتفاء، فهم الذين "أبقوا سرادق الإسلام منصوبًا، وشأنه مرموقا! على حين كان الساسة الحاكمون يخبطون في دنيا الغرور و الهوى ولا يهتدون سبيلا"ولقد تحسر الغزالي على لحظات تاريخية فارقة أفلتت من الأمة لأنها لم تحظ فيها بقيادة واحد من أولئك الزعماء، وقد تساءل آسفا "لو أن جمال الدين (الأفغاني) عاصر مصطفى كمال فى تركيا، أكانت نهضة القائد المنتصر تميل عن الإسلام هذا الميل؟ أو لو كان محمد عبده العالم الثائر أو حسن البنا المربي النابه، لو أن أحدهما صاحَبَ الثورة الكبرى سنة 1919، أكانت تأخذ اتجاهها المدنى (العلماني) المحض مبتوتة الصلة بآلام الإسلام وآماله؟ إن القصور الشنيع فى أفكار علماء الدين ورؤساء الجماعات الإسلامية يومئذ جر على الإسلام هزائم متلاحقة"إنصاف وإعذار وحراسة
ومن هنا نرى الغزالي كثير التقدير لأولئك الزعماء، كثير الدعوة إلى إنصافهم والاعتذار لهم والإغضاء عما قد يكون وقع من أخطاء في مسار حركتهم، شديد الحساسية تجاه من يحتقرهم أو يطعن فيهم، ولديه في هذا مادة غزيرة ومتكررة في إنتاجه، وهو يصرح بأن مسلك هدم الكبار قد يُحتمل حين تكون الأمة في عفية وسعة، "أما اليوم وهم غنائم باردة لما هبَّ ودبَّ فليغيروا من سلوكهم وليحسنوا أدبهم مع الله ومع أنفسهم.. فجمع الشمل أولى والتلاقى على أركان رسالتنا أهم من التخاصم على سفساف الأمور"بل لقد اعتبر الطعن فيهم خيانة عظمى، يقول: "أدركت أننى أمام خيانة عظمى، وأن خصوم التوحيد وأعداء الله ورسوله قد نالوا من أمتنا منالا هائلا!! تحقير لأبى حنيفة فى الأولين، وتحقير لحسن البنا فى الآخرين، وتبقى أمتنا بلا تاريخ. ثم ينطلق الأقزام والأمساخ يعرضون أفكارهم على الأمة اليتيمة، لتجرى وراءهم إلى الهاوية.. إننى أحذر من الثقافة المسمومة التى تقدم للشباب الغض"وما ذلك إلا لأن الطعن فيهم ليس مجرد طعن في شخص، فإن "شتم جمال الدين، ومحمد عبده، ورشيد رضا، لا يعنينا لو كان تجريحا شخصيا، إنه محاولة للقضاء على نهضة أمة ورسالة دين؟ ماذا قلت؟ لماذا لا يعنينى تجريح رجالنا والنيل من مكانتهم؟ هذا خطأ كبير. إن الجهود المجنونة التى تستبيح قادتنا وكبراءنا فى ميدان العلم والأدب والسياسة لها غاية يجب فضحها، والتحذير من مغبتها، إنها تريد القضاء على تاريخ أمة، وعندما تكون أمتنا بلا تاريخ، فلن تكون أمة، ما قيمة أمة ليس لها رجال؟ وما قيمة دين لم يصنع رجالا على تراخى العصور؟ إنه لابد من استنقاذ تراثنا من أيدى المسعورين والهدامين، والواقفين على مبعدة ينبحون القوافل المارة"ويبدو من تلك العبارات ضيق نفسه بهذا المسلك في هدم الرجال، وهو أضيق نفسا حينما يكون مدخل الطعن فيهم سوء فهم الدين واضطراب المعايير، فعندها ينقلب الحال ليكون الطعنُ فيهم أداءَ واجبٍ في الدين عند فاعله، ومسألة اضطراب المعايير وتشوه الأولويات تلك من أكثر الأبواب التي خاضها الغزالي مقاتلا فيها حتى لربما اشتط أحيانا وخانته العبارة، وفي سياقنا هذا يستنكر الغزالي فهم السوء الذي جعل أمثال بعض أولئك الزعماء القادة ناطقين عن الغرب أو مخالبه في بلادنا، يقول: "وجمال الدين (الأفغاني) ومحمد عبده ورشيد رضا كانوا ينصرون الإسلام حين يذكِّرون بالشّورَى، وكانوا يستمدّون من تعاليمه لإصلاح ما ساد عصرهم من اعوجاج، بل لقد كانوا يعالنون بسلفيتهم إذ أن السلفية فيما يعلم أولو الألباب شيء آخر فوق إحفاء الشوارب! إن الإسلام يضيره أشَدّ الضير أن تختص أرضه وحدها بأجرأ الناس على اغتيال المال العام والخاص، وأجرأ الناس على تدويخ الشعوب وإذلال من أعز الله وإعزاز من أذلّ الله. وسيقال: طبيعة نظمه أوحت بذلك أو سكتت عليه. وهذه في نظرى أقبح فِرْيَة بعد الشِّرْك بالله"ولا يستنكف هو نفسه أن يعود فيرجع ويعتذر عن تقييم خاطئ وقع فيه لزعيم مسلم أو حركة إسلامية، فقد صدَّر الطبعة الثالثة من كتابه "الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية" بقوله: "كنا قد وقفنا من بعض الصور الاجتماعية والاقتصادية التى كانت قد وصَّلَّتْ إلينا الموقف الإسلامى الذى أملاه علينا ضميرنا الإسلامى.. لكن يبدو أن الأمر لم يكن كما وصلنا.. فقد كان هناك شطط فى المصادر التى نقلت هذه الصور وبالغت فى تشويهها..!! وقد أيقنت بعد تجارب كثيرة أن الحركات الإصلاحية السليمة تخضع لتشويه كبير من قبل أجهزة راصدة مشبوهة"* هذا المقال جزء من الورقة التي قدمها الباحث في مؤتمر مئوية الشيخ محمد الغزالي، الذي أقيم بمناسبة مائة عام على مولده، والمنعقد في اسطنبول (ديسمبر 2017).
نشر في مدونات الجزيرة
ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة: 1798 - 1939، ترجمة: كريم عزقول، (بيروت: دار النهار، 1962م)، ص19. توماس كارلايل، الأبطال، ترجمة: محمد السباعي، (القاهرة: مكتبة مصر، بدون تاريخ)، ص13. الدارمي (83)، والطبراني في الكبير (6734)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1106). الانطلاق من الإسلام هنا شرط أساسي في اعتبار الغزالي للزعماء، فإنه لا يلتفت لمن اعتمد على مناهج أخرى في التغيير، ويتلخص موقفه المبدئي في قوله: "الإسلام وحده هو وجودنا المادى والأدبى، وهو العنوان المشترك بل الموضوع المشترك بين ماضينا ومستقبلنا، ولن نقبل أن يبتعد حاضرنا عن الإسلام قيد أنملة". الغزالي، علل وأدوية: دراسات في أمراض أمتنا ووسائل الاستشفاء منها مع تصحيح لما وُجِّه إلى التاريخ الإسلامي من أخطاء، ط3 (القاهرة: دار الشروق، 1997م)، ص80. الغزالي، كيف نفهم الإسلام، ط3 (القاهرة: دار نهضة مصر، مارس 2005م)، ص63. الغزالي، من هنا نعلم، ط5 (القاهرة: دار نهضة مصر، يناير 2005م)، ص55. الغزالي، الإسلام والأوضاع الاقتصادية، ط3 (القاهرة: دار نهضة مصر، أكتوبر 2005م)، ص7 (مقدمة الطبعة الثانية). الغزالي، من هنا نعلم، ص55. الغزالي، في موكب الدعوة، ط4 (القاهرة: دار نهضة مصر، أغسطس 2005م)، ص95. الغزالي، مع الله: دراسات في الدعوة والدعاة، ط6 (القاهرة: دار نهضة مصر، إبريل 2005)، ص141. الغزالي، كيف نفهم الإسلام، ص63. الغزالي، مع الله، ص141. الغزالي، في موكب الدعوة، ص10. نفس المصدر. الغزالي، علل وأدوية، ص77. الغزالي، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، (القاهرة: دار الشروق، 1997م)، ص181. الغزالي، علل وأدوية، ص93. الغزالي، الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، (القاهرة: دار الشروق، 1997م)، ص36. الغزالي، الإسلام والأوضاع الاقتصادية، ص7.
Published on January 17, 2018 02:13
January 16, 2018
مسألة الشرعية لدى حركة المقاومة
في الأدبيات الغربية المهتمة بالحركات الإسلامية تفريق واضح بين "التمرد" و"الإرهاب"، وليس التفريق طبعا بغرض الدقة العلمية أو بغرض الحقوق القانونية، بل بغرض فهم وإنتاج السياسة المناسبة للتعامل مع الخصم بما يفضي في النهاية لهزيمته وكسره.
أبرز الفوارق بين "التمرد" و"الإرهاب" أن التمرد مدعوم بتأييد شعبي كبير، فالتمرد يكون ضد حكومة لا تحظى بالشرعية لدى السكان بينما الإرهاب عكس هذا، فهو عمل مجموعة صغيرة ضد حكومة مستقرة الشرعية، ولذلك لا يحظى بتأييد الغالبية من السكان. التمرد يستهدف النظام والسلطة بينما الإرهاب يستهدف المدنيين. التمرد يحاول أن يجتذب إليه قوات الجيش والشرطة بينما الإرهاب في العموم لا يفعل. وبطبيعة الحال فكل "إرهاب" يحاول أن يصل إلى مرحلة "التمرد".. ساعتها يكون قد نجح في نزع شرعية النظام وفي الحصول على دعم جماهيري واسع.
ولذلك فتوصيات الدراسات الأمنية الغربية تفرق بين الأمرين لأنها تسعى إلى معالجة الحالة بما يناسبها فلا تزداد تفاقما، ولا تزال أغلب الدراسات الغربية الجادة التي تنشر ما يحدث في مصر تصف الوضع فيها بأنه "تمرد" لا "إرهاب"، بما في ذلك الدراسات التي تتناول الوضع في سيناء. وحين أصدرت "راند" تقريرها في 2008 (كيف تنتهي المجموعات الإرهابية) كانت تعتمد هذا التوصيف. وكان غرضها أن تحاول التعامل مع حالة تنظيم القاعدة بعدما ثبت خطأ السياسة الأمريكية في التعامل معها ضمن "مكافحة الإرهاب".
خلص تقرير راند إلى نتائج تفرق بين التعامل مع "التمرد" والتعامل مع "الإرهاب"، فالحركات "الإرهابية" ينتهي أغلبها (43%) بالتسوية السياسية بينها وبين الحكومة حيث يجري احتواؤها ضمن عملية سياسية انتقالية. ثم ينتهي (40%) منها بالاختراق الأمني المخابراتي المعلوماتي الذي يؤدي إلى اكتشاف قياداتها ومفاصلها الرئيسية ومن ثم اغتيالها أو اعتقالها، وهو مجهود لا يصلح للقيام به الأجهزة الأجنبية بل يُلقى على عاتق الأجهزة المحلية الأكثر معرفة بالبيئة الداخلية. ثم ينتهي (10%) منها بتحقق أهدافها، و(7% فقط) بهزيمتها عسكريا. وهذا ما يعطي التوصية بأن المكافحة العسكرية هي أقل الوسائل نجاحا في القضاء على المجموعات "الإرهابية"، فيما يتعاظم العمل حول "الإصلاح السياسي" ثم "العمل الأمني الاستخباري".
ولاحظ واضعو التقرير أيضا نتائج أخرى من أهمها:
1. أن التنظيمات الدينية هي الأطول عمرا.2. أن التنظيمات الكبيرة أقدر على الصمود والبقاء والانتصار من التنظيمات الصغرى 3. التنظيمات التي اشتركت في "تمرد" لا تنتهي بسهولة. وتلك النتائج الثلاثة الأخيرة نستخلص منها أمورا في غاية الأهمية والخطورة، وهي على الترتيب:
1. أهمية الدين وأنه أقوى وأرسخ من سائر الأيديولوجيات النضالية، فما من حركة كفاح إلا واعتنقت فكرة، ومع هذا فقد كانت الحركات الدينية أطول نفسا وأقوى صمودا.2. أهيمة الإعداد وضرورته، فالحركة التي تستطيع أن تكتسب أفرادا أكثر تعبر عن قدرة استيعابية وتشغيلية، ومن ثم ينعكس هذا على نتائج المعركة.3. القدرة على تثوير الناس والمجتمع والانضمام إلى لحظتهم الثورية يمثل انتقالة فارقة في تاريخ أي حركة.
اللافت للنظر في تقرير راند هذا أن الحركة التي تهدف إلى تحقيق الخلافة الإسلامية لا يمكن التفاهم معها عبر التسوية السياسية (النتيجة الأكثر فعالية في القضاء على الحركات "الإرهابية")، ومن ثم فلا بد من تفعيل وتوسيع وتعظيم النشاط الأمني الاستخباري، ثم النشاط العسكري الذي ينبغي –كما يوصي التقرير- أن يُعهد به للجيوش المحلية لا للجيش الأمريكي.
هذه المقدمة الطويلة أحاول أن أدخل منها إلى معنييْن على وجه التحديد، أحدهما يتعلق بكوني واحدا من أبناء الثورة المصرية والحركة الإسلامية المصرية، والثاني يتعلق بكوني باحثا في التاريخ والحضارة الإسلامية. وهذا مع أن الفائدة الكبرى في هذه الأمور إنما تكون للمهتمين والباحثين في الشؤون الأمنية والعسكرية.
أولا: موقع الشرعية في السياسة
يصر النظام المصري على أنه يواجه "الإرهاب" لا على أنه يواجه "التمرد"، فالتمرد يطعن في شرعية النظام مباشرة، وقد حاول النظام القديم منذ أوائل عهد الرئيس مرسي أن يرفع شعار "سقطت شرعيتك يا مرسي"، وأن يبني لنفسه شرعية بكل الوسائل، ليس فقط بمشهد المظاهرات المصنوعة والمحشودة، بل أيضا بمشهد الانقلاب الذي جمع الرموز المتنوعة بمن فيهم الفئة التي لا يطيقها النظام "السلفيون"، ثم بمشهد الاستفتاء على دستور الانقلاب حيث لا بد أن يصوت عليه أكثر ممن صوتوا على استفتاء دستور الثورة، ثم بمشهد انتخابات الرئاسة الذي يحوز فيه السيسي 97% من الأصوات، وهي محاولة لتسويق وجود "إجماع شعبي" و"شرعية كاملة". وإلى الآن تتناثر في خطابات السيسي وقيادات العسكر التأكيدات على أنه لم يخن ولم يغدر ولم ينقلب وإنما اضطروا للتدخل كي لا تضيع مصر!والواقع أن سائر من يعارضون الانقلاب (الانقلاب نفسه كنظام لا السيسي كشخص) ليس بيدهم ورقة شرعية ولا قانونية ولا حتى أخلاقية سوى شرعية الرئيس مرسي، وهذا بغض النظر الآن عن مسألة القدرة أو الإرادة في استثمار هذه الورقة وتفعيلها. فالتخلي والتنازل عن هذه الورقة هو نفسه تثبيت لشرعية الانقلاب ولشرعية أي انقلاب.
وأخطر ما تتعرض له الثورة المصرية في لحظتها الحالية هو إيجاد قبول عام بالاستسلام للنظام، ولمؤسساته، والقبول بأي عرض يرجع الحال به إلى ما قبل 2011. صحيح ربما نتفهم أن العجز قد بلغ بالبعض أن يقنعوا بهذا (وهنا يجب ألا ننسى أنه عجز صنعوه بأيديهم بل هم كافحوا وحاربوا بكل طاقتهم كل من أرادوا كسر العجز وتفعيل المقاومة)، لكن يجب ألا ينسينا هذا أننا نبيع الثورة ونعترف بفشلها ونسلم بانتصار الانقلاب.
وبالمناسبة، فنفس الوضع الذي يتم على المستوى المحلي يتم أيضا على المستوى الدولي، فعندما تضطرب الأمور في بلد ما، ينزل إليها دائما هذا الكائن البغيض المسمى "المبعوث الدولي"، هذا الكائن له مهمة وحيدة، وهي هدم الشرعيات وتصفير الأوضاع، يدعو دائما لحوار بين كل الأطراف بلا شروط مسبقة. وهكذا يمثل الصغير كالكبير وتُمسح مكاسب الشعب السابقة لحساب صناعة اضطراب جديد، ثم لا يصل حواره أبدا إلى حل، بل يظل يكسب الوقت حتى تعمل الآلة الدولية على دعم عميلها بالمال والسلاح ليسيطر على الأرض. عندها يسافر الكائن البغيض مرة أخرى معلنا فشل "الحوار الوطني".. للأسف!
لقد كتبنا كثيرا جدا في معنى الشرعية من قبلوحيث نتحدث في بلادنا عن حركات المقاومة الإسلامية، ففي أمتنا العربية والإسلامية، اختفت وذابت الحركات غير الإسلامية ولم يبق سوى الحركات الإسلامية. أقول: حيث نتحدث عن حركات تستمد حركتها من الإسلام فإن الإسلام يوفر أساسا راسخا ومتينا في مسألة الشرعية، وهو أساس ضارب في كتب الفقه ويحتفظ بقداسته من نصوص القرآن والسنة، وهذا ما يجعل نشره بين الناس أسهل كثيرا كما يوفر له من أهل البسالة والتضحية أفواجا وأمواجا وأمدادا في كل حين.
فالنظام الشرعي في الإسلام هو النظام الذي يطبق الشريعة..
هذه العبارة البسيطة لو استطاعت الحركات المقاومة أن تنشرها وتغرسها بين الناس لوفرت على نفسها جدالات هائلة ومجهودات رهيبة في تكوين وبناء شرعيتها.. وهذه العبارة البسيطة يُستدل لها من القرآن والسنة وعمل السلف الصالح وسيرة العلماء وجهاد المجاهدين بمادة غزيرة لا تنفد.. فإن تاريخ الإسلام كله هو تاريخ إسقاط الأنظمة غير الشرعية لإقامة النظام الشرعي.
وهنا تلتقي خلاصة التوصيات الغربية والجهادية معا.. فبقدر ما تنتهي الدراسات الأمنية الغربية إلى توسيع الفجوة بين الحركة الجهادية وبين الأمة، تنتهي التوصيات الجهادية إلى جسر وردم الفجوة بين الحركة الجهادية والأمةثانيا: شرعية النظام في التاريخ الإسلامي
وهنا أدخل إلى المعنى الثاني المتعلق بالتاريخ الإسلامي. وسأوجزه كثيرا..
ما دلت عليه الشريعة وسنة الخلفاء الراشدين أن النظام الشرعي في الإسلام يتوفر بناء على ركنين: تطبيق الشريعة واختيار الأمة للأمير.. وهذا مذكور في أول خطبة لأبي بكر "وليت عليكم ولست بخيركم... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".
والخلافة الراشدة هي الخلافة التي تحقق فيها الركنان: تطبيق الشريعة واختيار الأمة للأمير. فما إن تحولت الخلافة إلى الملك حتى فقدت صفة "الراشدة".
السؤال هنا: لماذا قبل المسلمون، انتقال الخلافة إلى الملك في لحظة تولي يزيد؟ ثم لماذا قبل العلماء فيما بعد بولاية المتغلب وجعلوا التغلب من طرق حصول الخلافة؟
الإجابة بإيجاز وتبسيط شديد هو أن ذلك كان في لحظة اضطرار، في لحظة الاضطرار هذه حصل ما نسميه في لفظنا المعاصر "التضحية برأس النظام للحفاظ على النظام نفسه"، نفس المبدأ الذي استعمله الأعداء ضدنا في الثورات المضادة حين تخلوا عن زين العابدين ومبارك والقذافي وصالح ليبقى النظام. وقد سوومت الثورة السورية في بدايتها –كما روى رياض الأسعد- نفس المساومة: أن يرحل بشار مقابل الحفاظ على الأجهزة الأمنية والعسكرية، فلما رفض رياض الأسعد قيل له: إذن ستطول الحرب.
هذا المبدأ كانت نتيجته: القبول بمن لم تختره الأمة اختيارا حرا طالما أنه سيقيم الشريعة ويحفظ الثغور وينشر الأمن ويحمي بيضة الدين. ومع هذا فقد بقيت كتب السياسة الشرعية تؤكد أن هذا اضطرار وأن الأصل هو بقاء ركني الشرعية معا "تطبيق الشريعة والاختيار الحر للأمير"، ومما ترتب على هذا أن الخارج على المتغلب ليس خارجا على إمام شرعي، ولا يأخذ حكم الخوارج الذين خرجوا على علي، وأن هذا المتغلب الجديد إن استقر له الأمر فقد تغلب ولم يُسْعَ في استعادة السابق لأنه لا شرعية له، بخلاف الإمام الشرعي الذي يُقاتل معه ويُسْعي في استنقاذه إن أُسِر وإعادته للإمامة، ومن آثار هذا أيضا أنهم لا يبايعون للمتغلب إلا إن استقر تغلبه وصار في حكم الواقع، وصارت بيعتهم في حكم تحصيل الحاصل. ثم مع هذا كانت حركة العلماء والمصلحين والثوار لإعادة الأمر إلى نصابه ومقاومة ما عليه هؤلاء من الانحرافات.
لكن الشاهد الذي يهمنا في مقامنا الآن هو أن مسألة الشرعية في الإسلام تتعلق أول ما تتعلق بتطبيق الشريعة، فهذا هو جوهر النظام وأصله وأساسه، بغض النظر عن القائم عليه وطريقه وصوله للإمامه.. فهذا القبول الاضطراري بالمتغلب وبالتوريث لم يقابله تهاون في مسألة الشريعة نفسها، بل العلماء يتفقون على أن الحاكم إن كفر فإنه ينعزل عن الإمامة ويُقام عليه، فإن كان ثمة عجز سُعِي في الإعداد للقيام عليه. فالتهاون كان في شأن الشخص لا في شأن الشريعة التي هي النظام.
نشر في مجلة كلمة حق
انظر مثلا: https://goo.gl/Fc4nZS
أبرز الفوارق بين "التمرد" و"الإرهاب" أن التمرد مدعوم بتأييد شعبي كبير، فالتمرد يكون ضد حكومة لا تحظى بالشرعية لدى السكان بينما الإرهاب عكس هذا، فهو عمل مجموعة صغيرة ضد حكومة مستقرة الشرعية، ولذلك لا يحظى بتأييد الغالبية من السكان. التمرد يستهدف النظام والسلطة بينما الإرهاب يستهدف المدنيين. التمرد يحاول أن يجتذب إليه قوات الجيش والشرطة بينما الإرهاب في العموم لا يفعل. وبطبيعة الحال فكل "إرهاب" يحاول أن يصل إلى مرحلة "التمرد".. ساعتها يكون قد نجح في نزع شرعية النظام وفي الحصول على دعم جماهيري واسع.
ولذلك فتوصيات الدراسات الأمنية الغربية تفرق بين الأمرين لأنها تسعى إلى معالجة الحالة بما يناسبها فلا تزداد تفاقما، ولا تزال أغلب الدراسات الغربية الجادة التي تنشر ما يحدث في مصر تصف الوضع فيها بأنه "تمرد" لا "إرهاب"، بما في ذلك الدراسات التي تتناول الوضع في سيناء. وحين أصدرت "راند" تقريرها في 2008 (كيف تنتهي المجموعات الإرهابية) كانت تعتمد هذا التوصيف. وكان غرضها أن تحاول التعامل مع حالة تنظيم القاعدة بعدما ثبت خطأ السياسة الأمريكية في التعامل معها ضمن "مكافحة الإرهاب".
خلص تقرير راند إلى نتائج تفرق بين التعامل مع "التمرد" والتعامل مع "الإرهاب"، فالحركات "الإرهابية" ينتهي أغلبها (43%) بالتسوية السياسية بينها وبين الحكومة حيث يجري احتواؤها ضمن عملية سياسية انتقالية. ثم ينتهي (40%) منها بالاختراق الأمني المخابراتي المعلوماتي الذي يؤدي إلى اكتشاف قياداتها ومفاصلها الرئيسية ومن ثم اغتيالها أو اعتقالها، وهو مجهود لا يصلح للقيام به الأجهزة الأجنبية بل يُلقى على عاتق الأجهزة المحلية الأكثر معرفة بالبيئة الداخلية. ثم ينتهي (10%) منها بتحقق أهدافها، و(7% فقط) بهزيمتها عسكريا. وهذا ما يعطي التوصية بأن المكافحة العسكرية هي أقل الوسائل نجاحا في القضاء على المجموعات "الإرهابية"، فيما يتعاظم العمل حول "الإصلاح السياسي" ثم "العمل الأمني الاستخباري".
ولاحظ واضعو التقرير أيضا نتائج أخرى من أهمها:
1. أن التنظيمات الدينية هي الأطول عمرا.2. أن التنظيمات الكبيرة أقدر على الصمود والبقاء والانتصار من التنظيمات الصغرى 3. التنظيمات التي اشتركت في "تمرد" لا تنتهي بسهولة. وتلك النتائج الثلاثة الأخيرة نستخلص منها أمورا في غاية الأهمية والخطورة، وهي على الترتيب:
1. أهمية الدين وأنه أقوى وأرسخ من سائر الأيديولوجيات النضالية، فما من حركة كفاح إلا واعتنقت فكرة، ومع هذا فقد كانت الحركات الدينية أطول نفسا وأقوى صمودا.2. أهيمة الإعداد وضرورته، فالحركة التي تستطيع أن تكتسب أفرادا أكثر تعبر عن قدرة استيعابية وتشغيلية، ومن ثم ينعكس هذا على نتائج المعركة.3. القدرة على تثوير الناس والمجتمع والانضمام إلى لحظتهم الثورية يمثل انتقالة فارقة في تاريخ أي حركة.
اللافت للنظر في تقرير راند هذا أن الحركة التي تهدف إلى تحقيق الخلافة الإسلامية لا يمكن التفاهم معها عبر التسوية السياسية (النتيجة الأكثر فعالية في القضاء على الحركات "الإرهابية")، ومن ثم فلا بد من تفعيل وتوسيع وتعظيم النشاط الأمني الاستخباري، ثم النشاط العسكري الذي ينبغي –كما يوصي التقرير- أن يُعهد به للجيوش المحلية لا للجيش الأمريكي.
هذه المقدمة الطويلة أحاول أن أدخل منها إلى معنييْن على وجه التحديد، أحدهما يتعلق بكوني واحدا من أبناء الثورة المصرية والحركة الإسلامية المصرية، والثاني يتعلق بكوني باحثا في التاريخ والحضارة الإسلامية. وهذا مع أن الفائدة الكبرى في هذه الأمور إنما تكون للمهتمين والباحثين في الشؤون الأمنية والعسكرية.
أولا: موقع الشرعية في السياسة
يصر النظام المصري على أنه يواجه "الإرهاب" لا على أنه يواجه "التمرد"، فالتمرد يطعن في شرعية النظام مباشرة، وقد حاول النظام القديم منذ أوائل عهد الرئيس مرسي أن يرفع شعار "سقطت شرعيتك يا مرسي"، وأن يبني لنفسه شرعية بكل الوسائل، ليس فقط بمشهد المظاهرات المصنوعة والمحشودة، بل أيضا بمشهد الانقلاب الذي جمع الرموز المتنوعة بمن فيهم الفئة التي لا يطيقها النظام "السلفيون"، ثم بمشهد الاستفتاء على دستور الانقلاب حيث لا بد أن يصوت عليه أكثر ممن صوتوا على استفتاء دستور الثورة، ثم بمشهد انتخابات الرئاسة الذي يحوز فيه السيسي 97% من الأصوات، وهي محاولة لتسويق وجود "إجماع شعبي" و"شرعية كاملة". وإلى الآن تتناثر في خطابات السيسي وقيادات العسكر التأكيدات على أنه لم يخن ولم يغدر ولم ينقلب وإنما اضطروا للتدخل كي لا تضيع مصر!والواقع أن سائر من يعارضون الانقلاب (الانقلاب نفسه كنظام لا السيسي كشخص) ليس بيدهم ورقة شرعية ولا قانونية ولا حتى أخلاقية سوى شرعية الرئيس مرسي، وهذا بغض النظر الآن عن مسألة القدرة أو الإرادة في استثمار هذه الورقة وتفعيلها. فالتخلي والتنازل عن هذه الورقة هو نفسه تثبيت لشرعية الانقلاب ولشرعية أي انقلاب.
وأخطر ما تتعرض له الثورة المصرية في لحظتها الحالية هو إيجاد قبول عام بالاستسلام للنظام، ولمؤسساته، والقبول بأي عرض يرجع الحال به إلى ما قبل 2011. صحيح ربما نتفهم أن العجز قد بلغ بالبعض أن يقنعوا بهذا (وهنا يجب ألا ننسى أنه عجز صنعوه بأيديهم بل هم كافحوا وحاربوا بكل طاقتهم كل من أرادوا كسر العجز وتفعيل المقاومة)، لكن يجب ألا ينسينا هذا أننا نبيع الثورة ونعترف بفشلها ونسلم بانتصار الانقلاب.
وبالمناسبة، فنفس الوضع الذي يتم على المستوى المحلي يتم أيضا على المستوى الدولي، فعندما تضطرب الأمور في بلد ما، ينزل إليها دائما هذا الكائن البغيض المسمى "المبعوث الدولي"، هذا الكائن له مهمة وحيدة، وهي هدم الشرعيات وتصفير الأوضاع، يدعو دائما لحوار بين كل الأطراف بلا شروط مسبقة. وهكذا يمثل الصغير كالكبير وتُمسح مكاسب الشعب السابقة لحساب صناعة اضطراب جديد، ثم لا يصل حواره أبدا إلى حل، بل يظل يكسب الوقت حتى تعمل الآلة الدولية على دعم عميلها بالمال والسلاح ليسيطر على الأرض. عندها يسافر الكائن البغيض مرة أخرى معلنا فشل "الحوار الوطني".. للأسف!
لقد كتبنا كثيرا جدا في معنى الشرعية من قبلوحيث نتحدث في بلادنا عن حركات المقاومة الإسلامية، ففي أمتنا العربية والإسلامية، اختفت وذابت الحركات غير الإسلامية ولم يبق سوى الحركات الإسلامية. أقول: حيث نتحدث عن حركات تستمد حركتها من الإسلام فإن الإسلام يوفر أساسا راسخا ومتينا في مسألة الشرعية، وهو أساس ضارب في كتب الفقه ويحتفظ بقداسته من نصوص القرآن والسنة، وهذا ما يجعل نشره بين الناس أسهل كثيرا كما يوفر له من أهل البسالة والتضحية أفواجا وأمواجا وأمدادا في كل حين.
فالنظام الشرعي في الإسلام هو النظام الذي يطبق الشريعة..
هذه العبارة البسيطة لو استطاعت الحركات المقاومة أن تنشرها وتغرسها بين الناس لوفرت على نفسها جدالات هائلة ومجهودات رهيبة في تكوين وبناء شرعيتها.. وهذه العبارة البسيطة يُستدل لها من القرآن والسنة وعمل السلف الصالح وسيرة العلماء وجهاد المجاهدين بمادة غزيرة لا تنفد.. فإن تاريخ الإسلام كله هو تاريخ إسقاط الأنظمة غير الشرعية لإقامة النظام الشرعي.
وهنا تلتقي خلاصة التوصيات الغربية والجهادية معا.. فبقدر ما تنتهي الدراسات الأمنية الغربية إلى توسيع الفجوة بين الحركة الجهادية وبين الأمة، تنتهي التوصيات الجهادية إلى جسر وردم الفجوة بين الحركة الجهادية والأمةثانيا: شرعية النظام في التاريخ الإسلامي
وهنا أدخل إلى المعنى الثاني المتعلق بالتاريخ الإسلامي. وسأوجزه كثيرا..
ما دلت عليه الشريعة وسنة الخلفاء الراشدين أن النظام الشرعي في الإسلام يتوفر بناء على ركنين: تطبيق الشريعة واختيار الأمة للأمير.. وهذا مذكور في أول خطبة لأبي بكر "وليت عليكم ولست بخيركم... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".
والخلافة الراشدة هي الخلافة التي تحقق فيها الركنان: تطبيق الشريعة واختيار الأمة للأمير. فما إن تحولت الخلافة إلى الملك حتى فقدت صفة "الراشدة".
السؤال هنا: لماذا قبل المسلمون، انتقال الخلافة إلى الملك في لحظة تولي يزيد؟ ثم لماذا قبل العلماء فيما بعد بولاية المتغلب وجعلوا التغلب من طرق حصول الخلافة؟
الإجابة بإيجاز وتبسيط شديد هو أن ذلك كان في لحظة اضطرار، في لحظة الاضطرار هذه حصل ما نسميه في لفظنا المعاصر "التضحية برأس النظام للحفاظ على النظام نفسه"، نفس المبدأ الذي استعمله الأعداء ضدنا في الثورات المضادة حين تخلوا عن زين العابدين ومبارك والقذافي وصالح ليبقى النظام. وقد سوومت الثورة السورية في بدايتها –كما روى رياض الأسعد- نفس المساومة: أن يرحل بشار مقابل الحفاظ على الأجهزة الأمنية والعسكرية، فلما رفض رياض الأسعد قيل له: إذن ستطول الحرب.
هذا المبدأ كانت نتيجته: القبول بمن لم تختره الأمة اختيارا حرا طالما أنه سيقيم الشريعة ويحفظ الثغور وينشر الأمن ويحمي بيضة الدين. ومع هذا فقد بقيت كتب السياسة الشرعية تؤكد أن هذا اضطرار وأن الأصل هو بقاء ركني الشرعية معا "تطبيق الشريعة والاختيار الحر للأمير"، ومما ترتب على هذا أن الخارج على المتغلب ليس خارجا على إمام شرعي، ولا يأخذ حكم الخوارج الذين خرجوا على علي، وأن هذا المتغلب الجديد إن استقر له الأمر فقد تغلب ولم يُسْعَ في استعادة السابق لأنه لا شرعية له، بخلاف الإمام الشرعي الذي يُقاتل معه ويُسْعي في استنقاذه إن أُسِر وإعادته للإمامة، ومن آثار هذا أيضا أنهم لا يبايعون للمتغلب إلا إن استقر تغلبه وصار في حكم الواقع، وصارت بيعتهم في حكم تحصيل الحاصل. ثم مع هذا كانت حركة العلماء والمصلحين والثوار لإعادة الأمر إلى نصابه ومقاومة ما عليه هؤلاء من الانحرافات.
لكن الشاهد الذي يهمنا في مقامنا الآن هو أن مسألة الشرعية في الإسلام تتعلق أول ما تتعلق بتطبيق الشريعة، فهذا هو جوهر النظام وأصله وأساسه، بغض النظر عن القائم عليه وطريقه وصوله للإمامه.. فهذا القبول الاضطراري بالمتغلب وبالتوريث لم يقابله تهاون في مسألة الشريعة نفسها، بل العلماء يتفقون على أن الحاكم إن كفر فإنه ينعزل عن الإمامة ويُقام عليه، فإن كان ثمة عجز سُعِي في الإعداد للقيام عليه. فالتهاون كان في شأن الشخص لا في شأن الشريعة التي هي النظام.
نشر في مجلة كلمة حق
انظر مثلا: https://goo.gl/Fc4nZS
Published on January 16, 2018 12:18
January 10, 2018
دليلك لقراءة تاريخ مصر الحديث
من أهم ما وصلني من تعليقات على المقال السابق هو ما ذكره إخواننا المحبون للروايات والمتحمسون لها، يرون أنها لا تقل أهمية عن المذكرات الشخصية، إذ في كلا الحالتين: يروي المؤلف ما وقع له، وتصطبغ روايته بالذاتية والانحياز والتوجه الفكري، ويزيد على ذلك في حالة الروايات قدرة الروائي على نسج الحكاية في أسلوب مشوق وتسلسل جذاب يكون أحسن حالا بلا شك من كاتب المذكرات الذي إن وفق في تسجيل روايته فلن يوفق في عرضها كما يفعل الروائي.
وفي الحقيقة ليس لدي جديد أضيفه على حجتي التي كتبتها في المرة السابقة، وخلاصتها أنه مهما سلمنا بهذا، فإن الحقيقة هي المتضرر الأكبر، فالروائي يحكي خياله، أما كاتب المذكرات فيحكي واقعه، ومهما حاول الذي يحكي الخيال أن يجعله واقعيا فلن يكون أقرب إلى الحقيقة من الذي يحكي الواقع مهما حاول تلوينه وتوجيهه، ولا بأس هنا بمثال واحد لتقريب الصورة.
رباعية "الوسية" التي ألفها خليل حسن خليل، وتحول الجزء الأول منها إلى مسلسل تلفازي مشهور، هذا الجزء الأول ينتمي إلى عالم المذكرات الشخصية، رغم كونه مصاغا بأسلوب أدبي ثري وقوي.. ثم يأخذ هذا الطابع في التحول تدريجيا في الجزء الثاني "الوارثون" ثم الثالث "السلطنة" حتى يأتي الجزء الرابع والأخير "الخلاص" ليكون رواية تامة، رواية خيالية، يحاول صاحبها من خلال الترويج لفكره اليساري.
بقدر ما كان الجزء الأول كتابة أدبية قوية وذا قيمة تاريخية ممتازة في مجال التاريخ الاجتماعي، بقدر ما كان الجزء الأخير رواية تافهة بائسة مثيرة للشفقة. إن الرجل الذي روى صباه وشبابه في أيام الملكية استطاع أن ينقل صورة نابضة بالحياة، شخصيات إنسانية مركبة تعمل في سياق يمثل بذاته حبكة فنية دون الحاجة لاختراعها (وبرأيي أن الواقع دائما أشد ثراء وتركيبا من الخيال، ولكن الموهوب هو القادر على استخراجها)، وظل هذا يخفت في الجزء الثاني ثم يخفت أكثر في الثالث لحساب فن الرواية حتى جاء الجزء الرابع مؤسفا: شخصيات سطحية وحبكة ساذجة وحوارات فقيرة.. صورة متكاملة ليساري بائس يحاول الترويج ليساريته دون حتى أن يحاول فهم خصومه من الإسلاميين والليبراليين، فلم يجد إلا تسطيحهم وتشويههم.
ربما في مقام آخر أتمكن من التوسع والتفصيل في شأن هذه الرواية، لكنني هنا أضرب بها المثل في مجال أن المذكرات أصدق إنباء من الرواية، ودليلي أن الكاتب الواحد نفسه لما كتب مذكراته أجاد وأفاد، ولما تخيل رواية يكتبها كانت الثمرة ميتة ذابلة!
قد يُقال: لعل الرجل لم يُؤت موهبة الرواية، ولو أوتيها لكان آخره كأوله بل لربما كان أحسن من أوله. وأقول: ربما، وهو أمر أترك النقاش فيه لمحبي الأدب والرواية، ولكن من موقع الباحث في التاريخ الذي تهمه الحقائق والوقائع في المقام الأول، والذي يحاول تقريب التاريخ من عموم القراء، أقول: إن موهبة الرواية هنا ستكون كموهبة التزوير، إنها القدرة على صياغة خيال أشبه ما يكون بالواقع، وأحسن منه: أن يُسرد الواقع كما كان بقدر الوسع والاستطاعة، فلئن كان صاحب الرواية التاريخية ذا موهبة أدبية فقد اجتمع الحسنيان: نقل الواقع مع دقة الوصف.
تلك المقدمة التي طالت كانت تمهيدا لسؤال آخر من أكثر ما يردني، ويزداد ورودوه مع اقتراب موعد معرض الكتاب، حول المصادر المرشحة لتاريخ مصر الحديث.. الذي يبدأ من الحملة الفرنسية ويمتد حتى اللحظة الراهنة.وقبل الإجابة لا بد من ذكر ثلاثة أمور مهمة:
1. أن مصر من أغنى البلاد بتاريخها، فهي لموقعها وأهميتها وثقلها الثقافي والسياسي كُتِب في تاريخها أكثر من أي بلد عربي آخر، وهي لطبيعتها الجغرافية لها شخصية حددت جغرافيتها منذ قديم، فلا تختلط مع بلد آخر، ومن هنا كان المكتوب في تاريخ مصر على يد أبنائها وغير أبنائها من الكثرة والغزارة والتنوع بمقام لا أحسب أحدا يستطيع الإحاطة به، كما أن المكتوب عنها بغير اللغة العربية ضخم وثري للغاية. فكل ما يُرشَّح في هذا الباب من أي باحث سيكون قاصرا بل ومتهما لدى باحثين آخرين لهم بحسب تنوع واختلاف السعة والاهتمام، وفي النهاية فعملية الترشيح هي اجتهاد ككل اجتهاد يصيب ويخطيء.
2. أن التاريخ هو رواية إنسانية للوقائع، وهذه الرواية تنتج متأثرة بالبيئة والواقع وعلاقات القوى المسيطرة عليه، وهذا معنى "التاريخ يكتبة المنتصر" لأن السلطة حريصة دائما على إنتاج المعرفة والأفكار، ومن هذا الحرص: إنتاج روايتها للتاريخ التي تدعم شرعيتها وأفكارها وقيمها وغاياتها. لذلك فكلما ابتعدت الفترة المدروسة عن تسجيلها كلما كانت كتابتها أفضل لخفوت تأثير القوى المسيطرة والكشف عن روايات ووثائق أرادت لها السلطة أو شبكات القوى أن تختفي، ولهذا ترى مدارس تاريخية أخرى أن التاريخ ينتصر على السلطة في نهاية الأمر، لأنه يمكن دائما استخلاص التاريخ الذي شاءت السلطة تغيبه. ومن هنا فبقدر ما نعاني حتى الآن نقصا في مصادر تاريخ مصر الحديث باعتبار أن دولة محمد علي العلمانية العسكرية الحديثة لا تزال مستمرة، بقدر ما أن معرفتنا بالتاريخ تتناقص تدريجيا، فنحن نعرف عن دولة محمد علي أفضل مما نعرف عن دولة السيسي، فتظل معرفتنا تتناقص كلما اقتربت الفترة التي نبحثها.
3. الخلاف حول تفسير التاريخ، كما يقول جلال كشك، ليس ترفا نظريا وإنما هو في حقيقته خلاف حول المستقبل. ومعنى كلمة جلال كشك ببساطة: أن الذي يعتبر أن الحملة الفرنسية كانت خيرا ستكون رؤيته للمستقبل نقيض الذي يعتبرها شرا، كذلك الذي يرى أن محمد علي هو مؤسس مصر الحديثة وباني نهضتها ستكون رؤيته للمستقبل على عكس الذي يراه رجل الغرب وممثل مصالحه وأول من مزق المجتمع المصري وقضى عليه ومكَّنَ للأجانب فيه... وهكذا.
ثم نأتي للكتب المرشحة، وسأكتفي بعشرين عنوانا فقط، قسمتها في أربع تصنيفات، في كل تصنيف خمسة، وهي في التاريخ السياسي فحسب:
أولا: الكتب ذات المجلد الواحد- موجز تاريخ مصر في الحقبة العلمانية، أسامة حميد- تاريخ مصر الحديث، د. محمد مورو- ودخلت الخيل الأزهر، محمد جلال كشك- الحركة السياسية في مصر، طارق البشري- ثورة يوليو الأمريكية، محمد جلال كشك
ثانيا: كتب متوسعة- عجائب الآثار، عبد الرحمن الجبرتي- تاريخ الأستاذ الإمام، محمد رشيد رضا- تقويم النيل، أمين سامي- حوليات مصر السياسية، أحمد شفيق باشا (وبالتأكيد أن هذا لا علاقة له بأحمد شفيق المعاصر)- تاريخ الحركة القومية في مصر، عبد الرحمن الرافعي
ثالثا: المذكرات الشخصية- مذكرات أحمد عرابي، بتحقيق: د. عبد المنعم الجميعي- مذكرات اللورد كرومر (مصر الحديثة)- مذكرات سعد زغلول- مذكرات محمد حسين هيكل (مذكرات في السياسة المعاصرة)- مذكرات عبد اللطيف البغدادي
رابعا: كتب مستشرقين- لمحة عامة عن مصر، كلوت بك- قاموس تراجم مصر الحديثة، آرثر جولد شميت "الابن"- الأصول الاجتماعية والثقافية لحركة عرابي، جوان كول- التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر، ولفرد سكاون بلنت- رؤية جديدة لمصر: 1919 - 1952، تحرير: آرثر جولد شميت وآخران
وفي النهاية أذكر بما تعلمناه من أسلافنا العظماء العلماء من أن "العلم ينادي بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل"، والعلم لا يبقى في الصدور إلا حين يريد صاحبه استثماره في الواقع، والثقافة لمجرد الثقافة عبث وتضييع أوقات وأعمار.
اقرأ أيضا: مختصر تاريخ مصر في مقال واحد، وتبسيط تاريخ مصر في ثلاث مقالات: الأول، الثاني، الثالث.
نشر في مدونات الجزيرة
وفي الحقيقة ليس لدي جديد أضيفه على حجتي التي كتبتها في المرة السابقة، وخلاصتها أنه مهما سلمنا بهذا، فإن الحقيقة هي المتضرر الأكبر، فالروائي يحكي خياله، أما كاتب المذكرات فيحكي واقعه، ومهما حاول الذي يحكي الخيال أن يجعله واقعيا فلن يكون أقرب إلى الحقيقة من الذي يحكي الواقع مهما حاول تلوينه وتوجيهه، ولا بأس هنا بمثال واحد لتقريب الصورة.
رباعية "الوسية" التي ألفها خليل حسن خليل، وتحول الجزء الأول منها إلى مسلسل تلفازي مشهور، هذا الجزء الأول ينتمي إلى عالم المذكرات الشخصية، رغم كونه مصاغا بأسلوب أدبي ثري وقوي.. ثم يأخذ هذا الطابع في التحول تدريجيا في الجزء الثاني "الوارثون" ثم الثالث "السلطنة" حتى يأتي الجزء الرابع والأخير "الخلاص" ليكون رواية تامة، رواية خيالية، يحاول صاحبها من خلال الترويج لفكره اليساري.
بقدر ما كان الجزء الأول كتابة أدبية قوية وذا قيمة تاريخية ممتازة في مجال التاريخ الاجتماعي، بقدر ما كان الجزء الأخير رواية تافهة بائسة مثيرة للشفقة. إن الرجل الذي روى صباه وشبابه في أيام الملكية استطاع أن ينقل صورة نابضة بالحياة، شخصيات إنسانية مركبة تعمل في سياق يمثل بذاته حبكة فنية دون الحاجة لاختراعها (وبرأيي أن الواقع دائما أشد ثراء وتركيبا من الخيال، ولكن الموهوب هو القادر على استخراجها)، وظل هذا يخفت في الجزء الثاني ثم يخفت أكثر في الثالث لحساب فن الرواية حتى جاء الجزء الرابع مؤسفا: شخصيات سطحية وحبكة ساذجة وحوارات فقيرة.. صورة متكاملة ليساري بائس يحاول الترويج ليساريته دون حتى أن يحاول فهم خصومه من الإسلاميين والليبراليين، فلم يجد إلا تسطيحهم وتشويههم.
ربما في مقام آخر أتمكن من التوسع والتفصيل في شأن هذه الرواية، لكنني هنا أضرب بها المثل في مجال أن المذكرات أصدق إنباء من الرواية، ودليلي أن الكاتب الواحد نفسه لما كتب مذكراته أجاد وأفاد، ولما تخيل رواية يكتبها كانت الثمرة ميتة ذابلة!
قد يُقال: لعل الرجل لم يُؤت موهبة الرواية، ولو أوتيها لكان آخره كأوله بل لربما كان أحسن من أوله. وأقول: ربما، وهو أمر أترك النقاش فيه لمحبي الأدب والرواية، ولكن من موقع الباحث في التاريخ الذي تهمه الحقائق والوقائع في المقام الأول، والذي يحاول تقريب التاريخ من عموم القراء، أقول: إن موهبة الرواية هنا ستكون كموهبة التزوير، إنها القدرة على صياغة خيال أشبه ما يكون بالواقع، وأحسن منه: أن يُسرد الواقع كما كان بقدر الوسع والاستطاعة، فلئن كان صاحب الرواية التاريخية ذا موهبة أدبية فقد اجتمع الحسنيان: نقل الواقع مع دقة الوصف.
تلك المقدمة التي طالت كانت تمهيدا لسؤال آخر من أكثر ما يردني، ويزداد ورودوه مع اقتراب موعد معرض الكتاب، حول المصادر المرشحة لتاريخ مصر الحديث.. الذي يبدأ من الحملة الفرنسية ويمتد حتى اللحظة الراهنة.وقبل الإجابة لا بد من ذكر ثلاثة أمور مهمة:
1. أن مصر من أغنى البلاد بتاريخها، فهي لموقعها وأهميتها وثقلها الثقافي والسياسي كُتِب في تاريخها أكثر من أي بلد عربي آخر، وهي لطبيعتها الجغرافية لها شخصية حددت جغرافيتها منذ قديم، فلا تختلط مع بلد آخر، ومن هنا كان المكتوب في تاريخ مصر على يد أبنائها وغير أبنائها من الكثرة والغزارة والتنوع بمقام لا أحسب أحدا يستطيع الإحاطة به، كما أن المكتوب عنها بغير اللغة العربية ضخم وثري للغاية. فكل ما يُرشَّح في هذا الباب من أي باحث سيكون قاصرا بل ومتهما لدى باحثين آخرين لهم بحسب تنوع واختلاف السعة والاهتمام، وفي النهاية فعملية الترشيح هي اجتهاد ككل اجتهاد يصيب ويخطيء.
2. أن التاريخ هو رواية إنسانية للوقائع، وهذه الرواية تنتج متأثرة بالبيئة والواقع وعلاقات القوى المسيطرة عليه، وهذا معنى "التاريخ يكتبة المنتصر" لأن السلطة حريصة دائما على إنتاج المعرفة والأفكار، ومن هذا الحرص: إنتاج روايتها للتاريخ التي تدعم شرعيتها وأفكارها وقيمها وغاياتها. لذلك فكلما ابتعدت الفترة المدروسة عن تسجيلها كلما كانت كتابتها أفضل لخفوت تأثير القوى المسيطرة والكشف عن روايات ووثائق أرادت لها السلطة أو شبكات القوى أن تختفي، ولهذا ترى مدارس تاريخية أخرى أن التاريخ ينتصر على السلطة في نهاية الأمر، لأنه يمكن دائما استخلاص التاريخ الذي شاءت السلطة تغيبه. ومن هنا فبقدر ما نعاني حتى الآن نقصا في مصادر تاريخ مصر الحديث باعتبار أن دولة محمد علي العلمانية العسكرية الحديثة لا تزال مستمرة، بقدر ما أن معرفتنا بالتاريخ تتناقص تدريجيا، فنحن نعرف عن دولة محمد علي أفضل مما نعرف عن دولة السيسي، فتظل معرفتنا تتناقص كلما اقتربت الفترة التي نبحثها.
3. الخلاف حول تفسير التاريخ، كما يقول جلال كشك، ليس ترفا نظريا وإنما هو في حقيقته خلاف حول المستقبل. ومعنى كلمة جلال كشك ببساطة: أن الذي يعتبر أن الحملة الفرنسية كانت خيرا ستكون رؤيته للمستقبل نقيض الذي يعتبرها شرا، كذلك الذي يرى أن محمد علي هو مؤسس مصر الحديثة وباني نهضتها ستكون رؤيته للمستقبل على عكس الذي يراه رجل الغرب وممثل مصالحه وأول من مزق المجتمع المصري وقضى عليه ومكَّنَ للأجانب فيه... وهكذا.
ثم نأتي للكتب المرشحة، وسأكتفي بعشرين عنوانا فقط، قسمتها في أربع تصنيفات، في كل تصنيف خمسة، وهي في التاريخ السياسي فحسب:
أولا: الكتب ذات المجلد الواحد- موجز تاريخ مصر في الحقبة العلمانية، أسامة حميد- تاريخ مصر الحديث، د. محمد مورو- ودخلت الخيل الأزهر، محمد جلال كشك- الحركة السياسية في مصر، طارق البشري- ثورة يوليو الأمريكية، محمد جلال كشك
ثانيا: كتب متوسعة- عجائب الآثار، عبد الرحمن الجبرتي- تاريخ الأستاذ الإمام، محمد رشيد رضا- تقويم النيل، أمين سامي- حوليات مصر السياسية، أحمد شفيق باشا (وبالتأكيد أن هذا لا علاقة له بأحمد شفيق المعاصر)- تاريخ الحركة القومية في مصر، عبد الرحمن الرافعي
ثالثا: المذكرات الشخصية- مذكرات أحمد عرابي، بتحقيق: د. عبد المنعم الجميعي- مذكرات اللورد كرومر (مصر الحديثة)- مذكرات سعد زغلول- مذكرات محمد حسين هيكل (مذكرات في السياسة المعاصرة)- مذكرات عبد اللطيف البغدادي
رابعا: كتب مستشرقين- لمحة عامة عن مصر، كلوت بك- قاموس تراجم مصر الحديثة، آرثر جولد شميت "الابن"- الأصول الاجتماعية والثقافية لحركة عرابي، جوان كول- التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر، ولفرد سكاون بلنت- رؤية جديدة لمصر: 1919 - 1952، تحرير: آرثر جولد شميت وآخران
وفي النهاية أذكر بما تعلمناه من أسلافنا العظماء العلماء من أن "العلم ينادي بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل"، والعلم لا يبقى في الصدور إلا حين يريد صاحبه استثماره في الواقع، والثقافة لمجرد الثقافة عبث وتضييع أوقات وأعمار.
اقرأ أيضا: مختصر تاريخ مصر في مقال واحد، وتبسيط تاريخ مصر في ثلاث مقالات: الأول، الثاني، الثالث.
نشر في مدونات الجزيرة
Published on January 10, 2018 00:46