محمد إلهامي's Blog, page 28

January 7, 2018

اليهود في ظلال الدولتين الأموية والعباسية

ما زلنا نستكمل السلسلة التي بدأناها عن اليهود وكيف عاشوا في ظل الإسلام، آخذين كل كلامنا من مستشرقين ومؤرخين غربيين فحسب، وكنا تحدثنا في المقال الأول عن عموم أحوال اليهود في ظل الإسلام مقارنة بالأمم الأخرى، وفي المقال الثاني عن أحوالهم في ظل دولة النبي ودولة الخلافة الراشدة، ونواصل في مقالنا هذا الثالث حديثنا عنهم في ظل العصر الأموي والعباسي.
يؤكد ج. ه. جانسن على فضل فتح المسلمين للأندلس، وهو الفتح الأموي، على حفظ حياة اليهود، يقول:"في مناسبتيْن من التاريخ اليهودي في أوروبا نرى أن بقاء اليهود على قيد الحياة يعود إلى استضافة وحماية الحكام المسلمين؛ كانت الفترة الأولى في القرن السادس عندما وضعت الفتوحات الإسلامية في إسبانيا حدًّا للاضطهاد اليهودي على يد المسيحيين هناك. ومنذ القرن العاشر فصاعدا أخذ الضغط على اليهود في أوروبا الغربية في الازدياد ببطء حتى إذا ما أطل القرن السادس عشر كانت تلك المنطقة قد أُفرغت من اليهود ما عدا بعض الجيوب الصغيرة والمبعثرة، لقد انتقلت الجاليات اليهودية نحو الشرق ووجدت ملجأ لها في الإمبراطورية العثمانية"ويقول مؤرخ الحضارة ول ديورانت في موجزه عن تاريخ العصر الأموي: "كان أهل الذمة: المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون، يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نظير لها في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فقد كانوا أحرارا في ممارسة شعائرهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص وأداء فرضة عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير (من 4.75 إلى 19 دولاراً أمريكياً). ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون سن البلوغ، والأرقاء، والشيوخ، والعجزة، والعمى الشديد والفقر. وكان الذميون يعفون في نظير هذه الضريبة من الخدمة العسكرية أو إن شئت فقل لا يقبلون فيها-ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها اثنين ونصف في المائة من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم، ولم تكن تُقبل شهادتهم في المحاكم الإسلامية، ولكنهم كانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم، وقضاتهم وقوانينهم"ينقل آدم ميتز عن رحالة يهودي أحوال اليهود في العصر العباسي، فيذكر كثرة عددهم، يقول: "يُقَدِّر ربِّي بنيامين (وهو رحالة سافر عام 1165م) اليهود في المملكة الإسلامية –بعد صرف النظر عن المغرب- بنحو ثلاثمائة ألف يهودي، على حين أن ربِّي بتاحيا –وقدسافر بعد صاحبه بعشرين عاما- يقدر أن عدد اليهود في العراق وحدها يبلغ ستمائة ألف. ولا تنطبق هذه الأرقام على الشام في القرن الرابع الهجري لأن السياسة التي جرى عليها قواد الصليبيين إزاء اليهود كادت تفني الطائفة الإسرائيلية؛ ويقدر بنيامين عدد سكان الحي الخاص باليهود في القدس بأربعة أنفس، ولم يجد بتاحيا هناك إلا شخصا واحدا. ويقول بايلومارسيليوس جورجيوس في خبر يرجع تاريخه إلى أكتوبر 1243م [يوافق: ربيع الآخر 641هـ] إنه لم يكن في الحي الخاص بالبندقيين في صور إلا تسعة من شبان اليهود. أما بنيامين فيقول إنه كان يسكن دمشق ثلاثة آلاف يهودي تحت حكم المسلمين –وعند بتاحيا عشرة آلاف- وفي حلب خمسة آلاف يهودي. أما على نهري دجلة والفرات فكان اليهود مجتمعين بكثرة"ثم يذكر أحوالهم وارتفاع شأنهم فيقول: "ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يُغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال؛ وكان قدمهم راسخا في الصنائع التي تدرّ الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجارا وأصحاب ضياع وأطباء، بل إن أهل الذمة نظموا أنفسهم بحيث كان معظم الصيارفة والجهابذة في الشام مثلا سهودا، على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى، وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده، وكان أصغر دافعي الضرائب هم اليهود الخياطون والصباغون والأساكفة والخرازون ومن إليهم"وتعد تلك الحقبة التاريخية العصر الذهبي للفكر اليهودي سواء في مشرق العالم الإسلامي أو قلبه أو مغربه، وهذا بذاته دليل لا يقبل النقض على روح التعامل الإسلامي مع اليهود، يسجل المؤرخ الفرنسي إدوارد بروي هذه الحقيقة قائلا:
"أما الفكر اليهودي فقد استيقظ برهة من الدهر، ونفض عنه الجمود واليبس الذي اعتراه من جراء التعاليم والمذاهب التلمودية... وعرف رئيس الكهنة ساديا في بغداد أن يكتسب شهرة واسعة بتجديده الناموس القديم، وراح يحاول من جهته التوفيق بين النصوص الكتابية وتعاليم الربانيين، أي بين مطلب الإيمان ومناهج العقل. ومن كل الجوالي اليهودية في أوروبا وآسيا كانوا يقصدون بغداد لاستيحاء تعاليم مدرستها المشهورة... ومع ذلك، فازدهار المدارس الملية التي قامت في كل من القدس والقاهرة والقيروان –التي تجاوز إشعاعها ولايات إيطاليا الجنوبية- والأندلس، يبدي بصورة قاسية، الصدارة التي احتلها ربابنة مدرسة بغداد على غير استحقاق أو جدارة أحيانا... ومنذ القرن الحادي عشر، أصبحت الأندلس ملاذ الفكر اليهودي، كما أصبحت مركزا للإشعاع الثقافي في العالم الإسلامي"ويزيد الأمرَ تفصيلا بَلَدِيُّه ألفريد مورابيا فيقول: "لقد تعمقت استقلالية اليهودية المصرية مقارنة ببغداد التي كانت مقرا للأكاديميات البابلية؛ فتم إقامة مدارس تلمودية ودينية، وكذلك أكاديمية في الفسطاط في آخر القرن العاشر. وتولى أحد "النجاد" وهو رئيس الطائفية اليهودية، قيادة اليهودية المصرية والسورية. هذا، وقد جاء أساتذة من الفلسطينين حيث أقاموا على ضفاف النيل، حتى إن الطائفة المصرية أصبحت أقوى طوائف اليهودية إلى درجة أنه كثيرا ما كانت تزود أكاديمية كل من بابل ومن الأراضي المقدسة بكل احتياجاتها المادية. لن يمر وقت طويل حتى تصبح القاهرة –التي أسسها الفاطميون- مركزا مُشِعًّا لليهودية الشرقية؛ كما سنشاهد بروز المنافسات فيما بين المعلمين البابليين والفلسطينيين لاجتذاب حظوة يهود مصر"ولذلك برز العديد من اليهود في تلك الحقبة سواء في العلوم الدينية اليهودية أو في العلوم البحتة أو في المناصب العليا للدول الإسلامية المتعددة المعاصرة للعباسيين؛ وبالرغم من أن ماكس مايرهوف يصنف العصر العباسي المتأخر من عصور الانحطاط ويزعم أن تزمت الشريعة خنق أصوات العلم، بالرغم من هذا يقول: "تزايد عدد اليهود بين الأطباء وعلى الأخص في قصور بغداد والقاهرة وإسبانيا وربما يرجع ذلك إلى أن اليهود كانوا يتمتعون آنذاك بحرية نسبية إزاء القيود الطارئة التي فرضها تزمت الشريعة الإسلاميةفي المقال القادم إن شاء الله تعالى نتناول كيف عاش اليهود في الأندلس، فالله المستعان.
نشر في مجلة المجتمع

ج. ه. جانسن، الصهونية وإسرائيل وآسيا، ترجمة: راشد حميد، سلسلة كتب فلسطينية 39 (بيروت: مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، سبتمبر 1972م)، ص16. ول ديورانت، قصة الحضارة، مرجع سابق، 13/130، 131. آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، مرجع سابق، 1/81، 82. نفس المصدر، 1/86، 87. إدوارد بروي، القرون الوسطى، ضمن "موسوعة تاريخ الحضارات العام"، بإشراف: موريس كروزيه، ترجمة: يوسف داغر وأسعد داغر، ط2 (بيروت وباريس: منشورات عويدات، 1986)، 3/231. ألفريد مورابيا، يهود مصر في ظل الإسلام: من الفتح العربي إلى حملة بونابرت، ضمن "تاريخ يهود النيل"، تحرير: جاك حاسون، ترجمة: يوسف درويش، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 2008)، ص59. عبارة عجيبة متناقضة!! ماكس مايرهوف، العلوم والطب، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف: توماس أرنولد، تعريب جرجيس فتح الله، ط2 (بيروت: دار الطليعة، 1972)، ص484.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 07, 2018 08:53

January 6, 2018

مائة عام على مولد يوشع براور ومحمد الغزالي

في عام 1936، وهو عام اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى، أي قبل الإعلان عن دولة إسرائيل باثنتي عشرة سنة، وصل إلى فلسطين شاب يهودي من بولندا في التاسعة عشرة من عمره، واتخذ قرارا بالاستقرار في "إسرائيل"، وهناك عكف على البحث والتنقيب في عصر الحروب الصليبية لكن من زاوية تندر فيها المؤلفات، ولم تمض خمسة أعوام حتى صدرت دراسته الأولى "دور اليهود في تجارة العصور الوسطى" (1941)، وظل يوالي البحث والتأليف لنصف قرن بعد هذه المدة، وقد انتقل للاستقرار في القدس الشرقية بعد الاحتلال الصهيوني لها (1967م)، حتى صدرت آخر مؤلفاته في القدس، وهو "تاريخ بيت المقدس: الحملات الصليبية والحقبة الأيوبية" (1991)، وهو ذات العام الذي توفي فيه.
هذا الشاب هو يوشع براور، مؤسس وزعيم مدرسة المؤرخين الإسرائيليين المتخصصة في دراسة الحروب الصليبية، وهو أبرز مؤرخ إسرائيلي في هذه الحقبة، وتلاميذه هم أهم المؤرخين الإسرائيليين في هذه الفترة، مثل: سلفيا سكين وبنيامين كيدار وأرييه جرابوا وغيرهم. وقد صدر له بعد وفاته كتاب تكريمي احتوى على 22 دراسة في التأريخ للحملات الصليبية ومملكة بيت المقدس كتبها أبرز مؤرخي تلك الحقبة في العالم، ومنهم ستيفن رانسيمان ورايلي سميث وكلود كاهن وغيرهم.
وضع براور كافة طاقته في خدمة الشروع الصهيوني، ليس فقط من حيث التأليف العلمي الحافل، وإنما بمشاركته منذ أيامه الأولى في القتال والمعارك، فقد انضم مطلع قدومه إلى العصابات الصهيونية، وأصيب في بعض معاركها، وعاصر سائر الحروب التي خاضها الكيان، ومات وهو يشهد الانتفاضة الفلسطينية، فختم حياته بذات المشهد الذي افتتحها به: مشهد المقاومة الفلسطينية المستمرة. وما بين البداية والنهاية عمل مستشارا للحكومة الإسرائيلية في التعليم، وفي مناصب أخرى ساهمت في تشكيل الوعي الصهيوني صغارا وكبارا، بل إنني وجدت ضمن خبر منشور (هاآرتس: 28 نوفمبر 2016) أن مريم زوجة رئيس الوزراء الصهيوني ليفي أشكول عملت كباحث مساعد مع يوشع براور.
أجاد براور خمس لغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية واللاتينية إضافة إلى العبرية، وكتب مؤلفاته بالعبرية والإنجليزية والفرنسية، مما أكسبه اطلاعا واسعا على مؤلفات الحروب الصليبية المصدرية، وكان حريصا على ترجمة بعض الكتب وإعادة نشرها بعد نفاد طبعاتها القديمة مثل كتاب مؤرخ الكنيسة الإيطالي مارينو ساوندو تورسيللو، ومتابعا للجديد الذي يصدر في هذا المجال. إلا أن الذي تميز به براور عن سائر السابقين له هو تركيزه الكبير على التكوين الداخلي لمملكة بيت المقدس، وأحوالها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وطبيعة سكانها والعلاقات بينهم، كذلك التوفر على دراسة الينابيع وموارد المياه، ودراسة القلاع التي بناها الصليبيون من حيث كونها مستعمرات للاستفادة بخبرتهم وتجنب ما قد يكونوا أخطأوا فيه، وله دراسات أخرى عن الحدود الجنوبية والشمالية لمملكة بيت المقدس.
ومن اللافت للنظر أنه نشر عام 1956 دراسة عن عسقلان، ثم نشر عام 1967 دراسة بعنوان "إعادة الاستقرار اليهودي في بيت المقدس الصليبية"، وهو دليل على أن الرجل لم يكن منظرا أجوف ولا كان عمله مجرد التنظير، بل كان عمله ضمن المشروع الصهيوني الذي يجري تطبيقه على الأرض، ومن ثم رافق بحثه عن عسقلان العدوان الثلاثي على مصر كما رافق بحثه عن تهويد القدس احتلال القدس الشرقية.
لا يتسع المقام لأكثر من هذا عن يوشع براور ومدرسته، ويمكن الرجوع إلى المزيد عنه ضمن كتاب "المؤرخون الإسرائيليون والحروب الصليبية" للدكتور محمد مؤنس عوض، وعن هذا الكتاب استفدت ما كتبته هنا، وكذلك إلى مقدمتي ترجمتي كتابيه إلى العربية: "عالم الصليبيين" بقلم: د. قاسم عبده قاسم، و"الاستيطان الصليبي في فلسطين: مملكة بيت المقدس" بقلم: د. عبد الحافظ البنا.
والشاهد المقصود من إيراد كل ما سبق لفت النظر إلى الاهتمام الإسرائيلي المبكر جدا للاستفادة من التجربة الصليبية، تجربة بدأت قبل الإعلان عن إسرائيل نفسها، لقد استوعب صانعو المشروع أهمية التأسيس العلمي، كما استوعب العلماء أهمية أن يدرسوا للعمل والتطبيق لا لمجرد المتعة العلمية وإعادة إنتاج وتوليد نفس الأفكار بعبارات أخرى أو بترتيب آخر.. وهو درس لا بد من استيعابه في حركتنا لتحرير بيت المقدس.
والواقع أن ما يتسرب من الإنتاج العلمي الإسرائيلي ليشهد بقوة ونضج ومجهود ممتاز، ولا نزال في العالم العربي لا نرى شيئا منه، وأحسب أنها مهمة تقع بالمقام الأول على عاتق من يجيد العبرية سواء من أبناء فلسطين أو ممن يتخصصون في اللغة العبرية.. ونحن على الحقيقة لن نستطيع خوض صراع مع إسرائيل دون معرفة دواخل مجتمعاتهم والاطلاع على دراساتهم.
لقد كنت قبل أسبوعين في المؤتمر الدولي السابع عشر لدراسات بيت المقدس، والتقيت فيه أحد إخواننا من عرب الـ 48، وجرى بيننا حوار حول عبء الترجمة عن العبرية الواقع عليه وعلى أمثاله، فقال لي بأن المهمة ضخمة حقا، وأن الدراسات الإسرائيلية عن ينابيع فلسطين وحدها بالعشرات، وعن نباتاتها بالمئات، وعن جغرافيتها بالآلاف، فضلا عن الدراسات المتعلقة بالفرص والمخاطر الحربية والمواقع العسكرية وغيرها.
المهمة عظيمة حقا.. ولكن الموارد والإمكانات البحثية في العالم العربي قادرة عليها، وتظل المشكلة الرئيسية الكبرى التي هي أصل وجوهر كل المشكلات: مشكلة الأنظمة العربية التي تعرف أن مهمتها حماية إسرائيل وتدمير مقومات الأمة، ولذلك تتعطل كل المجهودات وتتكسر على تلك الصخرة العتيدة.
وهو ما يعيدنا إلى القول المكرر دائما: نجاح الثورات العربية هو الطريق الوحيد لإزالة إسرائيل.
***
قبل أيام انتهت في اسطنبول ندوة مئوية الشيخ محمد الغزالي رحمه الله (وُلِد في 1917م)، وكانت ندوة مباركة سعى فيها وبذل لها وتابعها الأستاذ الكريم د. وصفي عاشور أبو زيد، وهو من تلامذة الشيخ الغزالي المهتمين به والمتخصصين فيه، وهو يرفعه فوق كل طبقة عصره وله نحوه عاطفة حارة.. وأحسب أن الله علم صدق نيته فهيأ له الجهود التي تكفلت بإقامة الندوة وطباعة أوراقها العلمية في مجلدين أنيقين، وكان من عجائب ما وقع فيها أن تلاميذ الشيخ انبروا في الكتابة عنه حتى إن الشيخ الأسير د. صلاح سلطان كتب خلف القضبان دراسة في مائة ورقة عن المناهج العلمية والأصولية للشيخ الغزالي في كتاب "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، وكتب د. جمال عبد العزيز بحثا عن "الغزالي لغويا" من ثلاثين صفحة في ليلة واحدة. وقد شهد المجلدان حضورا لأعلام الفكر والدعوة المعاصرين بأوراقهم كالشيخ القرضاوي ود. محمد عمارة والمستشار طارق البشري ود. عماد الدين خليل والشيخ مجد مكي ود. حلمي القاعود ود. خالد فهمي وغيرهم من العلماء والدعاة والباحثين، ومن ثم فقد كانت فرصة ثمينة لأمثالي من شباب وصغار الكتاب والباحثين مجاورة هذه الأسماء.
لكن يلفت النظر أن مئوية الغزالي لم يكن ممكنا أن تحتضنها مصر وهي بلده، ولا السعودية التي درس فيها وتوفي فيها مدافعا عن الإسلام وهو مدفون بها، ولا الجزائر التي درس فيها فأثمر وكان ميزانا اعتدلت به الحالة الإسلامية ولم يزل تلاميذه الجزائريون أسرع الناس إلى الاحتفاء به.. ولا دولة أخرى من بلاد العرب! لقد تحولت تلك البلاد إلى عواصم حرب على الإسلام وأهله أو في أحسن الأحوال تتجنب أن يُنسب إليها شيء من نصرة الإسلام وأهله وإحياء ذكرى مشايخه.
ومن عجيب الاتفاق أن كلا الرجلين: الشيخ الغزالي ويوشع براور وُلِدا في نفس العام (1917)، لكن شتان ما بين ما فعلت إسرائيل في الحفاوة برجلها ومؤرخها، وبين ما فعلت بلاد العرب بشيخها وداعيتها.

نشر في مجلة كلمة حق
3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 06, 2018 10:48

January 3, 2018

دليلك لقراءة تاريخ مُبَسَّط مُشَوِّق غير مُمِلّ!

من أكثر الأسئلة التي تردني: أريد أن أقرأ في التاريخ ولكنني سريع الملل، أو: ولكنني أنسى بسرعة ما قرأت، أو: أنني لا أستطيع الاستفادة مما أقرأه في حياتي؟!
الواقع أن المادة التاريخية المقدمة في الكتب لا تناسب الكثير من جمهور القراء الذي يحب الثقافة السريعة أو الوجبات العقلية الخفيفة. وتلك مشكلة تمتد من أول مناهج التدريس الابتدائية حتى المنتجات الثقافية المتخصصة، ولهذا ينصرف الأكثرون عنها ولا يبقى إلا من شغف بها حتى تجاوز عسرها ودخل في الاستمتاع بها.
على كل حال فضلت أن أكتب في هذا المقال إجابتي التي تتكرر للأصدقاء والسائلين، فأقول مستعينا بالله:
1. لست ممن ينصح بالروايات، مع اعترافي بأن بعضها عميق في وصف النفس البشرية وفي وصف المعضلات الفكرية والشعورية، بل أذكر أن الروائي الإيطالي إيكو (صاحب رواية "الوردة") تحول إلى الرواية ليستطيع صياغة فكره الفلسفي في ثوب شيق مفهوم، وهو صاحب عبارة: حين يتعطل السرد تبدأ القصة. ومع هذا أقول: الرواية مصنوعة في ذهن مؤلفها، يملك مؤلفها أن يسوقها من البداية إلى الحبكة إلى النهاية، وهو يتصرف فيها تصرف صانع الصلصال، يشكله كيف يحب، ويسوقه كيف يحب.. فهي في النهاية خيالٌ محكي، لا واقعا تنقله الحكاية.
ولا ينبغي أن يبني الإنسان مادة عقله ومشاعره وأفكاره وتصوراته من الخيال والوهم مهما كان يبدو واقعيا، فهذا كالذي والتي أخذت ثقافتها من الأفلام والمسلسلات، وأكثرها –بطبيعة الحال- سطحي ورديء، ولسنا بحاجة أن ندلل على فساد ما صنعته الأفلام والمسلسلات في بيئاتنا العربية من تصورات، خصوصا عن العلاقة بين الرجل والمرأة، وبين الفقير والغني، وبين الحاكم والمحكوم، وبين المجرم وضابط الشرطة.. هل يمكن أن يكون إنسانا سويا من تكونت ثقافته من تلك المسلسلات والأفلام، مهما كانت جودة حبكتها وحرفية كتابتها؟
2. لهذا أنصح من يحبون الروايات ومن يملون من قراءة كتب التاريخ بالبدء بقراءة المذكرات الشخصية، صحيح أن المذكرات الشخصية تشبه الرواية في كونها ثمرة ذاتية لكاتبها، وكاتب المذكرات كالروائي يسوق الحكاية كما يحب ويرغب، قد يضيف وقد يخفي ويكتم، يبرئ نفسه ويبرر لها وربما يعظم من قدره، كما يلقي باللائمة على الآخرين ويحملهم المسؤولية.. هذا صحيح لا شك! ولكن مع هذا يبقى الفارق كبيرا وواضحا. الفارق بين الخيال مهما حاول أن يكون واقعيا، وبين الواقع مهما أضفى عليه صاحبه من خياله! الروائي يصنع روايته من الخيال فهو مطلق التصرف في صياغة أحداثها، بينما صاحب المذكرات محكوم بالوقائع كما كانت واجتهاده في صناعة روايته الشخصية لا يسمح له بالخروج عن إطار الحقيقة.
ربما نستثني من هذا: الروايات التاريخية، فهي محاولة حكاية التاريخ في ثوب قصصي بمعالجة روائية، هي على كل حال خير من الرواية الخيالية المصنوعة في عقل صاحبها من كل وجه، وهي مفيدة في تلمس الحقبة التاريخية بطريقة خفيفة مشوقة، فهي في منتصف الطريق بين الرواية وبين المذكرات الشخصية، ويظل للمذكرات الشخصية فضل اقترابها من الحقيقة والواقع. فمن أولئك: علي أحمد باكثير ونجيب الكيلاني ونجيب محفوظ والمنسي قنديل.. وغيرهم!
3. لكن المعضلة هنا أنه ليس كل من كتبوا مذكراتهم كان لهم هذا الأسلوب اللطيف المشوق. هذا صحيح.. ولذلك أنصح بالبدء بقراءة مذكرات الأدباء ومن تمتعوا باللغة الأدبية المشوقة، ولدينا طائفة هائلة من الأدباء الذين كتبوا مذكراتهم فكانت قطعة من المتعة العقلية والنفسية، ففي تلك المذكرات تتحقق أهداف الاستفادة بالتاريخ ووقائعه مع الصياغة اللذيذة.
من أبرز من كتبوا مذكراتهم من الأدباء، حتى ولو لم نوافق على أفكارهم وطريقتهم: طه حسين في (الأيام)، وعلي الطنطاوي في (ذكريات)، وأنور السادات في (البحث عن الذات) فلقد كان يملك أسلوبا أدبيا جميلا، والشيخ عبد الحميد كشك في (قصة أيامي)، وخالد محمد خالد في (قصتي مع الحياة)، وخليل حسن خليل في رباعية (الوسية، الوارثون، السلطنة، الخلاص)، وأحمد فؤاد نجم في (الفاجومي)، ووليد سيف في (الشاهد المشهود)... وغيرهم كثير كثير!
4. قريب من المذكرات أيضا كتب الرحلات، لكن يُنتبه إلى أن كتاب الرحلات في العادة يبالغون في وصف ما تعرضوا له من أخطار وأهوال أو من عجائب وغرائب، وفيما عدا هذه الملاحظة تعد كتب الرحلات من المواد التاريخية المفيدة، لا سيما إن كتبها أو ترجمها أديب سلس العبارة.. ويكاد يكون من اليسير أن تجد عن كل بلد في أي زمن كتاب من كتب الرحلة، وكلما اقتربت من الزمن المعاصر كلما زادت المادة المكتوبة غزارة وثراء وتنوعا، بل إن عالمنا الإسلامي منذ مائتي سنة يشهد كثافة هائلة في إنتاج المستشرقين الذين رحلوا إلى بلادنا وكتبوا رحلتهم (بل إن واحدا كالإنجليزي ريتشارد بيرتون أجاد 25 لغة وأربعين لهجة، ورحلته إلى الحج جاءت في ثلاث مجلدات كان الأول منها وصفا ممتازا لمصر في منتصف القرن التاسع عشر)، كما تشهد كثيرا من مادة العرب والمسلمين الذين ذهبوا إلى الغرب وكتبوا رحلاتهم.
5. ثم هناك من رزق الموهبة في كتابة التاريخ بأسلوب جميل مشوق، وكثير من هؤلاء صحافيون، ويجري على هؤلاء مثلما يجري على أصحاب المذكرات.. قيمتهم في التاريخ هي قيمتهم من الصدق والكذب، والواقع أن أكثرهم لا يعد في باب أصحاب النزاهة والأمانة، فمن المؤسف أن الصحافة –بطبيعتها، ولا سيما في بلادنا المنكوبة بالاستبداد- يندر أن تخرج النزيه الأمين.. فالقراءة لهؤلاء ينبغي أن تتوخى الحذر في الأخذ عن الصحافيين. فمن هؤلاء: جرجي زيدان وداود بركات وأنيس منصور ومحسن محمد وأمين معلوف وأحمد بهاء الدين وجمال بدوي وصلاح عيسى.. وغيرهم.
6. وهناك كتب لا تندرج تحت أي من التصانيف السابقة، ولكنها مع هذا تقدم مادة تاريخية في ثوب ممتع بديع، منها كتاب "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي، فهو من أمتع ما يكون في وصف حال مصر في نهاية القرن التاسع عشر، كتبه على هيئة فن المقامة الأدبية، فقدم صورة شاملة لمجتمعه عبر مجموعة من القصص المسبوكة في رواية واحدة والمزخرفة بدفق ثري من الألفاظ والتراكيب البلاغية المدهشة.. ومنها كتب الأديب الملتهب د. محمد عباس، وكذلك كتب أحمد رائف.
ما يهمني التأكيد عليه في كل هذه الكتب السابقة أنها بداية لمن يريد أن يتعرف على تاريخ الحقبة، فهي تمهيد لا أكثر يُراد منه الوصول بعدها إلى قراءة الكتب المتخصصة فيها بغير ملل منها. ولا ينبغي بحال الاعتماد عليها في تكوين صورة عامة عن الفترة التاريخية. بل وليس معنى إيرادي لاسم هنا أنني أزكي طريقته أو منهجه أو أفكاره.. فقط أتحدث عن جمال لغته وأسلوبه، وأنه قد يستفاد منها في تقريب وتبسيط القارئ المحب للتاريخ وغير القادر على تناول الكتب العلمية مباشرة. بل وأصارحكم بأني ترددت في كتابة هذا المقال لنحو سنة كاملة لخشيتي ألا يؤخذ هذا التأكيد على محمل الجد، فللأسف نحن في عصر سادت فيه الخفة والسطحية حتى إن الشاب حين يقرأ عبارة يطير ليكتبها على الفيس وتويتر ويُكَوِّن حولها قصص وأساطير من نسج خياله.. لكنه في النهاية لن يضر إلا نفسه ومن يستمع له، وعلى كل إنسان أن يتق الله فيما يقول، ويتق الله فيمن يستمع إليه ويأخذ عنه.
7. ثم نختم في النهاية بجمع من المؤرخين المحترفين، أو من يقترب منهم في البحث والتعب على مادته، ولم تستطع التقاليد الأكاديمية أن تنتزع منه اللغة الأدبية الجذابة، فمن هؤلاء: حسين مؤنس وأحمد عادل كمال وأحمد أمين وشوقي ضيف ومحمد عبد الله عنان وعبد الرحمن بدوي ومحمد جلال كشك ومحمد قطب وغيرهم.
ثم نسأل الله أن يقيض لنا كتيبة من المؤرخين المحترفين أصحاب الأمانة والنزاهة يتمتعون بالأسلوب الجميل ليكتبوا لنا تاريخا يجمع بين الدقة العلمية ورشاقة الأسلوب.. ثم نسأله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علما.

نشر في مدونات الجزيرة
5 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 03, 2018 02:23

December 27, 2017

قصة معجزات تاريخية خالدة

يظن بعض الناس أننا حين نتكلم بفخر عن تاريخنا الإسلامي فإنما ننطلق في هذا من التحيز والتعصب وعاطفة الانتماء.. ومع أن هذا في نفسه ليس عيبا طالما التزم الإنسان الحق والعدل والإنصاف فيما يقول، فإن الدافع الذي يحملنا على الحديث الفخور عن تاريخنا وحضارتنا ليس مجرد هذا.. إنما هو دافع الحق نفسه، الدافع الذي يحمله كل محب للإنسانية مشفق على البشر، يرى أنهم يتيهون ويتخبطون ويغفلون عن المنهج الذي يمكن أن يرفع شأنهم ويعيد إليهم أخلاقهم وإنسانيتهم. ثم هو دافع الدفاع عن التاريخ المهضوم المظلوم الذي تواطأ أهل الظلم والكذب على تشويهه وتجريحه، إنه دفاع المرء عن نسبه الشريف الأصيل إن هاجمه اللقطاء الأدعياء. وفي النهاية هو دافع من يرى أن التجربة العظيمة يمكن تكرارها، لا.. ليس مجرد الإمكان، بل هو الوعد الصادق.. وعد انتصار الدين وعلو الحق وعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة! فلئن أردكناها فهو ما نحب، وإن لم ندركها فحسبنا أن نموت ونحن في طريق الطالبين.
في هذه السطور سنضرب مثلا في سمو تاريخنا بالبصمة التاريخية للخلفاء الراشدين، وكيف كان لكل واحد منهم إنجاز لا يُعرف مثله لغيره من حكام التاريخ..
1. أصل المعجزة التاريخية
يعود أصل المعجزة التاريخية للخلفاء الراشدين إلى كونهم تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم، فلولا تلك الرسالة التي حملها هذا النبي، ولولا أنهم كانوا أخلص أنصاره له وألزمهم به ما كان لأحدهم أن يبلغ في تاريخ الدنيا ولا في ميزان الآخرة ما بلغ.
إن الإنجاز النبوي هو المعجزة التاريخية الكبرى، فالسيرة النبوية هي أعظم قصة نجاح بشري على الإطلاق، فلا يُعرف في تاريخ الدنيا رجل نجح في نشر دين وبناء دولة عظمى إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يشهد به المؤرخون من غير المسلمين.
كتب مايكل هارت كتابًا حول أعظم مائة شخصية في التاريخ الإنساني، وعلى الرغم من أنه مسيحي لا يؤمن بالإسلام ولا بمحمد إلا أنه جعل النبي على رأس هذه المائة، وقال:
"لقد اخترت محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليكون الأول في قائمة أهم رجال التاريخ، ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي. وهو قد دعا إلى الإسلام، ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا ودينيًّا، وبعد ثلاثة عشر قرنًا من وفاته فإن أثر محمد -صلى الله عليه وسلم- ما يزال قويًّا متجددًا"
ويفسر هارت حيثيات هذا الاختيار بالقول:
"كان البدو من سكان شبه الجزيرة مشهورين بشراستهم في القتال، وكانوا ممزقين -أيضًا- رغم أنهم قليلو العدد، ولم تكن لهم قوة أو سطوة العرب في الشمال الذين عاشوا على الأرض المزروعة. ولكن الرسول استطاع لأول مرة في التاريخ أن يوحد بينهم وأن يملأهم بالإيمان وأن يهديهم جميعًا بالدعوة إلى الإله الواحد؛ ولذلك استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية . وإذا استعرضنا التاريخ؛ فإننا نجد أحداثـًا كثيرة من الممكن أن تقع دون أبطالها المعروفين، مثلاً كان يمكن أن تستقل مستعمرات أمريكا الجنوبية عن إسبانيا دون أن يتزعم حركاتها الاستقلالية رجل مثل: سيمون بوليفار، هذا ممكن جدًّا، على أن يجيء بعد ذلك أي إنسان ويقوم بنفس العمل، ولكن من المستحيل أن يقال ذلك عن البدو وعن العرب عمومًا، وعن إمبراطوريتهم الواسعة دون أن يكون هناك محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلم يعرف العالم كله رجلاً بهذه العظمة قبل ذلك، وما كان من الممكن أن تتحقق كل هذه الانتصارات الباهرة بغير زعامته وهدايته، وإيمان الجميع به"
ونستطيع أن نذكر أقوالا كثيرة في نفس هذا المعنى، وكلها لغير المسلمين، إلا أن المقصود الآن هو فهم أن معجزة الخلفاء الراشدين وبصمتهم التاريخية إنما كانت فرعا عن أصل المعجزة النبوية.
2. بصمة الخلفاء الراشدين
واحدة من أهم بصمات الخلفاء الراشدين هو أنهم جميعا رغم اتساع المساحة التي حكموها فلقد كانوا أهل دين وزهد وتقشف وإيثار للآخرة.. ليس فيهم واحد تولى الحكم فتكسب منه أو صار أغنى مما كان قبل الخلافة، ولم يُتَّهم أحد منهم مجرد اتهام في ذمته المالية.
وهم مع اتساع دولتهم التي شملت الملايين لم يكن لأي منهم مظاهر السلطان والصولجان والفخامة، وكان يملك الواحد من الرعية أن يخاطب الأمير ويعترض عليه ويناقشه دون أن يخشى على نفسه ظلما أو جورا، ولم يكن على باب أحدهم حجاب أو حماية خاصة، بل إن ثلاثة منهم استشهدوا على يد خصومهم، وكانوا جميعا: اثنان في المسجد هما عمر وعلي، وواحد في داره هو عثمان رضي الله عنه.
وهم مع قوة دولتهم ورسوخ سلطانهم كانوا يكثرون من الاستشارة والمشاورة، ويضربون أمثلة في الرحمة والشفقة بالرعية، ومراجعة النفس فيما قد يعرض لهم من أمور، ولم يكن لأحدهم حب للسلطة أو تمسك بها أو قتال من أجلها.
ومن بصمتهم أنهم جميعا عرفوا لبعضهم حقهم، فلم يحاول أحد منهم نقض إنجازات سابقة أو نسبتها إلى نفسه، بل لكل منهم كلام في تعظيم بعض، حتى إن عليا –وهو آخرهم- توعد بالجلد من يفضله على أبي بكر وعمر، وكاد أن يقتل من يسبهما، وعمر هو القائل "لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر"، وعثمان هو القائل "ومن يطيق ما كان يطيق عمر".. بينما عادة الحكام الأقوياء أن يسعوا في طمس مآثر من قبلهم ليحفروها باسمهم، ثم يأتي اللاحق فيكرر الطمس مع السابق كذلك.
لقد كان الراشدون حكاما مثاليين، لم ير في التاريخ مثلهم، ولهذا فلقد أثاروا إعجاب الزعماء والمؤرخين عبر التاريخ، حتى من لم يكن منهم مسلما، كان نموذجهم في النجاح الفائق ملهما، يقول الزعيم الهندي المعروف جواهر لال نهرو في كتابه "لمحات من تاريخ العالم":
"كان أبو بكر وعمر رجلين عظيمين، وقد وَضَعَا الأساس الذي بُنِيَتْ عليه عظمة العرب والمسلمين، وكانَا خليفتين يجمعان في يديهما السلطة الزمنية والسلطة الدينية معًا، ولكنهما -وبالرغم من عظم المنصب وقوة الدولة- زهدَا في متاع الحياة الدنيا بما فيها من أبهة وعظمة"
ويقول مؤرخ الحضارة الأمريكي ول ديورانت في كتابه الشهير قصة الحضارة، والذي قضى في تأليفه أربعين سنة: "ولا يسعنا إلا أن نُسَلِّم بأن الخلفاء الأولين من أبي بكر إلى المأمون، قد وضعوا النظم الصالحة الموفقة للحياة الإنسانية في رقعة واسعة من العالم، وأنهم كانوا من أقدر الحُكَّام في التاريخ كله، ولقد كان في مقدورهم أن يُصادروا كل شيء، أو أن يُخَرِّبُوا كل شيء، كما فعل المغول أو المجر أو أهل الشمال من الأوربيين؛ لكنهم لم يفعلوا هذا "
3. معجزة أبي بكر
أبو بكر هو الحاكم الوحيد في التاريخ الذي تولى الحكم وعاصمة الدولة مهددة بالاجتياح وتعاني تهديدا أمنيا خطيرا، ثم تركها وهي قوة عظمى عالمية، وكل ذلك في عامين فقط!!
وهذا إنجاز لا يُعرف في التاريخ لغير أبي بكر، فالمؤسسون العظماء من الحكام هم الذين يفعلون واحدة من هذه الإنجازات فحسب! كأن يحفظ الدولة في لحظة تهديد حرج فيتركها آمنة من بعد ما كانت مضطربة، أو هو الذي ينقلها من الضعف إلى القوة والمنافسة، أو ينقلها من القوة لتكون قوة عظمى عالمية، وهو يكون عظيما ولو قضى في هذه المهمة عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة حسبما يطول به العمر.
وسائر الملوك العظماء الذين تلمع أسماؤهم في التاريخ كانوا واحدا من هؤلاء، وأكثرهم ممن طال عمره فحكم بعضهم لنصف قرن أو أكثر، وربما ثلث قرن أو ربع قرن.. ويمكن للمشاهد الكريم أن يتتبع ما شاء من أسماء: قورش، شارلمان، رمسيس الثاني، الإسكندر المقدوني، سليمان القانوني، نابليون، ما وتسي تونج، بسمارك، لينين.. إلى آخره! لن يجد فيها واحدا استطاع تحقيق إنجاز أبي بكر الذي نقل دولته من تهديد العاصمة إلى القوة العظمى العالمية في سنتين فحسب!
فعند بداية عصر أبي بكر كانت حركات الردة قد اشتدت في الجزيرة العربية، منهم من ارتد بالكلية ومنهم من امتنع عن الزكاة، والقبائل القريبة من المدينة أغارت عليها، ولم يرض أبو بكر بالتنازل عن شيء مهما كان بسيطا مما كان لرسول الله، فأرسل أحد عشر جيشا قضت على حركة الردة، فما إن انتهت حتى انطلقت الفتوحات، وإذا بها تزلزل أركان القوتين العظميين فارس والروم، وتفتح بلادهما في ذات الوقت، ويموت أبو بكر بعد عامين وقد عادت وحدة الجزيرة العربية، وله جيش يفتح العراق، وجيش آخر يفتح الشام!
تلك هي المعجزة التاريخية لأبي بكر الصديق.
عمر بن الخطاب
وأما عمر بن الخطاب فهو الوحيد الذي حكم إمبراطورية هائلة تكاد تكون ثلث العالم المعروف وقتها والمتنوعة الأعراق واللغات والأديان.. بعدل ورحمة!
ذلك أن عادة الإمبراطوريات الواسعة أن يتسلط فيها العنصر الحاكم على الشعوب الأخرى، فيسومونها سوء العذاب، ويمتصون ثرواتها لتتضخم العاصمة الاستعمارية. ومن عادة حكام الإمبراطوريات القسوة والدموية، حتى إن المؤرخين في العادة يعتبرون المذابح البشعة التي يقوم بها من يوحد البلاد ضريبة حتمية لعملية التوحيد، فلا يكاد يكون حاكم قد وحد منطقة واسعة تحت حكمه إلا وارتكب عددا من المذابح التي شملت النساء والأطفال والشيوخ، ومع هذا فتلك المذابح في العادة لا تقدح في مكانته التاريخية كبطل مُوَحِّد للإمبراطورية.
لكن عمر بن الخطاب قدم المثال على الحاكم الذي يحكم إمبراطورية واسعة الأنحاء متنوعة المكونات بعدل، يستطيع فيها أي واحد من الرعية أن يشكو أميره وواليه الفاتح لبلاده إلى أمير المؤمنين وهو مطمئن لعدالة ناجزة تنتظره.
كان عمر يحكم ثلث العالم المعروف ولا يستطيع تجاوز القانون (أي الشريعة) حتى إنه لينظر إلى قاتل أخيه فيقول له: لا أحبك حتى تحب الأرض الدم. فيقول: وهل هذا مانعي بعض حقي؟ فيقول: لا. فيقول الرجل: فاحبب أو لا تحبب فإنما تأسى على الحب النساء.
وقد وضع مايكل هارت عمر ضمن المائة الخالدين في التاريخ وقال فيه: "ما أنجزه عمر بن الخطاب شيء باهر، فبعد وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) كان عمر هو الشخصية التي نشرت الإسلام، فبغير هذه الغزوات السريعة ما كان من الممكن أن ينتشر الإسلام في هذه المساحات الشاسعة من الأرض. ومعظم البلاد التي غزتها جيوش المسلمين ظلت عربية إسلامية حتى يومنا هذا"
وتأثر المؤرخون كثيرا بما كان في الفتوحات العمرية من عدل ورحمة، لا سيما فتح مدينة بيت المقدس، إذ أن الفتح العمري لها كان هو الفتح الوحيد الرحيم بين سائر الغزاة الذين دخلوا المدينة، حتى تقول مؤرخة القدس كارين أرمسترونج بأن هذا الفتح "لم تشهد المدينة فتحا مثله".
وأكثر المؤرخون من المقارنة بين الفتح العمري للقدس وبين بقية الغزوات، حتى ليقول المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون في مقارنة بين الاحتلال الصليبي (والذي بدأ من فرنسا وكان الفرنسيون أصحابه)
"يثبت لنا سلوك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مدينة القدس مقدار الرفق العظيم الذي كان يُعَامِل به العربُ الفاتحون الأممَ المغلوبة، والذي ناقضه ما اقترفه الصليبيون في القدس بعد بضعة قرون مناقضة تامَّة، فلم يُرِدْ عمر أن يدخل مدينة القدس معه غيرُ عددٍ قليل من أصحابه، وطلب من البطرك صفرونيوس أن يرافقه في زيارته لجميع الأماكن المقدسة، وأعطى الأهلين الأمان، وقطع لهم عهدًا باحترام كنائسهم وأموالهم، وبتحريم العبادة على المسلمين في بِيَعِهم"
لقد ضرب المسلمون مثالا عجيبا بفتوحاتهم، وها هو الزعيم الهندي جواهر لال نهرو يقول أيضا: "إن العرب كانوا في بداية يقظتهم متقدين حماسًا لعقيدتهم، وإنهم كانوا مع ذلك قومًا متسامحين؛ لأن دينهم يأمر في مواضع عديدة بالتسامح والصفح، وكان عمر بن الخطاب شديد الحرص على التسامح عندما دخل بيت المقدس" وبهذا صارت معجزة عمر التاريخية أنه الوحيد الذي حكم إمبراطورية واسعة متنوعة.. بعدل ورحمة!
عثمان بن عفان
وأما عثمان بن عفان فيشترك مع عمر في معجزته حكم دولة شاسعة بعدل ورحمة، إلا أن عمر هو الفاتح لها وصاحب التوسعة الكبيرة، وقد شهد عصر عثمان مزيدا من الفتوحات التي أضيفت بها أراضٍ أخرى إلى الدولة الإسلامية إلا أنها لم تكن بذات الاتساع الذي كان في عصر عمر.
وأما ينفرد به عثمان رضي الله عنه، فهو أنه الحاكم الذي يحكم هذه الإمبراطورية الواسعة ثم ضحى بنفسه وبدمه للمحافظة على نظام الدولة، ولم يسمح أن يُراق في سبيل الدفاع عنه قطرة دم مع قدرته على إشعال حرب للحفاظ على حياته.
لقد نشبت فتنة بأثر من إشاعات وحركات سرية وفي ظروف اجتماعية واقتصادية مواتية، فخرج على إثرها بعض من أهل الكوفة والبصرة ومصر يعترضون على عثمان ويريدون خلعه، وقد بيَّن لهم عثمان خطأ ما اعتقدوه واتفق معهم على ما يصلح الأمور ويرضيهم، إلا أن الفتنة ما لبثت أن عادت من جديد، إذ عزم هؤلاء على أن يخلع نفسه أو يقتلونه!
كان عثمان يحكم ثلث العالم المعروف وقتها، ويستطيع بضعة آلاف أن يصلوا إليه في المدينة بمطلب الخلع والعزل، وهو مطلب لم تعرفه الشعوب في ذلك الوقت أصلا، فما كان لأهل العراق ومصر أن يتصوروا أن بإمكانهم السير إلى مدائن كسرى أو قصر قيصر للمطالبة بعزله، ولا حتى العرب في الجاهلية كانوا يتصورون مثل هذا. ومع هذا كان عثمان يبذل لهم ما فيه رضاهم ويحاورهم ويقنعهم ويسرد عليهم أعذاره وحججه ويبين لهم خطأهم، إلا أنهم أصروا على عزله أو قتله.
هنا اتخذ عثمان رضي الله عنه موقفا عظيما مثيرا للإعجاب، ودليلا على عظمته رضي الله عنه:
لقد كان يعلم يقينا أنه إن قُتل فإن الخليفة من بعده لن يكون إلا واحدا من كبار الصحابة: علي أو طلحة أو الزبير أو سعد بن أبي وقاص، وكلهم من المرشحين للخلافة، وكلهم أهل لها.. فهو مطمئن لما سيؤول إليه الأمر من بعده! فلن يتولى الخلافة مثلا واحد من أهل الفتنة أو من أعداء الإسلام أو من المتآمرين عليه. ولهذا لم يفكر في إشعال حرب عليهم في المدينة تسيل فيها الدماء إذ نظام الإسلام والخلافة غير متهدد، بل إن بعض أهل الفتنة هؤلاء إنما يتشيع لعلي ويراه الأولى بالخلافة.
وهو من جهة أخرى يعلم ويوقن أن خروجهم عليه أمر لا يجوز لهم وأن قتلهم له لا يحل لهم، فلو أنه تنازل عن الخلافة التي حازها برضا المسلمين لأعطاهم بهذا حق نقض ما أبرمته الأمة، ولصارت من بعده فتنة، كلما خرجت أقلية تريد نقض ما اتفقت عليه أكثر الأمة استطاعت أن تبلغ غرضها الفاسد هذا، وهذا أمر لو تمَّ فلن يكون للإسلام دولة ولا نظام ولا جماعة، وسيصير أمر الأمة مرهونا بالقلة من المتمردين.
لذلك اتخذ عثمان قراره بعدم التنازل عن الخلافة دفاعا واستمساكا بحق الأمة وبيعتها.. واتخذ قراره كذلك بعدم شن حرب على هؤلاء المتمردين كي لا تسيل الدماء دفاعا عنه إذ الأمر في حال قتله لن يخرج عمن هو أهل للخلافة من بعده. فيكون قد دافع عن حق الأمة وحافظ على نظام الخلافة في نفس الوقت! وجعل الثمن هو دمه!
فهذه بصمة عثمان بن عفان في تاريخ الدول والحكام.. رجل يحكم ثلث العالم، يصل إليه خصومه في عاصمته وعند بيته، يحاصرونه، يمنعون عنه الطعام والشراب، فينهى عن قتالهم ولا يتخذ معهم إلا سبيل المحاورة والإعذار والحجة، فيحفظ بيعة الأمة ونظامها كما يحفظ دمها بدمه.
علي بن أبي طالب
وأما علي بن أبي طالب فقد كان أكرم الناس لخصومه ومعارضيه، فهو الخليفة الصحيح البيعة ومع هذا لم يجبر أحدا على الخروج معه في حرب خصومه إذا لم يشأ، وترك من اعتزل الفتنة فلم يحمله عليها بحق البيعة والسمع والطاعة، ثم حين قاتل كان أشرف الناس قتالا، فاجتهد في منع الحرب ما وسعه الاجتهاد، ثم إنه منع من قتل الأسير أو الإجهاز على الجريح أو تتبع الفار أو غنيمة الأموال أو سبي النساء والذرية، وكان يقول: فينا نزلت (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين).
ومع أن بعض هؤلاء، وهم الخوارج، كانوا يكفرونه ويطعنون فيه، إلا أنه لم يقاتلهم إلا حين قتلوا المسلمين واستباحوا منهم ما يستبيحونه من الكفار، وامتنعوا عن تسليم القتلة لأخذ القصاص منهم، وأعلن فيهم حقوقهم في الصلاة والغنيمة والأمان على أنفسهم ما لم يسفكوا دما، ومع هذا رفض أن يقال عنهم كفار بل قال "من الكفر فروا" ورفض وصفهم بالمنافقين لما هم عليه من كثرة الذكر وقراءة القرآن، وإنما قال: "بعض قومنا بغوا علينا".
وهذا علي الذي يقاتل بكل هذا النبل والفضل، هو هو نفسه الذي يستعمل أقصى العقوبة فيمن يقدسه ويرفع شأنه فوق البشر، فيصفه بالألوهية أو يطعن لأجله في أبي بكر وعمر أو يفضله عليهما.
فمن هنا نرى حاكما –وياللعجب- يجتهد ويلتمس الأعذار لمن كفره وقاتله، ثم يعاقب من يقدسه ويرفعه فوق شأنه، وهو أمر لا يفعله من الحكام أحد. لكن عليا كان حارسا على الدين، يعرف أن الذين قدسوه هم أضر وأخطر على الدين من الذين كفروه وقاتلوه.
فتلك بصمة علي رضي الله عنه.
الخلاصة
يجب أن يكون لكل إنسان بصمته في عمله، بصمته في موهبته، بصمته في مجاله وميدانه، ألا يكون مكررا عاديا كشأن الناس الذين لا همَّ لهم ولا رسالة.قال المتنبي:على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارموتعظم في عين الصغير صغارها .. وتصغر في عين العظيم العظائم
وقال آخر:ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه .. فمن كان أسعى كان بالمجد أجدراوبالهمة العلياء يرقى إلى العلا .. فمن كان أعلى همة كان أظهرافلم يتأخر من أراد تقدما .. ولم يتقدم من أراد تأخرا
ينبغي أن تعلو الهمم ليكون لكل واحد فينا فتح في مجاله، فالمجاهد في جهاده، والعالم في علمه، والسياسي في علاقاته وسياسته، والموهوب في موهبته، وصاحب الفن في فنه.. وهكذا!

وحين يفتح هؤلاء فتوحا في أبوابهم، تكون الأمة كلها على موعد مع الفتح الكبير إن شاء الله تعالى.
نشر في مدونات الجزيرة
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 27, 2017 01:07

December 20, 2017

أشدُّ رهبة في صدورهم من الله!

كررت مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة جملة "السماء لم تسقط"، كانت ترد على الدول التي تخوفت من تبعات قرار ترامب، كانت تقول لهم: ما توقعتموه لم يحدث، لا تزال السماء في مكانها، ولم يحدث شيء. قرأ كثيرون في هذا التصريح سخرية من قدرة العرب على الرد.. ونعم! لديهم حق. إلا أن أمرا آخر يجب أن ننتبه إليه أيضا.. هو موضوع هذه السطور القادمة.
كثيرا ما يخرج لي إذ أقلب صفحات التاريخ أمورا لا أعرف لها تفسيرا سوى حديث النبي صلى الله عليه وسلم "نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر"، فعلى الرغم مما ننظر به لأنفسنا من العجز والضعف وقلة الحيلة –وكل هذا حق- إلا أن عدونا يحسب لنا حسابا فوق ما نحسبه نحن لأنفسنا.
خذ هذا الموقف الذي بين أيدينا مثلا، ما الذي يدفع دولا غربية لا شك في ميلها لإسرائيل ولا شك في عداوتها للعرب والمسلمين أن تندد بقرار ترامب وتتخوف من آثاره؟ بل ما الذي يدفع رؤساء أمريكا أنفسهم لتأجيل تنفيذ القرار منذ أقره الكونجرس قبل 27 سنة؟!! بل وما الذي يدفع ترامب نفسه لاستطلاع رأي السيسي وسلمان قبل أن يقدم على إعلان قراره ويضمن منهما أن الأمور لن تشتعل بما يخرج عن السيطرة؟! بل وما الذي يدفع الكونجرس أن ينتظر نحو أربعين سنة قبل أن يعترف بالحقيقة العملية، فإسرائيل تتعامل مع القدس كعاصمة لها منذ بن جوريون وقت أن كان ترامب نفسه في الثالثة من عمره؟! كما ذكرنا في مقال سابق. ثم ما هي إلا ساعات وصدر تصريح يحاول امتصاص الغضب عن أن نقل السفارة لن يكون قبل عام أو عامين!
ومن قبل هذا نسأل السؤال الذي طاف برأس كل من قرأ تاريخ الحروب الصليبية: لماذا لم تقدم إسرائيل على ما أقدم عليه الصليبيون من قبل.. جعلوا الأقصى حظيرة خنازير؟! لا يزال الصهاينة رغم كل مكرهم ومحاولاتهم يحرصون على تأجيل سائر تنفيذ مخططات هدم الأقصى وإقامة الهيكل على رغم ما هم فيه من العلو والتمكن والتمتع بحماية الأنظمة العربية فوق الحماية الدولية!!.. ومن يتابع السياسة الأمنية الإسرائيلية بعد قرار ترامب يجد أنهم يتعاملون فعلا بكل طاقة ضبط النفس ومحاولة امتصاص الغضبة الفلسطينية لئلا يتسبب العنف المفرط في توسيع وإشعال الاحتجاجات أو نزع فتيل حرب مع قطاع غزة.
كثير من المواقف يمكن أن نلتقطها من بين طوفان يتداعى إلى الذاكرة، منها مثلا أن أوروبا وهي في عنفوان قوتها في الحرب العالمية الثانية لم تكن تخشى الاتحاد السوفيتي (وهو قوة عالمية) بقدر ما تخشى الإسلام (وكانت البلاد الإسلامية وقتها ما بين محتلة وعاجزة لا تملك رد المحتل عن نفسها)، وامتنعت ألمانيا عن تقديم دعم لصالح وحدة المغرب العربي خوفا من أن يسترد العرب الأندلس!!.. ولولا أن هذا الموقف رواه أمين الحسيني في مذكراته ما صدقته! (راجع هذا المقال)
منها مثلا أن أحمد لطفي السيد –أستاذ الجيل "العلماني" في مصر- اقترح في 1912 أن تنفصل مصر عن الدولة العثمانية وأن تتخذ لها علما غير علم الخلافة ويعلن الخديوي ملكا مستقلا ويدعم الإنجليز هذا الاستقلال بالاعتراف به المفاجأة هنا أن الخديوي قبل الفكرة مسرورا ولكن الذي رفضها كان اللورد كتشنر المندوب السامي البريطاني، والذي قال: "لقد بسطنا يدنا لتركيا، فبصقت عليها، وولت وجهها شطر ألمانيا، ولو أنها كانت قبلت مودتنا لتغير الموقف كثيرًا، ومع هذا فإني لا أجد الوقت مناسبًا لقبول فكرتك" (قصة حياتي، ط هنداوي، ص81).
منها أيضا أن الإنجليز احتلوا أطراف جزيرة العرب، وسيطروا فعليا على كل المياه المحيطة بها: البحر الأحمر وخليج عدن والخليج العربي، ومع هذا لم يفكروا فيما فكر فيه البرتغاليون من قبل: احتلال الحرمين وتدمير الكعبة ونبش قبر النبي (صلى الله عليه وسلم)، رغم أن ميزان القوى في أواخر القرن التاسع عشر لم يكن يمكن فيه المقارنة بين العتاد البريطاني والوضع في الجزيرة العربية ومصر، ورغم أن كلا طرفي الحرب في الجزيرة العربية (عبد العزيز بن سعود والشريف حسين) كانا متعلقين بالتاج البريطاني، كل منهما يريد أن يكون الأثير عند الإنجليز قبل صاحبه.
وقبل هذا الدخول الناعم للإنجليز إلى مصر، واعتمادهم طريقة الاحتلال المتواري بدلا من الاحتلال الصريح، وإبقائهم نظام محمد علي وعرش الخديوي، وإبقائهم مصر تابعة بالاسم للسلطان العثماني، ولم يعلن الإنجليز احتلالهم لمصر إلا بعد أكثر من ثلاثين عاما حين خاضوا الحرب العالمية الأولى ضد الدولة العثمانية، ونشروا بيانا في مصر يعلنون فيه أنهم يرضون من المصريين بالوقوف على الحياد لما هو مشهور عنهم من الارتباط بالسلطان العثماني والتعظيم لمكانته الدينية.
قبله أيضا الدخول الناعم لنابليون الذي زعم أنه مسلم وأنه أكثر إيمانا من المماليك وأنه أكثر ولاء للسلطان العثماني منهم، وأن من دلائل إيمانه أنه دمر كرسي النصرانية في الفاتيكان والتي لطالما حاربت الإسلام وشنت عليه الحملات الصليبية.
يمكن أن نفسر كل هذا بأنه نوع من المكر والدهاء، وأنه نتيجة الاستشراق الذي حاول استثمار الطرق المثلي لإيقاعنا في براثن الاحتلال دون كبير خسائر، لكن هذا نفسه دليل يُستدل به على أن طاقة الأمة كانت ولا تزال تثير المخاوف وهي في أقصى حالات ضعفها حتى ليضطر المحتل المدجج بالسلاح الرهيب أن يسلك سبيل المخادعة والمناورة والتطمين.. إن من لا خطر منه ولا خشية لا يجتهد أحد في أن يتخادع له!
ولذلك تنشط الحركة البحثية الغربية في دراسة الحركات الإسلامية وتهديداتها المستقبلية وقدرتها الحقيقية على تجاوز وتهديد ميزان القوة في المنطقة، ويقرأ المرء في الدراسات الغربية عمقا ونضجا وجدية لا يصل البحث في العالم العربي إلى 1% منها، وقد طالعت قبل أيام دراسة ترصد حركة المراكز البحثية الغربية في تقييم احتمال امتلاك تنظيم الدولة أسلحة دمار شامل، ومع أن نتائج الدراسات انتهت بعد بحث في الاحتمالات والوسائل إلى أن احتمالية امتلاك التنظيم لسلاح دمار شامل تساوي صفرا، إلا أن خبراء آخرين عقبوا بأنه لا بد من الوضع في الاعتبار أن هذه التقديرات متفائلة وأنه لا يمكننا أن نعتمد على تقديرات متفائلة، فانتهوا إلى التوصية بضرورة وضع هذا الاحتمال في الاعتبار. وهكذا لم يسلم القوم من الخوف رغم أن نتائج البحوث انتهت إلى نتيجة مطمئنة.
منذ فشل نابليون، ومرورا بتقرير اللورد دفرين (أول حاكم بريطاني لمصر) وحتى مذكرات ثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنجر، يبدو أن الغرب يعتمد على طريق مفضل في تنفيذ أهدافه دون إثارة وتهييج الشعور الإسلامي: طريق الحكومات العميلة. فنابليون لما فشل في الحفاظ على مصر أوصى القنصل الفرنسي في مصر بالبحث عن رجل لفرنسا فوجد غايته في محمد علي، وحمل تقرير دفرين عبارة تقول: "لا يمكن المحافظة على النظام في القطر المصري إلا بتأديب أهله بواسطة أستاذ من الأجانب وبالسوط الوطني"، وفي مذكرات كيسنجر حديث طويل عن ضرورة دعم الأنظمة "المعتدلة" والعمل على جذب واستقطاب الأنظمة حتى تصير "معتدلة" أو إسقاطها، فلا مكان لأنظمة متشددة!
ومنذ تقارير المستشرقين في مطلع القرن التاسع عشر وحتى الآن تتردد عبارة ذات معنى واحد وإن اختلفت الألفاظ: المارد الإسلامي يقوم، والعالم الإسلامي يتململ ويوشك أن يستيقظ. والخلاصة صرح بها جورج فريدمان –مدير ستراتفور، الأهم ضمن مراكز البحث والاستشارات- في أن الغرب سيحارب المسلمين جميعا طالما أنهم لم يخترعوا بعد الجهاز الذي يفرق بين المعتدلين والمتطرفين! وهذه لا شك نفسية خائف متوجس!
إننا أمة قوية.. حتى ونحن في أشد حالات ضعفنا! وما تلك الحروب المستعرة التي لا تخمد إلا وجه من تلك الحقيقة.. فالموتى لا يُحاربون، وقد قال ربنا لنا (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله)!!

نشر في مدونات الجزيرة
4 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 20, 2017 02:40

December 13, 2017

بعض ما قدمته مصر لفلسطين

يعزف الإعلام المصري نغمة قديمة مكرورة بأن مصر دخلت أربعة حروب من أجل فلسطين! وقدمت للقضية ما لم يقدمه أحد في الأولين والآخرين، ثم يخلصون إلى المُراد فيقولون بأن واجب المرحلة هو الالتفات للمصالح الوطنية والتي تقتضي –طبعا!- التعاون مع إسرائيل.
لا يكلف أحد نفسه ليسأل السؤال البسيط البديهي: ما هي الحروب التي خاضتها مصر من أجل فلسطين؟.. عندئذ تتبخر الحروب الأربعة فلا تبقى إلا حربا واحدة هزيلة هي حرب 1948، ولقد هُزِم فيها الجيش المصري هزيمة أضاع بها فلسطين، فلو أنهم لم يدخلوا لما وقعت الهزيمة على هذا النحو الكارثي.. وأما بقية الحروب فقد كانت على أرض مصر وكانت هزائم أيضا، والحرب الوحيدة التي يفتخرون بها لم يفكر مخططوها في فلسطين أصلا ثم انتهت في أحسن أحوالها بالتعادل أو بالانتصار الإسرائيلي طبقا لما آلت إليه الأوضاع فيما بعد.
ما لا يقولونه في الإعلام المصري هو ذلك المجهود الذي بذلته السلطة المصرية في إقامة وترسيخ الوجود الإسرائيلي وحمايته من المصريين والفلسطينيين على السواء، منذ بداية التفكير فيه حتى لحظة كتابة هذه السطور.. هذا ما نسوق إليك شذرات سريعة منه:
السياسة المصرية
عندما مرَّ آرثر بلفور صاحب الوعد المشهور بدولة يهودية بالقاهرة في طريقه لافتتاح الجامعة العبرية (1925م) هتف ضده مجموعة من الفلسطينيين، لكن مصيرهم كان الاعتقال على يد وزير الداخلية إسماعيل صدقي!! كان صدقي وزيرا في حكومة أحمد زيور باشا، زيور هو الذي أوفد أحمد لطفي السيد –رئيس الجامعة المصرية حينها- كمندوب من قبل الحكومة المصرية لحضور حفل افتتاح الجامعة العبرية! وأما طه حسين فقد أرسل برقية تهنئة، لكنه فيما بعد زار القدس بدعوة من الجامعة العبرية والسير رونالد ستور "الحاكم العسكري البريطاني للقدس، وأرسل إلى الجامعة العبرية طالبا مصريا لاستكمال الدراسة فيها متحايلا على القوانين التي تمنع هذا!
وحين اشتعلت ثورة البراق في فلسطين (1929م) وقفت الحكومة المصرية برئاسة محمد محمود باشا ضد ثورتهم وهددت صحيفة "السياسة" التي هي لسان الحكومة حينها الفلسطينيين في مصر بالطرد لأنهم يثيرون الفتنة الطائفية ويهيجون الرأي العام.
وفي (1930) شن إسماعيل صدقي –رئيس الوزراء الجديد- حملة واسعة ضد الحركة الوطنية المصرية، فكان من بينها إغلاقه جريدة "الشورى" الفلسطينية التي كانت تصدر في مصر، فيما بقيت صحيفة "إسرائيل" لم يمسسها سوء، وكانت الصحيفة الناطقة باسم الحركة الصهيونية. ثم شاركت حكومة صدقي في معرض تل أبيب الصهيوني (ربيع 1932م) ضاربة عرض الحائط بالنداءات المعارضة، ثم عادت معروضاتها كما هي لم يُبع منها شيء إذ قاطع الفلسطينيون المعرض ولم يشتر اليهود منها شيئا!
وفي ذرورة الثورة الفلسطينية الكبرى (1936م) والتي بدأت بالإضراب العام الكبير وافق مصطفى النحاس على سفر مئات العمال المصريين إلى فلسطين لسد العجز الذي تسبب فيه الإضراب.
ولما ذهب محمد محمود، رئيس الوزراء، إلى أوروبا (1938م)، وسأله محرر الديلي ميل عن نواياه في مسألة فلسطين ضمن مفاوضاته مع الإنجليز، فرد عليه قائلا: "أنا رئيس وزراء مصر، ولست رئيس وزراء فلسطين".
وأما الملك، فموقفه لا يختلف عن مواقف الرئيس المصري فيما بعد، هو ينطلق من أنه المحتكر لقضية فلسطين، المهاجم لكل من يحاول الدخول على خطها، لكنه مع هذا لا يفعل لها شيئا، كالمثل القائل: لا يرحم ولا يعجبه أن تنزل رحمة الله. فمنذ أن فشلت خطة فؤاد في التلقب بلقب الخلافة (فبريطانيا ترفض بحسم، وهيجت كل أبواقها الإعلامية العلمانية على اختلاف مشاربها ضده) نزع نفسه من كل سياق إسلامي، ورفض الاشتراك في المؤتمر الإسلامي (1931م) في القدس. وكان موقفه كما عبرت عنه صحيفة القصر "الاتحاد" هو: "وجوب انتقال الداعين [للمؤتمر] إلى مصر لمقابلة أهل الحل والعقد فيها والاتفاق على طريقة الاجتماع وتحديد موعده ووضع برنامجه".
الإعلام المصري!
ولقد كانت الصحافة المصرية تشهد الأصوات نفسها التي نراها الآن في الإعلام المصري، ففي أثناء ثورة البراق كتب عبد الله عنان في جريدة السياسة الأسبوعية يستنكر أسلوب العنف الذي لجأ إليه الشعب الفلسطيني، ونصح كلا من العرب واليهود بالاعتدال (= ضبط النفس!) ودعا العرب إلى الاتحاد والجهاد السلمي المستمر، كما دعا اليهود إلى طمأنة العرب بأن وطنهم القومي ما هو إلا معنى متواضع وفي دائرة محدودة وأنه ينشد إقامة الوئام والتفاهم (= السلام والتعايش!) مع أصحاب البلاد. ومثله تكلم محمد حسين هيكل. وقد تناغمت الصحافة الإسرائيلية مع هذا الخطاب (تماما كما يتناغمون الآن مع يوسف زيدان مثلا) فأرسلت صحيفة هآرتس ردا نشرته صحيفة السياسة تؤكد فيه "أسفها الشديد لأنها أول مرة فقط تسمع صوتا مستنيرا في العالم الإسلامي يشجب سياسة العنف التي يسلكها الشعب الفلسطيني لتحقيق أمانيه"! وردت صحيفة إسرائيل على مقال حسين هيكل واصفة إياه بأنه "خير ما كتب إلى الآن باللغة العربية بأسلوب بريء من الهوى وروح الإخلاص". وقد تبنت جريدة "السياسة" أسلوب النضال السلمي والقانوني واللجوء إلى التحكيم الدولي وترك العنف، ومن ثم أخذت في مهاجمة حركة المقاومة الفلسطينية وصارت ترمي قياداتها بافتقادها لشروط الزعامة وبأنها تضم خليطا من العناصر المفككة المتناقضة وأنه ليس لديها برنامج وطني واضح... إلخ!
وأما جريدة القصر (السراي)، فقد بلغت مرحلة أعلى، حيث اعتبرت أن إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين هو الحل لمشكلات فلسطين، حيث سيأتون معهم بالنمو والازدهار ورؤوس الأموال، وأن الحل هو في اتفاق العرب واليهود فيما بينهم ليتم لهم النعيم، بل وزعمت الصحيفة أن الفئات العربية المتطرفة قد بدأت تقتنع بهذا الحل، لا سيما بعدما بدأ الفلسطينيون يعايشون اليهود وصاروا أكثر تقبلا للتفاهم معهم.
الجيش المصري
الحرب الوحيدة التي يمكن القول بأن مصر خاضتها لأجل فلسطين هي حرب 1948، وقد كان إنجاز الجيش المصري "العظيم" فيها أنه انطلق بلا عدة ولا خطة ولا معلومات، توغل إلى تل أبيب بلا مقاومة، ثم جاء اليهود من خلفه فحاصروه وقطعوا الإمدادات عنه، فبقي محاصرا، حتى جاءته أوامر الانسحاب فانسحب.. وأثناء الحصار استولى على الأقوات والطعام والممتلكات من أهل القرى وجردهم من سلاحهم فتركهم عزلا أمام اليهود. ثم هو لم يدخل إلا بعد 15 مايو، أي بعد إعلان إسرائيل، تحت سمع بريطانيا وبصرها.
فالخلاصة أنه دخل وخرج ليتمم الهزيمة ويرسخ الوجود الإسرائيلي ويعود إلى دوره الجديد: ممارسة الانقلابات.. حيث سيقود عبد الناصر انقلابا وهو يرفع شعار فلسطين ليسحق البلاد والعباد ثم يموت وقد ترك إسرائيل عند قناة السويس!
فصول طويلة ومريرة، وشذرات لا تنتهي.. وقد كنا أشرنا إلى بعضها من قبل في مقالات سابقة، تكرم بمطالعتها هنا وهنا وهنا وهنا وهنا وهنا.
مصادر المقال:§      د. عواطف عبد الرحمن، مصر وفلسطين، ص91 وما بعدها، 107 وما بعدها.§      سوزان طه حسين، معك (مذكرات زوجة طه حسين)، ترجمة: بدر الدين عروكي، مراجعة: محمود أمين العالم، ط1 (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2015م)، ص80، 154.§      مجلة النذير، العدد 9، 27 جمادى الأولى 1357 (= 25 يوليو 1938م)، ص6، 7.
 نشر في مدونات الجزيرة
4 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 13, 2017 02:24

December 7, 2017

مُعَكِّر صَفْوِ الأُنْس في سيرة سَلْب القُدْس

حذر قادة العرب جميعا من تداعيات قرار ترامب على السلام والاستقرار في المنطقة. في الحقيقة لم يكن تحذيرهم هذا فارغا، إنما كان تحذيرا جادا، فهم يخافون من أن يؤدي القرار إلى هبة شعبية ضدهم تقلقل استقرار عروشهم. وهم يعرفون كما يعرف ترامب ونتنياهو أن عروشهم هي التي تحفظ أمن واستقرار إسرائيل. فهم على الحقيقة يقدمون نصيحة مخلص مشفق بأن تلك القرارات قد تكون من الرعونة بحيث تهدد منظومة الحراسة التي تسهر على حماية إسرائيل.
يعرف ترامب ونتنياهو هذا لكن حسبة الأمور لديهم تفيد أنهم في لحظة يمكنهم معها اتخاذ مثل هذا القرار دون كبير خوف، فما جرى في السنوات الماضية من قمع الثورات وتثبيت الأنظمة الخيانية يجعل الثمرة قريبة وممكنة، كيف لا وقد صار رئيس مصر "البطل القومي لليهود" كما وصفته الصحافة الإسرائيلية، وكيف لا وقد كتب سعودي من بلاد الحرمين "لك العتبى يا نتنياهو حتى ترضى" ضمن طوفان التطبيع المحموم الذي يجتاح أرض الحرمين؟!
هو فصل جديد في مسلسل قديم..
بدأ المسلسل مع نهاية الحروب الصليبية، حيث اكتشف الصليبيون منذ الحملة الخامسة أن احتلال بيت المقدس يبدأ باحتلال القاهرة، فلقد اكتشفوا أن مصر قادرة دائما على إمداد الشام بالمال والرجال، ومنذ اتحدت مصر والشام على يد نور الدين صارت مسألة تحرير بيت المقدس مسألة وقت. وبالفعل: نزلت الحملة الصليبية الخامسة إلى مصر فهُزِمت، ودخلت الحملة السادسة إلى القدس باتفاقية خيانية مع سلطان مصر الكامل الأيوبي (تشبه كامب ديفيد وأوسلو الآن) وتكسرت الحملة السابعة في مصر أيضا. ثم انطلقت من مصر جيوش المماليك حتى طهرت الساحل الشامي من كل الوجود الصليبي، ثم طاردت فلول الصليبيين في قبرص ورودس.
عندئذ كلفت الكنيسة المؤرخ الإيطالي مارينو ساوندو تورسيللو ليؤرخ للحملات الصليبية، فكتب في نهاية تأخيره وصية لمن سيحاول غزو الشرق مرة أخرى خلاصتها: أن يبدأ بمصر أولا، وهي النصيحة التي استمعت لها أوروبا فكانت موجتها الثانية من الحملات الصليبية تبدأ بمصر ثم تتوغل إلى بيت المقدس، هكذا فعل نابليون في الحملة الفرنسية، وهكذا فعل الإنجليز من بعدهفهم التاريخ هو مفتاح فهمنا للحاضر وطريق بحثنا عن الحل في المستقبل، والتاريخ يقول بأن احتلال بيت المقدس لم ينجح إلا باحتلال العواصم المحيطة به أولا، كما أن تحريره لم يكن إلا بتحرير العواصم المحيطة به كذلك، لقد فتح المسلمون دمشق قبل فتح بيت المقدس، ولولا الخيانة العبيدية (الفاطمية) في القاهرة ما أمكن للصليبيين احتلال بيت المقدس، ثم لولا تحرير دمشق ثم القاهرة وتحريرهما من أمراء الخيانة ما تم لصلاح الدين تحرير بيت المقدس، ولم يُحرر الساحل الشامي إلا لما كانت القاهرة مستقلة متحررة تحت حكم المماليك العظام، ثم لم تسقط القدس مرة أخرى إلا بعد احتلال القاهرة ودمشق وانهيار الدولة العثمانية.
ولقد كانت فطرة الشعوب أنقى من عقول النخبة والمثقفين، ففي ميادين الثورات العربية ارتفعت أعلام فلسطين، وبات الجميع يدرك أن نجاح الثورات يساوي قرب تحرر بيت المقدس، وهي تلك اللحظات التي فزع فيها الإسرائيليون لسقوط كنزهم الاستراتيجي، وما إن اهتز كرسي بشار حتى صاح رامي مخلوف بأن سقوط النظام في سوريا يمثل تهديدا لأمن إسرائيل. جميع أولئك الحكام يعرف أن مهمته حماية إسرائيل، وهو عند الخطر يساوم بها ويهتف في توسل وتهديد: لن تجدوا أفضل مني في القيام بالمهمة.
من هنا ترى حكام العرب يحذرون من تداعيات قرار ترامب، ولأنهم في وجه المدفع فهم أكثر فزعا ورعبا، بينما السيد الكبير في البيت الأبيض يختبر بهذه القرارات مدى نفعهم وفائدة الاستثمار فيهم..
تروي جولدا مائير في مذكراتها أن مبعوثا خاصا بين الإسرائيليين وبين عبد الناصر عرض على عبد الناصر زيارة إسرائيل، فقال عبارته الكاشفة والتي تعبر عن حقيقة مواقف الحكام العرب المصنوعين على أعين الاستعمار: "لو أن بن جوريون جاء إلى القاهرة للتحدث معي فسوف يعود بطلا، أما إذا ذهبت إليه أنا فسوف أُقْتَل عند عودتي". ثم استمرت جولدا مائير في رواية اللقاءات السرية مع الملك عبد الله ملك الأردن الحليف الوثيق الذي تعهد لهم بشرف مثلث أن يكون نصيرا لهم، لا سيما وأن لديهم عدوا مشتركا هو "أمين الحسيني"لن تهتز ثقتي بالأمة قيد شعرة لو أن إعلان ترامب هذا لم يفجر المظاهرات في الشوارع أو الانتفاضة في فلسطين، فلقد عرفت الأمة طريقها الوحيد والصحيح لتحرير القدس، وهو طريق نجاح الثورات وإسقاط الأنظمة الحارسة لإسرائيل، فتلك هي المعركة الحقيقية الصعبة الشرسة لا ذلك المسلسل الذي كانوا يسمحون لنا فيه بشبه مظاهرات تنفيسية تهتف وتصرخ ثم تعود بعد استهلاك طاقتها، ولا تلك الأغاني والمقالات الصحفية التي يكتبها ويغنيها ويلحنها أعداء حرية الشعوب ومن كانوا دائما في صف الطغيان ضد التحرر.
إن القدس لمن عشقها حقا، وبذل في سبيلها ما استطاع.. وأولئك الذين أسسوا إسرائيل مهما أبغضناهم فلا نملك إلا أن ننصفهم فنقول بأنهم بذلوا مجهودا هائلا وتخطوا عراقيل عظيمة في سبيل الوصول إلى القدس. وإني لأتخيل هرتزل ونوردو، ووايزمان، يحلمون بإنشاء دولة لليهود في فلسطين.. يعزمون على التخطيط لأمر يغير الخرائط والواقع والسياسة والاقتصاد.. تصطدم فيه دول وامبراطوريات وتهلك فيه أطنان الأموال وتُسفك دونه بحور الدماء، تُزاح فيه عشرات الألوف أو مئات الألوف من قراها وأرضها، لتنقل إليها مئات الألوف والملايين من سائر أنحاء العالم، يُنتزعون من أموالهم وديارهم ووظائفهم ومجتمعاتهم، مسألة تهلك فيها العقول في دوائر السلطة لإقناع هذا وتحفيز هذا وتسكين هذا وخداع هذا ورشوة هذا واختراق هذا واغتيال هذا وتخدير هذا... إلخ! ومع ذلك.. فعلوها، ونجحوا.. مهما كره المرء شرهم ودمويتهم فلا يملك إلا الإعجاب الكبير بهذا العزم الحديد، والتخطيط الشديد، والأمل البعيد..
وأي مقارنة بين هؤلاء وبين من يحكموننا الآن، بل حتى بين من تصدروا لقيادتنا تجعل البصر يرتد خاسئا وهو حسير، فقر في الخيال وفقر في الهمة وفقر في الجسارة وفقر في تعلم الدروس، ظلمات بعضها فوق بعض!
متى صارت القدس عاصمة إسرائيل على الحقيقة؟!
ربما سيندهش الكثيرون حين يسمعون الإجابة! لكنها إجابة كاشفة تفضح فارق التعلق بالقدس، وفارق الجسارة والمبادرة..
تروي جولدا مائير في مذكراتها أن بن جوريون لم ينتظر حتى يعطيه أحد إذنا أو شرعية بأن تكون القدس هي العاصمة، فمنذ نهاية 1949 أصدر قرارا بنقل مكاتب الحكومة من تل أبيب إلى القدس، وفي القدس أدى وايزمان القسم عند توليه رئاسة الدولة، وهذا بالرغم من توصية اللجان الخاصة والأممية بعدم ضم القدس إلى أي من الدولتين. ولم يأبه بن جوريون بقرار الأمم المتحدة بتدويل القدس (ديسمبر 1949م)، بل أصر على قراره رغم أن أصواتا داخل إسرائيل حذرت من مغبة هذا العمل الذي قد يفقد إسرائيل غطاء الشرعية الدولية، وانتقلت سائر الحكومة إلى القدس ما عدا وزارة الخارجية التي اضطرت للبقاء في تل أبيب حيث تقيم البعثات الدبلوماسية الأجنبية.
وهكذا بادر بن جوريون فجعل القدس عاصمته وقت أن كان ترامب في الثالثة من عمره!!
ثم تروي جولدا مائير كيف أنها انتقلت على الفور إلى القدس، وأنها فضلت السكنى في غرفة صغيرة فوق سطح منزل.. غرفة لا تليق بالوزيرة إطلاقا، فضلا عن أنها قريبة من الحدود وفي مرمى الخطر. وظلت فيها شهورا حتى بُنيت لها شقة تطل شرفتها على تلال القدسإن معادلة التعلق بالقدس واضحة في أذهان سائر من فكروا بصدق في تحريرها، منذ أيامها الأولى، ففي عام 1953، ألقى سيد قطب محاضرة في شعبة الإخوان بالقدس (الشرقية) قال فيها: "نحن لا نريد من الجيوش العربية أن تحرر فلسطين، نحن نريد أن يسمح للمجاهدين بأسلحة خفيفة، هؤلاء هم الذين سيحررون فلسطين"كان يعرف أن العسكر لن يحرروا وطنا سليبا، كانوا هم سبب سلبه، وهم حماة سالبه.. بعده بنحو عشرين سنة قالها أمل دنقل شعرا سائرا:
قلت لكم مرارا: إن الطوابير التي تمر.. في استعراض عيد الفطر والجلاءفتهتف النساء في النوافذ انبهارا..لا تصنع انتصارا..إن المدافع التي تصطف على الحدود، في الصحارىلا تطلق النيران.. إلا حين تستدير للوراءإن الرصاصة التي ندفع فيها.. ثمن الكسرة والدواءلا تقتل الأعداءلكنها تقتلنا.. إذا رفعنا صوتنا جهاراتقتلنا، وتقتل الصغارا !
قلت لكم في السنة البعيدةعن خطر الجندي.. عن قلبه الأعمى، وعن همته القعيدةيحرس من يمنحه راتبه الشهريوزيه الرسميليرهب الخصوم بالجعجعة الجوفاء.. والقعقعة الشديدةلكنه.. إن يحن الموت فداء الوطن المقهور والعقيدة..فر من الميدان، وحاصر السلطان، واغتصب الكرسيوأعلن "الثورة".. في المذياع والجريدة!
قلت لكم كثيراًإن كان لابد من هذه الذرية اللعينةفليسكنوا الخنادقَ الحصينةمتخذين من مخافر الحدود.. دوُرالو دخل الواحدُ منهم هذه المدينةيدخلها.. حسيرايلقى سلاحه.. على أبوابها الأمينةلأنه.. لا يستقيم مَرَحُ الطفل، وحكمة الأب الرزينةمع المُسَدسّ المدلّى من حزام الخصرفي السوق.. وفى مجالس الشورى
نشر في مدونات الجزيرة

عباس مصطفى عمار، سيناء: المدخل الشرقي لمصر، ط2 (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يوليو 2014م)، ص10 (مقدمة وليد نويهض). والجزء الأخير من كتاب المؤرخ الإيطالي ترجمه إلى العربية الأب سليم رزق الله بعنوان "كتاب الأسرار في استرجاع الأراضي المقدسة والحفاظ عليها"، وصدر في بيروت عن مؤسسة الريحاني عام 1991م. جولدا مائير، اعترافات جولدا مائير، ترجمة: عزيز بيومي، (القاهرة: دار التعاون، د. ت)، ص176 وما بعدها. جولدا مائير، اعترافات جولدا مائير، ص213، 214. إبراهيم غوشة، المئذنة الحمراء: سيرة ذاتية، ط2 (بيروت: مركز الزيتونة، 2015)، ص48.
3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 07, 2017 00:44

December 6, 2017

الذين فاتهم القطار

لما أرادت هيلاري كلينتون أن تضرب مثلا على العلاقة بين أمريكا والحكام العرب لم تجد نموذجا أوضح من اليمن ورئيسها علي عبد الله صالح، كتبت في مذكراتها تقول: 
"كانت علاقة أمريكا بالرئيس صالح رمزا للخيار المحير الذي تعانية سياستنا في منطقة الشرق الأوسط. كان فاسدا ومستبدا، لكنه التزم أيضا محاربة تنظيم القاعدة، والمحافظة على وحدة بلاده المنقسمة. قررت إدارة أوباما أن نتغاضى عما يزعجنا في سياسة صالح، لنزيد المساعدات العسكرية والتنموية لليمن، ونوسع تعاوننا في مكافحة الإرهاب"كذلك تقر كلينتون أن صنعاء تحت حكم صالح مدينة مغبرة "تعود إلى القرون الوسطى"، وأن الشعب اليمني تنتشر فيه البطالة ويتضاءل في البلاد إمداد المياه ووفيات الأطفال "مروعة"، وسكان اليمن هم أقل الشعوب تعلما على وجه الأرض!
كانت هيلاري تحكي قصة زيارتها للشرق الأوسط عشية اندلاع الثورات العربية، فقد بدأت زيارتها في 9 يناير 2011 تحديدا، وقت أن كانت الثورة التونسية في مخاضها، وقبل أن تلملم حقائبها لتعود إلى واشنطن كان زين العابدين بن علي قد لملم حقائبه سريعا ليهرب من تونس إلى السعودية!
ستأتي معنا السعودية بعد قليل.. لكن الطريف هنا أن زيارة كلينتون إلى اليمن حصلت في ظل سحابة لم تنقشع أثارتها وثائق مسربة من ويكي ليكس فضحت أن علي عبد الله صالح طلب أموالا من الأمريكان مقابل أن يسترد الأسرى اليمنيين في سجون جوانتانامو، طلب منهم 11 مليون دولار بزعم احتياجه لإنفاقهم على إعادة تأهيل الأسرى، ولما أخبره المسؤول الأمريكي بأنه يمكنهم أن يدفعوا نصف مليون دولار امتعض ورفض! لم يكن لدى علي عبد الله صالح بأس في أن يبقى يمنيون في جوانتانامو ما لم يأخذ على رؤوسهم الثمن المناسب!
ساعتئذ أيضا، وكما كشفت ويكي ليكس، اقترح ملك السعودية عبد الله عبد العزيز، أن تزرع شرائح إلكترونية في أجساد من سيُفرج عنهم من جوانتامو ليظلوا تحت الرقابة، كما يفعل الأمريكان مع الحيوانات والطيور لمراقبتها، وقد رد عليه المسؤول الأمريكي بأنهم يستطيعون فعل هذا مع الحيوانات لأنها لا تستطيع توكيل محامينقبل ذلك بشهور، أي في منتصف 2010 تقريبا، حدثني أحد المشايخ بعد عودته من رحلة إلى اليمن، كان ثمة مؤتمر علمي ثم دُعِي المشايخ إلى لقاء مع علي عبد الله صالح، وفيه ظل صالح يتكلم نحو ثلاثة أرباع الساعة يشرح الإسلام للمشايخ! وبين كل فترة وأخرى يقول "طبعا أنتم أعلم بهذا.. وليس من اللائق أن أشرحه لكم" لكنه يستمر في الشرح! ولما سكت قام عائض القرني فنصب خطبة نفاقية في صالح وأن المشايخ معه في دعمه ضد الحوثي، ولم يكن يخفى على أحد أن عائضا ينطق بلسان ولي أمره في السعودية. وبعد نهاية القصة أخبرني الشيخ بجملة رسخت في رأسي منذ قالها: "حين تدخل اليمن تجد الناس وكأنهم يعيشون قبل قرون، كل شيء صغير بسيط فقير متواضع.. كأنما ليست دولة وكأنه لا موارد لها، فإذا دخلت إلى قصر علي عبد الله صالح عرفت أن تتكدس الأموال"!
الواقع أنه من العبث أن يُكتب في مساوئ رجل ثار عليه شعبه، الثورة هي أبلغ قائمة اتهام، فالشعوب لا تثور إلا حين يفيض الكيل تماما، وكل محاولة في تبرير الثورة هي محاولة مفلسة مسبقا، الثورة نفسها هي البرهان الأقوى والأرسخ على فساد الحاكم وظلمه وتجبره..
غير أن هذا لا ينفي أن الرجل استطاع أن يتلاعب بالجميع ليبقى هو في كرسيه، بداية من الجهاديين والإخوان المسلمين والأحزاب السياسية والقوى القبلية والنظام الإقليمي، وظل خادما وفيا مخلصا للنظام الدولي وخياراته حتى فاته القطار.. ولما فاته القطار جاءته السعودية!
سيُدرج الكتاب الذي يؤرخ للسياسة السعودية في باب الطرائف والفكاهات، على نحو "أخبار الحمقى والمغفلين"، فالنظام السعودي لا تفسير لسياساته المستمرة إلا أن يكون القائمون عليها سكارى ومجانين أو أن يكون القائمون عليها هم الأمريكان والإسرائيليون رأسا.. إنه النظام الذي تفنن وتفاني في ضرب كل القوى التي تحميه وتشكل درعا وحصنا له، النظام الذي سخر نفسه وأمواله ومشايخه في ضرب أهل السنة من أفغانستان شرقا وحتى الجزائر غربا، وأغرب ما في تلك الفصول المتسلسلة أنهم دعموا الحوثي للتخلص من إخوان اليمن!
كبر الحوثي وتضخم، سيطر على صنعاء، وصمد أمام أكبر آلة عسكرية يمكن للسعودية أن تحشدها، بل لقد استطاع أن يضرب الصواريخ على الرياض!! ولأن دعم الإخوان –كطرف وحيد مؤهل لخوض معاك حقيقية ضد الحوثي- هو بالنسبة للنظام السعودي خط أحمر، فقد فعلوا كل شيء إلا هذا.. ثم ختموه باستدعاء من فاته القطار! على عبد الله صالح!
وجد صالح الفرصة، انقلب على حلفائه الحوثيين، متوهما أنه يستطيع لمرة أخرى أن يلاعب الجميع، وبعد ثلاثة أيام كان حلفاؤه قد أكلوه.. وخسرت السعودية ورقتها الأخيرة ضد الحوثي، الورقة التي استدعتها من مزبلة التاريخ.. بعد أن فاتها القطار.
وبهذا يكون ابن سلمان قد سجل فشلا جديدا بعد واقعة سعد الحريري، والواقع أن ابن سلمان ليست له نجاحات خارجية قط، سائر نجاحاته إنما هي في معاركه الداخلية مع أبناء عمومته على العرش، وهي معارك قد دفع مسبقا –ولا زال يدفع- ثمنها بالمليارات وبالتطبيع مع إسرائيل وبإخراج السعودية من دينها إلى العلمانية والتغريب.. فانتصاراته فيها ليست لقوته الذاتية، وإنما هي لأن يد الأمريكان فوق أيديهم. ثم هي حتى الآن انتصارات غير محسومة نهائيا، وإنما سيُعرف مصيرها لحظة أن يعتلي بنفسه العرش أو لحظة أن يأتي أباه الأجل!
تحارب السعودية إيران بالكلام بينما كل سياساتها تمكين لإيران وترسيخ لنفوذها، ولم تراهن السعودية على أحد فأفلح (سعد الحريري وعبد ربه منصور هادي ثم علي عبد الله صالح) بل إنها لتراهن على حليف فينقلب عليها كما فعل ويفعل السيسي في مصر، ومع هذا فهي ماضية في صد ورد وخيانة من أراد ودها كقطر وتركيا والإخوان المسلمين في مصر واليمن وليبيا وفصائل من الثورة السورية وحماس في فلسطين، مع أن هؤلاء على وجه التحديد هم المؤهلين للوقوف أمام التمدد الإيراني (هذا لو أن السعودية صادقة في معاداة إيران أصلا).
وقريبا يفوت القطارُ النظامَ السعودي نفسه، وقديما قالوا: السعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه.. ولات حين مندم!
نشر في مدونات الجزيرة

هيلاري كلينتون، خيارات صعبة، ط1 (بيروت، شركة المطبوعات، 2015م)، ص327. اليمن قايض معتقلي غوانتانامو بالمال ، الجزيرة نت، 1 ديسمبر 2010م.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 06, 2017 04:50

December 5, 2017

اليهود بين الأمة الإسلامية والأمم الأخرى (2)

افتتحنا في المقال الماضي الحديث عن اليهود بين أمة الإسلام والأمم الأخرى، وذكرنا أننا سنقتصر في الاستدلال على ما نقول بأقوال المستشرقين من اليهود والمؤرخين الغربيين فحسب، وقدمنا في المقال الماضي المنهج العام الذي نسير عليه في الدراسة، وبدأنا أولى الحلقات بالتقييم العام المجمل لأوضاع اليهود في ظل الأمة الإسلامية مع أوضاعهم في ظل الأمم الأخرى.
نواصل اليوم فنرصد سريعا ماذا قيل عن أوضاع اليهود في مجمل التاريخ الإسلامي، ثم نبدأ بفترة الخلافة الراشدة. فالله المستعان
اليهود عبر التاريخ الإسلامي
يقول الفيلسوف الروسي الشهير تولستوي: "من فضائل الدين الإسلامي أنه أوصى خيرًا بالمسيحيين واليهود، ولا سيما قساوسة الأولين؛ فقد أمر بحسن معاملتهم ومؤازرتهم، حتى أباح هذا الدين لأتباعه التزوُّج من المسيحيات واليهوديات، مع الترخيص لهن بالبقاء على دينهن، ولا يخفى على أصحاب البصائر النيِّرة ما في هذا من التساهل العظيم"وهذا هو الأصل السائر في التاريخ الإسلامي، وأبرز دليل على هذا بلوغ اليهود المناصب العليا في الدولة الإسلامية في مختلف الأحقاب، وإلى هذا يشير صموئيل أتينجر بقوله: "يلاحظ دارسو التاريخ اليهودي في العصور الوسطى أن السلطات حرصت على جباية الجزية من اليهود، وتطبيق القوانين الإسلامية، ولكنها أتاحت لليهود في نفس الوقت تقلد العديد من المناصب المهمة، فكان حسداي بن شبروط في بلاط الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث (عبد الرحمن الناصر) وشموئيل هناجيد (إسماعيل بن النغرالة) في غرناطة إبان القرنين العاشر والحادي عشر، على سبيل المثال، من أبرز الشخصيات اليهودية التي عملت في إطار الخلافتين الأموية والأندلسية. وكذلك خدم الإخوة إبراهيم وحيد بني سهل التوستاري لدى الخلفاء الفاطميين في النصف الأول من القرن الحادي عشر. وفي إطار الخلافة الفاطمية بمصر تقلد اليهود العديد من المناصب المهمة... ومن الملاحظ أن اليهود اندمجوا طيلة الفترة العثمانية في كافة الأجهزة الحكومية"ولئن رُصِدت فترات اضطهاد أحيانا فذلك إنما كان لفترات قصيرة استثنائية ثم إنها ف عمومها كانت ضمن سياق استبدادي عام ولم تكن مختصة باليهود كأتباع ديانة مخالفة، هذا ما يقرره المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار حين يقول:
"الإسلام يتراءى أكثر تسامحًا كلما قَوِيَ واشتدَّ على الصعيدين الداخلي والخارجي، وتنص الآية القرآنية التي تمنع الإكراه على اعتناق الدين عن تأكيد لا يتزعزع، وقوة الأُمَّة تُوَفِّر للمؤمن ألا (يُخِيفَ) اليهودي ولا المسيحي، وأن يحترم -بالتالي- شخصهما ودينهما ومؤسساتهما... وينبغي من جهة أخرى الإشارة إلى أن الشعوب الإسلامية بمختلف نزعاتها، الدينية أو الفلسفية، قد قاست ما قاساه المعاهدون حين بلغ جو التعصب ذروته [في السلطة]، إن لم تكن قاست أكثر مما قاسوا. وتنقل الكتب مثلا أن أحد المسلمين لم ينج من القتل على أيدي زمرة تخالفه الرأي إلا بعد أن ادعى أنه ذمي"ويزيد المعنى وضوحا المستشرقُ الإيطاليُّ الشهير فرانشسكو جابرييلي عندما يقارن بين الإسلام والمسيحية بقوله: "إننا يجب أن نذكر دائمًا أن الإسلام أضفى على (عقائد أهل الكتاب) -أي المسيحية واليهودية- مكانة خاصة يحميها الشرع، وإن تكن ذات مرتبة أدنى في الدولة، ولم يَدُمِ التزمت والاضطهاد فترات طويلة إلا في أوقات الشدَّة، وعدم الشعور بالأمان، أما قانون المسيحية فليس فيه أي مكان لأي دين آخر؛ لذا فقد انتقل بسرعة وبتطور منطقي، عندما انتصر على الإسلام إلى التعصب والاضطهاد"بدأت الفتوحات في عصر الخلافة الراشدة، تلك الفتوحات التي كانت إنقاذا لليهود في البلدان المفتوحة من الاضطهاد المنهجي المتكرر، يقول مؤرخ الحضارة ول ديورانت: "كان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين، إلا أنهم في عهدهم قد فُرضت عليهم عدة قيود ولاقوا شيئاً من الاضطهاد من حين إلى حين، غير أنهم مع هذا كانوا يُعاملون على قدم المساواة مع المسيحيين، وأصبحوا مرة أخرى يتمتعون بكامل الحرية في حياتهم وفي ممارسة شعائر دينهم في بيت المقدس، وأثروا كثيراً في ظل الإسلام وفي آسية، ومصر، وأسبانيا، كما لم يثروا من قبل تحت حكم المسيحيين"وهم لم يرحبوا فقط بل ساعدوا في الفتوح كما يقرر المستشرق البريطاني الخبير توماس أرنولد: "وكان من أثر هذه الاضطهادات أن رَحَّب اليهود بالعرب الغزاة وعَدُّوهم مُخَلِّصِين لهم مما حلَّ بهم من المظالم، فساعدوهم على فتح أبواب المدن، كما استعان بهم الفاتحون في حماية المدن التي وقعت بأيديهم"بل لقد منح الفتح الإسلامي لليهود أملا جديدا في الحياة كما تقول الباحثة البريطانية في مقارنة الأديان كارين أرمسترونج؛ "فقد كان الأباطرة البيزنطيون قد جرَّموا الديانة اليهودية، كما أوشك هرقل على إجبار اليهود على أن يُعَمَّدوا مسيحيين، لذا كان اليهود على استعداد لمؤازة المسلمين كما سبق لهم أن آزروا الفرس، خاصة وأن عقيدة المسلمين التوحيدية كانت أكثر قربا لليهودية منها للمسيحية... كما أن المسلمين لم يحرروهم فقط من ظلم بيزنطة، لكنهم أيضا منحوهم حق الإقامة الدائمة في المدينة المقدسة. ولا يثير الدهشة إذن أن يتسبب هذا التغيير في إلهام اليهود ببعض الأحلام الرؤياوية، خاصة وأن المسلمين حاولوا تطهير المعبد. وأصبح هناك تساؤل عما إذا كان ذلك يعني التمهيد لتشييد المعبد النهائي الذي سيقيمه المسيح المنتظر. وهكذا ظهرت قصيدة عبرية قرب نهاية القرن السابع ترحب بالعرب المبشرين بالمسيح المنتظر وتترقب آملة أن يجتمع شمل يهود الشتات وأن يُعاد بناء المعبد، وحينما لم يصل المسيح المنتظر، استمرت نظرة اليهود الراضية عن الحكم الإسلامي في أورشليم. ففي خطاب كتبه حاخامات أورشليم في القرن الحادي عشر، تذكر هؤلاء الرحمة التي أظهرها الإله لشعبه حين سمح "لمملكة إسماعيل" أن تفتح فلسطين وعبروا عن غبطتهم لوصول المسلمين إلى أورشليم"وهكذا لم يكن الأمر مجرد التقاء أغراض سياسية ثم ينقلب الفاتح إلى باطش، بل على العكس كما تقرر زيجريد هونكه، "فلم يكن الهدف أو المغزى للفتوحات العربية نشر الدين الإسلامي [بالجبر]، وإنما بسط سلطان الله في أرضه، فكان للنصراني أن يظلَّ نصرانيًّا، ولليهودي أن يظلَّ يهوديًّا كما كانوا من قبل، ولم يمنعهم أحدٌ أن يُؤَدُّوا شعائر دينهم، ولم يكن أحد لِيُنزِل أذًى أو ضررًا بأحبارهم أو قساوستهم ومراجعهم، وبِيَعِهم وصوامعهم وكنائسهم"في المقال القادم إن شاء الله تعالى نستعرض أحوال اليهود في ظل الأحقاب الإسلامية: عصر الدولة الأموية ثم عصر الدولة العباسية.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية 


تولستوي، حِكَم النبي محمد، دراسة وتقديم: د. محمود النجيري، ط1 (الجيزة: مكتبة النافذة، 2008م)، ص43، 44. صموئيل أتينجر، اليهود في البلدان الإسلامية، مرجع سابق، ص49، 50. مارسيل بوازار، إنسانية الإسلام، ترجمة: د. عفيف دمشقية، ط1 (بيروت: دار الآداب، 1980م)، ص202. فرانشسكو جابرييلي، الإسلام في عالم البحر المتوسط، ضمن "تراث الإسلام"، بإشراف: جوزيف شاخت، وكليفورد بوزوروث، ترجمة: د. محمد زهير السمهوري وآخرون، سلسلة عالم المعرفة 11 (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1987م)، ص114. ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة: مجموعة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م)، 13/131. توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة: حسن إبراهيم حسن وآخران، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1980)، ص155. كارين أرمسترونج، القدس: مدينة واحدة عقائد ثلاث، ترجمة: د. فاطمة نصر ود. محمد عناني، (القاهرة: سطور، 1998م)، ص394. زيجريد هونكه، الله ليس كذلك، ترجمة د. غريب محمد غريب، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 1996)، ص41.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 05, 2017 12:13

November 29, 2017

زمن الجاهلية الجميل!

كانت الأصنام في الجاهلية كثيرة.. لكل قبيلة صنم، في كل بيت صنم، ومن أراد أن يتخذ صنما لنفسه فعل، وحين يكون القوم في سفر يحمل الرجل صنما صغيرا، إن تكاسل عن الحمل بحث في لحظات الراحة عن حجر فاتخذه صنما ليعبده، فإن مرَّ بحجر خير منه ألقى الأول وعبد الثاني، فإن كانوا بأرض غير ذات حجارة جمعوا ترابا ثم جاءوا بشاة فحلبوها عليها فتتماسك فيعبدونها ويطوفون حولها.. وهكذا! وحول الكعبة وحدها انتصب ثلاثمائة وستون صنما!!
كان عصر حريات دينية من أوسع ما يكون!
هذا إن كان الدين مجرد علاقة بين الرجل وربه، فليس يضر ملأ قريش أن ينتقل الرجل في اليوم بين خمسة أصنام أو ستة، أو يترك عبادة الأصنام كلها ويقضي يومه وليله يتأمل في السماء وينسج الأشعار، أو حتى يتعلم الكتاب الأول فيتهود أو يتنصر.. كل شيء مباح ما دام المرء مواطنا صالحا يمشي على النظام المتبع ولا يخرج عنه أو يخرج عليه.
من هنا فهم العرب التهديد الخطير الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهموه من الكلمة الأولى "لا إله إلا الله"، فهموا منه ما لا يفهمه أغلب الناس اليوم، فهموا في لحظة واحدة أن كلمة التوحيد تعني هدم الأصنام، وهدم الأصنام يعني تغيير النظام.. كانت كلمة "لا إله إلا الله" في أسماع ملأ قريش ككلمة "الشعب يريد إسقاط النظام" في أسماع الحكام العرب، إلا أن كلمة التوحيد بناء بعد هدم، وتصور شامل للحياة، ولهذا انتفض النظام القرشي ضد الدعوة الجديدة..
فلو أن متحدثهم ينطق بلسان اليوم أو أن متحدث الأنظمة اليوم كان في زمانهم لقال: "إن الدولة القرشية تدافع عن الحريات الدينية المكفولة لكل مواطن، فهي لا تدافع عن صنم بعينه ولا عن عبادة شمس أو قمر، بل تدافع عن حق كل مواطن في عبادة ما يشاء، فالدين هو مجرد علاقة بين العبد وربه، لا دخل للدولة فيه.. وهذه الدعوة الجديدة التي جاء بها فتى بني هاشم إنما هي تطرف وتعصب بغيض ومحاولة إجبار الناس على عبادة إله واحد، وضرب استقرار المجتمع وتعكير السلم الاجتماعي وقلب نظام الحكم عبر السعي إلى السلطة بوسائل مخالفة للقانون والدستور القرشي الذي وضعه الآباء المؤسسون العظام". قد قيل كل هذا الكلام لكن بألفاظ أخرى، وصدق ربنا (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم).
قد كانت أزمتهم على الحقيقة أن الإسلام ليس مجرد طقوس وشعائر وعلاقة بين العبد وربه، إنما هو نظام ومنهج يصوغ الحياة وفق رؤية شاملة تمتد إلى مناحي السياسة والاجتماع والاقتصاد، ومثل هذا لا يمكن القبول به في دائرة الحريات الممنوحة في النظام الجاهلي. وتلك هي أزمة الإسلام حتى الآن مع الأنظمة الحاكمة ومع النظام الدولي.
على أن قوة الإسلام التي رسخت في الناس لا تجعل النداء بالعودة إلى "زمن الجاهلية الجميل" مقبولا، حتى من يتابع أحلام المستشرقين والمنصرين وتطورها يجدها في انحدار، ففي مطلع القرن الماضي كانت مؤتمراتهم ومؤلفاتهم تبشر بقرب تنصير العالم الإسلامي، ثم بدأت تظهر نبرة أن المطلوب ليس تنصيرهم بل المطلوب إخراجهم من الإسلام (وأوضح تطبيق على هذا المعنى أن الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى اكتفوا بإخراج الإسلام من القسطنطينية وقهرها على العلمانية ولم يحاولوا إعادتها إلى المسيحية)، وعند نهاية القرن وبداية القرن الجديد كانت التقارير الغربية وكثير من المستشرقين قد وصلوا إلى مرحلة "صناعة الإسلام المعتدل" ودعم الفئات "الإسلامية" التي تمثل دينا مستكينا مهتما بالعلاقة بين العبد وربه ومستسلما للنظام الحاكم ومن فوقه النظام الدولي. وتنوعت التوصيات من دعم فئات متدينة في حياتها الخاصة لكنها ملتزمة بالنظام السائد (كانوا يتوقعون أن تكون تجربة تركيا مثالا ناجحا على هذا) إلى دعم فئات لا تتدخل بالسياسة من قريب أو بعيد (كجماعة التبليغ التي تسمح لها الأنظمة بمعسكرات ورحلات وخطب على المنابر) إلى دعم فئات تتدين بعبادة الحاكم وتمهيد الأمر له (كما في حالة السلفية المدخلية والطرق الصوفية). ومع تضاؤل نجاحهم في التجربة الأولى ثم قلة نجاحهم في الثانية يبدو أن التوصيات الآن محتفية على وجه الخصوص بدعم السلفية المدخلية والطرق الصوفية.
قبل شهور طالعت دراسة عن قوانين التنظيمات العثمانية في القرن التاسع عشر، يقول كاتبها (الخبير في مكافحة الإرهاب!) في السطور الأولى أنه كتبها بغرض إقناع الجماعات الإسلامية التي تتطلع إلى الخلافة وحكم الشريعة أن الدولة العثمانية التي يعتبرونها خلافة إسلامية كانت في آخر أيامها تسير في الطريق إلى العلمانية وتقصي الشريعة الإسلامية وتستبدل بها القوانين العلمانية الأوروبية، وأن هذا قد حدث برعاية الخليفة، وأن الدولة العثمانية كانت أبعد ما تكون عن الخلافة الدينية التي يتطلع إليها الإسلاميون، إنما كانت إمبراطورية عسكرية برجماتية تسعى بأي وسيلة للبقاء على قيد الحياةهنا نصل إلى مستوى جديد من الخطاب، وهو مستوى يقول: التجربة التي تنشدونها وتتطلعون إليها إنما كانت في حقيقة الأمر علمانية، لم تكن بالصورة التي تتخيلون، فدعكم من الأوهام، واقتنعوا بالعلمانية. ويمكن تجميل الصياغة على نحو آخر لتصير: إن النموذج الإسلامي العظيم المتمثل في الدولة العثمانية التي كانت خلافة إسلامية كبيرة هو في حقيقته كان يسير نحو الحداثة والتطور ويتقبل بشكل رائع ومرن المستجدات العالمية، حتى إن الخليفة نفسه وفي ظل مشيخة الإسلام نفسها بدأوا في استبدال القوانين الأوروبية بالقوانين الإسلامية، وبقبول مفهوم المواطنة كبديل عن الأمة، وعلينا أن نواصل مسيرة الخلفاء والعلماء المستنيرين لنصل إلى ما لم يمهلهم الوقت ليصلوا إليه.
نفس هذا المنطق كان أحد أهم الدوافع وراء نشر وترويج كتاب "الدولة المستحيلة" لوائل حلاق، فالكتاب يسوق لفكرة أن الدولة الإسلامية وإن كانت عظيمة ورائعة وبها من القيم ما تفتقر إليه الحداثة إلا أن تحققها في الواقع مستحيل، ومن ثم فعلى من يسعون في إعادة إحيائها أن يكونوا أكثر واقعية. ومن هنا أثار الكتاب ردود فعل مختلفة بين العلمانيين والإسلاميين جميعا، لأن كل طيف في كل فريق رآه داعما أو مهددا لفرضية أساسية لديه. فالإسلاميون الجهاديون والثوريون احتفوا بالكتاب لأنه يثبت تناقض الإسلام مع منظومة الحداثة تناقضا يمنع التقاءهما وهي فكرة داعمة للمسار الثوري الجهادي النضالي ثم اختلفوا مع استحالة التحقق فإن عودة الخلافة وعد الله، والإسلاميون الديمقراطيون تلقونه بالرفض لأن بناءهم الفكري يسوق لالتقاء الإسلام بالحداثة واستطاعته استيعابها أو التكيف معها أو الاستجابة لها بأخذ خير ما فيها ورفض شر ما فيها ثم قالوا بأن هذا هو دليل إمكانية التحقق لا استحالته كما يسوق المؤلف. وعلى الجانب الآخر: رفض فريق من العلمانيين الكتاب لما فيه من ثناء على التجربة الإسلامية وإثبات افتقار الحداثة لبعض قيمها بل واحتياجها للاستفادة من الإسلام، ومنهم فريق لم يهمه من الكتاب إلا أنه يقدم رواية فيها إرضاء للمتدينين والإسلاميين وتجربتهم العظيمة مع إثبات أنها كانت ولن تعود وأنها مستحيلة التحقق.
حين ننظر فيمن ترجم وروج للكتاب سنجدهم من الفريق الأخير.. فريق من يعتنق مفهوما علمانيا قوميا يحرص على نوع إرضاء أو لنقل عدم خسارة للتيار الإسلامي في مشروعه الجديد. ذلك هو مشروع عزمي بشارة صاحب النفوذ الثقافي الطاغي من خلال نوافذه البحثية والإعلامية، ومن لا يخفى على متابع سعيه في تصنيع الكوادر على نفس المثال.
عزمي بشارة، وهو ألطف من يتحرك في سياق تفكيك مفهوم الدولة الإسلامية، قال في فيديو منشور نفس ما قاله خبير مكافحة التطرف، يكاد أن يكون بالحرف، ولربما أن يكون قد نقل عنه، يقول ما مفاده: دراسة نهاية المرحلة العثمانية مهمة لنرى التطور الطبيعي لتبني العلمانية، والقوانين التي تبدأ باحترام الشريعة لتؤصل لإقصائها واستبدالها، وقد فعل هذا السلطان العثماني، الذي استعمل الديباجات الشرعية في سعيه "للإصلاحات المدنية"، حتى إلغاء الخلافة على يد أتاتورك إنما كان بفتوى!
وختم بشارة كلمته بقوله "أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم"!!! في أسرع تطبيق عملي على مراده الذي نستطيع أن نقول إنه: إقصاء الإسلام عبر التأصيلات الشرعية نفسها، والشخصيات والمؤسسات والحركات الإسلامية نفسها.
تبدو الفكرة نفسها بائسة ومعبرة عن الإفلاس، ذلك أن الإسلاميين –من أول الغنوشي زعيم الحريات المدنية يسارا وحتى داعش زعيمة الخوارج يمينا- لا يفكرون في الاقتداء بالدولة العثمانية، بل هم يرون آخرها هذا هو المرحلة الكارثية التي أسقطت الخلافة، بل إنه لا تعجبهم ولا حتى الدولة الأموية أعظم الدول الإسلامية قوة واتساعا ونفوذا.. إنما يتعلق أولئك في تنظيراتهم وأدبياتهم بالخلافة الراشدة، ومن خلالها يستدل كلٌّ منهم لمشروعه. لكن اللافت للنظر هنا أن مستوى الخطاب الساعي لإقصاء فكرة الدولة الإسلامية وصل إلى مرحلة يدغدغ فيها مشاعر المسلمين ويحاول إرضاء الإسلاميين بتسويق العلمانية على أنها ليست متناقضة جوهريا مع الإسلام.
وهنا أتذكر كلمة صديقي الساخر: الإسلام دين وسطي جميل لا يتعارض مع الإلحاد!!
تحت نفس لافتة "الإسلام الوسطي الجميل" يتحرك السيسي ومحمد بن سلمان ومحمد بن زايد، كذلك يفعل حسن نصر الله وروحاني وبشار "يحاربون التكفيريين"!! بل إنك لتقرأ كلمات الإسلام المعتدل عند أفيخاي أدرعي ونتنياهو وترامب!! حتى أنشد صديق يقول:
إذا أفتى لأمتنا أوباما .. وعلمنا أصول الدين كيريفدعنا من حلال أو حرام .. فقد طابت مسامرة الحمير
مهما تضاربت أو اتفقت مشاريع أولئك، فإن تسويقها يتخذ نفس الشعار "العودة إلى الإسلام الوسطي الجميل"، وهنا تتعدد التفسيرات والتأصيلات والفقهاء، بل ويتنوع الفقهاء أنفسهم، فربما كان إعلاميا كمحمود سعد الذي تحسر يوما على زمن الاعتدال الذي كانت تقف فيه المرأة في الشرفة بملابس النوم، ويمسك زوجها بزجاجة الخمر! أو أكاديميا كأسامة الغزالي حرب الذي لا يعترف بالحدود جزءا من الإسلام، أو حتى شيخا معمما يحكم بالجنة على من مات في سبيل الوطن وإن لم يكن مسلما!
القدر المتفق عليه بين كل أولئك أن يتخلى المسلم عن فكرة منافسة الحكام في مساحة النظام، وأن يكتفي من دينه بالشعائر والطقوس، فمن شاء كان سلفيا (مدخليا) أو صوفيا (مهادنا)، ومن شاء ترك الإسلام واعتنق ما شاء متى شاء وكيفما شاء، عش حياتك كما تهوى.. بشرط واحد: أن تكون مواطنا صالحا ملتزما بالنظام!
يكررون سيرة أشباههم من ملأ قريش.. تزعجهم "لا إله إلا الله" وتثير أعصابهم، على أن أولئك أرادوا إخمادها، وهؤلاء يريدون تذويبها وتزويرها!
قال تعالى (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي. إن الله لقوي عزيز)
نشر في مدونات الجزيرة

Ishtiaq Hussain, The Tanzimat: Secular reforms in the Ottoman Empire , (faith matter, 2011), p 4.
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 29, 2017 01:58