محمد إلهامي's Blog, page 29
November 23, 2017
طبقات الاستبداد ومقاومة الأمة
ثمة أمور يجب على عقل المقاومة أن تستوعبه وتهضمه جيدا، من أهمها ما سنتناوله هنا، وسنحاول الحديث عنه هنا بتبسيط شديد:
1. الناس عبر التاريخ يثورون ضد الاحتلال الأجنبي أو ضد الاستبداد الداخلي. وكان التسامح مع المستبد أوسع وأكبر بكثير من التسامح مع المحتل، ولهذا تطول عصور الاستبداد أكثر بكثير مما تطول عصور الاحتلال.
2. قد ينقلب المستبدون بعضهم على بعض، وقد تشتعل ثورة فتسقط المستبد وتقتله بأشد الطرق وحشية، إلا أن الأهداف العامة للأمة لا تتغير، فالمستبد يعبر عن الأمة ويتحرك في سبيل أهدافها ولتقويتها، والذين ثاروا عليه إن انتصروا فهم يتحركون في نفس الأهداف وبنفس الدوافع.. لأن المستبد لم يكن ضد أمته ومناقضا لها بل كان ظالما مستبدا يستحوذ على مواردها، فإن كان قويا كان عصره رغم استبداده من عصور ازدهار أمته، وإن كان سفيها أو تافها أنفق موارد أمته على نفسه وحاشيته وبلاطه.
3. عامة ما جرى في التاريخ من تقلبات سياسية، ثورات وانقلابات، كان تعبيرا عن صراع القوى الداخلية لا عن نفوذ القوى الخارجية الأجنبية.. فالحاكم يتغير بثورة أو بانقلاب يعبر عن اتجاه آخر وقوة أخرى هي ضمن قوة الأمة نفسها وليست صنيعة لأعداء الخارج. نعم! وُجِد من يستعين على ثورته وتمرده بدعم ومدد من الخارج الأجنبي لكن هذه الحالة قليلة بالمقارنة بما حدث من تقلبات سياسية، ثم إنها أكثر ما تكون في مناطق الاحتكاك الحضاري بين أمتين كبيرتين، يعني في الممالك على الحدود والأطراف وليس في قلب الأمم الكبرى.
4. كانت السلطة دائما أقوى سلاحا وأكثر عددا ورجالا من الثائرين عليها، لكن الفارق بين ما تملكه الشعوب وما تملكه السلطة لم يكن عظيما، في النهاية يتقاتلون بالسيوف والرماح والسهام ويستعملون الخيل.. نعم، تملك السلطة مجانيق وقلاع محصنة مع نوع من الشرعية والقدرة المالية وهو ما يجعلها الأعلى يدا، إلا أن الفارق في النهاية لم يكن عظيما، فبالإمكان مع نوع تدبير وتخطيط ومفاجأة واستعانة بعصبيات وقوى أخرى أن تدور معركة متكافئة مع السلطة.
5. من سوء حظ أمتنا أن لحظة ضعفها وانهيارها الداخلي كان مواكبا للحظة نهضة أوروبية قوية، تلك النهضة مع ضعفنا كانت لها آثار شنيعة لا زلنا حتى الآن نعاني منها، فكيف تم هذا؟
أولا: رغم أن المسلمين اكتشفوا وجود الأمريكتين واكتشفوا إمكانية الانتقال من الغرب إلى الشرق بالدوران حول إفريقيا (طريق رأس الرجاء الصالح)، إلا أن من استفادوا بهذا هم الغربيون، لأن من حكموا العالم الإسلامي وقتها لم يستفيدوا من تلك الاكتشافات العلمية، بينما استطاعت أوروبا أن تسيطر على جبال الذهب والفضة والموارد الضخمة في الأمريكتين كما استطاعت أن تسيطر على موارد السواحل الإفريقية والآسيوية. نعم، كان هذا بالعنف والقهر والوحشية لكن هذا حديث آخر.
ثانيا: لم تكن استفادة الغربيين من تقدم العلوم مقتصرة على الجغرافيا، بل أخذ تقدم العلوم يلقي بتأثيره على كل المجالات، ويهمنا في سياقنا الآن أن السلطة استفادت من العلم في توسيع فارق القوة بينها وبين عموم الناس، تطورت الأسلحة التي تملكها السلطة، واتسع الفارق بينهم وبين الناس، ومن هنا استطاع الغزاة الأوروبيين رغم قلة عددهم اكتساح أمم أعظم منهم بكثير.. فالذي يحمل المسدس يستطيع مواجهة عشرات ممن يحملون السيوف. كما أن تقدم العلوم أتاح صناعة السفن التي تعبر المحيطات وتحمل أعدادا أكبر من البشر وأثقالا أعظم من الأسلحة والمعدات.. ومن هنا استطاع الغربيون السيطرة على أجزاء كثيرة من العالم في إفريقيا وآسيا مع الأمريكتين لأنهم أول من استفادوا من تقدم العلوم.
ثالثا: تواكب هذا الصعود العلمي مع طفرة اقتصادية، بدأت قبله، ومع تطور فكر سياسي ضد الكنيسة وضد الملكية.. أصحاب الأموال صاروا قوة مؤثرة، تمكنت مع الزمن من إزاحة الإقطاعيين والنبلاء ومن منافسة الكنيسة والملكية، وصار رجال المال من أهم قوى المجتمع الغربي ومن أهم أعمدة السلطة فيه، وربما كانوا أحيانا أهم أعمدة السلطة.
6. كانت نتيجة مجمل هذه التطورات أن الغرب وجد أمامه مساحات واسعة من الأراضي والشعوب والموارد الاقتصادية التي لا تحميها سلطات قوية، فبدأ عصر الاستعمار. ومن الطريف هنا أن كلمة "عصر الكشوف الجغرافية" تساوي كلمة "عصر الاستعمار"، رغم أن الأولى تبدو لأول وهلة شيئا جميلا وتقدما علميا والثانية تبدو شيئا شنيعا.. لكن الحقيقة أن تقدم العلم كان هو نفسه تقدم الاحتلال وسحق الشعوب والأمم الضعيفة.
7. بعد انتصار الاحتلال الأجنبي الناهض على أمتنا أراد أن يجعل بلادنا تابعة ورهينة له، عسكريا واقتصاديا وأيضا فكريا وثقافيا.. واقتضى هذا مجهودا طويلا وخرافيا في فهم أمتنا (وهو ما قامت به حركة الاستشراق) وفي تركيعها (وهو ما قامت به جيوش الاحتلال) وفي إعادة تركيبها وصياغتها فكريا وثقافيا وهو ما قامت به النظم السياسية.. لهذا كان تاريخنا الحديث هو تاريخ "تحديثنا" لنكون مثل الغرب.
8. هنا وقعت بأمتنا الكارثة.. لقد استطاع الاحتلال غرس نظامه فيها، بالعنف والقهر والظلم، استطاع دس حكام تابعين له في أرضنا، والسيطرة عليهم، وإنشاء طبقات حاكمة حوله، وإنشاء نخبة اقتصادية وثقافية مرتبطة به، ليتم له ربط بلادنا به لتكون تابعة له.. تلك هي قصة الشعوب الإسلامية العامة مع الاختلاف في التفاصيل.
9. كل تقدم علمي كان يُستعمل ضد أمتنا ولتثبيت النظام الأجنبي فيها وتوسيع الفارق بينها وبين الشعوب، فاتسعت الفجوة بين عدد وقوة ونوعية السلاح الذي تملكه السلطة وبين ما يملكه الشعب، وامتلكت السلطة جهاز الإعلام (المطبعة، الراديو، التليفزيون) فصارت الشعوب في وضع التلميذ الذي يسمع ويُلقن الأفكار بعدما كانت الأمة هي من تنتج أفكارها، وتطور نظام الدولة الحديثة ليجعل الدولة متحكمة في حياة الإنسان من وقت مولده إلى وفاته، فالدولة تربيه وتصنعه في المدرسة والجامعة والوظيفة، وقد كان من قبل يولد فيربيه أهله وبيئته ثم يتعلم في الكتاب والمدرسة الأهلية التي لم تنشئها الدولة ولا تسيطر على مناهجها، ثم يعمل في نشاط اقتصادي طبقا لموهبته أو لوراثته من أهله دون تدخل من الدولة في طبيعة ما يفعل.. وهكذا!
10. منذ تلك اللحظة صارت أمتنا مهزومة، وصار انهيار السلطة يساوي انهيار وضعها كله لأن السلطة تتحكم في كل شيء، وربما سلمت السلطة بنفسها الأمة للمحتل بغير مقاومة. أي أن السلطة صارت هي أول وأعظم هزائمنا ونكبتنا.. فهي سلطة تبدو كمستبد وطني بينما هي على الحقيقة القناع الذي يرتديه المحتل للسيطرة على الشعوب لئلا يستفزها منظر المحتل الأجنبي. ومن الطرائف أن السلطة في بلادنا تستعمل كل قوتها وكل عنفها إن اشتعلت في وجهها ثورة شعبية فتخرج الدبابات والطائرات والأسلحة الكيمائية وفرق مكافحة "الشعب"! ثم يأتي الأجنبي فيدعمها بنفسه وجيشه ليمنع سقوطها. بينما إن جاء الاحتلال رأيت الانسحابات واختفت الجيوش وسكتت الطائرات والدبابات وتسلم الأجنبي البلاد والعباد بغير مقاومة.
11. لو تدبرنا لرأينا أن كل انتصار في تاريخنا صنعته الشعوب وحركات المقاومة، بينما كل هزيمة وقعت بنا إنما تسببت فيها السلطة.. والسلطة في بلادنا بتحكمها في كل أنشطة الإنسان يجعل اختراق الأعداء لنا ومعرفتهم بنا اختراقا شاملا، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن والتربية... إلخ!
فكيف نقاوم هذا الاحتلال الشامل المطبق؟!
باختصار شديد: كل خروج للمجتمع من تحت يد السلطة هو قوة للمجتمع وخصم من السلطة.
1. انتشار الكتاتيب وتعليم القرآن وانتشار حفظته هو انتشار لمراكز تعليم ولمناهج لا تهيمن عليه السلطة. القرآن هو كتاب الأمة، ومن يتربى على القرآن ويتلقى عنه هو شخصية مضادة لكل فكر وتوجه سياسي وأخلاقي واقتصادي تريده السلطة العلمانية التابعة للمنظومة الغربية. وبقدر ما انتشر القرآن بقدر ما انتشرت مقاومة العلمنة ومقاومة الطغيان.. القرآن والطغيان لا يجتمعان!
2. انتشار التكتلات والتجمعات والمجموعات هو تقوية للمجتمع وخصم من السلطة، السلطة تريد الناس مواطنين فرادى تتعامل معهم كأفراد لا ككتل اجتماعية.. فكل تكتل سياسي أو اقتصادي أو ثقافي لم يصدر بإنشائه تصريح من السلطة ولا يعقد اجتماعاته تحت عين السلطة ولا يجري في نشاطاته ملتزما بقوانين السلطة، ولا يحل أفراده الخلافات بينهم عن طريق السلطة.. كل اجتماع كهذا هو بذرة مقاومة، وهو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة.
3. السلطة جردت شعوبنا من السلاح لتستبد بهم، فكل انتشار للسلاح بيد الناس هو قوة للمجتمع وتهديد للسلطة، وكل وقوف في وجه سلاح السلطة لدفع ظلم من السلطة أو حماية مظلوم من السلطة هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة. ولو أن مهندسي الأمة وعلمائها وصُناعها يحرصون على ابتكار الأسلحة الخفيفة سهلة الانتشار التي يستفيد منها عموم الناس لا السلطة لكان هذا من أهم وأعظم ما يعيد التوازن بين سلاح السلطة وسلاح المجتمع.
4. انتشار المجالس العرفية والمحاكم العرفية التي تفصل في خلافات الناس دون الرجوع للسلطة، والتي يحترمها الناس وينصاعون لها وينفذون ما تقضي به هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة.
5. انتشار التعليم المنزلي، وانتشار مجموعات التعليم المنزلي، وإنقاذ فطرة الأطفال والفتيان من تحكم الدولة ومناهجها وهيمنتها الفكرية هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة، وهذا الانتشار هو نفسه ما سيخلق مجموعات مستقلة وأنشطة مستقلة بل ومجالات عمل واقتصاد مستقل فيما بعد.
6. كل نشاط اقتصادي يقوم بعيدا عن عين السلطة ورقابتها ولا يدفع لها ضرائب ولا يلتزم بسياستها هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة. ولا سيما الأنشطة الاقتصادية الداعمة لسائر ما هو مخالف للسلطة، فلو أن تلك الأنشطة الاقتصادية يذهب ربحها لدعم الكتاتيب والمجموعات الأهلية والمحاكم العرفية والتعليم المنزلي لكانت تلك هي الخدمة العظمى لمقاومة الأمة واستقلاليتها. بل لو استطاعت الأنشطة الاقتصادية التعامل بغير عملة الدولة أو ابتكار عملة لها تحوز القبول العام لكان هذا فتحا هائلا في العلاقة بين المجتمع والسلطة.
وهكذا نرى مجال المقاومة مجال واسع ممتد يستطيع الكثيرون المشاركة فيه، بل لا مجال لإنقاذ الأمة وتغير حالها من أن يشارك مجموعها فيه، كل بسهمه وبما يستطيع.. ومن هنا تظل المسؤولية الكبرى على القادة والعلماء.. القادة هم من يصنعون المنظومات العملية ويوجهون ويديرون، فتتحول الطاقات السائلة المبعثرة إلى تيار موجه ومنظومات متكاملة متعاونة. والعلماء هم من ينتجون الأفكار ويدعمونها ويُوَجِّهون إليها ويُحَرِّضون عليها ويظللون كل عمل بالمظلة الأخلاقية التي تمنع سائر تلك الأعمال من الانحراف عن وجهتها في خدمة الأمة إلى المصالح والأغراض الشخصية أو إلى خدمة الأعداء.
وسيجد العلماء في الإسلام مادة غزيرة لتعظيم الكتلة المجتمعية بقيم صلات الرحم وحسن الجوار، ومادة غزيرة لمقاومة الظلم والوقوف أمام الظالمين، ومادة غزيرة لتثوير الطاقات وتوجيهها.
قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 77، 78]
نشر في مجلة كلمة حق
1. الناس عبر التاريخ يثورون ضد الاحتلال الأجنبي أو ضد الاستبداد الداخلي. وكان التسامح مع المستبد أوسع وأكبر بكثير من التسامح مع المحتل، ولهذا تطول عصور الاستبداد أكثر بكثير مما تطول عصور الاحتلال.
2. قد ينقلب المستبدون بعضهم على بعض، وقد تشتعل ثورة فتسقط المستبد وتقتله بأشد الطرق وحشية، إلا أن الأهداف العامة للأمة لا تتغير، فالمستبد يعبر عن الأمة ويتحرك في سبيل أهدافها ولتقويتها، والذين ثاروا عليه إن انتصروا فهم يتحركون في نفس الأهداف وبنفس الدوافع.. لأن المستبد لم يكن ضد أمته ومناقضا لها بل كان ظالما مستبدا يستحوذ على مواردها، فإن كان قويا كان عصره رغم استبداده من عصور ازدهار أمته، وإن كان سفيها أو تافها أنفق موارد أمته على نفسه وحاشيته وبلاطه.
3. عامة ما جرى في التاريخ من تقلبات سياسية، ثورات وانقلابات، كان تعبيرا عن صراع القوى الداخلية لا عن نفوذ القوى الخارجية الأجنبية.. فالحاكم يتغير بثورة أو بانقلاب يعبر عن اتجاه آخر وقوة أخرى هي ضمن قوة الأمة نفسها وليست صنيعة لأعداء الخارج. نعم! وُجِد من يستعين على ثورته وتمرده بدعم ومدد من الخارج الأجنبي لكن هذه الحالة قليلة بالمقارنة بما حدث من تقلبات سياسية، ثم إنها أكثر ما تكون في مناطق الاحتكاك الحضاري بين أمتين كبيرتين، يعني في الممالك على الحدود والأطراف وليس في قلب الأمم الكبرى.
4. كانت السلطة دائما أقوى سلاحا وأكثر عددا ورجالا من الثائرين عليها، لكن الفارق بين ما تملكه الشعوب وما تملكه السلطة لم يكن عظيما، في النهاية يتقاتلون بالسيوف والرماح والسهام ويستعملون الخيل.. نعم، تملك السلطة مجانيق وقلاع محصنة مع نوع من الشرعية والقدرة المالية وهو ما يجعلها الأعلى يدا، إلا أن الفارق في النهاية لم يكن عظيما، فبالإمكان مع نوع تدبير وتخطيط ومفاجأة واستعانة بعصبيات وقوى أخرى أن تدور معركة متكافئة مع السلطة.
5. من سوء حظ أمتنا أن لحظة ضعفها وانهيارها الداخلي كان مواكبا للحظة نهضة أوروبية قوية، تلك النهضة مع ضعفنا كانت لها آثار شنيعة لا زلنا حتى الآن نعاني منها، فكيف تم هذا؟
أولا: رغم أن المسلمين اكتشفوا وجود الأمريكتين واكتشفوا إمكانية الانتقال من الغرب إلى الشرق بالدوران حول إفريقيا (طريق رأس الرجاء الصالح)، إلا أن من استفادوا بهذا هم الغربيون، لأن من حكموا العالم الإسلامي وقتها لم يستفيدوا من تلك الاكتشافات العلمية، بينما استطاعت أوروبا أن تسيطر على جبال الذهب والفضة والموارد الضخمة في الأمريكتين كما استطاعت أن تسيطر على موارد السواحل الإفريقية والآسيوية. نعم، كان هذا بالعنف والقهر والوحشية لكن هذا حديث آخر.
ثانيا: لم تكن استفادة الغربيين من تقدم العلوم مقتصرة على الجغرافيا، بل أخذ تقدم العلوم يلقي بتأثيره على كل المجالات، ويهمنا في سياقنا الآن أن السلطة استفادت من العلم في توسيع فارق القوة بينها وبين عموم الناس، تطورت الأسلحة التي تملكها السلطة، واتسع الفارق بينهم وبين الناس، ومن هنا استطاع الغزاة الأوروبيين رغم قلة عددهم اكتساح أمم أعظم منهم بكثير.. فالذي يحمل المسدس يستطيع مواجهة عشرات ممن يحملون السيوف. كما أن تقدم العلوم أتاح صناعة السفن التي تعبر المحيطات وتحمل أعدادا أكبر من البشر وأثقالا أعظم من الأسلحة والمعدات.. ومن هنا استطاع الغربيون السيطرة على أجزاء كثيرة من العالم في إفريقيا وآسيا مع الأمريكتين لأنهم أول من استفادوا من تقدم العلوم.
ثالثا: تواكب هذا الصعود العلمي مع طفرة اقتصادية، بدأت قبله، ومع تطور فكر سياسي ضد الكنيسة وضد الملكية.. أصحاب الأموال صاروا قوة مؤثرة، تمكنت مع الزمن من إزاحة الإقطاعيين والنبلاء ومن منافسة الكنيسة والملكية، وصار رجال المال من أهم قوى المجتمع الغربي ومن أهم أعمدة السلطة فيه، وربما كانوا أحيانا أهم أعمدة السلطة.
6. كانت نتيجة مجمل هذه التطورات أن الغرب وجد أمامه مساحات واسعة من الأراضي والشعوب والموارد الاقتصادية التي لا تحميها سلطات قوية، فبدأ عصر الاستعمار. ومن الطريف هنا أن كلمة "عصر الكشوف الجغرافية" تساوي كلمة "عصر الاستعمار"، رغم أن الأولى تبدو لأول وهلة شيئا جميلا وتقدما علميا والثانية تبدو شيئا شنيعا.. لكن الحقيقة أن تقدم العلم كان هو نفسه تقدم الاحتلال وسحق الشعوب والأمم الضعيفة.
7. بعد انتصار الاحتلال الأجنبي الناهض على أمتنا أراد أن يجعل بلادنا تابعة ورهينة له، عسكريا واقتصاديا وأيضا فكريا وثقافيا.. واقتضى هذا مجهودا طويلا وخرافيا في فهم أمتنا (وهو ما قامت به حركة الاستشراق) وفي تركيعها (وهو ما قامت به جيوش الاحتلال) وفي إعادة تركيبها وصياغتها فكريا وثقافيا وهو ما قامت به النظم السياسية.. لهذا كان تاريخنا الحديث هو تاريخ "تحديثنا" لنكون مثل الغرب.
8. هنا وقعت بأمتنا الكارثة.. لقد استطاع الاحتلال غرس نظامه فيها، بالعنف والقهر والظلم، استطاع دس حكام تابعين له في أرضنا، والسيطرة عليهم، وإنشاء طبقات حاكمة حوله، وإنشاء نخبة اقتصادية وثقافية مرتبطة به، ليتم له ربط بلادنا به لتكون تابعة له.. تلك هي قصة الشعوب الإسلامية العامة مع الاختلاف في التفاصيل.
9. كل تقدم علمي كان يُستعمل ضد أمتنا ولتثبيت النظام الأجنبي فيها وتوسيع الفارق بينها وبين الشعوب، فاتسعت الفجوة بين عدد وقوة ونوعية السلاح الذي تملكه السلطة وبين ما يملكه الشعب، وامتلكت السلطة جهاز الإعلام (المطبعة، الراديو، التليفزيون) فصارت الشعوب في وضع التلميذ الذي يسمع ويُلقن الأفكار بعدما كانت الأمة هي من تنتج أفكارها، وتطور نظام الدولة الحديثة ليجعل الدولة متحكمة في حياة الإنسان من وقت مولده إلى وفاته، فالدولة تربيه وتصنعه في المدرسة والجامعة والوظيفة، وقد كان من قبل يولد فيربيه أهله وبيئته ثم يتعلم في الكتاب والمدرسة الأهلية التي لم تنشئها الدولة ولا تسيطر على مناهجها، ثم يعمل في نشاط اقتصادي طبقا لموهبته أو لوراثته من أهله دون تدخل من الدولة في طبيعة ما يفعل.. وهكذا!
10. منذ تلك اللحظة صارت أمتنا مهزومة، وصار انهيار السلطة يساوي انهيار وضعها كله لأن السلطة تتحكم في كل شيء، وربما سلمت السلطة بنفسها الأمة للمحتل بغير مقاومة. أي أن السلطة صارت هي أول وأعظم هزائمنا ونكبتنا.. فهي سلطة تبدو كمستبد وطني بينما هي على الحقيقة القناع الذي يرتديه المحتل للسيطرة على الشعوب لئلا يستفزها منظر المحتل الأجنبي. ومن الطرائف أن السلطة في بلادنا تستعمل كل قوتها وكل عنفها إن اشتعلت في وجهها ثورة شعبية فتخرج الدبابات والطائرات والأسلحة الكيمائية وفرق مكافحة "الشعب"! ثم يأتي الأجنبي فيدعمها بنفسه وجيشه ليمنع سقوطها. بينما إن جاء الاحتلال رأيت الانسحابات واختفت الجيوش وسكتت الطائرات والدبابات وتسلم الأجنبي البلاد والعباد بغير مقاومة.
11. لو تدبرنا لرأينا أن كل انتصار في تاريخنا صنعته الشعوب وحركات المقاومة، بينما كل هزيمة وقعت بنا إنما تسببت فيها السلطة.. والسلطة في بلادنا بتحكمها في كل أنشطة الإنسان يجعل اختراق الأعداء لنا ومعرفتهم بنا اختراقا شاملا، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن والتربية... إلخ!
فكيف نقاوم هذا الاحتلال الشامل المطبق؟!
باختصار شديد: كل خروج للمجتمع من تحت يد السلطة هو قوة للمجتمع وخصم من السلطة.
1. انتشار الكتاتيب وتعليم القرآن وانتشار حفظته هو انتشار لمراكز تعليم ولمناهج لا تهيمن عليه السلطة. القرآن هو كتاب الأمة، ومن يتربى على القرآن ويتلقى عنه هو شخصية مضادة لكل فكر وتوجه سياسي وأخلاقي واقتصادي تريده السلطة العلمانية التابعة للمنظومة الغربية. وبقدر ما انتشر القرآن بقدر ما انتشرت مقاومة العلمنة ومقاومة الطغيان.. القرآن والطغيان لا يجتمعان!
2. انتشار التكتلات والتجمعات والمجموعات هو تقوية للمجتمع وخصم من السلطة، السلطة تريد الناس مواطنين فرادى تتعامل معهم كأفراد لا ككتل اجتماعية.. فكل تكتل سياسي أو اقتصادي أو ثقافي لم يصدر بإنشائه تصريح من السلطة ولا يعقد اجتماعاته تحت عين السلطة ولا يجري في نشاطاته ملتزما بقوانين السلطة، ولا يحل أفراده الخلافات بينهم عن طريق السلطة.. كل اجتماع كهذا هو بذرة مقاومة، وهو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة.
3. السلطة جردت شعوبنا من السلاح لتستبد بهم، فكل انتشار للسلاح بيد الناس هو قوة للمجتمع وتهديد للسلطة، وكل وقوف في وجه سلاح السلطة لدفع ظلم من السلطة أو حماية مظلوم من السلطة هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة. ولو أن مهندسي الأمة وعلمائها وصُناعها يحرصون على ابتكار الأسلحة الخفيفة سهلة الانتشار التي يستفيد منها عموم الناس لا السلطة لكان هذا من أهم وأعظم ما يعيد التوازن بين سلاح السلطة وسلاح المجتمع.
4. انتشار المجالس العرفية والمحاكم العرفية التي تفصل في خلافات الناس دون الرجوع للسلطة، والتي يحترمها الناس وينصاعون لها وينفذون ما تقضي به هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة.
5. انتشار التعليم المنزلي، وانتشار مجموعات التعليم المنزلي، وإنقاذ فطرة الأطفال والفتيان من تحكم الدولة ومناهجها وهيمنتها الفكرية هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة، وهذا الانتشار هو نفسه ما سيخلق مجموعات مستقلة وأنشطة مستقلة بل ومجالات عمل واقتصاد مستقل فيما بعد.
6. كل نشاط اقتصادي يقوم بعيدا عن عين السلطة ورقابتها ولا يدفع لها ضرائب ولا يلتزم بسياستها هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة. ولا سيما الأنشطة الاقتصادية الداعمة لسائر ما هو مخالف للسلطة، فلو أن تلك الأنشطة الاقتصادية يذهب ربحها لدعم الكتاتيب والمجموعات الأهلية والمحاكم العرفية والتعليم المنزلي لكانت تلك هي الخدمة العظمى لمقاومة الأمة واستقلاليتها. بل لو استطاعت الأنشطة الاقتصادية التعامل بغير عملة الدولة أو ابتكار عملة لها تحوز القبول العام لكان هذا فتحا هائلا في العلاقة بين المجتمع والسلطة.
وهكذا نرى مجال المقاومة مجال واسع ممتد يستطيع الكثيرون المشاركة فيه، بل لا مجال لإنقاذ الأمة وتغير حالها من أن يشارك مجموعها فيه، كل بسهمه وبما يستطيع.. ومن هنا تظل المسؤولية الكبرى على القادة والعلماء.. القادة هم من يصنعون المنظومات العملية ويوجهون ويديرون، فتتحول الطاقات السائلة المبعثرة إلى تيار موجه ومنظومات متكاملة متعاونة. والعلماء هم من ينتجون الأفكار ويدعمونها ويُوَجِّهون إليها ويُحَرِّضون عليها ويظللون كل عمل بالمظلة الأخلاقية التي تمنع سائر تلك الأعمال من الانحراف عن وجهتها في خدمة الأمة إلى المصالح والأغراض الشخصية أو إلى خدمة الأعداء.
وسيجد العلماء في الإسلام مادة غزيرة لتعظيم الكتلة المجتمعية بقيم صلات الرحم وحسن الجوار، ومادة غزيرة لمقاومة الظلم والوقوف أمام الظالمين، ومادة غزيرة لتثوير الطاقات وتوجيهها.
قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 77، 78]
نشر في مجلة كلمة حق
Published on November 23, 2017 09:43
November 22, 2017
بصمتنا الحضارية: الإنسان قبل البنيان
كانت الحضارة الإسلامية فصلا رائعا زاهرا من الحضارة الإنسانية، وما كُتب في فضل الحضارة الإسلامية كثير جدا، وما كُتب في فضلها على النهضة الغربية كثير جدا كذلك، وهو أمر من الحقائق المعروفة التي يشهد بها كثير من الغربيين أنفسهم. يقول المستشرق البريطاني المشهور مونتجمري وات:
"ومع ذلك فإننا -معشر الأوربيين- نأبى في عناد أن نُقِرَّ بفضل الإسلام الحضاري علينا، ونميل أحيانًا إلى التهوين من قدر وأهمية التأثير الإسلامي في تراثنا، بل ونتجاهل هذا التأثير أحيانًا تجاهلاً تامًّا، والواجب علينا من أجل إرساء دعائم علاقات أفضل مع العرب والمسلمين، أن نعترف اعترافًا كاملاً بهذا الفضل، أمَّا إنكاره أو إخفاء معالمه فلا يدل إلا على كبرياء زائف"
بل بلغ ببعض الغربيين، حتى وهم ملحدون، أن يتمنوا لو كان الإسلام قد فتح أوروبا ودخل باريس، ولم يُهزم في معركة "بلاط الشهداء"، من هؤلاء المستشرق الفرنسي المشهور جوستاف لوبون والذي كان تفسيره لعدم محاولة العرب إعادة فتح باريس أنهم وجدوا جوها البارد لا يناسبهم، يقول:
"لنفرض جدلاً أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جَوَّ شمال فرنسا غيرَ باردٍ ولا ممطر كجوِّ إسبانيا، فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربا؟ كان يصيب أوربا النصرانية المتبربرة مثلُ ما أصاب إسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدثُ في أوربا التي تكون قد هُذِّبت ما حَدَثَ فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتملي، ومظالم محاكم التفتيش وكل ما لم يَعْرِفْه المسلمون من الوقائع الخطيرة التي ضَرَّجَت أوربا بالدماء عِدَّة قرون"
1. عصر الإنسان
لكن الذي يلفت نظر المستشرقين عموما في حديثهم عن الحضارة الإسلامية هي إنجازاتهم المادية، في التنظيم والعمران والحدائق والفنون والزخارف والعلوم والاختراعات وانتشار المكتبات، ولذلك يكاد يسيطر على المؤلفات المكتوبة في الحضارات الإسلامية الحديث عن العصر العباسي والمملوكي والأندلسي والهندي والعثماني، حيث ازدهرت كل هذه المظاهر الحضارية.
بينما الصورة مختلفة عند المسلمين، فالمسلمون وعلماؤهم لهم اهتمام خاص بعهد الخلفاء الراشدين، والحركات الإسلامية التي تعمل لإعادة الخلافة والوحدة الإسلامية إنما تتوق لإعادة عصر الخلفاء الراشدين لا عصر الأمويين ولا العباسيين ولا المماليك ولا غيرهم، وهذا الحرص والاهتمام إنما ينبع من قول النبي (صلى الله عليه وسلم) "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، وقوله: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة"، وقوله: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ".
لقد حددت هذه الوصايا من النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم الحضارة الإسلامية وانحيازاتها وروحها واتجاهها.. إن عصر الراشدين لم تكن فيه تلك المظاهر الحضارية المادية، لقد انتهى عصر الخلافة الراشدة، الذي هو العصر الذهبي في الذهن الإسلامي، ولم يكن للمسلمين قصور مشيدة ولا بيوت فاخرة ولا مباني ضخمة ولا مساجد مزخرفة ولا ثياب مزينة، لقد أتى هذا كله فيما بعد، في العصور التي لا تمثل قدوة للمسلمين والتي لا يتوق المسلمون الآن للعودة إليها كما يتوقون لعودتهم لعصر الخلافة الراشدة.
والسبب في هذا أن عصر الخلافة الراشدة كان هو عصر الإنسان! الفترة المثالية التي تحقق فيها للإنسان أقصى صور الأمن والعدل والعزة والكرامة، حيث لم يكن يستطيع الحاكم حتى إذا حكم ثلث الدنيا أن يستذله أو يقهره أو يخيفه أو يظلمه، بل حتى لو أبغض الخليفة رجلا فإن هذا لا يمنعه حقا من حقوقه، كما قال عمر لقاتل أخيه: لا أحبك حتى تحب الأرض الدم. فقال: هل هذا مانعي بعضا من حقي؟ قال: لا. فقال: فأحبب أو لا تحبب إنما تأسى على الحب النساء.
2. أمن الإنسان وأمن السلطة
بينما كانت عادة الدول أن تكون مهمة الأمن هي المهمة الأولى لدى الوالي، كانت دولة الخلافة الراشدة على غير هذا المثال، خطب عمر في موسم الحج حيث يجتمع الناس فقال:
"أيها الناس إني بعثت عمالي هؤلاء ولاة بالحق عليكم، ولم أستعملهم ليصيبوا من أبشاركم ولا من دمائكم ولا من أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم أمر دينكم وسنتكم، فمن فُعل به سوى ذلك فليرفعه إلي، ومن كانت له مظلمة عند أحد منهم فليقم أقيده منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد من نفسه"
وتكرر منه هذا المعنى في موسم حج آخر، حيث قال:"اعلموا أنه لا حلم إلى الله أحب ولا أعم نفعاً من حلم إمام ورفقه، وإنه ليس جهل أبغض إلى الله ولا أعم من جهل إمام وخرقه"... " "وأيما عامل لي ظلم أحداً، وبلغتني مظلمته ولم أغيرها فأنا ظلمته".
وكان الخليفة قريبا من الناس، يصلي بهم الصلوات ويخطب لهم الجمعة، ويستطيع سائر الناس أن يصل إليه ويحادثه، أو أن يقوم له معارضا أو مُذَكِّرا.. فلا يجد الخليفة بأسا أن يعود عن قوله إن رأى الحق خلاف ما كان عنده.
ولقد استطاع أبو لؤلؤة المجوسي أن يهدد عمر مع مهابته ويقول له: "لأصنعن لك رحى تتحدث بها العرب"، وتبين عمر في قولته هذه التهديد وقال "أوعدني العبد"، لقد استطاع العبد الفارسي أن يهدد عمرا قبل أن يقتله ويحيا في المدينة لا يمسه سوء، ثم استطاع هذا العبد أن يصلي في الصف الأول خلف عمر وأن يطعنه.
وخرج عثمان يوما للصلاة فأبصر رجلا يقبل إليه ففهم في حركته الخطر فقال انظروا: فإذا رجل معه خنجر أو سيف. فقال له عثمان رضي الله عنه: ما هذا؟ قال: أردت أن أقتلك.قال: سبحان الله!! ويحك، علام تقتلني؟ قال: ظلمني عاملك باليمن.قال: أفلا رفعت ظلامتك إليَّ فإن لم أنصفك أو أعديك على عاملي أردت ذلك مني؟ ثم قال لمن حوله: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، عدو أمكنك الله منه.فقال: عبد همَّ بذنب فكفه الله عني، ائتني بمن يكفل بك، لا تدخل المدينة ما وليتُ أمر المسلمين، فأتاه برجل من قومه فكفل به فخلى عنه.وبهذا عفا الخليفة عمن أراد قتله ظلما، ولم يعاقبه إلا بالمنع من دخول العاصمة.
وقد كفل عثمان لمن تمردوا عليهم حقهم في الاعتراض، وحاورهم وأبدى لهم حججه وأعذاره، وكان اختياره ألا يقاتلهم رغم أنهم صرحوا له بعزمهم أن يخلع نفسه أو يقتلونه، (وسنتعرض لتفصيل هذا الموقف في حلقة قادمة إن شاء الله)، ولكن المقصود الآن أن عصر الخلافة الراشدة كان عصرا تستطيع فيه المعارضة أن تواجه الخليفة قولا وصراخا وبالسلاح أحيانا ثم يكون لهم بعد هذا حقوق لا ينتقص منها.
كذلك فقد قُتِل علي رضي الله عنه على يد رجل من الخوارج، وهم فريق جهر بالمعارضة وجهر بالحرب، ومع هذا استطاع أن يدخل إلى الجامع ويصل إلى علي بن أبي طالب فيطعنه.
إن بعض العلمانيين والمجرمين ممن يزيفون وعي الناس ينتقص من عصر الخلافة لأن ثلاثة من خلفائه قُتِلوا، وينسى أن الذين قُتلوا لم يُقتلوا لظلم وقع منهم وإنما لاتساع هامش المساحة الممنوحة للجميع، ولأن سياستهم جميعا تقدم أمن الناس على أمن السلطة، وتحفظ حق الناس فوق حق السلطة.
وهكذا رسم الراشدون سياسة النظام الإسلامي في العلاقة بين الناس والسلطة، ومن أغرب الغريب أن يُعايَر النموذج الإسلامي بأن ثلاثة من خلفائه الأربعة قُتِلوا! وأن يصدر هذا ممن عاش في زمن تهلك فيه الأمم والجماعات والفصائل بدعوى حماية النظام والحفاظ على الأمن القومي ويُشنق فيه الناس بتهم تكدير السلم العام!!
أو لعل هذا هو الطبيعي، وهو نتائج تخريب العقول والنفوس وتضييع الكرامة، فإن الذي نشأ وتربى وتشرب الاستبداد والفرعونية لم يعرف معنى الحرية والعزة والكرامة، فهو أخوف على أمنه منه على حريته وكرامته!
3. الرفاهية والرخاء أم العزة والكرامة
انحياز الحضارة الإسلامية إلى الإنسان له وجه آخر أيضا، فهو تقديم لبناء الإنسان على بناء العمران والبنيان، فالحضارة الإسلامية تسعى لإقامة مجتمع تسوده الكرامة والعزة والعدل والإنصاف، ولو كان يسكن بيوت الحجر والشعر والطين، وتنبذ وتحارب مجتمعا تسوده ناطحات السحاب وتغمره وسائل الترفيه والترف بينما إنسانه مذلول أو مطحون أو مسحوق ماديا أو نفسيا!
وليس هذا شيئا هينا، بل هو افتراق خطير! فالذين تغرقهم الحسابات المادية يقبلون بقاء الظلم والطغيان والاستبداد ويدفعون ثمن هذا من كرامتهم وحريتهم، ولا يقبلون أن تشتعل ثورة تخرب البنيان والعمران طلبا لكرامة الإنسان وحريته.. وهنا يفاوضهم الطاغية ويساومهم، فإما أن يبيعوا كرامتهم ويقبلوا بالعبودية وإما أن يهدم البلد على رؤوسهم.. والواقع أن اختيار حركات التحرر عبر التاريخ كله هو أن تخرب البلد في سبيل الحرية والعزة ثم تكون لهم فرصة بنائها من جديد على قواعد جديدة! وقبل كل قصة تحرر توجد قصة شعب عاش المعاناة وذاق الجوع والخوف في سبيل التحرر!
إن مجتمعات المادة قد تنبهر لروائع قصور الحمراء وتاج محل وفنون المآذن والقباب المملوكية بينما الحكم الأخلاقي للحضارة الإسلامية على هذه العصور هو حكم سلبي، لأن الإنسان كان في هذه العصور أقل قدرا وشأنا من مكانه الذي يحق له في الإسلام.
نعم، قد نستدل بكل هذه المآثر المادية على تقدم العلوم والفنون في الجانب العلمي من الحضارة الإسلامية، لكن يظل العصر الراشدي الذي خلا من كل هذا هو العصر الذي تتشوق له النفوس أكثر من عصور مماليك الشرق أو مغول الهند أو بني الأحمر الأندلسيين!
لقد بلغ عمر أن سعد بن أبي وقاص انتزع من أحد المجاهدين في القادسية سلب الجالينوس –القائد الفارسي- لأنه لم يستأذنه في اتباعه، فأرسل إلى سعد ينهاه عن هذا، ويوصيه ألا يتعامل مع رجاله بما قد يكسر نفوسهم ويعطل انطلاقتهم، وأمضى له غنيمته.
وفهم ابن خلدون من هذا أن الفارق بين جيل الصحابة وغيرهم، أن أولئك أخذوا أدب الدين من النبي الذي كان حريصا ألا يكسر نفوسهم، وأن من بعدهم إنما نزلوا عن هذه المراتب حين صار التعليم تأديبا فيه عقوبات وإجبار وكسر للنفوس، مما يورث التكاسل الذي هو سمة النفوس المضطهدة.
4. الخصومات والقضاء
ويظهر شأن الإنسان في عصر الخلافة الراشدة في مجال الخصومات والقضاء، وأول ما يطالعنا من الأخبار العجيبة أن الناس كانوا يتعاملون بالمروءات والصدق والأمانة فتقل بينهم الخصومات واللجوء إلى القضاء، وهي عادة المجتمعات السوية الراقية، حتى إن عمر بن الخطاب الذي ولي القضاء في عهد أبي بكر مكث سنة لا يأتيه رجلان. ويروي صديق سلمان بن ربيعة –أول قاض على الكوفة- أنه مكث يزوره أربعين يوما منذ تولى القضاء فيها لا يجد عنده أحدا من الخصوم.
واجتهد أحد الولاة من نفسه، وكان يتولى منطقة في أرض فارس، فأعلن في الناس أن هذه المنطقة يكثر فيها الفرس وهم يشربون الخمر وفيها من نسائهم من لا تتعفف، فمن كان أصاب حدا فليأت إلى الوالي ليقيم عليه الحد فيطهره، فلما بلغ ذلك عمر أرسل إليه: لا أحل لك أن تأمر الناس أن يهتكوا ستر الذي سترهم. وأوضح له أن القضاء لا يقضي إلا حين يظهر الذنب لا إذا كان مستترا.
وقد جاء رجل من اليمن إلى المدينة وأخبر عمر أن ابنة أخيه وقعت في الفاحشة، فقال له عمر: "لو أفشيت عليها لعاقبتك، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه"، وفي رواية: "أنكحها نكاح العفيفة المسلمة".
وهكذا كانت السلطة تحفظ الإنسان وعرضه وستره، ولا تعمل على التجسس عليه ولا هتك ستره، بل إن عمر رضي الله عنه سجن الذين يلغون في أعراض الناس كما فعل مع الحطيئة الشاعر الهجَّاء، إذ كان كثير الهجاء حتى أنه هجا أباه وأمه وزوجه ونفسه أيضا، حتى خرج ذات يوم فلم يجد من يهجوه، ثم نظر في بئر فرأى وجهه فأنشد يقول:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بشر .. فما أدري لمن أنا قائلهأرى لي وجها قبح الله خلقه .. فقبح من وجه وقبح حامله
ثم أطلقه عمر بعد أن دفع له أموالا مشترطا عليه ألا يهجو مسلما، فاشترى بهذا المال منه أعراض المسلمين.
لم يكن يضيع حق الإنسان في ظل الخلافة الراشدة، ومن ذلك أنه وُجِد قتيل بين حيين في خلافة عمر، ولم يُعرف القاتل، فألزم الحيان بالقسم خمسين يمينا على البراءة، ثم ألزم أقرب الحيين بدفع الدية.
وكان الخلفاء يخضعون أنفسهم للقضاء، ويحرصون على عدالته ونفاذ أحكامه في الكبير والصغير وفيهم هم كذلك، وللقضاة في هذا أخبار مشهورة، فمن ذلك أن عمر رضي الله عنه تخاصم مع أبي بن كعب في أمر، فحَكَّما زيد بن ثابت، فأتياه في منزله، فلما دخلا عليه، قال له عمر: جئناك لتقضي بيننا، وفي بيته يؤتى الحكم. فتنحى له زيد عن صدر فراشه، فقال: هاهنا يا أمير المؤمنين.فقال عمر: جرت يا زيدُ في أول قضائك، ولكن أجلسني مع خصمي. فجلسا بين يديه. فادعى أبي وأنكر عمر.فقال زيد لأبي: أعف أمير المؤمنين من اليمين، وما كنت لأسألها لأحد غيره. فحلف عمر. ثم حلف عمر لا يُدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء.
وساوم عمر بن الخطاب بفرس فركبه ليجربه فعطب، فقال لصاحبه خذ فرسك. فأبى الرجل، فاحتكما إلى شريح، فقال شريح: يا أمير المؤمنين خذ ما ابتعت أو رُد كما أخذت. فقال عمر: وهل القضاء إلا هكذا؟ فبعثه إلى الكوفة قاضيا.
بمثل هذه السياسة كان حق الإنسان محفوظا ومكانته محروسة في عصر الخلافة الراشدة.
الخلاصة
لقد حكمت النصوص أن الفترة الذهبية للمسلمين هي فترة الخلافة الراشدة بحديث "خير الناس قرني" وحديث "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين".. ومع هذا فإن عصر الراشدين انتهى قبل أن يكون للمسلمين صروح علمية وقصور مشيدة وزخارف مترفة، إلا أنه كان العصر الذهبي في نشر العدل وحفظ الأمن وتوفير كرامة الإنسان.. ولهذا فإن الحضارة الإسلامية هي حضارة الإنسان قبل أن تكون حضارة البنيان، والمسلمون يتوقون للعودة لعصر الراشدين لا لعصر الأمويين والعباسيين والعثمانيين والأندلسيين، فأولئك رغم كل مفاخرهم الحضارية لم يبلغوا شأن عصر الخلافة في التقوى والعدل ونشر الأمن على الناس.. إن القراءة الإسلامية للتاريخ ترفع شأن الخلفاء الراشدين على من عداهم رغم أن ثلاثة منهم استشهدوا، وترفعهم فوق من ماتوا على فراشهم لأن هؤلاء آثروا أمن المحكومين.
نشر في مدونات الجزيرة
"ومع ذلك فإننا -معشر الأوربيين- نأبى في عناد أن نُقِرَّ بفضل الإسلام الحضاري علينا، ونميل أحيانًا إلى التهوين من قدر وأهمية التأثير الإسلامي في تراثنا، بل ونتجاهل هذا التأثير أحيانًا تجاهلاً تامًّا، والواجب علينا من أجل إرساء دعائم علاقات أفضل مع العرب والمسلمين، أن نعترف اعترافًا كاملاً بهذا الفضل، أمَّا إنكاره أو إخفاء معالمه فلا يدل إلا على كبرياء زائف"
بل بلغ ببعض الغربيين، حتى وهم ملحدون، أن يتمنوا لو كان الإسلام قد فتح أوروبا ودخل باريس، ولم يُهزم في معركة "بلاط الشهداء"، من هؤلاء المستشرق الفرنسي المشهور جوستاف لوبون والذي كان تفسيره لعدم محاولة العرب إعادة فتح باريس أنهم وجدوا جوها البارد لا يناسبهم، يقول:
"لنفرض جدلاً أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جَوَّ شمال فرنسا غيرَ باردٍ ولا ممطر كجوِّ إسبانيا، فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربا؟ كان يصيب أوربا النصرانية المتبربرة مثلُ ما أصاب إسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدثُ في أوربا التي تكون قد هُذِّبت ما حَدَثَ فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتملي، ومظالم محاكم التفتيش وكل ما لم يَعْرِفْه المسلمون من الوقائع الخطيرة التي ضَرَّجَت أوربا بالدماء عِدَّة قرون"
1. عصر الإنسان
لكن الذي يلفت نظر المستشرقين عموما في حديثهم عن الحضارة الإسلامية هي إنجازاتهم المادية، في التنظيم والعمران والحدائق والفنون والزخارف والعلوم والاختراعات وانتشار المكتبات، ولذلك يكاد يسيطر على المؤلفات المكتوبة في الحضارات الإسلامية الحديث عن العصر العباسي والمملوكي والأندلسي والهندي والعثماني، حيث ازدهرت كل هذه المظاهر الحضارية.
بينما الصورة مختلفة عند المسلمين، فالمسلمون وعلماؤهم لهم اهتمام خاص بعهد الخلفاء الراشدين، والحركات الإسلامية التي تعمل لإعادة الخلافة والوحدة الإسلامية إنما تتوق لإعادة عصر الخلفاء الراشدين لا عصر الأمويين ولا العباسيين ولا المماليك ولا غيرهم، وهذا الحرص والاهتمام إنما ينبع من قول النبي (صلى الله عليه وسلم) "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، وقوله: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة"، وقوله: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ".
لقد حددت هذه الوصايا من النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم الحضارة الإسلامية وانحيازاتها وروحها واتجاهها.. إن عصر الراشدين لم تكن فيه تلك المظاهر الحضارية المادية، لقد انتهى عصر الخلافة الراشدة، الذي هو العصر الذهبي في الذهن الإسلامي، ولم يكن للمسلمين قصور مشيدة ولا بيوت فاخرة ولا مباني ضخمة ولا مساجد مزخرفة ولا ثياب مزينة، لقد أتى هذا كله فيما بعد، في العصور التي لا تمثل قدوة للمسلمين والتي لا يتوق المسلمون الآن للعودة إليها كما يتوقون لعودتهم لعصر الخلافة الراشدة.
والسبب في هذا أن عصر الخلافة الراشدة كان هو عصر الإنسان! الفترة المثالية التي تحقق فيها للإنسان أقصى صور الأمن والعدل والعزة والكرامة، حيث لم يكن يستطيع الحاكم حتى إذا حكم ثلث الدنيا أن يستذله أو يقهره أو يخيفه أو يظلمه، بل حتى لو أبغض الخليفة رجلا فإن هذا لا يمنعه حقا من حقوقه، كما قال عمر لقاتل أخيه: لا أحبك حتى تحب الأرض الدم. فقال: هل هذا مانعي بعضا من حقي؟ قال: لا. فقال: فأحبب أو لا تحبب إنما تأسى على الحب النساء.
2. أمن الإنسان وأمن السلطة
بينما كانت عادة الدول أن تكون مهمة الأمن هي المهمة الأولى لدى الوالي، كانت دولة الخلافة الراشدة على غير هذا المثال، خطب عمر في موسم الحج حيث يجتمع الناس فقال:
"أيها الناس إني بعثت عمالي هؤلاء ولاة بالحق عليكم، ولم أستعملهم ليصيبوا من أبشاركم ولا من دمائكم ولا من أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم أمر دينكم وسنتكم، فمن فُعل به سوى ذلك فليرفعه إلي، ومن كانت له مظلمة عند أحد منهم فليقم أقيده منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد من نفسه"
وتكرر منه هذا المعنى في موسم حج آخر، حيث قال:"اعلموا أنه لا حلم إلى الله أحب ولا أعم نفعاً من حلم إمام ورفقه، وإنه ليس جهل أبغض إلى الله ولا أعم من جهل إمام وخرقه"... " "وأيما عامل لي ظلم أحداً، وبلغتني مظلمته ولم أغيرها فأنا ظلمته".
وكان الخليفة قريبا من الناس، يصلي بهم الصلوات ويخطب لهم الجمعة، ويستطيع سائر الناس أن يصل إليه ويحادثه، أو أن يقوم له معارضا أو مُذَكِّرا.. فلا يجد الخليفة بأسا أن يعود عن قوله إن رأى الحق خلاف ما كان عنده.
ولقد استطاع أبو لؤلؤة المجوسي أن يهدد عمر مع مهابته ويقول له: "لأصنعن لك رحى تتحدث بها العرب"، وتبين عمر في قولته هذه التهديد وقال "أوعدني العبد"، لقد استطاع العبد الفارسي أن يهدد عمرا قبل أن يقتله ويحيا في المدينة لا يمسه سوء، ثم استطاع هذا العبد أن يصلي في الصف الأول خلف عمر وأن يطعنه.
وخرج عثمان يوما للصلاة فأبصر رجلا يقبل إليه ففهم في حركته الخطر فقال انظروا: فإذا رجل معه خنجر أو سيف. فقال له عثمان رضي الله عنه: ما هذا؟ قال: أردت أن أقتلك.قال: سبحان الله!! ويحك، علام تقتلني؟ قال: ظلمني عاملك باليمن.قال: أفلا رفعت ظلامتك إليَّ فإن لم أنصفك أو أعديك على عاملي أردت ذلك مني؟ ثم قال لمن حوله: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، عدو أمكنك الله منه.فقال: عبد همَّ بذنب فكفه الله عني، ائتني بمن يكفل بك، لا تدخل المدينة ما وليتُ أمر المسلمين، فأتاه برجل من قومه فكفل به فخلى عنه.وبهذا عفا الخليفة عمن أراد قتله ظلما، ولم يعاقبه إلا بالمنع من دخول العاصمة.
وقد كفل عثمان لمن تمردوا عليهم حقهم في الاعتراض، وحاورهم وأبدى لهم حججه وأعذاره، وكان اختياره ألا يقاتلهم رغم أنهم صرحوا له بعزمهم أن يخلع نفسه أو يقتلونه، (وسنتعرض لتفصيل هذا الموقف في حلقة قادمة إن شاء الله)، ولكن المقصود الآن أن عصر الخلافة الراشدة كان عصرا تستطيع فيه المعارضة أن تواجه الخليفة قولا وصراخا وبالسلاح أحيانا ثم يكون لهم بعد هذا حقوق لا ينتقص منها.
كذلك فقد قُتِل علي رضي الله عنه على يد رجل من الخوارج، وهم فريق جهر بالمعارضة وجهر بالحرب، ومع هذا استطاع أن يدخل إلى الجامع ويصل إلى علي بن أبي طالب فيطعنه.
إن بعض العلمانيين والمجرمين ممن يزيفون وعي الناس ينتقص من عصر الخلافة لأن ثلاثة من خلفائه قُتِلوا، وينسى أن الذين قُتلوا لم يُقتلوا لظلم وقع منهم وإنما لاتساع هامش المساحة الممنوحة للجميع، ولأن سياستهم جميعا تقدم أمن الناس على أمن السلطة، وتحفظ حق الناس فوق حق السلطة.
وهكذا رسم الراشدون سياسة النظام الإسلامي في العلاقة بين الناس والسلطة، ومن أغرب الغريب أن يُعايَر النموذج الإسلامي بأن ثلاثة من خلفائه الأربعة قُتِلوا! وأن يصدر هذا ممن عاش في زمن تهلك فيه الأمم والجماعات والفصائل بدعوى حماية النظام والحفاظ على الأمن القومي ويُشنق فيه الناس بتهم تكدير السلم العام!!
أو لعل هذا هو الطبيعي، وهو نتائج تخريب العقول والنفوس وتضييع الكرامة، فإن الذي نشأ وتربى وتشرب الاستبداد والفرعونية لم يعرف معنى الحرية والعزة والكرامة، فهو أخوف على أمنه منه على حريته وكرامته!
3. الرفاهية والرخاء أم العزة والكرامة
انحياز الحضارة الإسلامية إلى الإنسان له وجه آخر أيضا، فهو تقديم لبناء الإنسان على بناء العمران والبنيان، فالحضارة الإسلامية تسعى لإقامة مجتمع تسوده الكرامة والعزة والعدل والإنصاف، ولو كان يسكن بيوت الحجر والشعر والطين، وتنبذ وتحارب مجتمعا تسوده ناطحات السحاب وتغمره وسائل الترفيه والترف بينما إنسانه مذلول أو مطحون أو مسحوق ماديا أو نفسيا!
وليس هذا شيئا هينا، بل هو افتراق خطير! فالذين تغرقهم الحسابات المادية يقبلون بقاء الظلم والطغيان والاستبداد ويدفعون ثمن هذا من كرامتهم وحريتهم، ولا يقبلون أن تشتعل ثورة تخرب البنيان والعمران طلبا لكرامة الإنسان وحريته.. وهنا يفاوضهم الطاغية ويساومهم، فإما أن يبيعوا كرامتهم ويقبلوا بالعبودية وإما أن يهدم البلد على رؤوسهم.. والواقع أن اختيار حركات التحرر عبر التاريخ كله هو أن تخرب البلد في سبيل الحرية والعزة ثم تكون لهم فرصة بنائها من جديد على قواعد جديدة! وقبل كل قصة تحرر توجد قصة شعب عاش المعاناة وذاق الجوع والخوف في سبيل التحرر!
إن مجتمعات المادة قد تنبهر لروائع قصور الحمراء وتاج محل وفنون المآذن والقباب المملوكية بينما الحكم الأخلاقي للحضارة الإسلامية على هذه العصور هو حكم سلبي، لأن الإنسان كان في هذه العصور أقل قدرا وشأنا من مكانه الذي يحق له في الإسلام.
نعم، قد نستدل بكل هذه المآثر المادية على تقدم العلوم والفنون في الجانب العلمي من الحضارة الإسلامية، لكن يظل العصر الراشدي الذي خلا من كل هذا هو العصر الذي تتشوق له النفوس أكثر من عصور مماليك الشرق أو مغول الهند أو بني الأحمر الأندلسيين!
لقد بلغ عمر أن سعد بن أبي وقاص انتزع من أحد المجاهدين في القادسية سلب الجالينوس –القائد الفارسي- لأنه لم يستأذنه في اتباعه، فأرسل إلى سعد ينهاه عن هذا، ويوصيه ألا يتعامل مع رجاله بما قد يكسر نفوسهم ويعطل انطلاقتهم، وأمضى له غنيمته.
وفهم ابن خلدون من هذا أن الفارق بين جيل الصحابة وغيرهم، أن أولئك أخذوا أدب الدين من النبي الذي كان حريصا ألا يكسر نفوسهم، وأن من بعدهم إنما نزلوا عن هذه المراتب حين صار التعليم تأديبا فيه عقوبات وإجبار وكسر للنفوس، مما يورث التكاسل الذي هو سمة النفوس المضطهدة.
4. الخصومات والقضاء
ويظهر شأن الإنسان في عصر الخلافة الراشدة في مجال الخصومات والقضاء، وأول ما يطالعنا من الأخبار العجيبة أن الناس كانوا يتعاملون بالمروءات والصدق والأمانة فتقل بينهم الخصومات واللجوء إلى القضاء، وهي عادة المجتمعات السوية الراقية، حتى إن عمر بن الخطاب الذي ولي القضاء في عهد أبي بكر مكث سنة لا يأتيه رجلان. ويروي صديق سلمان بن ربيعة –أول قاض على الكوفة- أنه مكث يزوره أربعين يوما منذ تولى القضاء فيها لا يجد عنده أحدا من الخصوم.
واجتهد أحد الولاة من نفسه، وكان يتولى منطقة في أرض فارس، فأعلن في الناس أن هذه المنطقة يكثر فيها الفرس وهم يشربون الخمر وفيها من نسائهم من لا تتعفف، فمن كان أصاب حدا فليأت إلى الوالي ليقيم عليه الحد فيطهره، فلما بلغ ذلك عمر أرسل إليه: لا أحل لك أن تأمر الناس أن يهتكوا ستر الذي سترهم. وأوضح له أن القضاء لا يقضي إلا حين يظهر الذنب لا إذا كان مستترا.
وقد جاء رجل من اليمن إلى المدينة وأخبر عمر أن ابنة أخيه وقعت في الفاحشة، فقال له عمر: "لو أفشيت عليها لعاقبتك، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه"، وفي رواية: "أنكحها نكاح العفيفة المسلمة".
وهكذا كانت السلطة تحفظ الإنسان وعرضه وستره، ولا تعمل على التجسس عليه ولا هتك ستره، بل إن عمر رضي الله عنه سجن الذين يلغون في أعراض الناس كما فعل مع الحطيئة الشاعر الهجَّاء، إذ كان كثير الهجاء حتى أنه هجا أباه وأمه وزوجه ونفسه أيضا، حتى خرج ذات يوم فلم يجد من يهجوه، ثم نظر في بئر فرأى وجهه فأنشد يقول:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بشر .. فما أدري لمن أنا قائلهأرى لي وجها قبح الله خلقه .. فقبح من وجه وقبح حامله
ثم أطلقه عمر بعد أن دفع له أموالا مشترطا عليه ألا يهجو مسلما، فاشترى بهذا المال منه أعراض المسلمين.
لم يكن يضيع حق الإنسان في ظل الخلافة الراشدة، ومن ذلك أنه وُجِد قتيل بين حيين في خلافة عمر، ولم يُعرف القاتل، فألزم الحيان بالقسم خمسين يمينا على البراءة، ثم ألزم أقرب الحيين بدفع الدية.
وكان الخلفاء يخضعون أنفسهم للقضاء، ويحرصون على عدالته ونفاذ أحكامه في الكبير والصغير وفيهم هم كذلك، وللقضاة في هذا أخبار مشهورة، فمن ذلك أن عمر رضي الله عنه تخاصم مع أبي بن كعب في أمر، فحَكَّما زيد بن ثابت، فأتياه في منزله، فلما دخلا عليه، قال له عمر: جئناك لتقضي بيننا، وفي بيته يؤتى الحكم. فتنحى له زيد عن صدر فراشه، فقال: هاهنا يا أمير المؤمنين.فقال عمر: جرت يا زيدُ في أول قضائك، ولكن أجلسني مع خصمي. فجلسا بين يديه. فادعى أبي وأنكر عمر.فقال زيد لأبي: أعف أمير المؤمنين من اليمين، وما كنت لأسألها لأحد غيره. فحلف عمر. ثم حلف عمر لا يُدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء.
وساوم عمر بن الخطاب بفرس فركبه ليجربه فعطب، فقال لصاحبه خذ فرسك. فأبى الرجل، فاحتكما إلى شريح، فقال شريح: يا أمير المؤمنين خذ ما ابتعت أو رُد كما أخذت. فقال عمر: وهل القضاء إلا هكذا؟ فبعثه إلى الكوفة قاضيا.
بمثل هذه السياسة كان حق الإنسان محفوظا ومكانته محروسة في عصر الخلافة الراشدة.
الخلاصة
لقد حكمت النصوص أن الفترة الذهبية للمسلمين هي فترة الخلافة الراشدة بحديث "خير الناس قرني" وحديث "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين".. ومع هذا فإن عصر الراشدين انتهى قبل أن يكون للمسلمين صروح علمية وقصور مشيدة وزخارف مترفة، إلا أنه كان العصر الذهبي في نشر العدل وحفظ الأمن وتوفير كرامة الإنسان.. ولهذا فإن الحضارة الإسلامية هي حضارة الإنسان قبل أن تكون حضارة البنيان، والمسلمون يتوقون للعودة لعصر الراشدين لا لعصر الأمويين والعباسيين والعثمانيين والأندلسيين، فأولئك رغم كل مفاخرهم الحضارية لم يبلغوا شأن عصر الخلافة في التقوى والعدل ونشر الأمن على الناس.. إن القراءة الإسلامية للتاريخ ترفع شأن الخلفاء الراشدين على من عداهم رغم أن ثلاثة منهم استشهدوا، وترفعهم فوق من ماتوا على فراشهم لأن هؤلاء آثروا أمن المحكومين.
نشر في مدونات الجزيرة
Published on November 22, 2017 03:11
November 16, 2017
حماس والقسام: خلاف مكتوم في نقطة ملتهبة
ينتهي جوهر الأزمة القائمة في غزة منذ أحد عشر عاما إلى مسألة وحيدة هي: "سلاح المقاومة"، تلك الصخرة التي تكسرت عليها جميع محاولات المصالحة سابقا، وبغير سلاح المقاومة الذي نفذ الحسم العسكري في قطاع غزة كانت حكومة حماس ستسقط عبر الاغتيالات والتصفيات المتتالية. وفي الأعوام العشرة التالية أثبتت حركات المقاومة قدرة غير متوقعة لا على الصمود فحسب بل على تأسيس وتطوير بنية تحتية متينة للمقاومة، ما جعل كل يوم يمضي على حماس في غزة يمثل خطورة متزايدة في قدرة المقاومة مثلما يمثل ضغطا سياسيا على حكومة حماس المحاصرة.
هذا الانقسام في الرؤى داخل حركة حماس نفسها بين جناح يزيده الزمن قوة وتطورا، وبين حكومة تزيدها الأيام أزمة وتدهورا يلقي بظلاله على مستقبل حركة حماس كلها، والتي ارتبطت مصائرها بالقطاع نفسه، وها هو القطاع يشهد من جديد مسألة تصنع أزمة داخل الحركة نفسها، فتسليم السلطة بقدر ما هو إنقاذ لحكومة حماس بقدر ما هو تهديد لجناحها العسكري. وهو ما أثار أزمة لا تزال تفاصيلها مكتومة بين حماس وجناحها العسكري ولكن أسفرت عنها لهجة خطاب متناقضة بين الطرفين.
أولا: أجواء العودة إلى المصالحة
بعد انتخاب يحيى السنوار رئيسا للحركة بقطاع غزة، ثم انتخاب إسماعيل هنية مسوؤلا للمكتب السياسي لحماس شهدت محاولات تحريك الوضع في غزة انتعاشة جديدة وصلت إلى مرحلة التواصل مع محمد دحلان العدو اللدود لحماس، وهو ما دفع محمود عباس إلى استعمال كافة ما في جعبته كورقة أخيرة بعد شعوره بالتهديد السياسي فقرر عددا من الإجراءات العقابية على قطاع غزة فقرر فرض ضريبة مضاعفة على الوقود اللازم لتشغيل محطة الكهرباء بغزة وتقليص ما تدفعه السلطة لإسرائيل مقابل تزويدها القطاع بالكهرباء بنسبة 45%، وخصم 30% من رواتب موظفي السلطة في القطاع (خمسين ألف موظف)، وإحالة 6 آلاف من موظفيها إلى التقاعد المبكر. وهي الإجراءات التي كانت فوق احتمال قطاع غزة وأُجْبِرَت حكومة حماس أمامه على حل اللجنة الإدارية التي شكلتها في مارس 2017 لإدارة شؤون القطاع حين لم تتول حكومة الوفاق مسؤوليتها، ودخل الطرف المصري على الخط ليجعل من إجراءات حماس عودة للمصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني.
سارت إجراءات المصالحة وإعلانها سيرا حثيثا لكن لم تُرْفَع الإجراءات العقابية عن غزة، بل وصرح عباسوغيره من مسؤولي السلطة أن تلك الإجراءات لن ترفع إلا بمقدار تمكن السلطة من قطاع غزة، كما تناولت التصريحات مسألة "سلاح المقاومة" بصورة أزعجت الطرف المصري الذي استنكر إثارة الأمر في هذا التوقيت. وتم توقيع الاتفاق بالقاهرة، ثم بدأت مشكلة التفاصيل، وعاد من جديد الحديث عن "سلاح السلطة هو السلاح الشرعي الوحيد" ليس على لسان مسؤولي السلطة وحدها بل على لسان حازم عطا الله مدير عام الشرطة الفلسطينية، وهي الجهة التي من المفترض أن تتولى الشأن الأمني في القطاع والتي تعلن استمرار التزامها بالتنسيق الأمني مع إسرائيل. ثم صدرت تصريحات على لسان موسى أبو مرزوق عضو المكتب السياسي لحماس يعبر فيها عن انزعاجه بالطريقة التي جرى بها استلام المعابر، وكونها لا تنسجم مع المصالحة ولا تحترم الاتفاقيات الموقعة، ونددفيما بعد بإكثار حازم عطا الله من لقاءاته التلفازية وتصريحاته الاستعدائية.
لم ترفع الإجراءات العقابية عن قطاع غزة إلى لحظة كتابة هذه السطور، وهو ما يجعل كافة ما جرى منذ لحظة توقيع العقوبات مجرد تنازلات قدمتها حماس بغير مقابل حتى الآن، بل إن بعض المظاهر التي صاحبت إعلان المصالحة شهدت نوعا من الإذلال والنكاية في حماس كرفع صور عبد الفتاح السيسي ودخول الوفد المصري إلى قطاع غزة بكامل فريقه الأمني مثلما وبصحبته فريق إعلامي من الوجوه المعروفة بكراهيتها لحماس ودورها المشهود في شيطنتها.
ثانيا: ظهور الخلاف بين القسام وحماس
لا تزال العلاقات المدنية العسكرية واحدة من أهم النقاط الشائكة في التاريخ السياسي، ولئن كانت بعض التجارب السياسية توصلت إلى عدد من الصيغ يجعل الجهاز العسكري خاضعا للجهاز المدني بعد استقرار الدولة إلا أن الأمر ليس محسوما بشكل يندفع معه الخطر العسكري تماما على الإدارة المدنية. لكن المعضلة الأصعب هي في حالة حركات المقاومة التي لم تصل بعد إلى تأسيس الدولة واستقرارها، حيث تفرض ضرورات الواقع تضخما في الجهاز العسكري بما يجعله يفرض ضروراته على الحركة كلها.
حتى الآن تقدم حركة حماس تجربة ناضجة في العلاقة بين السياسي والعسكري ضمن تجارب حركات التحرر في العالم العربي في التاريخ الحديث، لا سيما ضمن التجارب الإسلامية الأخرى التي أخفقت في بناء واجهة سياسية من الأصل أو غلب عليها الجانب العسكري البحت. فعبر سنين عمل الحركة من بداية تأسيسها لم تُرْصَد أزمة كبيرة بين الجناح المدني والعسكري، وحرص الطرفان على تقديم خطاب يحترم توزيع الأدوار، ويفيد من الآخر، ولا يتدخل للضغط عليه.
ولا شك أن ظهور المنتديات على الانترنت ثم مواقع التواصل الاجتماعي ألقت بظلالها على الحركة، وبدأ ثمة ظهور لخلاف في خطاب حماس والقسام على موقعيهما وأدواتهما الإعلامية، حتى جاءت الحرب الأخيرة (2014) فأظهرت قدرا أعلى من الخلاف بين الطرفين، بل حاولت تصريحات لأبي عبيدة –الناطق باسم كتائب القسام- قطع الطريق على وفد فصائل المقاومة الموجود بالقاهرة في شروط وقف إطلاق النار، وهو أول تدخل معلن من نوعه في قرار سياسي. إلا أن الأزمة انتهت على ما اتفق عليه السياسيون وهو ما لم يكن مرضيا ولا محققا لشروط القسام.
وخفت شأن الخلاف حتى ظهر في أجواء العودة إلى المصالحة أغسطس الماضي، حيث نشرت (10 أغسطس 2017) مبادرة عُرفت بـ "مُقْترح القسام" بإحداث حالة فراغ سياسي في غزة، ومفادها أن لا تكون ثمة حكومة في غزة، فتتخلى حماس عن أي دور في إدارة القطاع وتتولى الأجنحة العسكرية التابعة لفصائل المقاومة ملف السيطرة الميدانية والأمنية، ويبقى جهاز الشرطة في تقديم خدماته المدنية، مع بقاء بعض المؤسسات المحلية بتسيير الشؤون اليومية. وقد اعتبر مراقبون أن المقترح ربما يكون تسريبا إعلاميا تم بالتنسيق مع القيادة السياسية بهدف الضغط على الأطراف المعنية لتحريك الأمور. إلا أن احتمالا آخر يظهر بقوة وهو أن المقترح القسامي إنما كان محاولة قطع طريق على السياسيين في طريق المصالحة، والتي تعني في أهم وجوهها: تسليم قطاع غزة للسلطة الفتحاوية، وهو ما يعزز منه ارتباك ردود أفعال القادة السياسيين والمتحدثين الإعلاميين للحركة، ففيم أقر خليل الحيةبأن الحركة تدرس المقترح نفى صلاح البردويلتماما وجود مقترح كهذا أصلا ووصفها بالأخبار المفبركة. ومع إقرار خليل الحية بالمقترح إلا أن تصريحه يحمل التشديد والتكرار على أن القسام لا يتدخل في الشأن السياسي وأن الحركة قائمة على التخصصات وتوزيع الأدوار، وأن القيادة السياسية هي وحدها من تقرر ما سيكون بشأن المقترح. وهي رسائل لا تخفى دلالتها.
ثالثا: القسام يغرد بعيدا
اتسعت الفجوة بين خطاب حماس وخطاب القسام بوضوح منذ أواخر أغسطس الماضي، وبالاعتماد على متابعة حساب كتائب القسام على تطبيق التليجرام سيبدو بوضوح الرسائل المتعارضة بين تصريحات الطرفين، بل وسيبدو أن رمزيْن بعينهما من رموز حماس يُحتفى بهما ويكرر نشر أقوالهما، وهما: الشهيد نزار ريان والوزير السابق محمود الزهار، وكلا الرجلين يمثلان المواقف المعارضة لما تسير فيه القيادة السياسية.
كان نزار ريان واحدا من الرموز العلمية الشرعية لحركة حماس، وعُرِف بمواقفه القوية المضادة لإيران والمذهب الشيعي وبحدة تصريحاته ومواقفه ضد السلطة الفلسطينية والسلطة المصرية كذلك. وقد أشارت بعض التقارير الإخبارية إلى معارضة الزهار للسير في المصالحة بل وأفادت بعض الأنباء –من مصادر فتحاوية لا يمكن التسليم بصحتها- بأنه قيد الإقامة الجبرية بسبب مواقفه. وأيا ما كان الأمر فإن الحضور الطاغي لهذيْن الرمزين في خطاب القسام يمثل توجها واضحا.
في محاولة رصد اتساع الفجوة بين خطابي حماس والقسام سنتخير أهم ثلاث ملفات ساخنة في اللحظة الراهنة:
1. العلاقة مع إيران
بينما يمضي الجناح السياسي لحماس في إعادة العلاقات إلى طبيعتها مع إيران، أي كما كانت قبل نشوب الثورة السورية، يتبنى الخطاب الإعلامي للقسام توجها آخر.
ففي (24 أغسطس 2017) صرح يحيى السنوار في مقابلة مع مجموعة من الصحفيين في غزة، بأن العلاقة مع إيران استراتيجية بالنسبة للحركة، وأنها الداعم الأكبر لكتائب القسام، وأشار إلى أن العلاقات ترجع إلى طبيعتها بعد التوتر الذي اعتراها. وقد تعزز كلام السنوار بوفد من حماس زار طهران (20 أكتوبر 2017) برئاسة صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، وبعدها بأسبوعين شارك وفد من حماس في التعزية بوفاة والد قاسم سليماني رئيس الحرس الثوري الإيراني (4 نوفمبر 2017)، كما تجددت الاتصالاتواللقاءات مع حسن نصر الله أمين حزب الله اللبناني مع إسماعيل هنية وصالح العاروري، وتفصح المصادر الرسمية لحماس عن نية الاستمرار في تطوير العلاقات مستقبلا.
في الجهة المقابلة يتحدث حساب كتائب القسام على تطبيق التليجرام في اتجاه آخر، ففي 16 أكتوبر نشرت كلمة "الشيخ المجاهد" نائل بن غازي مصران "ليس لإيران فضل علينا". ولما قصفت القوات الإسرائيلية أحد الأنفاق مما أدى لاستشهاد عدد من المقاومين اتخذت القسام أسلوبا شديد الدلالة في إعلانها الثأر، فنشرت القناة (31 أكتوبر 2017) تصريحا يقول: "لسنا شبيحة بشار ولامرتزقة نصر الشيطان لنحتفظ بحق الرد..!! كلنا ثقةبقيادتنا ومجاهدينا"، وهي عبارة مكثفة تعبر عن الموقف من إيران وحزب الله مع الرفض لسياسة الاحتفاظ بحق الرد وتكبيل المقاومة بحسابات سياسية قد تفرضها المصالحة، وهو هنا محاولة قطع طريق على قرار سياسي بالتهدئة وعدم الرد. ثم ما لبث حساب القسام أن نشر على صفحته "هنية: أؤكد بإسمي وبإسم إخواني في قيادة حركة الجهاد، أن الدم الدم والهدم الهدم". وفي سياق آخر وبعد ثلاثة أيام نشر الحساب نفيا قاطعا لخبر تعزية حماس في والد قاسم سليماني، وهو ما يبدو أنها كانت محاولة أخرى غير ناجحة لقطع الطريق على الموقف السياسي.
2. العلاقة مع مصر
تغيرت لهجة الخطاب السياسي لحماس تجاه القاهرة منذ دخولها على خط التهدئة والمصالحة وإعادة إمداد غزة بنسبة من الوقود الضرورية لتشغيل محطة الكهرباء، ورعايتها لجولات اللقاء بدحلان ثم بالمصالحة. وفيما مضى الخطاب السياسي نحو الحديث عن تحسن العلاقات والحضن الدافئ والشقيقة الكبرى مضى خطاب القسام في نفس الفترة في اتجاه آخر.
في (24 أغسطس) نشرت قناة القسام أنها ستبدأ في نشر قصة القائد الشهيد رائد العطار وخطته التي حاول فيها إنجاح صفقة شاليط "من خيانة الجانب المصري والصهاينة"، وكان مختصر القصة أنه تم تجهيز عشرين استشهاديا لمصاحبة شاليط، وفي حال شعورهم بأية خيانة سيفجرون أنفسهم في الجميع بما فيهم الوفد المرافق المصري والفلسطيني جميعا"، ونشرت صورة لرائد العطار متسلحا بقاذف لاو المضاد للدورع متحفزا "لغدر من الجانب المصري". وذكرت القناة أن القيادة العليا للجيش الإسرائيلي نشرت بيانا بعد العملية تقر فيه بعبقرية رائد العطار وإفشاله خطة غدر مشتركة بين المخابرات المصرية والإسرائيلية.
وكررت القناة التركيز على القضية العاقلة مع النظام المصري، وهي قضية القساميين الأربعة الذين اختطفتهم السلطات المصرية لدى عبورهم الأراضي المصرية، وهي تنفي رسميا أي علم بمصيرهم بينما سربت حركة حماس صورا لهم في السجون المصرية وهم في حالة يرثى لها. وللمرة الأولى –في الفترة المرصودة- يحضر موسى أبو مرزوق في تصريحه (11 سبتمبر 2017) "السلطات المصرية أبلغتنا أنها لا تملك معلومات حول مصير المجاهدين الأربعة المخطتفين في السجون المصرية منذ أكثر من عام"، ثم أعادت نشر تنويه (29 سبتمبر) يقول: " 777 يوم ؛ على إختطاف مجاهدينا على يد الجيش المصري".
3. الموقف من فتح
عند الموقف من فتح تتسع الفجوة بين الخطابين السياسي والعسكري اتساعا كبيرا، فقد تابعت القناة أخبار المعتقلين في سجون السلطة بالضفة والتعذيب الشديد الذي يعانون منه وتدهور أوضاعهم الصحية، ونشرت عددا من القصص عن مجاهدي القسام الذين اعتقلتهم السلطة أو حاولت اغتيالهم، فضلا عن النشر المتكرر لكلمات أو مقاطع صوتية ومرئية الشيخ نزار ريان المعروف بمواقفه القوية ضد التصالح مع سلطة فتح. واستعملت في وصف السلطة مصطلحات "السلطة اللحدية" في إشارة إلى جيش أنطوان لحد في جنوب لبنان إبان الاحتلال الإسرائيلي للمنطقة، وكذلك استخدمت مصطلح "زنادقة المخابرات" و"زنادقة العلمانية" ونحوها، وبعضها من مصطلحات الشيخ نزار ريان نفسه. ولم تتردد في إعلان تهديدها لمن يفكر بالمساس بسلاح المقاومة.
أ. جرائم سلطة فتح
في أجواء الاستعداد للدخول في إجراءات المصالحة نشرت القناة (25 أغسطس 2017) فيديو لبهجت يامين أبو حبيب الأسير قسامي في سجون سلطة فتح بالضفة الغربية، يتحدث من داخل السجن عن التعذيب الذي نزل به والذي أدى لإصابته بشلل رباعي وبالعديد من الأمراض الأخرى، ثم حوكم أمام محكمة عسكرية لدى سلطة فتح. وفي 30 أغسطس نشرت القناة صورة مصحوبة بتعليق توضيحي: "آثار التعذيب على جسد الطالب في جامعة النجاح براء العامر على يد ميليشيات مخابرات "فتح" حيث أفرجت عنه مخابرات السلطة في نابلس على كرسي متحرك بعد يومين من اعتقاله".
وبعد يومين من إعلان وفد حماس من القاهرة (9 سبتمبر 2017) القبول بشروط عباس لتحقيق المصالحة، نشرت القناة (11 سبتمبر 2017) خبرا عن: نقل الطالب في كلية الاداب في جامعة النجاح أسعد طويل من سجن أريحا المركزي إلى المشفى بعد تردي وضعه الصحي بسبب التعذيب الذي يتعرض له من قبل (مرتزقة المخابرات الفتحاوية). ثم في (25 سبتمبر 2017) نشرت خبرا "تدهورت الحالة الصحية للطالب أسامة مفارجة ممثل الكتلة الإسلامية في جامعة بير زيت، بفعل التعذيب في سجون زنادقة المخابرات "فتح" بمدينة رام الله ، واضرابه عن تناول الطعام والشراب منذ أسبوع".
وشهد يوم يوم 11 سبتمبر نفسه احتفاءا واسعا من القناة بذكرى أحداث (11 سبتمبر 2001) وأسامة بن لادن، وهو ما سنتناوله لاحقا، لكن دلالة الاحتفاء بتلك الأحداث بعد يومين من إعلان قرب توقيع إعلان المصالحة يبدو أيضا ذا دلالة لا تخفى عن اتساع الفجوة بين الخطابين السياسي والعسكري.
بعد يومين آخرين، وفي (13 سبتمبر 2017) تنشر القناة رثاء لمجاهدي قسامي توفي أثناء إعداده عبوة ناسفة، وكان مطلوبا لدى الصهاينة والسلطة الفلسطينية، حتى إن رابين توعد أن يقتله بيده، وفيه أطلق على السلطة وصف "السلطة الفلسطينية اللحدية" و"اللحديين". وفي نفس اليوم تنشر القناة: "يصادف اليوم الاربعاء ، الذكرى الـ 24 لتوقيع اتفاقية الخيانة أوسلو؛ الذي وقعه زنادقة فتح مع المحتل الإسرائيلي في واشنطن في 13 سبتمبر 1993، والذي نص على بيع مساحات شاسعة من ديار المسلمين والتي تقدر بـ 78% من الأراضي الفلسطينية لصالح المحتل الإسرائيلي مما أدى إلى تهجير الملايين من أبناء شَعبنا الفلسطيني في مخيمات اللجوء في شتى دول العالم".
وفي 6 أكتوبر نشرت صورة الشاب إسلام زيد الذي وجد مشنوقًا بعد خروجهِ من سجون زنادقة المُخابرات الفلسطينية "فـتح"، وفي 8 نوفمبر نشرت "قوات لحد الفلسطينية تحبط 7 عمليات ضد الصهاينة الشهر الماضي"، وفي نفس اليوم نقلت تصريح عبد الرحمن شديد القيادي في حماس بهذه الصيغة: "شديد: أجهزة الضفة "لحد" مستمرة في استهداف المقاومين".
ب. حضور خطاب ريان والزهار
في (11 سبتمبر 2017) نُشِر مقطع صوتي "للشيخ المحدث العلامة القائد" نزار ريان بعنوان "إنها حرب إسلام وردة" وهي تتناول سلطة فتح وتصفهم بالعلمانيين الزنادقة والسلطة التي ربتها دولة العدو والتي تطعن المجاهدين من الظهر ومن الصدر.. إلخ! وهو من أهم التسجيلات الصوتية التي تعبر عن التوجه الذي يمثله الشيخ نزار ريان. ثم نُشِر (2 أكتوبر 2017) مقطع فيديو آخر لنزار ريان يتوعد فيه بمقاتلة من يفكر في مس السلاح، ويقول بأن الموقف تغير بعد استشهاد ياسين ولم تعد حماس تعتمد منهج "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك"، وإنما صار منهجها "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني فلأقطعن رأسك". وفي نفس الإطار نقلت القناة تصريحات عباس عن سلاح المقاومة ثم وضعت الرد عليه من كلام نزار ريان "من يُريد أو يُفكر في الإقتراب ونزع بنادقنا من أيدينا سننزع عنقه". وكررت القناة نشر صور لنزار ريان مع إزجاء الثناء عليه، في أكثر من مرة وبغير مناسبة.
في ذات الإطار احتفت القناة بتصريحات الزهار وبالتحديد قوله: "نحذر أي "مجنون" يحاول أن ينزع بندقية واحدة من يد المقاومة"، وعقب الناشر بالقول: "محذراً زنادقه العلمانية فتح"، وقوله "لا نعرف حدود ال67 ولا ال48 بل نعرف فلسطين كلها ضمن الأمة الاسلامية".
ج. تهديدات القسام
سعيا منها لإثبات الحضور الفعال فيما يتعلق بالمقاومة، أعلنت القسام –عبر القناة- أكثر من مرة عن إلقاء القسام القبض على عميل في قطاع غزة، كما نشرت إعلانا لكل عميل بالأمان شرط التوبة. وهي خطوة متقدمة في إثبات أن شأن المقاومة وما يؤثر عليها لن يُسلم لجهة أخرى. ثم كانت أكثر حدة وصراحة حين نشرت الوثيقة المسربة من مكتب المخابرات الفلسطينية والتي تتحدث عن نزع سلاح حماس، ثم عقبت بالقول: "إن صحتّ التسريبات الصادرة عن مكتب المخابرات الفلسطينية فتح ستُنذر بعواقب لا يُحمد عقباها". وبعد المحاولة الفاشلة لاغتيال توفيق أبو نعيم أعلنت القسام مدينة النصيرات منطقة عسكرية أمنية مغلقة للبحث عن المنفذ. وبعد عملية قصف النفق أعلنت القسام حالة النفير العام. وقد حَضَرَ يحيى السنوار في الفترة المرصودة مرة وحيدة فحسب، حين صرح بأن "لدى كتائب القسام القدرة على أن تضرب تل أبيب بالصواريخ بـ 51 دقيقة مجموع ما تم ضربه فى الـ 51 يوم بحرب العصف المأكول".
إذن فقد حرصت كتائب القسام على تقديم رسالة إعلامية وموقفا عمليا لدى الاقتراب من شأن المقاومة، ووصلت في هذا الصدد حتى إعلان حالة النفير العام.
رابعا: مكون السلفية الجهادية في خطاب القسام
بحسب رصد لهيثم غنيم –الباحث المتخصص في الشؤون السيناوية بالمعهد المصري- فإن خمسة عشر عضوا من كتائب القسام قد أُعْلِن عن مقتلهم في صفوف تنظيم ولاية سيناء التابع لتنظيم الدولة الإسلامية. وقد نشر مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلنطي في واشنطن، تقرير بعنوان "جهاديو غزة وتقويض العلاقات المصرية الحمساوية"، التقرير نقل عن مصدر مطلع في جهاز الأمن الداخلي التابع لحكومة غزة: انضمام 130 فلسطينياً على الأقل لتنظيم ولاية سيناء خلال الثلاث سنوات الماضية، بعضهم كانوا أعضاء بارزين في كتائب القسام، أبرزهم هو "محمد حسن أبو شاويش"، وهو من كبار قادة القسام الميدانيين في رفح الفلسطينية، والذي انضم لولاية سيناء في مطلع عام 2016.
يمكن بسهولة إدراك العوامل التي تقرب بين كتائب القسام وتنظيم أنصار بيت المقدس (ولاية سيناء فيما بعد)، فثمة عوامل ثابتة وقديمة كالأساس الإسلامي والاتفاق على الجهاد ضد إسرائيل بهدف تحرير بيت المقدس، لكن العوامل التي نشأت في سيناء منذ الانقلاب العسكري في مصر والذي أسفر عن إجراءات عنيفة ضد سيناء وقطاع غزة، يؤثر على كلا التنظيمين تأثيرا بالغ السلبية. لا سيما مع التحالف المعلن بين عباس والسيسي في تشديد الحصار على قطاع غزة. ومن هنا فليس ثمة ما يُستغرب في أن الجبهة المشتعلة في سيناء والتي تحقق أكبر قلق للنظام المصري وتوقع به أكبر الخسائر المادية والبشرية تمثل إغراء وجذبا لعناصر مجاهدة في جبهة خاملة، لا سيما وأن الجبهة المشتعلة كانت جزءا من مشهد أكبر قدَّم فيه تنظيم الدولة لعامين على الأقل صورة دولة الخلافة التي تتمدد في العراق وسوريا وتلهب خيال كثير من الشرائح في العالم الإسلامي.
أيضا ليس ثمة ما يُستغرب في أن يمثل هذا الوضع الجديد تهديدا لكتائب القسام التي هي فرع من حركة حماس المحسوبة على حركة الإخوان المسلمين التي تعاني في نفس تلك الأعوام تراجعا حادا وشاملا في كافة المناطق الساخنة، وهو ما يثير الإشكالات الكثيرة والسجالات الساخنة –خصوصا في أوساط الشباب- حول المنهج الأمثل وحكم الأنظمة الحاكمة وشرعية قتالها وقضية العلاقة بإيران الشيعية –خصوصا في ظل ما يحدث في سوريا والعراق واليمن- وما ينتج عن ذلك كله من تبادل الاتهامات بالتميع والغلو.
نتيجة لهذا فإننا نجد حضورا قويا لمضامين تنتمي إلى عالم السلفية الجهادية، ويتحصن الخطاب القسامي في مثل تلك الأجواء بشخصية مثل نزار ريان: العالم الشرعي السلفي المجاهد الذي سقط شهيدا مع عائلته في غارة إسرائيلية، ففي قوة خطابه ووضوحه ما يؤكد أصالة المنهج الذي تتبعه حماس ومفاصلتها للتشيع والتهاون مع "العملاء" و"المرتدين" و"العلمانيين".
لقد أعادت قناة القسام نشر نعي حركة حماس لبن لادن في ذكرى 11 سبتمبر، وهو النعي الذي كان ميسورا في لحظة وفاته (مايو 2011) حيث كانت الثورة العربية في أوجها، وكانت مساحة القول والتصرف عالية أمام الجميع: شعوبا وحركات، بمن فيهم حركة حماس. وهو ما ليس يمكن قول مثله في الظروف المعاصرة.
نشرت القناة النعي مع بيت شعر محرف عن شعر لمحمد إقبال يقول: "لن تنسى أمريكا ولا عملاؤها .. ضحكاتنا والبرج يقذف نارا"، ثم تواصل: "11 سبتمبر يوم عزٍ للإسلام و أهله". وفي سياق آخر نقلت القناة اقتباسا عن بن لادن: "هذهِ المَذلة ؛ وهذا الكُفر الذي طَغى وعم على أرض الإسلام لا سَبيل لدكّهِ إلا الجهاد"، وكان في سياق الكلام ضد سلطة فتح.
هذا النقل يؤشر إلى أن خطاب القسام يشعر بالحاجة إلى إثبات جهاديته، بل والتقائها مع تيار الجهاد حول العالم –ما عدا تنظيم الدولة- حيث كان السجال حول بن لادن نفسه واحدا من أوسع السجالات بين داعش من جهة وبقية التيار الجهادي من جهة أخرى، كلا الطرفين يرى نفسه على خط بن لادن ويرى الآخر خارجا عنه. إثبات الجهادية هذا هو الوجه الآخر لخطاب حماس السياسي الذي قد يؤدي في بعض تأثيراته إلى مزيد من خروج العناصر القسامية إلى جبهة تنظيم ولاية سيناء.
وفي نفس السياق نشرت قناة القسام مقطع فيديو لمحمود الزهار يهاجم فيها السعودية (دون أن يسميها) ويصف الدول التي تتعاون مع إسرائيل وتواليها وتناصرها بأنهم "كفرة"، وهذا الخطاب بهذه النبرة هو اقتراب لم يكن موجودا بالسابق مع خط التيار الجهادي. إلى جانب هذا فقد تناثر في منشورات القناة نصائح للمجاهدين بضرورة العلم الشرعي "فاطلب العلم الشرعي قبل خروجك لميادين الجهاد"، ونشرت اقتباسا من الهيئة الشرعية للقسام مفاده الوقوف ضد الغلو والتنازل.
وفي 6 أكتوبر أعلنت قناة القسام أنه "تم الإمساك بأخطر صاحب فكر مُنحرف في قِطـاع غزة قبل قليل وسط مُخيم البريج ويُعتبر المُغذي المالي الرئيسي لإحدى التنظيمات المُنحرفة فكرياً على مستوى بلاد الشام والعراق"، وهي خطوة جديدة في سلسلة المواجهات المندلعة بين حركة حماس والسلفية الجهادية في غزة.
الخاتمة:
تمثل قضية تسليم السلطة في غزة والسير في مسار "المصالحة" واحدة من أهم التحديات التي تواجه حركة حماس وجناحها العسكري، كل منهم على حدة، لكن أعقد ما في الأمر أنها تمثل تحديا كبيرا على العلاقة الداخلية بينهما. وبينما يمكن تصدير خطاب يتبنى توزيع الأدوار بين الجناح السياسي والعسكري إلا أن إنتاج مثل هذا الخطاب أمر عسر ودقيق ويشبه المشي على طريق تحفه الأشواك.
على أن المشكلة ليست في مجرد الخطاب وحده، بل في الأعباء العملية لمسار المصالحة والتي سيتحملها القسام في المقام الأول، إذ هو المقصود المستهدف بسائر الإجراءات التي تمكن للسلطة في فتح، وبينما تذكر العديد من التحليلات أن حماس تحاول كسب الوقت مع يقينها بعدم نجاح المصالحة إلا أن الوقت الذي سيكسبه الساسة هو الوقت الذي ستعمل فيه إسرائيل وسلطة فتح على تجديد معلوماتها الأمنية وشبكة عملائها واستهداف الكوادر والعناصر العسكرية للقسام والبنية التحتية للمقاومة التي قضت 11 عاما مريرا في تطويرها.
حماس الآن أمام واحدة من أهم لحظات تجربتها، ويبقى أن تثبت قدرتها على القيام بمتطلبات المرحلة.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
هذا الانقسام في الرؤى داخل حركة حماس نفسها بين جناح يزيده الزمن قوة وتطورا، وبين حكومة تزيدها الأيام أزمة وتدهورا يلقي بظلاله على مستقبل حركة حماس كلها، والتي ارتبطت مصائرها بالقطاع نفسه، وها هو القطاع يشهد من جديد مسألة تصنع أزمة داخل الحركة نفسها، فتسليم السلطة بقدر ما هو إنقاذ لحكومة حماس بقدر ما هو تهديد لجناحها العسكري. وهو ما أثار أزمة لا تزال تفاصيلها مكتومة بين حماس وجناحها العسكري ولكن أسفرت عنها لهجة خطاب متناقضة بين الطرفين.
أولا: أجواء العودة إلى المصالحة
بعد انتخاب يحيى السنوار رئيسا للحركة بقطاع غزة، ثم انتخاب إسماعيل هنية مسوؤلا للمكتب السياسي لحماس شهدت محاولات تحريك الوضع في غزة انتعاشة جديدة وصلت إلى مرحلة التواصل مع محمد دحلان العدو اللدود لحماس، وهو ما دفع محمود عباس إلى استعمال كافة ما في جعبته كورقة أخيرة بعد شعوره بالتهديد السياسي فقرر عددا من الإجراءات العقابية على قطاع غزة فقرر فرض ضريبة مضاعفة على الوقود اللازم لتشغيل محطة الكهرباء بغزة وتقليص ما تدفعه السلطة لإسرائيل مقابل تزويدها القطاع بالكهرباء بنسبة 45%، وخصم 30% من رواتب موظفي السلطة في القطاع (خمسين ألف موظف)، وإحالة 6 آلاف من موظفيها إلى التقاعد المبكر. وهي الإجراءات التي كانت فوق احتمال قطاع غزة وأُجْبِرَت حكومة حماس أمامه على حل اللجنة الإدارية التي شكلتها في مارس 2017 لإدارة شؤون القطاع حين لم تتول حكومة الوفاق مسؤوليتها، ودخل الطرف المصري على الخط ليجعل من إجراءات حماس عودة للمصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني.
سارت إجراءات المصالحة وإعلانها سيرا حثيثا لكن لم تُرْفَع الإجراءات العقابية عن غزة، بل وصرح عباسوغيره من مسؤولي السلطة أن تلك الإجراءات لن ترفع إلا بمقدار تمكن السلطة من قطاع غزة، كما تناولت التصريحات مسألة "سلاح المقاومة" بصورة أزعجت الطرف المصري الذي استنكر إثارة الأمر في هذا التوقيت. وتم توقيع الاتفاق بالقاهرة، ثم بدأت مشكلة التفاصيل، وعاد من جديد الحديث عن "سلاح السلطة هو السلاح الشرعي الوحيد" ليس على لسان مسؤولي السلطة وحدها بل على لسان حازم عطا الله مدير عام الشرطة الفلسطينية، وهي الجهة التي من المفترض أن تتولى الشأن الأمني في القطاع والتي تعلن استمرار التزامها بالتنسيق الأمني مع إسرائيل. ثم صدرت تصريحات على لسان موسى أبو مرزوق عضو المكتب السياسي لحماس يعبر فيها عن انزعاجه بالطريقة التي جرى بها استلام المعابر، وكونها لا تنسجم مع المصالحة ولا تحترم الاتفاقيات الموقعة، ونددفيما بعد بإكثار حازم عطا الله من لقاءاته التلفازية وتصريحاته الاستعدائية.
لم ترفع الإجراءات العقابية عن قطاع غزة إلى لحظة كتابة هذه السطور، وهو ما يجعل كافة ما جرى منذ لحظة توقيع العقوبات مجرد تنازلات قدمتها حماس بغير مقابل حتى الآن، بل إن بعض المظاهر التي صاحبت إعلان المصالحة شهدت نوعا من الإذلال والنكاية في حماس كرفع صور عبد الفتاح السيسي ودخول الوفد المصري إلى قطاع غزة بكامل فريقه الأمني مثلما وبصحبته فريق إعلامي من الوجوه المعروفة بكراهيتها لحماس ودورها المشهود في شيطنتها.
ثانيا: ظهور الخلاف بين القسام وحماس
لا تزال العلاقات المدنية العسكرية واحدة من أهم النقاط الشائكة في التاريخ السياسي، ولئن كانت بعض التجارب السياسية توصلت إلى عدد من الصيغ يجعل الجهاز العسكري خاضعا للجهاز المدني بعد استقرار الدولة إلا أن الأمر ليس محسوما بشكل يندفع معه الخطر العسكري تماما على الإدارة المدنية. لكن المعضلة الأصعب هي في حالة حركات المقاومة التي لم تصل بعد إلى تأسيس الدولة واستقرارها، حيث تفرض ضرورات الواقع تضخما في الجهاز العسكري بما يجعله يفرض ضروراته على الحركة كلها.
حتى الآن تقدم حركة حماس تجربة ناضجة في العلاقة بين السياسي والعسكري ضمن تجارب حركات التحرر في العالم العربي في التاريخ الحديث، لا سيما ضمن التجارب الإسلامية الأخرى التي أخفقت في بناء واجهة سياسية من الأصل أو غلب عليها الجانب العسكري البحت. فعبر سنين عمل الحركة من بداية تأسيسها لم تُرْصَد أزمة كبيرة بين الجناح المدني والعسكري، وحرص الطرفان على تقديم خطاب يحترم توزيع الأدوار، ويفيد من الآخر، ولا يتدخل للضغط عليه.
ولا شك أن ظهور المنتديات على الانترنت ثم مواقع التواصل الاجتماعي ألقت بظلالها على الحركة، وبدأ ثمة ظهور لخلاف في خطاب حماس والقسام على موقعيهما وأدواتهما الإعلامية، حتى جاءت الحرب الأخيرة (2014) فأظهرت قدرا أعلى من الخلاف بين الطرفين، بل حاولت تصريحات لأبي عبيدة –الناطق باسم كتائب القسام- قطع الطريق على وفد فصائل المقاومة الموجود بالقاهرة في شروط وقف إطلاق النار، وهو أول تدخل معلن من نوعه في قرار سياسي. إلا أن الأزمة انتهت على ما اتفق عليه السياسيون وهو ما لم يكن مرضيا ولا محققا لشروط القسام.
وخفت شأن الخلاف حتى ظهر في أجواء العودة إلى المصالحة أغسطس الماضي، حيث نشرت (10 أغسطس 2017) مبادرة عُرفت بـ "مُقْترح القسام" بإحداث حالة فراغ سياسي في غزة، ومفادها أن لا تكون ثمة حكومة في غزة، فتتخلى حماس عن أي دور في إدارة القطاع وتتولى الأجنحة العسكرية التابعة لفصائل المقاومة ملف السيطرة الميدانية والأمنية، ويبقى جهاز الشرطة في تقديم خدماته المدنية، مع بقاء بعض المؤسسات المحلية بتسيير الشؤون اليومية. وقد اعتبر مراقبون أن المقترح ربما يكون تسريبا إعلاميا تم بالتنسيق مع القيادة السياسية بهدف الضغط على الأطراف المعنية لتحريك الأمور. إلا أن احتمالا آخر يظهر بقوة وهو أن المقترح القسامي إنما كان محاولة قطع طريق على السياسيين في طريق المصالحة، والتي تعني في أهم وجوهها: تسليم قطاع غزة للسلطة الفتحاوية، وهو ما يعزز منه ارتباك ردود أفعال القادة السياسيين والمتحدثين الإعلاميين للحركة، ففيم أقر خليل الحيةبأن الحركة تدرس المقترح نفى صلاح البردويلتماما وجود مقترح كهذا أصلا ووصفها بالأخبار المفبركة. ومع إقرار خليل الحية بالمقترح إلا أن تصريحه يحمل التشديد والتكرار على أن القسام لا يتدخل في الشأن السياسي وأن الحركة قائمة على التخصصات وتوزيع الأدوار، وأن القيادة السياسية هي وحدها من تقرر ما سيكون بشأن المقترح. وهي رسائل لا تخفى دلالتها.
ثالثا: القسام يغرد بعيدا
اتسعت الفجوة بين خطاب حماس وخطاب القسام بوضوح منذ أواخر أغسطس الماضي، وبالاعتماد على متابعة حساب كتائب القسام على تطبيق التليجرام سيبدو بوضوح الرسائل المتعارضة بين تصريحات الطرفين، بل وسيبدو أن رمزيْن بعينهما من رموز حماس يُحتفى بهما ويكرر نشر أقوالهما، وهما: الشهيد نزار ريان والوزير السابق محمود الزهار، وكلا الرجلين يمثلان المواقف المعارضة لما تسير فيه القيادة السياسية.
كان نزار ريان واحدا من الرموز العلمية الشرعية لحركة حماس، وعُرِف بمواقفه القوية المضادة لإيران والمذهب الشيعي وبحدة تصريحاته ومواقفه ضد السلطة الفلسطينية والسلطة المصرية كذلك. وقد أشارت بعض التقارير الإخبارية إلى معارضة الزهار للسير في المصالحة بل وأفادت بعض الأنباء –من مصادر فتحاوية لا يمكن التسليم بصحتها- بأنه قيد الإقامة الجبرية بسبب مواقفه. وأيا ما كان الأمر فإن الحضور الطاغي لهذيْن الرمزين في خطاب القسام يمثل توجها واضحا.
في محاولة رصد اتساع الفجوة بين خطابي حماس والقسام سنتخير أهم ثلاث ملفات ساخنة في اللحظة الراهنة:
1. العلاقة مع إيران
بينما يمضي الجناح السياسي لحماس في إعادة العلاقات إلى طبيعتها مع إيران، أي كما كانت قبل نشوب الثورة السورية، يتبنى الخطاب الإعلامي للقسام توجها آخر.
ففي (24 أغسطس 2017) صرح يحيى السنوار في مقابلة مع مجموعة من الصحفيين في غزة، بأن العلاقة مع إيران استراتيجية بالنسبة للحركة، وأنها الداعم الأكبر لكتائب القسام، وأشار إلى أن العلاقات ترجع إلى طبيعتها بعد التوتر الذي اعتراها. وقد تعزز كلام السنوار بوفد من حماس زار طهران (20 أكتوبر 2017) برئاسة صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، وبعدها بأسبوعين شارك وفد من حماس في التعزية بوفاة والد قاسم سليماني رئيس الحرس الثوري الإيراني (4 نوفمبر 2017)، كما تجددت الاتصالاتواللقاءات مع حسن نصر الله أمين حزب الله اللبناني مع إسماعيل هنية وصالح العاروري، وتفصح المصادر الرسمية لحماس عن نية الاستمرار في تطوير العلاقات مستقبلا.
في الجهة المقابلة يتحدث حساب كتائب القسام على تطبيق التليجرام في اتجاه آخر، ففي 16 أكتوبر نشرت كلمة "الشيخ المجاهد" نائل بن غازي مصران "ليس لإيران فضل علينا". ولما قصفت القوات الإسرائيلية أحد الأنفاق مما أدى لاستشهاد عدد من المقاومين اتخذت القسام أسلوبا شديد الدلالة في إعلانها الثأر، فنشرت القناة (31 أكتوبر 2017) تصريحا يقول: "لسنا شبيحة بشار ولامرتزقة نصر الشيطان لنحتفظ بحق الرد..!! كلنا ثقةبقيادتنا ومجاهدينا"، وهي عبارة مكثفة تعبر عن الموقف من إيران وحزب الله مع الرفض لسياسة الاحتفاظ بحق الرد وتكبيل المقاومة بحسابات سياسية قد تفرضها المصالحة، وهو هنا محاولة قطع طريق على قرار سياسي بالتهدئة وعدم الرد. ثم ما لبث حساب القسام أن نشر على صفحته "هنية: أؤكد بإسمي وبإسم إخواني في قيادة حركة الجهاد، أن الدم الدم والهدم الهدم". وفي سياق آخر وبعد ثلاثة أيام نشر الحساب نفيا قاطعا لخبر تعزية حماس في والد قاسم سليماني، وهو ما يبدو أنها كانت محاولة أخرى غير ناجحة لقطع الطريق على الموقف السياسي.
2. العلاقة مع مصر
تغيرت لهجة الخطاب السياسي لحماس تجاه القاهرة منذ دخولها على خط التهدئة والمصالحة وإعادة إمداد غزة بنسبة من الوقود الضرورية لتشغيل محطة الكهرباء، ورعايتها لجولات اللقاء بدحلان ثم بالمصالحة. وفيما مضى الخطاب السياسي نحو الحديث عن تحسن العلاقات والحضن الدافئ والشقيقة الكبرى مضى خطاب القسام في نفس الفترة في اتجاه آخر.
في (24 أغسطس) نشرت قناة القسام أنها ستبدأ في نشر قصة القائد الشهيد رائد العطار وخطته التي حاول فيها إنجاح صفقة شاليط "من خيانة الجانب المصري والصهاينة"، وكان مختصر القصة أنه تم تجهيز عشرين استشهاديا لمصاحبة شاليط، وفي حال شعورهم بأية خيانة سيفجرون أنفسهم في الجميع بما فيهم الوفد المرافق المصري والفلسطيني جميعا"، ونشرت صورة لرائد العطار متسلحا بقاذف لاو المضاد للدورع متحفزا "لغدر من الجانب المصري". وذكرت القناة أن القيادة العليا للجيش الإسرائيلي نشرت بيانا بعد العملية تقر فيه بعبقرية رائد العطار وإفشاله خطة غدر مشتركة بين المخابرات المصرية والإسرائيلية.
وكررت القناة التركيز على القضية العاقلة مع النظام المصري، وهي قضية القساميين الأربعة الذين اختطفتهم السلطات المصرية لدى عبورهم الأراضي المصرية، وهي تنفي رسميا أي علم بمصيرهم بينما سربت حركة حماس صورا لهم في السجون المصرية وهم في حالة يرثى لها. وللمرة الأولى –في الفترة المرصودة- يحضر موسى أبو مرزوق في تصريحه (11 سبتمبر 2017) "السلطات المصرية أبلغتنا أنها لا تملك معلومات حول مصير المجاهدين الأربعة المخطتفين في السجون المصرية منذ أكثر من عام"، ثم أعادت نشر تنويه (29 سبتمبر) يقول: " 777 يوم ؛ على إختطاف مجاهدينا على يد الجيش المصري".
3. الموقف من فتح
عند الموقف من فتح تتسع الفجوة بين الخطابين السياسي والعسكري اتساعا كبيرا، فقد تابعت القناة أخبار المعتقلين في سجون السلطة بالضفة والتعذيب الشديد الذي يعانون منه وتدهور أوضاعهم الصحية، ونشرت عددا من القصص عن مجاهدي القسام الذين اعتقلتهم السلطة أو حاولت اغتيالهم، فضلا عن النشر المتكرر لكلمات أو مقاطع صوتية ومرئية الشيخ نزار ريان المعروف بمواقفه القوية ضد التصالح مع سلطة فتح. واستعملت في وصف السلطة مصطلحات "السلطة اللحدية" في إشارة إلى جيش أنطوان لحد في جنوب لبنان إبان الاحتلال الإسرائيلي للمنطقة، وكذلك استخدمت مصطلح "زنادقة المخابرات" و"زنادقة العلمانية" ونحوها، وبعضها من مصطلحات الشيخ نزار ريان نفسه. ولم تتردد في إعلان تهديدها لمن يفكر بالمساس بسلاح المقاومة.
أ. جرائم سلطة فتح
في أجواء الاستعداد للدخول في إجراءات المصالحة نشرت القناة (25 أغسطس 2017) فيديو لبهجت يامين أبو حبيب الأسير قسامي في سجون سلطة فتح بالضفة الغربية، يتحدث من داخل السجن عن التعذيب الذي نزل به والذي أدى لإصابته بشلل رباعي وبالعديد من الأمراض الأخرى، ثم حوكم أمام محكمة عسكرية لدى سلطة فتح. وفي 30 أغسطس نشرت القناة صورة مصحوبة بتعليق توضيحي: "آثار التعذيب على جسد الطالب في جامعة النجاح براء العامر على يد ميليشيات مخابرات "فتح" حيث أفرجت عنه مخابرات السلطة في نابلس على كرسي متحرك بعد يومين من اعتقاله".
وبعد يومين من إعلان وفد حماس من القاهرة (9 سبتمبر 2017) القبول بشروط عباس لتحقيق المصالحة، نشرت القناة (11 سبتمبر 2017) خبرا عن: نقل الطالب في كلية الاداب في جامعة النجاح أسعد طويل من سجن أريحا المركزي إلى المشفى بعد تردي وضعه الصحي بسبب التعذيب الذي يتعرض له من قبل (مرتزقة المخابرات الفتحاوية). ثم في (25 سبتمبر 2017) نشرت خبرا "تدهورت الحالة الصحية للطالب أسامة مفارجة ممثل الكتلة الإسلامية في جامعة بير زيت، بفعل التعذيب في سجون زنادقة المخابرات "فتح" بمدينة رام الله ، واضرابه عن تناول الطعام والشراب منذ أسبوع".
وشهد يوم يوم 11 سبتمبر نفسه احتفاءا واسعا من القناة بذكرى أحداث (11 سبتمبر 2001) وأسامة بن لادن، وهو ما سنتناوله لاحقا، لكن دلالة الاحتفاء بتلك الأحداث بعد يومين من إعلان قرب توقيع إعلان المصالحة يبدو أيضا ذا دلالة لا تخفى عن اتساع الفجوة بين الخطابين السياسي والعسكري.
بعد يومين آخرين، وفي (13 سبتمبر 2017) تنشر القناة رثاء لمجاهدي قسامي توفي أثناء إعداده عبوة ناسفة، وكان مطلوبا لدى الصهاينة والسلطة الفلسطينية، حتى إن رابين توعد أن يقتله بيده، وفيه أطلق على السلطة وصف "السلطة الفلسطينية اللحدية" و"اللحديين". وفي نفس اليوم تنشر القناة: "يصادف اليوم الاربعاء ، الذكرى الـ 24 لتوقيع اتفاقية الخيانة أوسلو؛ الذي وقعه زنادقة فتح مع المحتل الإسرائيلي في واشنطن في 13 سبتمبر 1993، والذي نص على بيع مساحات شاسعة من ديار المسلمين والتي تقدر بـ 78% من الأراضي الفلسطينية لصالح المحتل الإسرائيلي مما أدى إلى تهجير الملايين من أبناء شَعبنا الفلسطيني في مخيمات اللجوء في شتى دول العالم".
وفي 6 أكتوبر نشرت صورة الشاب إسلام زيد الذي وجد مشنوقًا بعد خروجهِ من سجون زنادقة المُخابرات الفلسطينية "فـتح"، وفي 8 نوفمبر نشرت "قوات لحد الفلسطينية تحبط 7 عمليات ضد الصهاينة الشهر الماضي"، وفي نفس اليوم نقلت تصريح عبد الرحمن شديد القيادي في حماس بهذه الصيغة: "شديد: أجهزة الضفة "لحد" مستمرة في استهداف المقاومين".
ب. حضور خطاب ريان والزهار
في (11 سبتمبر 2017) نُشِر مقطع صوتي "للشيخ المحدث العلامة القائد" نزار ريان بعنوان "إنها حرب إسلام وردة" وهي تتناول سلطة فتح وتصفهم بالعلمانيين الزنادقة والسلطة التي ربتها دولة العدو والتي تطعن المجاهدين من الظهر ومن الصدر.. إلخ! وهو من أهم التسجيلات الصوتية التي تعبر عن التوجه الذي يمثله الشيخ نزار ريان. ثم نُشِر (2 أكتوبر 2017) مقطع فيديو آخر لنزار ريان يتوعد فيه بمقاتلة من يفكر في مس السلاح، ويقول بأن الموقف تغير بعد استشهاد ياسين ولم تعد حماس تعتمد منهج "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك"، وإنما صار منهجها "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني فلأقطعن رأسك". وفي نفس الإطار نقلت القناة تصريحات عباس عن سلاح المقاومة ثم وضعت الرد عليه من كلام نزار ريان "من يُريد أو يُفكر في الإقتراب ونزع بنادقنا من أيدينا سننزع عنقه". وكررت القناة نشر صور لنزار ريان مع إزجاء الثناء عليه، في أكثر من مرة وبغير مناسبة.
في ذات الإطار احتفت القناة بتصريحات الزهار وبالتحديد قوله: "نحذر أي "مجنون" يحاول أن ينزع بندقية واحدة من يد المقاومة"، وعقب الناشر بالقول: "محذراً زنادقه العلمانية فتح"، وقوله "لا نعرف حدود ال67 ولا ال48 بل نعرف فلسطين كلها ضمن الأمة الاسلامية".
ج. تهديدات القسام
سعيا منها لإثبات الحضور الفعال فيما يتعلق بالمقاومة، أعلنت القسام –عبر القناة- أكثر من مرة عن إلقاء القسام القبض على عميل في قطاع غزة، كما نشرت إعلانا لكل عميل بالأمان شرط التوبة. وهي خطوة متقدمة في إثبات أن شأن المقاومة وما يؤثر عليها لن يُسلم لجهة أخرى. ثم كانت أكثر حدة وصراحة حين نشرت الوثيقة المسربة من مكتب المخابرات الفلسطينية والتي تتحدث عن نزع سلاح حماس، ثم عقبت بالقول: "إن صحتّ التسريبات الصادرة عن مكتب المخابرات الفلسطينية فتح ستُنذر بعواقب لا يُحمد عقباها". وبعد المحاولة الفاشلة لاغتيال توفيق أبو نعيم أعلنت القسام مدينة النصيرات منطقة عسكرية أمنية مغلقة للبحث عن المنفذ. وبعد عملية قصف النفق أعلنت القسام حالة النفير العام. وقد حَضَرَ يحيى السنوار في الفترة المرصودة مرة وحيدة فحسب، حين صرح بأن "لدى كتائب القسام القدرة على أن تضرب تل أبيب بالصواريخ بـ 51 دقيقة مجموع ما تم ضربه فى الـ 51 يوم بحرب العصف المأكول".
إذن فقد حرصت كتائب القسام على تقديم رسالة إعلامية وموقفا عمليا لدى الاقتراب من شأن المقاومة، ووصلت في هذا الصدد حتى إعلان حالة النفير العام.
رابعا: مكون السلفية الجهادية في خطاب القسام
بحسب رصد لهيثم غنيم –الباحث المتخصص في الشؤون السيناوية بالمعهد المصري- فإن خمسة عشر عضوا من كتائب القسام قد أُعْلِن عن مقتلهم في صفوف تنظيم ولاية سيناء التابع لتنظيم الدولة الإسلامية. وقد نشر مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلنطي في واشنطن، تقرير بعنوان "جهاديو غزة وتقويض العلاقات المصرية الحمساوية"، التقرير نقل عن مصدر مطلع في جهاز الأمن الداخلي التابع لحكومة غزة: انضمام 130 فلسطينياً على الأقل لتنظيم ولاية سيناء خلال الثلاث سنوات الماضية، بعضهم كانوا أعضاء بارزين في كتائب القسام، أبرزهم هو "محمد حسن أبو شاويش"، وهو من كبار قادة القسام الميدانيين في رفح الفلسطينية، والذي انضم لولاية سيناء في مطلع عام 2016.
يمكن بسهولة إدراك العوامل التي تقرب بين كتائب القسام وتنظيم أنصار بيت المقدس (ولاية سيناء فيما بعد)، فثمة عوامل ثابتة وقديمة كالأساس الإسلامي والاتفاق على الجهاد ضد إسرائيل بهدف تحرير بيت المقدس، لكن العوامل التي نشأت في سيناء منذ الانقلاب العسكري في مصر والذي أسفر عن إجراءات عنيفة ضد سيناء وقطاع غزة، يؤثر على كلا التنظيمين تأثيرا بالغ السلبية. لا سيما مع التحالف المعلن بين عباس والسيسي في تشديد الحصار على قطاع غزة. ومن هنا فليس ثمة ما يُستغرب في أن الجبهة المشتعلة في سيناء والتي تحقق أكبر قلق للنظام المصري وتوقع به أكبر الخسائر المادية والبشرية تمثل إغراء وجذبا لعناصر مجاهدة في جبهة خاملة، لا سيما وأن الجبهة المشتعلة كانت جزءا من مشهد أكبر قدَّم فيه تنظيم الدولة لعامين على الأقل صورة دولة الخلافة التي تتمدد في العراق وسوريا وتلهب خيال كثير من الشرائح في العالم الإسلامي.
أيضا ليس ثمة ما يُستغرب في أن يمثل هذا الوضع الجديد تهديدا لكتائب القسام التي هي فرع من حركة حماس المحسوبة على حركة الإخوان المسلمين التي تعاني في نفس تلك الأعوام تراجعا حادا وشاملا في كافة المناطق الساخنة، وهو ما يثير الإشكالات الكثيرة والسجالات الساخنة –خصوصا في أوساط الشباب- حول المنهج الأمثل وحكم الأنظمة الحاكمة وشرعية قتالها وقضية العلاقة بإيران الشيعية –خصوصا في ظل ما يحدث في سوريا والعراق واليمن- وما ينتج عن ذلك كله من تبادل الاتهامات بالتميع والغلو.
نتيجة لهذا فإننا نجد حضورا قويا لمضامين تنتمي إلى عالم السلفية الجهادية، ويتحصن الخطاب القسامي في مثل تلك الأجواء بشخصية مثل نزار ريان: العالم الشرعي السلفي المجاهد الذي سقط شهيدا مع عائلته في غارة إسرائيلية، ففي قوة خطابه ووضوحه ما يؤكد أصالة المنهج الذي تتبعه حماس ومفاصلتها للتشيع والتهاون مع "العملاء" و"المرتدين" و"العلمانيين".
لقد أعادت قناة القسام نشر نعي حركة حماس لبن لادن في ذكرى 11 سبتمبر، وهو النعي الذي كان ميسورا في لحظة وفاته (مايو 2011) حيث كانت الثورة العربية في أوجها، وكانت مساحة القول والتصرف عالية أمام الجميع: شعوبا وحركات، بمن فيهم حركة حماس. وهو ما ليس يمكن قول مثله في الظروف المعاصرة.
نشرت القناة النعي مع بيت شعر محرف عن شعر لمحمد إقبال يقول: "لن تنسى أمريكا ولا عملاؤها .. ضحكاتنا والبرج يقذف نارا"، ثم تواصل: "11 سبتمبر يوم عزٍ للإسلام و أهله". وفي سياق آخر نقلت القناة اقتباسا عن بن لادن: "هذهِ المَذلة ؛ وهذا الكُفر الذي طَغى وعم على أرض الإسلام لا سَبيل لدكّهِ إلا الجهاد"، وكان في سياق الكلام ضد سلطة فتح.
هذا النقل يؤشر إلى أن خطاب القسام يشعر بالحاجة إلى إثبات جهاديته، بل والتقائها مع تيار الجهاد حول العالم –ما عدا تنظيم الدولة- حيث كان السجال حول بن لادن نفسه واحدا من أوسع السجالات بين داعش من جهة وبقية التيار الجهادي من جهة أخرى، كلا الطرفين يرى نفسه على خط بن لادن ويرى الآخر خارجا عنه. إثبات الجهادية هذا هو الوجه الآخر لخطاب حماس السياسي الذي قد يؤدي في بعض تأثيراته إلى مزيد من خروج العناصر القسامية إلى جبهة تنظيم ولاية سيناء.
وفي نفس السياق نشرت قناة القسام مقطع فيديو لمحمود الزهار يهاجم فيها السعودية (دون أن يسميها) ويصف الدول التي تتعاون مع إسرائيل وتواليها وتناصرها بأنهم "كفرة"، وهذا الخطاب بهذه النبرة هو اقتراب لم يكن موجودا بالسابق مع خط التيار الجهادي. إلى جانب هذا فقد تناثر في منشورات القناة نصائح للمجاهدين بضرورة العلم الشرعي "فاطلب العلم الشرعي قبل خروجك لميادين الجهاد"، ونشرت اقتباسا من الهيئة الشرعية للقسام مفاده الوقوف ضد الغلو والتنازل.
وفي 6 أكتوبر أعلنت قناة القسام أنه "تم الإمساك بأخطر صاحب فكر مُنحرف في قِطـاع غزة قبل قليل وسط مُخيم البريج ويُعتبر المُغذي المالي الرئيسي لإحدى التنظيمات المُنحرفة فكرياً على مستوى بلاد الشام والعراق"، وهي خطوة جديدة في سلسلة المواجهات المندلعة بين حركة حماس والسلفية الجهادية في غزة.
الخاتمة:
تمثل قضية تسليم السلطة في غزة والسير في مسار "المصالحة" واحدة من أهم التحديات التي تواجه حركة حماس وجناحها العسكري، كل منهم على حدة، لكن أعقد ما في الأمر أنها تمثل تحديا كبيرا على العلاقة الداخلية بينهما. وبينما يمكن تصدير خطاب يتبنى توزيع الأدوار بين الجناح السياسي والعسكري إلا أن إنتاج مثل هذا الخطاب أمر عسر ودقيق ويشبه المشي على طريق تحفه الأشواك.
على أن المشكلة ليست في مجرد الخطاب وحده، بل في الأعباء العملية لمسار المصالحة والتي سيتحملها القسام في المقام الأول، إذ هو المقصود المستهدف بسائر الإجراءات التي تمكن للسلطة في فتح، وبينما تذكر العديد من التحليلات أن حماس تحاول كسب الوقت مع يقينها بعدم نجاح المصالحة إلا أن الوقت الذي سيكسبه الساسة هو الوقت الذي ستعمل فيه إسرائيل وسلطة فتح على تجديد معلوماتها الأمنية وشبكة عملائها واستهداف الكوادر والعناصر العسكرية للقسام والبنية التحتية للمقاومة التي قضت 11 عاما مريرا في تطويرها.
حماس الآن أمام واحدة من أهم لحظات تجربتها، ويبقى أن تثبت قدرتها على القيام بمتطلبات المرحلة.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
Published on November 16, 2017 13:30
November 15, 2017
مذاهب البطولة وأنواع الأبطال!
تقوم الأمم على أكتاف الأبطال، ليس من أمة نهضت وسادت إلا وكانت قصة انطلاقها حافلة بالأبطال والبطولات، الجيل المؤسس في كل دولة هو أصلب أجيالها وأكثرهم بسالة وتضحية، ويظل هذا الجيل هو مفخرة الدولة والأمة، يحتفظون باسمائهم ويعظمون شأنهم ويروون قصصهم ويعلمونها للأجيال لتقتدي بهم وليستمر عطاء هذه الأمة وحضارتها.
ولذلك فقد كان من أخطر أساليب التشويه الفكري أن المحتل هو من يختار لنا أبطالنا، فصارت لدينا مهمة خطيرة لم تتعرض لها الأمة في عصورها السابقة، وهي مهمة تصحيح التاريخ وتوعية الأجيال بحقيقة الشخصيات التي درسوها كأبطال عن غير استحقاق، وإزالة الغبار والركام عن الأبطال الحقيقيين الذين درسوا سيرتهم كأعداء أو إرهابيين أو مجرمين.
وفي عصر أجدادنا الأوائل، عصر الخلافة الراشدة، صفحات زاخرة من البطولة والفداء، أبطال عظماء فتحوا الدنيا شرقا وغربا، قاتلوا العرب والفرس والروم حتى اتسع ظل الإسلام على كل هذه البلاد، عشرات الآلاف من الفاتحين الذين اكتسحوا الأمم ونشروا العدل وفتحوا صفحة جديدة في تاريخ العالم، أغلبهم لا نعرف أسماءهم، والقليل منهم فحسب هو الذي بقيت سيرته يرويها التاريخ حتى وصلت إلينا.
1. بطولات الجهاد
هل سمعتم عن هاشم بن عتبة؟
إنه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ابن أخي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، كان يُلقَّب بالمرقال لما له من سرعة في الحرب، إذ كانت العرب تقول للإبل إذا أسرعت "رقلت الإبل"، وهو من الأبطال المعدودين الذين شهدوا المعركتين الفاصلتين: اليرموك في جبهة الروم والقادسية في جبهة الفرس. وذلك أن خالد بن الوليد لما نقله أبو بكر من جبهة الفرس إلى جبهة الروم أخذ معه نصف الجيش الفاتح في جبهة الفرس، ولما انتهت الموقعة الفاصلة "اليرموك" عاد هذا الجيش إلى العراق ليجد نفسه أمام المعركة الفاصلة الأخرى "القادسية".
فكان أولئك من الأبطال الكبار.. ومنهم صاحبنا هاشم بن عتبة الذي كان قائد هذا الجيش العائد.
عاد هاشم بن عتبة من اليرموك وقد فقد عينه اليمنى في سبيل الله، فخاض جهاده في القادسية وما بعدها بعين واحدة، وهو من مشاهير العور في التاريخ الإسلامي.
كان رجلا ضخما، ماهرا كفئا حتى قالت عنه عائشة: كان رجلا لا تكاد تزل به دابته، وقد وصل إلى القادسية بعد أن اشتعلت المعركة، وكان لأجل ذلك قد قدَّم أمامه القعقاع بن عمرو التميمي، فوصل القعقاع ونفذ خطته النفسية في تقسيم طليعته إلى فئات صغيرة تثير الغبار ثم تنضم تباعا إلى الجيش بحيث يظهر أن المدد قد وصل، فما إن انتهى ضم الطليعة إلى الجيش حتى كان جيش هاشم بن عتبة قد وصل فصار ينضم إلى المسلمين تباعا هكذا لدعم المعنويات في الجيش المسلم وإخمادها في جيش الفرس.
ومنذ وصل إلى القادسية حتى أبلى في قتالها بلاء حسنا مشهورا، ثم بعد انتصار القادسية كان من قادة الجيش الإسلامي الذي انطلق إلى المدائن، وهناك قبل الوصول أطلق الفرس أسدا كان قد اتخذه كسرى من حديقة له، وكان الأسد سلاحا جديدا آخر مختلفا عن الفيلة.. إلا أن صاحبنا البطل الكبير هاشم بن عتبة نزل عن فرسه فتصدى للأسد بشجاعة قلب نادرة حتى قتله بسيفه، فكان فتحا معنويا للمسلمين ورعبا جديدا ينزل بالفرس، حتى إن سعد بن أبي وقاص –قائد الجيش وعم هاشم- قبل رأس هاشم فقبل هاشم قدمه.
ثم كان هاشم قائد جيش المسلمين في جلولاء التي تجمعت بها قوات الفرس بعد اندحارهم الكبير في القادسية، حيث كان هذا آخر جيش كبير لهم، فانتصر عليهم النصر الكبير الذي انهارت بعده امبراطورية فارس تماما.
وكان هاشم فيما بعد من قادة فتوح فارس، ومع ذلك خرج من كل هذا سليما فلم يمت إلا بعد عشرين سنة في معركة صفين حيث كان من قادة جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
2. بطولات السياسة
عادة ما يجري الحديث عن بطولات المقاتلين ويغفلون عن بطولات السياسيين والسفراء، والواقع أن من يخوض معركة السياسة شرط أن يكون مخلصا حقا يستطيع بذكائه وحسن تدبيره أن يوفر على المسلمين دماء كثيرة، وأن يحقق بالسياسة ما قد تعجز عنه الحروب.. وصحيح طبعا أن قوة السياسي تنبع من قوته على الأرض وقدرته على خوض المعارك.. فالسياسة والحرب كالجناحين للطائر، والأمم التي تنتصر لا بد لها من استعمال الأمرين معا.
أولا: سفراء القادسية قبل أن تنشب معركة القادسية، وهي المعركة الكبرى القاصمة في فتوح فارس، جرت مفاوضات بين المسلمين والفرس، وكان سفراء المسلمين فيها ثلاثة: ربعي بن عامر وحذيفة بن محصن والمغيرة بن شعبة.
كان قائد جيش المسلمين سعد بن أبي وقاص قد أرسل في طلب وفد من الدهاة والسفراء، فلما اجتمع بهم اقتراح ربعي بن عامر أن ذهابهم وفدا كبيرا سيوحي للفرس أن العرب يهتمون لأمرهم، بينما إرسال واحد فحسب يدل على قوة المسلمين وقلة اكتراثهم بالفرس، فأعجب هذا الرأي سعد بن أبي وقاص، وقرر أن يكون سفراؤه واحدا تلو الآخر. فكانت البداية بصاحبنا ربعي بن عامر رضي الله عنه.
أراد الفرس أن يحدثوا صدمة نفسية للسفير المسلم، فجهزوا له استقبالا مهيبا، حيث لبسوا فيه الثياب المذهبة وفرشوا الوسائد والنمارق المزخرفة، وصنعوا صورة بصرية فاخرة ومهيبة، وعزموا على أن يتعاملوا معه بقلة اكتراث ولا مبالاة. وعلى الجانب الآخر دخل ربعي بن عامر في صورة المقاتل الأشعث الأغبر الفقير الصلب، معه سيفه ودرعه وأسهمه تدل على الخشونة والبساطة حتى إن غمد سيفه كان من القماش الأخرق الرثِّ. لكن الأهم من هذا أنه لم ينبهر بزينة الفرس بل مضى هذا المقاتل الأشعث فأخذ وسادة من زخارفهم فشقها ليربط بها بغلته في مقدمة الخيمة السلطانية لرستم، ثم صار يمشي متوكأ على رمحه فيخرق البسائط والنمارق والوسائد بلا مبالاة، ولأنهم عزموا على إظهار اللا مبالاة به فقد تركوه مظهرين الاستهانة بشأنه حتى اقترب إلى رستم في صدر المجلس فأراد أن يجلس إلى جواره فمنعه الحرس الخاص الذين حملوه فأبعدوه، فإذا به يزيح بسائطهم ويجلس على الأرض وهم يستغربون ويسألون:
- ما حملك على هذا؟- فقال: إنا لا نستحب الجلوس على زينتكم هذه- فقال له رستم: ما جاء بكم؟- قال: الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله. - قال: وما موعود الله؟ - قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.- فقال رستم قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ - قال: نعم كم أحب إليكم أيوما أو يومين؟- قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. (وأراد مقاربته ومدافعته)- فقال: إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئتمنا ألا نمكن الأعداء من آذاننا ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثا فانظر في أمرك وأمرهم واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك، وإن كنت عن نصرنا غنيا تركناك منه وإن كنت إليه محتاجا منعناك، أو المنابذة في اليوم الرابع ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى. - قال: أسيدهم أنت؟- قال: لا ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض يجير أدناهم على أعلاهم.
واستطاع ربعي بهذا المنظر البسيط المخيف، وبهذا الكلام الواضح أن يوقع الرهبة في نفس رستم الذي بدا كأنه يميل إلى تجنب الحرب، فقال لقومه: هل رأيتم كلاما قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟
قالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب! أما ترى إلى ثيابه؟
فقال: ويحكم لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة إن العرب تستخف باللباس والمأكل ويصونون الأحساب ليسوا مثلكم في اللباس ولا يرون فيه ما ترون.
ثم كان للمسلمين سفيرين في اليوم الثاني والثالث هما حذيفة بن محصن والمغيرة بن شعبة، ولم يختلف كلامهما كثيرا عن كلام ربعي بن عامر، بل إن مما وقع للمغيرة أنه سار إلى أن أراد أن يجلس إلى جوار رستم مباشرة فلما أخذه الحرس فوثبوا عليه ومنعوه قال لهم:
"كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قوما أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه ولم آتكم ولكن دعوتموني اليوم علمت أن أمركم مضمحل وأنكم مغلوبون وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول"
ولما فرغوا من الحوار على نفس ما قاله ربعي وحذيفة قال رستم: هؤلاء والله الرجال صادقين كانوا أم كاذبين والله لئن كان بلغ من إربهم وصونهم لسرهم ألا يختلفوا فما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم لئن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شيء.
وبهذا فعل السفراء في نفوس القادة والكبار ما لم تكن تستطيع السيوف أن تفعله من قذف الرعب في قلوبهم وتثبيت هيبة المسلمين.
ثانيا: أرطبون العرب وأرطبون الروم
لما تمكن المسلمون من فتح الشام بقيت أمامهم مدينة بيت المقدس، وضرب المسلمون حولها الحصار، وكان قائدها الرومي واحدا من أذكى وأدهى قادتهم ويسمى "الأرطبون".
وكان الجيش الإسلامي المحاصر لها بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهو المعدود كذلك من دهاة العرب، فجرت بين عمرو وبين الأرطبون رسائل وسفارات لم يستطع عمرو منها أن يحصل على ما يريد، فعزم على أن يذهب بنفسه على هيئة السفير.
وهناك دارت معركة سياسية بين داهية العرب وداهية الروم!
كان كلام عمرو ونظراته مما فهم معه الأرطبون أنه ليس شخصية سفير فحسب، ووقع في نفسه أنه عمرو بن العاص أو على الأقل رجل من كبار القادة الذين يأخذ عمرو برأيهم، فعزم على اغتياله وقال: "ما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله"، ثم كلف واحدا من جنوده بأن ينفذ هذا الاغتيال أثناء عودة عمرو، ولكن عمرا أحس بما يُدبَّر له، فقال له في الجلسة الأخيرة:
"قد سمعت مني وسمعت منك فأما ما قلته فقد وقع مني موقعا، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي لنكانفه ويشهدنا أموره، فأرجع فآتيك بهم الآن فإن رأوا في الذي عرضت مثل الذي أرى فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم وكنت على رأس أمرك".
فأعجب الأرطبون أن الصيد سيكون أعظم من هذا، سيبلغ عشرة من كبار القادة، فأرسل إلى المكلفين بالاغتيال أن يتوقفوا، وبهذا نجى عمرو، ثم علم الأرطبون أنه كان هو الخاسر في حرب العقول هذه، فقال: خدعني الرجل هذا أدهى الخلق.
ولما بلغت عمر فقال غلبه عمرو لله عمرو، لقد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب.
3. استخدام الحرب النفسية
ومما لا ينتبه له كثيرا في بطولات أجدادنا الفاتحين استعمالهم للحرب النفسية، وبها بلغوا نتائج لم يكن بالإمكان تحصيلها بغير هذه الوسيلة. وهو ما ينبغي أن ننتبه له في واقعنا المعاصر ونستفيد منه.
سنحكي في هذا الإطار مثالا واحدا فحسب، وهي الخطة التي وضعها خالد بن الوليد في معركة اليرموك الفاصلة.
لقد بنى خالد بن الوليد خطته يوم اليرموك على إحداث الصدمة النفسية في جيش الروم، وكانت الانتصارات السابقة للمسلمين قد أوقعت الفزع في نفوس الروم، حتى إن هرقل إمبراطور الروم أمر قائده في اليرموك باهان –وكان من أشهر قادتهم وأكثرهم قوة وذكاء- أن يضع جيشه في موقع من الأرض "واسع المطرد ضيق المخرج" بحيث لا يكون أمامهم فرصة إلا الثبات، كذلك فقد جعل صفوفا من جنوده مربوطين بالسلاسل لئلا يندفعون إلى الهروب إذا شدّ عليهم المسلمون.. وقد اختار قائده بالفعل موقعا تتحقق فيه هذه الصفات، حيث موقع المعركة نفسه فسيح ولكنه محدود من ثلاث جهات بفروع نهر الأردن، ولا يبق إلا الموضع الذي دخلوا منه، وهو الذي جاءه المسلمون فيما بعد فصار الروم بين المسلمين من الأمام وبين الماء من ثلاث جهات، حتى قال سيدنا عمرو بن العاص: "أبشروا، قد حصرت اليوم، ولا يأتي محصور بخير".
ومن قوة الصدمة النفسية أن أحد فرسان الروم الكبار وهو من سفرائهم كذلك، أي أنه جمع بين القوة والعقل، وكان اسمه جرجة، أسلم قبل أن تبدأ المعركة، حيث خرج بين الصفين بعد انتهاء المفاوضات وقبل ابتداء القتال ونادى على سيدنا خالد بن الوليد، فخرج له واقتربا حتى أمن كل منهما الآخر، ثم قال له:
- يا خالد اصدقني ولا تكذبني فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع.. بالله هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟- قال: لا.- قال: فبم سميت سيف الله؟- قال إن الله عز و جل بعث فينا نبيه صلى الله عليه و سلم فدعانا فنفرنا عنه ونأينا عنه جميعا ثم إن بعضنا صدقه وتابعه وبعضنا باعده وكذبه فكنت فيمن كذبه وباعده وقاتله ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به فتابعناه فقال أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين ودعا لي بالنصر فسميت سيف الله بذلك فأنا من أشد المسلمين على المشركين.
ثم أسلم جرجة وانحاز إلى المسلمين وقاتل معهم، واستشهد في اليرموك ولم يصل إلا ركعتي إسلامه، وقيل: بل لم يصل أبدا. فهو ممن مات على الشهادة ولم يسجد لله سجدة.
نعود إلى خطة خالد بن الوليد في اليرموك..
لقد استوعب خالد منذ رأى فرسان الروم أن عددهم وقوتهم أكبر بكثير من فرسان المسلمين، وأنه لا يستطيع أن يتصدى لهم، فكان أساس خطته أن يحتفظ بفرسانه دون خوض قتال، وأن يجعلهم خلف جيش المسلمين من المشاة، وأن يتحمل المشاة المسلمون صدمة فرسان الروم.. لذلك أوصى المسلمين بالصبر والثبات ما استطاعوا، ثم ذهب إلى النساء في مؤخرة الجيش فأوصاهن أن يضربوا من يرجع منسحبا من أمام الروم بالحجر أو حتى بالسيف حتى يعود مرة أخرى لقتالهم فلا يتتابع انسحاب المسلمين.
كان خالد يريد امتصاص صدمة فرسان الروم وإضعافها بمقاومة الفرسان المسلمين وتيسير انفصال فرسان الروم عن بقية الجيش وهو من المشاة.. وبالفعل تحقق الواقع كما أراد خالد، فاندفع فرسان الروم يهاجمون الميمنة والميسرة، واستطاعت صدمتهم الشديدة أن تضغط على جيش المسلمين حتى تقهقرت وضعفت الميمنة والميسرة واستطاع بعض فرسان الروم أن ينفذ من جيش المسلمين إلى أن وصل إلى معسكر النساء، ومع قوة الصدمة انهارت بعض قطاعات الميمنة والميسرة فانسحب منهما المسلمون، وهنا جاء دور النساء اللاتي صرن يقذفن المتراجعين ويواجهن من استطاع النفاذ إليهن من فرسان الروم بالحجارة والخناجر وعواميد الخيام.. وكانت لحظات عصيبة ظهرت فيها بطولات وبسالات شديدة في الصمود والثبات.
كل هذا وسلاح الفرسان لم يتحرك بعد.. لقد انتظر خالد حتى يتحقق من انفصال الفرسان عن المشاة، ومن تعثر صدمة الفرسان بثبات المسلمين، وهنا تدخل سلاح الفرسان وانطلق قسم بقيادة خالد وقسم بقيادة قيس بن هبيرة، فنفذوا هجوما مفاجئا على فرسان الروم الذين اضطرب أمرهم لظهور قوات أخرى من الجيش لم يتنبهوا لها، فتخلخل هجومهم ونظامهم وزادوا تعثرا، ثم سمح لهم خالد بالنفاذ والخروج من المعركة، فانطلقوا في ظل هذه الصدمة النفسية يهربون من ذلك المنفذ الذي يقع خلف معسكر المسلمين.
ثم عاد خالد ليهاجم جيش الروم (المشاة) بعد فراغه من فرسانهم، وعندئذ تحققت الصدمة التي كان ينتظرها خالد رضي الله عنه، إذ صار المشهد عند الروم أن فرسانهم قد انطلقوا فخاضوا المعركة ثم لم يرجعوا، وإذا بهم يفاجؤون بهجوم فرسان المسلمين عليهم.. فوقع فيهم الاضطراب والارتباك، وصاروا يتراجعون إلى الخلف، وزاد الطين بلة أنهم لا مهرب لهم إلى الخلف، بل إن ثمة جنود لا يستطيعون انسحابا طبيعيا لأنهم مترابطين بالسلاسل.. فصارت فرسان المسلمين ثم مشاتهم تضغط على جيش الروم الذي لا يجد إلا الرجوع أكثر مما يزيد في اضطرابه وارتباكه، وكان الزمن في تلك اللحظة قد صار بعد العصر، وكان اليوم ضبابيا.. فانهار جيش الروم بوقوعه في الواقوصة، المرتفع الذي ينحدر إلى النهر.
وبهذه الصدمة النفسية، انتصر المسلمون في أعظم معارك فتوح الشام وفي واحدة من أعظم معارك كل تاريخ الإسلام.
الخلاصة:
لا تتقدم الأمم إلا على أكتاف الأبطال ذوي البسالة والتضحية، وما من أمة نهضت إلا وكان جيل تأسيسها من الأبطال الأشداء الذين بذلوا تضحيات هائلة مهدت الأرض لقيام دولتهم وحضارتهم.
إلا أن البطولة لا تنحصر فقط في القتال، بل لا بد لها من أبطال آخرين في ساحة السياسة والتفاوض والسفارة وعرض الأفكار، أي لا بد أن يكون جهازها الإعلامي والدبلوماسي على نفس القدر من الكفاءة والإجادة.. وصحيح أن قوة السياسي تكمن فيما يسنده من المقاتلين البواسل، ولكن الصحيح أيضا أن السياسي يستطيع بذكائه وعقله أن يحقق ما تعجز عنه السيوف وأن يمهد لانتصارها النفوس.
ومما لا ينتبه له كثيرا في شأن الحروب والمفاوضات أمر الحرب النفسية، وهي مسألة في غاية الأهمية ونغفل عنها كثيرا، وقد صارت الحرب النفسية الآن علما كبيرا وله نظرياته وفروعه ومؤلفاته، ولا بد للمجاهدين من قراءة هذه الكتب واستيعاب هذه النظريات واستعمال هذه الأساليب.. فرب خطة حكيمة أنهت معركة فاصلة فارقة.
نشر في مدونات الجزيرة
Published on November 15, 2017 02:53
November 14, 2017
بشهادة يهود ومستشرقين: اليهود بين أمة الإسلام والأمم الأخرى
أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق فقال تعالى في شأنه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم رسالته فقال: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ"وقد كانت سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هي أعظم قصة نجاح بشري، حتى عدَّه مايكل هارت أعظم عظماء العالم لأنه الوحيد في التاريخ الذي نجح على المستوى الديني والدنيوي معا، وكان تاريخ المسلمين أقوم تواريخ الأمم وإن كان تاريخ بشر غير معصومين.
في هذه المقال –والمقالات القادمة إن شاء الله تعالى- نتناول وجها من وجوه إثبات عظمة هذه الرسالة وخيرية هذه الأمة، وهي مسألة تاريخ اليهود في ظلال الإسلام، لنرى كيف تعامل المسلمون مع قوم وصفهم القرآن الكريم بأنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، ومع هذا أمرهم بالعدل معهم والإحسان إليهم وحرَّم عليهم ظلمهم واضطهادهم. وسيبدو الأمر أكثر بروزا إذا ما قورن حال اليهود في ظل الإسلام والمسلمين بحالهم في ظل غيره من الدول والأمم.
منهج إلزام الحجة
وقد اخترنا أن نسلك في هذا البحث مسلكا صعبا، لكنه أبلغ حجة، إذ سنعرض لتاريخ اليهود في ظل الإسلام من خلال أقوال المستشرقين والمؤرخين الغربيين وحسب، ومن بين هؤلاء جملة من المتعصبين بل ومن اليهود والصهاينة أنفسهم، فيكون هذا من نوع {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26]، وقد سرنا في النقل هنا على هذا المنهج:
1. شمل النقل مستشرقين وغربيين من شتى الاتجاهات والعصور، لكن الذي يجمعهم أن أحدا منهم لم يدخل في الإسلام، وأن هذه المواد كلها كُتِبَتْ في زمان استضعاف المسلمين وسيادة الاستعمار (منذ القرن التاسع عشر حتى الآن) مما لا يمكن اتهامها بالنفاق أو التزلف، ثم إنها جميعا كُتِبَتْ في الأصل للغربيين فلا مجال فيها للمحاباة أو التجمل.. وذلك ليكون أبلغ في الحجة.
2. اكتفينا من النقل بموقع الشاهد من البحث ولم نعلق على شيء إلا في أحيان نادرة للغاية، وتركنا التعليق سواء أوافقنا المستشرق فيما قال أم خالفناه أم كان ثمة تحفظ، إذ لا يتسع المقام لمناقشة عميقة للرأي المفصل للمستشرق. والمقام هنا مقام إلزام بالحجة لا مقام تدقيق تاريخي في الوقائع وتحليلها.
3. أكثر المستشرقين بخيل في الإنصاف، فسرعان ما يلحق قوله بالاستثناء والاستدراك، أو أنه يصوغ عبارته من الأصل بحيث لا تؤدي معنى الإنصاف بوضوح، إلا أن حقائق التاريخ كانت أثبت من محاولاتهم، فنقلنا ما في كلامهم من اعتراف بهذه الحقائق إذ هو مقصود البحث، وتركنا مناقشة أساليبهم في التشغيب على الحقيقة لدراسة قادمة أكثر توسعا وتفصيلا إن شاء الله.
4. أثبتنا هنا ما كان فيه اليهود عبر التاريخ الإسلامي من سعة وحسن حال، بصرف النظر عما إن كانت السلطة تفعل هذا تنفيذا لأوامر الإسلام أم تجاوزا لها، إذ المقام هنا تاريخي لا شرعي، فكثيرا ما بزغ نجم اليهود في بعض الأحقاب حتى تسلطوا على المسلمين وبلغوا ما لا يجوز لهم شرعا من المكانة وتسببوا في أزمات وتوترات اجتماعية، فذكرنا في هذه الدراسة ذلك ولم نعلق على الأمر بحكم الشرع فيه.
5. والقصد من هذا البحث كله إثبات أن اليهود لم يتعرضوا لاضطهاد مخصوص في التاريخ الإسلامي لكونهم يهودا، ولم تمنعهم يهوديتهم من تولي الوظائف أو ممارسة الأنشطة أو الاقتراب من السلاطين.
6. اخترنا في العرض الأحقاب الكبرى في التاريخ الإسلامي: الراشدي والأموي والعباسي والعثماني، مع إلقاء ضوء على المغرب والأندلس، واخترنا من النقولات ما كان عاما على ما كان مفصلا أو جزئيا، وأدرجنا ما كان في دول صغيرة ضمن هذه الأحقاب الكبيرة طبقا لما يسمح به المقام.
المقارنة الكاشفة
قال اليهودي الصهيوني المصري إيلي ليفي أبو عسل في كتابه "يقظة العالم اليهودي" الذي هو بمثابة الدعاية للمشروع الصهيوني مُقِرًّا بالحقيقة التاريخية:
"لسنا نعجب إذا رأينا ذلك التسامح النبيل الذي تجلى من جانب العرب المسلمين نحو اليهود، ولسنا ندهش له، لأننا نرى له سببا طبيعيا وجنوحا غريزيا إليه، فهو مظهر من مظاهر الميل الفطري والعنصري لائتلاف طباعهم، وتلائم أميالهم ونزعاتهم، فكان العرب في كل مكان وزمان يعاشرون اليهود معاشرة قائمة على الإخلاص وحسن النية، ويجري اليهود معهم على منهج وفي قويم لا شائبة فيه ولا دنس، لذلك قلما كان يجد اليهود عطفا شريفا يضارع عطف العرب عليهم لدى الأمم الأخرى. فإذن لييس بعجيب إذا اندمج هذان العنصران، لأنهما خلقا من جوهر واحد، ونزلا من سلالة واحدة وهي سلالة إبراهيم عليه السلام... قضى ناموس الارتقاء وتنازع البقاء والانتخاب الطبيعي بشد أزر القوي وسحق الضعيف، ولما كان اليهود في كل مكان لم يُؤلفوا إلا أقليات ضئيلة، فكان طبيعيا أن وجودهم والحالة هذه لم يكن قائما على عوامل سياسية أو طبيعية، بل على روح تسامح الأهلين المتاخمين لهم"وذات الحقيقة يقررها المؤرخ الإسرائيلي المعروف صموئيل أتينجر، وهو أستاذ للتاريخ اليهودي بالجامعة العربية في القدس، فيقول:
"عاش يهود المشرق الإسلامي على مدى ما يقرب من ألف ومائتي عام تحت حكم الإسلام، وأطلق عليهم طيلة هذه الفترة اسم "أهل الذمة". وكان يحق لهم ممارسة شعائرهم الدينية في مقابل الجزية التي كانوا يدفعونها للسلطات التي كانت تتولى حماية ممتلكاتهم، واتسمت علاقة اليهود بالمجتمع المحيط بهم بقدر كبير من الاستقرار، ولكننا نستثني بالطبع بعض الحالات التي تعرض اليهود فيها لبعض المضايقات... وكان وضع يهود الشرق أفضل بكثير من وضع يهود أوروبا الذين اضطهدوا لأسباب سياسية واقتصادية ودينية، فكثيرا ما كانوا يُطردون من البلدان التي أقاموا فيها، في حين لم يتعرض يهود بلدان الشرق لنفس المصير"ومن سينظر إلى التاريخ سيجد، كما يقول المستشرق الألماني المعروف آدم متز، أن "أكبر فرق بين الإمبراطورية الإسلامية وبين أوروبا التي كانت كلها على المسيحية في العصور الوسطى وجود عدد هائل من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين"وما كان ذلك ليوجد لولا كلمة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] كما تفسر المستشرقة الألمانية الشهيرة زيجريد هونكه، والتي تضيف "وبناء على ذلك فإن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام. فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصبي الديني وأفظعها، سُمِح لهم جميعا دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى. أوليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال ومتى؟ ومن ذا الذي لم يتنفس الصعداء بعد الاضطهاد البيزنطي الصارخ وبعد فظائع الإسبان واضطهادات اليهود؟"والخلاصة، كما يجملها المستشرق وعالم الاجتماع الفرنسي الشهير جوستاف لوبون، هي أن "مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يَقُلْ بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سُنَّتِه، وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوربا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أنعموا النظر في تاريخ العرب" في المقال القادم إن شاء الله نبدأ باستعراض أحوال اليهود في عهود التاريخ الإسلامي، فالله المستعان.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية
أحمد (8952) والحاكم (4221) وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني (السلسة الصحيحة 45). إيلي ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، (القاهرة: دار الفضيلة، بدون تاريخ)، ص96، 97. صموئيل أتينجر، اليهود في البلدان الإسلامية، ترجمة: د. جمال أحمد الرفاعي، مراجعة: د. رشا عبد الله الشامي، سلسلة عالم المعرفة 197، (الكويت: المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، مايو 2001م)، ص45. آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، ط3 (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1957م)، 1/75. زيجريد هونكه، شمس الله تسطع على الغرب، ترجمة: فاروق بيضون وكمال دسوقي، ط10 (بيروت: دار صادر، 2002م)، ص364. جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م)، ص128.
في هذه المقال –والمقالات القادمة إن شاء الله تعالى- نتناول وجها من وجوه إثبات عظمة هذه الرسالة وخيرية هذه الأمة، وهي مسألة تاريخ اليهود في ظلال الإسلام، لنرى كيف تعامل المسلمون مع قوم وصفهم القرآن الكريم بأنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، ومع هذا أمرهم بالعدل معهم والإحسان إليهم وحرَّم عليهم ظلمهم واضطهادهم. وسيبدو الأمر أكثر بروزا إذا ما قورن حال اليهود في ظل الإسلام والمسلمين بحالهم في ظل غيره من الدول والأمم.
منهج إلزام الحجة
وقد اخترنا أن نسلك في هذا البحث مسلكا صعبا، لكنه أبلغ حجة، إذ سنعرض لتاريخ اليهود في ظل الإسلام من خلال أقوال المستشرقين والمؤرخين الغربيين وحسب، ومن بين هؤلاء جملة من المتعصبين بل ومن اليهود والصهاينة أنفسهم، فيكون هذا من نوع {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26]، وقد سرنا في النقل هنا على هذا المنهج:
1. شمل النقل مستشرقين وغربيين من شتى الاتجاهات والعصور، لكن الذي يجمعهم أن أحدا منهم لم يدخل في الإسلام، وأن هذه المواد كلها كُتِبَتْ في زمان استضعاف المسلمين وسيادة الاستعمار (منذ القرن التاسع عشر حتى الآن) مما لا يمكن اتهامها بالنفاق أو التزلف، ثم إنها جميعا كُتِبَتْ في الأصل للغربيين فلا مجال فيها للمحاباة أو التجمل.. وذلك ليكون أبلغ في الحجة.
2. اكتفينا من النقل بموقع الشاهد من البحث ولم نعلق على شيء إلا في أحيان نادرة للغاية، وتركنا التعليق سواء أوافقنا المستشرق فيما قال أم خالفناه أم كان ثمة تحفظ، إذ لا يتسع المقام لمناقشة عميقة للرأي المفصل للمستشرق. والمقام هنا مقام إلزام بالحجة لا مقام تدقيق تاريخي في الوقائع وتحليلها.
3. أكثر المستشرقين بخيل في الإنصاف، فسرعان ما يلحق قوله بالاستثناء والاستدراك، أو أنه يصوغ عبارته من الأصل بحيث لا تؤدي معنى الإنصاف بوضوح، إلا أن حقائق التاريخ كانت أثبت من محاولاتهم، فنقلنا ما في كلامهم من اعتراف بهذه الحقائق إذ هو مقصود البحث، وتركنا مناقشة أساليبهم في التشغيب على الحقيقة لدراسة قادمة أكثر توسعا وتفصيلا إن شاء الله.
4. أثبتنا هنا ما كان فيه اليهود عبر التاريخ الإسلامي من سعة وحسن حال، بصرف النظر عما إن كانت السلطة تفعل هذا تنفيذا لأوامر الإسلام أم تجاوزا لها، إذ المقام هنا تاريخي لا شرعي، فكثيرا ما بزغ نجم اليهود في بعض الأحقاب حتى تسلطوا على المسلمين وبلغوا ما لا يجوز لهم شرعا من المكانة وتسببوا في أزمات وتوترات اجتماعية، فذكرنا في هذه الدراسة ذلك ولم نعلق على الأمر بحكم الشرع فيه.
5. والقصد من هذا البحث كله إثبات أن اليهود لم يتعرضوا لاضطهاد مخصوص في التاريخ الإسلامي لكونهم يهودا، ولم تمنعهم يهوديتهم من تولي الوظائف أو ممارسة الأنشطة أو الاقتراب من السلاطين.
6. اخترنا في العرض الأحقاب الكبرى في التاريخ الإسلامي: الراشدي والأموي والعباسي والعثماني، مع إلقاء ضوء على المغرب والأندلس، واخترنا من النقولات ما كان عاما على ما كان مفصلا أو جزئيا، وأدرجنا ما كان في دول صغيرة ضمن هذه الأحقاب الكبيرة طبقا لما يسمح به المقام.
المقارنة الكاشفة
قال اليهودي الصهيوني المصري إيلي ليفي أبو عسل في كتابه "يقظة العالم اليهودي" الذي هو بمثابة الدعاية للمشروع الصهيوني مُقِرًّا بالحقيقة التاريخية:
"لسنا نعجب إذا رأينا ذلك التسامح النبيل الذي تجلى من جانب العرب المسلمين نحو اليهود، ولسنا ندهش له، لأننا نرى له سببا طبيعيا وجنوحا غريزيا إليه، فهو مظهر من مظاهر الميل الفطري والعنصري لائتلاف طباعهم، وتلائم أميالهم ونزعاتهم، فكان العرب في كل مكان وزمان يعاشرون اليهود معاشرة قائمة على الإخلاص وحسن النية، ويجري اليهود معهم على منهج وفي قويم لا شائبة فيه ولا دنس، لذلك قلما كان يجد اليهود عطفا شريفا يضارع عطف العرب عليهم لدى الأمم الأخرى. فإذن لييس بعجيب إذا اندمج هذان العنصران، لأنهما خلقا من جوهر واحد، ونزلا من سلالة واحدة وهي سلالة إبراهيم عليه السلام... قضى ناموس الارتقاء وتنازع البقاء والانتخاب الطبيعي بشد أزر القوي وسحق الضعيف، ولما كان اليهود في كل مكان لم يُؤلفوا إلا أقليات ضئيلة، فكان طبيعيا أن وجودهم والحالة هذه لم يكن قائما على عوامل سياسية أو طبيعية، بل على روح تسامح الأهلين المتاخمين لهم"وذات الحقيقة يقررها المؤرخ الإسرائيلي المعروف صموئيل أتينجر، وهو أستاذ للتاريخ اليهودي بالجامعة العربية في القدس، فيقول:
"عاش يهود المشرق الإسلامي على مدى ما يقرب من ألف ومائتي عام تحت حكم الإسلام، وأطلق عليهم طيلة هذه الفترة اسم "أهل الذمة". وكان يحق لهم ممارسة شعائرهم الدينية في مقابل الجزية التي كانوا يدفعونها للسلطات التي كانت تتولى حماية ممتلكاتهم، واتسمت علاقة اليهود بالمجتمع المحيط بهم بقدر كبير من الاستقرار، ولكننا نستثني بالطبع بعض الحالات التي تعرض اليهود فيها لبعض المضايقات... وكان وضع يهود الشرق أفضل بكثير من وضع يهود أوروبا الذين اضطهدوا لأسباب سياسية واقتصادية ودينية، فكثيرا ما كانوا يُطردون من البلدان التي أقاموا فيها، في حين لم يتعرض يهود بلدان الشرق لنفس المصير"ومن سينظر إلى التاريخ سيجد، كما يقول المستشرق الألماني المعروف آدم متز، أن "أكبر فرق بين الإمبراطورية الإسلامية وبين أوروبا التي كانت كلها على المسيحية في العصور الوسطى وجود عدد هائل من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين"وما كان ذلك ليوجد لولا كلمة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] كما تفسر المستشرقة الألمانية الشهيرة زيجريد هونكه، والتي تضيف "وبناء على ذلك فإن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام. فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصبي الديني وأفظعها، سُمِح لهم جميعا دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى. أوليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال ومتى؟ ومن ذا الذي لم يتنفس الصعداء بعد الاضطهاد البيزنطي الصارخ وبعد فظائع الإسبان واضطهادات اليهود؟"والخلاصة، كما يجملها المستشرق وعالم الاجتماع الفرنسي الشهير جوستاف لوبون، هي أن "مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يَقُلْ بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سُنَّتِه، وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوربا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أنعموا النظر في تاريخ العرب" في المقال القادم إن شاء الله نبدأ باستعراض أحوال اليهود في عهود التاريخ الإسلامي، فالله المستعان.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية
أحمد (8952) والحاكم (4221) وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني (السلسة الصحيحة 45). إيلي ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، (القاهرة: دار الفضيلة، بدون تاريخ)، ص96، 97. صموئيل أتينجر، اليهود في البلدان الإسلامية، ترجمة: د. جمال أحمد الرفاعي، مراجعة: د. رشا عبد الله الشامي، سلسلة عالم المعرفة 197، (الكويت: المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، مايو 2001م)، ص45. آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، ط3 (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1957م)، 1/75. زيجريد هونكه، شمس الله تسطع على الغرب، ترجمة: فاروق بيضون وكمال دسوقي، ط10 (بيروت: دار صادر، 2002م)، ص364. جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م)، ص128.
Published on November 14, 2017 02:10
November 8, 2017
عبد الله عامر.. المؤرخ النسابة رجل الأعمال والمخابرات
عبد الله بن عامر، هو أبو بكر الصديق.. استعملت الاسم المجهول في العنوان للتشويق، ولأني أحسب أن تلك السطور ستروي لك قصة مجهولة من سيرة أبي بكر.
مما لا يكاد يُلتفت إليه في سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه هو دوره وقيمته في لحظة بدء الدعوة.. لقد كان أبو بكر من أعظم نعم الله على نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولا يكاد أن تكون دعوة ولا داعية معه مثل أبي بكر إلا وكان نجاحه مسألة وقت.. كيف هذا؟
يورد أهل السير أن أبا بكر كان أعلم قريش بأنسابها وأيامها، وأنه كان تاجرا، سمح الأخلاق، إلفا مألوفا.
العلم بأنساب قريش وأيامها (أي: تاريخها) هو عِلْمٌ بخريطة قريش ومواقع النفوذ فيها، وعلم بالبطون والعشائر وأصولهم ومنازعاتهم ومحالفاتهم، ومعاركهم وثاراتهم، وطموحاتهم ومخاوفهم، وطباعهم وأخلاقهم، وما يُمْدَحون به وما يعاب عليهم، وما يتفاخرون به وما يستترون منه. ويعرف معادن رجالهم وأصحاب الشأن فيهم.
ومثل هذا حين يكون صاحب دعوة ورسالة يعرف بيسر وسهولة كيف يدخل بها على كل قوم، ومن منهم يُصطفى لها ومن منهم يُتَجَنَّبها، ويعرف كيف يخاطب كل قوم بها من جهة ما يجذبهم إليها. ثم هو بعد ذلك يعرف من أين يُتوقع أن يأتي الخطر والصد والرد والمواجهة، ومن المرشح أن يقف ضد تلك الدعوة والرسالة فيحاربها ويعاديها. ثم هو يعرف كيف تكون أساليب الرد عليه وتذكيره بالمثالب والمعايب واستعمالها في الحط منه والنكير عليه.
هنا نرى أبا بكر يمثل جهاز الأمن والمعلومات للدعوة الإسلامية الوليدة، الجهاز الذي يوفر لها المعلومة الصادقة الدقيقة، ولهذا ما إن سمع أبو بكر بالدعوة وصدقها حتى انطلق فجاء في الأيام الأولى بتسعة من المسلمين، ستة منهم من العشرة المبشرين بالجنة، بالإضافة إلى إسلام أسرته. أولئك النفر الذين أسلموا على يد أبي بكر هم أعمدة الإسلام الذين حملوه حتى فتح المشرق والمغرب. ما كان له أن يفعل هذا لولا ذلك العلم بالناس ومعادنهم!
وقد جرت الاستفادة من خريطة أبي بكر في خطاب الدعوة للناس، سواء في باب استمالتهم أو في باب رد عاديتهم، فمما روي في استمالتهم أنه كان يصحب النبي حين كان يعرض نفسه على القبائل، فتقدم إلى قبيلة فسألهم: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة.قال: وأي ربيعة أنتم أمن هامها أم من لهازمها؟ قالوا: بل من هامها العظمى. قال أبو بكر: فمن أي هامتها العظمى أنتم؟فقالوا: ذهل الأكبر.قال لهم أبو بكر: منكم عوف الذي كان يقال له لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا.قال: فمنكم بسطام بن قيس أبو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا.قال: فمنكم الحوفزان بن شريك قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا.قال: فمنكم جساس بن مرة بن ذهل حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا.قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا.قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا.قال: فأنتم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا.قال لهم أبو بكر رضي الله عنه: فلستم بذهل الأكبر بل أنتم من ذهل الأصغر".
وتسجل ذات الرواية بعد قليل دخولهم على قوم آخرين في "مجلس عليه السكينة الوقار، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات، فتقدم أبو بكر فسلَّم وقال: ممن القوم؟ قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة. فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم".
وأما في رد عاديتهم فقد كان شاعر الإسلام حسان بن ثابت إن أراد هجاء من يسبون رسول الله، راح إلى أبي بكر ليعرف أنسابهم وأيامهم، فيتخير من الألفاظ والوقائع والمعاني ما لا يقترب به من نسب رسول الله، إذ للنبي في قريش نسبا، فتعلم من أبي بكر ما يحتاج إليه ثم انطلق ليوقع بهم هجاء كان أشد عليهم من السهام.
في عصرنا هذا كان غياب الجهاز الأمني للحركة الإسلامية وحركات المقاومة هو أقوى وأخطر ثغراتهم التي أفضت إلى هزيمتهم وإفشالهم، وقد روى بعض رجال تلك الحركات أنه كان من شرط السماح للإخوان المسلمين في عصر مبارك بالبقاء هو ألا يكون لهم أي جهاز جمع معلومات ولو اقتصر فحسب على أحزاب المعارضة الأخرى (راجع للمزيد مقال: ما الذي ينقص الحركات الإسلامية لتنجح).
ومن المثير للأسى أن حركة تغيير أو مقاومة أو ثورة تفكر في مواجهة نظام وهي لا تعرف خريطة رجاله وتحالفاتهم وعلاقاتهم وخصوماتهم، ولا تعرف أهم خمسين اسم، أو أهم خمسين شركة، أو أهم خمسين موقع.. مثل تلك الحركة حركة عمياء! وكانوا قديما يضربون المثل بالملاكم القوي الضخم الذي يفقد قوته كلها إن وُضِعت الغمامة على عينه، فكيف إن كان الأعمى هو الملاكم الضعيف الذي يواجه الملاكم الضخم المبصر؟!
وكان ما لدى أبي بكر من العلم بالأنساب والأيام يجعله مركز شبكة العلاقات العامة للدعوة الإسلامية، كان يجتمع إليه صفوة الناس في قريش ونخبتهم على اختلاف قبائلهم، ورغم أن أبا بكر من قبيلة ضعيفة في قريش (قبيلة تيم بن مرة) إلا أن أثره كان ممتدا لسائر قريش. ولو دققنا في أسماء التسعة الأوائل الذين أسلموا على يده لوجدنا فيهم: عثمان بن عفان (من بني أمية بن عبد شمس) والزبير بن العوام (من بني أسد) وسعد بن أبي وقاص (من بني زهرة)، وأبو سلمة بن عبد الأسد (من بني مخزوم) وغيرهم. وليس من دعوة إلا وهي تحتاج رجالا في مواقع النفوذ والتأثير من مراكز قوى المجتمع، وتحتاج من يستطيعون الحديث عنها وشرحها والتنظير لها.
ثم إن موقع أبي بكر في عالم المال، لكونه واحدا من مشاهير تجار قريش، يمثل بمصطلح العصر "رجل الأعمال"، وهو بما له من قوة مالية أنفقها كلها في سبيل الدعوة، وتحرير من أسلم من العذاب والرق. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر له مواساته بالمال. وسيبدو واضحا أن عددا من أولئك الأوائل كانوا تجارا: عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، وجميعهم ممن كانت لهم مواقف مشهودة في نصرة الإسلام بأموالهم. وهذا الجانب أهم من أن نطيل الكلام فيه، فلا تكاد تكون قصة فشل في تاريخنا المعاصر إلا وكانت أزمة التمويل جانبا منها. فالممولون يتحكمون بالمنع والعطاء في التأثير والتوجيه وصناعة الفصائل والحزبيات والأجنحة والانشقاقات، حتى إن الثورات وحركات المقاومة تدفع من دمائها وأرواح شبابها في معارك خاسرة تحت ضغط الأموال.
بقي أن أبا بكر مع هذا كله كان إلفا مألوفا، حسن الخلق.. وإن الناس يحبون القرب من أهل المال وإن كان فيهم كبر وغلظة وجفاء، وكثير من الناس يحبون القرب من أهل العلم وإن كان فيهم كبر وغلظة وجفاء، فكيف إن اجتمع في رجل واحد: العلم والمال مع التواضع واللين وحسن الخلق؟!
تلك الجوانب من شخصية أبي بكر وأثرها في الدعوة ينبغي أن نركز عليها أكثر من التركيز على رقته ورحمته وبكائه حين يقرأ القرآن، فهذه مع أهميتها لكل مسلم إنما تعود على شخصه فحسب، ولم ينتفع الإسلام برقة أبي بكر وبكائه قدر ما انتفع بفهمه لخريطة واقعه وشبكة علاقاته وأمواله. ولا أحسب أن الأمة تعاني من نقص أهل الرحمة والرقة والبكاء قدر ما تعاني من نقص الكفاءة في تلك الثغرات الكبرى الخطيرة.
أراد أبو الحسن الندوي أن ينعي حال الأمة فجعل عنوان كتابه "ردَّةٌ ولا أبا بكر لها"، ولعله لو عاش زماننا هذا واكتشف أن كثيرا ممن بنى آماله عليهم لم يكونوا كما توقع لكتب كتابا آخر فسماه "دعوةٌ ولا أبا بكر فيها"!!
نشر في مدونات الجزيرة
مما لا يكاد يُلتفت إليه في سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه هو دوره وقيمته في لحظة بدء الدعوة.. لقد كان أبو بكر من أعظم نعم الله على نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولا يكاد أن تكون دعوة ولا داعية معه مثل أبي بكر إلا وكان نجاحه مسألة وقت.. كيف هذا؟
يورد أهل السير أن أبا بكر كان أعلم قريش بأنسابها وأيامها، وأنه كان تاجرا، سمح الأخلاق، إلفا مألوفا.
العلم بأنساب قريش وأيامها (أي: تاريخها) هو عِلْمٌ بخريطة قريش ومواقع النفوذ فيها، وعلم بالبطون والعشائر وأصولهم ومنازعاتهم ومحالفاتهم، ومعاركهم وثاراتهم، وطموحاتهم ومخاوفهم، وطباعهم وأخلاقهم، وما يُمْدَحون به وما يعاب عليهم، وما يتفاخرون به وما يستترون منه. ويعرف معادن رجالهم وأصحاب الشأن فيهم.
ومثل هذا حين يكون صاحب دعوة ورسالة يعرف بيسر وسهولة كيف يدخل بها على كل قوم، ومن منهم يُصطفى لها ومن منهم يُتَجَنَّبها، ويعرف كيف يخاطب كل قوم بها من جهة ما يجذبهم إليها. ثم هو بعد ذلك يعرف من أين يُتوقع أن يأتي الخطر والصد والرد والمواجهة، ومن المرشح أن يقف ضد تلك الدعوة والرسالة فيحاربها ويعاديها. ثم هو يعرف كيف تكون أساليب الرد عليه وتذكيره بالمثالب والمعايب واستعمالها في الحط منه والنكير عليه.
هنا نرى أبا بكر يمثل جهاز الأمن والمعلومات للدعوة الإسلامية الوليدة، الجهاز الذي يوفر لها المعلومة الصادقة الدقيقة، ولهذا ما إن سمع أبو بكر بالدعوة وصدقها حتى انطلق فجاء في الأيام الأولى بتسعة من المسلمين، ستة منهم من العشرة المبشرين بالجنة، بالإضافة إلى إسلام أسرته. أولئك النفر الذين أسلموا على يد أبي بكر هم أعمدة الإسلام الذين حملوه حتى فتح المشرق والمغرب. ما كان له أن يفعل هذا لولا ذلك العلم بالناس ومعادنهم!
وقد جرت الاستفادة من خريطة أبي بكر في خطاب الدعوة للناس، سواء في باب استمالتهم أو في باب رد عاديتهم، فمما روي في استمالتهم أنه كان يصحب النبي حين كان يعرض نفسه على القبائل، فتقدم إلى قبيلة فسألهم: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة.قال: وأي ربيعة أنتم أمن هامها أم من لهازمها؟ قالوا: بل من هامها العظمى. قال أبو بكر: فمن أي هامتها العظمى أنتم؟فقالوا: ذهل الأكبر.قال لهم أبو بكر: منكم عوف الذي كان يقال له لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا.قال: فمنكم بسطام بن قيس أبو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا.قال: فمنكم الحوفزان بن شريك قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا.قال: فمنكم جساس بن مرة بن ذهل حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا.قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا.قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا.قال: فأنتم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا.قال لهم أبو بكر رضي الله عنه: فلستم بذهل الأكبر بل أنتم من ذهل الأصغر".
وتسجل ذات الرواية بعد قليل دخولهم على قوم آخرين في "مجلس عليه السكينة الوقار، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات، فتقدم أبو بكر فسلَّم وقال: ممن القوم؟ قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة. فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم".
وأما في رد عاديتهم فقد كان شاعر الإسلام حسان بن ثابت إن أراد هجاء من يسبون رسول الله، راح إلى أبي بكر ليعرف أنسابهم وأيامهم، فيتخير من الألفاظ والوقائع والمعاني ما لا يقترب به من نسب رسول الله، إذ للنبي في قريش نسبا، فتعلم من أبي بكر ما يحتاج إليه ثم انطلق ليوقع بهم هجاء كان أشد عليهم من السهام.
في عصرنا هذا كان غياب الجهاز الأمني للحركة الإسلامية وحركات المقاومة هو أقوى وأخطر ثغراتهم التي أفضت إلى هزيمتهم وإفشالهم، وقد روى بعض رجال تلك الحركات أنه كان من شرط السماح للإخوان المسلمين في عصر مبارك بالبقاء هو ألا يكون لهم أي جهاز جمع معلومات ولو اقتصر فحسب على أحزاب المعارضة الأخرى (راجع للمزيد مقال: ما الذي ينقص الحركات الإسلامية لتنجح).
ومن المثير للأسى أن حركة تغيير أو مقاومة أو ثورة تفكر في مواجهة نظام وهي لا تعرف خريطة رجاله وتحالفاتهم وعلاقاتهم وخصوماتهم، ولا تعرف أهم خمسين اسم، أو أهم خمسين شركة، أو أهم خمسين موقع.. مثل تلك الحركة حركة عمياء! وكانوا قديما يضربون المثل بالملاكم القوي الضخم الذي يفقد قوته كلها إن وُضِعت الغمامة على عينه، فكيف إن كان الأعمى هو الملاكم الضعيف الذي يواجه الملاكم الضخم المبصر؟!
وكان ما لدى أبي بكر من العلم بالأنساب والأيام يجعله مركز شبكة العلاقات العامة للدعوة الإسلامية، كان يجتمع إليه صفوة الناس في قريش ونخبتهم على اختلاف قبائلهم، ورغم أن أبا بكر من قبيلة ضعيفة في قريش (قبيلة تيم بن مرة) إلا أن أثره كان ممتدا لسائر قريش. ولو دققنا في أسماء التسعة الأوائل الذين أسلموا على يده لوجدنا فيهم: عثمان بن عفان (من بني أمية بن عبد شمس) والزبير بن العوام (من بني أسد) وسعد بن أبي وقاص (من بني زهرة)، وأبو سلمة بن عبد الأسد (من بني مخزوم) وغيرهم. وليس من دعوة إلا وهي تحتاج رجالا في مواقع النفوذ والتأثير من مراكز قوى المجتمع، وتحتاج من يستطيعون الحديث عنها وشرحها والتنظير لها.
ثم إن موقع أبي بكر في عالم المال، لكونه واحدا من مشاهير تجار قريش، يمثل بمصطلح العصر "رجل الأعمال"، وهو بما له من قوة مالية أنفقها كلها في سبيل الدعوة، وتحرير من أسلم من العذاب والرق. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر له مواساته بالمال. وسيبدو واضحا أن عددا من أولئك الأوائل كانوا تجارا: عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، وجميعهم ممن كانت لهم مواقف مشهودة في نصرة الإسلام بأموالهم. وهذا الجانب أهم من أن نطيل الكلام فيه، فلا تكاد تكون قصة فشل في تاريخنا المعاصر إلا وكانت أزمة التمويل جانبا منها. فالممولون يتحكمون بالمنع والعطاء في التأثير والتوجيه وصناعة الفصائل والحزبيات والأجنحة والانشقاقات، حتى إن الثورات وحركات المقاومة تدفع من دمائها وأرواح شبابها في معارك خاسرة تحت ضغط الأموال.
بقي أن أبا بكر مع هذا كله كان إلفا مألوفا، حسن الخلق.. وإن الناس يحبون القرب من أهل المال وإن كان فيهم كبر وغلظة وجفاء، وكثير من الناس يحبون القرب من أهل العلم وإن كان فيهم كبر وغلظة وجفاء، فكيف إن اجتمع في رجل واحد: العلم والمال مع التواضع واللين وحسن الخلق؟!
تلك الجوانب من شخصية أبي بكر وأثرها في الدعوة ينبغي أن نركز عليها أكثر من التركيز على رقته ورحمته وبكائه حين يقرأ القرآن، فهذه مع أهميتها لكل مسلم إنما تعود على شخصه فحسب، ولم ينتفع الإسلام برقة أبي بكر وبكائه قدر ما انتفع بفهمه لخريطة واقعه وشبكة علاقاته وأمواله. ولا أحسب أن الأمة تعاني من نقص أهل الرحمة والرقة والبكاء قدر ما تعاني من نقص الكفاءة في تلك الثغرات الكبرى الخطيرة.
أراد أبو الحسن الندوي أن ينعي حال الأمة فجعل عنوان كتابه "ردَّةٌ ولا أبا بكر لها"، ولعله لو عاش زماننا هذا واكتشف أن كثيرا ممن بنى آماله عليهم لم يكونوا كما توقع لكتب كتابا آخر فسماه "دعوةٌ ولا أبا بكر فيها"!!
نشر في مدونات الجزيرة
Published on November 08, 2017 03:15
November 5, 2017
المغامرة الخطيرة
افتتاحية العدد الرابع من مجلة كلمة حق
كنت قبل أيام في مؤتمر منعقد باسطنبول، وقابلت طالب علم من إخواننا في تركستان الشرقية، سألته عن الطلبة التركستان الذين قبضت عليهم السلطات المصرية ورحلتهم إلى الصين، فأخبرني أن جميع أولئك قد حُكِم عليهم بالسجن عشرين سنة، وأن واحدًا منهم قُتِل تحت التعذيب، وسُلِّمت جثته لأهله. ثم شرع في الحديث عن أحوال المسلمين في التركستان، وهي مريرة مؤسفة، ويكفي أن يُعلم منها أن الصين ترى مجرد التعلم باللغة العربية دليلا على الإرهاب، وتهدم المساجد في القرى وتطارد سائر مظاهر الإسلام.
هذا الحادث دليل واحد، وهامشي، وبعيد من أدلة أن الانقلاب العسكري في مصر هو انقلاب على الإسلام، ففي أي تصور آخر –حتى بالمنظور الوطني العلماني- يعد تسليم طلبة الأزهر ضربا في مكانة مصر ونفوذها وقوتها الناعمة العريقة (الأزهر)، وهو ما لا تفسير له إلا أن تلك السلطة هي سلطة ضد الدين وضد البلد، هي على الحقيقة سلطة عميلة تخدم المصالح الإسرائيلية والغربية في المنطقة.
***
يضع كل محب لفلسطين وللمقاومة ولحماس يده على قلبه خوفا إزاء موضوع المصالحة الأخير، ذلك أنها مغامرة سياسية في غاية الخطورة، ونحن أمة حافلة بالتجارب التي تُثْبِت بسالتنا وبأسنا وشدتنا لكنها كثيرا ما تضيع في ساحة السياسة.
يعلم الجميع أن الفارق بين حماس وسلطة فتح هو نفسه الفارق بين الجهاد والعمالة، فمتى تصالح الجهاد مع الخيانة؟!ويمكن سوق الكثير من الأسباب التي نتفهم بها ما تفعله حماس، التي حملت عبئا مضاعفا في إدارة قطاع غزة لأحد عشر سنوات تحت حصار شيطاني، وفي ظل أربعة حروب إعجازية مع ميزان القوى المنهار بينها وبين إسرائيل المدعومة بالأنظمة العربية المجرمة والعميلة. مما جعل غزة تصنع بنية تحتية متينة للمقاومة الباسلة. ويعرف الجميع بمن فيهم حماس أن الهدف هو سلاحها وكوادرها، بل والكوادر أهم من السلاح.. وقد عانت إسرائيل في ظل تلك السنوات من سد منافذ العمالة التي مكنتها من إيقاع ضربات مؤلمة للمقاومة، وفاجأتها المقاومة بما لم تكن تحتسب.. فالآن لا هدف لها –ولعملائها في سلطة فتح، والنظام العسكري المصري- إلا الحصول من جديد على المعلومات وتجديد شبكة العملاء.
لنكن صرحاء.. إنه مهما بلغ نظام حماس الأمني فلا نظام بلا ثغرات، ولا يعرف التاريخ حركة لم يحدث فيها اختراق، وفتح غزة أمام سلطة فتح سيمثل عبئا ضخما إضافيا على نظام حماس الأمني لحماية نفسه، وهو عبء لا يمكن ضمان نجاعته في نهاية المطاف، لأن إسرائيل وفتح ومصر ستدفع إلى غزة بنخبتها الأمنية لتحقيق أهدافها بأسرع ما يمكن.
وقبل دقائق من بداية كتابة هذه السطور جاء الخبر بمحاولة فاشلة لاغتيال توفيق أبو حصين مدير الأمن الداخلي في قطاع غزة بتفخيخ سيارته. وقبلها بيوم واحد نشرت كتائب القسام خبرا عن وفاة القائد القسامي محمد أبو جزر في حادث سير! ولم تُنْشَر أي تفاصيل مما يجعله مفتوحا على كل التفسيرات. أي أن "ثمرات" المصالحة ظهرت قبل وقوع المصالحة نفسها. كما أن تصريحات يحيى السنوار منذ بدأ ملف المصالحة تزيد في المخاوف، ليس أولها تهديده بكسر من يعترض على المصالحة من أبناء حماس ولن يكون آخرها تصريحه المحتمل للتأويلات حول سلاح حماس ووضعه تحت إشراف مظلة جامعة، ومن جهة أخرى فازدياد تسرب أخبار عن تحول بعض العناصر القسامية إلى تنظيم ولاية سيناء (داعش) يؤشر على أزمة مكتومة تجري في الدهاليز بين عناصر حماس العسكرية وبين القرار السياسي.
على الجانب الآخر فتصريحات عباس صريحة في استهداف سلاح المقاومة، وهي التصريحات التي انزعج لها مدير المخابرات المصرية وطلب التوقف عنها مؤقتا، فأجيب إلى طلبه، ثم السكوت الإسرائيلي عن عرقلة المصالحة حتى وُقِّع إعلانها في القاهرة، ثم التصريح الفج للمجلس الوزاري المصغر. والأهم من هذا كله أن المشهد على الأرض لم يشهد تغيرا بل صدق عباس لما قال أنه لن يرفع إجراءاته العقابية عن إلا حين يتمكن منها فعليا.
هي إذن مغامرة كبيرة وتحتاج يقظة وانتباها وذكاءا بالغا في إدارتها، نسأل الله أن يوفقهم فيها ويعينهم عليها.
ثم يبقى السؤال الكبير قائما: إن المصالحة إما ستفشل على الأرض، أو أنها ستصل إلى النقطة الحرجة: نقطة سلاح المقاومة. وقبل ذلك ستكون بعض الأحداث قد أسفرت عن مدى النجاح في الانكشاف الأمني لكوادر القسام. وفي كل الأحوال ما الذي تملكه حماس في حال فشل المصالحة وبقاء الوضع في غزة على ما هو عليه؟!
لا يكاد يُرى في الأفق إلا ثلاث مسارات كبيرة:
1. الاستسلام والتخلي عن مشروع المقاومة، تحت إكراه الواقع العصيب، ثم التحول إلى نسخة جديدة من فتح2. الانفجار بوجه إسرائيل، وهي الحرب التي قد تكون انتحارية في حال وقعت بعدما حصل قدر من الانكشاف الأمني لقطاع غزة عبر زمن محاولة إنجاح المصالحة.3. الانفجار بوجه مصر، لمحاولة تصدير أزمة غزة إلى الجوار، لإجبار الأطراف المعنية لإعادة إحياء المصالحة وإيصال رسالة أن أزمة غزة لن تدفع غزة وحدها ثمنها.
نعم.. ربما جاء الوقت بأحداث تغير من المشهد، فتكون فائدة المصالحة أنها كسبت الوقت وأجلت الأزمة، إلا أنه لا ينبغي في أي حال الاعتماد على ما قد يأتي به الزمن.
***
لا يزال ابن سلمان ماضيا في جر السعودية إلى العلمانية والتطبيع مع اليهود.. كان نظام السعودية يمارس العلمانية والتطبيع بعيدا عن الشعب، فالنظام علماني، مشارك في كل ما يقتل المسلمين ويخمد ثوراتهم ويعيد تركيعهم للمستبدين.. وتلك سياسة السعودية على الأقل من بعد وفاة الملك فيصل، وإن كان كثير من الباحثين يمتد بها إلى سياسة الدولة السعودية الثالثة كلها.
الجديد هنا أن النظام السعودي خلع البرقع، ومضت وسائل إعلامه في هدم الدين وتسويق التطبيع مع إسرائيل صراحة.. وهو الثمن الذي يدفعه بن سلمان للأمريكان والإسرائيليين لتمكينه من عرش المملكة، أي أن الزلزال الذي تتعرض له السعودية له يشمل الأسرة المالكة كما يشمل عموم الجماهير، وهو ما يجعل البلاد على صفيح ساخن لا يُدْرَي من سينفجر أولا: الأسرة الحاكمة أم المجتمع، ولا من سيتلوه في الانفجار وكيف تتفاعل الأمور ويسند بعضها بعضا.
الواقع أنه ليس أصعب على المسلمين من تهدد بلاد الحرمين لمكانتهما في النفوس، والواقع أيضا أنه ربما لم يُجرم نظام في القرن الأخير بحق المسلمين كما أجرم نظام آل سعود، وبقدر ما يضع المرء كل مخاوفه على أمن الحرمين وأهل الحرمين، بقدر ما يبدو أن أي اختلال يصيب نظام آل سعود سيكون تنفيسا عن المسلمين في أماكن كثيرة.
قضى الله أن يهلك المجرمين بكيد من عند أنفسهم (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله)
نشر في مجلة كلمة حق
كنت قبل أيام في مؤتمر منعقد باسطنبول، وقابلت طالب علم من إخواننا في تركستان الشرقية، سألته عن الطلبة التركستان الذين قبضت عليهم السلطات المصرية ورحلتهم إلى الصين، فأخبرني أن جميع أولئك قد حُكِم عليهم بالسجن عشرين سنة، وأن واحدًا منهم قُتِل تحت التعذيب، وسُلِّمت جثته لأهله. ثم شرع في الحديث عن أحوال المسلمين في التركستان، وهي مريرة مؤسفة، ويكفي أن يُعلم منها أن الصين ترى مجرد التعلم باللغة العربية دليلا على الإرهاب، وتهدم المساجد في القرى وتطارد سائر مظاهر الإسلام.
هذا الحادث دليل واحد، وهامشي، وبعيد من أدلة أن الانقلاب العسكري في مصر هو انقلاب على الإسلام، ففي أي تصور آخر –حتى بالمنظور الوطني العلماني- يعد تسليم طلبة الأزهر ضربا في مكانة مصر ونفوذها وقوتها الناعمة العريقة (الأزهر)، وهو ما لا تفسير له إلا أن تلك السلطة هي سلطة ضد الدين وضد البلد، هي على الحقيقة سلطة عميلة تخدم المصالح الإسرائيلية والغربية في المنطقة.
***
يضع كل محب لفلسطين وللمقاومة ولحماس يده على قلبه خوفا إزاء موضوع المصالحة الأخير، ذلك أنها مغامرة سياسية في غاية الخطورة، ونحن أمة حافلة بالتجارب التي تُثْبِت بسالتنا وبأسنا وشدتنا لكنها كثيرا ما تضيع في ساحة السياسة.
يعلم الجميع أن الفارق بين حماس وسلطة فتح هو نفسه الفارق بين الجهاد والعمالة، فمتى تصالح الجهاد مع الخيانة؟!ويمكن سوق الكثير من الأسباب التي نتفهم بها ما تفعله حماس، التي حملت عبئا مضاعفا في إدارة قطاع غزة لأحد عشر سنوات تحت حصار شيطاني، وفي ظل أربعة حروب إعجازية مع ميزان القوى المنهار بينها وبين إسرائيل المدعومة بالأنظمة العربية المجرمة والعميلة. مما جعل غزة تصنع بنية تحتية متينة للمقاومة الباسلة. ويعرف الجميع بمن فيهم حماس أن الهدف هو سلاحها وكوادرها، بل والكوادر أهم من السلاح.. وقد عانت إسرائيل في ظل تلك السنوات من سد منافذ العمالة التي مكنتها من إيقاع ضربات مؤلمة للمقاومة، وفاجأتها المقاومة بما لم تكن تحتسب.. فالآن لا هدف لها –ولعملائها في سلطة فتح، والنظام العسكري المصري- إلا الحصول من جديد على المعلومات وتجديد شبكة العملاء.
لنكن صرحاء.. إنه مهما بلغ نظام حماس الأمني فلا نظام بلا ثغرات، ولا يعرف التاريخ حركة لم يحدث فيها اختراق، وفتح غزة أمام سلطة فتح سيمثل عبئا ضخما إضافيا على نظام حماس الأمني لحماية نفسه، وهو عبء لا يمكن ضمان نجاعته في نهاية المطاف، لأن إسرائيل وفتح ومصر ستدفع إلى غزة بنخبتها الأمنية لتحقيق أهدافها بأسرع ما يمكن.
وقبل دقائق من بداية كتابة هذه السطور جاء الخبر بمحاولة فاشلة لاغتيال توفيق أبو حصين مدير الأمن الداخلي في قطاع غزة بتفخيخ سيارته. وقبلها بيوم واحد نشرت كتائب القسام خبرا عن وفاة القائد القسامي محمد أبو جزر في حادث سير! ولم تُنْشَر أي تفاصيل مما يجعله مفتوحا على كل التفسيرات. أي أن "ثمرات" المصالحة ظهرت قبل وقوع المصالحة نفسها. كما أن تصريحات يحيى السنوار منذ بدأ ملف المصالحة تزيد في المخاوف، ليس أولها تهديده بكسر من يعترض على المصالحة من أبناء حماس ولن يكون آخرها تصريحه المحتمل للتأويلات حول سلاح حماس ووضعه تحت إشراف مظلة جامعة، ومن جهة أخرى فازدياد تسرب أخبار عن تحول بعض العناصر القسامية إلى تنظيم ولاية سيناء (داعش) يؤشر على أزمة مكتومة تجري في الدهاليز بين عناصر حماس العسكرية وبين القرار السياسي.
على الجانب الآخر فتصريحات عباس صريحة في استهداف سلاح المقاومة، وهي التصريحات التي انزعج لها مدير المخابرات المصرية وطلب التوقف عنها مؤقتا، فأجيب إلى طلبه، ثم السكوت الإسرائيلي عن عرقلة المصالحة حتى وُقِّع إعلانها في القاهرة، ثم التصريح الفج للمجلس الوزاري المصغر. والأهم من هذا كله أن المشهد على الأرض لم يشهد تغيرا بل صدق عباس لما قال أنه لن يرفع إجراءاته العقابية عن إلا حين يتمكن منها فعليا.
هي إذن مغامرة كبيرة وتحتاج يقظة وانتباها وذكاءا بالغا في إدارتها، نسأل الله أن يوفقهم فيها ويعينهم عليها.
ثم يبقى السؤال الكبير قائما: إن المصالحة إما ستفشل على الأرض، أو أنها ستصل إلى النقطة الحرجة: نقطة سلاح المقاومة. وقبل ذلك ستكون بعض الأحداث قد أسفرت عن مدى النجاح في الانكشاف الأمني لكوادر القسام. وفي كل الأحوال ما الذي تملكه حماس في حال فشل المصالحة وبقاء الوضع في غزة على ما هو عليه؟!
لا يكاد يُرى في الأفق إلا ثلاث مسارات كبيرة:
1. الاستسلام والتخلي عن مشروع المقاومة، تحت إكراه الواقع العصيب، ثم التحول إلى نسخة جديدة من فتح2. الانفجار بوجه إسرائيل، وهي الحرب التي قد تكون انتحارية في حال وقعت بعدما حصل قدر من الانكشاف الأمني لقطاع غزة عبر زمن محاولة إنجاح المصالحة.3. الانفجار بوجه مصر، لمحاولة تصدير أزمة غزة إلى الجوار، لإجبار الأطراف المعنية لإعادة إحياء المصالحة وإيصال رسالة أن أزمة غزة لن تدفع غزة وحدها ثمنها.
نعم.. ربما جاء الوقت بأحداث تغير من المشهد، فتكون فائدة المصالحة أنها كسبت الوقت وأجلت الأزمة، إلا أنه لا ينبغي في أي حال الاعتماد على ما قد يأتي به الزمن.
***
لا يزال ابن سلمان ماضيا في جر السعودية إلى العلمانية والتطبيع مع اليهود.. كان نظام السعودية يمارس العلمانية والتطبيع بعيدا عن الشعب، فالنظام علماني، مشارك في كل ما يقتل المسلمين ويخمد ثوراتهم ويعيد تركيعهم للمستبدين.. وتلك سياسة السعودية على الأقل من بعد وفاة الملك فيصل، وإن كان كثير من الباحثين يمتد بها إلى سياسة الدولة السعودية الثالثة كلها.
الجديد هنا أن النظام السعودي خلع البرقع، ومضت وسائل إعلامه في هدم الدين وتسويق التطبيع مع إسرائيل صراحة.. وهو الثمن الذي يدفعه بن سلمان للأمريكان والإسرائيليين لتمكينه من عرش المملكة، أي أن الزلزال الذي تتعرض له السعودية له يشمل الأسرة المالكة كما يشمل عموم الجماهير، وهو ما يجعل البلاد على صفيح ساخن لا يُدْرَي من سينفجر أولا: الأسرة الحاكمة أم المجتمع، ولا من سيتلوه في الانفجار وكيف تتفاعل الأمور ويسند بعضها بعضا.
الواقع أنه ليس أصعب على المسلمين من تهدد بلاد الحرمين لمكانتهما في النفوس، والواقع أيضا أنه ربما لم يُجرم نظام في القرن الأخير بحق المسلمين كما أجرم نظام آل سعود، وبقدر ما يضع المرء كل مخاوفه على أمن الحرمين وأهل الحرمين، بقدر ما يبدو أن أي اختلال يصيب نظام آل سعود سيكون تنفيسا عن المسلمين في أماكن كثيرة.
قضى الله أن يهلك المجرمين بكيد من عند أنفسهم (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله)
نشر في مجلة كلمة حق
Published on November 05, 2017 10:43
November 1, 2017
في مكافحة الوهم اللذيذ!
حجم الأزمة في أمتنا ضخمٌ، ضخمٌ بحجم الفارق بيننا وبين عدونا على سائر المستويات.. وأهم من إدراكنا لضخامة الفجوة إدراكنا لحجم المجهود الهائل الرهيب الذي نحتاج إلى إنفاقه وبذله كي نضيق تلك الفجوة ونصل إلى مستوى الندية التي تنقذنا من كوننا فريسة تُنْهَش وتؤكل وهي تعجز عن الرد.
لكن الأهم منها، وهو موضع كلامنا في تلك السطور، هو إدراك الحقيقة القائلة بأن المجهود الذي سنبذله والطاقة التي سننفقها لن تكون مجرد مجهود علمي لتضييق الفجوة العلمية، أو مجرد مجهود اقتصادي لتحقيق الاكتفاء أو الاستقلال الذاتي، أو مجرد مجهود ثقافي لتعزيز الهوية والانتماء ومحاربة الذوبان في الثقافة والأخلاق والقيم الغربية.. الحقيقة أن المجهود الأكبر سيكون كفاحا دمويا هائلا بكل معنى الكلمة! لأن الواقع ببساطة أن المحتل الأجنبي لن يتركنا ننهض وهو يتابع مجهودنا بإعجاب، بل سيستعمل كل أسلحته لمحو وإجهاض وإخماد كل محاولة نهضة واستقلال.
مجرد إدراكنا أن بيننا وبين النهضة صراع دموي كبير هو تقدم على مستوى الوعي.. وهو وعي فارق على مستوى التصور وطريقة الإعداد ونوع الحركة.
يروي أمين الحسيني في مذكراته واقعة حدثت في الأربعينات، حيث كان يحاول مع الألمان إعلان دعمهم لوحدة الدول المغربية التي تقع تحت الاحتلال الفرنسي في ظل الحرب العالمية الثانية، ففوجئ بوكيل وزارة الخارجية الألماني للشؤون الشرقية يخبره بأن هذا ليس من مصلحة ألمانيا، فحاول أمين الحسيني التلويح بورقة لجوء تلك الدول للشيوعية طلبا للاستقلال، ففوجيء به يقول له:
"هذه الدول الأوروبية ترى أن الإسلام أشد خطرا عليها من الشيوعية، لأن الشيوعية تمكن معالجتها وصد خطرها برفع مستوى المعيشة في الشعوب وتوزيع العدل الاجتماعي وغير ذلك من الوسائل، بينما ترى هذه الدول في الإسلام عقيدة زاحفة يُخْشَى خطرها على أوروبا التي نخرت المدنية الفاسدة عظامها، وأضعفت نواحيها الخلقية والروحية والعسكرية، فهم يخشون إذا تألفت هذه الدولة المغربية المتحدة أن يكون لها شأن عظيم، ويتوهمون أنها لا تلبث أن تثب على أوروبا مرة أخرى ويعيد التاريخ نفسه". (مذكرات أمين الحسيني ص120).
لقد قيل هذا الكلام وقت أن كان العرب صفرا في ميزان القوى الدولية، وقت أن كانوا تحت الاحتلال الغربي، ووقت أن كان الصراع العالمي لا يعبأ بالمسلمين بل يستخدم أراضيهم ومواردهم ورجالهم في حروبه!
تلك الكلمات تتردد في كتابات صناع القرار حتى الآن، ومن يتابع –مثلا- مقالات جورج فريدمان، مدير ستراتفور، لن يجد منه سوى منطق الإنهاء والإبادة، فلولا أنه كان من الأمريكان لقال الناس: هذا أشد من داعش وأشرس وأخطر.
والشاهد المقصود أن الغرب لن يقف متفرجا علينا يتابع صعودنا بإعجاب، ومن هنا فإن بذل المحاولات البنائية في أبواب الاقتصاد والثقافة والتقنية ستظل جميعها نفخا في الهواء ما لم تكن مبذولة في تحقيق التحرر والاستقلال، في باب خوض المعركة المفروضة علينا والتي ستشتد فصولها كلما بدا أننا نتقدم.
ها نحن كما يرى الجميع.. لا يطرف للغرب جفن ولا يتألم له ضمير أمام ما يجري في سوريا أو ليبيا أو اليمن، أو ما جرى في مصر.. لا بأس على الإطلاق بمقتل الملايين وتدمير البلاد وتشريد عشرات الملايين واكتظاظ السجون مقابل ألا تخرج من بلد من تلك البلاد عن هيمنته وسيطرته! ولتذهب سائر أدبيات حقوق الإنسان إلى الجحيم.
التحرر أولا..
يجب أن تنفق كل الطاقات في سبيله، كل المجهود العلمي، كل الأفكار المبدعة، كل الموارد الاقتصادية، كل الأساليب الدعوية.. إلخ!
ولئن أُنْفِقَ أي شيء من هذا في غير معركة التحرر فلن يكون مصير صاحبه إلا قتيلا أو سجينا أو طريدا أو واحدا من رجال الغرب الذي يُستغل مجهوده لخدمة الحضارة الغربية ذاتها.. تلك هي الخيارات التي لن يجد عاملٌ لمصلحة الأمة غيرها.
حتى لو اعتنقنا الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية لن ننجح، ومن حاولوا ذلك لم ينجحوا في مصر وفوجئوا بانقلاب عسكري يدهس الديمقراطية وحقوق الإنسان بدعم الغرب وإذنه وتأييده، ذلك أن المنظومة الرأسمالية بطبيعتها لا تنجح مع حاكم "وطني" حريص على مصلحة بلاده حتى لو لم يكن مسلما، بل لا بد لها من الحاكم الفاسد المستعد لبيع البلد والأجيال لأجل مصلحته (ويراجع هنا كتاب الاغتيال الاقتصادي للأمم لجون بيركنز)، فكيف إن كان مسلما وصالحا وتسكن عروقه أحلام بعث حضاري جديد؟!
أكثر ما نحتاجه هو الإفاقة من الوهم.. من هذا الخدر اللذيذ الذي يتسرب إلى أرواحنا وأفكارنا.. الإفاقة من التصور الساذج الذي يتوهم أننا قد نحقق النهضة دون أن نمر بالملاحم الهائلة التي عبرت عليها كل الدول التي حققت استقلالها ثم نهضت.
إنه بقدر ما أن قرار الاستسلام للاستبداد والاحتلال هو أسهل شيء على الإطلاق، بقدر ما أن قرار المقاومة هو أصعب شيء أيضا. لأن معركتنا على الحقيقية ليست مجرد معركة شعب ضد حاكم، بل ولا معركة أمة ضد منظومة حكم، بل هي المعركة الحضارية العالمية لأن أمتنا تواجه استبدادا صنعه ودعمه ويسنده الاحتلال والنظام العالمي نفسه. فهي معركة ثقيلة ثقل الهيمنة العالمية، متسعة اتساع الجغرافيا، عميقة عمق التاريخ، شرسة شراسة الاستبداد والاحتلال معا.
وإنه بقدر ما تحتاج تلك المعركة إلى المجهودات الهائلة، بقدر ما يكون ضياع تلك المجهودات في غيرها خسارة مرتين: خسارة إنفاقها في غير طائل، وخسارة حرمان الأمة منها في معركتها الأساسية.
ولولا أن الله وعد عباده بالنصر لكان اليأس سيد الموقف! ولولا أن الله وعد أن الأمة لن تهلك بسنة عامة ولا بتسليط عدو عليها يستأصل شأفتها لما شككنا أن ذلك قريب! ولولا أن الله يُجازي من بذل واجتهد وإن لم يدرك النتيجة لما بذل أحد في هذا الظرف دينارا ولا قنطارا ولا نقيرا ولا قطميرا!
الإيمان بقضاء الله وقدره ووعده إيمان مثير للهمم، أو كما يقول جارودي:
"سوف يكون غريبا اعتبار عقيدة -قادت المسلمين في غضون ثلاثة أرباع القرن إلى تجديد أربع حضارات كبرى، وإلى الإشعاع على نصف العالم- عقيدة قدرية منقادة، هذه الدينامية في الفكر والعمل هي عكس القدرية؛ لقد اقتادت ملايين الناس إلى التأكد من أنه كان يمكنهم أن يعيشوا على نحو آخر" (وعود الإسلام ص32، 33)
أو بعبارة أخرى يقول ولفرد كانتول سميث، واصفا طبيعة الإسلام:
"النصرانية أرجأت تحقيق ملكوت الرب إلى الآخرة، على اعتبار أنه مستحيل التحقيق في الحياة الدنيا، لأن الإنسان خاطئ بطبعه، قاصر بطبعه، معوج بطبعه، فلا يمكن أن يستقيم. أما الإسلام فقد اعتبر تحقيق ملكوت الله هو مهمة الإنسان في الحياة الدنيا لا في الآخرة، ولذلك يسعى المسلمون دائما إلى محاولة تطبيقه، وإلى تقويم عجلة التاريخ كلما انحرفت عن الطريق ولو ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك، ومن ثم فإن التضحية في الإسلام له حصيلة إيجابية في واقع الأرض هي محاولة تقويم هذا الواقع وإصلاح ما اعوج منه، بينما التضحية في النصرانية ذات مفهوم سلبي، مؤداه أن يقف النصراني أمام عجلة التاريخ المنحرفة لا ليقومها ولكن لتدوسه وهو واقف مكانه، فهو يفضل أن تدوسه العجلة وتقتله على أن يسمح لها أن تتجاوزه وهي منحرفة، ولكنه لا يبذل جهدا لتصحيح مسارها وردها إلى الصراط المستقيم" (الإسلام في التاريخ الحديث، ص9)
ولهذا فالمسلم في بذل دائم، والثوار المجاهدون في الأمة لا يُؤْتَوْن عادة من قلة بذلهم، بل من بذلهم في غير الهدف أو بغير الوسيلة الصحيحة.. إنها مشكلة نضج ورشد ووعي لا مشكلة فقر في البسالة والشجاعة والفداء. والوهم بأننا يمكن أن نعبر إلى التحرر والنهضة بلا ملاحم كبرى، كالوهم بأننا يمكن أن نعبر الملاحم الكبرى بمجرد البسالة والشجاعة والفداء!
إننا في حاجة لمكافحة الوهم.. الوهم الذي يداعب خيالنا كي يلقينا بعيدا عن المسار الصحيح!
نشر في مدونات الجزيرة
لكن الأهم منها، وهو موضع كلامنا في تلك السطور، هو إدراك الحقيقة القائلة بأن المجهود الذي سنبذله والطاقة التي سننفقها لن تكون مجرد مجهود علمي لتضييق الفجوة العلمية، أو مجرد مجهود اقتصادي لتحقيق الاكتفاء أو الاستقلال الذاتي، أو مجرد مجهود ثقافي لتعزيز الهوية والانتماء ومحاربة الذوبان في الثقافة والأخلاق والقيم الغربية.. الحقيقة أن المجهود الأكبر سيكون كفاحا دمويا هائلا بكل معنى الكلمة! لأن الواقع ببساطة أن المحتل الأجنبي لن يتركنا ننهض وهو يتابع مجهودنا بإعجاب، بل سيستعمل كل أسلحته لمحو وإجهاض وإخماد كل محاولة نهضة واستقلال.
مجرد إدراكنا أن بيننا وبين النهضة صراع دموي كبير هو تقدم على مستوى الوعي.. وهو وعي فارق على مستوى التصور وطريقة الإعداد ونوع الحركة.
يروي أمين الحسيني في مذكراته واقعة حدثت في الأربعينات، حيث كان يحاول مع الألمان إعلان دعمهم لوحدة الدول المغربية التي تقع تحت الاحتلال الفرنسي في ظل الحرب العالمية الثانية، ففوجئ بوكيل وزارة الخارجية الألماني للشؤون الشرقية يخبره بأن هذا ليس من مصلحة ألمانيا، فحاول أمين الحسيني التلويح بورقة لجوء تلك الدول للشيوعية طلبا للاستقلال، ففوجيء به يقول له:
"هذه الدول الأوروبية ترى أن الإسلام أشد خطرا عليها من الشيوعية، لأن الشيوعية تمكن معالجتها وصد خطرها برفع مستوى المعيشة في الشعوب وتوزيع العدل الاجتماعي وغير ذلك من الوسائل، بينما ترى هذه الدول في الإسلام عقيدة زاحفة يُخْشَى خطرها على أوروبا التي نخرت المدنية الفاسدة عظامها، وأضعفت نواحيها الخلقية والروحية والعسكرية، فهم يخشون إذا تألفت هذه الدولة المغربية المتحدة أن يكون لها شأن عظيم، ويتوهمون أنها لا تلبث أن تثب على أوروبا مرة أخرى ويعيد التاريخ نفسه". (مذكرات أمين الحسيني ص120).
لقد قيل هذا الكلام وقت أن كان العرب صفرا في ميزان القوى الدولية، وقت أن كانوا تحت الاحتلال الغربي، ووقت أن كان الصراع العالمي لا يعبأ بالمسلمين بل يستخدم أراضيهم ومواردهم ورجالهم في حروبه!
تلك الكلمات تتردد في كتابات صناع القرار حتى الآن، ومن يتابع –مثلا- مقالات جورج فريدمان، مدير ستراتفور، لن يجد منه سوى منطق الإنهاء والإبادة، فلولا أنه كان من الأمريكان لقال الناس: هذا أشد من داعش وأشرس وأخطر.
والشاهد المقصود أن الغرب لن يقف متفرجا علينا يتابع صعودنا بإعجاب، ومن هنا فإن بذل المحاولات البنائية في أبواب الاقتصاد والثقافة والتقنية ستظل جميعها نفخا في الهواء ما لم تكن مبذولة في تحقيق التحرر والاستقلال، في باب خوض المعركة المفروضة علينا والتي ستشتد فصولها كلما بدا أننا نتقدم.
ها نحن كما يرى الجميع.. لا يطرف للغرب جفن ولا يتألم له ضمير أمام ما يجري في سوريا أو ليبيا أو اليمن، أو ما جرى في مصر.. لا بأس على الإطلاق بمقتل الملايين وتدمير البلاد وتشريد عشرات الملايين واكتظاظ السجون مقابل ألا تخرج من بلد من تلك البلاد عن هيمنته وسيطرته! ولتذهب سائر أدبيات حقوق الإنسان إلى الجحيم.
التحرر أولا..
يجب أن تنفق كل الطاقات في سبيله، كل المجهود العلمي، كل الأفكار المبدعة، كل الموارد الاقتصادية، كل الأساليب الدعوية.. إلخ!
ولئن أُنْفِقَ أي شيء من هذا في غير معركة التحرر فلن يكون مصير صاحبه إلا قتيلا أو سجينا أو طريدا أو واحدا من رجال الغرب الذي يُستغل مجهوده لخدمة الحضارة الغربية ذاتها.. تلك هي الخيارات التي لن يجد عاملٌ لمصلحة الأمة غيرها.
حتى لو اعتنقنا الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية لن ننجح، ومن حاولوا ذلك لم ينجحوا في مصر وفوجئوا بانقلاب عسكري يدهس الديمقراطية وحقوق الإنسان بدعم الغرب وإذنه وتأييده، ذلك أن المنظومة الرأسمالية بطبيعتها لا تنجح مع حاكم "وطني" حريص على مصلحة بلاده حتى لو لم يكن مسلما، بل لا بد لها من الحاكم الفاسد المستعد لبيع البلد والأجيال لأجل مصلحته (ويراجع هنا كتاب الاغتيال الاقتصادي للأمم لجون بيركنز)، فكيف إن كان مسلما وصالحا وتسكن عروقه أحلام بعث حضاري جديد؟!
أكثر ما نحتاجه هو الإفاقة من الوهم.. من هذا الخدر اللذيذ الذي يتسرب إلى أرواحنا وأفكارنا.. الإفاقة من التصور الساذج الذي يتوهم أننا قد نحقق النهضة دون أن نمر بالملاحم الهائلة التي عبرت عليها كل الدول التي حققت استقلالها ثم نهضت.
إنه بقدر ما أن قرار الاستسلام للاستبداد والاحتلال هو أسهل شيء على الإطلاق، بقدر ما أن قرار المقاومة هو أصعب شيء أيضا. لأن معركتنا على الحقيقية ليست مجرد معركة شعب ضد حاكم، بل ولا معركة أمة ضد منظومة حكم، بل هي المعركة الحضارية العالمية لأن أمتنا تواجه استبدادا صنعه ودعمه ويسنده الاحتلال والنظام العالمي نفسه. فهي معركة ثقيلة ثقل الهيمنة العالمية، متسعة اتساع الجغرافيا، عميقة عمق التاريخ، شرسة شراسة الاستبداد والاحتلال معا.
وإنه بقدر ما تحتاج تلك المعركة إلى المجهودات الهائلة، بقدر ما يكون ضياع تلك المجهودات في غيرها خسارة مرتين: خسارة إنفاقها في غير طائل، وخسارة حرمان الأمة منها في معركتها الأساسية.
ولولا أن الله وعد عباده بالنصر لكان اليأس سيد الموقف! ولولا أن الله وعد أن الأمة لن تهلك بسنة عامة ولا بتسليط عدو عليها يستأصل شأفتها لما شككنا أن ذلك قريب! ولولا أن الله يُجازي من بذل واجتهد وإن لم يدرك النتيجة لما بذل أحد في هذا الظرف دينارا ولا قنطارا ولا نقيرا ولا قطميرا!
الإيمان بقضاء الله وقدره ووعده إيمان مثير للهمم، أو كما يقول جارودي:
"سوف يكون غريبا اعتبار عقيدة -قادت المسلمين في غضون ثلاثة أرباع القرن إلى تجديد أربع حضارات كبرى، وإلى الإشعاع على نصف العالم- عقيدة قدرية منقادة، هذه الدينامية في الفكر والعمل هي عكس القدرية؛ لقد اقتادت ملايين الناس إلى التأكد من أنه كان يمكنهم أن يعيشوا على نحو آخر" (وعود الإسلام ص32، 33)
أو بعبارة أخرى يقول ولفرد كانتول سميث، واصفا طبيعة الإسلام:
"النصرانية أرجأت تحقيق ملكوت الرب إلى الآخرة، على اعتبار أنه مستحيل التحقيق في الحياة الدنيا، لأن الإنسان خاطئ بطبعه، قاصر بطبعه، معوج بطبعه، فلا يمكن أن يستقيم. أما الإسلام فقد اعتبر تحقيق ملكوت الله هو مهمة الإنسان في الحياة الدنيا لا في الآخرة، ولذلك يسعى المسلمون دائما إلى محاولة تطبيقه، وإلى تقويم عجلة التاريخ كلما انحرفت عن الطريق ولو ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك، ومن ثم فإن التضحية في الإسلام له حصيلة إيجابية في واقع الأرض هي محاولة تقويم هذا الواقع وإصلاح ما اعوج منه، بينما التضحية في النصرانية ذات مفهوم سلبي، مؤداه أن يقف النصراني أمام عجلة التاريخ المنحرفة لا ليقومها ولكن لتدوسه وهو واقف مكانه، فهو يفضل أن تدوسه العجلة وتقتله على أن يسمح لها أن تتجاوزه وهي منحرفة، ولكنه لا يبذل جهدا لتصحيح مسارها وردها إلى الصراط المستقيم" (الإسلام في التاريخ الحديث، ص9)
ولهذا فالمسلم في بذل دائم، والثوار المجاهدون في الأمة لا يُؤْتَوْن عادة من قلة بذلهم، بل من بذلهم في غير الهدف أو بغير الوسيلة الصحيحة.. إنها مشكلة نضج ورشد ووعي لا مشكلة فقر في البسالة والشجاعة والفداء. والوهم بأننا يمكن أن نعبر إلى التحرر والنهضة بلا ملاحم كبرى، كالوهم بأننا يمكن أن نعبر الملاحم الكبرى بمجرد البسالة والشجاعة والفداء!
إننا في حاجة لمكافحة الوهم.. الوهم الذي يداعب خيالنا كي يلقينا بعيدا عن المسار الصحيح!
نشر في مدونات الجزيرة
Published on November 01, 2017 01:52
October 25, 2017
جريمة القصاص من أبطال التعذيب الوطني!
"من أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب ناموس، وهو كالحيوان المملوك العنان، يُقاد حيث يُراد، ويعيش كالريش، يهبُّ، حيث يهبُّ الريح، لا نظام ولا إرادة؟ وما هي الإرادة؟ هي أمُّ الأخلاق"
الكواكبي***
لم يُعرف حتى الآن الجهة التي قامت بعملية الواحات التي أسفرت عن إبادة صفوة من ضباط أمن الدولة وضباط القوات الخاصة في أكبر عملية في تاريخ جهاز أمن الدولة المصري. ومع ذلك فالتوقع الذي ينطلق منه الجميع لمناقشة الموضوع أنها حركة إسلامية جهادية.
لا بأس.. سننطلق مع الجميع من هذه النقطة لنحاول فهم المواقف الغريبة التي تدين عملية الواحات وتصف من سقطوا فيها بالشهداء.
إن كانت المجموعة من الإسلاميين فماذا بإمكان أي إسلامي في دولة مثل مصر أن يفعل الآن للاعتراض على النظام الحاكم؟!
نظام عسكري، انقلب على الديمقراطية واختيار الشعب، وبدأ عصر المذابح والمجازر غير المسبوقة، وافتتح عهد الإعدامات الجماعية لدرجة أن أحد قضاته حكم بالإعدام على أكثر من ستمائة في جلسة واحدة، لا مجال لممارسة معارضة سياسية، لا صحف ولا قنوات معارضة مسموح بها، بل منظمات حقوق الإنسان العلمانية نفسها جرى إغلاقها وإجبار رموزها –العلمانيين المؤيدين للانقلاب العسكري- على البقاء في البيوت، المظاهرات السلمية ووجهت بالنار، الاعتصامات السلمية هوجمت بالمدرعات والطائرات والقناصة. اللجوء للنائب العام أو القضاء لاستعادة الحقوق في مصر هو محض خرافة وبلاهة، لا يكاد يمر الأسبوع حتى تسمع بحادثة تصفية بلا محاكمات!
ماذا بقي أمام من يعارض النظام أن يفعل؟!
الغريب أن من كتبوا وأكثروا من الكتابة محذرين ومنبهين: العنف يولد العنف، والضغط يولد الانفجار، وسد المنافذ أمام المعارضة يحولها إلى العمل السري المسلح.. إلخ. الغريب أن هؤلاء طفقوا يدينون عملية الواحات!! كيف يُلام من ليس أمامه إلا سبيل واحد فسلكه؟!
*** لا خيل عندك تهديها ولا مالُ .. فليُسْعِد النطق إن لم يُسْعد الحال المتنبي ***
وأولئك الذين قُتلوا في العملية هم أبشع أدوات النظام العسكري وأشدها وحشية وشراسة.. هم الذين يرتكبون جرائم التعذيب والتصفية والإخفاء القسري ويكتبون الأحكام القضائية ثم يبلغونها للقاضي "الشامخ" عبر الهاتف، فيمارس الأخير وظيفته في تحويل رغبتهم إلى صياغة قانونية تنتهي إلى قتل الناس أو حبسهم بالمؤبدات. ترى في أي تنظير ثوري وُصِف جنود الديكتاتورية ورموز جرائمها بأنهم شهداء؟!
ثم إنهم خرجوا في عملية سيمارسون فيها القتل أيضا، أي أن التوصيف الخالي من أي نظرة أخلاقية ومن أي اعتبار آخر يفضي إلى أن مجموعة من القتلة واجهوا مجموعة أخرى فتغلبت إحداهما على الأخرى.. لا معنى هنا لأي توصيف يجعلهم شهداء.. حتى بالتوصيف القانوني العلماني الوطني نفسه، لقد كانت مهمتهم خارج إطار القانون وضماناته، ولم يكونوا ليلتزموا مع ضحاياهم –إن ظفروا بهم- بأية ضمانات قانونية أو حتى أعراف أخلاقية!
ومن يدري؟ لربما كانت هذه المجموعة –المجهولة حتى لحظة كتابة هذه السطور، والتي ما زلنا نتوقع مع المتوقعين أنهم حركة جهادية- من ضحايا التعذيب والسجون على يد نفس تلك المجموعة من ضباط أمن الدولة والقوات الخاصة.. في أي عرف أخلاقي يمكن إدانة ضحية التعذيب إن وجد فرصة للانتقام ممن عذبه وضيع سنوات عمره خلف السجون، وربما ارتكب فوق هذا ما لا يُعرف ولا يُكشف عنه من ترويع الأهل وانتهاك الحرمات.. في أي عرف يمكن إدانة هذا؟!
*** "وأحذرك من الدماء، والدخول فيها والتقلُّد لها، فإن الدم لا ينام" صلاح الدين الأيوبي ***
بعض الشباب تعرف في وجوه الضباط على من عذبوهم ونشروا شهاداتهم على ما وقع عليهم.. وهو غيض من فيض وقطرة من بحر! ولكم جرت في الليالي دموع الأمهات والزوجات والأبناء، وكم خرجت الدعوات المحترقة المكتومة المقهورة تشكو إلى الله ضعف القوة وقلة الحيلة والهوان على الناس والعجز أمام فجور السلطة التي لا تتعامل مع البشر إلا كحشرات تسحقهم بلا تردد ولا حتى شعور بألم في الضمير!
هل صار اقتصاص المظلوم المقهور الذي أغلقت أمامه كل الأبواب جريمة مُدانة؟!
هل صارت ممارسة التعذيب والقتل عملا وطنيا بطوليا يوصف مرتكبوه بالشهداء؟!
إن كثيرا من المحسوبين على صف الثورة يسكنهم في أعماق نفوسهم وفي تلافيف عقولهم منطق وفلسفة النظام الذي يزعمون انهم يثورون عليه! بل هذا في الحقيقة هو أهم وأخطر أسباب إخفاق الثورة حتى الآن، لقد تم تسليم الثورة لجيش النظام (بزعم أنه المؤسسة الوطنية وعمود الخيمة!) ولقضاء النظام (الشامخ النزيه) بل ولإعلام النظام (بدعوى حرية الإعلام) ثم لشرطة النظام (المحمولين على الأعناق في ثورة 30 يونيو).. فما النتيجة؟!
النتيجة: عاد النظام بأشرس وأغلظ وأقبح مما كان، وسكن الثوار السجون والقبور والمنافي!
المدهش أن بعض الناس في السجون والمنافي لا زالوا يفكرون بعد كل ما نزل بهم، بنفس المنطق الذي فكروا به ليلة التنحي ولا كأن انقلابا كان ولا كأن بحار دماء قد سالت!
ولست أدري أهو جهل بطبيعة الثورات ومقاومة الأنظمة المستبدة من آثار التعليم الفاسد الذي نتعاطاه في مدارس وصحف وكتب النظام؟ أم هي أزمة نفسية لمن لم يعرف في حياته سوى ممارسة المعارضة بالمقالات والهاشتجات وكان أخطر ما قام به اعتصام سلمي يوما ما؟!
ألا من كان مُسْتنًا في ثورته بأحد فليستنَّ بثوار نجحوا.. فلا يُلدغ المؤمن من "نخبة" واحدة مرتين!
*** "الاستبداد يستولي على تلك العقول الضعيفة فضلاً عن الأجسام فيفسدها كما يريد، ويتغلّب على تلك الأذهان الضئيلة، فيشوش فيها الحقائق، بل البديهيات كما يهوى"
الكواكبي
نشر في مدونات الجزيرة
لم يُعرف حتى الآن الجهة التي قامت بعملية الواحات التي أسفرت عن إبادة صفوة من ضباط أمن الدولة وضباط القوات الخاصة في أكبر عملية في تاريخ جهاز أمن الدولة المصري. ومع ذلك فالتوقع الذي ينطلق منه الجميع لمناقشة الموضوع أنها حركة إسلامية جهادية.
لا بأس.. سننطلق مع الجميع من هذه النقطة لنحاول فهم المواقف الغريبة التي تدين عملية الواحات وتصف من سقطوا فيها بالشهداء.
إن كانت المجموعة من الإسلاميين فماذا بإمكان أي إسلامي في دولة مثل مصر أن يفعل الآن للاعتراض على النظام الحاكم؟!
نظام عسكري، انقلب على الديمقراطية واختيار الشعب، وبدأ عصر المذابح والمجازر غير المسبوقة، وافتتح عهد الإعدامات الجماعية لدرجة أن أحد قضاته حكم بالإعدام على أكثر من ستمائة في جلسة واحدة، لا مجال لممارسة معارضة سياسية، لا صحف ولا قنوات معارضة مسموح بها، بل منظمات حقوق الإنسان العلمانية نفسها جرى إغلاقها وإجبار رموزها –العلمانيين المؤيدين للانقلاب العسكري- على البقاء في البيوت، المظاهرات السلمية ووجهت بالنار، الاعتصامات السلمية هوجمت بالمدرعات والطائرات والقناصة. اللجوء للنائب العام أو القضاء لاستعادة الحقوق في مصر هو محض خرافة وبلاهة، لا يكاد يمر الأسبوع حتى تسمع بحادثة تصفية بلا محاكمات!
ماذا بقي أمام من يعارض النظام أن يفعل؟!
الغريب أن من كتبوا وأكثروا من الكتابة محذرين ومنبهين: العنف يولد العنف، والضغط يولد الانفجار، وسد المنافذ أمام المعارضة يحولها إلى العمل السري المسلح.. إلخ. الغريب أن هؤلاء طفقوا يدينون عملية الواحات!! كيف يُلام من ليس أمامه إلا سبيل واحد فسلكه؟!
*** لا خيل عندك تهديها ولا مالُ .. فليُسْعِد النطق إن لم يُسْعد الحال المتنبي ***
وأولئك الذين قُتلوا في العملية هم أبشع أدوات النظام العسكري وأشدها وحشية وشراسة.. هم الذين يرتكبون جرائم التعذيب والتصفية والإخفاء القسري ويكتبون الأحكام القضائية ثم يبلغونها للقاضي "الشامخ" عبر الهاتف، فيمارس الأخير وظيفته في تحويل رغبتهم إلى صياغة قانونية تنتهي إلى قتل الناس أو حبسهم بالمؤبدات. ترى في أي تنظير ثوري وُصِف جنود الديكتاتورية ورموز جرائمها بأنهم شهداء؟!
ثم إنهم خرجوا في عملية سيمارسون فيها القتل أيضا، أي أن التوصيف الخالي من أي نظرة أخلاقية ومن أي اعتبار آخر يفضي إلى أن مجموعة من القتلة واجهوا مجموعة أخرى فتغلبت إحداهما على الأخرى.. لا معنى هنا لأي توصيف يجعلهم شهداء.. حتى بالتوصيف القانوني العلماني الوطني نفسه، لقد كانت مهمتهم خارج إطار القانون وضماناته، ولم يكونوا ليلتزموا مع ضحاياهم –إن ظفروا بهم- بأية ضمانات قانونية أو حتى أعراف أخلاقية!
ومن يدري؟ لربما كانت هذه المجموعة –المجهولة حتى لحظة كتابة هذه السطور، والتي ما زلنا نتوقع مع المتوقعين أنهم حركة جهادية- من ضحايا التعذيب والسجون على يد نفس تلك المجموعة من ضباط أمن الدولة والقوات الخاصة.. في أي عرف أخلاقي يمكن إدانة ضحية التعذيب إن وجد فرصة للانتقام ممن عذبه وضيع سنوات عمره خلف السجون، وربما ارتكب فوق هذا ما لا يُعرف ولا يُكشف عنه من ترويع الأهل وانتهاك الحرمات.. في أي عرف يمكن إدانة هذا؟!
*** "وأحذرك من الدماء، والدخول فيها والتقلُّد لها، فإن الدم لا ينام" صلاح الدين الأيوبي ***
بعض الشباب تعرف في وجوه الضباط على من عذبوهم ونشروا شهاداتهم على ما وقع عليهم.. وهو غيض من فيض وقطرة من بحر! ولكم جرت في الليالي دموع الأمهات والزوجات والأبناء، وكم خرجت الدعوات المحترقة المكتومة المقهورة تشكو إلى الله ضعف القوة وقلة الحيلة والهوان على الناس والعجز أمام فجور السلطة التي لا تتعامل مع البشر إلا كحشرات تسحقهم بلا تردد ولا حتى شعور بألم في الضمير!
هل صار اقتصاص المظلوم المقهور الذي أغلقت أمامه كل الأبواب جريمة مُدانة؟!
هل صارت ممارسة التعذيب والقتل عملا وطنيا بطوليا يوصف مرتكبوه بالشهداء؟!
إن كثيرا من المحسوبين على صف الثورة يسكنهم في أعماق نفوسهم وفي تلافيف عقولهم منطق وفلسفة النظام الذي يزعمون انهم يثورون عليه! بل هذا في الحقيقة هو أهم وأخطر أسباب إخفاق الثورة حتى الآن، لقد تم تسليم الثورة لجيش النظام (بزعم أنه المؤسسة الوطنية وعمود الخيمة!) ولقضاء النظام (الشامخ النزيه) بل ولإعلام النظام (بدعوى حرية الإعلام) ثم لشرطة النظام (المحمولين على الأعناق في ثورة 30 يونيو).. فما النتيجة؟!
النتيجة: عاد النظام بأشرس وأغلظ وأقبح مما كان، وسكن الثوار السجون والقبور والمنافي!
المدهش أن بعض الناس في السجون والمنافي لا زالوا يفكرون بعد كل ما نزل بهم، بنفس المنطق الذي فكروا به ليلة التنحي ولا كأن انقلابا كان ولا كأن بحار دماء قد سالت!
ولست أدري أهو جهل بطبيعة الثورات ومقاومة الأنظمة المستبدة من آثار التعليم الفاسد الذي نتعاطاه في مدارس وصحف وكتب النظام؟ أم هي أزمة نفسية لمن لم يعرف في حياته سوى ممارسة المعارضة بالمقالات والهاشتجات وكان أخطر ما قام به اعتصام سلمي يوما ما؟!
ألا من كان مُسْتنًا في ثورته بأحد فليستنَّ بثوار نجحوا.. فلا يُلدغ المؤمن من "نخبة" واحدة مرتين!
*** "الاستبداد يستولي على تلك العقول الضعيفة فضلاً عن الأجسام فيفسدها كما يريد، ويتغلّب على تلك الأذهان الضئيلة، فيشوش فيها الحقائق، بل البديهيات كما يهوى"
الكواكبي
نشر في مدونات الجزيرة
Published on October 25, 2017 12:11
October 19, 2017
بصمتنا الأخلاقية
لماذا يفضل المسلمون عليا على معاوية رضي الله عنهما؟
لماذا يكرهون الحجاج بن يوسف الثقفي؟
لماذا يتعاطفون مع عبد الله بن الزبير ضد عبد الملك بن مروان؟
لماذا كلما جاء ذكر السلطان سليمان القانوني قال بعض الناس: ولكنه قتل ابنه الأمير مصطفى ظلما؟
لماذا لا يندم المسلمون على أنهم لم يبيدو اليهود والنصارى في الوقت الذي كانت لهم القوة والسيادة؟
السر في هذا هو "الميزان الأخلاقي للحضارة الإسلامية"، ومعياره عصر الخلافة الراشدة الذي ظل مقياسا أخلاقيا لنظام الحكم والسياسة يقيس به المسلمون بقية فصول التاريخ، ويحاكمون به القادة والأبطال! وهو السر الذي لا تعرفه العلمانية ولا الحضارة الغربية المعاصرة.
وهذا ما نشرحه بإيجاز في السطور القادمة، والله المستعان.
1. العلمانية بلا أخلاق
أحد أهم أسباب رفضنا للعلمانية هو أنها لا يمكن أن تكون أخلاقية. العلمانية مرجعيتها المصلحة والمنفعة، وهو أمر منطقي ومفهوم، فإذا كان الإنسان علمانيا فإن الأخلاق التي تقف ضد مصلحته هي خرافة وهراء، بل هي شيء مزعج أيضا!
بغير إيماننا بالله لن تعود للأخلاق أي قداسة، لماذا يتمسك الإنسان بالصدق إذا كان الكذب سيأتيه بأرباح طائلة؟ لماذا يهتم للضعفاء والمساكين إذا كان عليه أن يدوس عليهم في طريقه إلى السلطة والشهرة؟ لماذا يحرص على الرحمة إذا كان لن يبلغ هدفه إلا بالقوة والقسوة؟!
إن الأخلاق ليست "حقيقة علمية" بل هي قيمة دينية، والذي سيحذف الدين من حياته لن يرى أي شيء يدعوه للتمسك بأي أخلاق. يقول علي عزت بيجوفيتش:
"إن المساواة والإخاء بين الناس ممكن فقط إذا كان الإنسان مخلوقا لله، فالمساواة الإنسانية خصوصية أخلاقية وليست حقيقة (مادية)، إن وجودها قائم باعتبارها صفة أخلاقية للإنسان، كسمو إنساني أو كقيمة مساوية للشخصية الإنسانية، وفي مقابل ذلك إذا نظرنا إلى الناس من الناحية المادية فالناس غير متساوين ... فطالما حذفنا المدخل الديني من حسابنا سرعان ما يمتلئ المكان بأشكال من اللا مساواة: عرقيا وقوميا واجتماعيا وسياسيا. إن السمو الإنساني لم يكن من المستطاع اكتشافه بواسطة علم الأحياء أو علم النفس أو بأي علم آخر".
فقط حين نؤمن بدين يخبرنا بالمساواة بين الناس يرسخ في أعماقنا أن كل الناس لهم نفس النفوس ونفس المشاعر ونفس العواطف ونفس الحقوق. إن قيمة آية واحدة أو حديث واحد في إصلاح الأخلاق يفوق كل ما يمكن قوله من أدب وروايات ومواثيق حقوقية، هي عمليا لا تساوي الحبر الذي كتبت به.
2. الشريعة الأخلاقية
مما يلفت النظر في أبحاث المستشرقين، لا سيما القانونيين، اهتمامهم بأن الشريعة الإسلامية شريعة أخلاقية، وأن رعاية الأخلاق أصل أصيل فيها، فالقانون لا ينفك عن الأخلاق في الإسلام، ولهذا فالشريعة لا تسعى لمجرد الحفاظ على النظام أو الدولة بل تسعى للسمو بالفرد والمجتمع (راجع هذا المقال)، يقول المستشرق والقانوني الفرنسي جاك ريسلر:
"إن القرآن يجد الحلول لجميع القضايا، ويربط بين القانون الديني والقانون الأخلاقي، ويسعى إلى خلق النظام والوحدة الاجتماعية، وإلى تخفيف البؤس والقسوة والخرافات، إنه يسعى إلى الأخذ بيد المستضعفين، ويوصي بالبر، ويأمر بالرحمة"وذات المعنى يقوله مؤرخ الحضارة الأمريكي ول ديورانت:
"القانون والأخلاق في القرآن شيء واحد؛ فالسلوك الديني في كليهما يشمل أيضًا السلوك الدنيوي، وكل أمر فيهما موحى به من عند الله، والقرآن يشمل قواعد للآداب، وصحة الجسم، والزواج والطلاق، ومعاملة الأبناء والعبيد والحيوان، والتجارة والسياسة، والجريمة والعقاب، والحرب والسلم"
ولأن الشريعة منبعها القرآن، والقرآن نازل من عند الله وفسَّره رسول الله، فهو نص لم تصدره سلطة ولم تحتكر تفسيره جهة تابعة للسلطة، والعلماء طوال التاريخ الإسلامي لم يكونوا جزءا من السلطة بل كانوا جزءا من عموم الأمة، ولم تكن لهم مؤسسة كهنوتية يمكن للسلطة أن تتحكم فيها أو تحتويها بل كانوا تيارا عاما منتشرا في الأمة.. لكل هذا احتفظت مرجعية القرآن والسنة بالتعالي والتسامي الذي يخضع له الحاكم والمحكوم، فالقرآن والسنة فوق السلطة، ولهذا كانت الهيمنة المظللة للمجتمع الإسلامي هيمنة أخلاقية.
ولهذا فقد كان للفقه الإسلامي بصمته الأخلاقية كقانون أخلاقي رفيع، أثمر حسا مرهفا في طبع الفقيه المسلم.. وقد كتب المستشرق والقانوني الإيطالي دافيد دي سانتيلانا، وهو من المتخصصين في الفقه المالكي، عددا من البحوث يشهد فيها بسمو الشريعة، وهو يشير إلى هذا الطابع الأخلاقي، فيقول:
"ولكنه إذا كان حق المرء هو منفعته الخاصة وواجبه الأدبي معًا؛ فإن لذلك الحقِّ حدودًا معينة بموجب مبادئ الأخلاق والمصلحة العامة؛ فالصلح والتراضي هما سيِّدَا الأحكام في كل وقت، وأخذ الثأر ممنوع منعًا باتًّا، والتضييق البدني على الْمَدِين مخالف للقانون، ولا اعتساف في استعمال الحقِّ تمامًا؛ إذ ليس لأحد أن يمارس حقًّا له، بالدرجة التي يسبب للآخر ضررًا مُحَقَّقًا، وللفقهاء المسلمين في هذا الصدد إحساس دقيق مرهف يفوق ما نتصوره؛ فمثلاً: يمنع أن يخوِّل حقَّ الادعاء إلى وكيل هو عدو للطرف الذي أُقِيمَتْ عليه الدعوى، وممنوع أن يُؤجر حيوان لشخص عُرِفَ بقسوته على الحيوان.. وهكذا ترسم الأخلاقُ والآداب في كل مسألة حدود القانون"
ثم يختم كلامه بعد حديث طويل في محاسن الشريعة بقوله:
"لا شَكَّ وأن المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من شريعة العرب قد عَمِلَ على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقي على مرِّ الدهور"
وهكذا يبدو واضحا جليا أن النظرة الأخلاقية هي نظرة مهيمنة مسيطرة في الحضارة الإسلامية، وأن هذا التميز هو ما يرفع شأنها ويجعلها حلا يقدمه المسلمون لهذه الإنسانية الحائرة المعذبة.
3. الخلافة الراشدة الأخلاقية
لقد كان عصر الخلافة الراشدة هو العصر المثالي لتطبيق الإسلام، وبه ثبت أن السياسة الأخلاقية يمكنها أن تنشيء مجتمعا عظيما قائما على العدل مهما كثرت شعوبه وتنوعت أعراقهم وأجناسهم ولغاتهم وأديانهم كذلك، وأن السياسة الملتزمة بالأخلاق يمكن لها أن تدير امبراطورية واسعة تمتد من حدود الهند شرقا حتى الشمال الإفريقي غربا، ومن بلاد أرمينية وأذربيجان شمالا إلا بلاد السودان جنوبا.
ويمكن للسياسة الأخلاقية أن تدير الدولة في سائر فتراتها، في لحظات التأسيس والتهديدات الأمنية الخطيرة كما في عصر أبي بكر، وفي لحظات القوة والنهوض والتوسع كما في عصر عمر، وفي لحظات الرفاهية والرخاء كما في عصر عثمان، وفي لحظات الفتن والحروب الداخلية كما في عصر علي رضي الله عنهم أجمعين.
في كل تلك الأحوال لم يضطر خليفة منهم إلى تنحية الإسلام والأخلاق جانبا ليدير شأن السياسة بمعزل عنها، بل عملت هذه الأخلاق على صناعة نموذج حضاري فريد، جمع بين القوة والرحمة، بين التمسك والتسامح، بين القدرة والعفو... وهكذا!
وهذا بحد ذاته أعظم دليل ينقض منطق ومنهج السياسة المعاصرة التي تعتمد على الكذب والمخادعة والسيطرة على الشعوب المستضعفة ونهب ثرواتها، والاستعانة على كل هذا بالمذابح الواسعة واستعمال الأسلحة التدميرية الجبارة لتركيع الشعوب وإخضاع إرادتها.
وبناء على هذا النموذج الراشدي كوَّن المسلمون نظرتهم للتاريخ والسياسة والحرب والبطولة والأخلاق والإدارة والاقتصاد والثقافة... وسائر مناحي الحياة!
4. أحكام المسلمين على تاريخهم
1. إن أي تقييم مادي لعصر الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه سيكون في صف معاوية لا في صف عليٍّ، فعلي لم يستطع إقرار الأمن طوال فترة خلافته التي استمرت لأربع سنوات، ولم يمثل قيادة زعامية لأنصاره كتلك التي مثلها معاوية، ففي حين تكتل أهل الشام خلف معاوية تفرق أهل الأمصار عن علي، ثم افترق معسكر أنصاره فخرج منه الشيعة والخوارج، ثم اغتيل على يد الخوارج. في المقابل: استمر معاوية زعيما محبوبا على أهل الشام، ثم حكم بعد علي لمدة عشرين سنة استطاع فيها توحيد الأمة وإعادة عصر السيادة واستئناف الفتوح الإسلامية وتوسع الدولة.
هذا الذي تسوق إليه القراءة المادية (العلمانية) لم يعتنقه أحد في أجيال المسلمين، بل ظل علي رضي الله عنه أجل وأعلى عند المسلمين من معاوية، بل تجتمع الأمة على أن معاوية وأنصاره هم الفئة الباغية بنص معصوم من السنة كشف عن هذه الحقيقة "ويح عمار تقتله الفئة الباغية"، وعلي هو خليفة المسلمين الراشد في حين أن معاوية هو أول ملوك الإسلام غير المحسوب على الفترة الراشدة، وهي الفترة التي بدأ فيها انحلال عرى الإسلام بعروة الحكم. وهكذا كان للنص المعصوم أثره الواضح في الانحياز الفكري والشعوري واختيار الموقف الأخلاقي للأمة كلها.
ومن هنا كان نموذج الخلافة الراشدة هو المقياس الذي يحاكم المسلمون إليه سائر الزعماء والقادة الذين جاءوا من بعدهم.
2. نفس الكلام يُقال عن عبد الملك بن مروان – وقائد جيشه الحجاج بن يوسف الثقفي -في مقابل عبد الله بن الزبير، فقد استطاع عبد الملك بن مروان في ظروف سياسية أقرب إلى المستحيل وانطلاقا من انقسام في الشام أن يستعيد السيطرة على كل الأمة وأن يعيد توحيدها وأن يستأنف من جديد عصر الفتوحات بعد توقفه الثاني وأن يبدأ موجة إعمارية واسعة وأن يضع أساس تعريب الدواوين وتعريب العملة وغير ذلك. بينما كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قد جاءته الخلافة تسعى وظل خليفة تسعة أعوام لا ينازعه إلا هذه القطعة في الشام، إلا أنه لم يستطع الحفاظ على هذا الملك الواسع وظل يتناقص ويؤخذ من بين يديه حتى تفرق عنه بعض أهله وقُتِل في النهاية.
إن القراءة المادية للتاريخ تنحاز مباشرة إلى عبد الملك بن مروان، وتنحاز أيضا إلى قائد جيشه الحجاج بن يوسف الثقفي في مقابل عبد الله بن الزبير. إلا أن الأمة لم تعتنق هذا المذهب، وإنما انحازت فكريا وشعوريا إلى عبد الله بن الزبير الخليفة الشرعي المظلوم، واعتبرت عبد الملك أول خليفة يحكم بالتغلب، ولا زالت تدين الحجاج وتقسو عليه وتراه من أعظم ذنوب بني أمية.
ما كان ذلك كله ليكون لولا أن النص المعصوم والتجربة التاريخية الراشدة رسخت صورة للحق وجعلته فوق القوة، بينما انعدام هذا يؤول عمليا إلى أن الحق هو ما تقرره القوة وتسبغ عليه الشرعية.
5. الحساسية الأخلاقية
وقد بلغت هذه الحساسية الأخلاقية مبلغا عظيما، إلى حد أن بعض المسلمين بل وبعض علمائهم يحتدون في وصف التاريخ الإسلامي والحكم عليه وتقييمه، ويبالغون في ذلك مبالغة شديدة، تصل إلى أن يتخذها بعض العلمانيين مدخلا للطعن في التاريخ الإسلامي كله بل وفي صلاحية الإسلام ليكون حلا وليصنع نموذجا يمكن تطبيقه في واقع البشر.
لقد صنع الخلفاء الراشدون نموذجا مثاليا في الحكم والسياسة، إلا أن الواقع والعقل يقتضينا ألا نهدر من حق سائر أبطالنا التاريخيين الذين لم يستطيعوا أن يصلوا إلى هذه الآفاق فكانت لهم بعض إخفاقات في ناحية أو عدة نواح، فضلا عن أن نقسو عليهم وندينهم كما يفعل البعض مع معاوية رضي الله عنه أو مع غيره!
إن كثيرا من الخلفاء والقادة التاريخيين الذين يقسو عليهم المؤرخون المسلمون إذ يحاكمونهم بمقياس الخلافة الراشدة لو أنهم كانوا في سياق حضارة أخرى لكانوا أبطالا لا يُمسّون، من هؤلاء عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك وأبو جعفر المنصور والمهدي والمأمون والظاهر بيبرس وقلاوون والسلطان سليم وسليمان القانوني وغيرهم.. فإن الإنجاز التاريخي المادي وحده يجعلهم في عداد عظماء التاريخ، ولكن أحدا من المسلمين لا يتخذهم قدوة لما كان منهم من أخطاء.. بل حتى أمثلة مثل يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف الثقفي لو ظهروا في سياق غربي لكانوا من أبطاله، إن أولئك لم تنطبع عنهم صورة سيئة إلا لأن النموذج الذي يُحاكمون بالقياس إليه هو نموذج أخلاقي رفيع.
إن النزول عن مستوى الخلافة الراشدة هو نفسه مستوى رفيع لم تصل إليه بقية التجارب والنماذج التاريخية، إذ لم يزل شأن التاريخ الإسلامي شأن تجربة مصبوغة بالأخلاق ومحكومة بالإسلام، بينما عامة شأن التجارب الأخرى أنها لا تُقاس إلا بمدى نجاحها ماديا، ولو جرى هذا على حساب ملايين الجثث وخراب البلاد وهلاك العباد. فالمهم هو الوصول إلى هذا النصر المادي مهما تكن الوسائل!
الخلاصة
لقد قدم الخلفاء الراشدون نموذجا أخلاقيا جعل القبطي المصري يثق في العدالة المكفولة له، فيتكلف أن يسافر من مصر إلى المدينة المنورة ليشكو إلى عمر واليه الفاتح في مصر، ثم يجد عنده العدل كما يتوقع، وقد كان قبل عامين فحسب يلقى العذاب والاضطهاد من الرومان فلا يجرؤ على الشكاية بل إما أن يفعل ما يراد منه وهو صاغر أو يهرب منهم في أقاصي الصحراء أو في كهوف الجبال!
وبعد فترة سيجد أهل سمرقند من العدالة ما يحملهم على أن يرفعوا أمام القاضي في دمشق شكوى من الفاتح قتيبة بن مسلم الباهلي أنه تجاوز في فتح بلادهم نهج الشريعة الإسلامية في الفتوح، فيخرج قوم من سمرقند حتى يصلون إلى دمشق فيقدمون شكواهم، ثم ينظر القاضي فيحكم بأن يخرج المسلمون من هذا البلد لوقوع هذا الخلل، فيخرج الجيش بعدما كان قد فتح سمرقند ليكون فتحه جاريا على شريعة الفتح وأخلاقه.
وتلك القصص لا يمكن أن توجد في سيرة إمبراطورية استعمارية مع شعب مغلوب، ولذلك سرعان ما امتزج المسلمون الفاتحون بالشعوب المفتوحة. والإسلام هو الذي نشر الحضارة شرقا وغربا فكانت له عواصمه الحضارية منذ سمر قند وبخارى ونيسابور وأصفهان والري وبغداد ودمشق واسطنبول والقاهرة والقيروان وفاس وغرناطة وقرطبة وطليطلة.. وكلها عواصم خارج الجزيرة العربية، لا كما تفعل المستعمرات التي تستصفي خيرات الناس وبلادهم لتتضخم بذلك عواصمهم في لندن وباريس وروما وواشنطن!
بل إن ثمة مفاجأة لا يعرفها الكثيرون، ففي دراسته "الإسلام الفاتح" يقول المؤرخ الكبير د. حسين مؤنس بأن البلاد التي صارت مسلمة دون أن تصل إليها جيوش الفتح إنما تمثل ثلثي مساحة البلاد، أي أن الجيوش لم تفتح إلا ثلث مساحة البلاد الإسلامية، وما كان بالإمكان أن يحدث هذا لولا تلك الجاذبية التي قدمها الإسلام لهذه الشعوب.
يقول المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون:"لقد انقضى ثلاثة عشر قرنًا منذ أعطى محمد دروس الأخلاق في المدينة، ولكن تلك الدروس لم تُنْسَ إلى الآن"
لقد كانت حياة الخلفاء الراشدين وسيرتهم النموذج المعبر عن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي كان شعارها "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
نشر في مدونات الجزيرة
لماذا يكرهون الحجاج بن يوسف الثقفي؟
لماذا يتعاطفون مع عبد الله بن الزبير ضد عبد الملك بن مروان؟
لماذا كلما جاء ذكر السلطان سليمان القانوني قال بعض الناس: ولكنه قتل ابنه الأمير مصطفى ظلما؟
لماذا لا يندم المسلمون على أنهم لم يبيدو اليهود والنصارى في الوقت الذي كانت لهم القوة والسيادة؟
السر في هذا هو "الميزان الأخلاقي للحضارة الإسلامية"، ومعياره عصر الخلافة الراشدة الذي ظل مقياسا أخلاقيا لنظام الحكم والسياسة يقيس به المسلمون بقية فصول التاريخ، ويحاكمون به القادة والأبطال! وهو السر الذي لا تعرفه العلمانية ولا الحضارة الغربية المعاصرة.
وهذا ما نشرحه بإيجاز في السطور القادمة، والله المستعان.
1. العلمانية بلا أخلاق
أحد أهم أسباب رفضنا للعلمانية هو أنها لا يمكن أن تكون أخلاقية. العلمانية مرجعيتها المصلحة والمنفعة، وهو أمر منطقي ومفهوم، فإذا كان الإنسان علمانيا فإن الأخلاق التي تقف ضد مصلحته هي خرافة وهراء، بل هي شيء مزعج أيضا!
بغير إيماننا بالله لن تعود للأخلاق أي قداسة، لماذا يتمسك الإنسان بالصدق إذا كان الكذب سيأتيه بأرباح طائلة؟ لماذا يهتم للضعفاء والمساكين إذا كان عليه أن يدوس عليهم في طريقه إلى السلطة والشهرة؟ لماذا يحرص على الرحمة إذا كان لن يبلغ هدفه إلا بالقوة والقسوة؟!
إن الأخلاق ليست "حقيقة علمية" بل هي قيمة دينية، والذي سيحذف الدين من حياته لن يرى أي شيء يدعوه للتمسك بأي أخلاق. يقول علي عزت بيجوفيتش:
"إن المساواة والإخاء بين الناس ممكن فقط إذا كان الإنسان مخلوقا لله، فالمساواة الإنسانية خصوصية أخلاقية وليست حقيقة (مادية)، إن وجودها قائم باعتبارها صفة أخلاقية للإنسان، كسمو إنساني أو كقيمة مساوية للشخصية الإنسانية، وفي مقابل ذلك إذا نظرنا إلى الناس من الناحية المادية فالناس غير متساوين ... فطالما حذفنا المدخل الديني من حسابنا سرعان ما يمتلئ المكان بأشكال من اللا مساواة: عرقيا وقوميا واجتماعيا وسياسيا. إن السمو الإنساني لم يكن من المستطاع اكتشافه بواسطة علم الأحياء أو علم النفس أو بأي علم آخر".
فقط حين نؤمن بدين يخبرنا بالمساواة بين الناس يرسخ في أعماقنا أن كل الناس لهم نفس النفوس ونفس المشاعر ونفس العواطف ونفس الحقوق. إن قيمة آية واحدة أو حديث واحد في إصلاح الأخلاق يفوق كل ما يمكن قوله من أدب وروايات ومواثيق حقوقية، هي عمليا لا تساوي الحبر الذي كتبت به.
2. الشريعة الأخلاقية
مما يلفت النظر في أبحاث المستشرقين، لا سيما القانونيين، اهتمامهم بأن الشريعة الإسلامية شريعة أخلاقية، وأن رعاية الأخلاق أصل أصيل فيها، فالقانون لا ينفك عن الأخلاق في الإسلام، ولهذا فالشريعة لا تسعى لمجرد الحفاظ على النظام أو الدولة بل تسعى للسمو بالفرد والمجتمع (راجع هذا المقال)، يقول المستشرق والقانوني الفرنسي جاك ريسلر:
"إن القرآن يجد الحلول لجميع القضايا، ويربط بين القانون الديني والقانون الأخلاقي، ويسعى إلى خلق النظام والوحدة الاجتماعية، وإلى تخفيف البؤس والقسوة والخرافات، إنه يسعى إلى الأخذ بيد المستضعفين، ويوصي بالبر، ويأمر بالرحمة"وذات المعنى يقوله مؤرخ الحضارة الأمريكي ول ديورانت:
"القانون والأخلاق في القرآن شيء واحد؛ فالسلوك الديني في كليهما يشمل أيضًا السلوك الدنيوي، وكل أمر فيهما موحى به من عند الله، والقرآن يشمل قواعد للآداب، وصحة الجسم، والزواج والطلاق، ومعاملة الأبناء والعبيد والحيوان، والتجارة والسياسة، والجريمة والعقاب، والحرب والسلم"
ولأن الشريعة منبعها القرآن، والقرآن نازل من عند الله وفسَّره رسول الله، فهو نص لم تصدره سلطة ولم تحتكر تفسيره جهة تابعة للسلطة، والعلماء طوال التاريخ الإسلامي لم يكونوا جزءا من السلطة بل كانوا جزءا من عموم الأمة، ولم تكن لهم مؤسسة كهنوتية يمكن للسلطة أن تتحكم فيها أو تحتويها بل كانوا تيارا عاما منتشرا في الأمة.. لكل هذا احتفظت مرجعية القرآن والسنة بالتعالي والتسامي الذي يخضع له الحاكم والمحكوم، فالقرآن والسنة فوق السلطة، ولهذا كانت الهيمنة المظللة للمجتمع الإسلامي هيمنة أخلاقية.
ولهذا فقد كان للفقه الإسلامي بصمته الأخلاقية كقانون أخلاقي رفيع، أثمر حسا مرهفا في طبع الفقيه المسلم.. وقد كتب المستشرق والقانوني الإيطالي دافيد دي سانتيلانا، وهو من المتخصصين في الفقه المالكي، عددا من البحوث يشهد فيها بسمو الشريعة، وهو يشير إلى هذا الطابع الأخلاقي، فيقول:
"ولكنه إذا كان حق المرء هو منفعته الخاصة وواجبه الأدبي معًا؛ فإن لذلك الحقِّ حدودًا معينة بموجب مبادئ الأخلاق والمصلحة العامة؛ فالصلح والتراضي هما سيِّدَا الأحكام في كل وقت، وأخذ الثأر ممنوع منعًا باتًّا، والتضييق البدني على الْمَدِين مخالف للقانون، ولا اعتساف في استعمال الحقِّ تمامًا؛ إذ ليس لأحد أن يمارس حقًّا له، بالدرجة التي يسبب للآخر ضررًا مُحَقَّقًا، وللفقهاء المسلمين في هذا الصدد إحساس دقيق مرهف يفوق ما نتصوره؛ فمثلاً: يمنع أن يخوِّل حقَّ الادعاء إلى وكيل هو عدو للطرف الذي أُقِيمَتْ عليه الدعوى، وممنوع أن يُؤجر حيوان لشخص عُرِفَ بقسوته على الحيوان.. وهكذا ترسم الأخلاقُ والآداب في كل مسألة حدود القانون"
ثم يختم كلامه بعد حديث طويل في محاسن الشريعة بقوله:
"لا شَكَّ وأن المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من شريعة العرب قد عَمِلَ على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقي على مرِّ الدهور"
وهكذا يبدو واضحا جليا أن النظرة الأخلاقية هي نظرة مهيمنة مسيطرة في الحضارة الإسلامية، وأن هذا التميز هو ما يرفع شأنها ويجعلها حلا يقدمه المسلمون لهذه الإنسانية الحائرة المعذبة.
3. الخلافة الراشدة الأخلاقية
لقد كان عصر الخلافة الراشدة هو العصر المثالي لتطبيق الإسلام، وبه ثبت أن السياسة الأخلاقية يمكنها أن تنشيء مجتمعا عظيما قائما على العدل مهما كثرت شعوبه وتنوعت أعراقهم وأجناسهم ولغاتهم وأديانهم كذلك، وأن السياسة الملتزمة بالأخلاق يمكن لها أن تدير امبراطورية واسعة تمتد من حدود الهند شرقا حتى الشمال الإفريقي غربا، ومن بلاد أرمينية وأذربيجان شمالا إلا بلاد السودان جنوبا.
ويمكن للسياسة الأخلاقية أن تدير الدولة في سائر فتراتها، في لحظات التأسيس والتهديدات الأمنية الخطيرة كما في عصر أبي بكر، وفي لحظات القوة والنهوض والتوسع كما في عصر عمر، وفي لحظات الرفاهية والرخاء كما في عصر عثمان، وفي لحظات الفتن والحروب الداخلية كما في عصر علي رضي الله عنهم أجمعين.
في كل تلك الأحوال لم يضطر خليفة منهم إلى تنحية الإسلام والأخلاق جانبا ليدير شأن السياسة بمعزل عنها، بل عملت هذه الأخلاق على صناعة نموذج حضاري فريد، جمع بين القوة والرحمة، بين التمسك والتسامح، بين القدرة والعفو... وهكذا!
وهذا بحد ذاته أعظم دليل ينقض منطق ومنهج السياسة المعاصرة التي تعتمد على الكذب والمخادعة والسيطرة على الشعوب المستضعفة ونهب ثرواتها، والاستعانة على كل هذا بالمذابح الواسعة واستعمال الأسلحة التدميرية الجبارة لتركيع الشعوب وإخضاع إرادتها.
وبناء على هذا النموذج الراشدي كوَّن المسلمون نظرتهم للتاريخ والسياسة والحرب والبطولة والأخلاق والإدارة والاقتصاد والثقافة... وسائر مناحي الحياة!
4. أحكام المسلمين على تاريخهم
1. إن أي تقييم مادي لعصر الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه سيكون في صف معاوية لا في صف عليٍّ، فعلي لم يستطع إقرار الأمن طوال فترة خلافته التي استمرت لأربع سنوات، ولم يمثل قيادة زعامية لأنصاره كتلك التي مثلها معاوية، ففي حين تكتل أهل الشام خلف معاوية تفرق أهل الأمصار عن علي، ثم افترق معسكر أنصاره فخرج منه الشيعة والخوارج، ثم اغتيل على يد الخوارج. في المقابل: استمر معاوية زعيما محبوبا على أهل الشام، ثم حكم بعد علي لمدة عشرين سنة استطاع فيها توحيد الأمة وإعادة عصر السيادة واستئناف الفتوح الإسلامية وتوسع الدولة.
هذا الذي تسوق إليه القراءة المادية (العلمانية) لم يعتنقه أحد في أجيال المسلمين، بل ظل علي رضي الله عنه أجل وأعلى عند المسلمين من معاوية، بل تجتمع الأمة على أن معاوية وأنصاره هم الفئة الباغية بنص معصوم من السنة كشف عن هذه الحقيقة "ويح عمار تقتله الفئة الباغية"، وعلي هو خليفة المسلمين الراشد في حين أن معاوية هو أول ملوك الإسلام غير المحسوب على الفترة الراشدة، وهي الفترة التي بدأ فيها انحلال عرى الإسلام بعروة الحكم. وهكذا كان للنص المعصوم أثره الواضح في الانحياز الفكري والشعوري واختيار الموقف الأخلاقي للأمة كلها.
ومن هنا كان نموذج الخلافة الراشدة هو المقياس الذي يحاكم المسلمون إليه سائر الزعماء والقادة الذين جاءوا من بعدهم.
2. نفس الكلام يُقال عن عبد الملك بن مروان – وقائد جيشه الحجاج بن يوسف الثقفي -في مقابل عبد الله بن الزبير، فقد استطاع عبد الملك بن مروان في ظروف سياسية أقرب إلى المستحيل وانطلاقا من انقسام في الشام أن يستعيد السيطرة على كل الأمة وأن يعيد توحيدها وأن يستأنف من جديد عصر الفتوحات بعد توقفه الثاني وأن يبدأ موجة إعمارية واسعة وأن يضع أساس تعريب الدواوين وتعريب العملة وغير ذلك. بينما كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قد جاءته الخلافة تسعى وظل خليفة تسعة أعوام لا ينازعه إلا هذه القطعة في الشام، إلا أنه لم يستطع الحفاظ على هذا الملك الواسع وظل يتناقص ويؤخذ من بين يديه حتى تفرق عنه بعض أهله وقُتِل في النهاية.
إن القراءة المادية للتاريخ تنحاز مباشرة إلى عبد الملك بن مروان، وتنحاز أيضا إلى قائد جيشه الحجاج بن يوسف الثقفي في مقابل عبد الله بن الزبير. إلا أن الأمة لم تعتنق هذا المذهب، وإنما انحازت فكريا وشعوريا إلى عبد الله بن الزبير الخليفة الشرعي المظلوم، واعتبرت عبد الملك أول خليفة يحكم بالتغلب، ولا زالت تدين الحجاج وتقسو عليه وتراه من أعظم ذنوب بني أمية.
ما كان ذلك كله ليكون لولا أن النص المعصوم والتجربة التاريخية الراشدة رسخت صورة للحق وجعلته فوق القوة، بينما انعدام هذا يؤول عمليا إلى أن الحق هو ما تقرره القوة وتسبغ عليه الشرعية.
5. الحساسية الأخلاقية
وقد بلغت هذه الحساسية الأخلاقية مبلغا عظيما، إلى حد أن بعض المسلمين بل وبعض علمائهم يحتدون في وصف التاريخ الإسلامي والحكم عليه وتقييمه، ويبالغون في ذلك مبالغة شديدة، تصل إلى أن يتخذها بعض العلمانيين مدخلا للطعن في التاريخ الإسلامي كله بل وفي صلاحية الإسلام ليكون حلا وليصنع نموذجا يمكن تطبيقه في واقع البشر.
لقد صنع الخلفاء الراشدون نموذجا مثاليا في الحكم والسياسة، إلا أن الواقع والعقل يقتضينا ألا نهدر من حق سائر أبطالنا التاريخيين الذين لم يستطيعوا أن يصلوا إلى هذه الآفاق فكانت لهم بعض إخفاقات في ناحية أو عدة نواح، فضلا عن أن نقسو عليهم وندينهم كما يفعل البعض مع معاوية رضي الله عنه أو مع غيره!
إن كثيرا من الخلفاء والقادة التاريخيين الذين يقسو عليهم المؤرخون المسلمون إذ يحاكمونهم بمقياس الخلافة الراشدة لو أنهم كانوا في سياق حضارة أخرى لكانوا أبطالا لا يُمسّون، من هؤلاء عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك وأبو جعفر المنصور والمهدي والمأمون والظاهر بيبرس وقلاوون والسلطان سليم وسليمان القانوني وغيرهم.. فإن الإنجاز التاريخي المادي وحده يجعلهم في عداد عظماء التاريخ، ولكن أحدا من المسلمين لا يتخذهم قدوة لما كان منهم من أخطاء.. بل حتى أمثلة مثل يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف الثقفي لو ظهروا في سياق غربي لكانوا من أبطاله، إن أولئك لم تنطبع عنهم صورة سيئة إلا لأن النموذج الذي يُحاكمون بالقياس إليه هو نموذج أخلاقي رفيع.
إن النزول عن مستوى الخلافة الراشدة هو نفسه مستوى رفيع لم تصل إليه بقية التجارب والنماذج التاريخية، إذ لم يزل شأن التاريخ الإسلامي شأن تجربة مصبوغة بالأخلاق ومحكومة بالإسلام، بينما عامة شأن التجارب الأخرى أنها لا تُقاس إلا بمدى نجاحها ماديا، ولو جرى هذا على حساب ملايين الجثث وخراب البلاد وهلاك العباد. فالمهم هو الوصول إلى هذا النصر المادي مهما تكن الوسائل!
الخلاصة
لقد قدم الخلفاء الراشدون نموذجا أخلاقيا جعل القبطي المصري يثق في العدالة المكفولة له، فيتكلف أن يسافر من مصر إلى المدينة المنورة ليشكو إلى عمر واليه الفاتح في مصر، ثم يجد عنده العدل كما يتوقع، وقد كان قبل عامين فحسب يلقى العذاب والاضطهاد من الرومان فلا يجرؤ على الشكاية بل إما أن يفعل ما يراد منه وهو صاغر أو يهرب منهم في أقاصي الصحراء أو في كهوف الجبال!
وبعد فترة سيجد أهل سمرقند من العدالة ما يحملهم على أن يرفعوا أمام القاضي في دمشق شكوى من الفاتح قتيبة بن مسلم الباهلي أنه تجاوز في فتح بلادهم نهج الشريعة الإسلامية في الفتوح، فيخرج قوم من سمرقند حتى يصلون إلى دمشق فيقدمون شكواهم، ثم ينظر القاضي فيحكم بأن يخرج المسلمون من هذا البلد لوقوع هذا الخلل، فيخرج الجيش بعدما كان قد فتح سمرقند ليكون فتحه جاريا على شريعة الفتح وأخلاقه.
وتلك القصص لا يمكن أن توجد في سيرة إمبراطورية استعمارية مع شعب مغلوب، ولذلك سرعان ما امتزج المسلمون الفاتحون بالشعوب المفتوحة. والإسلام هو الذي نشر الحضارة شرقا وغربا فكانت له عواصمه الحضارية منذ سمر قند وبخارى ونيسابور وأصفهان والري وبغداد ودمشق واسطنبول والقاهرة والقيروان وفاس وغرناطة وقرطبة وطليطلة.. وكلها عواصم خارج الجزيرة العربية، لا كما تفعل المستعمرات التي تستصفي خيرات الناس وبلادهم لتتضخم بذلك عواصمهم في لندن وباريس وروما وواشنطن!
بل إن ثمة مفاجأة لا يعرفها الكثيرون، ففي دراسته "الإسلام الفاتح" يقول المؤرخ الكبير د. حسين مؤنس بأن البلاد التي صارت مسلمة دون أن تصل إليها جيوش الفتح إنما تمثل ثلثي مساحة البلاد، أي أن الجيوش لم تفتح إلا ثلث مساحة البلاد الإسلامية، وما كان بالإمكان أن يحدث هذا لولا تلك الجاذبية التي قدمها الإسلام لهذه الشعوب.
يقول المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون:"لقد انقضى ثلاثة عشر قرنًا منذ أعطى محمد دروس الأخلاق في المدينة، ولكن تلك الدروس لم تُنْسَ إلى الآن"
لقد كانت حياة الخلفاء الراشدين وسيرتهم النموذج المعبر عن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي كان شعارها "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
نشر في مدونات الجزيرة
Published on October 19, 2017 03:52