محمد إلهامي's Blog, page 31
August 23, 2017
حقوق الأمة على الحاكم في نظام الإسلام
يمكن تلخيص تلك الحقوق في ثلاثة: حق التولية، حق المراقبة والتقويم، حق الإنكار والعزل.
حينما كنت أقول هذا لبعض أصدقائي، سألني أحدهم: ما الفارق إذن بين النظام الإسلامي والنظام الغربي العلماني، فعندهم نفس هذه الحقوق؟
وهذا نبهني لأمر يغيب عن تفكير من يتناولون موضوع النظام السياسي الإسلامي: لقد أنشأ الإسلام نظاما سياسيا يجعل الأمة فوق السلطة، بمعنى أنه يوزع عناصر القوة بين الأمة والسلطة، على العكس مما هو في حالة الدولة الحديثة المركزية التي تتركز فيها القوة في يد السلطة وحدها، فتكون الأمة أمام السلطة كالأسير أمام السجان والأعزل أمام المسلح.. يصنع الإسلام نظاما سياسيا يحصل فيه التوازن بين قوة الأمة وقوة السلطة، بينما تصنع الدولة الحديثة نظاما تكون فيه السلطة هي الجهة التي تحتكر القوة. (وهو معنى كررناه كثيرا في مواضع سابقة، انظر هذا المقالوروابطه)
وهذا مدخل مهم لكي نفهم منه أن الإسلام يُطالب الأمة بالسمع والطاعة للأمير في المعروف وينهى عن الخروج عليه طالما لم يرتكب الكفر البواح ولم يخرج عن نظام الإسلام. إذ تكوين النظام يجعل الأمة صاحبة قوة وعندها القدرة على الاحتجاج والثورة. بينما القيمة الأساسية في فكر الدولة الحديثة هي "الحقوق والحريات"، لأن السلطة تستطيع كبت وقهر المحكومين بما تحتكره من أدوات القوة، فلا يمكن مطالبة المقهورين بالسمع والطاعة بل تُطالَب السلطة بتوفير وتأمين الحقوق والحريات، ويكون الكفاح السياسي في الدولة الحديثة كفاح لتوسيع هامش الحريات وتقليل تغول السلطة. ومن هنا يجب أن نفهم حقوق الأمة وحقوق الحاكم في النظام الإسلامي ضمن هذا التصور.
وقد تناولنا في مقال سابقمسألة تولية الحاكم، والآن نتحدث في الحقين الآخرين: المراقبة والعزل.
حق المراقبة
في الخطبة الأولى لأبي بكر في الخلافة قال: "إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني... أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"
هنا قرر الصديق أن الأمة رقيبة على الحاكم، ومشاركة له في شأن السياسة والإدارة، فهي تراقبه وتحكم على أدائه، فإن كان محسنا أعانوه فيزداد إحسانا، وإن كان مسيئا نصحوه وقوموه فيتداركون إساءته.
والأمة والحاكم جميعا يخضعون للشريعة ولنظام الإسلام، ولهذا فإن معيار التقييم واضح للجميع، يعرف الجميع كيف يحكم على شيء بأنه حسن وعلى آخر بأنه سيئ، وأما ما كان اشتباه أو تداخل فهو أمر مردود لأهل العلم والاستنباط. كما في الآية (ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
فالأمة المسلمة ليست أمة أكل وشرب ورفاهية ومادة، بل هي الأمة المؤتمنة على الرسالة، فهي عندما تراقب حاكمها وتقيم عمله تقيسه على معيار الإسلام وتعالميه، فلا يقبل من الحاكم أن يظلم ويقسو بحجة "مصلحة الدولة" أو أن يسمح بانتشار الفحش والرذيلة لأنها تزيد من "الدخل القومي" أو يسمح بإجراءات اقتصادية فيها احتكار أو غش مراعاة لرجال الأعمال لجذب استثماراتهم.. كل هذه الأمور وأمثالها لا تسمح به الأمة المسلمة ولو كان فيها ازدهار للأموال والرفاهية والطعام والمباني، إنما معيار ومقياس طاعة الأمة لحاكمها بقدر طاعته لله ورسوله.
يُلاحظ في عبارتي الصديق فارق واضح، فأبو بكر يطلب في الأولى أن يعينوه إذا أحسن وأن يقوِّموه إذا أساء. لكنه في العبارة الثانية يتحدث عن شرعية الأمة في عصيانه والتمرد عليه إذا خرج عن طاعة الله ورسوله.. ولا بد أن ننتبه لهذا جيدا. ذلك أن الحاكم سيكون له آراء واجتهادات وتصرفات في شؤون الحكم والسياسة والإدارة فهو ما دام يعمل في إطار الرسالة والشريعة فإن على الأمة أن تعينه في الصواب وتنصح له في الخطأ، لكنه إذا خرج عن الشريعة ولم يلتزم هذه المرجعية العليا فقد سقط حقه على الأمة في السمع والطاعة، ونشأ واجب على الأمة أن تعصيه وتقاومه حتى يعود إلى الالتزام بنظام الدين وبالمرجعية العليا التي هي الإسلام، يقول الإمام عبد القاهر البغدادي في كتابه "أصول الدين":
"فمتى أقام (أي: الحاكم) في الظاهر على موافقة الشريعة كان أمره في الإمامة منتظما، ومتى زاغ عن ذلك كانت الأمة عيارا عليه في العدول به من خطئه إلى صواب أو في العدول عنه إلى غيره. وسبيلهم معه فيها كسبيله مع خلفائه وقضاته وعُمَّاله وسُعاته، إن زاغوا عن سننه عدل بهم أو عدل عنهم"
وإذا كان واجب الأمة أن تعصي من يخرج عن الشريعة فكيف بمن يخرج على الشريعة ويحاربها وينشر بقوة السلطة ما يناقضها؟!
ثم ها هنا أمر مهم أيضا، إن تقويم الحاكم والنصح له أو عصيانه إن خرج عن الشريعة ليست مجرد "حق" تمارسه الأمة، بل هو "واجب"، فالحق هو الأمر الذي لصاحبه أن يتنازل عنه، بينما "الواجب" هو أمر لا يجوز تركه والتنازل عنه. فعلى الأمة عليها "واجب" مراقبة الحاكم وتقويمه بل والخروج عليخ إن خرج عن الشريعة.
وقد وقع في عهد أبي بكر أن رجلا أغلظ له القول، حتى غضب أبو بكر غضبا شديدا من إغلاظه له وشدته، فقام أبو برزة الأسلمي فقال: ألا أضرب عنقه يا خليفة رسول الله؟ فإذا أبو بكر يتجنب الأمر (أي: يغير الموضوع)، فلما انتهى الجمع أرسل أبو بكر إلى أبي برزة فقال له: أرأيت حين رأيتني غضبت على رجل فقلت أضرب عنقه يا خليفة رسول الله أَوَ كنت فاعلا ذلك؟! قلت: نعم والله والآن إن أمرتني فعلتُ. قال: والله ما هي لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم". فهنا أسس أبو بكر أن المعارضة للخلفاء والإغلاظ في القول لهم ليست مما يستوجب القتل كما كان ذلك في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشورى
كان رسول الله خير البشر وأكملهم وأعلمهم بالله والمتصل بالوحي، ومع هذا أُمِر بالشورى، ولما وجد رغبة المسلمين في الخروج إلى أحد نزل على رغبتهم رغم أنه كان يرى البقاء في المدينة والدفاع عنها من داخلها، فلما حصلت المحنة في معركة أحد أنزل الله عليه القرآن يؤكد عليه أن يظل على رفقه ولينه معهم وأن يستشيرهم (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر). وكان رسول الله مثالا في الاستشارة حتى ليقول أبو هريرة: "ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ومن العجيب أنه منذ كان المسلمون في مكة وقبل أن تتأسس لهم دولة كان القرآن يصف لهم صورة مجتمعهم المنشود بأنه مجتمع عبادة وشورى وتكافل (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون). هذه الآية هي في سورة الشورى، وهي سورة مكية. فلما توفي رسول الله، وانقطع الوحي من السماء، كان عصر الخلافة الراشدة هو التأسيس الكامل لشأن الشورى التي ستسمر في شأن الأمة مع حكامها:
كان أبو بكر إذا لم يجد للمسألة نصا في كتاب الله سأل الناس: هل بلغهم شيء في هذا عن رسول الله، فإن لم يجد جمع لها رؤوس الصحابة فاستشارهم، فإذا اجتمعوا على رأي أخذ به. وكان عمر يجمع للشورى ما أمكنه من الصحابة الكبار، لا سيما في المسائل الكبرى والنوازل، فعند طاعون عمواس جمع من كان لديه من المهاجرين ثم الأنصار ثم مشايخ قريش ممن تأخر إسلامهم حتى صدر عن رأيهم، وذلك قبل أن يلقى عبد الرحمن بن عوف فيخبره بحديث النبي "إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها"، وحين كثرت الأموال استشار الصحابة في مصارفها، وفي إنشاء الديوان، وانعقد مجلس للمشورة ثلاثة أيام في شأن تقسيم الأراضي الواسعة الخصبة في العراق وما إن كانت تقسم على الفاتحين أم يُحتفظ بحق فيها للأجيال القادمة، وكان يستشير الشباب حتى كان من أهل مشورته الصحابي الشاب عبد الله بن عباس، حتى إن الإمام الزهري قال لبعض الغلمان من الناشئة: "لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم"، وقد ختم عمر حياته بمجلس للشورى في شأن انتخاب الخليفة من بعده.
وعلى مثل ذلك من المشورة جرى شأن الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فقد افتتح عهده بالشورى في شأن عبيد الله بن عمر الذي قتل الهرمزان ثأرا لأبيه لما حامت حوله شبهة الاشتراك مع أبي لؤلؤة، فكان أكثر الناس مع دفع الدية فدفعها عثمان من ماله. وكانت خطواته في جمع الأمة على مصحف واحد وحرق بقية النسخ على ملأ من الصحابة كما قال علي بن أبي طالب، بداية من كاتب المصحف والمُحَكَّم في اللهجة ونشر النسخ من المصحف المعتمد، وغير ذلك حتى آخر حياته حيث ثبتت أخبار مشاوراته للصحابة في الفتنة التي انتهت باستشهاده.
وكذلك كان علي يستشير كما في وقف القتال في صفين وفي التعامل مع الولاة في الأمصار ومع المشركين المتظاهرين بالإسلام.
وأبرز ما يبدو فيه شأن الأمة مع الحاكم هو أن يعزل الأمير الوالي عنهم إذا لم يرغبوا فيه، وقد شهد عصر الراشدين عزل ولاة لمجرد طلب أهل البلد، فربما اتهموهم بما هو كذب أو بما لا يثبت، ومهما كان هذا الوالي من الصحابة المشهورين بالفضل والسابقة والكفاءة، فقد عُزل عن الكوفة سعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة، وقد قال عمر: "هان شيء أُصلح به قوماً: أن أُبدلهم أميراً مكان أمير"
وقد تكرر مثل هذا المعنى في قول عثمان الذي ردَّ أبا موسى الأشعري إلى الكوفة وعزل سعيد بن العاص، ومعه رسالة لأهل الكوفة تقول: "قد أمرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عند ما أحببتم، حتى لا يكون لكم علي حجة".
ويبدو واضحا جليا أن عمر بن الخطاب رشَّح سعد بن أبي وقاص ليكون خليفة من بعده ضمن الستة المرشحين، رغم أنه عزله عن الكوفة، وأعلن عن ذلك أنه لم يعزله عن تهمة أو عجز، وإنما ما وجده من أن بعض أهل الكوفة لا يقبل بولايته. وعلى العموم فأخبار عزل الولاة في عصر الراشدين مشهورة.
عزل الخليفة
كما لم يدَّع أحد من الخلفاء أنه تولى على الأمة بحق إلهي أو بفضيلة زائدة عليهم، كذلك لم يدّع أحد منهم أنه مُحصَّن من العزل، وإنما جميعهم يعترف بأن الأمر أمر الأمة، لها أن تعزل الخليفة كما ولَّته. ولما تمرد بعض الناس على عثمان لم يجادل أبدا في أن من حقِّ الأمة أن تعزله، وإنما فتح حوارا طويلا ومتكررا مع من تمردوا عليه، وأوضح فيها أن ما يرفعونه من أسباب إما أنها مكذوبة عليه وإما أنها غير موجبة لعزله، وقد اجتمع على بقائه الصحابة وعامة المسلمين، وقال له عبد الله بن عمر: "لا تخلع قميص الخلافة عنك فتكون سنة، كلما كره قوم أميرهم خلعوه"، ويقصد بهذا أن استجابة عثمان لرأي قلة متمردة سيجعل نظام الخلافة والدولة المسلمة مضطربا، كلما خرج بعض الناس بالسلاح فإنهم يستطيعون عزل الخليفة لأسباب يتوهمونها. ولهذا فلقد أطال عثمان الجدال معهم محاولا ردَّهم عن هذه الفتنة.
الخلاصة
تحت هذه الحقوق الثلاثة الكبرى: حق التولية، حق المراقبة، حق العزل تندرج سائر الحقوق التي للأمة على الحاكم. وهذه الحقوق تحفظ الأمة من الشرور الكبرى، من شر الاحتلال والعمالة، وبقدر ما رسخ في ضمير الناس أن لهم تلك الحقوق بقدر ما كانت قدرتهم وافرة على مقاومة المحتل والمستبد.
نحن الآن في لحظة جديدة في تاريخنا لم تتكرر من قبل. فتاريخنا على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولي: الخلافة الراشدة والتي هي النموذج المثالي للنظام السياسي الإسلامي، ففيها كان الخليفة هو أفضل الأمة دينا وسياسة معا، يقيم فيها العدل ويجتهد لها وينصح، يشاور ويستمع ولا يستبد ولا يطغى.
المرحلة الثانية: الملك العضوض، وهو الذي استمر منذ الأمويين حتى العثمانيين، وفيها ظلت تتناقص الصورة المثالية تدريجيا لكنها لم تنخلع من الإسلام، وحكامها في الجملة من صميم الأمة، ولاؤهم لها، ويعملون لصالحها ويجاهدون أعداءها، مع ما فيهم من ظلم وانحراف واستبداد وما لبعضهم من كوارث وخطايا ومخاز.
المرحلة الثالثة: الحكم الجبري، وهي المرحلة التي بدأت بالاحتلال ثم بعملائه بعد رحيله، وأولئك العملاء كانوا شرا على الأمة من المحتل نفسه، وارتكبوا من المذابح ما لم ترتكبه قوات الاحتلال، ونهبوا من أموال الأمة وثرواتها ما لم يفعله المحتلون، وهم وُجدوا في هذا المنصب وحكموا بدعم وحماية المحتلين. وإذا قامت عليهم ثورة تدخل أولئك المحتلون لإخمادها بكل القسوة والدمار، أو تدخلوا ليرتبوا عميلا جديدا مكان القديم الذي انتهت صلاحيته، فإذا لم يمكن هذا ولا ذاك نزلوا بأنفسهم وجيوشهم لمنع البلاد من أن يحكمها أهلها والمعبرون عنها.
في هذه المرحلة الثالثة اجتمعت شرور الاحتلال والاستبداد، وانتزعت من الأمة كل عناصر القوة لتصير أسيرة عزلاء أمام الوحش المستبد المدجج بالأسلحة، ولهذا نقول إن هذه اللحظة لم تتكرر من قبل في تاريخنا، ولهذا فنحن في حاجة لمجهود ضخم لكي تكتسب الأمة القوة التي تفرض بها إرادتها على المحتل وعملائه المستبدين.
وأول هذه القوة: قوة الوعي والإيمان بأن لها وحدها الحق في تولية الحاكم بحق لا كمجرد إجراء شكلي واختيار مزيف. ولها الحق الكامل في المراقبة والمتابعة والنصح والتوجيه كي لا يقع الحاكم –الذي انتخبته بإرادتها- فريسة لضغوط الشرق والغرب. ولها الحق الكامل في عزل الحاكم إذا خرج عن الثوابت الدينية والمرجعية العليا.
الوعي والإيمان بهذه الحقوق هو الذي سيدفع بالإجراءات الأخرى كقوة المؤسسات وأصالتها، والقوة العسكرية المنتمية للأمة لا للسلطة، والمتوزعة بين السلطة والأمة لا التي تحتكرها السلطة وحدها، وكالآليات التي تُمَكِّن من حفاظ الأمة على قوتها ووجودها.
نشر في مدونات الجزيرة
حينما كنت أقول هذا لبعض أصدقائي، سألني أحدهم: ما الفارق إذن بين النظام الإسلامي والنظام الغربي العلماني، فعندهم نفس هذه الحقوق؟
وهذا نبهني لأمر يغيب عن تفكير من يتناولون موضوع النظام السياسي الإسلامي: لقد أنشأ الإسلام نظاما سياسيا يجعل الأمة فوق السلطة، بمعنى أنه يوزع عناصر القوة بين الأمة والسلطة، على العكس مما هو في حالة الدولة الحديثة المركزية التي تتركز فيها القوة في يد السلطة وحدها، فتكون الأمة أمام السلطة كالأسير أمام السجان والأعزل أمام المسلح.. يصنع الإسلام نظاما سياسيا يحصل فيه التوازن بين قوة الأمة وقوة السلطة، بينما تصنع الدولة الحديثة نظاما تكون فيه السلطة هي الجهة التي تحتكر القوة. (وهو معنى كررناه كثيرا في مواضع سابقة، انظر هذا المقالوروابطه)
وهذا مدخل مهم لكي نفهم منه أن الإسلام يُطالب الأمة بالسمع والطاعة للأمير في المعروف وينهى عن الخروج عليه طالما لم يرتكب الكفر البواح ولم يخرج عن نظام الإسلام. إذ تكوين النظام يجعل الأمة صاحبة قوة وعندها القدرة على الاحتجاج والثورة. بينما القيمة الأساسية في فكر الدولة الحديثة هي "الحقوق والحريات"، لأن السلطة تستطيع كبت وقهر المحكومين بما تحتكره من أدوات القوة، فلا يمكن مطالبة المقهورين بالسمع والطاعة بل تُطالَب السلطة بتوفير وتأمين الحقوق والحريات، ويكون الكفاح السياسي في الدولة الحديثة كفاح لتوسيع هامش الحريات وتقليل تغول السلطة. ومن هنا يجب أن نفهم حقوق الأمة وحقوق الحاكم في النظام الإسلامي ضمن هذا التصور.
وقد تناولنا في مقال سابقمسألة تولية الحاكم، والآن نتحدث في الحقين الآخرين: المراقبة والعزل.
حق المراقبة
في الخطبة الأولى لأبي بكر في الخلافة قال: "إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني... أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"
هنا قرر الصديق أن الأمة رقيبة على الحاكم، ومشاركة له في شأن السياسة والإدارة، فهي تراقبه وتحكم على أدائه، فإن كان محسنا أعانوه فيزداد إحسانا، وإن كان مسيئا نصحوه وقوموه فيتداركون إساءته.
والأمة والحاكم جميعا يخضعون للشريعة ولنظام الإسلام، ولهذا فإن معيار التقييم واضح للجميع، يعرف الجميع كيف يحكم على شيء بأنه حسن وعلى آخر بأنه سيئ، وأما ما كان اشتباه أو تداخل فهو أمر مردود لأهل العلم والاستنباط. كما في الآية (ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
فالأمة المسلمة ليست أمة أكل وشرب ورفاهية ومادة، بل هي الأمة المؤتمنة على الرسالة، فهي عندما تراقب حاكمها وتقيم عمله تقيسه على معيار الإسلام وتعالميه، فلا يقبل من الحاكم أن يظلم ويقسو بحجة "مصلحة الدولة" أو أن يسمح بانتشار الفحش والرذيلة لأنها تزيد من "الدخل القومي" أو يسمح بإجراءات اقتصادية فيها احتكار أو غش مراعاة لرجال الأعمال لجذب استثماراتهم.. كل هذه الأمور وأمثالها لا تسمح به الأمة المسلمة ولو كان فيها ازدهار للأموال والرفاهية والطعام والمباني، إنما معيار ومقياس طاعة الأمة لحاكمها بقدر طاعته لله ورسوله.
يُلاحظ في عبارتي الصديق فارق واضح، فأبو بكر يطلب في الأولى أن يعينوه إذا أحسن وأن يقوِّموه إذا أساء. لكنه في العبارة الثانية يتحدث عن شرعية الأمة في عصيانه والتمرد عليه إذا خرج عن طاعة الله ورسوله.. ولا بد أن ننتبه لهذا جيدا. ذلك أن الحاكم سيكون له آراء واجتهادات وتصرفات في شؤون الحكم والسياسة والإدارة فهو ما دام يعمل في إطار الرسالة والشريعة فإن على الأمة أن تعينه في الصواب وتنصح له في الخطأ، لكنه إذا خرج عن الشريعة ولم يلتزم هذه المرجعية العليا فقد سقط حقه على الأمة في السمع والطاعة، ونشأ واجب على الأمة أن تعصيه وتقاومه حتى يعود إلى الالتزام بنظام الدين وبالمرجعية العليا التي هي الإسلام، يقول الإمام عبد القاهر البغدادي في كتابه "أصول الدين":
"فمتى أقام (أي: الحاكم) في الظاهر على موافقة الشريعة كان أمره في الإمامة منتظما، ومتى زاغ عن ذلك كانت الأمة عيارا عليه في العدول به من خطئه إلى صواب أو في العدول عنه إلى غيره. وسبيلهم معه فيها كسبيله مع خلفائه وقضاته وعُمَّاله وسُعاته، إن زاغوا عن سننه عدل بهم أو عدل عنهم"
وإذا كان واجب الأمة أن تعصي من يخرج عن الشريعة فكيف بمن يخرج على الشريعة ويحاربها وينشر بقوة السلطة ما يناقضها؟!
ثم ها هنا أمر مهم أيضا، إن تقويم الحاكم والنصح له أو عصيانه إن خرج عن الشريعة ليست مجرد "حق" تمارسه الأمة، بل هو "واجب"، فالحق هو الأمر الذي لصاحبه أن يتنازل عنه، بينما "الواجب" هو أمر لا يجوز تركه والتنازل عنه. فعلى الأمة عليها "واجب" مراقبة الحاكم وتقويمه بل والخروج عليخ إن خرج عن الشريعة.
وقد وقع في عهد أبي بكر أن رجلا أغلظ له القول، حتى غضب أبو بكر غضبا شديدا من إغلاظه له وشدته، فقام أبو برزة الأسلمي فقال: ألا أضرب عنقه يا خليفة رسول الله؟ فإذا أبو بكر يتجنب الأمر (أي: يغير الموضوع)، فلما انتهى الجمع أرسل أبو بكر إلى أبي برزة فقال له: أرأيت حين رأيتني غضبت على رجل فقلت أضرب عنقه يا خليفة رسول الله أَوَ كنت فاعلا ذلك؟! قلت: نعم والله والآن إن أمرتني فعلتُ. قال: والله ما هي لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم". فهنا أسس أبو بكر أن المعارضة للخلفاء والإغلاظ في القول لهم ليست مما يستوجب القتل كما كان ذلك في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشورى
كان رسول الله خير البشر وأكملهم وأعلمهم بالله والمتصل بالوحي، ومع هذا أُمِر بالشورى، ولما وجد رغبة المسلمين في الخروج إلى أحد نزل على رغبتهم رغم أنه كان يرى البقاء في المدينة والدفاع عنها من داخلها، فلما حصلت المحنة في معركة أحد أنزل الله عليه القرآن يؤكد عليه أن يظل على رفقه ولينه معهم وأن يستشيرهم (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر). وكان رسول الله مثالا في الاستشارة حتى ليقول أبو هريرة: "ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ومن العجيب أنه منذ كان المسلمون في مكة وقبل أن تتأسس لهم دولة كان القرآن يصف لهم صورة مجتمعهم المنشود بأنه مجتمع عبادة وشورى وتكافل (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون). هذه الآية هي في سورة الشورى، وهي سورة مكية. فلما توفي رسول الله، وانقطع الوحي من السماء، كان عصر الخلافة الراشدة هو التأسيس الكامل لشأن الشورى التي ستسمر في شأن الأمة مع حكامها:
كان أبو بكر إذا لم يجد للمسألة نصا في كتاب الله سأل الناس: هل بلغهم شيء في هذا عن رسول الله، فإن لم يجد جمع لها رؤوس الصحابة فاستشارهم، فإذا اجتمعوا على رأي أخذ به. وكان عمر يجمع للشورى ما أمكنه من الصحابة الكبار، لا سيما في المسائل الكبرى والنوازل، فعند طاعون عمواس جمع من كان لديه من المهاجرين ثم الأنصار ثم مشايخ قريش ممن تأخر إسلامهم حتى صدر عن رأيهم، وذلك قبل أن يلقى عبد الرحمن بن عوف فيخبره بحديث النبي "إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها"، وحين كثرت الأموال استشار الصحابة في مصارفها، وفي إنشاء الديوان، وانعقد مجلس للمشورة ثلاثة أيام في شأن تقسيم الأراضي الواسعة الخصبة في العراق وما إن كانت تقسم على الفاتحين أم يُحتفظ بحق فيها للأجيال القادمة، وكان يستشير الشباب حتى كان من أهل مشورته الصحابي الشاب عبد الله بن عباس، حتى إن الإمام الزهري قال لبعض الغلمان من الناشئة: "لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم"، وقد ختم عمر حياته بمجلس للشورى في شأن انتخاب الخليفة من بعده.
وعلى مثل ذلك من المشورة جرى شأن الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فقد افتتح عهده بالشورى في شأن عبيد الله بن عمر الذي قتل الهرمزان ثأرا لأبيه لما حامت حوله شبهة الاشتراك مع أبي لؤلؤة، فكان أكثر الناس مع دفع الدية فدفعها عثمان من ماله. وكانت خطواته في جمع الأمة على مصحف واحد وحرق بقية النسخ على ملأ من الصحابة كما قال علي بن أبي طالب، بداية من كاتب المصحف والمُحَكَّم في اللهجة ونشر النسخ من المصحف المعتمد، وغير ذلك حتى آخر حياته حيث ثبتت أخبار مشاوراته للصحابة في الفتنة التي انتهت باستشهاده.
وكذلك كان علي يستشير كما في وقف القتال في صفين وفي التعامل مع الولاة في الأمصار ومع المشركين المتظاهرين بالإسلام.
وأبرز ما يبدو فيه شأن الأمة مع الحاكم هو أن يعزل الأمير الوالي عنهم إذا لم يرغبوا فيه، وقد شهد عصر الراشدين عزل ولاة لمجرد طلب أهل البلد، فربما اتهموهم بما هو كذب أو بما لا يثبت، ومهما كان هذا الوالي من الصحابة المشهورين بالفضل والسابقة والكفاءة، فقد عُزل عن الكوفة سعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة، وقد قال عمر: "هان شيء أُصلح به قوماً: أن أُبدلهم أميراً مكان أمير"
وقد تكرر مثل هذا المعنى في قول عثمان الذي ردَّ أبا موسى الأشعري إلى الكوفة وعزل سعيد بن العاص، ومعه رسالة لأهل الكوفة تقول: "قد أمرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عند ما أحببتم، حتى لا يكون لكم علي حجة".
ويبدو واضحا جليا أن عمر بن الخطاب رشَّح سعد بن أبي وقاص ليكون خليفة من بعده ضمن الستة المرشحين، رغم أنه عزله عن الكوفة، وأعلن عن ذلك أنه لم يعزله عن تهمة أو عجز، وإنما ما وجده من أن بعض أهل الكوفة لا يقبل بولايته. وعلى العموم فأخبار عزل الولاة في عصر الراشدين مشهورة.
عزل الخليفة
كما لم يدَّع أحد من الخلفاء أنه تولى على الأمة بحق إلهي أو بفضيلة زائدة عليهم، كذلك لم يدّع أحد منهم أنه مُحصَّن من العزل، وإنما جميعهم يعترف بأن الأمر أمر الأمة، لها أن تعزل الخليفة كما ولَّته. ولما تمرد بعض الناس على عثمان لم يجادل أبدا في أن من حقِّ الأمة أن تعزله، وإنما فتح حوارا طويلا ومتكررا مع من تمردوا عليه، وأوضح فيها أن ما يرفعونه من أسباب إما أنها مكذوبة عليه وإما أنها غير موجبة لعزله، وقد اجتمع على بقائه الصحابة وعامة المسلمين، وقال له عبد الله بن عمر: "لا تخلع قميص الخلافة عنك فتكون سنة، كلما كره قوم أميرهم خلعوه"، ويقصد بهذا أن استجابة عثمان لرأي قلة متمردة سيجعل نظام الخلافة والدولة المسلمة مضطربا، كلما خرج بعض الناس بالسلاح فإنهم يستطيعون عزل الخليفة لأسباب يتوهمونها. ولهذا فلقد أطال عثمان الجدال معهم محاولا ردَّهم عن هذه الفتنة.
الخلاصة
تحت هذه الحقوق الثلاثة الكبرى: حق التولية، حق المراقبة، حق العزل تندرج سائر الحقوق التي للأمة على الحاكم. وهذه الحقوق تحفظ الأمة من الشرور الكبرى، من شر الاحتلال والعمالة، وبقدر ما رسخ في ضمير الناس أن لهم تلك الحقوق بقدر ما كانت قدرتهم وافرة على مقاومة المحتل والمستبد.
نحن الآن في لحظة جديدة في تاريخنا لم تتكرر من قبل. فتاريخنا على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولي: الخلافة الراشدة والتي هي النموذج المثالي للنظام السياسي الإسلامي، ففيها كان الخليفة هو أفضل الأمة دينا وسياسة معا، يقيم فيها العدل ويجتهد لها وينصح، يشاور ويستمع ولا يستبد ولا يطغى.
المرحلة الثانية: الملك العضوض، وهو الذي استمر منذ الأمويين حتى العثمانيين، وفيها ظلت تتناقص الصورة المثالية تدريجيا لكنها لم تنخلع من الإسلام، وحكامها في الجملة من صميم الأمة، ولاؤهم لها، ويعملون لصالحها ويجاهدون أعداءها، مع ما فيهم من ظلم وانحراف واستبداد وما لبعضهم من كوارث وخطايا ومخاز.
المرحلة الثالثة: الحكم الجبري، وهي المرحلة التي بدأت بالاحتلال ثم بعملائه بعد رحيله، وأولئك العملاء كانوا شرا على الأمة من المحتل نفسه، وارتكبوا من المذابح ما لم ترتكبه قوات الاحتلال، ونهبوا من أموال الأمة وثرواتها ما لم يفعله المحتلون، وهم وُجدوا في هذا المنصب وحكموا بدعم وحماية المحتلين. وإذا قامت عليهم ثورة تدخل أولئك المحتلون لإخمادها بكل القسوة والدمار، أو تدخلوا ليرتبوا عميلا جديدا مكان القديم الذي انتهت صلاحيته، فإذا لم يمكن هذا ولا ذاك نزلوا بأنفسهم وجيوشهم لمنع البلاد من أن يحكمها أهلها والمعبرون عنها.
في هذه المرحلة الثالثة اجتمعت شرور الاحتلال والاستبداد، وانتزعت من الأمة كل عناصر القوة لتصير أسيرة عزلاء أمام الوحش المستبد المدجج بالأسلحة، ولهذا نقول إن هذه اللحظة لم تتكرر من قبل في تاريخنا، ولهذا فنحن في حاجة لمجهود ضخم لكي تكتسب الأمة القوة التي تفرض بها إرادتها على المحتل وعملائه المستبدين.
وأول هذه القوة: قوة الوعي والإيمان بأن لها وحدها الحق في تولية الحاكم بحق لا كمجرد إجراء شكلي واختيار مزيف. ولها الحق الكامل في المراقبة والمتابعة والنصح والتوجيه كي لا يقع الحاكم –الذي انتخبته بإرادتها- فريسة لضغوط الشرق والغرب. ولها الحق الكامل في عزل الحاكم إذا خرج عن الثوابت الدينية والمرجعية العليا.
الوعي والإيمان بهذه الحقوق هو الذي سيدفع بالإجراءات الأخرى كقوة المؤسسات وأصالتها، والقوة العسكرية المنتمية للأمة لا للسلطة، والمتوزعة بين السلطة والأمة لا التي تحتكرها السلطة وحدها، وكالآليات التي تُمَكِّن من حفاظ الأمة على قوتها ووجودها.
نشر في مدونات الجزيرة
Published on August 23, 2017 02:49
August 16, 2017
عبد الرحمن عز في ألمانيا
ألمانيا واحدة من دول الحضارة الغربية..
لم يتوصل الغرب إلى إنهاء الحروب الداخلية فيما بينهم إلا حينما اكتشفوا معادلة جديدة خلاصتها: لماذا نتقاتل في أوروبا إن كان لدينا عالم واسع يمكن الاستيلاء عليه؟!.. نعم، لم يتوقف القتال داخل أوروبا العصور الوسطى إلا حينما جاء عصر الكشوف الجغرافية ببلاد واسعة في إفريقيا وآسيا والأمريكتين.. هنا، خرجت الجيوش الأوروبية خارج أوروبا لتسجل الصفحة الأكثر سوادا في تاريخ البشرية: الإبادة والإفناء، واستعباد البشر، ومؤتمرات تقسيم البلاد، ونهب الثروات.. وهي الصفحة التي لم تزل قائمة كما هي لكن يغطي سوادها غلاف رقيق جبار من الإعلام والأفكار والنظام!
هل قلتُ النظام؟!
نعم! هل تعرف أن القتل حين يكون منظما يكون لذيذا وممتعا ومقبولا ومفهوما؟! فالشرطي حين يقتل مجرما يستحق التصفيق! تلك قاعدة بديهية مفهومة.
لكن لحظة..
من الذي قرر أن هذا مجرم، ومن الذي قرر أن جزاءه القتل؟!
هنا عمل المنظومة الفكرية، والإعلامية، والقانونية.. تلك هي الجهات التي مهمتها إقناعك بأن عملية القتل التي رأيتها بعينيك تستحق التصفيق، وينبغي عليك أن تغني وأنت فرح من أعماق قلبك "تسلم الأيادي" أو "واو.. يا له من بطل!" إن كنت تتكلم بلسان الفرنجة!
وعالمنا اليوم هكذا.. أمم متحدة ومجلس أمن ومحاكم دولية ولجان تقصي حقائق وفريق مبعوثين دوليين.. وفي النهاية قوائم تصنيف تُعرض على محاكم لتصدر عنها بشكل قانوني، فتنزل إلى منظومة أمنية عالمية "الانتربول" وتتسلمها الدول لتضعها على مطاراتها وموانئها ومنافذها، أو قرارات حرب يتولى تنفيذها جيش عالمي "الناتو".. قواعد عسكرية تنتشر في جميع العالم ولا تسمى احتلالا –لا سمح النظام!- وإنما هي اتفاقيات أمنية ودفاعية مشتركة ثنائية تمت بالقبول والرضا!
نظام حقيقي لشرعنة الظلم والقتل.. ويا طالما عجزت المنظومة عن إيجاد الحل لأن القضية معقدة والأزمة متشابكة والأطراف غير متعاونة و.. و.. و.. إلخ! وأمامنا جميعا مقتلة في عامها السادس أسفرت عن نصف مليون قتيل وسبعة ملايين مشرد ومدن زالت من على وجه الأرض ولا تزال المنظومة لا تجد للمشكلة حلا!! بلى! من قرأ بيان مايكل رانتي قبل أيام –وهو المبعوث لا أدي كم رقمه ضمن مبعوثي الأمم المتحدة لسوريا- لعرف أنه نذير حرب أن يقع في إدلب ما وقع في حلب إن لم تختف "هيئة تحرير الشام" تماما من تلك المناطق كلها.
ولعل كثيرين لا يعرفون أن محاكم التفتيش الإسبانية –وهي إحدى صفحات التاريخ السوداء، وهي صفحة غربية أيضا- كانت تجري وفق نظام دقيق محكم يثير إعجاب الشغوفين بالإجراءات والتقاليد! وما عالمنا الآن إلا محكمة تفتيش كبيرة، وهي تفتش في صدور الناس عن الأفكار المحظورة.. إلا أن الأسماء رقيقة: النظام العالمي يكافح الإرهاب!
نعود إلى ألمانيا..
ألمانيا دولة قانون ونظام ومؤسسات! تشن فيها الحملات اليومية على أردوغان لأنه ديكتاتور بينما لا بأس أبدا بالتعاون –بل التعاون الأمني- مع السيسي! فالسيسي كائن لطيف كما تشاهدون جميعا.. "انتو مش عارفين ان انتوا نور عينينا ولا إيه"!
والسيسي رجل المنظومة الدولية، ينفذ انقلابا عسكريا، ومذابح يومية، لكنه يأتي بعد غسل يديه ليقف في الأمم المتحدة يخطب عن الإرهاب!
وقد أعلن السيسي غضبه على بعض معارضيه، فأدخلها النظام في منظومته الأمنية لتتحول غضبه إلى "قائمة دولية" تعمل أجهزة الأمن في مطارات العالم وفقا لها.
لا تزال المنظومة هي هي، منذ صلح وستفاليا الذي أوقف الحرب في أوروبا بتصديرها للعالم كله حتى الآن.. الغرب يصدر كل إجرامه عبر العالم لكن عبر قفازات محلية؛ نعم! نحن نصنع القفاز وننتجه ونسوقه وندعمه ونرى أن استقراره ودعم نظامه ضرورة لأمن واستقرار العالم.. لكننا نحرص ألا نتلوث مباشرة بقذارته!
لو أن أحدا من الموضوعين على قائمة الإرهاب عبر بمطار دبي، فالإجراء الطبيعي أن يُقبض عليه، يدفع إلى السيسي، يرى جهنم في أقبية أجهزة الأمن، ربما خرج منها قتيلا أو فاقدا لعضو من أعضائه، أو لبث في السجن أحقابا!لا بأس، دبي مدينة في بلاد العرب، والعرب لا يستحون.. يفعلونها ولا يبالون!
أما أن يحدث هذا في برلين فلا! هنا دولة القانون والمؤسسات والنظام.. هنا الأرض التي حرمنا عليها أن تدخلها الحروب، الحروب فقط هناك!
ولهذا، يمكن للسيسي أن يقتل عبد الرحمن عز، يعذبه، يعتقله.. ما شاء له أن يفعل به! طالما كان في مصر، أما حيث استطاع بطريقة ما أن يصل إلى بلادنا، فهنا يمكن أن نعطيه حق اللجوء السياسي، حقه في التقاضي، حقه في حرية الرأي والتظاهر وما شاء من حقوق! وهو إن نزل إلى ألمانيا فاستوقفته شرطة المطار –طبقا لقائمة غضب السيسي- ربما تحركت له السفارة الإنجليزية، وعومل كما ينبغي لمواطن "وصل إلى بلادنا"!
إنه النظام يا سادة!
نحن أسباب القتل في بلادكم، وأسباب الحياة في بلادنا.. لأن حياة بلادنا لا تقوم إلا على موت بلادكم! فمن أراد الحياة حضر عندنا بشروطنا وتحت قانوننا، ومن أراد الموت فليبق في السجن الوطن!
وصدق المتنبي:ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى .. عدوا له ما من صداقته بد
إنه حمزة البسيوني العالمي.. حمزة البسيوني قائد السجن الحربي في عصر عبد الناصر، خطب يوما خطبة عصماء حولها القرضاوي إلى أبيات شعر في نونيته، فكان مما قال:
إني هنا القانون أعلى سلطة .. من ذا يحاسب سلطة القانونإن شئتُ سامحكتم، فبرحمتي .. وإن أبيتُ فذاك طوع يمينيومن ابتغى موتا، فها عندي له .. موت بلا غسل ولا تكفين
والسجن أيضا نظام!
ليس نظاما ليحفظ حقوق الناس، بل للسيطرة عليهم والتحكم فيهم.. وربما شاء النظام فقتل بعضا منهم تحت التعذيب، وعندها فلا بأس عليه.. طالما "الورق تماما" فلا بأس أبدا.. فقط أرسل من يدفنهم في أي مكان، ثم سجل في الدفتر أنه هرب، وإن شئت ألا ترهق نفسك بالدفن فسجل أنه حاول الهروب فقُتِل فتعالوا تسلموا جثته، وكان صدام حسين يأتي بالرجل فيريه إعدام ولده برصاصة في رأسه ثم يطلب منه ثمن الرصاصة، "لأنها عهدة"! ويا لها من أمانة! ويا له من شرف!
لست ألوم العدو، فإن الذين يحبون أن تبقى حضارتهم زمنا قادما يعرفون أنهم يجب أن يحافظوا على بلدانهم من أن تمتد إليها قذارة العملاء.. ألقى نابليون يوما لعميله الذهب على الأرض لكي لا يتلوث بمصافحة خائن!
وهكذا يفعل سلفه من بعده، وهل أتاك نبأ من اختطفوا من أوروبا ليُلقى بهم في أمريكا في إطار الحرب على الإرهاب؟!.. ثم هل أتاك نبأ أن الأمريكان كانوا يرسلون بعض أولئك السجناء لتعذيبهم في مصر وسوريا والأردن والمغرب؟! لم يحبوا أن يقوموا بأنفسهم بالأعمال القذرة التي يقوم بها عملاؤهم! مع أن عملاءهم يستوردون منهم آلات التعذيب نفسها!
لكنه أيضا.. النظام! النظام الذي اتفقنا عليه جميعا.. فالآت التعذيب لا نستعملها في "بلادنا"، وإنما نقدمها لكم لتستعملونها لصالحنا.. في بلادكم المستعمرة!
الحمد لله الذي فرج عنك أخي الحبيب عبد الرحمن عز، ونسأله جميعا فرجا لبلادنا كلها.. فتلك هي الحرية حقا! وعندها يكون لنا أكبر احتفال!
نشر في مدونات الجزيرة
لم يتوصل الغرب إلى إنهاء الحروب الداخلية فيما بينهم إلا حينما اكتشفوا معادلة جديدة خلاصتها: لماذا نتقاتل في أوروبا إن كان لدينا عالم واسع يمكن الاستيلاء عليه؟!.. نعم، لم يتوقف القتال داخل أوروبا العصور الوسطى إلا حينما جاء عصر الكشوف الجغرافية ببلاد واسعة في إفريقيا وآسيا والأمريكتين.. هنا، خرجت الجيوش الأوروبية خارج أوروبا لتسجل الصفحة الأكثر سوادا في تاريخ البشرية: الإبادة والإفناء، واستعباد البشر، ومؤتمرات تقسيم البلاد، ونهب الثروات.. وهي الصفحة التي لم تزل قائمة كما هي لكن يغطي سوادها غلاف رقيق جبار من الإعلام والأفكار والنظام!
هل قلتُ النظام؟!
نعم! هل تعرف أن القتل حين يكون منظما يكون لذيذا وممتعا ومقبولا ومفهوما؟! فالشرطي حين يقتل مجرما يستحق التصفيق! تلك قاعدة بديهية مفهومة.
لكن لحظة..
من الذي قرر أن هذا مجرم، ومن الذي قرر أن جزاءه القتل؟!
هنا عمل المنظومة الفكرية، والإعلامية، والقانونية.. تلك هي الجهات التي مهمتها إقناعك بأن عملية القتل التي رأيتها بعينيك تستحق التصفيق، وينبغي عليك أن تغني وأنت فرح من أعماق قلبك "تسلم الأيادي" أو "واو.. يا له من بطل!" إن كنت تتكلم بلسان الفرنجة!
وعالمنا اليوم هكذا.. أمم متحدة ومجلس أمن ومحاكم دولية ولجان تقصي حقائق وفريق مبعوثين دوليين.. وفي النهاية قوائم تصنيف تُعرض على محاكم لتصدر عنها بشكل قانوني، فتنزل إلى منظومة أمنية عالمية "الانتربول" وتتسلمها الدول لتضعها على مطاراتها وموانئها ومنافذها، أو قرارات حرب يتولى تنفيذها جيش عالمي "الناتو".. قواعد عسكرية تنتشر في جميع العالم ولا تسمى احتلالا –لا سمح النظام!- وإنما هي اتفاقيات أمنية ودفاعية مشتركة ثنائية تمت بالقبول والرضا!
نظام حقيقي لشرعنة الظلم والقتل.. ويا طالما عجزت المنظومة عن إيجاد الحل لأن القضية معقدة والأزمة متشابكة والأطراف غير متعاونة و.. و.. و.. إلخ! وأمامنا جميعا مقتلة في عامها السادس أسفرت عن نصف مليون قتيل وسبعة ملايين مشرد ومدن زالت من على وجه الأرض ولا تزال المنظومة لا تجد للمشكلة حلا!! بلى! من قرأ بيان مايكل رانتي قبل أيام –وهو المبعوث لا أدي كم رقمه ضمن مبعوثي الأمم المتحدة لسوريا- لعرف أنه نذير حرب أن يقع في إدلب ما وقع في حلب إن لم تختف "هيئة تحرير الشام" تماما من تلك المناطق كلها.
ولعل كثيرين لا يعرفون أن محاكم التفتيش الإسبانية –وهي إحدى صفحات التاريخ السوداء، وهي صفحة غربية أيضا- كانت تجري وفق نظام دقيق محكم يثير إعجاب الشغوفين بالإجراءات والتقاليد! وما عالمنا الآن إلا محكمة تفتيش كبيرة، وهي تفتش في صدور الناس عن الأفكار المحظورة.. إلا أن الأسماء رقيقة: النظام العالمي يكافح الإرهاب!
نعود إلى ألمانيا..
ألمانيا دولة قانون ونظام ومؤسسات! تشن فيها الحملات اليومية على أردوغان لأنه ديكتاتور بينما لا بأس أبدا بالتعاون –بل التعاون الأمني- مع السيسي! فالسيسي كائن لطيف كما تشاهدون جميعا.. "انتو مش عارفين ان انتوا نور عينينا ولا إيه"!
والسيسي رجل المنظومة الدولية، ينفذ انقلابا عسكريا، ومذابح يومية، لكنه يأتي بعد غسل يديه ليقف في الأمم المتحدة يخطب عن الإرهاب!
وقد أعلن السيسي غضبه على بعض معارضيه، فأدخلها النظام في منظومته الأمنية لتتحول غضبه إلى "قائمة دولية" تعمل أجهزة الأمن في مطارات العالم وفقا لها.
لا تزال المنظومة هي هي، منذ صلح وستفاليا الذي أوقف الحرب في أوروبا بتصديرها للعالم كله حتى الآن.. الغرب يصدر كل إجرامه عبر العالم لكن عبر قفازات محلية؛ نعم! نحن نصنع القفاز وننتجه ونسوقه وندعمه ونرى أن استقراره ودعم نظامه ضرورة لأمن واستقرار العالم.. لكننا نحرص ألا نتلوث مباشرة بقذارته!
لو أن أحدا من الموضوعين على قائمة الإرهاب عبر بمطار دبي، فالإجراء الطبيعي أن يُقبض عليه، يدفع إلى السيسي، يرى جهنم في أقبية أجهزة الأمن، ربما خرج منها قتيلا أو فاقدا لعضو من أعضائه، أو لبث في السجن أحقابا!لا بأس، دبي مدينة في بلاد العرب، والعرب لا يستحون.. يفعلونها ولا يبالون!
أما أن يحدث هذا في برلين فلا! هنا دولة القانون والمؤسسات والنظام.. هنا الأرض التي حرمنا عليها أن تدخلها الحروب، الحروب فقط هناك!
ولهذا، يمكن للسيسي أن يقتل عبد الرحمن عز، يعذبه، يعتقله.. ما شاء له أن يفعل به! طالما كان في مصر، أما حيث استطاع بطريقة ما أن يصل إلى بلادنا، فهنا يمكن أن نعطيه حق اللجوء السياسي، حقه في التقاضي، حقه في حرية الرأي والتظاهر وما شاء من حقوق! وهو إن نزل إلى ألمانيا فاستوقفته شرطة المطار –طبقا لقائمة غضب السيسي- ربما تحركت له السفارة الإنجليزية، وعومل كما ينبغي لمواطن "وصل إلى بلادنا"!
إنه النظام يا سادة!
نحن أسباب القتل في بلادكم، وأسباب الحياة في بلادنا.. لأن حياة بلادنا لا تقوم إلا على موت بلادكم! فمن أراد الحياة حضر عندنا بشروطنا وتحت قانوننا، ومن أراد الموت فليبق في السجن الوطن!
وصدق المتنبي:ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى .. عدوا له ما من صداقته بد
إنه حمزة البسيوني العالمي.. حمزة البسيوني قائد السجن الحربي في عصر عبد الناصر، خطب يوما خطبة عصماء حولها القرضاوي إلى أبيات شعر في نونيته، فكان مما قال:
إني هنا القانون أعلى سلطة .. من ذا يحاسب سلطة القانونإن شئتُ سامحكتم، فبرحمتي .. وإن أبيتُ فذاك طوع يمينيومن ابتغى موتا، فها عندي له .. موت بلا غسل ولا تكفين
والسجن أيضا نظام!
ليس نظاما ليحفظ حقوق الناس، بل للسيطرة عليهم والتحكم فيهم.. وربما شاء النظام فقتل بعضا منهم تحت التعذيب، وعندها فلا بأس عليه.. طالما "الورق تماما" فلا بأس أبدا.. فقط أرسل من يدفنهم في أي مكان، ثم سجل في الدفتر أنه هرب، وإن شئت ألا ترهق نفسك بالدفن فسجل أنه حاول الهروب فقُتِل فتعالوا تسلموا جثته، وكان صدام حسين يأتي بالرجل فيريه إعدام ولده برصاصة في رأسه ثم يطلب منه ثمن الرصاصة، "لأنها عهدة"! ويا لها من أمانة! ويا له من شرف!
لست ألوم العدو، فإن الذين يحبون أن تبقى حضارتهم زمنا قادما يعرفون أنهم يجب أن يحافظوا على بلدانهم من أن تمتد إليها قذارة العملاء.. ألقى نابليون يوما لعميله الذهب على الأرض لكي لا يتلوث بمصافحة خائن!
وهكذا يفعل سلفه من بعده، وهل أتاك نبأ من اختطفوا من أوروبا ليُلقى بهم في أمريكا في إطار الحرب على الإرهاب؟!.. ثم هل أتاك نبأ أن الأمريكان كانوا يرسلون بعض أولئك السجناء لتعذيبهم في مصر وسوريا والأردن والمغرب؟! لم يحبوا أن يقوموا بأنفسهم بالأعمال القذرة التي يقوم بها عملاؤهم! مع أن عملاءهم يستوردون منهم آلات التعذيب نفسها!
لكنه أيضا.. النظام! النظام الذي اتفقنا عليه جميعا.. فالآت التعذيب لا نستعملها في "بلادنا"، وإنما نقدمها لكم لتستعملونها لصالحنا.. في بلادكم المستعمرة!
الحمد لله الذي فرج عنك أخي الحبيب عبد الرحمن عز، ونسأله جميعا فرجا لبلادنا كلها.. فتلك هي الحرية حقا! وعندها يكون لنا أكبر احتفال!
نشر في مدونات الجزيرة
Published on August 16, 2017 03:45
August 9, 2017
فقه اختيار الحاكم في الإسلام
أول كلمة نطق بها أبو بكر في خطبة الخلافة هي قوله:
"يا أيها الناس، وُلِّيت عليكم، ولست بخيركم"
هذه الكلمة الموجزة تحدد أسس اختيار الحاكم في النظام الإسلامي، ففيها تأكيد على أن الحاكم ليس له أن يغتصب الأمر زاعما لنفسه الحق بالحكم، فليس في الإسلام أحد نزل له حق الخلافة بنص من السماء (كما يزعم الشعية)، وليس فيه من يتولى شأن الأمة لمجرد أنه سليل أسرة أو عائلة أو قبيلة، إنما الطريقة الشرعية أن تختار الأمة خليفتها، وتوليه عليها. هذا أبو بكر وهو خير هذه الأمة وأفضلها ينفي أنه استحق الخلافة بفضل أو مكانة وإنما هو اختيار الأمة له.
وفي قوله "ولستُ بخيركم" دليل على تواضعه وأنه لا يرى لنفسه شأنا فوق الأمة ولا أنه أفضلها، وبتلك الكلمة قُطِع الطريق على أي أحد قد يزعم أنه له خيرية خاصة، فإن خير الأمة كلها لم يزعمها لنفسه، وأخذ منها العلماء جواز "تولية المفضول في وجود الفاضل" إن تعذر نصب أفضل الأمة لظرف ما!
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي دون أن يُسَمِي أحدا للخلافة رغم وجود الداعي وانتفاء المانع (أي: رغم أهمية الموضوع ووجود الفرصة)، ولكنه ألمح إلى أبي بكر إلماحا كقوله "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، وقوله: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"، فهكذا قصد النبي أن يترك شأن الخلافة للأمة فتكون هذه سنة تولية الأمراء.
اختيار أبي بكر
فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل أمرَ خلافته وجوهُ المسلمين، وبينما يتشاور المهاجرون في الأمر بلغهم أن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يتشاورون أيضا، فأسرع إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فوجدوهم يتشاورون في تولية زعيم الخزرج سعد بن عبادة، وكان تفكير الأنصار أنهم أهل المدينة وأصحابها من قبل أن يأتي المهاجرون ومن طبيعة الأمور أن يتولوا الأمر بعد وفاة النبي فهم أكثر أهل المدينة، والمهاجرون عدد قليل فيهم، ثم إنهم أهل النجدة والنصرة فقد نصروا النبي خير نصرة فجاهدوا وبذلوا وأنفقوا وضحوا، قال قائلهم:
"أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفَّت دافَّة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يحضنونا من الأمر"
فأراد عمر أن يتكلم فمنعه أبو بكر وتكلم بدلا منه، فأثنى على الأنصار واعترف بفضلهم ومكانتهم، ثم أوضح أن الأمر لم يعد رئاسة في أهل المدينة بل لقد صارت خلافة النبي رئاسة على كل العرب الذين كانوا قد دخلوا في الإسلام، وهؤلاء العرب لا يقبلون أن تكون الرئاسة عليهم إلا في قريش لمكانتها العليا بين العرب، والخروج عن رئاسة قريش إنما يساوي انتقاض الأمر على الأمة. وبهذا تكون الرئاسة في المهاجرين ويكون الأنصار وزراء لهم. قال أبو بكر:
"ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا... يا معشر الأنصار إنا والله ما ننكر فضلكم ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا، ولكنكم عرفتم أن هذا الحي من قريش بمنزلة من العرب ليس بها غيرهم، وأن العرب لن تجتمع إلا على رجل منهم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، فاتقوا الله ولا تصدعوا الإسلام، ولا تكونوا أول من أحدث في الإسلام "
فاقترح أحدهم أن يكون أميران: أمير من المهاجرين وأمير من الأنصار، فقال عمر: سيفان في غمد؟! لا يصلحان. وقال أبو بكر: لا، بل نحن الأمراء وأنتم الوزراء. وحدث نقاش بين الصحابة، وارتفعت الأصوات، وهو أمر طبيعي ومتوقع في مثل هذه الأمور، ثم كان أن تراجع الأنصار فقام زيد بن ثابت وهو من الخزرج –أي من قبيلة سعد بن عبادة مرشح الأنصار للخلافة- ومن كُتّاب الوحي وقال: "إن رسول الله كان من المهاجرين، ونحن أنصارهم كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم". وهكذا جرى الاتفاق على أن يكون الأمير من المهاجرين.
ثم بحثوا أي المهاجرين يكون أميرا، فاقترح أبو بكر عمر أو أبي عبيدة فرفضا وقدَّما أبا بكر، واتفقوا على أبي بكر، وبهذا تمت له البيعة التي يسميها العلماء بيعة أهل الحل والعقد، وهو ترشيح وجوه القوم وأصحاب المكانة والمقام فيهم لأحد أن يكون أميرا، وفي اليوم التالي اجتمع الناس بالمسجد وبايعوا أبا بكر البيعة العامة التي هي قبول الأمة بهذا المرشح، وبها تنعقد البيعة ويصير المرشح إماما.
اختيار عمر
عاش أبو بكر خليفة لمدة عامين، فلما مرض وأحسَّ بدنوا الأجل جمع أبو بكر عنده عددا من كبار الصحابة فقال لهم:
"إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلا لمأتي، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحلّ عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمِّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمَّرْتُم عليكم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي"
فتشاوروا في الأمر ثم طلبوا منه أن يرشح لهم أحدهم، فاختار عمر بن الخطاب كي يكون مرشحا فرقع عليه الرضا والاختيار من أهل المشورة، ولما مات أبو بكر بويع عمر البيعة العامة في المسجد، فانعقدت بذلك بيعته وصار إماما.وقد ظل عمر خليفة على المسلمين لعشر سنوات، وفي أواخر عهده كان يوما بموسم الحج في منى، فجاء من يخبره بأنّ (فلاناً) يقول: لو مات عمر لبايعت فلاناً، فغضب وقال: "إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم..."، ثم خطب خطبة طويلة ختمها بقوله:
"من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يُبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يُقْتَلا"
وأوضح عمر أن السرعة التي تمت بها مبايعة أبي بكر (لأنه بويع من أهل الحل والعقد في نفس يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم) إنما كانت فلتة، ولكن الله وقى شرَّها، وذلك أنه ليس في المسلمين من "من تُقْطَع الأعناق إليه مثل أبي بكر"، أي ليس فيهم رجل سابق في المكانة والفضل عن سائر المسلمين بفارق ووضوح كما كان أبو بكر، ولهذا فإن أي محاولة بعد هذا للإسراع ببيعة أحد عن غير تمهل وتروي ومشورة بين المسلمين إنما هي غصب لحق الأمة.
اختيار عثمان
ولما طُعن عمر رضي الله عنه بقي في مرضه ثلاثة أيام، وفي هذه الأيام اقترح وسيلة جديدة لإدارة أمر اختيار الخليفة من بعده. وذلك أنه رشح ستة أسماء من السابقين في الفضل والمقام والمكانة، فهم بقية العشرة المبشرين بالجنة، وكلهم ممن تولى الولايات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأولئك هم:
عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، عبد الرحمن بن عوف، طلحة بن عبيد الله، الزبير بن العوام، سعد بن أبي وقاص.
مستبعدا منهم سعيد بن زيد، وهو من قرابة عمر رضي الله عنه، فعمر هو عمر بن الخطاب بن نفيل، وسعيد هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكان معهم عبد الله بن عمر وهو من فقهاء الصحابة ولكن رأيه استشاري وليس من ضمن المرشحين.
تولى عبد الرحمن بن عوف زمام المبادرة فاقترح على المرشحين الستة تنازل بعضهم لتقليل العدد وتحجيم الاختيار، فتنازل الزبير لصالح علي، وتنازل طلحة لصالح عثمان، وتنازل سعد لصالح عبد الرحمن، فصار المرشحون ثلاثة: عثمان، علي، عبد الرحمن بن عوف. فاقترح عبد الرحمن بن عوف أن يتنازل أحدهم عن الترشح للخلافة على أن يدير هو مسألة الاختيار، فسكت الشيخان عثمان وعلي، فعرض عليهما أن يتنازل هو عن الترشح فيكون إليه إدارة هذا الاختيار مشترطا عليهما أن يكون كلامه ملزما ومشترطا على نفسه أن لا يبتغي باختياره إلا وجه الله، فوافقا.
فقضى عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام يسأل ويشاور أهل الشورى، وغيرهم من أهل المدينة، حتى سأل النساء في البيوت ومن كان قادما إلى المدينة في سفر ومن مرَّ بها، ثم جاء في صبيحة اليوم الرابع فجمع من كان حاضرا بالمدينة من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد الذين كانوا في المدينة لأنهم حجوا مع عمر في هذه السنة (فنحن الآن في شهر ذي الحجة عام 32 للهجرة)، ثم أعلن قائلا:
"يا علي، إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا"
ثم بايع لعثمان قائلا: "أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده"، ثم بايعه المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون. وهكذا صار عثمان بن عفان إماما.
اختيار علي
استمرت خلافة عثمان اثنا عشر عاما، فكانت عشرة منها في رغد ورخاء وخير حال، ثم أقبلت الفتنة المشهورة، وربما تناولناها في مقالات قادمة إن شاء الله، وخلاصتها أن مجموعة من المتمردين يقودهم مجموعة من المتآمرين ويكثر عددهم بالأعراب والغوغاء رأوا أن عثمان غيَّر وبدَّل في أمر الشريعة فخرجوا من بلادهم إليه في المدينة وأرادوا أن يخلعوه، وهو الأمر الخطير الذي لم يرض به الصحابة وكان النبي قد أوصى عثمان ألا ينخلع من الخلافة إن أراده هؤلاء على ذلك، وهو من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.. ثم انتهى الأمر بأن حاصروا عثمان في بيته، ومنع عثمانُ الصحابةَ من الدفاع عنه، حتى اقتحم المتمردون عليه البيت وقتلوه وهو صائم يقرأ القرآن قبل الغروب من يوم الجمعة 13 ذي الحجة لعام 35 للهجرة.
لئن كان المتمردون متفقين على خلع عثمان فإنهم لم يكونوا متفقين على من يخلفه، فحاول بعضهم أن يحمل عليها عبد الله بن عمر فلم يستطيعوا، وحاول غيرهم مع طلحة والزبير فلم يستطيعوا، فعلموا أنهم وإن استطاعوا قتل الخليفة الذي منع أحدا من الدفاع عنه إلا أنهم لا يستطيعون نصب خليفة بما لديهم من قوة، وأن أمر نصب الخليفة إنما هو للمهاجرين والأنصار وأهل بدر فهؤلاء هم الذين يتبعهم الناس، بل إن عليا حين ذهبوا إليه قال لهم:
"إني لأستحيي أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا أستحيي ممن تسحيي منه الملائكة؟"، وإني لأستحيي من الله أن أُبايَع وعثمان قتيل على الأرض لم يُدفن بعد"
فانصرفوا عنه ثم عادوا إليه بعدما دفن عثمان، فظل يدافعهم ويقولون: لا بد للناس من خليفة، وهو يقول: إني لكم وزير خير مني أمير، وهم يقولون: لا أحد أحق بها منك. فاتخذ علي إجراءا يجعل بيعته بيعة عامة مشهودة ولا ينفرد أولئك المتمردون بعقد بيعة خاصة لهم كأنما صاروا أهل حل وعقد. وبذلك يكون أمره متروكا لعامة أهل المدينة الذين فيهم السابقون من المهاجرين والأنصار. وقال:
"فإذا أبيتم عليّ، فإن بيعتي لا تكون سرًّا، ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني"
وبهذا بايعه الناس عن رضا واختيار، وبهذه البيعة العامة انعقدت الإمامة لعلي رضي الله عنه.
خلاصات
أولا: تولى الخلفاء الراشدون الخلافة باختيار الأمة، فلم يغتصبها أحد قهرا بحرب أو بغلبة، ولا ادعى لنفسه فضلا فوق الأمة يخوله الحق بالخلافة! كما أن اختيار أهل الحل والعقد لواحد منهم إنما هو بمثابة الترشيح، وللأمة أن تقبله أو ترفضه، والدليل أنه لا يصير خليفة إلا بعد البيعة العامة.
ومن ثَمَّ فاختيار الحاكم في الإسلام ليس بالنص (كما يزعم الشيعة)، ولا هو بالغلبة والسيف (كما هي طبائع العسكر والمستبدين والمحتلين).
ثانيا: أن الصحابة اجتهدوا لأمر الأمة فاختاروا للخلافة أفضلهم ثم أفضلهم ثم أفضلهم، لا يبتغون إلا مصلحة الأمة دون النظر إلى العصبية القبلية أو الميول القلبية أو الأهواء، فالمهاجرون قدَّموا عليهم أبا بكر وهو من قبيلة تيم، ومن بعده قدموا عمر وهو من قبيلة عدي، وكلتا القبيلتيْن أضعف مكانة ومقاما من قبائل أخرى كبرى كبني هاشم وبني أمية. وكذلك الأنصار الذين لما علموا أن مصلحة الأمة تقتضي الرئاسة في قريش تراجعوا عن الإمارة وصاروا هم المحكومين في مدينتهم تحت رئاسة المهاجرين القرشيين. وكذلك أبو بكر رشح بعده عمر ولم يكن من قبيلته، وهكذا فعل أهل المدينة حين اختاروا عثمان بن عفان، رغم أن عليا هو الأقرب إلى رسول الله نسبا، فهو ابن عمه، وهو من بني هاشم وهم بعمومهم أسبق للإسلام من بني أمية قبيلة عثمان. لكن هذه الحسابات القَبَلِية لم تكن ترد على بالهم أو تتحكم في قرارهم، وإنما ينظرون بمعيار مصلحة الأمة وبالخيرية الشخصية.
ثالثا: أن الصحابة اجتهدوا أن يتم الأمر في سلم وأمن، فكان حوارا وإقناعا في سقيفة بني ساعدة، فبويع لأبي بكر دون أن يُرفع سيف، والحقُّ أن الأنصار قوم لا مثيل لهم، وهم قوم يتمنى كل مصلح لو كان لديه مثلهم فلقد نصروا رسول الله النصرة التامة الكاملة دون انتظار أجر ولا جزاء. واتخذ أبو بكر من الترتيب ما يجعل انتقال الخلافة من بعده بغير اختلاف فشاور ثم رشح عمر. ثم فعل عمر مثل ذلك فاختار ستة وجعل بينهم من يرجح إذا تساوى الاختيار. وهكذا فعل عثمان حيث منع أحدا أن يدافع عنه وقرر أن يفدي الأمة بنفسه لكي لا يقع اقتتال في المدينة ولتظل جمهرة المهاجرين والأنصار باقية تختار خليفتها القادم.
رابعا: أن الصحابة اجتهدوا في صرف الأمر عن أنفسهم، فتولي الحكم ليس غنيمة وإنما هي مسؤولية ثقيلة كبرى، والمغرور هو من قاتل من أجل سلطان يعرف من نفسه أنه ليس مؤهلا للقيام بحق الله فيه. هذا الصديق وهو خير الأمة قاطبة يقول:"والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت راغبا فيها، ولا سألتها الله عز وجل في سر ولا علانية"
ومثل هذا قال عمر حين رشحه أبو بكر أمام الأنصار ليتقلد الخلافة:"فلم أكره مما قال غيرها، والله لأن أقدم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك من إثم، أحب إلي من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر"
وقد رشح عمر ستة من الصحابة فتنازل عنها أربعة ليجري الاختيار بين اثنين هما عثمان وعلي. ثم ظل علي يدافع أمر الخلافة عن نفسه بعد استشهاد عثمان. فلم يتولها أحد منهم إلا استشعارا لضرورة أن يتولاها إذ لا بد للأمة من خليفة ونظام.
نشر في مدونات الجزيرة
"يا أيها الناس، وُلِّيت عليكم، ولست بخيركم"
هذه الكلمة الموجزة تحدد أسس اختيار الحاكم في النظام الإسلامي، ففيها تأكيد على أن الحاكم ليس له أن يغتصب الأمر زاعما لنفسه الحق بالحكم، فليس في الإسلام أحد نزل له حق الخلافة بنص من السماء (كما يزعم الشعية)، وليس فيه من يتولى شأن الأمة لمجرد أنه سليل أسرة أو عائلة أو قبيلة، إنما الطريقة الشرعية أن تختار الأمة خليفتها، وتوليه عليها. هذا أبو بكر وهو خير هذه الأمة وأفضلها ينفي أنه استحق الخلافة بفضل أو مكانة وإنما هو اختيار الأمة له.
وفي قوله "ولستُ بخيركم" دليل على تواضعه وأنه لا يرى لنفسه شأنا فوق الأمة ولا أنه أفضلها، وبتلك الكلمة قُطِع الطريق على أي أحد قد يزعم أنه له خيرية خاصة، فإن خير الأمة كلها لم يزعمها لنفسه، وأخذ منها العلماء جواز "تولية المفضول في وجود الفاضل" إن تعذر نصب أفضل الأمة لظرف ما!
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي دون أن يُسَمِي أحدا للخلافة رغم وجود الداعي وانتفاء المانع (أي: رغم أهمية الموضوع ووجود الفرصة)، ولكنه ألمح إلى أبي بكر إلماحا كقوله "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، وقوله: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"، فهكذا قصد النبي أن يترك شأن الخلافة للأمة فتكون هذه سنة تولية الأمراء.
اختيار أبي بكر
فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل أمرَ خلافته وجوهُ المسلمين، وبينما يتشاور المهاجرون في الأمر بلغهم أن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يتشاورون أيضا، فأسرع إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فوجدوهم يتشاورون في تولية زعيم الخزرج سعد بن عبادة، وكان تفكير الأنصار أنهم أهل المدينة وأصحابها من قبل أن يأتي المهاجرون ومن طبيعة الأمور أن يتولوا الأمر بعد وفاة النبي فهم أكثر أهل المدينة، والمهاجرون عدد قليل فيهم، ثم إنهم أهل النجدة والنصرة فقد نصروا النبي خير نصرة فجاهدوا وبذلوا وأنفقوا وضحوا، قال قائلهم:
"أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفَّت دافَّة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يحضنونا من الأمر"
فأراد عمر أن يتكلم فمنعه أبو بكر وتكلم بدلا منه، فأثنى على الأنصار واعترف بفضلهم ومكانتهم، ثم أوضح أن الأمر لم يعد رئاسة في أهل المدينة بل لقد صارت خلافة النبي رئاسة على كل العرب الذين كانوا قد دخلوا في الإسلام، وهؤلاء العرب لا يقبلون أن تكون الرئاسة عليهم إلا في قريش لمكانتها العليا بين العرب، والخروج عن رئاسة قريش إنما يساوي انتقاض الأمر على الأمة. وبهذا تكون الرئاسة في المهاجرين ويكون الأنصار وزراء لهم. قال أبو بكر:
"ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا... يا معشر الأنصار إنا والله ما ننكر فضلكم ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا، ولكنكم عرفتم أن هذا الحي من قريش بمنزلة من العرب ليس بها غيرهم، وأن العرب لن تجتمع إلا على رجل منهم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، فاتقوا الله ولا تصدعوا الإسلام، ولا تكونوا أول من أحدث في الإسلام "
فاقترح أحدهم أن يكون أميران: أمير من المهاجرين وأمير من الأنصار، فقال عمر: سيفان في غمد؟! لا يصلحان. وقال أبو بكر: لا، بل نحن الأمراء وأنتم الوزراء. وحدث نقاش بين الصحابة، وارتفعت الأصوات، وهو أمر طبيعي ومتوقع في مثل هذه الأمور، ثم كان أن تراجع الأنصار فقام زيد بن ثابت وهو من الخزرج –أي من قبيلة سعد بن عبادة مرشح الأنصار للخلافة- ومن كُتّاب الوحي وقال: "إن رسول الله كان من المهاجرين، ونحن أنصارهم كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم". وهكذا جرى الاتفاق على أن يكون الأمير من المهاجرين.
ثم بحثوا أي المهاجرين يكون أميرا، فاقترح أبو بكر عمر أو أبي عبيدة فرفضا وقدَّما أبا بكر، واتفقوا على أبي بكر، وبهذا تمت له البيعة التي يسميها العلماء بيعة أهل الحل والعقد، وهو ترشيح وجوه القوم وأصحاب المكانة والمقام فيهم لأحد أن يكون أميرا، وفي اليوم التالي اجتمع الناس بالمسجد وبايعوا أبا بكر البيعة العامة التي هي قبول الأمة بهذا المرشح، وبها تنعقد البيعة ويصير المرشح إماما.
اختيار عمر
عاش أبو بكر خليفة لمدة عامين، فلما مرض وأحسَّ بدنوا الأجل جمع أبو بكر عنده عددا من كبار الصحابة فقال لهم:
"إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلا لمأتي، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحلّ عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمِّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمَّرْتُم عليكم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي"
فتشاوروا في الأمر ثم طلبوا منه أن يرشح لهم أحدهم، فاختار عمر بن الخطاب كي يكون مرشحا فرقع عليه الرضا والاختيار من أهل المشورة، ولما مات أبو بكر بويع عمر البيعة العامة في المسجد، فانعقدت بذلك بيعته وصار إماما.وقد ظل عمر خليفة على المسلمين لعشر سنوات، وفي أواخر عهده كان يوما بموسم الحج في منى، فجاء من يخبره بأنّ (فلاناً) يقول: لو مات عمر لبايعت فلاناً، فغضب وقال: "إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم..."، ثم خطب خطبة طويلة ختمها بقوله:
"من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يُبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يُقْتَلا"
وأوضح عمر أن السرعة التي تمت بها مبايعة أبي بكر (لأنه بويع من أهل الحل والعقد في نفس يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم) إنما كانت فلتة، ولكن الله وقى شرَّها، وذلك أنه ليس في المسلمين من "من تُقْطَع الأعناق إليه مثل أبي بكر"، أي ليس فيهم رجل سابق في المكانة والفضل عن سائر المسلمين بفارق ووضوح كما كان أبو بكر، ولهذا فإن أي محاولة بعد هذا للإسراع ببيعة أحد عن غير تمهل وتروي ومشورة بين المسلمين إنما هي غصب لحق الأمة.
اختيار عثمان
ولما طُعن عمر رضي الله عنه بقي في مرضه ثلاثة أيام، وفي هذه الأيام اقترح وسيلة جديدة لإدارة أمر اختيار الخليفة من بعده. وذلك أنه رشح ستة أسماء من السابقين في الفضل والمقام والمكانة، فهم بقية العشرة المبشرين بالجنة، وكلهم ممن تولى الولايات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأولئك هم:
عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، عبد الرحمن بن عوف، طلحة بن عبيد الله، الزبير بن العوام، سعد بن أبي وقاص.
مستبعدا منهم سعيد بن زيد، وهو من قرابة عمر رضي الله عنه، فعمر هو عمر بن الخطاب بن نفيل، وسعيد هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكان معهم عبد الله بن عمر وهو من فقهاء الصحابة ولكن رأيه استشاري وليس من ضمن المرشحين.
تولى عبد الرحمن بن عوف زمام المبادرة فاقترح على المرشحين الستة تنازل بعضهم لتقليل العدد وتحجيم الاختيار، فتنازل الزبير لصالح علي، وتنازل طلحة لصالح عثمان، وتنازل سعد لصالح عبد الرحمن، فصار المرشحون ثلاثة: عثمان، علي، عبد الرحمن بن عوف. فاقترح عبد الرحمن بن عوف أن يتنازل أحدهم عن الترشح للخلافة على أن يدير هو مسألة الاختيار، فسكت الشيخان عثمان وعلي، فعرض عليهما أن يتنازل هو عن الترشح فيكون إليه إدارة هذا الاختيار مشترطا عليهما أن يكون كلامه ملزما ومشترطا على نفسه أن لا يبتغي باختياره إلا وجه الله، فوافقا.
فقضى عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام يسأل ويشاور أهل الشورى، وغيرهم من أهل المدينة، حتى سأل النساء في البيوت ومن كان قادما إلى المدينة في سفر ومن مرَّ بها، ثم جاء في صبيحة اليوم الرابع فجمع من كان حاضرا بالمدينة من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد الذين كانوا في المدينة لأنهم حجوا مع عمر في هذه السنة (فنحن الآن في شهر ذي الحجة عام 32 للهجرة)، ثم أعلن قائلا:
"يا علي، إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا"
ثم بايع لعثمان قائلا: "أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده"، ثم بايعه المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون. وهكذا صار عثمان بن عفان إماما.
اختيار علي
استمرت خلافة عثمان اثنا عشر عاما، فكانت عشرة منها في رغد ورخاء وخير حال، ثم أقبلت الفتنة المشهورة، وربما تناولناها في مقالات قادمة إن شاء الله، وخلاصتها أن مجموعة من المتمردين يقودهم مجموعة من المتآمرين ويكثر عددهم بالأعراب والغوغاء رأوا أن عثمان غيَّر وبدَّل في أمر الشريعة فخرجوا من بلادهم إليه في المدينة وأرادوا أن يخلعوه، وهو الأمر الخطير الذي لم يرض به الصحابة وكان النبي قد أوصى عثمان ألا ينخلع من الخلافة إن أراده هؤلاء على ذلك، وهو من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.. ثم انتهى الأمر بأن حاصروا عثمان في بيته، ومنع عثمانُ الصحابةَ من الدفاع عنه، حتى اقتحم المتمردون عليه البيت وقتلوه وهو صائم يقرأ القرآن قبل الغروب من يوم الجمعة 13 ذي الحجة لعام 35 للهجرة.
لئن كان المتمردون متفقين على خلع عثمان فإنهم لم يكونوا متفقين على من يخلفه، فحاول بعضهم أن يحمل عليها عبد الله بن عمر فلم يستطيعوا، وحاول غيرهم مع طلحة والزبير فلم يستطيعوا، فعلموا أنهم وإن استطاعوا قتل الخليفة الذي منع أحدا من الدفاع عنه إلا أنهم لا يستطيعون نصب خليفة بما لديهم من قوة، وأن أمر نصب الخليفة إنما هو للمهاجرين والأنصار وأهل بدر فهؤلاء هم الذين يتبعهم الناس، بل إن عليا حين ذهبوا إليه قال لهم:
"إني لأستحيي أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا أستحيي ممن تسحيي منه الملائكة؟"، وإني لأستحيي من الله أن أُبايَع وعثمان قتيل على الأرض لم يُدفن بعد"
فانصرفوا عنه ثم عادوا إليه بعدما دفن عثمان، فظل يدافعهم ويقولون: لا بد للناس من خليفة، وهو يقول: إني لكم وزير خير مني أمير، وهم يقولون: لا أحد أحق بها منك. فاتخذ علي إجراءا يجعل بيعته بيعة عامة مشهودة ولا ينفرد أولئك المتمردون بعقد بيعة خاصة لهم كأنما صاروا أهل حل وعقد. وبذلك يكون أمره متروكا لعامة أهل المدينة الذين فيهم السابقون من المهاجرين والأنصار. وقال:
"فإذا أبيتم عليّ، فإن بيعتي لا تكون سرًّا، ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني"
وبهذا بايعه الناس عن رضا واختيار، وبهذه البيعة العامة انعقدت الإمامة لعلي رضي الله عنه.
خلاصات
أولا: تولى الخلفاء الراشدون الخلافة باختيار الأمة، فلم يغتصبها أحد قهرا بحرب أو بغلبة، ولا ادعى لنفسه فضلا فوق الأمة يخوله الحق بالخلافة! كما أن اختيار أهل الحل والعقد لواحد منهم إنما هو بمثابة الترشيح، وللأمة أن تقبله أو ترفضه، والدليل أنه لا يصير خليفة إلا بعد البيعة العامة.
ومن ثَمَّ فاختيار الحاكم في الإسلام ليس بالنص (كما يزعم الشيعة)، ولا هو بالغلبة والسيف (كما هي طبائع العسكر والمستبدين والمحتلين).
ثانيا: أن الصحابة اجتهدوا لأمر الأمة فاختاروا للخلافة أفضلهم ثم أفضلهم ثم أفضلهم، لا يبتغون إلا مصلحة الأمة دون النظر إلى العصبية القبلية أو الميول القلبية أو الأهواء، فالمهاجرون قدَّموا عليهم أبا بكر وهو من قبيلة تيم، ومن بعده قدموا عمر وهو من قبيلة عدي، وكلتا القبيلتيْن أضعف مكانة ومقاما من قبائل أخرى كبرى كبني هاشم وبني أمية. وكذلك الأنصار الذين لما علموا أن مصلحة الأمة تقتضي الرئاسة في قريش تراجعوا عن الإمارة وصاروا هم المحكومين في مدينتهم تحت رئاسة المهاجرين القرشيين. وكذلك أبو بكر رشح بعده عمر ولم يكن من قبيلته، وهكذا فعل أهل المدينة حين اختاروا عثمان بن عفان، رغم أن عليا هو الأقرب إلى رسول الله نسبا، فهو ابن عمه، وهو من بني هاشم وهم بعمومهم أسبق للإسلام من بني أمية قبيلة عثمان. لكن هذه الحسابات القَبَلِية لم تكن ترد على بالهم أو تتحكم في قرارهم، وإنما ينظرون بمعيار مصلحة الأمة وبالخيرية الشخصية.
ثالثا: أن الصحابة اجتهدوا أن يتم الأمر في سلم وأمن، فكان حوارا وإقناعا في سقيفة بني ساعدة، فبويع لأبي بكر دون أن يُرفع سيف، والحقُّ أن الأنصار قوم لا مثيل لهم، وهم قوم يتمنى كل مصلح لو كان لديه مثلهم فلقد نصروا رسول الله النصرة التامة الكاملة دون انتظار أجر ولا جزاء. واتخذ أبو بكر من الترتيب ما يجعل انتقال الخلافة من بعده بغير اختلاف فشاور ثم رشح عمر. ثم فعل عمر مثل ذلك فاختار ستة وجعل بينهم من يرجح إذا تساوى الاختيار. وهكذا فعل عثمان حيث منع أحدا أن يدافع عنه وقرر أن يفدي الأمة بنفسه لكي لا يقع اقتتال في المدينة ولتظل جمهرة المهاجرين والأنصار باقية تختار خليفتها القادم.
رابعا: أن الصحابة اجتهدوا في صرف الأمر عن أنفسهم، فتولي الحكم ليس غنيمة وإنما هي مسؤولية ثقيلة كبرى، والمغرور هو من قاتل من أجل سلطان يعرف من نفسه أنه ليس مؤهلا للقيام بحق الله فيه. هذا الصديق وهو خير الأمة قاطبة يقول:"والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت راغبا فيها، ولا سألتها الله عز وجل في سر ولا علانية"
ومثل هذا قال عمر حين رشحه أبو بكر أمام الأنصار ليتقلد الخلافة:"فلم أكره مما قال غيرها، والله لأن أقدم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك من إثم، أحب إلي من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر"
وقد رشح عمر ستة من الصحابة فتنازل عنها أربعة ليجري الاختيار بين اثنين هما عثمان وعلي. ثم ظل علي يدافع أمر الخلافة عن نفسه بعد استشهاد عثمان. فلم يتولها أحد منهم إلا استشعارا لضرورة أن يتولاها إذ لا بد للأمة من خليفة ونظام.
نشر في مدونات الجزيرة
Published on August 09, 2017 03:15
August 2, 2017
فقه الخلافة الراشدة
لئن كان في تاريخ أمة ما شيئا تفتخر به فلن يكون بحال أعظم من فخرنا بعصر الخلافة الراشدة، فنحن الأمة الوحيدة التي حكمت ثلث العالم المعروف وقتها بعدل ورحمة، فلئن افتخر الغرب بأنه اخترع الديمقراطية فلقد كانت ديمقراطية المدن الصغيرة في اليونان (البلد ذات الجزر الصغيرة المحدودة) فأما حين بلغوا الإمبراطورية فلا عدل ولا رحمة ولا ديمقراطية بل امتصاص شعوب العالم وقهرها لخدمة أمة اليونان والرومان، وهو الأمر الذي نظَّر له فلاسفة الغرب الأوائل وعدُّوه أمرا طبيعيالكننا لن نتحدث الآن في المقارنة مع الغرب وإن كانت مثيرة للشهية لا سيما في زمن الجهل والهزيمة النفسية وظهور من يدعونا لترك تراثنا والسير وراء الغرب باعتباره قمة التجربة الإنسانية.. وإنما سنحاول أن نعرض بتبسيط: لماذا ينبغي علينا أن نفقه عصر الخلافة الراشدة؟ ماذا سنستفيد من ذلك؟ ولماذا تعلت قلوب المسلمين وطموحات الحركات الإسلامية بعصر الخلافة الراشدة؟.. والإجابة على تلك الأسئلة هي نفسها الإجابة على سؤال: لماذا يُراد لنا أن نجهل تاريخنا وننفر من تراثنا ونفقد ذاكرتنا؟
عصر الخلافة الراشدة هو عصر الإنجاز الكبير، عصر انبعاث الأمة من مجاهل التاريخ لتصعد إلى ذروة القوة العالمية في ثلاثين عام فقط؟!.. إنجاز اندهش له المؤرخون على اختلافهم وتنوع أفكارهم ومشاربهم! والعجيب أنه إنجاز راسخ لم تغيره الأيام والقرون على تطاولها، إنجاز غير خريطة العالم منذ حدث حتى الآن.
نحتاج ونحن في زمن القهر هذا أن نقترب من عصر الراشدين، نتأمل كيف صنعوا ذلك المجد الكبير، كيف أنشأوا دولة عظمى تحكم ملايين البشر بالعدل، كيف طبقوا الإسلام في عالم الواقع بعد انقطاع الوحي، كيف استطاعوا أن يخرجوا الجيوش من الصحراء العربية القاحلة المنقطعة عن الحضارة فيكتسحون الحضارات الكبرى والإمبراطوريات العظمى وينقذون الملايين من الظلم والقهر الطويل الذي امتد قرونا متعاقبة، ثم يظللونهم بحضارة إسلامية خالصة فيدخل الناس في دين الله أفواجا ويخرجون من الظلمات إلى النور، كيف استطاعوا أن يحتفظوا بثقتهم في أنفسهم فلا ينبهرون بمظاهر الفخامة والترف وبدائع القصور وروائع الزخارف والرسوم ومعالي البنيان وفسائح العمران؟!
لن يمكننا الانتقال من حالنا البائس إلى الحال التي نأملها إلا إن استوعبنا وتعلمنا من الخلفاء الراشدين، فأولئك الخلفاء هم التطبيق المثالي النموذجي للإسلام بعد أن توفي رسول الله، ولهذا قال لنا رسول الله في وصيته الغالية المشهورة:"فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ"
ولن يمكننا تنفيذ وصية حبيبنا إلا أن عرفنا سنة الخلفاء الراشدين! فمن هنا كان معرفة تاريخ وأنباء هذا العصر، ومعرفة رجاله وأحواله وأوضاعه هي الطريق لفهم الإسلام، وفهم واجبنا في واقعنا المعاصر.
1. لماذا كان للخلفاء سنة.. ألم يكتمل الدين في زمن النبي؟
نعم اكتمل الدين، ومن الأدلة على اكتماله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا باتباع سنة الخلفاء الراشدين، فإنهم لا سنة لهم في العبادات والشعائر، وإنما سنتهم هي في السياسة وطريقة الحكم، لذلك قال رسول الله (سنة الخلفاء)، ولم يقل سنة أصحابي أو سنة فلان وفلان، كان النبي يصفهم بوصفهم "الخلفاء" ليؤكد على أن جانب الاقتداء بهم في سنتهم هو الجانب السياسي.
وذلك لأن الدين في سائر الجوانب بينه ووضحه رسول الله، لكن بعض الأمور بقيت لا يمكن الاقتداء فيها برسول الله لاعتبارات خاصة، منها مثلا:
أولا. أن رسول الله متصلٌ بالوحي، وينزل الوحي عليه يصحح له أو يوجهه، لكن رسول الله سيموت وستبقى الأمة بلا وحي، فكان لا بد من وجود تجربة يقتدي فيها المسلمون ببشر لا يتصلون بالوحي، فهم يجتهدون فيخطئون ويصيبون.
ثانيا. أنه لا يملك مسلم أن يعارض رسول الله، فهو الرسول الموصول بالوحي الذي ينطق بالحق وهو الكامل روحا وعقلا، ومن ثَمَّ لا يمكن لمسلم أن يقاتل النبي، فالذي يفعل شيئا من هذا يكون كافرا مرتدا. فمن هنا كان لا بد من وجود قدوات من البشر يُقتدى بهم، في سنتهم في مثل هذه الأمور كالشورى فيما ليس فيه نص وفي النوازل والمستجدات، والتعامل مع المعارضة، والتعامل مع الفتن الداخلية.. وهكذا من الأمور التي يختلف التعامل فيها بين النبي وغيره من سائر البشر.
ثالثا. أن رسول الله اجتمعت فيه النبوة والإمامة، أي الرئاسة الدينية والدنيوية، ولا يمكن لأحد أن يختار الرسول وإنما هو اصطفاء يصطفيه الله له، أما بالنسبة للحاكم فلا بد أن يعلمنا الإسلام كيف نختار الحاكم وما هي شرعية حكمه وما هي حقوقه وواجباته.. ولم يكن هذا ليُعرف على الوجه الواضح إلا بوجود نموذج بشري يملك الناس فيه أن يختاروه وأن يحاسبوه ويراقبوه بل وأن يعزلوه.
2. المدينة الفاضلة والعصر الذهبيسألت بعض الشباب في محاضرة عن العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فقال بعضهم: العصر الأندلسي حيث القصور الفاخرة والصنائع الدقيقة، وقال آخرون: العصر العباسي حيث الفنون والعلوم، وقال بعضهم: العصر الأموي حيث أوسع مساحات الفتوحات الإسلامية.
لقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال حين قال:"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"
وكذلك حين أوصانا بالاقتداء بالخلفاء الراشدين لما قال "عضوا عليها بالنواجذ". ولذلك فإن المسلمين في سعيهم نحو إحياء الخلافة الإسلامية لا يطمحون لعصور الأمويين والعباسيين والعثمانيين، بل يطمحون لعصر الخلافة الراشدة، وهم حين يتحدثون عن الحاكم المثالي يتحدثون عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لا عن عبد الملك بن مروان أو أبي جعفر المنصور أو السلطان سليم، رغم أن كل هؤلاء من عظماء التاريخ الإنساني، إلا أن المسلمين يتمسكون على الخصوص بالقدوة المتمثلة في الراشدين.
هذا التحديد لعصر القدوة أو العصر الذهبي للحضارة الإسلامية يؤثر كثيرا على اختياراتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، فالحاكم المسلم يظل عبر التاريخ يُحاكم إلى نماذج الخلفاء الراشدين، ولربما يكون الحاكم المسلم أنجز –بالمعيار الدنيوي- إنجازا عظيما لكن جمهرة الفقهاء والمؤرخين لا يرضون عنه، وهو هو نفسه الذي لو كان في سياق غربي لكان بغير شك من عظماء مؤسسي الدول، وذلك لأن وجود نموذج في النظام الإسلامي يمثل الحق الذي يعلو على القوة، وانعدام هذا النموذج في السياق العلماني يؤدي لأن تكون القوة هي معيار الحق.
3. الدليل على صلاحية الإسلام للتطبيقكتبت الباحثة الإيطالية ماريا لويزا برنيري كتابها "المدينة الفاضلة عبر التاريخ" وتتبعت فيه تصورات الفلاسفة والمصلحين والزعماء عن المدينة الفاضلة، منذ أقدم العصوم حتى الآن، وكان أول نتائجه أن كل تصورات المدينة الفاضلة لم تتحقق، لم يستطع أحد صناعة مدينته الفاضلة حتى الذين امتلكوا سلطة تنفيذ أفكارهم!
هنا يبدو واضحا قيمة "عصر الخلافة الراشدة"، إنه نموذج عملي واقعي تحقق في التاريخ لثلاثين سنة، فهو نموذج لم يحلق في آفاق الخيال ولم يحاول اختراع قوانين الطبيعة، بل نجح في التعامل مع واقع البشر. ولقد استمر ذلك النموذج ثلاثين سنة في قمته ثم بدأ النزول عن هذه القمة تدريجيا وببطء، لكن الأمة التي خرجت في هذه الثلاثين سنة هي الأمة التي ظلت ألف سنة تشع علما وحضارة. فالخلاصة أن تحقق النموذج في واقع الحياة لعدد من السنين يمثل في حد ذاته القدرة على إعادة تحققه مرة أخرى، وبهذا يصير حلم إحيائه حلما ممكنا، ويصير السعي إلى تحقيقه من جديد سعيا واقعيا، وهو خير من السعي وراء سراب تصورات حالمة لم تتحقق ولم تستطع أن تخرج من سطور الكتب إلى التعامل مع واقع الناس.
4. الواقعية مقابل المثالية
تعترف الباحثة في بداية بحثها، أن الواقع تجاوز المثاليين الحالمين، "الحالمون من أصحاب الرؤى أصبحوا موضع السخرية أو الاحتقار، والناس "العمليون" هم الذين يحكمون حياتنا"، بل لقد صار العالم عقيما من الحالمين الذين ينتجون مدينة فاضلة في الكتب وحدها، لقد أصيب الجميع بما تسميه "عدوى الواقعية"، وهكذا لم تستطع التصورات الحالمة أن ترفع من مستوى الواقع، بل استطاع الواقع أن يجذب إليه التصورات لتكون أقل حلما ومثالية.
وكانت واحدة من إشكاليات الموضوع أن الفلاسفة حين كانوا يحلمون بمدينتهم الفاضلة، بدلا من محاولة "اكتشاف قوانين الطبيعية، فضَّلوا أن يخترعوها" أي أنهم حاولوا إلزام الناس بأفكارهم ولم يحاولوا اكتشاف قوانين الواقع، فأقاموا مدنهم الفاضلة على مجرد تصورات.
أما الإسلام فقد أقام الإسلام دولته في واقع الناس، والناس لن يتحولوا إلى ملائكة، الناس مختلفون في الفهم والمواهب والقدرات والطاقات، مختلفون في الهمم والطموح والغايات، يقع منهم الخطأ والنسيان، يستزلهم الشيطان، ويوقع بينهم الفتن والعداوة والبغضاء، سيكون منهم ذنوب، وستقع بينهم حروب وفتن.
في عصر الخلافة الراشدة نرى نموذجا مثاليا للتعامل مع واقع البشر كما هو لا كما يحاول الفلاسفة والمثاليون أن يصنعوه، ولهذا لا بد أن نفهم هذا العصر جيدا إذا أردنا أن نقدم رسالتنا وديننا ونموذجنا الحضاري لكل الناس.
5. العصمة من التيه بين الأفكار والمذاهب
لو لم يكن في تاريخنا عصرٌ مثل عصر الخلافة الراشدة لكان المسلمون الآن في تيه كبير واضطراب عظيم.. كنا سنكون أشبه بالغرب في تيهه واضطرابه.
نعم الغرب –رغم قوته وعلوه- في تيه واضطراب فكري واسع، والفلسفة الغربية أشبه بالغابة الضخمة المشتبكة المتناقضة من الأفكار والتصورات والرؤى، وما نراه نحن في العالم العربي –لضعف الثقافة وقلة الاطلاع- ثوابت عندهم هي في الحقيقة موضوعات تهتز بشدة وتعاني من انتقادات جذرية وكاسحة، بل إن الفلسفة الغربية أنتجت مصطلح "ما بعد كذا" لتعبر عن "انتهاء" مرحلة أو فلسفة دون استيضاح ماذا سيليه.
إن مجرد "وجود نموذج" يمثل القدوة في الفكر الإسلامي هو بحد ذاته إنقاذ من التيه والضياع الفلسفي الكبير الذي يؤدي إليه "عدم وجود نموذج"، وكذلك عدم اليقين بنموذج واضح الملامح سيأتي به المستقبل. ولا يجد المرء تشبيها لهذا الوضع خيرا من قول الله تعالى:
"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"
إذا كان لدينا نموذج عملي متحقق في واقع الناس، أثمر ذلك نجاة من الاشتباكات والتناقضات في تحديد النموذج المعرفي والكليَّات الكبرى، فلن تصير الأمة ضحايا للأفكار التي تمثل ردات فعل على واقعها بالمقام الأول، إذ لن تضطر لدخول صراعات دموية للخروج من عصر الإقطاع إلى عصر الشيوعية أو من عصر الشيوعية إلى عصر الليبرالية أو من عصر الكنيسة إلى عصر الدولة.. وهكذا!
إن وجود النموذج العملي هو ما يحدد أمورا كثيرة من أصول الفكر والتوجه، مثل المرجعية النهائية وتفاعلها مع الوقائع التفصيلية المستجدة، ومثل الانحياز بين الفردية والجماعية، بين المادية والروحية، وما ينبثق عن كل هذا من أنظمة وأنماط اقتصادية واجتماعية وغيرها.
كل هذه الأمور وغيرها تختلف العقول بشأنها إن غاب النص وغاب النموذج التطبيقي له، وإن الأمة التي تسعى لاستعادة نموذج سبق وتعامل مع الأوضاع السياسية لهي أكثر بصيرة وأوضح طريقا من أمة تبحث عن نموذج لم تر ملامحه ولا تحسم كثيرا من أسئلته الجوهرية.
6. عصر الخلافة شمل كل أحوال الدولة
لقد استمرت الخلافة الراشدة ثلاثين سنة، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم:"الخلافة بعدي ثلاثون سنة"
هذه الثلاثون سنة فترة طويلة يحدث فيها الكثير من الأحداث والتقلبات التي تسفر في النهاية عن وجود نموذج ثري يمكننا الاقتداء به.
لقد كانت سنوات الخلافة الراشدة شاملة لسنن الدول جميعا: بداية من التأسيس كما في عهد أبي بكر، ومرورا بالنهوض والتطور كما في عهد عمر، وصولا إلى الرخاء كما في عامة عهد عثمان، وانتهاء بالفتنة الداخلية السلمية والمسلحة كما في آخر عهد عثمان وعهد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
ولقد جاءت ولاية أبي بكر بنوازل سياسية كمسألة قرشية الخليفة، وتولية الفاضل، وما إن كانت الشورى معلمة أم ملزمة، وغيرها. وجاءت ولاية عمر بمسائل أخرى كترشيح الخليفة السابق، واختلاف الخلفاء في الاجتهاد السياسي، وأبواب في الأموال والأراضي ومعاملة الشعوب المفتوحة وغيرها. وجاءت ولاية عثمان بمسائل أخرى كتعدد المرشحين للخلافة، وعملية الانتخاب، وفقه مواجهة المعارضة السلمية والمتمردة، وجاءت ولاية علي بمسائل أخرى كاختيار الخليفة في الفتنة، وتحويل العاصمة، وتمرد الوالي على الخليفة، وانبعاث طائفة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير إذن الإمام.
وفي كل هذه الفترات أمور اتفق عليها الراشدون فلا يمكن لأحد أن يجادل في أهميتها ولا أن يخرج برأي آخر فيها، مثل: ضرورة السلطة للدين وأنه لا دين بغير الدولة، فلقد اختار المسلمون خليفتهم قبل أن يدفنوا نبيهم، ورشح أبو بكر للأمة من يخلفه قبل أن يموت، وقبل أن يموت عمر وضع نظام اختيار الذي بعده، وما إن قُتِل عثمان حتى كانت الخلافة تسعى أمام علي رضي الله عنه.
7. فهم الحضارة الإسلامية
الآن نضرب مثالا آخر لآثار الإيمان بنموذج الخلافة الراشدة، هو أن روح الحضارة الإسلامية تنحاز إلى الإنسان لا إلى البنيان، وإلى المعنى أكثر من المادة.
لقد انتهى عصر الخلافة الراشدة، الذي هو العصر الذهبي في الذهن الإسلامي، ولم يكن للمسلمين قصور مشيدة ولا بيوت فاخرة ولا مباني ضخمة ولا مساجد مزخرفة ولا ثياب مزينة.. لقد أتى هذا كله فيما بعد، في العصور التي لا تمثل قدوة. إلا أن هذا العصر كان هو عصر الإنسان، العصر الذي يأمن فيه الإنسان على نفسه وعرضه وأهله، لا يستطيع حاكم أن يستذله أو يقهره أو يخيفه أو يظلمه، عصر تستطيع فيه المعارضة أن تواجه الخليفة قولا وصراخا وبالسلاح أحيانا ثم يكون لهم بعد هذا حقوق لا ينتقص منها.
إن الذي ينتقص من عصر الخلافة لأن ثلاثة من خلفائه قُتِلوا ينسى أن الذين قُتلوا لم يُقتلوا لظلم وقع منهم وإنما لاتساع هامش المساحة الممنوحة للجميع، لقد استطاع العبد الفارسي أن يهدد عمر قبل أن يقتله ويحيا في المدينة لا يمسه سوء، ثم استطاع هذا العبد أن يصلي في الصف الأول خلف عمر وأن يطعنه، وحاصر المتمردون بيت عثمان وهو من حماهم ومنع أصحابه من مقاتلتهم والتصدي لهم بعد مجهود وافر في بيان ما هم عليه من الباطل والدفاع عن نفسه، وكان من قبل ذلك قد تعرض لمحاولة اغتيال فلم يعاقب أصحابها باعتبار أن الجريمة لم تقع فلا يستحقون عقابا، وقُتِل علي على يد رجل من فريق جهر بالمعارضة وجهر بالحرب ولم يمنعه هذا أن يصل إليه. إنه انحياز لحرية الناس وحقوقهم على حساب أمن السلطة! وهو انحياز فلسفي كبير يترتب عليه معظم النظام السياسي والأمني في الدولة الإسلامية، وهو انحياز لاقتراب الحكام من العامة.
لهذا فمن أغرب الغريب أن يُعايَر النموذج الإسلامي بأن ثلاثة من خلفائه الأربعة قُتِلوا! وأن يصدر هذا ممن عاش في زمن تهلك فيه الأمم والجماعات والفصائل بدعوى حماية النظام والحفاظ على الأمن القومي ويُشنق فيه الناس بتهم تكدير السلم العام!! أو لعل هذا هو الطبيعي، فإن من نشأ في ظل هذا النظام لم يعرف معنى الحرية فهو أخوف على أمنه منه على حريته وكرامته!
هذا الانحياز إلى الإنسان وكرامته له وجه آخر، لأنه انحياز ضد القصور والزخارف والزينة، فالحضارة الإسلامية تهتم لأن تقيم مجتمعا تسوده الكرامة والعدل والإنصاف ولو كان يسكن بيوت الحجر والشعر والطين، وتنبذ وتحارب مجتمعا تسوده ناطحات السحاب وتغمره وسائل الترفيه والترف بينما إنسانه مذلول أو مطحون أو مسحوق ماديا أو نفسيا! وهذا افتراق خطير!
إن مجتمعات المادة قد تنبهر لروائع قصور الحمراء وتاج محل وفنون المآذن والقباب المملوكية بينما الحكم الأخلاقي للحضارة الإسلامية على هذه العصور سلبي، نعم قد نستدل بكل هذا على تقدم العلوم والفنون في الجانب العلمي من الحضارة الإسلامية، لكن يظل العصر الراشدي الذي خلا من كل هذا هو العصر الذي تتشوق له النفوس أكثر من عصور مماليك الشرق أو مغول الهند أو بني الأحمر الأندلسيين!
وعصر الخلافة الراشدة هو دليل على أهمية وحدة الأمة الإسلامية، لقد قاتل أبو بكر في أول هذا العصر لغاية توحيد الأمة، وقاتل علي رضي الله عنه في أواخره لغاية توحيد الأمة أيضا. والحفاظ على وحدة الأمة كان في الأهداف الكبرى للراشدين حربا وسلما، من أجلها كان عمر يعزل أي والٍ لم يرتضه أهل البلد مهما كان صلاح الوالي ومكانته، وبها حذر ووعظ عثمان المتمردين عليه.
فمن هنا عرفنا أن وحدة الأمة تحت إمام واحد هي من الأولويات الكبرى، فلا يغرينا ولا يغرنا من يحدثنا عن تحويل الأمة إلى مجرد "تنسيق" أو "تعاون" على غرار الاتحاد الأوروبي مثلا أو غيرها، فنحن أمة واحدة وهي تتوق إلى الوحدة ولم يفرقنا سوى الحكام المستبدون أو المحتلون.
نشر في مدونات الجزيرة
انظر مثلا: برتراند رسل، حكمة الغرب: عرض تاريخي للفسلفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي، ترجمة: د. فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة 62 (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، فبراير 1983)؛ 1/ 100، 143، 157، أرنولد توينبي، مختصر دراسة التاريخ، ترجمة: فؤاد محمد شبل، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2011م)، 1/ 93؛ مونتسكيو، روح الشرائع، ترجمة: عادل زعيتر، (القاهرة: اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية، 1954)، 2/ 146.
عصر الخلافة الراشدة هو عصر الإنجاز الكبير، عصر انبعاث الأمة من مجاهل التاريخ لتصعد إلى ذروة القوة العالمية في ثلاثين عام فقط؟!.. إنجاز اندهش له المؤرخون على اختلافهم وتنوع أفكارهم ومشاربهم! والعجيب أنه إنجاز راسخ لم تغيره الأيام والقرون على تطاولها، إنجاز غير خريطة العالم منذ حدث حتى الآن.
نحتاج ونحن في زمن القهر هذا أن نقترب من عصر الراشدين، نتأمل كيف صنعوا ذلك المجد الكبير، كيف أنشأوا دولة عظمى تحكم ملايين البشر بالعدل، كيف طبقوا الإسلام في عالم الواقع بعد انقطاع الوحي، كيف استطاعوا أن يخرجوا الجيوش من الصحراء العربية القاحلة المنقطعة عن الحضارة فيكتسحون الحضارات الكبرى والإمبراطوريات العظمى وينقذون الملايين من الظلم والقهر الطويل الذي امتد قرونا متعاقبة، ثم يظللونهم بحضارة إسلامية خالصة فيدخل الناس في دين الله أفواجا ويخرجون من الظلمات إلى النور، كيف استطاعوا أن يحتفظوا بثقتهم في أنفسهم فلا ينبهرون بمظاهر الفخامة والترف وبدائع القصور وروائع الزخارف والرسوم ومعالي البنيان وفسائح العمران؟!
لن يمكننا الانتقال من حالنا البائس إلى الحال التي نأملها إلا إن استوعبنا وتعلمنا من الخلفاء الراشدين، فأولئك الخلفاء هم التطبيق المثالي النموذجي للإسلام بعد أن توفي رسول الله، ولهذا قال لنا رسول الله في وصيته الغالية المشهورة:"فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ"
ولن يمكننا تنفيذ وصية حبيبنا إلا أن عرفنا سنة الخلفاء الراشدين! فمن هنا كان معرفة تاريخ وأنباء هذا العصر، ومعرفة رجاله وأحواله وأوضاعه هي الطريق لفهم الإسلام، وفهم واجبنا في واقعنا المعاصر.
1. لماذا كان للخلفاء سنة.. ألم يكتمل الدين في زمن النبي؟
نعم اكتمل الدين، ومن الأدلة على اكتماله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا باتباع سنة الخلفاء الراشدين، فإنهم لا سنة لهم في العبادات والشعائر، وإنما سنتهم هي في السياسة وطريقة الحكم، لذلك قال رسول الله (سنة الخلفاء)، ولم يقل سنة أصحابي أو سنة فلان وفلان، كان النبي يصفهم بوصفهم "الخلفاء" ليؤكد على أن جانب الاقتداء بهم في سنتهم هو الجانب السياسي.
وذلك لأن الدين في سائر الجوانب بينه ووضحه رسول الله، لكن بعض الأمور بقيت لا يمكن الاقتداء فيها برسول الله لاعتبارات خاصة، منها مثلا:
أولا. أن رسول الله متصلٌ بالوحي، وينزل الوحي عليه يصحح له أو يوجهه، لكن رسول الله سيموت وستبقى الأمة بلا وحي، فكان لا بد من وجود تجربة يقتدي فيها المسلمون ببشر لا يتصلون بالوحي، فهم يجتهدون فيخطئون ويصيبون.
ثانيا. أنه لا يملك مسلم أن يعارض رسول الله، فهو الرسول الموصول بالوحي الذي ينطق بالحق وهو الكامل روحا وعقلا، ومن ثَمَّ لا يمكن لمسلم أن يقاتل النبي، فالذي يفعل شيئا من هذا يكون كافرا مرتدا. فمن هنا كان لا بد من وجود قدوات من البشر يُقتدى بهم، في سنتهم في مثل هذه الأمور كالشورى فيما ليس فيه نص وفي النوازل والمستجدات، والتعامل مع المعارضة، والتعامل مع الفتن الداخلية.. وهكذا من الأمور التي يختلف التعامل فيها بين النبي وغيره من سائر البشر.
ثالثا. أن رسول الله اجتمعت فيه النبوة والإمامة، أي الرئاسة الدينية والدنيوية، ولا يمكن لأحد أن يختار الرسول وإنما هو اصطفاء يصطفيه الله له، أما بالنسبة للحاكم فلا بد أن يعلمنا الإسلام كيف نختار الحاكم وما هي شرعية حكمه وما هي حقوقه وواجباته.. ولم يكن هذا ليُعرف على الوجه الواضح إلا بوجود نموذج بشري يملك الناس فيه أن يختاروه وأن يحاسبوه ويراقبوه بل وأن يعزلوه.
2. المدينة الفاضلة والعصر الذهبيسألت بعض الشباب في محاضرة عن العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فقال بعضهم: العصر الأندلسي حيث القصور الفاخرة والصنائع الدقيقة، وقال آخرون: العصر العباسي حيث الفنون والعلوم، وقال بعضهم: العصر الأموي حيث أوسع مساحات الفتوحات الإسلامية.
لقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال حين قال:"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"
وكذلك حين أوصانا بالاقتداء بالخلفاء الراشدين لما قال "عضوا عليها بالنواجذ". ولذلك فإن المسلمين في سعيهم نحو إحياء الخلافة الإسلامية لا يطمحون لعصور الأمويين والعباسيين والعثمانيين، بل يطمحون لعصر الخلافة الراشدة، وهم حين يتحدثون عن الحاكم المثالي يتحدثون عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لا عن عبد الملك بن مروان أو أبي جعفر المنصور أو السلطان سليم، رغم أن كل هؤلاء من عظماء التاريخ الإنساني، إلا أن المسلمين يتمسكون على الخصوص بالقدوة المتمثلة في الراشدين.
هذا التحديد لعصر القدوة أو العصر الذهبي للحضارة الإسلامية يؤثر كثيرا على اختياراتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، فالحاكم المسلم يظل عبر التاريخ يُحاكم إلى نماذج الخلفاء الراشدين، ولربما يكون الحاكم المسلم أنجز –بالمعيار الدنيوي- إنجازا عظيما لكن جمهرة الفقهاء والمؤرخين لا يرضون عنه، وهو هو نفسه الذي لو كان في سياق غربي لكان بغير شك من عظماء مؤسسي الدول، وذلك لأن وجود نموذج في النظام الإسلامي يمثل الحق الذي يعلو على القوة، وانعدام هذا النموذج في السياق العلماني يؤدي لأن تكون القوة هي معيار الحق.
3. الدليل على صلاحية الإسلام للتطبيقكتبت الباحثة الإيطالية ماريا لويزا برنيري كتابها "المدينة الفاضلة عبر التاريخ" وتتبعت فيه تصورات الفلاسفة والمصلحين والزعماء عن المدينة الفاضلة، منذ أقدم العصوم حتى الآن، وكان أول نتائجه أن كل تصورات المدينة الفاضلة لم تتحقق، لم يستطع أحد صناعة مدينته الفاضلة حتى الذين امتلكوا سلطة تنفيذ أفكارهم!
هنا يبدو واضحا قيمة "عصر الخلافة الراشدة"، إنه نموذج عملي واقعي تحقق في التاريخ لثلاثين سنة، فهو نموذج لم يحلق في آفاق الخيال ولم يحاول اختراع قوانين الطبيعة، بل نجح في التعامل مع واقع البشر. ولقد استمر ذلك النموذج ثلاثين سنة في قمته ثم بدأ النزول عن هذه القمة تدريجيا وببطء، لكن الأمة التي خرجت في هذه الثلاثين سنة هي الأمة التي ظلت ألف سنة تشع علما وحضارة. فالخلاصة أن تحقق النموذج في واقع الحياة لعدد من السنين يمثل في حد ذاته القدرة على إعادة تحققه مرة أخرى، وبهذا يصير حلم إحيائه حلما ممكنا، ويصير السعي إلى تحقيقه من جديد سعيا واقعيا، وهو خير من السعي وراء سراب تصورات حالمة لم تتحقق ولم تستطع أن تخرج من سطور الكتب إلى التعامل مع واقع الناس.
4. الواقعية مقابل المثالية
تعترف الباحثة في بداية بحثها، أن الواقع تجاوز المثاليين الحالمين، "الحالمون من أصحاب الرؤى أصبحوا موضع السخرية أو الاحتقار، والناس "العمليون" هم الذين يحكمون حياتنا"، بل لقد صار العالم عقيما من الحالمين الذين ينتجون مدينة فاضلة في الكتب وحدها، لقد أصيب الجميع بما تسميه "عدوى الواقعية"، وهكذا لم تستطع التصورات الحالمة أن ترفع من مستوى الواقع، بل استطاع الواقع أن يجذب إليه التصورات لتكون أقل حلما ومثالية.
وكانت واحدة من إشكاليات الموضوع أن الفلاسفة حين كانوا يحلمون بمدينتهم الفاضلة، بدلا من محاولة "اكتشاف قوانين الطبيعية، فضَّلوا أن يخترعوها" أي أنهم حاولوا إلزام الناس بأفكارهم ولم يحاولوا اكتشاف قوانين الواقع، فأقاموا مدنهم الفاضلة على مجرد تصورات.
أما الإسلام فقد أقام الإسلام دولته في واقع الناس، والناس لن يتحولوا إلى ملائكة، الناس مختلفون في الفهم والمواهب والقدرات والطاقات، مختلفون في الهمم والطموح والغايات، يقع منهم الخطأ والنسيان، يستزلهم الشيطان، ويوقع بينهم الفتن والعداوة والبغضاء، سيكون منهم ذنوب، وستقع بينهم حروب وفتن.
في عصر الخلافة الراشدة نرى نموذجا مثاليا للتعامل مع واقع البشر كما هو لا كما يحاول الفلاسفة والمثاليون أن يصنعوه، ولهذا لا بد أن نفهم هذا العصر جيدا إذا أردنا أن نقدم رسالتنا وديننا ونموذجنا الحضاري لكل الناس.
5. العصمة من التيه بين الأفكار والمذاهب
لو لم يكن في تاريخنا عصرٌ مثل عصر الخلافة الراشدة لكان المسلمون الآن في تيه كبير واضطراب عظيم.. كنا سنكون أشبه بالغرب في تيهه واضطرابه.
نعم الغرب –رغم قوته وعلوه- في تيه واضطراب فكري واسع، والفلسفة الغربية أشبه بالغابة الضخمة المشتبكة المتناقضة من الأفكار والتصورات والرؤى، وما نراه نحن في العالم العربي –لضعف الثقافة وقلة الاطلاع- ثوابت عندهم هي في الحقيقة موضوعات تهتز بشدة وتعاني من انتقادات جذرية وكاسحة، بل إن الفلسفة الغربية أنتجت مصطلح "ما بعد كذا" لتعبر عن "انتهاء" مرحلة أو فلسفة دون استيضاح ماذا سيليه.
إن مجرد "وجود نموذج" يمثل القدوة في الفكر الإسلامي هو بحد ذاته إنقاذ من التيه والضياع الفلسفي الكبير الذي يؤدي إليه "عدم وجود نموذج"، وكذلك عدم اليقين بنموذج واضح الملامح سيأتي به المستقبل. ولا يجد المرء تشبيها لهذا الوضع خيرا من قول الله تعالى:
"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"
إذا كان لدينا نموذج عملي متحقق في واقع الناس، أثمر ذلك نجاة من الاشتباكات والتناقضات في تحديد النموذج المعرفي والكليَّات الكبرى، فلن تصير الأمة ضحايا للأفكار التي تمثل ردات فعل على واقعها بالمقام الأول، إذ لن تضطر لدخول صراعات دموية للخروج من عصر الإقطاع إلى عصر الشيوعية أو من عصر الشيوعية إلى عصر الليبرالية أو من عصر الكنيسة إلى عصر الدولة.. وهكذا!
إن وجود النموذج العملي هو ما يحدد أمورا كثيرة من أصول الفكر والتوجه، مثل المرجعية النهائية وتفاعلها مع الوقائع التفصيلية المستجدة، ومثل الانحياز بين الفردية والجماعية، بين المادية والروحية، وما ينبثق عن كل هذا من أنظمة وأنماط اقتصادية واجتماعية وغيرها.
كل هذه الأمور وغيرها تختلف العقول بشأنها إن غاب النص وغاب النموذج التطبيقي له، وإن الأمة التي تسعى لاستعادة نموذج سبق وتعامل مع الأوضاع السياسية لهي أكثر بصيرة وأوضح طريقا من أمة تبحث عن نموذج لم تر ملامحه ولا تحسم كثيرا من أسئلته الجوهرية.
6. عصر الخلافة شمل كل أحوال الدولة
لقد استمرت الخلافة الراشدة ثلاثين سنة، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم:"الخلافة بعدي ثلاثون سنة"
هذه الثلاثون سنة فترة طويلة يحدث فيها الكثير من الأحداث والتقلبات التي تسفر في النهاية عن وجود نموذج ثري يمكننا الاقتداء به.
لقد كانت سنوات الخلافة الراشدة شاملة لسنن الدول جميعا: بداية من التأسيس كما في عهد أبي بكر، ومرورا بالنهوض والتطور كما في عهد عمر، وصولا إلى الرخاء كما في عامة عهد عثمان، وانتهاء بالفتنة الداخلية السلمية والمسلحة كما في آخر عهد عثمان وعهد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
ولقد جاءت ولاية أبي بكر بنوازل سياسية كمسألة قرشية الخليفة، وتولية الفاضل، وما إن كانت الشورى معلمة أم ملزمة، وغيرها. وجاءت ولاية عمر بمسائل أخرى كترشيح الخليفة السابق، واختلاف الخلفاء في الاجتهاد السياسي، وأبواب في الأموال والأراضي ومعاملة الشعوب المفتوحة وغيرها. وجاءت ولاية عثمان بمسائل أخرى كتعدد المرشحين للخلافة، وعملية الانتخاب، وفقه مواجهة المعارضة السلمية والمتمردة، وجاءت ولاية علي بمسائل أخرى كاختيار الخليفة في الفتنة، وتحويل العاصمة، وتمرد الوالي على الخليفة، وانبعاث طائفة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير إذن الإمام.
وفي كل هذه الفترات أمور اتفق عليها الراشدون فلا يمكن لأحد أن يجادل في أهميتها ولا أن يخرج برأي آخر فيها، مثل: ضرورة السلطة للدين وأنه لا دين بغير الدولة، فلقد اختار المسلمون خليفتهم قبل أن يدفنوا نبيهم، ورشح أبو بكر للأمة من يخلفه قبل أن يموت، وقبل أن يموت عمر وضع نظام اختيار الذي بعده، وما إن قُتِل عثمان حتى كانت الخلافة تسعى أمام علي رضي الله عنه.
7. فهم الحضارة الإسلامية
الآن نضرب مثالا آخر لآثار الإيمان بنموذج الخلافة الراشدة، هو أن روح الحضارة الإسلامية تنحاز إلى الإنسان لا إلى البنيان، وإلى المعنى أكثر من المادة.
لقد انتهى عصر الخلافة الراشدة، الذي هو العصر الذهبي في الذهن الإسلامي، ولم يكن للمسلمين قصور مشيدة ولا بيوت فاخرة ولا مباني ضخمة ولا مساجد مزخرفة ولا ثياب مزينة.. لقد أتى هذا كله فيما بعد، في العصور التي لا تمثل قدوة. إلا أن هذا العصر كان هو عصر الإنسان، العصر الذي يأمن فيه الإنسان على نفسه وعرضه وأهله، لا يستطيع حاكم أن يستذله أو يقهره أو يخيفه أو يظلمه، عصر تستطيع فيه المعارضة أن تواجه الخليفة قولا وصراخا وبالسلاح أحيانا ثم يكون لهم بعد هذا حقوق لا ينتقص منها.
إن الذي ينتقص من عصر الخلافة لأن ثلاثة من خلفائه قُتِلوا ينسى أن الذين قُتلوا لم يُقتلوا لظلم وقع منهم وإنما لاتساع هامش المساحة الممنوحة للجميع، لقد استطاع العبد الفارسي أن يهدد عمر قبل أن يقتله ويحيا في المدينة لا يمسه سوء، ثم استطاع هذا العبد أن يصلي في الصف الأول خلف عمر وأن يطعنه، وحاصر المتمردون بيت عثمان وهو من حماهم ومنع أصحابه من مقاتلتهم والتصدي لهم بعد مجهود وافر في بيان ما هم عليه من الباطل والدفاع عن نفسه، وكان من قبل ذلك قد تعرض لمحاولة اغتيال فلم يعاقب أصحابها باعتبار أن الجريمة لم تقع فلا يستحقون عقابا، وقُتِل علي على يد رجل من فريق جهر بالمعارضة وجهر بالحرب ولم يمنعه هذا أن يصل إليه. إنه انحياز لحرية الناس وحقوقهم على حساب أمن السلطة! وهو انحياز فلسفي كبير يترتب عليه معظم النظام السياسي والأمني في الدولة الإسلامية، وهو انحياز لاقتراب الحكام من العامة.
لهذا فمن أغرب الغريب أن يُعايَر النموذج الإسلامي بأن ثلاثة من خلفائه الأربعة قُتِلوا! وأن يصدر هذا ممن عاش في زمن تهلك فيه الأمم والجماعات والفصائل بدعوى حماية النظام والحفاظ على الأمن القومي ويُشنق فيه الناس بتهم تكدير السلم العام!! أو لعل هذا هو الطبيعي، فإن من نشأ في ظل هذا النظام لم يعرف معنى الحرية فهو أخوف على أمنه منه على حريته وكرامته!
هذا الانحياز إلى الإنسان وكرامته له وجه آخر، لأنه انحياز ضد القصور والزخارف والزينة، فالحضارة الإسلامية تهتم لأن تقيم مجتمعا تسوده الكرامة والعدل والإنصاف ولو كان يسكن بيوت الحجر والشعر والطين، وتنبذ وتحارب مجتمعا تسوده ناطحات السحاب وتغمره وسائل الترفيه والترف بينما إنسانه مذلول أو مطحون أو مسحوق ماديا أو نفسيا! وهذا افتراق خطير!
إن مجتمعات المادة قد تنبهر لروائع قصور الحمراء وتاج محل وفنون المآذن والقباب المملوكية بينما الحكم الأخلاقي للحضارة الإسلامية على هذه العصور سلبي، نعم قد نستدل بكل هذا على تقدم العلوم والفنون في الجانب العلمي من الحضارة الإسلامية، لكن يظل العصر الراشدي الذي خلا من كل هذا هو العصر الذي تتشوق له النفوس أكثر من عصور مماليك الشرق أو مغول الهند أو بني الأحمر الأندلسيين!
وعصر الخلافة الراشدة هو دليل على أهمية وحدة الأمة الإسلامية، لقد قاتل أبو بكر في أول هذا العصر لغاية توحيد الأمة، وقاتل علي رضي الله عنه في أواخره لغاية توحيد الأمة أيضا. والحفاظ على وحدة الأمة كان في الأهداف الكبرى للراشدين حربا وسلما، من أجلها كان عمر يعزل أي والٍ لم يرتضه أهل البلد مهما كان صلاح الوالي ومكانته، وبها حذر ووعظ عثمان المتمردين عليه.
فمن هنا عرفنا أن وحدة الأمة تحت إمام واحد هي من الأولويات الكبرى، فلا يغرينا ولا يغرنا من يحدثنا عن تحويل الأمة إلى مجرد "تنسيق" أو "تعاون" على غرار الاتحاد الأوروبي مثلا أو غيرها، فنحن أمة واحدة وهي تتوق إلى الوحدة ولم يفرقنا سوى الحكام المستبدون أو المحتلون.
نشر في مدونات الجزيرة
انظر مثلا: برتراند رسل، حكمة الغرب: عرض تاريخي للفسلفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي، ترجمة: د. فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة 62 (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، فبراير 1983)؛ 1/ 100، 143، 157، أرنولد توينبي، مختصر دراسة التاريخ، ترجمة: فؤاد محمد شبل، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2011م)، 1/ 93؛ مونتسكيو، روح الشرائع، ترجمة: عادل زعيتر، (القاهرة: اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية، 1954)، 2/ 146.
Published on August 02, 2017 05:40
August 1, 2017
حاجة الثورات والمجاهدين إلى الابتكار
مما لا يأخذ حظه كثيرا في العرض التاريخي للفتوحات الإسلامية أمر ابتكارات المجاهدين واختراعاتهم في ميدان الحرب والقتال، مع أنه من أهم الأمور التي ينبغي التعرض لها والتركيز عليها والاهتمام بها، فإن ابتكارا واحدا ربما غيَّر مصير المعركة، وربما كان مصير تلك المعركة هو ما تتحدد به مصائر الأمم والشعوب وخرائط الجغرافيا والتاريخ، فالمعارك هي السطر الأول والأخير في صفحة تاريخ كل أمة، فليس من أمة إلا وبدأت بحرب تأسيس أو تحرر أو استقلال، وليس من أمة إلا وختمت صفحتها بحرب سقوط وانهيار.
1. مواجهة الفيلة في القادسية
كان من أعظم المحن التي أتعبت المسلمين في فتوح فارس أن الفرس يقاتلون على الفيلة، ولم تكن خيول العرب قد شاهدت الفيلة من قبل، فكانت تنفر منها، وسلاح الفرسان هو السلاح الضارب في جيوش تلك الأيام، فكانت الخيل ترى تلك الكائنات الغريبة الضخمة الثقيلة فتنفر، فيتعطل سلاح الفرسان بجيش المسلمين، ولم يكن للمسلمين فيلة بالمقابل، ولا كانوا يعرفون كيف يعطلونها، فصار الأمر يمثل خللا خطيرا في حسابات المواجهة، فابتكرت عقولهم أربعة وسائل مبتكرة:
أولا: هجوم نوعي
كان يُربط إلى الفيل تابوتان على جانبيه، يُحمل فيهما المقاتلون، وهما مرتبطان معا عبر ظهر الفيل، فحين يهجم الفيل على الجيش تَنْفِر منه الخيل والمشاة وترتبك الصفوف فيستطيع المقاتلون على جانبي الفيل استغلال حالة الارتباك هذه ليطعنوا بالرماح تلك الجموع المتفرقة المختلة فتكون الخسارة مضاعفة: اختلال الصفوف، وخسائر في المقاتلين، ثم يأتي من خلفهم المشاة فيحصدون هذا الوضع بمزيد من إيقاع القتلى والجرحى.
تفتقت عقول المجاهدين عن خطة مضادة، هجوم نوعي من فرق خاصة تهاجم الفيل من الخلف ومن الأجناب فتكون مهمتها قطع الأحزمة التي تربط التابوتين عبر ظهر الفيل، فتسقط التوابيت بمن فيها من المقاتلين، فما إن يحدث حتى يهجم حملة الرماح على الفيلة بالطعن من بعيد بعد أن صاروا بلا مقاتلين، فيوجهونه برماحهم بعيدا عن المسلمين.
أدت هذه العمليات لاختفاء الفيلة طوال اليوم الثاني من معركة القادسية الفاصلة، فلقد قضى الفرس يومهم في إصلاح التوابيت، ثم دعم الفرس المقاتلين على الفيلة بمقاتلين إضافيين للحراسة كي لا يتكرر الهجوم النوعي السابق، لكن الأمر جاء على عكس إرادتهم، فقد عطلت القوات الإضافية مساحة حركة الفيلة ومناوراتها، ثم إن الفيل صار يستأنس بكثرة ما حوله وهو ما خفَّ من توحشه وشراسته، ثم إن مقاتلي الفيلة صاروا متوجسين يهتمون بالدفاع أكثر من الهجوم. فساهم جميع ما سبق في خفض عمل الفيلة.
ثانيا: برقعة الإبل
وتلك من بنات أفكار القعقاع بن عمرو التميمي، فقد فكر في أن يصنع بسلاح الفرسان الفارسي كما فعلوا بالمسلمين، فعَمِدَ إلى إلباس عدد من الإبل براقع كبيرة تجعل منظرها جديدا، كأنما حيوان جديد دخل المعركة، ووضع حول كل إبل مبرقعة جنودا تحميه وتصحبه في الهجوم، فنفرت خيل الفُرْس من الإبل المبرقعة ووقع لهم مثلما وقع في اللحظات الأولى لخيل المسلمين. وبهذا حُرِم الفرس من سلاح الفرسان أمدا.
ثالثا: فيل من الطين
وهذا ابتكار لجندي من المسلمين لم نعرف اسمه، وذلك أنه لما وجد خيل المسلمين تنفر من الفيلة قضى ليلته في بناء فيل من الطين، وصار يقرب فرسه منه حتى قضى الفرس معه طوال الليل فأنس به فلم يعد ينفر منه، فلما أصبح يوم القتال امتطى الرجل صهوة جواده وأقبل على الفيل فلم ينفر منه، فكان هذا مما حَثَّ خيول المسلمين على الثبات للفيلة، ونادى به الناس: إنه قاتلك (أي الفيل)، فقال لهم: لا ضير أن أُقتل ويُفتح للمسلمين.
رابعا: دور المعلومات
وهو أخطر الأدوار، وقد قامت به القيادة الإسلامية، حيث نشط المسلمون في جمع المعلومات عن الفيلة ومقاتلها ممن أسلم من الفرس أو من العراب الموالين لهم، فظفروا بمعلومات ثمينة أهمها: أن الفيلة لا نفع منها إذا فقدت عيونها أو أشفارها. كما اكتشفوا أن فيلين فقط هما بمثابة القيادة التي تتبعها بقية الفيلة: الفيل الأبيض والفيل الأجرب.أرسل سعد بن أبي وقاص بالمعلومات إلى بني تميم (بقيادة: القعقاع بن عمرو التميمي وأخيه عاصم) ليتولوا أمر الفيل الأبيض، وأرسل إلى حمال بن مالك (أمير المشاة) والربيل بن عمرو وهما في مقدمة بني أسد أن يتوليا أمر الفيل الأجرب.
انطلق القعقاع وعاصم في فرقة مهمتها تشتيت قوات الحماية حول الفيل، ثم وضعا رمحيهما في وقت واحد في عيني الفيل، فرفع الفيل خرطومه فاستبقه القعقاع بسيفه فقطعه، فسقط على الأرض أعمى فقتل عددا من مقاتليه، وأربك الجهة التي حوله فتسابقت إليهم كتيبة بني تميم.
وانطلق حمال بن مالك والربيل بن عمرو واستطاعا ضرب خرطوم الفيل وطعن عين واحدة منه، وأصيب الربيل بضربة حطمت أنفه من سائس الفيل إلا أنه أفلت منها، غير أن النتائج التي حققاها كانت أفضل، إذ أن الفيل الأعور عرف طريق هروبه من المسلمين فانطلق إلى الخلف يدوس صفوف الفرس ويخترقها فأطاعته بقية الفيلة التي هرعت وراءه حتى خرجت من المعركة وأهلكت من كان في توابيتها. بينما ظل الفيل الذي عمي تماما والذي ضربه القعقاع وعمرو لا يعرف أين يذهب فصار مترددا بين الصفين، إذا قدم على المسلمين نخسوه بالرماح وإذا قدم على الفرس نخسوه بالرماح ولا يدري كيف يتحرك2. عبور صحراء السماوة
أراد أبو بكر الصديق أن يدعم الفتوحات على جبهة الروم فأرسل إلى خالد بن الوليد (قائد جبهة الفتح في فارس) أن يصطحب نصف الجيش وينطلق إلى الشام، ومع دقة الموقف في الشام قرر خالد أن يعبر إليها من طريق سريع يوفر الوقت ويُدخله إلى عمق الشام، ولم يكن أمامه إلا عبور صحراء السماوة القاحلة بين العراق والشام، فلو سلك طريق الجنوب طال عليه الوقت وربما فاتته الفرصة، ولو سلك طريق الشمال لتعرض لمواجهات مع روم وأعراب في مناطق لم تفتح بعد. فكان قراره الخطير ومغامرته الجريئة بعبور صحراء السماوة، فكيف فعل في طريق خالية من الماء والطعام تماما لخمسة أيام؟!
قرر خالد أن يتزودوا من الماء لخمسة أيام، وأمر لكل صاحب خيل بقدر ما يسقيها، ثم أمر بتعطيش الإبل وحبسها عن الماء حتى كان آخر يوم قبل الرحيل فأطلق الإبل للماء فروت حتى امتلأت أسنمتها، ثم ربطوا أفواهها، فجعلوها كأنها مخزنهم للطعام، فإن احتاجوا ذبحوا الإبل فأكلوا منها ومزجوا ما في كروشها من الماء بالألبان في ضروعها، فكان هو طعامهم وطعام خيولهم.
وفي خمسة أيام قطع الجيش المسلم الصحراء فصار في عمق الشام قريبا من دمشق، فتحققت المفاجأة الحربية للطرفين: المسلمين فارتفعت معنوياتهم والروم فازداد اندهاشهم، ومن هناك تولى خالد قيادة فتوح الشام وبدأ مآثره الخالدة3. معركة ذات الصواري
بدأ المسلمون ببناء أسطولهم في عهد عثمان رضي الله عنه لما تحقق أن تأمين الفتوحات البرية لا يتم بغير أسطول يصد الهجمات البحرية للأسطول البيزنطي العتيد على ساحل الشام، وأسرع المسلمون ببناء أسطول في مدن الشام ومصر، ثم خاضوا أول معاركهم البحرية مع أسطول الروم العريق (34 هـ) عند ساحل أنطاليا.
وكانت معركة فاصلة مصيرية، فالمواجهة بين مائتي سفينة للمسلمين أمام ثمانمائة سفينة بيزنطية، وعلى قيادة الروم الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بن هرقل بنفسه، والنتيجة ستحدد لمن ستكون سيادة البحر المتوسط!
مع شدة حرج المعركة ونتائجها كان المسلمون بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد ابتكروا فكرتهم الخطيرة: تحويل المعركة البحرية إلى معركة برية حيث يستطيع فيها المجاهد المسلم تحقيق نتائج أفضل، لا نعرف بالضبط صاحب الفكرة، وحسبه أن الله يعرفه، والطريقة كالآتي:
تهبط مجموعات خاصة من المسلمين تحت الماء فتربط السفن بعضها ببعض، فهي حين تربط السفن الإسلامية ببعض فإنها تحولها كجزيرة فسيحة تمنع أسطول الروم من النفاذ بينها واختراقها وتطويقها، فإن تم لها ذلك، ربطت ما استطاعت من سفن الروم بسفن المسلمين، وبهذا تحولت السفن إلى سطح بري أجبر به البيزنطيون على خوض معركة شبه برية فوق السفن.
وكان موقع المعركة بين خلجان وشبه جزر برية مما جعل فكرة ربط السفن تحصر حركة الأسطول البيزنطي، وهكذا استطاع المسلمون فرض أسلوبهم، واستطاعوا أن يحققوا نصرا مبهرا غير متوقع بالأسطول الإسلامي الوليد على الأسطول البيزنطي العريق، بل وتحققت أقوى نتيجة حربية في تاريخ المعارك الإسلامية الرومية حتى تلك اللحظة إذ أصيب الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بن هرقل. واستطاع المسلمون إخراج الأسطول البيزنطي لفترة من شرق البحر المتوسط إذ اضطر الإمبراطور البيزنطي لنقل قاعدته البحرية لتكون في جزيرة صقليةالخلاصة
لا تشكو الأمة من ندرة في أهل البسالة والتضحية والفداء، ولكن تشكو من ندرة من يستطيعون ردم وتضييق الفجوة العلمية بيننا وبين عدونا، لا سيما وتلك الفجوة محروسة بالأنظمة المستبدة التي إن قُدِّمت لها اختراعات أو ابتكارات فأحسن ما يكون أن تهمله، وربما سجنت أو طردت صاحبه. إن الأمة تفتقر إلى الوسائل التي تجعل تضحية الفدائيين ذات ثمن وأثر ونفع، بدلا من أن يذهبوا هكذا مجانا.
لا تزال مشكلة الطيران تمثل تحديا ضخما، فكأنها لأول وهلة كمشكلة الفيلة قديما، ولعل من سيبتكر وسيلة لمواجهته لا يقل أجرا عن أجداده الفاتحين الأوائل، ومثلها مشكلة الطائرات بلا طيار، وأنماط الاتصالات ونقل البيانات والتشفير، ومن وارئها تلك الصواريخ بعيدة المدى التي تصيبنا من وراء البحار ومن قواعد بحرية، وقبل أيام جاءت أخبار باصطناع جنود آليين يعملون بتقنيات الذكاء الاصطناعي.. ولا يزال مسلسل التحديات طويلا، وهو ما سيحتاج مجهودا عسيرا وصبرا وجلدا كبيرا.
ولعل من فرص اليوم أن كثيرا من المجهود يمكن أن يجري بعيدا عن مواطن الخطر، فالحصول على المعلومات وتحليلها والبحث عنها يمكن أن يكون من أي مكان، بل ويمكن أن يشارك فيه أصحاب الأعذار ممن عفا الله عنهم من المشاركة بأنفسهم، فقد أوجب الله عليهم النصيحة لله ورسوله، فهم مكلفون بسائر ما يدعم الثائرين والمجاهدين، وبهذا يكتب لهم أجر الجهاد وهم في مأمنهم كما قال رسول الله عنهم "إن بالمدينة قوما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم شاركوكم في الأجر".
وأما أصحاب التخصص من المهندسين والكيميائيين والمبرمجين ونحوهم فهم أول المسؤولين الذين يتعين عليهم استعمال هذا العلم في إنقاذ هذه الأمة، فذلك دورهم الأكبر والأخطر، وهو بابهم الكبير بل لعله يكون الوحيد نحو الجنة في الآخرة وخلود الذكر الحسن في الدنيا.. ويا له من شرف أن يكتب المرء اسمه في نفس السجل الذي كتب فيه اسم خالد والقعقاع والفاتحين العظام.
نشر في مجلة كلمة حق
أحسن ما رأيته في تحقيق شأن الفتوح كتب المؤرخ العسكري أحمد عادل كمال، فقد اجتهد في جمع وتحقيق المرويات حتى أخرجها صورة واضحة للمعارك الإسلامية، ولهذا أفضل في شأن المعارك العزو إلى كتبه لا إلى المصادر القديمة، وفيما نقلناه هنا من شأن القادسية، ينظر كتابه: القادسية، ط9 (بيروت: دار النفائس، 1989م)، ص122 وما بعدها.إلا أن وقعة صناعة فارس فيلا من الطين نقلناها من: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، ط2 (القاهرة: دار الكتب المصرية، 1964م)، 2/363. انظر تفصيل القصة وتحديد المسار بدقة عند: أحمد عادل كمال، الطريق إلى المدائن، ط6 (بيروت: دار النفائس، 1986م)، ص321 وما بعدها. ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب، (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 1995م)، ص217، 218؛ أرشيبالد ر. لويس، القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط، ترجمة: أحمد محمد عيسى، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، بدون تاريخ)، ص91، 92.
1. مواجهة الفيلة في القادسية
كان من أعظم المحن التي أتعبت المسلمين في فتوح فارس أن الفرس يقاتلون على الفيلة، ولم تكن خيول العرب قد شاهدت الفيلة من قبل، فكانت تنفر منها، وسلاح الفرسان هو السلاح الضارب في جيوش تلك الأيام، فكانت الخيل ترى تلك الكائنات الغريبة الضخمة الثقيلة فتنفر، فيتعطل سلاح الفرسان بجيش المسلمين، ولم يكن للمسلمين فيلة بالمقابل، ولا كانوا يعرفون كيف يعطلونها، فصار الأمر يمثل خللا خطيرا في حسابات المواجهة، فابتكرت عقولهم أربعة وسائل مبتكرة:
أولا: هجوم نوعي
كان يُربط إلى الفيل تابوتان على جانبيه، يُحمل فيهما المقاتلون، وهما مرتبطان معا عبر ظهر الفيل، فحين يهجم الفيل على الجيش تَنْفِر منه الخيل والمشاة وترتبك الصفوف فيستطيع المقاتلون على جانبي الفيل استغلال حالة الارتباك هذه ليطعنوا بالرماح تلك الجموع المتفرقة المختلة فتكون الخسارة مضاعفة: اختلال الصفوف، وخسائر في المقاتلين، ثم يأتي من خلفهم المشاة فيحصدون هذا الوضع بمزيد من إيقاع القتلى والجرحى.
تفتقت عقول المجاهدين عن خطة مضادة، هجوم نوعي من فرق خاصة تهاجم الفيل من الخلف ومن الأجناب فتكون مهمتها قطع الأحزمة التي تربط التابوتين عبر ظهر الفيل، فتسقط التوابيت بمن فيها من المقاتلين، فما إن يحدث حتى يهجم حملة الرماح على الفيلة بالطعن من بعيد بعد أن صاروا بلا مقاتلين، فيوجهونه برماحهم بعيدا عن المسلمين.
أدت هذه العمليات لاختفاء الفيلة طوال اليوم الثاني من معركة القادسية الفاصلة، فلقد قضى الفرس يومهم في إصلاح التوابيت، ثم دعم الفرس المقاتلين على الفيلة بمقاتلين إضافيين للحراسة كي لا يتكرر الهجوم النوعي السابق، لكن الأمر جاء على عكس إرادتهم، فقد عطلت القوات الإضافية مساحة حركة الفيلة ومناوراتها، ثم إن الفيل صار يستأنس بكثرة ما حوله وهو ما خفَّ من توحشه وشراسته، ثم إن مقاتلي الفيلة صاروا متوجسين يهتمون بالدفاع أكثر من الهجوم. فساهم جميع ما سبق في خفض عمل الفيلة.
ثانيا: برقعة الإبل
وتلك من بنات أفكار القعقاع بن عمرو التميمي، فقد فكر في أن يصنع بسلاح الفرسان الفارسي كما فعلوا بالمسلمين، فعَمِدَ إلى إلباس عدد من الإبل براقع كبيرة تجعل منظرها جديدا، كأنما حيوان جديد دخل المعركة، ووضع حول كل إبل مبرقعة جنودا تحميه وتصحبه في الهجوم، فنفرت خيل الفُرْس من الإبل المبرقعة ووقع لهم مثلما وقع في اللحظات الأولى لخيل المسلمين. وبهذا حُرِم الفرس من سلاح الفرسان أمدا.
ثالثا: فيل من الطين
وهذا ابتكار لجندي من المسلمين لم نعرف اسمه، وذلك أنه لما وجد خيل المسلمين تنفر من الفيلة قضى ليلته في بناء فيل من الطين، وصار يقرب فرسه منه حتى قضى الفرس معه طوال الليل فأنس به فلم يعد ينفر منه، فلما أصبح يوم القتال امتطى الرجل صهوة جواده وأقبل على الفيل فلم ينفر منه، فكان هذا مما حَثَّ خيول المسلمين على الثبات للفيلة، ونادى به الناس: إنه قاتلك (أي الفيل)، فقال لهم: لا ضير أن أُقتل ويُفتح للمسلمين.
رابعا: دور المعلومات
وهو أخطر الأدوار، وقد قامت به القيادة الإسلامية، حيث نشط المسلمون في جمع المعلومات عن الفيلة ومقاتلها ممن أسلم من الفرس أو من العراب الموالين لهم، فظفروا بمعلومات ثمينة أهمها: أن الفيلة لا نفع منها إذا فقدت عيونها أو أشفارها. كما اكتشفوا أن فيلين فقط هما بمثابة القيادة التي تتبعها بقية الفيلة: الفيل الأبيض والفيل الأجرب.أرسل سعد بن أبي وقاص بالمعلومات إلى بني تميم (بقيادة: القعقاع بن عمرو التميمي وأخيه عاصم) ليتولوا أمر الفيل الأبيض، وأرسل إلى حمال بن مالك (أمير المشاة) والربيل بن عمرو وهما في مقدمة بني أسد أن يتوليا أمر الفيل الأجرب.
انطلق القعقاع وعاصم في فرقة مهمتها تشتيت قوات الحماية حول الفيل، ثم وضعا رمحيهما في وقت واحد في عيني الفيل، فرفع الفيل خرطومه فاستبقه القعقاع بسيفه فقطعه، فسقط على الأرض أعمى فقتل عددا من مقاتليه، وأربك الجهة التي حوله فتسابقت إليهم كتيبة بني تميم.
وانطلق حمال بن مالك والربيل بن عمرو واستطاعا ضرب خرطوم الفيل وطعن عين واحدة منه، وأصيب الربيل بضربة حطمت أنفه من سائس الفيل إلا أنه أفلت منها، غير أن النتائج التي حققاها كانت أفضل، إذ أن الفيل الأعور عرف طريق هروبه من المسلمين فانطلق إلى الخلف يدوس صفوف الفرس ويخترقها فأطاعته بقية الفيلة التي هرعت وراءه حتى خرجت من المعركة وأهلكت من كان في توابيتها. بينما ظل الفيل الذي عمي تماما والذي ضربه القعقاع وعمرو لا يعرف أين يذهب فصار مترددا بين الصفين، إذا قدم على المسلمين نخسوه بالرماح وإذا قدم على الفرس نخسوه بالرماح ولا يدري كيف يتحرك2. عبور صحراء السماوة
أراد أبو بكر الصديق أن يدعم الفتوحات على جبهة الروم فأرسل إلى خالد بن الوليد (قائد جبهة الفتح في فارس) أن يصطحب نصف الجيش وينطلق إلى الشام، ومع دقة الموقف في الشام قرر خالد أن يعبر إليها من طريق سريع يوفر الوقت ويُدخله إلى عمق الشام، ولم يكن أمامه إلا عبور صحراء السماوة القاحلة بين العراق والشام، فلو سلك طريق الجنوب طال عليه الوقت وربما فاتته الفرصة، ولو سلك طريق الشمال لتعرض لمواجهات مع روم وأعراب في مناطق لم تفتح بعد. فكان قراره الخطير ومغامرته الجريئة بعبور صحراء السماوة، فكيف فعل في طريق خالية من الماء والطعام تماما لخمسة أيام؟!
قرر خالد أن يتزودوا من الماء لخمسة أيام، وأمر لكل صاحب خيل بقدر ما يسقيها، ثم أمر بتعطيش الإبل وحبسها عن الماء حتى كان آخر يوم قبل الرحيل فأطلق الإبل للماء فروت حتى امتلأت أسنمتها، ثم ربطوا أفواهها، فجعلوها كأنها مخزنهم للطعام، فإن احتاجوا ذبحوا الإبل فأكلوا منها ومزجوا ما في كروشها من الماء بالألبان في ضروعها، فكان هو طعامهم وطعام خيولهم.
وفي خمسة أيام قطع الجيش المسلم الصحراء فصار في عمق الشام قريبا من دمشق، فتحققت المفاجأة الحربية للطرفين: المسلمين فارتفعت معنوياتهم والروم فازداد اندهاشهم، ومن هناك تولى خالد قيادة فتوح الشام وبدأ مآثره الخالدة3. معركة ذات الصواري
بدأ المسلمون ببناء أسطولهم في عهد عثمان رضي الله عنه لما تحقق أن تأمين الفتوحات البرية لا يتم بغير أسطول يصد الهجمات البحرية للأسطول البيزنطي العتيد على ساحل الشام، وأسرع المسلمون ببناء أسطول في مدن الشام ومصر، ثم خاضوا أول معاركهم البحرية مع أسطول الروم العريق (34 هـ) عند ساحل أنطاليا.
وكانت معركة فاصلة مصيرية، فالمواجهة بين مائتي سفينة للمسلمين أمام ثمانمائة سفينة بيزنطية، وعلى قيادة الروم الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بن هرقل بنفسه، والنتيجة ستحدد لمن ستكون سيادة البحر المتوسط!
مع شدة حرج المعركة ونتائجها كان المسلمون بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد ابتكروا فكرتهم الخطيرة: تحويل المعركة البحرية إلى معركة برية حيث يستطيع فيها المجاهد المسلم تحقيق نتائج أفضل، لا نعرف بالضبط صاحب الفكرة، وحسبه أن الله يعرفه، والطريقة كالآتي:
تهبط مجموعات خاصة من المسلمين تحت الماء فتربط السفن بعضها ببعض، فهي حين تربط السفن الإسلامية ببعض فإنها تحولها كجزيرة فسيحة تمنع أسطول الروم من النفاذ بينها واختراقها وتطويقها، فإن تم لها ذلك، ربطت ما استطاعت من سفن الروم بسفن المسلمين، وبهذا تحولت السفن إلى سطح بري أجبر به البيزنطيون على خوض معركة شبه برية فوق السفن.
وكان موقع المعركة بين خلجان وشبه جزر برية مما جعل فكرة ربط السفن تحصر حركة الأسطول البيزنطي، وهكذا استطاع المسلمون فرض أسلوبهم، واستطاعوا أن يحققوا نصرا مبهرا غير متوقع بالأسطول الإسلامي الوليد على الأسطول البيزنطي العريق، بل وتحققت أقوى نتيجة حربية في تاريخ المعارك الإسلامية الرومية حتى تلك اللحظة إذ أصيب الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بن هرقل. واستطاع المسلمون إخراج الأسطول البيزنطي لفترة من شرق البحر المتوسط إذ اضطر الإمبراطور البيزنطي لنقل قاعدته البحرية لتكون في جزيرة صقليةالخلاصة
لا تشكو الأمة من ندرة في أهل البسالة والتضحية والفداء، ولكن تشكو من ندرة من يستطيعون ردم وتضييق الفجوة العلمية بيننا وبين عدونا، لا سيما وتلك الفجوة محروسة بالأنظمة المستبدة التي إن قُدِّمت لها اختراعات أو ابتكارات فأحسن ما يكون أن تهمله، وربما سجنت أو طردت صاحبه. إن الأمة تفتقر إلى الوسائل التي تجعل تضحية الفدائيين ذات ثمن وأثر ونفع، بدلا من أن يذهبوا هكذا مجانا.
لا تزال مشكلة الطيران تمثل تحديا ضخما، فكأنها لأول وهلة كمشكلة الفيلة قديما، ولعل من سيبتكر وسيلة لمواجهته لا يقل أجرا عن أجداده الفاتحين الأوائل، ومثلها مشكلة الطائرات بلا طيار، وأنماط الاتصالات ونقل البيانات والتشفير، ومن وارئها تلك الصواريخ بعيدة المدى التي تصيبنا من وراء البحار ومن قواعد بحرية، وقبل أيام جاءت أخبار باصطناع جنود آليين يعملون بتقنيات الذكاء الاصطناعي.. ولا يزال مسلسل التحديات طويلا، وهو ما سيحتاج مجهودا عسيرا وصبرا وجلدا كبيرا.
ولعل من فرص اليوم أن كثيرا من المجهود يمكن أن يجري بعيدا عن مواطن الخطر، فالحصول على المعلومات وتحليلها والبحث عنها يمكن أن يكون من أي مكان، بل ويمكن أن يشارك فيه أصحاب الأعذار ممن عفا الله عنهم من المشاركة بأنفسهم، فقد أوجب الله عليهم النصيحة لله ورسوله، فهم مكلفون بسائر ما يدعم الثائرين والمجاهدين، وبهذا يكتب لهم أجر الجهاد وهم في مأمنهم كما قال رسول الله عنهم "إن بالمدينة قوما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم شاركوكم في الأجر".
وأما أصحاب التخصص من المهندسين والكيميائيين والمبرمجين ونحوهم فهم أول المسؤولين الذين يتعين عليهم استعمال هذا العلم في إنقاذ هذه الأمة، فذلك دورهم الأكبر والأخطر، وهو بابهم الكبير بل لعله يكون الوحيد نحو الجنة في الآخرة وخلود الذكر الحسن في الدنيا.. ويا له من شرف أن يكتب المرء اسمه في نفس السجل الذي كتب فيه اسم خالد والقعقاع والفاتحين العظام.
نشر في مجلة كلمة حق
أحسن ما رأيته في تحقيق شأن الفتوح كتب المؤرخ العسكري أحمد عادل كمال، فقد اجتهد في جمع وتحقيق المرويات حتى أخرجها صورة واضحة للمعارك الإسلامية، ولهذا أفضل في شأن المعارك العزو إلى كتبه لا إلى المصادر القديمة، وفيما نقلناه هنا من شأن القادسية، ينظر كتابه: القادسية، ط9 (بيروت: دار النفائس، 1989م)، ص122 وما بعدها.إلا أن وقعة صناعة فارس فيلا من الطين نقلناها من: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، ط2 (القاهرة: دار الكتب المصرية، 1964م)، 2/363. انظر تفصيل القصة وتحديد المسار بدقة عند: أحمد عادل كمال، الطريق إلى المدائن، ط6 (بيروت: دار النفائس، 1986م)، ص321 وما بعدها. ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب، (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 1995م)، ص217، 218؛ أرشيبالد ر. لويس، القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط، ترجمة: أحمد محمد عيسى، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، بدون تاريخ)، ص91، 92.
Published on August 01, 2017 11:20
July 26, 2017
عجائب الفتوحات الإسلامية
هذا هو المقال الخامس والأخير من سلسلة "معجزة الفتوحات الإسلامية"، والتي التزمنا فيها بإثبات كل عناصرها من كلام المستشرقين والمؤرخين الغربيين، ومنهم من كان متعصبا مبغضا للإسلام وأهله.
(اقرأ: المقال الأول، الثاني، الثالث، الرابع)
ولهذه السلسة أكثر من غرض، إلا أن غرضها الرئيسي في وقتنا هذا أن نؤسس لحقيقة أن أحدا من الناس لم يكن له مثل رحمتنا وحلمنا بالبشر، وأن نبينا كان رحمة للعالمين وكانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس، وها نحن نعيش في عصر استضعاف يأكل فيه الجميع من لحومنا ويشربون من دمائنا ولا ثمة مغيث ولا ناصر، بل ولا أغاثتنا شعارات الإنسانية والحرية في شيء، وليس الحل –كما يسوق أعداؤنا وعملاؤه في بلادنا- أن نلقي السلاح وننبذ الإرهاب ونؤمن بالتعايش ونطلب السلام.. لم يكن هذا يوما حل ولن يكون، بل الحل في أن نمتلك القوة ونشهر السيوف ونقتص ممن ظلمنا ونقاوم من احتل ديارنا أو استبد بنا. ونحن حين نفعل لن نكون مثلهم ولن نتخلق بأخلاقهم، فكذلك كنا حين امتلكنا القوة وكنا على رأس الحضارة، ولم يستطيعوا عبر تاريخهم أن يُلزمونا أخلاقهم وطباعهم، فكنا أحلم منتصر وأشرف غالب.
لو كنا مثلهم لما نطق هؤلاء بشيء مما سردناه عبر المقالات الماضية، إنما أجبرتهم أخلاقنا والحقيقة التاريخية على أن يعترفوا بما كرهوا، وأول طريق عودتنا لما كنا فيه أن نثق بأنفسنا ورسالتنا ونفقه طبيعة ديننا وسنة أجدادنا الفاتحين، أولئك القوم الذين لم يقبلوا العار والقهر والضعف، فلما غلبوا لم يكونوا طغاة جبارين.
لن ننتصر إن غلبتنا الهزيمة النفسية وشاع فينا قول من يدعونا نحن إلى ترك الإرهاب أو يدعونا إلى السلام والتعايش ونحن المقتولين في كل مكان! مثل هذا هو نفسه نتيجة الاحتلال الغالب على النفوس والعقول حتى صار يرى الحق باطلا والباطل حقا!
في هذا المقال الأخير سنختم بذكر بعض عجائب الفتوحات الإسلامية، وهي جديرة أن تكون حاضرة في الأذهان دائما، وإن كلا منها ليستحق أن يفرد ببحث خاص، إلا أن المقام لا يتسع لغير الإشارة السريعة العابرة، كلٌ منها إعجاز تاريخي في نفسه، خرق بها العادة التاريخية في توسع الأمم وانتشارها وأخلاقها إن غلبت وانتصرت.
1. انهيار ميزان القوة لصالح الخصوم
أجمل هذا الأمرَ المستشرقُ الأمريكي اليهودي المتعصب، وأحد المعروفين بالعداء للإسلام، برنارد لويسفتح في التسامح
كانت الفتوحات الإسلامية آية في رحمة الغالبين، ويعدُّ كتاب "الدعوة إلى الإسلام" للمستشرق الإنجليزي الشهير توماس أرنولدوقد استخلص أرنولد بعد تطواف طويلة وأمثلة عديدة هذه الخلاصة، يقول: "من هذه الأمثلة التي قدمناها آنفا عن ذلك التسامح، الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار، وإرادة حرة، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح"وعزا كثير من المستشرقين انتشار الإسلام ورسوخه في البلاد المفتوحة إلى هذا التسامح، منهم الكولونيل البريطاني رونالد فيكتور بودلي، يقول: "خير دليل على العلاقة الطيبة السلمية بين المسلمين وأصحاب البلاد المفتوحة، أن جميع هذه البلاد (ما عدا إسبانيا) ظلت أمينة للإسلام من القرن السابع إلى القرن الرابع عشر"وذلك أمر يخالف تماما سيرة الغالبين في المغلوبين! على نحو ما يقول جوستاف لوبون: "كان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم، الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينا مثل دينهم"المفتوحون الفاتحون
وهذا من أعجب ما وقع في الفتوحات الإسلامية، ولم تعرفه سير الأمم الأخرى، إذ سجل التاريخ أن أقواما من أهل البلاد المفتوحة ساعدوا عن طواعية واختيار ومودة الفاتحين في استكمال فتوحهم، بل –وهذا هو المدهش- أن بعضهم قد تحول إلى الفاتح الذي يقود الجيش الإسلامي لفتح البلاد التي تليه.
ولا بأس أن نأخذ دليليْن فقط: دليلا من الشرق، وآخر من الغرب. فأما دليل الشرق فهو ما فعله أهل بخارى وخوارزم –وهم من الترك- وما بذلوه من مساعدة وعون حربي للقائد قتيبة بن مسلم الباهليالفتح بالدعوة والبيان
كذلك فإن رقعة الإسلام ليست هي الرقعة التي فُتِحت بالجهاد والسيف، بل ما تزال مساحة عظيمة من ديار الإسلام تدين به ولم تبلغها جيوشه، وقد أفرد المؤرخ المعروف د. حسين مؤنس دراسة لهذا الأمر فجعل عنوانها "الإسلام الفاتح"، وقال فيها: "أعدت النظر في المصور الجغرافي (للأرض) لأرى ما فتحنا بجهادنا وما فتح الإسلام بنفسه بالحكمة والموعظة الحسنة فخشعت نفسي، لأنني وجدت أن الإسلام فتح بنفسه أضعاف ما فتحنا، وأن دعوة الحق في تاريخنا كانت أمضى من كل سلاح، حتى البلاد التي خضنا المعارك لندخلها كان الإسلام هو الذي فتح قلوب أهلها واستقر فيها، وجعل بلادهم دياره"وإن قيمة دراسة د. مؤنس في كونها تفصيلا لما هو معروف بالإجمال، وهو ما شهد به عدد من المستشرقين من قبله، منهم جوستاف لوبون الذي قال: "لم ينتشر القرآن بالسيف إذن، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند، التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل، ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها، ويزيد عدد مسلمي الهند يوما فيوما مع أن الإنجليز، الذين هم سادة الهند في الوقت الحاضر، يجهزون البعثات التبشيرية ويرسلونها تباعا إلى الهند لتنصير مسلميها على غير جدوى. ولم يكن القرآن أقل انتشارا في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط... ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا في الوقت الحاضر"وهكذا نخلص من هذه السلسلة إلى حقيقة تاريخية لا مراء فيها، وهي أن الفتوحات الإسلامية إنما كانت واحدة من مظاهر الإعجاز التاريخي لهذه الأمة الإسلامية، وهي ظاهرة خارقة لما جرت عليه عادة التاريخ في انتشار الأمم، وهو أمر لم نستدل على شيء منه إلا بأقوال المؤرخين والمستشرقين من غير المسلمين.
نشر في مدونات الجزيرة
برنارد لويس (1916 - ... ) مستشرق أمريكي يهودي متعصب، ومن أبرز خبراء الاستشراق، ويعده الكثيرون آخر جيل الاستشراق القديم، وقد طال عمره حتى تجاوز الآن مائة عام وواحد، وكان من أساتذة جامعة برنستون عش الاستشراق، وله دراسات كثيرة مشهورة في حقل التاريخ والسياسة الإسلامية. برنارد لويس، السياسة والحرب، ضمن "تراث الإسلام"، بإشراف شاخت وبوزوروث 1/212. توماس أرنولد (1864 - 1930م) من أشهر المستشرقين البريطانيين، أمضى في الهند عشر سنوات، وعمل أستاذا للفلسفة بجامعة لاهور، وكان من خبراء وزارة الخارجية البريطانية وعضوا بتحرير دائرة المعارف الإسلامية التي صدرت في ليدن، وعمل أستاذا زائرا بالجامعة المصرية، وعرف بكتابه "الدعوة إلى الإسلام" لما فيه من مجهود ضخم هائل وإثبات لانتشار الإسلام بالدعوة وتسامح الفاتحين المسلمين. تومارس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرون، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1980م)، ص70. ر. ف. بودلي، الرسول، ص93. جوستاف لوبون، حضارة العرب، ص605. الطبري، تاريخ الطبري، (بيروت: دار الكتب العلمية)، 4/15. د. حسين مؤنس، الإسلام الفاتح، ط1 (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1987م)، ص4. د. حسين مؤنس، الإسلام الفاتح، ص18. جوستاف لوبون، حضارة العرب، ص128، 129.
(اقرأ: المقال الأول، الثاني، الثالث، الرابع)
ولهذه السلسة أكثر من غرض، إلا أن غرضها الرئيسي في وقتنا هذا أن نؤسس لحقيقة أن أحدا من الناس لم يكن له مثل رحمتنا وحلمنا بالبشر، وأن نبينا كان رحمة للعالمين وكانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس، وها نحن نعيش في عصر استضعاف يأكل فيه الجميع من لحومنا ويشربون من دمائنا ولا ثمة مغيث ولا ناصر، بل ولا أغاثتنا شعارات الإنسانية والحرية في شيء، وليس الحل –كما يسوق أعداؤنا وعملاؤه في بلادنا- أن نلقي السلاح وننبذ الإرهاب ونؤمن بالتعايش ونطلب السلام.. لم يكن هذا يوما حل ولن يكون، بل الحل في أن نمتلك القوة ونشهر السيوف ونقتص ممن ظلمنا ونقاوم من احتل ديارنا أو استبد بنا. ونحن حين نفعل لن نكون مثلهم ولن نتخلق بأخلاقهم، فكذلك كنا حين امتلكنا القوة وكنا على رأس الحضارة، ولم يستطيعوا عبر تاريخهم أن يُلزمونا أخلاقهم وطباعهم، فكنا أحلم منتصر وأشرف غالب.
لو كنا مثلهم لما نطق هؤلاء بشيء مما سردناه عبر المقالات الماضية، إنما أجبرتهم أخلاقنا والحقيقة التاريخية على أن يعترفوا بما كرهوا، وأول طريق عودتنا لما كنا فيه أن نثق بأنفسنا ورسالتنا ونفقه طبيعة ديننا وسنة أجدادنا الفاتحين، أولئك القوم الذين لم يقبلوا العار والقهر والضعف، فلما غلبوا لم يكونوا طغاة جبارين.
لن ننتصر إن غلبتنا الهزيمة النفسية وشاع فينا قول من يدعونا نحن إلى ترك الإرهاب أو يدعونا إلى السلام والتعايش ونحن المقتولين في كل مكان! مثل هذا هو نفسه نتيجة الاحتلال الغالب على النفوس والعقول حتى صار يرى الحق باطلا والباطل حقا!
في هذا المقال الأخير سنختم بذكر بعض عجائب الفتوحات الإسلامية، وهي جديرة أن تكون حاضرة في الأذهان دائما، وإن كلا منها ليستحق أن يفرد ببحث خاص، إلا أن المقام لا يتسع لغير الإشارة السريعة العابرة، كلٌ منها إعجاز تاريخي في نفسه، خرق بها العادة التاريخية في توسع الأمم وانتشارها وأخلاقها إن غلبت وانتصرت.
1. انهيار ميزان القوة لصالح الخصوم
أجمل هذا الأمرَ المستشرقُ الأمريكي اليهودي المتعصب، وأحد المعروفين بالعداء للإسلام، برنارد لويسفتح في التسامح
كانت الفتوحات الإسلامية آية في رحمة الغالبين، ويعدُّ كتاب "الدعوة إلى الإسلام" للمستشرق الإنجليزي الشهير توماس أرنولدوقد استخلص أرنولد بعد تطواف طويلة وأمثلة عديدة هذه الخلاصة، يقول: "من هذه الأمثلة التي قدمناها آنفا عن ذلك التسامح، الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار، وإرادة حرة، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح"وعزا كثير من المستشرقين انتشار الإسلام ورسوخه في البلاد المفتوحة إلى هذا التسامح، منهم الكولونيل البريطاني رونالد فيكتور بودلي، يقول: "خير دليل على العلاقة الطيبة السلمية بين المسلمين وأصحاب البلاد المفتوحة، أن جميع هذه البلاد (ما عدا إسبانيا) ظلت أمينة للإسلام من القرن السابع إلى القرن الرابع عشر"وذلك أمر يخالف تماما سيرة الغالبين في المغلوبين! على نحو ما يقول جوستاف لوبون: "كان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم، الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينا مثل دينهم"المفتوحون الفاتحون
وهذا من أعجب ما وقع في الفتوحات الإسلامية، ولم تعرفه سير الأمم الأخرى، إذ سجل التاريخ أن أقواما من أهل البلاد المفتوحة ساعدوا عن طواعية واختيار ومودة الفاتحين في استكمال فتوحهم، بل –وهذا هو المدهش- أن بعضهم قد تحول إلى الفاتح الذي يقود الجيش الإسلامي لفتح البلاد التي تليه.
ولا بأس أن نأخذ دليليْن فقط: دليلا من الشرق، وآخر من الغرب. فأما دليل الشرق فهو ما فعله أهل بخارى وخوارزم –وهم من الترك- وما بذلوه من مساعدة وعون حربي للقائد قتيبة بن مسلم الباهليالفتح بالدعوة والبيان
كذلك فإن رقعة الإسلام ليست هي الرقعة التي فُتِحت بالجهاد والسيف، بل ما تزال مساحة عظيمة من ديار الإسلام تدين به ولم تبلغها جيوشه، وقد أفرد المؤرخ المعروف د. حسين مؤنس دراسة لهذا الأمر فجعل عنوانها "الإسلام الفاتح"، وقال فيها: "أعدت النظر في المصور الجغرافي (للأرض) لأرى ما فتحنا بجهادنا وما فتح الإسلام بنفسه بالحكمة والموعظة الحسنة فخشعت نفسي، لأنني وجدت أن الإسلام فتح بنفسه أضعاف ما فتحنا، وأن دعوة الحق في تاريخنا كانت أمضى من كل سلاح، حتى البلاد التي خضنا المعارك لندخلها كان الإسلام هو الذي فتح قلوب أهلها واستقر فيها، وجعل بلادهم دياره"وإن قيمة دراسة د. مؤنس في كونها تفصيلا لما هو معروف بالإجمال، وهو ما شهد به عدد من المستشرقين من قبله، منهم جوستاف لوبون الذي قال: "لم ينتشر القرآن بالسيف إذن، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند، التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل، ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها، ويزيد عدد مسلمي الهند يوما فيوما مع أن الإنجليز، الذين هم سادة الهند في الوقت الحاضر، يجهزون البعثات التبشيرية ويرسلونها تباعا إلى الهند لتنصير مسلميها على غير جدوى. ولم يكن القرآن أقل انتشارا في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط... ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا في الوقت الحاضر"وهكذا نخلص من هذه السلسلة إلى حقيقة تاريخية لا مراء فيها، وهي أن الفتوحات الإسلامية إنما كانت واحدة من مظاهر الإعجاز التاريخي لهذه الأمة الإسلامية، وهي ظاهرة خارقة لما جرت عليه عادة التاريخ في انتشار الأمم، وهو أمر لم نستدل على شيء منه إلا بأقوال المؤرخين والمستشرقين من غير المسلمين.
نشر في مدونات الجزيرة
برنارد لويس (1916 - ... ) مستشرق أمريكي يهودي متعصب، ومن أبرز خبراء الاستشراق، ويعده الكثيرون آخر جيل الاستشراق القديم، وقد طال عمره حتى تجاوز الآن مائة عام وواحد، وكان من أساتذة جامعة برنستون عش الاستشراق، وله دراسات كثيرة مشهورة في حقل التاريخ والسياسة الإسلامية. برنارد لويس، السياسة والحرب، ضمن "تراث الإسلام"، بإشراف شاخت وبوزوروث 1/212. توماس أرنولد (1864 - 1930م) من أشهر المستشرقين البريطانيين، أمضى في الهند عشر سنوات، وعمل أستاذا للفلسفة بجامعة لاهور، وكان من خبراء وزارة الخارجية البريطانية وعضوا بتحرير دائرة المعارف الإسلامية التي صدرت في ليدن، وعمل أستاذا زائرا بالجامعة المصرية، وعرف بكتابه "الدعوة إلى الإسلام" لما فيه من مجهود ضخم هائل وإثبات لانتشار الإسلام بالدعوة وتسامح الفاتحين المسلمين. تومارس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرون، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1980م)، ص70. ر. ف. بودلي، الرسول، ص93. جوستاف لوبون، حضارة العرب، ص605. الطبري، تاريخ الطبري، (بيروت: دار الكتب العلمية)، 4/15. د. حسين مؤنس، الإسلام الفاتح، ط1 (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1987م)، ص4. د. حسين مؤنس، الإسلام الفاتح، ص18. جوستاف لوبون، حضارة العرب، ص128، 129.
Published on July 26, 2017 05:00
July 20, 2017
بهذا شهد الغربيون.. الفتوح الإسلامية انطلاقة حضارية
لم تكن الفتوحات الإسلامية الخارقة السرعة مجرد هيمنة عسكرية، بل لقد كانت انطلاقة حضارية أيضا! وهو واحد من إعجازاتها التاريخية التي نناقشها في تلك السطور القادمة، وكنا قد تناولنا جوانب منه في ثلاث مقالات سابقة (الأول، الثاني، الثالث)، ولا زلنا عند منهجنا في تبيين إعجازات الفتوح الإسلامية من كلام المستشرقين والمؤرخين الغربيين وحدهم.
لقد تفنن المستشرق الإيطالي المعروف فرانشيسكو جابرييلي في وصف هذا حين قال: "بين تاريخ العرب المظلم قبل ظهور محمد، وبين توسعاتهم المثيرة للإعجاب، تقف حقيقة الإسلام العظيمة، بالعقيدة الجديدة"وبعبارة أحلى يردد إدوارد بروي هذا المعنى في قوله: "وانجلى غبار الفتح وصلصلة السلاح عن إمبراطورية جديدة ولا أوسع، وعن حضارة ولا أسطع، وعن مدنية ولا أروع، عوَّل عليها الغرب في تطوره الصاعد ورقيه البناء، بعد أن نفخ الإسلام في قسم موات من التراث الإنساني القديم روحا جديدة عادت معه إليه الحياة، فنبض وشعّ وسرى"ويفسر مؤلفا "التاريخ الكامل للعالم" هذا بأن غزوات العرب لم تكن مثل غزوات البرابرة الذين أرادوا دائما أن يكونوا صورة من المتفوقين عليهم حضاريا، يقولان: "لم يكن برابرة الشمال يمارسون إلا ديانات "ضعيفة". وإن كانوا قد ساهموا في انتحار الإمبراطورية، فإن فكرتهم الوحيدة كانت تتمثل في أن يصيروا روما (أو صينيين في الشرق). أما العرب فكان لهم دين "قوي"... ولم يكونوا يريدون أن يصيروا روما، إنما أرادوا صنع عالم جديد. إذن فقد كان عملهم أدوم"، ويضيفان: "كان الفرسان المسلمون يبدون أنهم لا يُقهرون، كما أنهم لم يكونوا يجلبون معهم الفوضى وإنما نظاما جديدا"ولقد تكرر أن استعصت أمم على تغيير لغاتها وثقافتها وحضارتها على غزاتها من قبل ثم لم تلبث أن اعتنقت الإسلام فاستبدلت بذلك كله حضارة الإسلام ولغته العربية، يقول الفيلسوف والمستشرق الفرنسي جوستاف لوبونمَثَلُ الفتوحات الإسلامية كاللمسة الساحرة التي تحيي الحضارات، هكذا قال مؤرخ الحضارة ول ديورانت: "استعادت مصر تحت حكم المسلمين مجدها الفرعوني؛ كما استعادت تونس ومرَّاكش بزعامة العرب ما كان لهما من حكومة منظمة؛ وازدهرت مدائن القيروان وبالرمو وفاس إلى حين، أما إسبانيا في عهد العرب فقد وصلت إلى الذروة في تاريخ الحضارة؛ ولما حكم المُغُل المسلمون بلاد الهند فيما بعد شادوا كما يشيد الجبابرة، وأبدعوا كما يبدع الصُيَّاغ"وحتى المناطق التي خرجت عن الدولة الإسلامية لا تزال آثار الإسلام فيها باقية شاهدة وإن تطاول العهد وتباعد الزمن، ولو أخذنا مثالا واحدا من الأندلس التي مضى على خروج الإسلام منها خمسة قرون فسنرى –كما يقول المستشرق الإسباني أميركو كاستروونختم هذا الإعجاز بمقولة المستشرق الفرنسي لويس سيديو"ما انفك المشرق يحترق منذ أوائل القرن الحادي عشر من الميلاد فأسفرت فتوح محمود الغزنوي، وغارة الأتراك السلجوقيين، والحروب الصليبية، وهدم السلطان الأيوبي الأول صلاح الدين لخلافة القاهرة (1171م)، وهدم الخان المغولي هولاكو لخلافة بغداد (1258) عن تغيير عميق في الوضع السياسي بآسيا. ما فتئ العلم يكون ثابت الخطوة مع ذلك، وما فتئ حَمَلَتُه محافظين على أمانته مع ذلك... فبينما كانت خلافة المشرق تفقد أجمل ولاياتها بالتتابع كان الغالبون يدينون بالطاعة لتفوق المغلوبين الثقافي؛ فيدرسون كتبهم ويستضيئون بنورهم... حقًّا إنه لمنظر رائع أن ترى انتصار سلطان حضارة العرب على همجية فاتحي الشمال أولئك الذين انقضوا على آسيا الغربية والجنوبية" هكذا ثبت، وبشهادة شاهد من أهلها، أن الفتوحات الإسلامية إنما كانت خيرا للبلاد ورفعة للناس وإنقاذا لهم من ظلمات الجهل والتخلف والتعصب والهمجية، وإدخالا لهم في مرحلة أخرى من الحضارة الزاهرة.
نشر في مدونات الجزيرة
فرانشيسكو جابرييلي، محمد والفتوحات الإسلامية، تعريب وتقديم وتعليق: د. عبد الجبار ناجي، ط1 (بغداد: المركز الأكاديمي للأبحاث، 2011م)، ص179. فرانشيسكو جابرييلي، الإسلام في عالم البحر المتوسط، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف: شاخت وبوزوروث 1/85. إدوارد بروي، القرون الوسطى، ضمن "تاريخ الحضارات العام" بإشراف: موريس كروزيه، 3/109. جان كلود بارو وغيوم بيغو، التاريخ الكامل للعالم، ترجمة: لحسن عيساني، (دبي: مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، بيروت: دار الفارابي، 2008)، ص91، 92، 94. جوستاف لوبون (1841 - 1921م) مستشرق وفيلسوف وعالم اجتماع فرنسي مشهور، وهو صاحب نظرية "القطيع" الشهيرة في علم الاجتماع، وله اهتمام واسع بالحضارات وكتب عن حضارة الهند وحضارة العرب، وأرخ للثورة الفرنسية، وعرف في العالم الإسلامي بكتابه "حضارة العرب" الذي كان من أوائل الدراسات الغربية المنصفة المتوسعة في العصر الحديث. جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2000م)، ص605. ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة: محمد بدران، (بيروت: دار الجيل، بدون تاريخ)، 13/261. أميركو كاسترو (1885 - 1972م)، من أبرز النقاد الإسبان ومن أبرز تلاميذ المستشرق الإسباني الكبير منديث بيدال، عمل بجامعات مدريد وبرنستون، وهو من المدرسة التي أنصفت التاريخ الإسلامي في إسبانيا، وينصب اهتمامه على اللغة والأدب والثقافة. أميركو كاسترو، إسبانيا في تاريخها: المسيحيون والمسلمون واليهود، ترجمة: علي إبراهيم منوفي، ط1 (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2003م). ص63. لويس سيديو (1808 - 1875م)، مستشرق ومحقق، ولد وتوفي بباريس، وكان مدرسا للتاريخ في كلية بوربون، أشهر نشراته كتاب "جامع المبادئ والغايات في الآلات الفلكية" لأبي الحسن علي المراكشي، مع ترجمة فرنسية، وأشهر مؤلفاته "تاريخ العرب العام". لويس سيديو، تاريخ العرب العام، ترجمة: عادل زعيتر، ط2 (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1969م)، ص332، 352، 353.
لقد تفنن المستشرق الإيطالي المعروف فرانشيسكو جابرييلي في وصف هذا حين قال: "بين تاريخ العرب المظلم قبل ظهور محمد، وبين توسعاتهم المثيرة للإعجاب، تقف حقيقة الإسلام العظيمة، بالعقيدة الجديدة"وبعبارة أحلى يردد إدوارد بروي هذا المعنى في قوله: "وانجلى غبار الفتح وصلصلة السلاح عن إمبراطورية جديدة ولا أوسع، وعن حضارة ولا أسطع، وعن مدنية ولا أروع، عوَّل عليها الغرب في تطوره الصاعد ورقيه البناء، بعد أن نفخ الإسلام في قسم موات من التراث الإنساني القديم روحا جديدة عادت معه إليه الحياة، فنبض وشعّ وسرى"ويفسر مؤلفا "التاريخ الكامل للعالم" هذا بأن غزوات العرب لم تكن مثل غزوات البرابرة الذين أرادوا دائما أن يكونوا صورة من المتفوقين عليهم حضاريا، يقولان: "لم يكن برابرة الشمال يمارسون إلا ديانات "ضعيفة". وإن كانوا قد ساهموا في انتحار الإمبراطورية، فإن فكرتهم الوحيدة كانت تتمثل في أن يصيروا روما (أو صينيين في الشرق). أما العرب فكان لهم دين "قوي"... ولم يكونوا يريدون أن يصيروا روما، إنما أرادوا صنع عالم جديد. إذن فقد كان عملهم أدوم"، ويضيفان: "كان الفرسان المسلمون يبدون أنهم لا يُقهرون، كما أنهم لم يكونوا يجلبون معهم الفوضى وإنما نظاما جديدا"ولقد تكرر أن استعصت أمم على تغيير لغاتها وثقافتها وحضارتها على غزاتها من قبل ثم لم تلبث أن اعتنقت الإسلام فاستبدلت بذلك كله حضارة الإسلام ولغته العربية، يقول الفيلسوف والمستشرق الفرنسي جوستاف لوبونمَثَلُ الفتوحات الإسلامية كاللمسة الساحرة التي تحيي الحضارات، هكذا قال مؤرخ الحضارة ول ديورانت: "استعادت مصر تحت حكم المسلمين مجدها الفرعوني؛ كما استعادت تونس ومرَّاكش بزعامة العرب ما كان لهما من حكومة منظمة؛ وازدهرت مدائن القيروان وبالرمو وفاس إلى حين، أما إسبانيا في عهد العرب فقد وصلت إلى الذروة في تاريخ الحضارة؛ ولما حكم المُغُل المسلمون بلاد الهند فيما بعد شادوا كما يشيد الجبابرة، وأبدعوا كما يبدع الصُيَّاغ"وحتى المناطق التي خرجت عن الدولة الإسلامية لا تزال آثار الإسلام فيها باقية شاهدة وإن تطاول العهد وتباعد الزمن، ولو أخذنا مثالا واحدا من الأندلس التي مضى على خروج الإسلام منها خمسة قرون فسنرى –كما يقول المستشرق الإسباني أميركو كاستروونختم هذا الإعجاز بمقولة المستشرق الفرنسي لويس سيديو"ما انفك المشرق يحترق منذ أوائل القرن الحادي عشر من الميلاد فأسفرت فتوح محمود الغزنوي، وغارة الأتراك السلجوقيين، والحروب الصليبية، وهدم السلطان الأيوبي الأول صلاح الدين لخلافة القاهرة (1171م)، وهدم الخان المغولي هولاكو لخلافة بغداد (1258) عن تغيير عميق في الوضع السياسي بآسيا. ما فتئ العلم يكون ثابت الخطوة مع ذلك، وما فتئ حَمَلَتُه محافظين على أمانته مع ذلك... فبينما كانت خلافة المشرق تفقد أجمل ولاياتها بالتتابع كان الغالبون يدينون بالطاعة لتفوق المغلوبين الثقافي؛ فيدرسون كتبهم ويستضيئون بنورهم... حقًّا إنه لمنظر رائع أن ترى انتصار سلطان حضارة العرب على همجية فاتحي الشمال أولئك الذين انقضوا على آسيا الغربية والجنوبية" هكذا ثبت، وبشهادة شاهد من أهلها، أن الفتوحات الإسلامية إنما كانت خيرا للبلاد ورفعة للناس وإنقاذا لهم من ظلمات الجهل والتخلف والتعصب والهمجية، وإدخالا لهم في مرحلة أخرى من الحضارة الزاهرة.
نشر في مدونات الجزيرة
فرانشيسكو جابرييلي، محمد والفتوحات الإسلامية، تعريب وتقديم وتعليق: د. عبد الجبار ناجي، ط1 (بغداد: المركز الأكاديمي للأبحاث، 2011م)، ص179. فرانشيسكو جابرييلي، الإسلام في عالم البحر المتوسط، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف: شاخت وبوزوروث 1/85. إدوارد بروي، القرون الوسطى، ضمن "تاريخ الحضارات العام" بإشراف: موريس كروزيه، 3/109. جان كلود بارو وغيوم بيغو، التاريخ الكامل للعالم، ترجمة: لحسن عيساني، (دبي: مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، بيروت: دار الفارابي، 2008)، ص91، 92، 94. جوستاف لوبون (1841 - 1921م) مستشرق وفيلسوف وعالم اجتماع فرنسي مشهور، وهو صاحب نظرية "القطيع" الشهيرة في علم الاجتماع، وله اهتمام واسع بالحضارات وكتب عن حضارة الهند وحضارة العرب، وأرخ للثورة الفرنسية، وعرف في العالم الإسلامي بكتابه "حضارة العرب" الذي كان من أوائل الدراسات الغربية المنصفة المتوسعة في العصر الحديث. جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2000م)، ص605. ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة: محمد بدران، (بيروت: دار الجيل، بدون تاريخ)، 13/261. أميركو كاسترو (1885 - 1972م)، من أبرز النقاد الإسبان ومن أبرز تلاميذ المستشرق الإسباني الكبير منديث بيدال، عمل بجامعات مدريد وبرنستون، وهو من المدرسة التي أنصفت التاريخ الإسلامي في إسبانيا، وينصب اهتمامه على اللغة والأدب والثقافة. أميركو كاسترو، إسبانيا في تاريخها: المسيحيون والمسلمون واليهود، ترجمة: علي إبراهيم منوفي، ط1 (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2003م). ص63. لويس سيديو (1808 - 1875م)، مستشرق ومحقق، ولد وتوفي بباريس، وكان مدرسا للتاريخ في كلية بوربون، أشهر نشراته كتاب "جامع المبادئ والغايات في الآلات الفلكية" لأبي الحسن علي المراكشي، مع ترجمة فرنسية، وأشهر مؤلفاته "تاريخ العرب العام". لويس سيديو، تاريخ العرب العام، ترجمة: عادل زعيتر، ط2 (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1969م)، ص332، 352، 353.
Published on July 20, 2017 04:55
July 12, 2017
المعركة الفاصلة للحركة الإسلامية
فيما يبدو انكسرت حدة الهجوم على قطر بتوقيع تلك الاتفاقية الثنائية بينها وبين الأمريكان لوقف "تمويل الإرهاب". كانت نغمة "تمويل الإرهاب" هي العنصر المتكرر في كل التصريحات السياسية الصادرة عن العواصم العالمية، ولا يحتاج فهم المقصود إلى تحليل بل لقد حملته وثيقة المطالب بوضوح، فالمقصود بها هي الأصوات الإعلامية المعارضة للانقلاب العسكري في مصر وللنغمة السعودية الإماراتية التي يُراد لها أن تهيمن وتسود على عقول العرب! وما يُفهم من بين السطور ولا يُقال بوضوح هو وقف تمويل قطر للإسلاميين في مصر أو ليبيا أو بعض الفصائل السورية، وقبلهم جميعا: التوقف عن دعم حماس!
لا أحد يدري بعد مدى الصمود أو التراجع القطري في هذا الملف، إلا أنه على كل حال مناسبة لفتح الكلام في موضوع هذا المقال! مستئذنا القارئ الكريم في التوقف مؤقتا عن سلسلة "إعجاز الفتوحات الإسلامية بأقلام غربية"تدفع قطر وتركيا ثمن وقوفهما مع الثورات العربية، وهو الثمن الذي صار فادحا حين راهنوا على الجواد الخاسر الذي كُسِرت ساقه (الإسلاميون)، كلاهما وضع كل طاقته بما استطاع في دعم تلك التجارب، إلا أن التجربة الأهم والتي كان فشلها قاصمة الظهر هي الثورة المصرية.
اكتشف القطريون والأتراك بعد وقت، أن الإخوان لم يكونوا على مستوى الحدث، لكن الوقت الذي مضى كان قد أنشأ أقطابا ومحاور جديدة في المنطقة لم يكن ممكنا إزالتها ببساطة.
مشكلة قطر وتركيا معا هي ذلك الخناق الاستراتيجي، الدولتان بلا عمق استراتيجي، تركيا تعاني من حدود ملتهبة تطوقها، بعض اللهيب موروث من زمن العثمانيين وبعضه موروث من زمن القوميين (وقد فصلت هذا في دراسة سابقة)، وقطر تقع في مساحة ضيقة مخنوقة بين إيران والسعودية والإمارات (البحرين ليست إلا تابعا للسعودية)، والعداء التاريخي القديم بين القطريين والإماراتيين (القواسم تحديدا) زادت اتجاهات السياسة المعاصرة من رسوخه وتعمقه، والتخوف القطري الدائم من السعودية تعزز بمحاولات انقلاب متكررة على آل ثاني دفعهم إلى الاحتماء بالأمريكان، وتبدو إيران رغم العداء القومي والمذهبي والسياسي أعقل القوم وأدناهم إلى التفاهم، إلا أنه تفاهم موقوت لا ينتصر على الجذور التاريخية ولا على الأطماع المستقبلية. وفي تلك الحال لا تملك قطر سوى المال والإعلام، لا تملك سوى القوة الناعمة، بدونها لا وزن بل ولا وجود لقطر على ساحة السياسة، وهنا تجري المعركة!
لذلك كله مثَّل نجاح الثورة في مصر قوة هائلة يمكن أن تفيد منها تركيا وقطر، بل الواقع أن وجود مصر في مثل تلك المعادلة يغير خريطة المحاور الإقليمية كلها، وبقدر ما حاولت الدولتان التقاط تلك الفرصة الثمينة واستثمارها، بقدر ما كانت الخسارة فيها ضربة قوية، وأدت لتراجعات حادة في سياسات الدولتين! كانت مصر –على بُعدها الجغرافي، وأزمتها الاقتصادية- عمقا استراتيجيا قويا لتركيا وقطر.
والآن.. كيف ينبغي أن نفكر؟!
تبدو مطالبة القطريين والأتراك بمزيد دعم للمعارضة المصرية نوعا من الحماقة، وعلى الجهة الأخرى تبدو مطالبتهما بالتسليم ورفع اليد والاعتراف بالسيسي أشد جنونا لاعتبارات كثيرة، فمشروع السيسي لا يمكن له أن يلتقي بمصالح تركيا وقطر بحال بل هو نقيضها التام، ولم يتورع السيسي عن إطلاق كلابه الإعلاميين على السعودية لنهشها رغم كل ما فعلت له حين بدا منها بعض بعض التغير، ولقد ابتلع ابن سلمان هذا النهش بعبارته السخيفة المكشوفة "تقصد الإعلام الإخونجي!" رغم أن الإعلام الإخونجي يتعامل مع السعودية كخط أحمر. وهكذا كان أداء قيادات الإخوان وخياراتهم كالفخ المحكم والمأزق المغلق الذي يُوقع الحلفاء والداعمين في مسار التقدم فيه مهلكة، والتراجع عنه مهلكة أشد.
بقليل من تشغيل الخيال يمكننا أن نرى أن انقلاب الأوضاع في مصر كفيل بإعادة ترتيب الأوراق في المنطقة كلها، في غزة وليبيا والسودان وسوريا وتركيا وقطر، وبقدر ما تبدو الأمور في مصر كبقعة من البنزين القابل للاشتعال بقدر ما تفتقد الشرارة التي يحرص الجميع على ألا تشتعل، ولهذا تستعمل السلطة كل وسائل البطش الممكنة بلا رحمة، وله يُراد إسكات كل صوت ثوري حتى ولو كان موقعا على الانترنت.
لو تصورنا أن الأمة واحدة، ولها زعيم واحد، ونحن في نفس ظروفنا الآن لتصورنا مباشرة أنه سيستعمل كل طاقة الأمة في تغيير الوضع بمصر، ذلك التغيير الذي سيمثل مفتاحا لبقية التغيرات، أو على الأقل متنفسا لأطراف كثيرة تعاني من الاختناق، فلا تزال مصر واحدة من أهم عواصم العالم الإسلامي والتغيير فيها يضرب بآثاره في سائر الأنحاء.
والعواصم من قواعد التاريخ، فالعاصمة هي قلب الدولة ومن يسيطر عليها يظل حاكم الدولة، وتنجح الثورة إن سيطرت على العاصمة، وتفشل إن لم تفعل، ولقد بُعث النبي في مكة "أم القرى" وعاصمة العرب، وحرص على إسلامها لأنه مفتاح إسلام العرب، ولما هاجر كانت مكة هي قلب معاركه وهدفها، ولما فُتِحت مكة أقبل العرب يدخلون في دين الله أفواجا، حتى سمي العام التاسع للهجرة (العام التالي للفتح) بعام الوفود.
ماذا يمنع الحركة الإسلامية أن توجه كل طاقتها للمعركة المصرية، باعتبارها العاصمة الثقيلة التي قد تغير هذا الواقع البائس؟ إن الحركة الإسلامية الواسعة المجهود والطاقة والمنتشرة عبر العالم تنفق الكثير من تلك الطاقة في معارك جزئية صغيرة وفي أنشطة دعوية مغمورة قليلة التأثير، أو حتى عظيمة التأثير لكنها لا تُقارن بما نتكلم فيه. فضلا عن تلك الطاقات الهائلة المعطلة في بلاد لا هي حبلى بثورات ولا حبلى بأمل قريب للحركة الإسلامية نفسها.
إن انطلاقة الجهود الإسلامية المعطلة أو المنصرفة إلى الجزئيات نحو المعركة المصرية قد يغير الكثير، وهو بقدر ما يوفر كثيرا من الجهد ومن الحرج على حلفاء يُحاصرون الآن ويدفعون الثمن بقدر ما يوفر أوراقا جديدة لأولئك الحلفاء في معاركهم على المدى القريب والمتوسط أيضا.
لقد كانت الهجرة فرضا على المسلمين في مرحلة المدينة المنورة، كانت الأمة تحتاج كل طاقاتها في معركة واحدة، ما كان للجهود أن تتشتت وتتناثر، ولقد اعْتُبِر من لم يهاجر غير داخل في ولاية المسلمين، حتى إذا تغير الوضع وفُتِحت مكة "عاصمة العرب" تغير التكليف الشرعي وقال النبي "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية".
نعم.. بقدر ما تبدو المعركة في مصر تعاني من أزمة خانقة، بقدر ما يبدو أنها المفتاح لحل مشكلات أكبر بكثير، وهو قدر مصر ومسؤوليتها ورسالتها، وهو ما فهمه الأوروبيون منذ الحملة الصليبية الخامسة وحتى الآن، فمن تلك اللحظة لم تكن الحملات تستهدف الشام حيث كنيسة القيامة ومهد المسيح، بل تستهدف مصر، وحين هُزِم الصليبيون كلفت الكنيسة المؤرخ الإيطالي مارينو ساوندو تورسيللوا بكتابة تاريخ للحروب الصليبية فكتب تاريخا طويلا في 13 مجلدا، وكان من توصياته أن الغرب إن فكر في احتلال الشرق مرة أخرى فليبدأ من مصر لأنها القادرة على إمداد الشام بالمال والرجال، وهي النصيحة التي استمعت لها أوروبا فجاء نابليون بعدها إلى مصر ثم الشام، وتلاه الإنجليز باحتلال مصر ثم الشام، ولا تزال المعركة حول مصر والشام هي المعركة الحضارية التي يتحدد بها مصير العالم.
والسؤال التالي: إذا لم يكن للحركة الإسلامية رأس يمكن أن توجه طاقاتها كلها في اتجاه واحد، فهل يمكن أن ينبري لهذا النداء من يستشعر تلك المسؤولية فيصرف طاقته وطاقة من يستطيع استثارتهم نحو تلك المعركة؟!
قديما قال إبراهيم لما قال له ربه (وأذِّن في الناس بالحج) قال عليه السلام: وما يفعل صوتي؟ قال: عليك الأذان وعلينا البلاغ!
اللهم هذا الأذان.. وأنت المستعان، وعليك التكلان.
نشر في مدونات الجزيرة
راجع المقالات الثلاثة المنشورة: الأول، الثاني، الثالث.
لا أحد يدري بعد مدى الصمود أو التراجع القطري في هذا الملف، إلا أنه على كل حال مناسبة لفتح الكلام في موضوع هذا المقال! مستئذنا القارئ الكريم في التوقف مؤقتا عن سلسلة "إعجاز الفتوحات الإسلامية بأقلام غربية"تدفع قطر وتركيا ثمن وقوفهما مع الثورات العربية، وهو الثمن الذي صار فادحا حين راهنوا على الجواد الخاسر الذي كُسِرت ساقه (الإسلاميون)، كلاهما وضع كل طاقته بما استطاع في دعم تلك التجارب، إلا أن التجربة الأهم والتي كان فشلها قاصمة الظهر هي الثورة المصرية.
اكتشف القطريون والأتراك بعد وقت، أن الإخوان لم يكونوا على مستوى الحدث، لكن الوقت الذي مضى كان قد أنشأ أقطابا ومحاور جديدة في المنطقة لم يكن ممكنا إزالتها ببساطة.
مشكلة قطر وتركيا معا هي ذلك الخناق الاستراتيجي، الدولتان بلا عمق استراتيجي، تركيا تعاني من حدود ملتهبة تطوقها، بعض اللهيب موروث من زمن العثمانيين وبعضه موروث من زمن القوميين (وقد فصلت هذا في دراسة سابقة)، وقطر تقع في مساحة ضيقة مخنوقة بين إيران والسعودية والإمارات (البحرين ليست إلا تابعا للسعودية)، والعداء التاريخي القديم بين القطريين والإماراتيين (القواسم تحديدا) زادت اتجاهات السياسة المعاصرة من رسوخه وتعمقه، والتخوف القطري الدائم من السعودية تعزز بمحاولات انقلاب متكررة على آل ثاني دفعهم إلى الاحتماء بالأمريكان، وتبدو إيران رغم العداء القومي والمذهبي والسياسي أعقل القوم وأدناهم إلى التفاهم، إلا أنه تفاهم موقوت لا ينتصر على الجذور التاريخية ولا على الأطماع المستقبلية. وفي تلك الحال لا تملك قطر سوى المال والإعلام، لا تملك سوى القوة الناعمة، بدونها لا وزن بل ولا وجود لقطر على ساحة السياسة، وهنا تجري المعركة!
لذلك كله مثَّل نجاح الثورة في مصر قوة هائلة يمكن أن تفيد منها تركيا وقطر، بل الواقع أن وجود مصر في مثل تلك المعادلة يغير خريطة المحاور الإقليمية كلها، وبقدر ما حاولت الدولتان التقاط تلك الفرصة الثمينة واستثمارها، بقدر ما كانت الخسارة فيها ضربة قوية، وأدت لتراجعات حادة في سياسات الدولتين! كانت مصر –على بُعدها الجغرافي، وأزمتها الاقتصادية- عمقا استراتيجيا قويا لتركيا وقطر.
والآن.. كيف ينبغي أن نفكر؟!
تبدو مطالبة القطريين والأتراك بمزيد دعم للمعارضة المصرية نوعا من الحماقة، وعلى الجهة الأخرى تبدو مطالبتهما بالتسليم ورفع اليد والاعتراف بالسيسي أشد جنونا لاعتبارات كثيرة، فمشروع السيسي لا يمكن له أن يلتقي بمصالح تركيا وقطر بحال بل هو نقيضها التام، ولم يتورع السيسي عن إطلاق كلابه الإعلاميين على السعودية لنهشها رغم كل ما فعلت له حين بدا منها بعض بعض التغير، ولقد ابتلع ابن سلمان هذا النهش بعبارته السخيفة المكشوفة "تقصد الإعلام الإخونجي!" رغم أن الإعلام الإخونجي يتعامل مع السعودية كخط أحمر. وهكذا كان أداء قيادات الإخوان وخياراتهم كالفخ المحكم والمأزق المغلق الذي يُوقع الحلفاء والداعمين في مسار التقدم فيه مهلكة، والتراجع عنه مهلكة أشد.
بقليل من تشغيل الخيال يمكننا أن نرى أن انقلاب الأوضاع في مصر كفيل بإعادة ترتيب الأوراق في المنطقة كلها، في غزة وليبيا والسودان وسوريا وتركيا وقطر، وبقدر ما تبدو الأمور في مصر كبقعة من البنزين القابل للاشتعال بقدر ما تفتقد الشرارة التي يحرص الجميع على ألا تشتعل، ولهذا تستعمل السلطة كل وسائل البطش الممكنة بلا رحمة، وله يُراد إسكات كل صوت ثوري حتى ولو كان موقعا على الانترنت.
لو تصورنا أن الأمة واحدة، ولها زعيم واحد، ونحن في نفس ظروفنا الآن لتصورنا مباشرة أنه سيستعمل كل طاقة الأمة في تغيير الوضع بمصر، ذلك التغيير الذي سيمثل مفتاحا لبقية التغيرات، أو على الأقل متنفسا لأطراف كثيرة تعاني من الاختناق، فلا تزال مصر واحدة من أهم عواصم العالم الإسلامي والتغيير فيها يضرب بآثاره في سائر الأنحاء.
والعواصم من قواعد التاريخ، فالعاصمة هي قلب الدولة ومن يسيطر عليها يظل حاكم الدولة، وتنجح الثورة إن سيطرت على العاصمة، وتفشل إن لم تفعل، ولقد بُعث النبي في مكة "أم القرى" وعاصمة العرب، وحرص على إسلامها لأنه مفتاح إسلام العرب، ولما هاجر كانت مكة هي قلب معاركه وهدفها، ولما فُتِحت مكة أقبل العرب يدخلون في دين الله أفواجا، حتى سمي العام التاسع للهجرة (العام التالي للفتح) بعام الوفود.
ماذا يمنع الحركة الإسلامية أن توجه كل طاقتها للمعركة المصرية، باعتبارها العاصمة الثقيلة التي قد تغير هذا الواقع البائس؟ إن الحركة الإسلامية الواسعة المجهود والطاقة والمنتشرة عبر العالم تنفق الكثير من تلك الطاقة في معارك جزئية صغيرة وفي أنشطة دعوية مغمورة قليلة التأثير، أو حتى عظيمة التأثير لكنها لا تُقارن بما نتكلم فيه. فضلا عن تلك الطاقات الهائلة المعطلة في بلاد لا هي حبلى بثورات ولا حبلى بأمل قريب للحركة الإسلامية نفسها.
إن انطلاقة الجهود الإسلامية المعطلة أو المنصرفة إلى الجزئيات نحو المعركة المصرية قد يغير الكثير، وهو بقدر ما يوفر كثيرا من الجهد ومن الحرج على حلفاء يُحاصرون الآن ويدفعون الثمن بقدر ما يوفر أوراقا جديدة لأولئك الحلفاء في معاركهم على المدى القريب والمتوسط أيضا.
لقد كانت الهجرة فرضا على المسلمين في مرحلة المدينة المنورة، كانت الأمة تحتاج كل طاقاتها في معركة واحدة، ما كان للجهود أن تتشتت وتتناثر، ولقد اعْتُبِر من لم يهاجر غير داخل في ولاية المسلمين، حتى إذا تغير الوضع وفُتِحت مكة "عاصمة العرب" تغير التكليف الشرعي وقال النبي "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية".
نعم.. بقدر ما تبدو المعركة في مصر تعاني من أزمة خانقة، بقدر ما يبدو أنها المفتاح لحل مشكلات أكبر بكثير، وهو قدر مصر ومسؤوليتها ورسالتها، وهو ما فهمه الأوروبيون منذ الحملة الصليبية الخامسة وحتى الآن، فمن تلك اللحظة لم تكن الحملات تستهدف الشام حيث كنيسة القيامة ومهد المسيح، بل تستهدف مصر، وحين هُزِم الصليبيون كلفت الكنيسة المؤرخ الإيطالي مارينو ساوندو تورسيللوا بكتابة تاريخ للحروب الصليبية فكتب تاريخا طويلا في 13 مجلدا، وكان من توصياته أن الغرب إن فكر في احتلال الشرق مرة أخرى فليبدأ من مصر لأنها القادرة على إمداد الشام بالمال والرجال، وهي النصيحة التي استمعت لها أوروبا فجاء نابليون بعدها إلى مصر ثم الشام، وتلاه الإنجليز باحتلال مصر ثم الشام، ولا تزال المعركة حول مصر والشام هي المعركة الحضارية التي يتحدد بها مصير العالم.
والسؤال التالي: إذا لم يكن للحركة الإسلامية رأس يمكن أن توجه طاقاتها كلها في اتجاه واحد، فهل يمكن أن ينبري لهذا النداء من يستشعر تلك المسؤولية فيصرف طاقته وطاقة من يستطيع استثارتهم نحو تلك المعركة؟!
قديما قال إبراهيم لما قال له ربه (وأذِّن في الناس بالحج) قال عليه السلام: وما يفعل صوتي؟ قال: عليك الأذان وعلينا البلاغ!
اللهم هذا الأذان.. وأنت المستعان، وعليك التكلان.
نشر في مدونات الجزيرة
راجع المقالات الثلاثة المنشورة: الأول، الثاني، الثالث.
Published on July 12, 2017 05:00
July 5, 2017
دهشة المؤرخين الغربيين من الفتوحات الإسلامية
لقد ذكرنا في المقاليْن السابقين (الأول، الثاني) كيف كانت الفتوحات الإسلامية معجزة تاريخية مخالفة لما جرت عليه العادة التاريخية في فتوحات الأمم، وأن من أهم ما تميزت به الفتوحات هو كونها سريعة راسخة، فقد اكتسحت الأراضي بسرعة ثم رسخت فيها بعمق.
ولهذا ما يكاد المؤرخون يسجلون هذه الفتوحات إلا وتغلبهم الدهشة من تلك السيرة، وهكذا انتشر بينهم العجب حتى ليشعر المرء أحيانا أنهم يتفننون في وصفهم للفتوحات الإسلامية ليأتوا في وصفها بما لم يقله غيرهم:
فيصفها الفيلسوف الشهير برتراند رسلويصفها مؤرخ الفلسفة إميل برهييهويصفها الباحث الأمريكي مايكل هارت بأنها "أعظم غزوات عرفتها البشرية"، يقول: "استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية، فاتسعت الأرض تحت أقدام المسلمين من شمالي شبه الجزيرة العربية وشملت الإمبراطورية الفارسية على عهد الساسانيين وإلى الشمال الغربي واكتسحت بيزنطة والإمبراطورية الرومانية الشرقية. وكان العرب أقل بكثير جدا من كل هذه الدول التي غزوها وانتصروا عليها... ورغم ذلك فقد استطاع هؤلاء البدوء المؤمنون بالله وكتابه ورسوله أن يقيموا إمبراطورية واسعة ممتدة من حدود الهند حتى المحيط الأطلسي. وهي أعظم إمبراطورية أقيمت في التاريخ حتى اليوم"ويصفها المستشرق الأمريكي فيليب حتي بأنها شيء من الجنون: "لو تجرأ أحدهم على التنبؤ في أوائل القرن السابع المسيحي بظهور قوة لم يسبق لها نظير تقوم في مجاهل الجزيرة العربية التي لم يكن لها قبلا شأن تاريخي، وتدفع بنفسها على الدولتين العالميتين الوحيدتين في ذلك العصر، فتحلّ محل الواحدة –الساسانية- وتجرد الأخرى –البيزنطية- من أغنى ولاياتها، أقول: لو تجرأ أحد على مثل هذه النبوءة لعدّه الناس مجنونا"ويصفها المؤرخ والمفكر البريطاني إ. ه. جومبريتشويصفها المستشرق الإيطالي فرانشسكو جابرييليويصفها المستشرق البريطاني الخبير مونتجمري واتويصفها جاك ريسلر بالباهرة، يقول: "تقوم انتصارات العرب الباهرة على أمور متنوعة، يكمن أهمها في الروح الأخلاقية الرفيعة التي كانوا يستمدونها من الدين الجديد؛ فقد كان الإسلام قد علمهم الشجاعة وازدراء الموت اللذين جعلاهم أشداء لا يُقهرون. إلى هذه الفضائل الأخلاقية ينبغي تُضاف تقنية حربية كانت تحترم تشكيل وحدة القبيلة"ويصفها المفكر والقانوني الفرنسي دومينيك سورديلويقول ألبرت حورانيوفي المقال القادم بإذن الله سنواصل استعراضنا لما قاله المستشرقون والمؤرخون الغربيون عن عجائب الفتوحات الإسلامية لنفتح بابا آخر هو: أن تلك الفتوحات لم تكن فقط حركة غزو واحتلال بل كانت انطلاقة حضارية للمناطق التي وصلتها.
نشر في مدونات الجزيرة
برتراند رسل (1872 – 1970م) من أشهر فلاسفة العصر الحديث، ومن مؤرخي الفلسفة، له إسهام كبير في تطوير المنطق الرياضي، عُرف بمواقفه الداعية للسلام ونزع السلاح النووي، نال جائزة نوبل 1950. برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة: د. زكي نجيب محمود، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010م). 2/181. إميل برهييه (1876 – 1952م) فيلسوف فرنسي، تخرج من السوربون، اهتم بالفلسفة الكلاسيكية وتاريخ الفلسفة، ووضع تاريخا واسعا للفلسفة، وهو من أشهر أتباع الفيلسوف الفرنسي الشهير برجسون. إميل برهييه، تاريخ الفلسفة، ترجمة: جورج طرابيشي، (بيروت: دار الطليعة، بدون تاريخ)، 3/115. مايكل هارت، الخالدون مائة، ص15، 16. فيليب حتي، العرب تاريخ موجز، ص61. إ. ه. جومبريتش (1909 – 2001م)، مؤرخ ومفكر بريطاني، نمساوي المولد، له العديد من المؤلفات في تاريخ الفن والثقافة. إ. ه. جومبريتش، مختصر تاريخ العالم، ترجمة د. ابتهال الخطيب، سلسلة عالم المعرفة 400، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مايو 2013م)، ص164. فرانشسكو جابرييلي (1904 – 1997م) كبير أساتذة اللغة العربية وآدابها في جامعة روما، برز في دراسة الشعر العربي وتحقيق نصوص التراث الإسلامي، ومقارنة النصرانية بالإسلام، وهو مترجم للعديد من نصوص الفكر الإسلامي إلى الإيطالية، انتخب عضوا مراسلا في المجمع العربي بدمشق وغيرها. فرانشيسكو جابرييلي، الإسلام في عالم البحر المتوسط، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف: شاخت وبوزوروث 1/88. مونتجمري وات (1909 - 2006م) مستشرق بريطاني قدير، وكان عميدا لقسم الدراسات العربية في جامعة أدنبرا، عرف بكتابيه في السيرة "محمد في مكة" و"محمد في المدينة" وهما من أقوى وأعمق ما كتب المستشرقون في السيرة ويدلان على مجهوده ودأبه العظيم، بالإضافة إلى مؤلفات أخرى في التاريخ الإسلامي والعلاقة بين الإسلام والمسيحية. مونتجمري وات، في تاريخ إسبانيا الإسلامية، ترجمة: د. محمد رضا المصري، ط2 (بيروت: شركة المطبوعات، بيروت، 1998م)، ص20. جاك ريسلر، الحضارة العربية، ص46. دومينيك سورديل (1921 – 2014م) فرنسي، متخصص في تاريخ الحضارة الإسلامية، أستاذ مقيم في المعهد الفرنسي بدمشق سابقًا، وأستاذ في جامعة السوربون بباريس، ومدير مجلة الدراسات الإسلامية. دومينيك سورديل، الإسلام: العقيدة السياسة الحضارة، ترجمة: سليم قندلفت، ط2 (دمشق: دار حوران، 2003م)، ص35. السابق ص37. ألبرت حوراني (1915 – 1993م) مؤرخ بريطاني من أصل لبناني، أستاذ التاريخ في جامعة أكسفورد، ودرَّس في جامعات بنسلفانيا وشيكاغو وهارفارد، عرف لدى قراء العربية بكتابه المهم "الفكر العربي في عصر النهضة"، وتسود كتبه لغة هادئة وبحث جاد وعميق. ألبرت حوراني، تاريخ الشعوب العربية، ترجمة: أسعد صقر، ط1 (دمشق، دار طلاس، 1997م)، ص56.
ولهذا ما يكاد المؤرخون يسجلون هذه الفتوحات إلا وتغلبهم الدهشة من تلك السيرة، وهكذا انتشر بينهم العجب حتى ليشعر المرء أحيانا أنهم يتفننون في وصفهم للفتوحات الإسلامية ليأتوا في وصفها بما لم يقله غيرهم:
فيصفها الفيلسوف الشهير برتراند رسلويصفها مؤرخ الفلسفة إميل برهييهويصفها الباحث الأمريكي مايكل هارت بأنها "أعظم غزوات عرفتها البشرية"، يقول: "استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية، فاتسعت الأرض تحت أقدام المسلمين من شمالي شبه الجزيرة العربية وشملت الإمبراطورية الفارسية على عهد الساسانيين وإلى الشمال الغربي واكتسحت بيزنطة والإمبراطورية الرومانية الشرقية. وكان العرب أقل بكثير جدا من كل هذه الدول التي غزوها وانتصروا عليها... ورغم ذلك فقد استطاع هؤلاء البدوء المؤمنون بالله وكتابه ورسوله أن يقيموا إمبراطورية واسعة ممتدة من حدود الهند حتى المحيط الأطلسي. وهي أعظم إمبراطورية أقيمت في التاريخ حتى اليوم"ويصفها المستشرق الأمريكي فيليب حتي بأنها شيء من الجنون: "لو تجرأ أحدهم على التنبؤ في أوائل القرن السابع المسيحي بظهور قوة لم يسبق لها نظير تقوم في مجاهل الجزيرة العربية التي لم يكن لها قبلا شأن تاريخي، وتدفع بنفسها على الدولتين العالميتين الوحيدتين في ذلك العصر، فتحلّ محل الواحدة –الساسانية- وتجرد الأخرى –البيزنطية- من أغنى ولاياتها، أقول: لو تجرأ أحد على مثل هذه النبوءة لعدّه الناس مجنونا"ويصفها المؤرخ والمفكر البريطاني إ. ه. جومبريتشويصفها المستشرق الإيطالي فرانشسكو جابرييليويصفها المستشرق البريطاني الخبير مونتجمري واتويصفها جاك ريسلر بالباهرة، يقول: "تقوم انتصارات العرب الباهرة على أمور متنوعة، يكمن أهمها في الروح الأخلاقية الرفيعة التي كانوا يستمدونها من الدين الجديد؛ فقد كان الإسلام قد علمهم الشجاعة وازدراء الموت اللذين جعلاهم أشداء لا يُقهرون. إلى هذه الفضائل الأخلاقية ينبغي تُضاف تقنية حربية كانت تحترم تشكيل وحدة القبيلة"ويصفها المفكر والقانوني الفرنسي دومينيك سورديلويقول ألبرت حورانيوفي المقال القادم بإذن الله سنواصل استعراضنا لما قاله المستشرقون والمؤرخون الغربيون عن عجائب الفتوحات الإسلامية لنفتح بابا آخر هو: أن تلك الفتوحات لم تكن فقط حركة غزو واحتلال بل كانت انطلاقة حضارية للمناطق التي وصلتها.
نشر في مدونات الجزيرة
برتراند رسل (1872 – 1970م) من أشهر فلاسفة العصر الحديث، ومن مؤرخي الفلسفة، له إسهام كبير في تطوير المنطق الرياضي، عُرف بمواقفه الداعية للسلام ونزع السلاح النووي، نال جائزة نوبل 1950. برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة: د. زكي نجيب محمود، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010م). 2/181. إميل برهييه (1876 – 1952م) فيلسوف فرنسي، تخرج من السوربون، اهتم بالفلسفة الكلاسيكية وتاريخ الفلسفة، ووضع تاريخا واسعا للفلسفة، وهو من أشهر أتباع الفيلسوف الفرنسي الشهير برجسون. إميل برهييه، تاريخ الفلسفة، ترجمة: جورج طرابيشي، (بيروت: دار الطليعة، بدون تاريخ)، 3/115. مايكل هارت، الخالدون مائة، ص15، 16. فيليب حتي، العرب تاريخ موجز، ص61. إ. ه. جومبريتش (1909 – 2001م)، مؤرخ ومفكر بريطاني، نمساوي المولد، له العديد من المؤلفات في تاريخ الفن والثقافة. إ. ه. جومبريتش، مختصر تاريخ العالم، ترجمة د. ابتهال الخطيب، سلسلة عالم المعرفة 400، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مايو 2013م)، ص164. فرانشسكو جابرييلي (1904 – 1997م) كبير أساتذة اللغة العربية وآدابها في جامعة روما، برز في دراسة الشعر العربي وتحقيق نصوص التراث الإسلامي، ومقارنة النصرانية بالإسلام، وهو مترجم للعديد من نصوص الفكر الإسلامي إلى الإيطالية، انتخب عضوا مراسلا في المجمع العربي بدمشق وغيرها. فرانشيسكو جابرييلي، الإسلام في عالم البحر المتوسط، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف: شاخت وبوزوروث 1/88. مونتجمري وات (1909 - 2006م) مستشرق بريطاني قدير، وكان عميدا لقسم الدراسات العربية في جامعة أدنبرا، عرف بكتابيه في السيرة "محمد في مكة" و"محمد في المدينة" وهما من أقوى وأعمق ما كتب المستشرقون في السيرة ويدلان على مجهوده ودأبه العظيم، بالإضافة إلى مؤلفات أخرى في التاريخ الإسلامي والعلاقة بين الإسلام والمسيحية. مونتجمري وات، في تاريخ إسبانيا الإسلامية، ترجمة: د. محمد رضا المصري، ط2 (بيروت: شركة المطبوعات، بيروت، 1998م)، ص20. جاك ريسلر، الحضارة العربية، ص46. دومينيك سورديل (1921 – 2014م) فرنسي، متخصص في تاريخ الحضارة الإسلامية، أستاذ مقيم في المعهد الفرنسي بدمشق سابقًا، وأستاذ في جامعة السوربون بباريس، ومدير مجلة الدراسات الإسلامية. دومينيك سورديل، الإسلام: العقيدة السياسة الحضارة، ترجمة: سليم قندلفت، ط2 (دمشق: دار حوران، 2003م)، ص35. السابق ص37. ألبرت حوراني (1915 – 1993م) مؤرخ بريطاني من أصل لبناني، أستاذ التاريخ في جامعة أكسفورد، ودرَّس في جامعات بنسلفانيا وشيكاغو وهارفارد، عرف لدى قراء العربية بكتابه المهم "الفكر العربي في عصر النهضة"، وتسود كتبه لغة هادئة وبحث جاد وعميق. ألبرت حوراني، تاريخ الشعوب العربية، ترجمة: أسعد صقر، ط1 (دمشق، دار طلاس، 1997م)، ص56.
Published on July 05, 2017 02:01
June 28, 2017
من إعجاز الفتوح الإسلامية: السرعة والرسوخ
اقرأ أولا: معجزة الفتوحات الإسلامية
جرت عادة التاريخ في الفتوحات العظيمة أن تكون على طريقة من اثنتيْن: فتوحات قوية تُسفر عن حكم راسخ لكنها تتم في زمن طويل، أو فتوحات سريعة صاعقة تهيمن على مساحة كبيرة في وقت قصير لكنها ما تلبث أن تزول دون أن تترك أثرا كبيرا في صفحة التاريخ. ويُضرب المثل على الفتوحات القوية الطويلة بالدولة الرومانية، كما يضرب المثل بالفتوحات السريعة الزائلة بالحروب المغولية.
لقد خرقت الفتوحات الإسلامية هذه العادة التاريخية، فقد حققت الطريقتيْن معا: فتوحات قوية وسريعة هيمنت على أجزاء واسعة في وقت قصير، ثم إنها ظلت راسخة مكينة لمئات السنين، فمثلت بهذا لحظة تاريخية فارقة، بل إن بعض المؤرخين -كالبلجيكي هنري بيرين- رآها "النقطة التي تميز النهاية الحقيقية للحقبة القديمة في التاريخ" فيما رآها مؤرخون آخرون كالألماني فلهاوزن والأمريكي بيكر والإيطالي كايتاني على أنها "العامل الرئيسي في تاريخ العالم"بنى هؤلاء المؤرخون أقوالهم لما رسخته الفتوحات الإسلامية من واقع جديد، ذلك أن ثبات الخرائط بعد عصر الفتوح هو أبلغ دليل على الرسوخ والتمكن، وفي هذا يقول المستشرق النمساوي جوستاف جرونيباومرسمت الفتوحات الإسلامية مصائر التاريخ، أو بعبارة إليسكي جورافيسكيوذات المعنى يصوغه بعبارة أجمل إدوارد بروي إذ يقول: "ظهر الإسلام كالشهاب الساطع، فحيَّر العقول بفتوحاته السريعة القاصمة، وباتساع رقعة الإمبراطورية التي أنشأها. نحن أمام شعب كان للأمس الغابر مجهول الاسم، مغمور الذكر، فإذا به يتحد ويتضامّ في بوتقة الإسلام، هذا الدين الجديد الذي انطلق من الجزيرة العربية، اكتسحت جيوشه ببضع سنوات الدولة الساسانية وهدت منها الأركان، ورفرفت بنوده فوق الولايات التابعة للإمبراطورية البيزنطية في آسيا وإفريقيا، باستثناء شطر صغير منها يقع غربي آسيا الصغرى، ولم تلبث جيوشه أن استولت بعد قليل على معظم إسبانيا وصقلية وأن تقتطع لأمد من الزمن، يقصر أو يطول، بعض المقاطعات الواقعة في غربي أوروبا وجنوبيها، ودقت جيوشه بعنف شديد أبواب الهند والصين والحبشة والسودان الغربي وهددت غاليا والقسطنطينية بشر مستطير. وقد تهاوت الدول أمام الدفع العربي الإسلامي كالأكر، وتدحرجت التيجان عن رؤوس الملوك كحبات سبحة انفرط عقدها النظيم، وهذه الأديان التي سيطرت على الشعوب والأقوام الضاربة بين سيرداريا والسنغال، ذابت كما يذوب الشمع أمام النار"ويتابع جوستاف جرونيباوم وصفه للفتوحات فيقرَّ بأنها تمت في سرعة لا يصدقها عقل، يقول: "استطاع الإسلام أن يقتطع رقعة دولته في مدى قرن واحد بالضبط، وذلك بين وفاة النبي [صلى الله عليه وسلم] في 632 ومعركة تور وبواتييه (بلاط الشهداء)، وكان النبي قد أسس في السنوات العشر الأخيرة من حياته دولة حاضرتها المدينة، قوية الهيمنة على الحجاز وبعض أجزاء نجد وتفرض سلطانها بدرجة أقل، على الأجزاء الأخرى من الجزيرة العربية ذاتها. وكأنما كانت وفاته إيذانا بردة الأعراب الذين لم يتمكن الإسلام من قلوبهم. حتى إذا سُحِقَتْ هذه الحركة النافرة عن مركز الإسلام، بدأ في التوسع في سرعة لا يكاد يصدقها عقل"لذلك وصفها ويلزوذات العجب يردده الزعيم الهندي المعروف جواهر لال نهرومثل هذه الأقوال، وكثير غيرها سنعرض لبعض منه في المقالات القادمة إن شاء الله، تمثل مادة يتزود منها الخطيب إذ يقف على المنبر، والكاتب إذ يسطر للصحيفة، والمتحدث إذ يرسل صوته عبر الإذاعة والشاشة. فالمؤسف أننا نجد بعضا من أولئك يقف موقف المدافع المتردد ذي الخجل وهو يتحدث عن الإسلام فيما حقه أن يقف موقف الفخر والاعتزاز، كيف وهو يستطيع أن يسوق حجته كلها من أقوال قوم ليسوا بمسلمين وبعضهم من أعدائه.
لئن كانت الحروب ظاهرة طبيعية في التاريخ، فإن الفتوح الإسلامية هي الظاهرة الخارقة، ليست فقط خارقة بما حققته من إنجاز بل بما أثمرته من نتائج مدهشة، هذه الدهشة سنتناولها بإذن الله تعالى في المقال القادم.
نشر في مدونات الجزيرة
فرانشيسكو جابرييلي، الإسلام في عالم البحر المتوسط، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف: جوزيف شاخت وكليفورد بوزوروث، ترجمة: د. محمد زهير السمهوري وآخرون، سلسلة عالم المعرفة 11 (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1987م)، 1/88، 89. جوستاف جرونيباوم (1909 – 1972م) مستشرق نمساوي هاجر إلى أمريكا بعد ضم ألمانيا للنمسا، وهناك حصل على الجنسية الأمريكية وترك ديانته اليهودية إلى الكاثوليكية، وكان أستاذا لقسم الدراسات الشرقية بجامعة كاليفورنيا. جوستاف جرونيباوم، حضارة الإسلام، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2014م)، ص15. أليسكي جورافيسكي: متخصص في تاريخ العلاقات الحضارية بين الشعوب، يعمل في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية. أليسكي جورافيسكي، الإسلام والمسيحية، ترجمة: د. خلف محمد الجراد، سلسلة عالم المعرفة 215 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، نوفمبر 1996م)، ص149. إدوارد بروي، القرون الوسطى، ضمن "تاريخ الحضارات العام" بإشراف: موريس كروزيه، ط2 (بيروت: منشورات عويدات، 1986م)، 3/109. جوستاف جرونيباوم، حضارة الإسلام، ص16. هربرت جورج ويلز (1866 – 1946م) روائي ومؤرخ بريطاني رغم أن دراسته في مجال العلوم، أصدر عددا من الروايات ثم اتجه إلى التاريخ وأصدر عددا من المؤلفات، ثم اتجه إلى التنبؤ بما يكون في المستقبل. هـ. ج. ويلز، موجز تاريخ العالم، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1967م)، ص204. ول ديورانت (1885 - 1981م) مؤرخ الحضارة، أمريكي، بدأ حياته صحفيا، وشغف بالفلسفة ثم عكف على دراسة تاريخ الحضارة حتى أخرج موسوعته الأشهر "قصة الحضارة" بعدما أمضى في تأليفها أربعين عاما، وصدرت طبعتها العربية في 32 مجلدا، بالإضافة إلى كتب أخرى مثل "قصة الفلسفة" و"مباهج الفلسفة". ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة مجموعة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م). 13/73. ول ديورانت: قصة الحضارة، 13/69. جواهر لال نهرو (1889 - 1964م) أحد زعماء حركة الاستقلال في الهند وأول رئيس وزراء بعد الاستقلال، ومن مؤسسي حركة عدم الانحياز، أنجب ابنة وحيدة هي أنديرا غاندي التي أصبحت بعد ذلك رئيسة للوزراء. جواهر لال نهرو، لمحات من تاريخ العالم، ترجمة: عبد العزيز عتيق، دار المعارف، القاهرة، 1958م. ص23، 24.
جرت عادة التاريخ في الفتوحات العظيمة أن تكون على طريقة من اثنتيْن: فتوحات قوية تُسفر عن حكم راسخ لكنها تتم في زمن طويل، أو فتوحات سريعة صاعقة تهيمن على مساحة كبيرة في وقت قصير لكنها ما تلبث أن تزول دون أن تترك أثرا كبيرا في صفحة التاريخ. ويُضرب المثل على الفتوحات القوية الطويلة بالدولة الرومانية، كما يضرب المثل بالفتوحات السريعة الزائلة بالحروب المغولية.
لقد خرقت الفتوحات الإسلامية هذه العادة التاريخية، فقد حققت الطريقتيْن معا: فتوحات قوية وسريعة هيمنت على أجزاء واسعة في وقت قصير، ثم إنها ظلت راسخة مكينة لمئات السنين، فمثلت بهذا لحظة تاريخية فارقة، بل إن بعض المؤرخين -كالبلجيكي هنري بيرين- رآها "النقطة التي تميز النهاية الحقيقية للحقبة القديمة في التاريخ" فيما رآها مؤرخون آخرون كالألماني فلهاوزن والأمريكي بيكر والإيطالي كايتاني على أنها "العامل الرئيسي في تاريخ العالم"بنى هؤلاء المؤرخون أقوالهم لما رسخته الفتوحات الإسلامية من واقع جديد، ذلك أن ثبات الخرائط بعد عصر الفتوح هو أبلغ دليل على الرسوخ والتمكن، وفي هذا يقول المستشرق النمساوي جوستاف جرونيباومرسمت الفتوحات الإسلامية مصائر التاريخ، أو بعبارة إليسكي جورافيسكيوذات المعنى يصوغه بعبارة أجمل إدوارد بروي إذ يقول: "ظهر الإسلام كالشهاب الساطع، فحيَّر العقول بفتوحاته السريعة القاصمة، وباتساع رقعة الإمبراطورية التي أنشأها. نحن أمام شعب كان للأمس الغابر مجهول الاسم، مغمور الذكر، فإذا به يتحد ويتضامّ في بوتقة الإسلام، هذا الدين الجديد الذي انطلق من الجزيرة العربية، اكتسحت جيوشه ببضع سنوات الدولة الساسانية وهدت منها الأركان، ورفرفت بنوده فوق الولايات التابعة للإمبراطورية البيزنطية في آسيا وإفريقيا، باستثناء شطر صغير منها يقع غربي آسيا الصغرى، ولم تلبث جيوشه أن استولت بعد قليل على معظم إسبانيا وصقلية وأن تقتطع لأمد من الزمن، يقصر أو يطول، بعض المقاطعات الواقعة في غربي أوروبا وجنوبيها، ودقت جيوشه بعنف شديد أبواب الهند والصين والحبشة والسودان الغربي وهددت غاليا والقسطنطينية بشر مستطير. وقد تهاوت الدول أمام الدفع العربي الإسلامي كالأكر، وتدحرجت التيجان عن رؤوس الملوك كحبات سبحة انفرط عقدها النظيم، وهذه الأديان التي سيطرت على الشعوب والأقوام الضاربة بين سيرداريا والسنغال، ذابت كما يذوب الشمع أمام النار"ويتابع جوستاف جرونيباوم وصفه للفتوحات فيقرَّ بأنها تمت في سرعة لا يصدقها عقل، يقول: "استطاع الإسلام أن يقتطع رقعة دولته في مدى قرن واحد بالضبط، وذلك بين وفاة النبي [صلى الله عليه وسلم] في 632 ومعركة تور وبواتييه (بلاط الشهداء)، وكان النبي قد أسس في السنوات العشر الأخيرة من حياته دولة حاضرتها المدينة، قوية الهيمنة على الحجاز وبعض أجزاء نجد وتفرض سلطانها بدرجة أقل، على الأجزاء الأخرى من الجزيرة العربية ذاتها. وكأنما كانت وفاته إيذانا بردة الأعراب الذين لم يتمكن الإسلام من قلوبهم. حتى إذا سُحِقَتْ هذه الحركة النافرة عن مركز الإسلام، بدأ في التوسع في سرعة لا يكاد يصدقها عقل"لذلك وصفها ويلزوذات العجب يردده الزعيم الهندي المعروف جواهر لال نهرومثل هذه الأقوال، وكثير غيرها سنعرض لبعض منه في المقالات القادمة إن شاء الله، تمثل مادة يتزود منها الخطيب إذ يقف على المنبر، والكاتب إذ يسطر للصحيفة، والمتحدث إذ يرسل صوته عبر الإذاعة والشاشة. فالمؤسف أننا نجد بعضا من أولئك يقف موقف المدافع المتردد ذي الخجل وهو يتحدث عن الإسلام فيما حقه أن يقف موقف الفخر والاعتزاز، كيف وهو يستطيع أن يسوق حجته كلها من أقوال قوم ليسوا بمسلمين وبعضهم من أعدائه.
لئن كانت الحروب ظاهرة طبيعية في التاريخ، فإن الفتوح الإسلامية هي الظاهرة الخارقة، ليست فقط خارقة بما حققته من إنجاز بل بما أثمرته من نتائج مدهشة، هذه الدهشة سنتناولها بإذن الله تعالى في المقال القادم.
نشر في مدونات الجزيرة
فرانشيسكو جابرييلي، الإسلام في عالم البحر المتوسط، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف: جوزيف شاخت وكليفورد بوزوروث، ترجمة: د. محمد زهير السمهوري وآخرون، سلسلة عالم المعرفة 11 (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1987م)، 1/88، 89. جوستاف جرونيباوم (1909 – 1972م) مستشرق نمساوي هاجر إلى أمريكا بعد ضم ألمانيا للنمسا، وهناك حصل على الجنسية الأمريكية وترك ديانته اليهودية إلى الكاثوليكية، وكان أستاذا لقسم الدراسات الشرقية بجامعة كاليفورنيا. جوستاف جرونيباوم، حضارة الإسلام، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2014م)، ص15. أليسكي جورافيسكي: متخصص في تاريخ العلاقات الحضارية بين الشعوب، يعمل في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية. أليسكي جورافيسكي، الإسلام والمسيحية، ترجمة: د. خلف محمد الجراد، سلسلة عالم المعرفة 215 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، نوفمبر 1996م)، ص149. إدوارد بروي، القرون الوسطى، ضمن "تاريخ الحضارات العام" بإشراف: موريس كروزيه، ط2 (بيروت: منشورات عويدات، 1986م)، 3/109. جوستاف جرونيباوم، حضارة الإسلام، ص16. هربرت جورج ويلز (1866 – 1946م) روائي ومؤرخ بريطاني رغم أن دراسته في مجال العلوم، أصدر عددا من الروايات ثم اتجه إلى التاريخ وأصدر عددا من المؤلفات، ثم اتجه إلى التنبؤ بما يكون في المستقبل. هـ. ج. ويلز، موجز تاريخ العالم، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1967م)، ص204. ول ديورانت (1885 - 1981م) مؤرخ الحضارة، أمريكي، بدأ حياته صحفيا، وشغف بالفلسفة ثم عكف على دراسة تاريخ الحضارة حتى أخرج موسوعته الأشهر "قصة الحضارة" بعدما أمضى في تأليفها أربعين عاما، وصدرت طبعتها العربية في 32 مجلدا، بالإضافة إلى كتب أخرى مثل "قصة الفلسفة" و"مباهج الفلسفة". ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة مجموعة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م). 13/73. ول ديورانت: قصة الحضارة، 13/69. جواهر لال نهرو (1889 - 1964م) أحد زعماء حركة الاستقلال في الهند وأول رئيس وزراء بعد الاستقلال، ومن مؤسسي حركة عدم الانحياز، أنجب ابنة وحيدة هي أنديرا غاندي التي أصبحت بعد ذلك رئيسة للوزراء. جواهر لال نهرو، لمحات من تاريخ العالم، ترجمة: عبد العزيز عتيق، دار المعارف، القاهرة، 1958م. ص23، 24.
Published on June 28, 2017 05:34