محمد إلهامي's Blog, page 34

March 15, 2017

ماذا تعرف عن أم صلاح الدين المسيحية؟

ذكرنا في المقال السابق جانبا من صدمة المؤرخين الغربيين من فروسية صلاح الدين، لكن لم يكن هذا موقف الكل بل لقد سلك بعض الغربيين مسلكا غير نزيه في إثبات فروسية صلاح الدين، فمنهم من سلبه مكانته العسكرية ليعترف له بنبل أخلاقه كما فعل المؤرخ الصهيوني يوشع براور، والذي يكتب في تاريخ الصليبيين بغرض تمهيد الواقع للصهاينة في فلسطينومنهم من جعله استثناء وحيدا فدخل إلى مدحه عبر باب ذم الآخرين من قومه وأهله ومحيطه، فمن أولئك تشارلز روزبولت الذي كتب كتابا عن صلاح الدين فوضع له عنوان "صلاح الدين أمير الفروسية"، قال في مطلعه "طبقا لجميع نظريات الوراثة والبيئة كان ينبغي لصلاح الدين الكردي أن يكون قاسيا بلا رحمة، جشعا لا يبالي بغيره، طاغية متعجرف تتحكم فيه نزواته. لقد كان القوم الذين نشأ فيهم غارقين في البداوة، مقاتلين، لصوص، يحتقرون الحضارة التي تبدو عند جيرانهم الأقل بدائية، كان حكم السيف عندهم هو الحق الذي لا جدال فيه، ولا اعتبار لأي حق غير السيف..." ثم عدَّد هذا ليقول في نهاية الأمر "كان صلاح الدين فارس كل العصور، مثالي الأخلاق، مثالي السلوك، عظيم السخاء، بالغ الدماثة"ومنهم من خلط مدحا بذم، لكن ذمه المتكلف المتعسف المجانب للحقيقة لم يُخف مخايل العظمة الواضحة، وأوضح مثال على هذا ما وجدناه عند ستيفن رنسيمان في تأريخه للحروب الصليبية، إذ يقول: "يعتبر صلاح الدين من بين كبار رجال فترة الحروب الصليبية أكثرهم جاذبية. ولم يتجرد من الأخطاء، ففي سبيل الوصول إلى السلطة أظهر من المكر والقسوة ما لا يتلاءم مع ما حصل عليه من شهرة وصيت فيما بعد. لم يتردد في سفك الدماء لصالح سياسته، فأجهز بيده على رينالد شاتيون الذي كان يبغضهوبالمجمل، فكما تقول المستشرقة الألمانية المختصة في تاريخ الحروب الصليبية كارولين هيلينبراند، "لم يحدث أن تعلقت مخيلة الأوروبيين بشخص مسلم قدر تعلقها بـ(صلاح الدين). إن تفوقه على معاصريه، من مسلمين ونصارى، أقر به أعداؤه الصليبيون، إبان حياته. وإن صورته، حتى في ظل التعصب الأعمى للعصور الوسطى، قد بقيت نقية، لا بل أضفي عليها عناصر رومانسية، في وقت كان فيه موقف أوروبا من الإسلام مزيجاً مؤسفاً من الجهل والعداء"أساطير الغربيين عن صلاح الدين
يقول ول ديورانت: " كان صلاح الدين مستمسكا بدينه إلى أبعد حد، وأجاز لنفسه [في الحرب] أن يقسو أشد القسوة على فرسان المعبد والمستشفىتشرح الباحثة البريطانية في مقارنة الأديان كارين أرمسترونج ذلك بقولها: "وَعَي المسيحيون في الغرب بقدر من عدم الارتياح أن ذلك الحاكم المسلم قد سلك مسلكا يتوافق مع المبادئ المسيحية بخلاف مسلك محاربيهم الصليبيين لدى فتحهم أورشليم. وهكذا خرجوا بأساطير جعلت من صلاح الدين "مسيحيا شرفيا"، حتى إن بعض تلك الأساطير قالت بأنه كان قد تم تعميد صلاح الدين في السر"ويختصر المستشرق الفرنسي الشهير مكسيم رودنسون هذه الأساطير في قوله: "أثار العدو الأكبر صلاح الدين إعجابا واسع الانتشار بين الغربيين؛ فقد شن الحرب بإنسانية وفروسية، برغم قلة من بادلوه هذه المواقف... ووصل الأمر إلى حد أنه ظهرت في القرن الرابع عشر قصيدة طويلة جرى العرف على تسميتها "صلاح الدين" وأعيدت فيها صياغة حوادث الأساطير القديمة، وذلك لأن فارسا من هذا الطراز الرفيع يجب بالضرورة أن يصبح منتميا إلى الأسرة المسيحية، وهكذا قيل إن أمه هي الكونتيسة بونثيو التي تحطمت سفينتها على الساحل المصري، وأنه هو نفسه اعتنق المسيحية وهو على فراش الموت"وتفصيل هذه الرواية توردها المستشرقة كارول هيلينبراند في بحثها "تطور أسطورة صلاح الدين في الغرب"، وفيه تذكر أن كتابا مجهول المؤلف يرجع إلى القرن الثالث عشر ومكتوبا بالفرنسية القديمة عنوانه "تاريخ ما وراء البحار وأصل صلاح الدين" يذكر أن صلاح الدين "كان باسلا جدا وحكيما"، وأنه سليل عائلة بونثيو الفرنسية النبيلة، وأن صلاح الدين طلب من سجينه هيو الذي كان يحكم طبرية أن يعلمه "كيف يصبح  فارساً مسيحيًا،  كما أنه لما أحس بقرب أجله أرسل إلى خليفة بغداد وبطريرك القدس وحكيم اليهود كي يرسل كل منهم إليه ممثلا عن دينه، ثم أمرهم بمناظرة بعضهم ليصل إلى "أي من هذه الديانات هو الأفضل"، ولما انتهت المناظرة لم يقرر أي دين يختار لكنه قسم مملكته إلى ثلاثة أقسام، وأعطى الأفضل للمسيحيين، والثاني للمسلمين، والثالث لليهود. كذلك ظهرت رواية عن صلاح الدين في مجموعة ديكاميرون –وهي مجموعة أدبية ظهرت في منتصف القرن الرابع عشر- تروي أن صلاح الدين سأل اليهودي الذي كان يستدين منه أحيانا: أي الأديان أفضل اليهودية أم المسيحية أم الإسلام؟ ولما أجابه إجابة حكيمة أعطاه هدايا نفسية جداً، وأبقاه في مركز مرموق ومشرف، وجعله من المقربينمن تلك الأساطير أيضا ما جاء في مجموعة ديكاميرون، فثمة قصة تروي كيف "أن الأمير الأكثر بسالة، (صلاح الدين)"، تنقل برفقة بعض قادته وخدمه، متنكراً في زي تاجر قبرصي على طريق (لومبارديا)، والتقى هناك برجل يدعى (توريللو)، الذي يستضيفه بحفاوة بالغة، على مدى عدة أيام. ولم يكن الحوار بينهم يمثل مشكلة، لطالما أن "(صلاح الدين) ورفاقه وخدمه يعلمون جميعاً اللاتينية". لقد صوروا بوصفهم سادة بالغي التهذيب: في الواقع، يصيح توريللو: أرجو من الله أن تنجب بلادنا سادة نبلاء على شاكلة ما أراه في تجار قبرص. ويذهب (توريللو)، في وقت لاحق، إلى الأراضي المقدسة، للمشاركة في الحملة الصليبية، لكنه يقع في الأسر، ويُجلب إلى (الاسكندرية)، فيجعله (صلاح الدين) مدرباً لصقوره، ثم يتعرف عليه فعلاً، ثم يُعرف نفسه لـ(توريللو)، ويعامله بأبلغ درجات التكريم. وأخيراً يتم نقل (توريللو) إلى (لومبارديا)، حيث يقر لـ(صلاح الدين) الأيوبي بالصداقة والتبعية. وهكذا فإن الصورة التي يقدمها (بوكاتشيو) عن (صلاح الدين) تبني على شهرته الثابتة، بوصفه بطلاً للفروسية، ونموذجاً للتسامح الدينيوقد ترجم دانتي هذه الصورة الأوروبية في ملحمته الأدبية "الكوميديا الإلهية"، إذ وضع صلاح الدين في الحلقة الأولى من الجحيم، بين فضلاء الوثنية وأبطالها في الماضي الغابر كسقراط وأفلاطون وأقليدس وجالينوس. كما تمتع صلاح الدين بقرب اثنين من عظماء الفلاسفة المسلمين: ابن سينا وابن رشد. وبعزل دانتي لـصلاح الدين قليلاً، فإنه كما يبدو أراد أن يخصه بعناية خاصة واستحسان: ومنعزلاً على جانب، إن إدراج صلاح الدين ضمن هذه الجماعة، يدل على ثبات شهرته بالفضائل في أوروبا القرن الرابع عشر، على الرغم من انتشار الأحكام المسبقة المعادية للمسلمين بين المسيحيين في العصور الوسطى ومن المؤسف أن آثار بعض هذه الأساطير موجودة حتى اليوم في دراسات يُفترض فيها العلمية والتحرر من هذه الخرافات؛ فمن ذلك كتاب فرنسي صدر عام 2005، يذكر مؤلفاه أن "صلاح الدين كان قد درس في مدارس مسيحية"
نشر في مدونات الجزيرة

انظر مقدمة د. قاسم عبده قاسم للكتاب. يوشع براور، عالم الصليبيين، ترجمة وتقديم وتعقيب: د. قاسم عبده قاسم ود. محمد خليفة حسن، ط1 (الجيزة: عين للدراسات والبحوث، 1999م)، ص59. Charles J Rosebault, Saladin prince of chivalry, (New York: Robert M. McBride & Company MCMXXX, 1930), pp xi, xii من حسن الحظ أنه ضرب المثال هنا بهذه الواقعة، فذلك يكشف تجنيه على الحقيقة، فرينالد المذكور هو ذلك الدموي الخائن الغادر الذي خرق الهدنة وقتل الحجاج وأقسم صلاح الدين على قتله إن ظفر به، ولما وقع أسيرا لم يؤمنه صلاح الدين.. فمثل هذا كيف يعتبر قتله سفكا للدماء أو لمجرد غرض شخصي هو البغض؟! رغم أننا آثرنا ألا نعلق على ذمه، إلا أن بعض الإطلاقات المستفزة تغلبنا، وكنا نود لو ضرب أيضا مثالا هنا بالمفكرين الأحرار لينكشف تجنيه على الحقيقة. ستيفن رنسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة: د. السيد الباز العريني، (بيروت: دار الثقافة، 1997م)، 3/148. كارول هيلينبراند، تطور أسطورة صلاح الدين في الغرب، ترجمة وتعليق: ناصر عبد الرزاق الملا جاسم، مجلة الحوار (إربيل، يناير 2015م). فرسان المعبد وفرسان المستشفى هي كتائب مسيحية تابعة للكنيسة مباشرة، وكانت من أعنف وأشرس الكتائب في حربها على المسلمين. ول ديورانت، قصة الحضارة، مرجع سابق، 15/44، 45. كارين أرمسترونج، القدس: مدينة واحدة عقائد ثلاث، ترجمة: د. فاطمة نصر ود. محمد عناني، (القاهرة: سطور، 1998م)، ص482. مكسيم رودنسون، الصورة الغربية والدراسات العربية والإسلامية، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف شاخت وبوزوروث، ترجمة د. محمد زهير السمهوري وآخرين، سلسلة عالم المعرفة 8 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1985م)، 1/41، 42. كارول هيلينبراند، تطور أسطورة صلاح الدين في الغرب، مرجع سابق. كارول هيلينبراند، تطور أسطورة صلاح الدين في الغرب، مرجع سابق نفس المرجع. جان كلود بارو وغيوم بيغو، التاريخ الكامل للعالم: منذ ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا، (بيروت ودبي: الفارابي ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، 2008م)، ص108.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 15, 2017 00:06

March 10, 2017

الجهاد ضد الاستبداد.. في ذكرى الشيخ الغزالي

في مثل هذا اليوم (9 مارس 1996) فاضت روح الشيخ الداعية الأديب الملتهب الرقيق المتدفق محمد الغزالي، بعد عمر مديد في الدفاع عن الإسلام ورفع لوائه. والشيخ عَلَمٌ كبير أشهر من أن يُعَرَّف، ومجموع مؤلفاته غزير حافل بالمعاني، وقد رأيت أن خير ما نحيي به ذكرى الشيخ التقاط بعض كلامه في شأن الاستبداد والجهاد، وكان الاختيار عسيرا وصعبا بحسب ما يسمح به القيام، وهو ما يضيق عن فيض الشيخ رحمه الله!
(1) آثار الاستبداد
"النفس الإنسانية تذوى وتنمو، وتنكمش وتمتد، على حسب التربة التى تحيا فيها!! ولو أتيحت لشعوب الشرق الفرص التى أتيحت لشعوب الغرب لبُدلت الأرض غير الأرض. ألست ترى أرجُل البشر تكبر على طبيعتها هنا وهناك؟! حتى إذا ذهبت إلى الصين- حيث يلبس البعض أحذية من حديد- وجدت أقداما ضامرة شل الحديد نماءها منذ الطفولة!! إن لدينا أنظمة، هى وأحذية الحديد الصينية سواء.. أنظمة تركت وراءها حطاما من الأجيال الهامدة، التى عاشت عمرها فى صراع مع الضرورات المذلة ومثل هذا الصراع يموت فيه المنهزم موتًا ماديًا، محرومًا من العافية والاستقرار، ويموت فيه المنتصر موتًا أدبيًا. فأنى الترقى والازدهار لمن يقنع فى حياته بنيل ضروراته؟! أنظمة تجعل الحياة فى المجتمع دون الحياة فى الغابة!. فإن الطيور تغادر أعشاشها، سعيًا وراء رزقها، فتغدو خماصًا ، وتروح بطانًا، فنتيجة سعيها تكون مكفولة. فكيف الحال فى مجتمعات يرهق العامل فيها نصَبًا، ويقضى حرمانًا؟ أجل.. قد تكون آجال الحيوانات فى الآجام رهنا بجوع السباع وشبعها، أفتحسب الحياة فى بعض ربوع الشرق أفضل من ذلك؟! لا تزال هناك أمم تعطى حق الحياة لكبارها أولا... ثم لصغارها ما عنت وجوههم لهؤلاء الكبار. وما استغنى الكبار عن افتراس هؤلاء الصغار، وإلا فالحكم للسيف والنار، ولمن يملك النار والسيف""لا أزال أكرر ما ذكرت فى بعض كتبى من أن الحريات المقررة هى الجو الوحيد لميلاد الدين ونمائه وازدهاره! وإن أنبياء الله لم يضاروا بها أو يهانوا إلا فى غيبة هذه الحريات، وإذا كان الكفر قديماً لم ينشأ ويستقر إلا فى مهاد الذل والاستبداد فهو إلى يوم الناس هذا لا يبقى إلا حيث تموت الكلمة الحرة وتلطم الوجوه الشريفة وتتحكم عصابات من الأغبياء أو من أصحاب المآرب والأهواء.. نعم ما يستقر الإلحاد إلا حيث تتحول البلاد إلى سجون كبيرة، والحكام إلى سجانين دهاة""العلمانيون أجهل الناس بالإسلام وتاريخه وتراثه وأصوله وفروعه، ولو أنهم شغلوا بعض وقتهم بالتعرف على الإسلام وكتابه وسنته وشروح القدامى والمحدثين من أئمته لكان لهم موقف آخر، بدل تحاملهم الأعمى عليه... وهم مع الاستبداد السياسى حتى يتم قهر الإيمان أو هدم الإسلام بالعبارة الصريحة! وماذا بعد هدم الإسلام؟ استمكان الإلحاد من أمتنا وانفراده بزمامها وانطلاق الغرائز الدنيا تعربد كيف تشاء""إن عددا من الدعاة الإسلاميين فقد الإحساس بقيمة الحرية السياسية والفكرية، وضرورة توفير العناصر التى تغذيها وتنميها، وفقد الوعى بأن حقائق الإيمان فى غياب الحرية تضؤل وتنكمش حتى تختفى من الحياة، وربما تحولت بعد إلى كفر وإلحاد. إن الإيمان بالله فى ظل الاستبداد السياسي كثيرا ما يتحول عن معناه ومجراه ليكون لونا من الشرك القبيح"(2) ضرورة الجهاد
"ما من أيام القتال فيها أوجب على المسلمين من أيام يُهدد فيها الإسلام وآله بالفناء، وتتألب عليه شتى القوى، بل يصطلح ضده الخصوم والأعداء، محاولين سحقه إلى الأبد. وقد وقع ذلك في صدر الإسلام قبل الهجرة وبعدها، ووقع في هذه الأيام، فسقطت أوطان الإسلام في أيدي لصوص الأرض، ثم رسمت أخبث السياسات للذهاب به رويدا رويدا. فكيف تستغرب الدعوة إلى التسلّح، والإهابة بأهل النجدة أن يوطّنوا أنفسهم على التضحية في سبيل الله؟! كيف تستنكر صناعة الموت في أمة يتواثب حولها الجزّارون من كلّ فجّ؟!""الواجب المقدس لشعوب الأمة الإسلامية المناضلة، يقضى بالجهاد من أجل تقويم كل نظام لا تتفق أسسه مع تعاليم الإسلام. ولذلك أصبح لزاما على شعوب الأمة الإسلامية المجاهدة، وقد أحدق الشر بها أن تعمل متعاونة ومتساندة من أجل إقامة المجتمع الإسلامى المنشود. وليكن شعارنا: لحكم الله نخضع وبحكم الله نسود، وأنه قد آن الأوان لاتخاذ القرآن دستورا تطبق مبادئه على الحاكم والمحكوم. (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)""ما دام الظلم لا يردع إلا بالسيف فليحمل المسلمون السيف! وما دام الإنصاف لا يتحقق إلا بالقتل فليخض المسلمون المعارك! حتى يرتفع لواء العدالة..! إننا حراص على السلام وفى ظله نبلغ رسالتنا وافرين فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. لكن ما العمل إذا كممت أفواهنا؟ بل إذا أوجع المسلم خسفا حتى يترك دينه؟؟ ما بد إذن من قتال! والمثير أن فوارق العدد لا وزن لها فى هذا القتال! فالقلة تتصدى للكثرة. والواحد يثبت أمام العشرة. والسبب أن الله ظهير للمؤمن إذا قاتل، فهو عندما يضرب تضرب معه قوى الأرض والسماء"(3) لا بد من القوة
"إننا هنا، فى مكاننا هذا من العالم قوة ذات خطر، أنشأنا الله فى هذا المكان المتوسط بين القارات لتنبعث من بلادنا رسالات السلام والأمن والحرية للعالم كله، للإنسانية جمعاء. لقد آن الأوان ليؤمن الاستعمار بهذه الحقيقة، وما نراه يؤمن بها إلا إذا أشعرناه بقوتنا. إن القوة وحدها هى التى تقنع بالحق.. الحق وحده لا يمكن أن ينتصر بغير قوة تسنده. و إن هذه الحرب التى يحاول الاستعمار الصليبى أن يشنها على بلادنا، هى حلقة جديدة من سلسلة قديمة متصلة الحلقات"(4) معاني ملتبسة
"فى الدين وفى الحياة أمور متشابهة، ومعادن متقاربة، لا معنى للخلط بينها، عند إصدار الحكم عليها. فالأمر بالصبر، ليس أمرا بالذل، والأمر بالتواضع، ليس أمرا بالضعة. والحد الفاصل بين الحالتين دقيق، ولكنه قائم ثابت!. والنهى عن الكبر، ليس نهيا عن عزة النفس، والنهى عن الترف، ليس نهيا عن الاستغناء، والاستكفاء، فهذا وضع، وذاك وضع آخر! وقد جاءت فى الإسلام آثار شتى تفرض على الإنسان تحمل الشظف وتحرم عليه أن يظهر جزعا، أو يبدى ريبة. فكيف قيل هذا، ولأى وجه سيق؟!. الواقع أن هذا قيل ليرضى المسلمين بمتاعب الجهاد، لا ليرضيهم بمصاعب الفقر وآلام العيلة، من غير سبب معقول"(5) مطالب الجهاد
"إذا كان الجسم المصاب بفقر الدم يسقط في أول مراحل الطريق، فالعقل المصاب بفقر المعرفة أعجز من أن يلاحق مطالب الجهاد، أو يلبِّي حاجات الحق... العالم الإسلامي اليوم منهوب منكوب، برّحت به علل الداخل وفتن الخارج، وهو فقير إلى دعاة من طراز جديد ذوي علاقة ذكية قوية بكتابهم ونبيهم، وبالعالم الذي نعيش فيه وما يمور به من قضايا""إذا قرر المؤمن الجهاد فى سبيل الله، والاشتباك مع قوى الباطل فى حرب موصولة الكر والفر فيجب أن يحدد صلته بما فى الدنيا من متع وما تهواه النفس من لذات.. ذلك أن التمشى مع مغريات الحياة يفتح الشهية للمزيد، ويعلق القلب بمطامع تشغله عما يجب أن يخلص له... وأساس هذا السلوك توطين النفسى على أسلوب من العيش خفيف المؤنة قليل التكلفة والإنسان فى هذا المجال يمكن أن يمتد ويمكن أن ينكمش.
والنفس طامعة إذا أطمعتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
ونحن لا نحرم حلالا، ولا نحجر واسعا، وإنما نصف الطريق التى لابد من سلوكها لأصحاب الرسالات وحملة الدعوات. فإنه لا يتفق طمع فى الدنيا وانتصار للمثل العليا. ولا ينسجمان الحرص على إعلاء كلمة الله، والحرص على تكثير المغانم واسترضاء الخلائق"نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

 Ø§Ù„غزالي، الإسلام والأوضاع الاقتصادية، Ø·3 (القاهرة: دار نهضة مصر، أكتوبر 2005)، ص140، 141. الغزالي، قذائف الحق، Ø·1 (دمشق: دار القلم، 1991)، ص235. الغزالي، الحق المر، (القاهرة: دار الشروق، 1988)، ص39. الغزالي، الحق المر (الجزء السادس)، (القاهرة: دار نهضة مصر، 2005)، ص7. الغزالي، فقه السيرة، خرج أحاديثه: ناصر الدين الألباني، Ø·1 (دمشق: دار القلم، 2006)، ص218. الغزالي، الإسلام والطاقات المعطلة، (القاهرة: دار نهضة مصر، 2005)، 174. الغزالي، نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، Ø·4 (القاهرة: دار الشروق، 2000م)، ص138. الغزالي، الاستعمار أحقاد وأطماع، Ø·4 (القاهرة: دار نهضة مصر، يناير 2005)، ص99. الغزالي، الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين، Ø·6 (القاهرة: دار نهضة مصر، أغسطس 2000)، ص59، 60. الغزالي، الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، (القاهرة: دار الشروق، 1997)، 107. الغزالي، الجانب العاطفي من الإسلام: بحث في الخلق والسلوك والتصوف، Ø·3 (القاهرة: دار نهضة مصر، يوليو 2005)، ص146، 147.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 10, 2017 22:32

March 8, 2017

صدمة الغربيين من فروسية صلاح الدين

ذكرنا في مقالات سابقة (انظر: هنا، وهنا) أنه ما من شخصية استأثرت بإعجاب الأعداء كما كانت شخصية السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، وقد تنوعت جوانب الإعجاب به، إلا أن فروسية صلاح الدين كانت الصفة التي بلغت بها شهرته الكبرى ووضعته في ذلك المحل الأرفع، وأثارت حوله الأساطير والخرافات في الآداب الأوروبية، يقول الباحث الأمريكي مايكل مورجان: "فترة الاضطراب هذه سوف تساعد على ظهور قائد مسلم، وهو رجل شديد التدين لن يتمتع بفكر مثل هارون الرشيد والمأمون، ولا الحاكم في القاهرة، أو عبد الرحمن الثالث [الناصر] في قرطبة، إلا أنه سيجسد نوعا من شرف الفروسية الإسلامية سيكون مثار انبهار الأوربيين، بل وسيدفعهم نبله هذا إلى العديد من المواقف المحرجة، فما كان منهم إلا التماس أن السبب وراء أخلاقه الرفيعة والكريمة ما هو إلا لأن لديه دماء أوربية تجري في عروقه، هذا الرجل هو صلاح الدين، ومثل هارون الرشيد، تجد القصص التي تحيط به لها طابع رومانسي وأسطوري، لكن رقيه الأساسي وحكمه الإنساني في الأمور المستفزة هو حقيقي ويقتدى به"لقد مثلت أخلاق صلاح الدين مثالا عاليا ونموذجا فارقا حوكمت إليه أخلاق الفرسان العرب والأوروبيين على نحو سواء في كل زمن الحروب الصليبية. يقول ول ديورانت: "لقد أجمعت الآراء على أن صلاح الدين كان أنبل من اشترك في الحروب الصليبية"ولهذا يسوق المؤرخون الغربيون مشهده بعد تحريره القدس فيتفننون في وصفه على هذا النحو:
1. يقول الكولونيل البريطاني الذي اتجه في نهاية عمره لدراسة الإسلام وتأثر بالمسلمين وأعجب بأسلوب حياتهم وقيمهم، يقول واصفا هذا المشهد: "لما غزا الصليبيون الأرض المقدسة سنة (1099م)، خلفوا وراءهم في كل مكان الموت والدمار، بيد أنه لما رد صلاح الدين الصليبيين على أعقابهم، لم يلجأ إلى وسائل الانتقام، ولم يخرب المسلمون الأماكن التي فتحوها، كما فعل المقاتلون الدينيون السابقون لهم من الممالك الأخرى، فأينما وضعوا أرجلهم نشأ شيء جديد أسمى وأفضل مما كان قبلا"2. ويقول المستشرق الفرنسي المشهور جوستاف لوبون: "لم يشأ السلطان صلاح الدين أن يفعل في الصليبيين مثل ما فعله الصليبيون الأولون من ضروب التوحش، فيبيد النصارى عن بكرة أبيهم؛ فقد اكتفى بفرض جزية طفيفة عليهم مانعا سلب شيء منهم"3. وتقول المستشرقة الألمانية المعروفة زيجريد هونكه: "حين تمكن صلاح الدين الأيوبي من استرداد بيت المقدس (583هـ = 1187م) -التي كان الصليبيون قد انتزعوها من قبل (492هـ = 1099م) بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحة لا تدانيها مذبحة وحشية وقسوة- فإنه لم يسفك دم سكانها من النصارى انتقاما لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته، وأسبغ عليهم من جوده ورحمته، ضاربا المثل في التخلق بروح الفروسية العالية، وعلى العكس من المسلمين، لم تعرف الفروسية النصرانية أي التزام خلقي تجاه كلمة الشرف أو الأسرى"4. ويقول "إن الصليبيين ادعوا أن العرب المسلمين المشارقة كانوا قساة متوحشين في جوهرهم على نحو لا مثيل له، حتى على الرغم من أن المجازر الرهيبة التي ارتكبت في القدس والقسطنطينية وجزيرة قبرص، ما فتئت تشكل نقيضا صارخا لتاريخ الفتوحات الإسلامية في تلك الحقبة. فقبل أربعمائة سنة من إغراق الصليبيين القدس في الدماء، لم يأمر الخليفة عمر بقتل أحد عندما تولى أمر المدينة...  وفي وقت لاحق، عندما استرد القائد الإسلامي الشهير صلاح الدين القدس من الصليبيين في عام 1187، اقتدى بعمر وحذا حذوه، فلم يكتف بالسماح للبطريرك المسيحي بمغادرة المدينة مع أتباعه، بل سمح لهم إلى ذلك بحمل ثرواتهم معهم"وقد آتت أخلاق صلاح الدين ثمارها في حياته منذ وقت مبكر، يرصدها المستشرق الإنجليزي الكبير توماس أرنولد في قوله: "يظهر أن أخلاق صلاح الدين الأيوبي وحياته التي انطوت على البطولة، قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيرا سحريا خاصا، حتى إن نفرا من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية، وهجروا قومهم وانضموا إلى المسلمين"وقد شهد وليم الصوري –رئيس أساقفة صور وهو معاصر لزمن صلاح الدين- أنه كان "رجلا حاد الذكاء نشيطا وشجاعا في الحرب وفي غاية الشهامة والكرم"نشر في مدونات الجزيرة

مايكل ه مورجان، تاريخ ضائع: التراث الخالد لعلماء الإسلام ومفكريه وفنانيه، ترجمة: أميرة نبيه بدوي، ط3 (القاهرة: مكتبة نهضة مصر، 2008م)، ص268. ول ديورانت، قصة الحضارة، مرجع سابق، 13/141 رونالد ف بودلي، الرسول: حياة محمد، ترجمة محمد محمد فرج وعبد الحميد جودة السحار، (القاهرة: مكتبة مصر، بدون تاريخ)، ص147. جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م)، ص329. زيجريد هونكه، الله ليس كذلك، ترجمة د. غريب محمد غريب، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 1996م)، ص34. جون فيفر، الحرب الصليبية الثانية: حرب الغرب المستعرة مجددا ضد الإسلام، ترجمة: محمد هيثم نشواتي، (الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية، 2015م)، ص43. توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، مرجع سابق، ص111. وليم الصوري، تاريخ الأعمال المنجزة فيما وراء البحار، ضمن: سهيل زكار، الموسوعة الشاملة في الحروب الصليبية، (دمشق: دار الفكر، 1995م)، 7/327.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 08, 2017 22:44

March 2, 2017

تمهيد السيسي لإسرائيل الكبرى

حتى لحظة كتابة هذه السطور، لم يصدق السيسي في مشروع واحد أعلن عن إنشائه إلا مشروع "قناة السويس الجديدة"، فإنه المشروع الوحيد الذي أُنْجِز في وقته بغض النظر عن الكلفة الهائلة التي يدفعها اقتصاد متحطم دون عائد متوقع. وفي ذلك الوقت نشرنا عدة مقالاتأخطر ما في مشروع قناة السويس هو أنه يُضاعف العازل المائي الذي يقطع الصلة بين سيناء وبين مصر، ذلك أن قناة السويس –وهي مشروع استعماري رفضه سائر من حكموا مصر قبل سعيد باشا- تمثل منذ أن حُفِرت نكبة سياسية وكارثة عسكرية وأزمة اقتصادية، ولولا القناة لما استطاعت إسرائيل أن تحتل سيناء عام 1967، إذ وفرت لها القناة حماية جغرافية جعلها لا تحتاج إلا لإنشاء ساتر ترابي وخط دفاعي على شاطئ القناة الغربي، وكانت الإنجاز العسكري المطلوب هو "عبور القناة"!
وإذا حكم مصر نظام وطني فلن يكون أمامه سوى حل من اثنين، إما أن يضاعف الوجود البشري الاقتصادي حول القناة مع تكثير الطرق والأنفاق وتعمير سيناء (وهو مشروع مرسي)، أو ردم القناة وإزالتها بالكليِّة ليعود اتصال الأرض المصرية وتنتهي سلسلة الأزمات التي تسببت فيها القناة منذ حُفرِت على تلك اللحظة.
إلا أن النُظُم التي حكمت مصر منذ تلك اللحظة حتى الآن لا يتصف واحد فيها بصفة الوطنيةقبل أيام سرَّبت إسرائيل خبر لقاء رباعي جرى بين نتنياهو والسيسي وعبد الله بن الحسين وجون كيري، ولم يُعرف ما الذي جرى فيه، إلا أن بعض المصادروعلى الجهة المصرية، فنظام السيسي منذ بداية الانقلاب العسكري لا يبخل في اتخاذ الإجراءات التي تجعل من سيناء هدية مجانية تستلمها إسرائيل، ويبدو من متابعة خط سير القوانين والترتيبات أن التعامل مع سيناء يمثل مشروعا لدى النظام العسكري؛ فعلى المستوى الاقتصادي: قد صدرت العديد من القوانين التي تسمح للأجانب بالتملك والشراء في سيناء، فضلا عن معاملة شخصيات بعينها معاملة المصريين في نفس إطار التملك، وجرى منع الدخول إلى سيناء إلا عبر إذن مسبق ولشرائح بعينها تقيم أو تعمل في سيناء (مع العلم أن دخول سيناء بالنسبة للإسرائيليين يحصل بدون تأشيرة، أي أن سيناء في الواقع جزءا من الأرض الإسرائيلية أكثر منها جزءا من الأرض المصرية).
وعلى المستوى العسكري جرى إزالة مدينة رفح الملاصقة لقطاع غزة، وتهجير آلاف الأسر وهدم بيوتهم دون اتخاذ أي خطوات لتوفير بديل لهم، بالإضافة إلى شنِّ الحملة العسكرية الشاملة التي استعملت فيها سائر وسائل القمع والتنكيل والقتل والتعذيب والعقاب الجماعي، ومع ذلك جرى تتبع الأنفاق الواصلة بين قطاع غزة ورفح التي تمثل الشريان الوحيد للحياة مع الإغلاق المستمر لمعبر رفح. وخاضت القوات المصرية معارك بمساندة الطائرات الإسرائيلية، فضلا عن التدخل الإسرائيلي المباشر ضد المجموعات المسلحة. وهذا كله هو المُعلن الذي يمثل ذروة جبل الجليد.
وقد ترافق كل هذا مع حملات أمنية موسعة وحملات إعلامية شرسة وصلت إلى حد التحريض صراحة على جعل سيناء معسكر اعتقال كبير لا يدخل إليه ولا يخرج منه أحد!
وفي الأيام القليلة الماضية طرأ تحول جديد على الساحة، بالتحول اللافت للنظر الذي طرأ على "ولاية سيناء"، وهم مجموعات جهادية قديمة التواجد ولم يكن لها اتصال لا بفكر ولا تنظيم "الدولة الإسلامية" كما ظهر في العراق والشام، ثم بدأ التحول في خطابهم تدريجيا نحو هذا الفكر في إصداراتهم الإعلامية حيث وُصِف الإخوان المسلمون وبعض رموزهم بالمرتدين، ثم انتقل هذا إلى التصرف العملي بإجراءات مثل فرض النقاب والتعدي على الأقباط في سيناء ما دفع إلى نزوح بعض الأسر من هناك، وهو الأمر الذي عملت عليه الآلة الإعلامية مع النسيان التام لآلاف الأسر المهجرة من رفح!
وهكذا يكون التحول قد اكتمل نحو صورة تنظيم الدولة الإسلامية كما هو في العراق والشام، وهو ما يتجلَّى في صورة تكررت كثيرا من اختراق الحركات الجهادية وتحولها نحو خدمة أهداف العاملين على الساحة، فمنذ الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر مرورا بالعراق ثم بالعراق وسوريا، تحولت الطاقة الجهادية بعد الاختراق الاستخباري إلى أداة تنفيذية في رسم الخرائط الجديدة. ذلك أن تحول الطاقة الجهادية من حركة مقاومة استبداد أو احتلال إلى حركة إقامة ولاية تمارس أحكام الإمارة والإمامة كان دائما اللحظة التي يتحول فيها اتجاه الحركة من العدو المباشر إلى الأمة، ويجري التغطية على سائر الإشكالات الشرعية التي تشترط وجود تمكن قبل إجراء هذه الأحكام، بل حتى حين يوجد التمكن فلا بد في تطبيق هذا من التدرج. كذلك فإن مسألة إقامة الدولة من الأمور التي شهدت مراجعات قوية لدى منظري الحركات الجهادية، مع اتضاح عبء إدارة الشأن المدني مع إدارة المعركة العسكرية، وهي مراجعات مشهورة.
تكرار هذه التجربة بحذافيرها يحمل على التنبه لهذا العنصر الاختراقي، الذي يبدو أنه وصل إلى "ولاية سيناء"، وهو العنصر الذي سيعمل عمله نحو تصفية الحاضنة الشعبية، ومضاعفة الغلو، والذي سيترافق مع توسيع الهيمنة العسكرية والأمنية الإسرائيلية المباشرة والعلنية، فيكون هذا هو الحجر الأخير أو قبل الأخير في إعادة الاجتياح الإسرائيلي لسيناء مرة أخرى. وساعتئذ ستجد إسرائيل مضيقا خالصا لها في خليج العقبة، وتجد عازلا مائيا مضاعفا عند قناة السويس، فيكتمل بهذا مشروع السيسي ونظامه العسكري عبر مساعدة مهمة قدمتها له "ولاية سيناء"!
لقد سجل التاريخ أسماء كثيرة قدَّمت خدمات عظمى لقيام إسرائيل، طائفة كبيرة منهم محسوبين على العرب والمسلمين من الحكام والساسة والعسكر، إلا أن السيسي سيحظى إلى جوارهم بمكانة متميزة، فإنه قد غيَّر الخريطة الجغرافية لصالح حماية إسرائيل، وتغيير الجغرافيا هذا عملٌ تهلك أجيال قبل أن تتمكن من تصحيحه.
سيكتب التاريخ أن العسكر المصري كان أهم وسيلة لإقامة إسرائيل وتوسعها، منذ اللحظة التي دخل فيها الجنرال الإنجليزي ألنبي إلى القدس مع قوة عسكرية مصرية، إلى لحظة الفشل والهزيمة المرّة واعتقال المجاهدين في نكبة 48، إلى لحظة النكبة العظمى 1967 والتي توسعت فيها إسرائيل بأضعاف مساحتها في ساعات، إلى لحظة التطبيع وتسليم مفاتيح البلاد لإسرائيل، إلى لحظة السيسي وعمله الدائب في التمكين للهمينة الإسرائيلية.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية


راجع:ماذا تعرف عن أخطار وأضرار قناة السويسقناة السويس، وهل تضحي مصر بنفسها لمصلحة الأجانبماذا قال المؤرخون الغربيون عن قناة السويسفصل من قصتنا مع الشرعية الدولية في قناة السويس راجع مقال: قصة النفوذ الأجنبي في مصر الجزء الأول، الجزء الثاني إيرا م. لابيدوس، تاريخ المجتمعات الإسلامية، ترجمة: فاضل جكتر، (بيروت: دار الكتاب العربي، 2011م)، 2/859. تقرير محمد أبو سعدة، اجتماع العقبة السري: لماذا الإعلان الآن؟ ، المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، بتاريخ 26 فبراير 2017م.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 02, 2017 22:29

March 1, 2017

في هجاء الوطن

الحرية أم الوطن؟!
في الحلقتيْن اللتيْن أذيعتا من البرنامج المتميز كلام كبير، تردد النقاش حول هذا المعنى: لو كان الخيار بين الحرية والوطن، ماذا تختار؟!
اختار بعضهم الوطن..
الحقيقة أن بعض الأمور الأساسية لا أتقبل فيها الخلاف، أجد نفسي مندفعا لاحتقار من يُقدِّم الوطن على الحرية.. لكنني أعود وأجد لبعضهم بعض العذر، ذلك أن التشوه الذي لحق بالعقول والنفوس عبر المائتي سنة الماضية صار بحجم الوباء العميق المنتشر!
وباء لم يضرب فقط العقول، بل ضرب النفوس.. فصار الذل مقبولا لا باعتباره اضطرارا بل لأنه "خيار صحيح"، ثم لا تزال آلة التشوه تعمل عملها في النفوس حتى تتقبله النفوس باعتباره "الوطنية" والخيار الأمثل!
إن ترك الوطن والعيش بالحرية هو اختيار البشر مؤمنهم وكافرهم.. والناس يختارون أن يكونوا لاجئين فيتركون البيوت والأوطان والأهل والذكريات والأعمال والأموال إذا كان البديل هو السجن والقتل!
وهو اختيار الشرع أيضا.. كما في آيات وأحاديث كثيرة:
(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض. قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها).
وقد قامت حضارتنا الإسلامية كلها الدولة المسلمة التي بدأت بالهجرة..
واختار عمر -ووافقه الصحابة- تاريخ الهجرة تحديدا ليكون تقويم الإسلام.. لحظة أن تركوا الوطن والبيت والمال وهاجروا حيث يمتلكون حريتهم ويقيمون دينهم!
ماذا نفعل بالوطن حين يكون سجنا وقتلا؟!
حتى الفلسفة المادية العلمانية التي لا تؤمن بالسماء ولا تبحث إلا عن المنفعة واللذة الأرضية تقيم أساس الدولة على كونها الوضع الأفضل للناس، يتخلون لها عن قدر بسيط من حريتهم في مقابل أن يتمتعوا معا بالوضع الأنسب لهم جميعا..
إن القبول بهذه النظم المستبدة لا ينسجم لا مع شرع الله، ولا حتى مع شرع العلمانية.. وتلك الأنظمة في بلادنا لا يؤيدها إلا أسافل العلمانيين وأنجاسهم قاطبة.. حتى إن العلماني العربي الحريص على صورته ووجاهته ومكانته أمام أصدقائه العلمانيين حول العالم لا يتورط في دعم ومساندة هذه الأنظمة ونفاقها!
زوال هذه الأنظمة خير من بقائها..
ولو عادت البلاد إلى البدائية الأولى بغير سلطة، يعيش فيها الناس الحرية التي كانت للبدائيين الأولين، لكان خيرا لهم وللجميع من أن تكون البلاد سجنا كبيرا يُدار بأحدث أنماط التكنولوجيا التي يُستعبد فيها البشر وتُجرى عليهم التجارب الجسدية والنفسية لقهرهم والتحكم فيهم والسيطرة عليهم.
والكاذب الجاهل هو من يتخيل أن مآسينا بدأت بالثورات.. بل الواقع أن مآسينا بلغت هذا الحد الشديد التكلفة لأنها تأخرت عن وقتها عقودا طويلة حتى استبدت الأنظمة بالشعوب واتسع الفارق بين الطرفين في القوة، فصارت السلطة تمتلك القوة الهائلة الجارفة بينما الشعوب محرومة منها، ثم رسخت لنفسها عبر التعليم والإعلام وعلماء السوء بما جعل الثورة عليها عملا ينافي الدين أو الوطنية أو العقل.
وهذه الكلفة العالية سنبذلها لا محالة.. وقد كنا نبذلها على الحقيقة لكن بالقطارة، فلما اشتعلت معركة الشعب مع السلطة صرنا نبذلها بالجملة.. وهذه سنة التحرر!
هذه سنة التحرر التي تكبدتها كل الأمم التي صارت الآن قوية ناهضة، وتعزز قوتها بما تمتصه من دمائنا وثرواتنا ولهذا فإنها تدعم عملاءها عندنا لأنهم خط الدفاع الأول عنها، والقيد الأول الأشد الذي يكبل إرادة هذه الأمة.
ربما أتفهم من يعارضون الثورة لحسابات المصلحة والمفسدة وتوازن القوى، أتفهم موقف هؤلاء مع يقيني الكامل بفساد حسبتهم للمصالح والمفاسد، لأنها حسبة تنظر تحت الأقدام ولا تقيس أثر الاستبداد على مستوى السنين والعقود..
أما الذين أكاد أحتقرهم تماما فأولئك الذين يعارضون الثورة من منطلق مبدئي أخلاقي.. هؤلاء هم "المتحولون" أو "المسخ" الذين أنتجتهم السلطات المجرمة فصاروا جنودا لها وهم لا يشعرون! فالمؤسف أن بعضهم صادق النية، يحسبون أنهم يُحسنون صنعا!
هؤلاء الذين يعارضون المقاومة، ينادون بالاستسلام، يقدِّمون الوطن (السجن) على الحرية! مثلهم كمثل الذي يمنع إعطاء المريض الدواء المرّ، يشفق عليه بالتضحية به، يُمَكِّن للسرطان من جسده كي لا يتألم في لحظة بتر!
وصدق شوقي حين مدح النبي فقال:
الحرب في حق لديك شريعة .. ومن السموم الناقعات دواء
ثم ما الوطن؟ وما قيمة الوطن كله؟!
الوطن هو الناس والبشر.. لا الحجر ولا الشجر ولا المباني.. فمهما تضخمت المباني على حساب تعاسة الناس فلا بأس بهدم المباني إن كان في هذا سعادة الناس.. وأسوياء الناس يفضلون حياة السعادة مع المشقة على حياة البؤس والقهر ولو مع الرفاهية والترف. وعن أولئك قالت ميسون بنت بحدل:
ولبس عباءة وتقر عيني .. أحب إلي من لبس الشفوفوأكل كسيرة في كسر بيتي .. أحب إلي من أكل الرغيف
فكيف إذا كان "الوطن" و"الدولة" لا تعني في الحقيقة إلا أولئك المجرمين السفاحين العملاء الممسكين بالسلطة.. لا هم منا ولا نحن منهم، فلا نأكل كما يأكلون ولا نلبس كما يلبسون ولا نتعلم كما يتعلمون، بل ولا ندين الدين الذين يدينون.. ولا نحن وضعناهم في السلطة ولا فوضناهم في أمورنا، ولا هم يحبوننا ولا يعملون لصالحنا.. نبغضهم ويبغضوننا ونلعنهم ويلعنوننا، ولا يشبعون من نهب أموالنا وشرب دمائنا ولا يترددون في قتلنا!
هذا والله "وطن" زواله خير من بقائه.. و"دولة" عدمها خير من وجودها.. وصدق أحمد مطر حين أحال هذا المعنى شعرا فقال:
نموت كي يحيا الوطن
يحيا لمن؟
لابن زنى، يهتكه .. ثم يقاضيه الثمن؟!
لمن؟ لإثنين وعشرين وباء مزمناً
لمن؟ لإثنين وعشرين لقيطاً
يتهمون الله بالكفر وإشعال الفتن
ويختمون بيته بالشمع
حتى يرعوي عن غيه
ويطلب الغفران من عند الوثن؟!
تف على هذا الوطن!
وألف تف مرة أخرى!
على هذا الوطن
من بعدنا يبقى التراب والعفن
نحن الوطن!
من بعدنا تبقى الدواب والدمن
نحن الوطن!
إن لم يكن بنا كريماً آمناً
ولم يكن محترماً
ولم يكن حُراً

فلا عشنا.. ولا عاش الوطن!
نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 01, 2017 09:05

February 24, 2017

موجز قصة النفوذ الأجنبي في مصر (2)

نزل الإنجليز إلى مصر ببوارجهم وجيوشهم لمنع سقوط نظام أسرة محمد علي، وهو النظام الذي أسس للأجانب على نحو ما رأينا في المقال الماضي، وبدأت بهذا لحظة جديدة اتحد فيها الاستبداد الداخلي مع النفوذ الاحتلال الخارجي، وبهذا صار الخطر مضاعفا على مصر وأهلها، كما صار التحدي مضاعفا على حركات الكفاح والمقاومة.
استمر الاحتلال الإنجليزي لمصر سبعين سنة، أعيد فيها قلب المجتمع المصري ليخرج من نظامه الإسلامي إلى نظام غربي محض، جرى ذلك عبر السيطرة على الاقتصاد، والمؤسسات الإدارية، والهيئات الاجتماعية، ونظام التعليم ومناهجه الدراسية، ونخبة الإعلام والصحافة، والهيمنة على الحالة السياسية، ويفتخر اللورد كرومر –المندوب السامي للإنجليز في مصر، والذي قضى ربع قرن- بإنجازه هذا التحويل في كتابه "مصر الحديثة"، لقد كانت سنوات الاحتلال الإنجليزي تغييرا شاملا في مصر ونظامها وهي السنوات التي انخلعت فيها مصر تماما من النظام الإسلامي ودخلت بكليتها في النظام الغربي، وهنا نعني النظام لا الجماهير التي ظلت وفية لدينها وجذورها، وبدأ في تلك السنين السبعين التشوه الكبير لدى النخبة الممزقة –كما وصفها كرومر نفسه- بين أصولها وجذورها الشرقية وبين ما اعتنقته من الأفكار الغربية، بداية من القومية والإقليمية (في مقابل الانتماء الإسلامي) مرورا بالأفكار الممثلة للانحيازات الحضارية، وانتهاء بالملابس التي أزيحت فيها العمامة والحجاب لحساب البذلة الإفرنجية والطربوش والسفور.
وفي هذه السنين السبعين جرت الأهوال العظام، ومنها الحربان العالميتان، والتي أسفرت أولاهما عن سقوط الخلافة، وأسفرت ثانيتهما عن تبدل موازين الامبراطوريات في الشرق والغرب، فغربت شمس الإنجليز والفرنسيين لتشرق شمس الأمريكان والروس، وكانت حركة الانقلابات العسكرية في الشرق من وسائل المستعمرين الجدد لطرد المستعمرين القدامي، وانتقلت مصر من حكم الإنجليز والملكية إلى حكم الأمريكان والعسكر. ومنذ تلك اللحظة بدأت مرحلة جديدة في اتحاد الاحتلال مع الاستبداد، فالمستبد هنا يعيش في حماية الاحتلال، والاحتلال هو من يحفظ نظام المستبد ويدعمه علانية.
لا يختلف المؤرخون الآن عن العلاقات الأمريكية المبكرة بعبد الناصر، وقد صارت وثائق تلك الفترة منشورة، وهي العلاقة التي شلت يد الإنجليز عن التحرك لمواجهة الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الناصر والذي استهدف به استباق الثورة الشعبية التي تتوقعها وثائق المخابرات الأمريكية، ليكون هذا الانقلاب هو عملية الإجهاض للثورة الشعبية المرتقبةثم لم يكن مبارك إلا موظفا، فهو شخصية بلا زعامة ولا طموح ولا مشروع سياسي، فعمل كموظف برتبة رئيس في ظل منظومة ورثها، ثم لم يلبث الحال أن حُسِم نهائيا في نهاية العقد الأول من حكمه بانهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الأمريكان بقيادة العالم، فتعزز وترسخ النفوذ الأمريكي والإسرائيلي في مصر طوال سنواته الثلاثين التي كانت تشهد تدهورا سريعا لثقل مصر السياسي والاقتصادي والعلمي، حتى شهد آخره إعلان الحرب على غزة من القاهرة، فكان مبارك كما وصفته أصوات إسرائيلية بأنه "الكنز الاستراتيجي لإسرائيل".
وظيفة الجيش المصري
والآن يحكم مصر عبد الفتاح السيسي الذي هو الثمرة الكاملة لكامب ديفيد، فهو من جيل العسكريين الذين دخلوا إلى الجيش بعد هذه الاتفاقية، حيث السيطرة الأمريكية التامة على الجيش المصري وتسليحه وتدريبه، بل وعلى فكره وروحه وثقافته، ونستطيع أن نسوق على هذا الكثير من "الاعترافات" المصورة بهذه الحقيقة لقادة الجيوش المصري والأمريكي والإسرائيلي أيضا، وإن متابعة بسيطة للتصريحات الإسرائيلية السياسية أو ما يتردد في الصحافة الإسرائيلية تقطع بأن إسرائيل تعيش مع نظام السيسي واقعا لم تكن تحلم به، على كل حال سأكتفي هنا بأربعة تصريحات فقط كاشفة لدور ووظيفة الجيش المصري:
1. تصريح آن باترسون بعد الانقلاب العسكري بأن هناك جيلا من العسكر المصريين تشربوا الثقافة الأمريكية ولا ينبغي قطع المعونات عنهم كي لا يتكرر ما حدث عندما قطعت المعونات عن العسكر الباكستان فاضطروا للتعامل مع السوفيت فنشأ فيهم جيل أقرب إلى الروس من الأمريكان2. تصريح رئيس الأركان الأمريكي الجنرال ديمبسي "تجربتي الشخصية تعود إلى وقت قيادتي للمنطقة المركزية الأمريكية في 2008 وأستطيع أن أقول لكم إن القوات المسلحة المصرية شريك قوى جدا لأمريكا وأن مصر دولة رئيسية جدا فى المنطقة ونحن نتمتع بمرور تفضيلي فى السويس وتحليق ديناميكي كذلك، وهم ملتزمون تجاه اتفاقيات كامب ديفيد، والجيش الصهيوني يعتبر الجيش المصرى شريكا قويا، فى تجربتي الشخصية التي استمرت 5 سنوات: إنهم يستحقون الاستثمار بأموال المعونة الأمريكية"3. تصريح رعنان جيسين –مستشار شارون، والمتحدث الأسبق باسم الحكومة الإسرائيلية– وهو مندهش، يبدي ندمه على أنه حين كان يفاوض على الانسحاب من سيناء أصرَّ ألا يكون فيها قوات للجيش المصري، بل يبقى البدو والجِمال فقط.. هو الآن يقول: "يا إلهي، لو عادت بي الأيام لقلت: خذوا البدو والجمال واتركوا لنا الجيش المصري"4. تصريح اللواء محمد العصار، وهو الآن وزير التصنيع الحربي، الذي يفتخر فيه بأن الجيش المصري جزء من الأمن القومي الأمريكي، يقول: "تعلمون أن علاقاتنا استراتيجية وقوية جدا، وقد بدأت بتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل 1979، وبالنسبة للعلاقات العسكرية بين الجيشين لدينا علاقة رائعة، ونحن نعتبرها عمود وحجر زاوية بين أمريكا ومصر... ونحن أيضا فخورون بأن نكون عنصرا هاما للأمن القومي الأمريكي، ونحن فخورون بأهمية مساهماتنا للبعد الاستراتيجي لمصالح أمريكا"التحدي المضاعف
لقد أثمرت الثورة الصناعية وما ألقت به من ثورات المواصلات والاتصالات على هذا التقارب الذي وصل إلى حد الاتحاد بين الاحتلال الخارجي والاستبداد الداخلي، وهو الأمر الذي تعاني منه الشعوب الإسلامية منذ بداية التاريخ الحديث الذي بدأ في مصر مع محمد علي.
منذ ذلك التاريخ فشلت الثورات المصرية الثلاثة لأسباب مختلفة، فثورة عرابي التي كادت تقضي على الاستبداد سبق إليها الاحتلال، وثورة 1919 احتواها الاحتلال الإنجليزي عبر تنصيب الزعامات الزائفة التي أدخلت بركان الثورة في ثلاجة القانون والمفاوضات حتى انتهت، ثم استبق الاحتلال ثورة شعبية في 1952 بانقلاب عسكري مدعوم أمريكيا فذهبت أحلام الثورة وبدأ عصر أشد استبدادا من كل العصور السابقة، وفي ثورة 2011 انقلب الاحتلال الخارجي عبر أذرعه الإقليمية الخليجية والمحلية العسكرية على الثورة في 3 يوليو 2013، وبدأ في مصر عصر جديد من التوحش.
لم تنته الثورة المصرية بعد، لكنها تعاني أزمات خانقة، أكبرها هو افتقادها للقيادة، والاحتلال الفكري والنفسي لقيادات جماعة الإخوان المسلمين الذين عمل النافذون فيهم على إجهاض حركة المقاومة الطبيعية الفطرية للانقلاب العسكري فوفروا له وللاحتلال من الخارج ما لم يكن ممكنا لهم أن يفعلوه وحدهم بحال. فالثورة الآن تشبه خزان البنزين الذي ينتظر من يشعله ويفجره بعد الأوضاع القاسية التي وُضِع فيها المصريون إن على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الديني.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

انظر التفاصيل في: محمد جلال كشك، ثورة يوليو الأمريكية، ط2 (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1988م)، ص77 وما بعدها. جلسة استماع، الكونجرس الأمريكي، بتاريخ 19 سبتمبر 2013م. جلسة إعادة تنصيبه بمجلس الشيوخ الأمريكي، بتاريخ 18 يوليو 2013. لم أهتد إلى تاريخه بالضبط، وهذا هو رابط الفيديو حوار أمام معهد السلام الأمريكي بتاريخ 25 يوليو 2011.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 24, 2017 08:58

February 22, 2017

الشيخ عمر عبد الرحمن

انتهت قبل يومين مأساة رجل عاش نحو ربع القرن في سجن انفرادي.. أمرٌ مجرد تصوره وتخيّله يصيب بالكآبة والألم، فكيف يا تُرى كان واقع المأساة نفسها؟!
مات الشيخ عمر عبد الرحمن، في سجنه الانفرادي الأمريكي، هناك حيث اجتمعت عليه أنواع المعاناة: السجن، الظلم، الغربة، الإهانة والإذلال، وانعدام النصير!
يستطيع روائي موهوب أن يحوِّل المأساة إلى عمل روائي ملحمي كبير، فما أغزر ما فيها من صور ومشاعر ومواقف وفصول، إلا أنني هنا سأكتفي بالتركيز على أربعة معانٍ فحسب.
(1) أمةٌ كالغيث
"أنا لا يرهبني السجن ولا الإعدام، ولا أفرح بالعفو أو البراءة، ولا أحزن حين يُحكم عليّ بالقتل، فهي شهادة في سبيل الله، وعندئذ أقول: فزت ورب الكعبة".
تلك الكلمات التي تبعث في الذاكرة قول الشافعي:أنا إن عشتُ لستُ أعدم قوتا .. وإن أنا متُّ لستُ أعدم قبراهمّتي همّة الملوك ونفسي .. نفس حرٍّ ترى المذلة كفرا
وتبعث في الذاكرة قول ابن تيمية: "ماذا يفعل أعدائي بي، إن سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة"! وتبعث فيها قول حرام بن ملحان، رضي الله عنه، حين طُعِن من الكفار غدرا فصاح "فُزْتُ وربِّ الكعبة"!
كان عمر عبد الرحمن من أهل الأعذار، عذرهم الله لكن لم يعذروا أنفسهم.. فجاهدوا، وتلك سلسلة نقية تتصل بالشيخ أحمد ياسين، القعيد الذي أسس حركة مقاومة فعلت بإسرائيل ما لم تفعله جيوش العرب أجمعين، وتمتد حتى تنتهي عند عبد الله بن أم مكتوم، الصحابي الأعمى الذي كان يؤذن للناس آذان السحر ثم خرج مجاهدا يحمل اللواء يريد تكثير سواد المسلمين وتثبيتهم!، وعند سيدنا عمرو بن الجموح، الصحابي الأعرج الذي رفض رجاء أولاده ألا يخرج للقتال فصاح فيهم: والله إني لأريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة! وقد كان!
أهل الهمم هؤلاء يثيرون في أهل الصحة شجونا وشؤونا، يثبتون لهم أن مدار الأمر على النفوس والقلوب، على الهمم المشتعلة في الصدور، على الأرواح المحلقة في السماء، على العزائم التي لا تقبل الدنية ولا ترضى بالركون، وهم أصدق من يقال فيهم:على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارموتعظم في عين الصغير صغارها .. وتصغر في عين العظيم العظائم
لَكَم يحتج المرء أمام غيره أو أمام نفسه بقلة الإمكانيات، حتى إذا أتت سيرة هؤلاء العظماء عرف كل إنسان قدره، وحقيقة مرضه وكسله وثقله، ولو بينه وبين نفسه!
(2) الثورة .. قبل الثورة
في أيام الثورة كنت تخال الناس كلهم ثائرين، كلهم يتحدث كأنما أطلق شرارة الثورة، ورفع لواء الثورة ضد الرئيس الحليم (أو الضعيف الذي لم يتمكن) لا يرضى إلا بالمثالية الثورية المستحيلة، حتى إذا جدَّ الجدّ وجاء زمن الدماء والمذابح كان أحسنهم حالا من عاد إلى قواعده في تويتر أو ناضل قانونيا في ساحة "القضاء الشامخ"!
لولا آلة الإعلام الشيطانية القادرة على إزالة الحقائق وتثبيت الأوهام، المتفننة في قلب الحق باطلا والباطل حقا، لولاها ما احتاج الإسلاميون دليلا على ثوريتهم.. كانوا كذلك وقت أن كان مبارك في عنفوانه وذروة سطوته، ولذلك كانوا أول من أُنْزِل السجون وأُسْكِن القبور وطورد في المنافي، وكانوا حينئذ يوصمون بالإرهاب والتطرف، بعض الناس يصفهم بهذا نفاقا للسلطة، وبعضهم يصفهم بهذا ليبرر لنفسه قعوده عن الثورة التي يحاولون إشعالها.
لم يكن عمر عبد الرحمن ولا صحبه إلا ثوارا قبل أن يأتي زمن الثورة، ثوارا لم ينتظروا نزول برادعي أو استجابة عسكر أو تخلي أمريكي عن عميلهم، لربما أخطأوا التدبير ولكنهم كانوا ثوارا لا يختلفون شيئا عن كل الحركات الثورية التي اشتعلت ضد الاحتلال والاستبداد عبر العالم، إنهم الطليعة التي بُنِيَت على جماجمهم وعظامهم ثورة شباب لم يعرفهم.. اختزنت الأيام ما أورثوه من كراهية للظلم والمستبدين حتى اجتمعت الروافد وانفجرت الثورة.
وهكذا، انظر في سائر ساحات الكفاح والمقاومة، هل تجد فيها أعلى صوتا أو أثبت قدما أو أطول نَفَسًا أو أدوم مددا من الإسلاميين؟! هذا وإن أخطأوا التدبير أو أخطأوا التطبيق.
(3) سطوة الأفكار الغالبة
إن الثورة المهزومة لا تُنصَف إلا حين يزول النظام الذي ثارت عليه.. ذلك طبع التاريخ، وذلك ثأره وحجته أيضا!ذلك طبعه، فليس ينبعث التاريخ الحقيقي لثورة مهزومة إلا بزوال الحكم الذي هزمها، ظلَّ عرابي مشتوما ملعونا على لسان الجميع حتى رحل آخر أبناء محمد علي من مصر، ولم تُبعث سير عمر المختار والبشير الإبراهيمي وعبد الكريم الخطابي إلا لما رحل الاحتلال!
وذلك ثأره، فبه ينتقم من الجبابرة والطواغيت الذين أرادوا تزوير التاريخ فإذا به ينقلب عليهم، فيُعظِّم من أرادوا تحقيره ويُحقِّرهم! ويُنصف المظلوم من الظالم ولو بعد حين.
وذلك حجته أيضا، فبهذا نعرف حقيقة أقوام في الماضي والحاضر، ساروا في ركاب السلطة ضد الثورة، نافقوا وتملقوا، فنعرف بهذا أقدار الرجال وحقائق حالهم، وإذا بمن كان يفتخر بأبيه يحاول اليوم أن يداري نسبه إليه، وإذا بمن كان يُخفي نسبه إلى الثائر المهزوم يتفاخر به.
وهذا عمر عبد الرحمن.. تعاطف معه الشباب الذين لم يروه ولم يسمعونه وربما لم يكونوا يعرفون عنه قبل وفاته، وما ذلك إلا لأن الزمن زمن ثورة.. ثورة على أمريكا وعملائها، فكل أسير وقتيل على يد أمريكا لا بد أنه بطل، والعكس بالعكس أيضا!
هذا عمر عبد الرحمن.. قد أقيم له حفل تأبين في اسطنبول فتكلم في تأبينه كل معارض، ولو أنه مات في زمن حسني مبارك لرأيت كثيرا منهم لم يتكلموا في الترحم عليه، أو لعل بعضهم تكلم في الطعن فيه. ولو أنه مات في زمن محمد مرسي لرأيت حفل تأبينه في القاهرة حفلا كبيرا فخما مهيبا مشهودا يجتمع له من العلماء والقادة والشعراء والفصحاء مَنْ بأقطارها.
ومن هنا نعلم أننا إذا أردنا إنصاف الشيخ عمر عبد الرحمن وإخوانه وكل ثائر، فلا بد من انتصار هذه الثورة على هذا النظام، فبانتصارها يُكتب تاريخ الأبطال فلا يُنسى جهادهم ولا تُهضم أقدارهم.
(4) أمريكا تسمح لكم بالعزاء!!
من مآثر ومناقب سيدي الشيخ الكبير الأسير البصير حازم أبو إسماعيل أنه ومن خلال برنامجه التليفزيوني على قناة الناس، وفي عصر حسني مبارك، قدم التعزية لأيمن الظواهري -نائب زعيم تنظيم القاعدة وقتها- في وفاة والدته..
لم يكن الأمر شجاعة فقط.. بل كان حرصا منه -فك الله أسره، ومتعنا بطول بقائه- على أن يظل المسلم له حق محفوظ عند إخوانه.. حق لا ينزعه منه أن أمريكا تصنفه كإرهابي أو أن نظام بلده العميل يتعامل معه كمجرم!وهذا هو الدرس الأعظم..
أن يظل المسلم مسلما، وأن تظل حقوقه محفوظة مؤداة، وأنه مهما خالفنا بعضهم في فكره أو اجتهاده فلا يعني هذا هضم ما له عندنا..
وذات الكلام يُقال الآن عن الشيخ عمرعبد الرحمن!

إن من يخجل من التعزية فيه والإشادة به والإدانة لظالميه فإنما يهدر حقا لمسلم، ويثبت حقا لأعداء الشعوب في تصنيفهم للناس.. أما الذي يدينه ويشمت به ويتحدث عما يسميه "جرائمه" فلا حرج عليه.. فما على مثله سبيل! رضي بأن يكون مع الكافرين والمنافقين، فهو إن لم يكن منهم، فإنما هو على وشك ذلك.
نشر في مدونات الجزيرة
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 22, 2017 01:39

February 17, 2017

موجز قصة النفوذ الأجنبي في مصر (1)

في مطلع القرن الرابع عشر كلفت البابوية في أوروبا المؤرخ الإيطالي مارينو سانودو تورسيللو كتابة تاريخ للحروب الصليبية استغرق منه عشرين سنة أو يزيد عبر فيها البحر خمس مرات إلى قبرص وأرمينية ورودوس والإسكندرية وأقام طويلا فيها وفي عكا، ثم خرج كتابه في ثلاثة عشر مجلدا، وضع في آخرها خلاصاته وتوصياته وإجابته على سؤال لماذا فشلت الحروب الصليبية، وماذا ينبغي أن تفعل الكنيسة لإعادة احتلال هذه الأراضي، فخلص إلى القول بأن أهم أسباب الفشل كان تركيز الحملات الصليبية على الشام وليس مصر، وذلك أن مصر هي أكبر خزان بشري ظلت قادرة على إمداد الشام بالجيوش طوال الوقت، ومن ثَمَّ قدَّم نصيحته في حال إعادة أوروبا للمحاولة أن تكون مصر هي الأولوية، ثم تنطلق منها الحملات للسيطرة على فلسطين واحتلال بيت المقدسوقد عملت أوروبا بهذه النصيحة في الموجة الثانية للحملات الصليبيةتأسيس النفوذ الأجنبي في مصر
للنفوذ الأجنبي في مصر قصة طويلة حافلة بالتفاصيل المريرة..
يوجد الأجانب في مصر منذ القدم لموقع مصر الجغرافي والتجاري ومركزها العلمي، لا سيما حين صارت عاصمة الخلافة في عصر المماليك عند سقوط الخلافة من بغداد، وقد تحدث جوزيف بتس –الذي زار مصر في نهايات القرن السابع عشر- أن اللغات المستخدمة في مصر لا تقل عن اثنتين وسبعين لغةلقد تولى محمد علي حكم مصر بمساعدة أجنبية حيث نشأت علاقة بينه وبين القنصل الفرنسي في مصر ثم دعمها سفير فرنسا في اسطنبول بضغطه على الخليفة العثماني ليقبل بولاية محمد علي، وهنا بدأت دولة الأجانب، حيث استكثر محمد علي من اليهود والنصارى والأجانب في بلاطه وعليهم قام نظام دولته، وأسدى محمد علي للأجانب خدمات لا تقدر بثمن، ويعتبر هو واضع البذرة الأولى لدولة إسرائيل في سنوات حكمه العشرة للشام بما نفذه من انقلاب الموازين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية بين المسلمين وغيرهم وبين الرعايا والأجانب، فضلا عن ضرباته القوية للدولة العثمانية، وإنشائه دولة على النمط الغربي في مصر والتمكين فيها للنفوذ الأجنبيلم ينته عهد محمد علي إلا وللأجانب اليد العليا في مصر، ولم يبق خلفه إبراهيم باشا بعده إلا شهورا، ثم جاء حفيده عباس الأول فكان يكره الأجانب وحاول موازاة النفوذ الفرنسي بشيء من النفوذ الإنجليزي فلم يلبث أن اغتيل بعد أقل من ست سنوات، وهو الاغتيال المشكوك في ضلوع الأجانب فيه لتمهيد الطريق لخلفه سعيد باشا الذي كان أول حاكم لمصر ينشأ تنشئة أجنبية في رعاية القنصل الفرنسي.
وفي عهد سعيد باشا أخذ النفوذ الأجنبي مساحات جديدة وواسعة وفُتِحت الأبواب أمام حركة التنصير ودعم المدارس والإرساليات التنصيرية في مصر من قبل السلطةولما مات سعيد بعد تسع سنوات خلفه إسماعيل الذي كان مثله في النشأة الأجنبية، فقد تعلم في فرنسا وتحدث الفرنسية كأهلها، وعزم على أن يجعل مصر قطعة من أوروبا، وأسرف على نفسه في القروض الفاحشة الربا حتى انهارت الميزانية المصرية واضطر أن يقبل في وزارته اثنين من الأجانب: إنجليزي وفرنسي يتولى أحدهما المالية والآخر الأشغال فكانا في وزارتهما أعلى سلطة من الخديوي نفسه، كذلك فقد كانت المناصب العليا في دولة إسماعيل –حتى من قبل اختلال ميزانيتها- منصرفة للأجانب، كانت الحملات في السودان والصومال وأوغندا يقودها ضباط إنجليز، بل وتولى الرحالة الإنجليزي صمويل بيكر مسؤولية مديرية خط الاستواء (جنوب السودان الآن) ثم تولى خلفه اللواء غوردون مسؤولية المديرية ثم منصب حاكم عام السودان كله، وكان نوابهم وأركان حربهم من الإنجليز والأمريكان والطليان والألمان والنمساويين وتولى قيادة بعض الحملات فرنسيون ودنماركيون أيضا. وكثيرا ما كان مدراء المدارس الحربية من الفرنسيين، وقد تولى القنصل الفرنسي منزنجر باشا مديرية مصوع (إريتريا الآن) ثم وسَّع الخديوي صلاحياته حتى صار محافظا لسواحل البحر الأحمر ومديرا لشرقي السودان وقاد جيشا من الجيوش المصرية على الحبشة. وكانت تستطيع إنجلترا أن تعترض على حملة عسكرية تفتح بعض المناطق وتضمها إلى مصر فترجع الحملة من فورها ويذهب ما أنفق فيها هباء منثورا، ثم لما احتلت إنجلترا مصر لم تتكلف سوى إصدار الأمر لهذه الفرق الموجودة بالسودان والحبشة بالتخلي عن مواقعها والانسحاب منها فينسحبون دون اعتراض أو عصيان. فضلا عن أن مساعدة الجيش المصري للإنجليز في حروبهم حاضرة بغير تردد كما جرى في حرب الإنجليز مع الحبشة (1867 – 1868م)وطوال أسرة محمد علي تطورت الأوضاع القانونية والاقتصادية لتصب في مصلحة الأجانب، فالمحاكم القنصلية ثم المحاكم المختلطة –وهو نظام شنيع لا يُعرف له مثيل في التاريخ- انتزعت كثيرا من أموال مصر وثرواتها وأراضيها ومبانيها لتحكم بها لمصلحة الأجانب، كذلك فقد كان إسراف السلطة على نفسها بالربا والزخارف ينزع كثيرا من الأموال من يد المصريين ليجعلها في صفقات تعقد مع الأجانب لبناء أو تزيين أو تأثيث تلك القصور والحفلات، مما جعل الشحاذ المتسول في أوروبا إن نزل إلى مصر اغتنى سريعا وصار من الأثرياء الكبار، بينما ازداد المصريون فقرا وقهرا وذلاما إن بدت في الأفق نذر ثورة مصرية قادها أحمد عرابي واحتواها المجتمع المدني المصري ممثلا في قياداته آنذاك كجمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم ومشايخ الأزهر وكبار التجار، إلا وكان الأجانب يسرعون لتنفيس هذه الثورة واحتوائها، فعزلوا إسماعيل عن منصبه وأعطوا السلطة لتوفيق الذي حاول وأد الثورة فازدادت حدة وارتفاعا وكادت تطيح بنظام محمد علي كله بدعم من السلطان عبد الحميد الثاني، فاتفقت الدول الأجنبية في مؤتمر الآستانة على التدخل العسكري في مصر إن لزم الأمر، وهو ما كان معناه إعطاء التفويض للإنجليز بالسيطرة على مصر، وذلك الذي كان، ونزلت القوات الأجنبية لتحفظ النظام الذي يبيض ذهبا للأجانب.
في هذه اللحظة اتحد الاستبداد الداخلي بالاحتلال الخارجي، ليبدأ فصل جديد في قصة النفوذ الأجنبي في مصر، نرصده إن شاء الله في المقال القادم.

نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
عباس مصطفى عمار، سيناء: المدخل الشرقي لمصر، ط2 (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يوليو 2014م)، ص10 (مقدمة وليد نويهض). والجزء الأخير من كتاب المؤرخ الإيطالي ترجمه إلى العربية الأب سليم رزق الله بعنوان "كتاب الأسرار في استرجاع الأراضي المقدسة والحفاظ عليها"، وصدر في بيروت عن مؤسسة الريحاني عام 1991م. يقسم بعض الباحثين موجات الحملات الصليبية إلى ثلاث موجات كبرى؛ فالأولى هي التي بدأت باحتلال بيت المقدس وانتهت في عهد المماليك، والثانية هي الاستعمار الحديث الذي بدأ بالحملة الفرنسية على مصر وانتهى بتحرر الدول العربية من الاستعمار في منتصف القرن العشرين، والثالثة هي التي بدأت بالغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق ولا تزال مستمرة. جوزيف بتس (الحاج يوسف)، رحلة جوزيف بتس إلى مصر ومكة والمدينة المنورة، ترجمة ودراسة: د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1995م)، ص34. الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، (بيروت: دار الجيل، بدون تاريخ)، 1/ 461. انظر التفاصيل في: محمد إلهامي، التأسيس للنفوذ الأجنبي في بيت المقدس في عهد محمد علي باشا الكبير، ورقة بحثية في المؤتمر الأكاديمي السادس عشر "العثمانيون وبيت المقدس"، ديسمبر 2016م. للمزيد، راجع: محمد إلهامي، من سعيد باشا إلى عبد الفتاح السيسي ، مقال منشور بالمعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، بتاريخ 22 يناير 2017م. لتفصيل قصة قناة السويس، انظر: محمد إلهامي، في أروقة التاريخ، ط1 (القاهرة: دار التقوى، 2017م)، 1/ 249 وما بعدها. ريمون فلاور، مصر من قدوم نابليون حتى رحيل عبد الناصر، ترجمة: سيد أحمد علي الناصري، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2000م)، ص136. انظر التفاصيل في: عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، ط4 (القاهرة: دار المعارف، 1987)، 1/113 وما بعدها. انظر التفاصيل في: عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، مرجع سابق، 2/ 263 وما بعدها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 17, 2017 08:52

February 15, 2017

كلام في الحب وأشعار الغزل

أخبرني صديق جزائري ذات ليلة تناولنا فيها أشعار الغزل عند العرب أنه لما ترجم بعض أبيات شعر إلى الألمانية كادت فتاة ألمانية أن يُغشى عليها لرقة المعنى وعذوبته! وليس هذا بالغريب، فلا ريب أن لغة العرب هي أمتع اللغات، وقد سألت كثيرين ممن يتكلمون العربية ولغة أخرى (كلغات أم) ما إن كان في اللسان الآخر نفس ما يتذوقه العرب من لغتهم فاتفقت إجابتهم أن لا.
قالوا منذ قديم: نزلت الحكمة على لسان العرب..
لذلك كان العرب قوم المعاني البديعة، وكان الشعراء فيهم صفوتهم ونخبتهم، وكانت القبيلة تحتفل إذا نبغ فيها شاعر، وليس من مقام يحققه المرء في العرب قديما فوق أن يكون فارسا شاعرا معا. ولهذا قالوا: المرء بأصغريه: قلبه ولسانه. يشيرون إلى الشجاعة والبلاغة، وليس أدلَّ على رقة إحساس العرب وتأثرهم بالمعنى من إنشائهم أسواق للكلام، وتعظيمهم القصائد الفاخرة بتعليقها على الكعبة. ولهذا جاءهم القرآن فحيَّرهم وأخذ بعقولهم فصار الذي يريد الكفر يجتهد ألا يسمع القرآن وألا يدع أحدا يسمعه.
(راجع: لماذا لا نشعر بجمال القرآن)
والشاعر في حضارتنا العربية ليس مجرد رجل يجيد صناعة الكلام، بل هو الآن بمثابة الجهاز الإعلامي أو القناة الفضائية، إنه صاحب العقل الذي يُحسن الأخذ والرد، ويطلع على علوم زمنه وأحوال السياسة فيتخذ من كل هذا أدوات له في سبك المعاني، ولا يُشتهر الشاعر لمجرد قدرته على صناعة الوزن، بل لقدرته على صوغ المعنى العالي في الكلام الموزون، ويا ويل من يُتهم بالسرقة، لا سرقة الأبيات والقصائد –كما في عصر الظلام الذي نحن فيه- بل بسرقة المعنى والفكرة وإن أنتجها في وزن آخر.
وكان الحب أشهر ما تنافس فيه شعراء العرب وتفننوا في وصف معانيه، بل به تبدأ القصائد، وعامة الأطلال التي بكاها شعراء العرب كانت ديار المحبوب، كما قال شاعرهم:
أمرُّ على الديار ديار ليلى .. فألثم ذا الجدار وذا الجداراوما حب الديار شغفن قلبي .. ولكن حب من سكن الديارا
وبالعموم، فما أحسب الذي يتذوق أشعار العرب في الغزل إلا أحد اثنين، إن كان عاشقا فقرأها أصابه الجنون، وإن عافاه الله وقرأها أصابته رقة وذوق ولطف شفيف. وفي مذهبي ألا يتعرض من ليست عنده زوجته لشعر الغزل أو لأدب الحب، فإن ذلك أمر شديد لا يكاد يقدر عليه أحد
(1) المعاني العالية
روى قيس كيف دافعت ليلى العامرية عن نفسها لما رأى كفها مخضَّبا باحمرار، فعاتبها لأنها نسيته وتزينت بعد الفراق بالحناء، فكان دفاعها هكذا:
ولما تلاقينا على سفح رامة .. وجدت بنان العامرية أحمرافقلتُ: خَضَبْتِ الكفَّ بعد فراقنا؟ .. فقالت: معاذ الله، ذلك ما جرىولكني لما رأيتك راحلا .. ذرفتُ دما بَلَلْتُ به الثرىمسحتُ بأطراف البنان مدامعي .. فصار خَضابا في اليدين كما ترى
ووصف أبو صخر، شاعر هذيل، حالته حين يلقى محبوبته التي عزم على هجرها بقوله:
أما والذي أضحك وأبكى والذي .. أمات وأحيا والذي أمره الأمرُلقد كنتُ آتيها وفي النفس هجرها .. بتاتا لأُخْرى الدهر، ما طلع الفجرُفما هو إلا أن أراها فجاءة .. فأبهتُ، لا عُرْفٌ لدي ولا نُكروأنسى الذي قد كنتُ فيه هجرتها .. كما قد تُنَسِّي عقلَ شاربها الخمرُوإني لتعروني لذاكراكِ هزٌّة .. كما انتفض العصفور بلَّله القَطْر
وأخبر عنترة عبلة بقدرها في نفسه فقال:
أحبُّك يا ظلومُ وأنتِ منِّي .. مكان الروح مِنْ نَفْسِ الجبانولو أني أقول مكان روحي .. لَخِفْتُ عليك بادرة الطِّعان
ولشاعر آخر حين يغلبه الشوق حيلة أخرى، سجلها في قوله:
وإني لأهوى النوم في غير حينه .. لعل لقاءً في المنام يكونتحدثني الأحلام أني أراكمُ .. فيا ليت أحلام المنام يقين
وقال شوقي في بيت ما أروعه:مولاي، وروحي في يده .. قد ضَيَّعَها، سَلِمَتْ يدُه
(2) حب الملوك والفقهاء
وشارك في هذا الموكب الطويل الملوك والوزراء والفقهاء والصوفية، واشتهر بعضهم بحبه وشعره، فخليفة مثل الحكم المستنصر يُنشد في جاريته صبح هذا الشعر:
عجِبْتُ وقد ودَّعتها كيف لم أمت .. وكيف انثنت -بعد الوداع- يدي معيفيا مُقْلتي العبرى عليها اسكبي دما .. ويا كبدي الحرَّى عليها تقطَّعي
وإذا ذُكِر الوزراء، ذُكِر ابن الخطيب، صاحب البيت العجيب في مدح العيون:كل السيوف قواطع إن جُرِّدَت .. وحُسام لحظِك قاطع في غمده
وأما الفقهاء فكثيرون، لا تتسع المساحة سوى لنقل مثال واحد للقاضي عبد الوهاب المالكي الذي ألَّف صورة يجتمع فيها الحب بالفقه، فقال:
ونائمةٍ قبَّلتُها، فَتَنَبَّهَتْ .. فقالت: تعالوا، واطلبوا اللصَّ بالحدِّفقلت لها: إني –فَدَيْتُك- "غاصبٌ" .. وما حكموا في غاصب بسوى الردِّخذيها وكُفِّي عن أثيم ظلامة .. وإن أنتِ لم ترضي فألفٌ على العدِّفقالت: قصاصٌ يشهد الله أنه .. على كبد الجاني ألذُّ من الشهد
والمعنى أنه اختلس قبلة منها، فنادت على الناس ليعاقبوه، فأخبرها –وهو الفقيه- بأن جريمته ليست إلا "الغصب"، وحكم الشرع فيها أن يرد الغاصب ما أخذه، وهو مستعد أن يرد ما أخذه ولو ألف ضعف حتى ترضى، فقالت: هذا قصاص ألذ على الجاني من العسل.
عد واقرأها مرة أخرى، وينبغي التنبيه على أن هذه الصور مؤلفة من الخيال وليست حقيقية، فتلك هي عادة الشعر والشعراء (يقولون ما لا يفعلون)
(4) الحب والأخلاق
لقد مدح العلماء والحكماء الحبَّ لما فيه من رقة النفس ولطف الطبع وحسن التهذب، فقالوا في هذا:إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى .. فكن حجرا من جانب الصخر جلمدا
ومدحوه لما يكون فيه من الترقِّي بالأخلاق والتحلِّي بالمكارم، فالعاشق حريص على أن يثير إعجاب من يُحب، فقالوا:فيهتزّ للمعروف في طلب العُلى .. لِتُحمَد دومًا عند ليلى شمائلُه
وللمرء أن يفتخر بنفسه إن اجتمع فيه الحب والعفة، كما افتخر شاعرهم:أخلو به فأعِفّ عنه تكرُّمًا .. خوفَ الديانة، لستُ من عشّاقِهكالماء في يد صائم يلتذّه .. ظمئا فيصبر عن لذيذ مذاقه
وشبيه بذلك قول الشاعر:أُنَزِّه في روض المحاسن مُقْلَتي .. وأمنع نفسي أن تنال محرَّما وأحمل من ثِقْل الهوى ما لو انّه .. يُصَبّ على الصخر الأصمّ تهدّما
ولم يُمدح الحب لما قد يكون فيه من سوء الأخلاق والانحلال والغدر والخداع، اللهم إلا المنحلين والفاسقين الذين ملكوا وسائل الإعلام ومنافذ الثقافة في عصور الظلام التي نحياها الآن، منذ نزل بلادنا الاحتلال ثم حَكَمَنا عملاؤه من بعده، فأفسدوا الدين والأخلاق، وكان من بين ما أفسدوه: معنى الحب!
(5) أعلى مراتب الحب
لما آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار، قال سعد بن الربيع الأنصاري لأخيه عبد الرحمن بن عوف المهاجري: وإن لي زوجتان، انظر أيهما أحب إليك، أطلقها فتتزوجها!
وانتزع حنظلة بن أبي عامر نفسه من أحضان عروسه بعد ليلة زفافهما حين سمع نداء الجهاد في أحد، فنال الشهادة، فكان من كرامة الله له أن غسَّلته الملائكة، فعُرف بلقبه "غسيل الملائكة".

وقيل للقعقاع الأوسي: شوِّقنا إلى الجنة، فقال: فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 15, 2017 09:02

February 8, 2017

لماذا لا نشعر بجمال القرآن

أستأذن القراء في التوقف مؤقتا عن سلسلة "مكتبة الثائرالمصري" المستمرة منذ بدأت الكتابة في مدونات الجزيرة.. أحيانا بعض الخواطر تلحُّ إلى درجة لا يملك منها الكاتب فكاكا..
(1)كان شيخ العربية في زماننا أبو فهر محمود شاكر يصر على أن الإعجاز الأساسي للقرآن هو في بلاغته، فبها تحدى العرب فأعجزهم وحيَّرهم وتركهم بلا حيلة أمام بيانه، هذا وهم أهل البلاغة والفصاحة.. وقد أطال في شرح هذه الفكرة في مقدمته لكتاب "الظاهرة القرآنية" لمالك بن نبي، ولكنه كان يشرح فكرته كما يشرحها المبهور العاجز عن بيان أسباب انبهاره، لا شك مرت عليك هذه اللحظات، الفكرة تملأ روحك وتتدفق في صدرك ولكن لسانك لا يستطيع تصويرها لمن تخاطبهم.
وقد وصل أبو فهر في طريقته هذه إلى أننا لن نشعر بجمال القرآن إلا إذا درسنا الشعر الجاهلي وفهمناه وهضمناه، فعندئذ سنشعر بجلال القرآن وسمو عبارته، ثم وصل إلى فكرة لا أعرف أحدا طرحها من قبله، وهي أن نعلم الطفل أشعار الجاهليين أولا قبل القرآن، حتى إذا تعلم القرآن ذاق حلاوته!
نحن لا نناقش الآن مدى صواب أو خطأ هذه الفكرة.. إنما نشير إليها فحسب..
ليس القرآن مجموعة أفكار.. القرآن فوق كونه حقا يُنشيء حالة نفسية في قارئه، وإدمان تلاوة القرآن تصنع ذائقة فكرية وشعورية يميز الإنسان بها بين الحق والباطل حتى وإن لم يتمكن من التعبير عنهاإننا نفقد الشعور بالقرآن لأننا فقدنا الشعور باللغة.. تماما مثلما لا نشعر بلذة الشعر المترجم عن الإنجليزية والفرنسية والهندية وغيرها.. يبدو لنا الشعر المترجم ككلام متكلف ومعاني عسيرة!
(2)ربما مرَّت علي أيام أكثرت فيها من قراءة الشعر والأدب حتى ليشعر المرء أحيانا أن موسيقى الشعر حاضرة في ذهنه عميقة في روحه.. تلك هي الأيام التي أشعر فيها إذا قرأت القرآن بأن له طعما مختلفا.. وهو أمر لا يمكن وصفه، إذ كيف يوصف طعم لمن لم يذقه، وكيف توصف لذة لمن لا يعرفها؟!
وكنت إذا ارتقيت المنبر فخطبت في الناس فتلوت آية، وجدت لها طعما عجيبا، كمن يبحث عن شيء فيلقاه فجأة بين يديه، كمن يتعطش لوصف معنى يتحير فيه فإذا بالآية ترويه وتغذيه وتشبعه وتمتعه..
وذات ليلة كنت أقرأ في سورة النجم، فنسيت نفسي، فأخذت آياتها الأخيرة ذات الإيقاع القصير السريع تهبط بي وتصعد، حتى جاء قول الله (فاسجدوا لله واعبدوا) فوجدتني أسجد بلا تفكير.. في سجودي هذا تذكرت أن النبي لما قرأ هذه الآيات على ملأ من قريش سجدوا من فورهم، فأشيع لهذا أنهم أسلموا.. حينها فقط فهمت سجودهم وتأثرهم!
)أرجو أن تفتح المصحف، وتجرب)
وحينئذ فهمت خطتهم التي شعارها "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون"، وكيف أن عبد الله بن مسعود حين كان يُسْمِعهم القرآنَ كان يُعرضهم لحالة عنيفة من الأزمة، تماما كما تخلص قوم ثمود من الناقة المعجزة.. لم يتحملوا أن يروا المعجزة التي تثبت لهم صدق النبي وخطأهم فذبحوها!!
في مثل هذه المواقف أتفهم أكثر نظرية أبي فهر.. وفي هذه المواقف أتحسر على ضياع ذائقة اللغة أكثر.. وعندها يقع قلبي كلما تذكرت أجيالنا التي تدرس في المدارس الأجنبية فتكاد الصلة أن تنقطع بينها وبين القرآن الكريم..
(3)وضعت كتب كثيرة في بلاغة القرآن، لكن غالبيتها لم تعد تناسب القارئ المعاصر، إما لأنها كُتِبَت في الأصل لعلماء البلاغة وأهل اللغة، وإما لأنها كُتِبَت في الزمن الماضي فلم تعد لغتها ولا أساليبها في التصوير تناسب حال العصر الآن..
ولذا لا أجد من بين هذه الكتب أنسب لأهل عصرنا الآن من كتب الشهيد سيد قطب، مثل "التصوير الفني في القرآن" وهو فتح في بابه، لم يكتب مثله قبله على كثرة ما كُتِب في الموضوع، وتلك هي نظريته التي بنى عليها تفسيره "في ظلال القرآن" في طبعته الأولى، قبل أن يزيدها قيمة وجمالا وحياة وقوة بما أضاف إليها بعد رسوخه في الفكر الإسلامي من أفكار. ثم إنه استلَّ من هذه النظرية كتابه الآخر "مشاهد القيامة في القرآن الكريم"!
لذلك لم يكن إقبال المسلمين على كتاب "الظلال" من فراغ، كيف وهو الكتاب الذي كُتِبت كثير من فصوله في السجن، ثم تعقَّب النظام صاحبه حتى قتله، ثم تعقَّب الكتاب حتى ينهيه، حتى لقد حدثني أحد مشايخ الإخوان الكبار قديما أنهم لما خشوا على "الظلال" من الضياع كلَّفوا بعضهم بحفظه، وقد كان في بلدتي بالصعيد من كان يحفظه، فكان إذا سرد شيئا منه في الخطبة اهتز الناس من فرط التأثر بكلامه!
جرب أن تقرأ "في ظلال القرآن" لتشعر بالفارق في استشعار لذته ونعيمه!
(4)
هل يمكن أن تصف جدارا آيلا للسقوط كهذا الوصف "جدارا يريد أن ينقضَّ"؟!
هل تجد وصفا لمن يعود باكيا خيرا من "تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا"؟!
هل تجد وصفا لقوم انسحبوا من المجموع ليتشاوروا معا أقصر من "خَلَصوا نَجِيَّا"؟!
هل تجد تعبيرا عن طلوع الصبح أجمل وأرق وألطف من "والصبح إذا تنَفَّس"؟! أو تعبيرا عن تسلل الليل أحلى وأدق من "والليل إذا عسعس"؟!
جرِّب أن تصف عاقبة قوم لم يتعلموا من أخبار التاريخ بأحسن من "ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مُزْدَجَر، حكمةٌ بالغة فما تُغْنِ النُّذُر"..
جرب أن تنطق عن ناصح لم يستجب له قومه بأحكم من "يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين"؟!
جرب أن تعبر عن العلم والقدرة والهيمنة بأفضل من "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس، إلا في كتاب مبين"..
جرب أن تصف صورة الرجل الأشيب بأكثر من "واشتعل الرأس شيبا".. كأنك ترى صورة اشتعال التهب في الرأس ثم تركها بيضاء!
(5)ليس القرآن مجموعة أفكار.. القرآن فوق كونه حقا يُنشيء حالة نفسية في قارئه، وإدمان تلاوة القرآن تصنع ذائقة فكرية وشعورية يميز الإنسان بها بين الحق والباطل حتى وإن لم يتمكن من التعبير عنها..
القرآن ينزعك من همومك اليومية وتفاصيلك الصغيرة ليضعك في صورة الحقائق الكبرى، صورة الكون والناس والخلق، معركة الحق والباطل المستمرة منذ آدم والممتدة في نهر الزمان مع كل نبي والتي لا تزال فصولها تتجدد وتتكرر.. فتجد أنك صرت أوسع صدرا وأهدأ نفسا وأرحب فكرا وأطول صبرا!
نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 08, 2017 15:04