محمد إلهامي's Blog, page 35

February 3, 2017

خلافة على منهاج الاتحاد الأوروبي!

من الفوارق المهمة بين النموذج الحضاري الإسلامي والنموذج الغربي أن الأول مُسْتَكمِلٌ لبنيانه النظري وله لحظته النماذجية المتحققة في التاريخ وهي زمن النبوة والخلافة الراشدة المحددة في الأحاديث الصحيحة بثلاثين سنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وسائر ما صنعه المسلمون ويصنعونه حتى الآن من نظريات سياسية أو تطبيقات عملية إنما هي "اجتهاد" في الفهم والتفريع واستيعاب المسائل المستحدثة، أو "اجتهاد" في التطبيق والتنزيل. ولذلك يدور سائر التراث الإسلامي –تنظيرا وتطبيقا- على الاستمداد من القرآن وسنة النبي وسنة الخلفاء الراشدين. بينما النموذج الغربي لافتقاده نصا مقدسا لا يزال يتقلب بين الآراء والأفكار والنظريات التي تصل إلى أن ينقض بعضها بعضا فهو يُطارد نموذجا نظريا مكتملا للفكر كما يطارد نموذجا تطبيقيا نهائيا يسميه "المدينة الفاضلة" أو "نهاية التاريخ"وقد تبدت ملامح النظام السياسي للدولة الإسلامي قبل قيامها، فقد نزلت سورة الشورى بمكة، ونزلت فيها البشارة للمؤمنين بقرب قيام الدولة الإسلامية المرجوة، وذلك في قوله تعالى {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 38، 39]، ففي الآية رسم لمجتمع يقيم الصلاة ويدير نظامه بالشورى ويدفع أصحاب الرزق شيئا من أموالهم، ثم هو مجتمع يستطيع أن ينتصر لنفسه إذا أصابه ظلم. وهو الأمر الذي يُمثِّل حلما يطوف بخيال المؤمنين الذين منعهم الله من رد الاعتداء الواقع عليهم بمكة. ويظهر أن الآية رسمت تاريخ تطور الدولة الإسلامية، فلقد كان بناء المسجد أول شيء فعله النبي حال وصوله المدينة، ثم صار النبي يدير شأن الأمة بالشورى رغم اتصاله بالوحي قبل أن تُفرض الزكاة في العام الثاني للهجرة، وهو العام الذي نزل الإذن بالقتال. لكن ما يهمنا هنا أكثر هو هذا التحديد المبكر لملامح النظام الإسلامي في حرصه على العبادة وكون نظامه يُدار بالشورى وله سياسة مالية وعنده القوة القادرة على الردع والردّ ضد التهديدات الخارجية.
ثم تطور الحال مع قيام الدولة، ونزلت التشريعات التفصيلية، وصارت الآيات تُفَصِّل في شأن المجتمع ونظامه، كما في قول الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 58، 59]. ففي هذه الآية رسم أوضح تفصيلا، إذ يُرى فيها:
1. أن المسلمين صاروا في "جماعة" لها "نظام"، تنزل عليه الأوامر، وله مرجعية عليا، وله أولي أمر، ثم له جهة لفض المنازعات. ومن لطيف ما يُستدل به هنا ما قاله ابن تيمية من أن انتفاء النظام من سمت الجاهلية، "فأهل الجاهلية لم يكن لهم رأس يجمعهم، والنبي صلى الله عليه وسلم دائما يأمر بإقامة رأس، حتى أمر بذلك في السفر إذا كانوا ثلاثة، فأمر بالإمارة في أقل عدد وأقصر اجتماع"2. وأن نظامهم يمارس الحكم والسيادة لا على المسلمين فقط بل على "الناس"، فحكمهم هذا يستوعب ويشمل الملل والنحل والطوائف والأديان المخالفة، ومع هذا فهو مأمور بإقامة العدل لهم.
3. وأن "أولي الأمر" في هذا النظام جماعة وليس فردا، وإلا قال "وولي الأمر منكم"، وهو ما يقتضي تعدد السلطات وتوزيعها، وألا ينفرد واحد بالأمر من دون المسلمين.
4. وأن المسلمين مأمورون بالطاعة ما دام أولي الأمر لم يخالفوا القرآن والسنة، فطاعة أولي الأمر مشروطة بلزومهم المنهج، وأن التنازع بين المسلمين وبين أولي الأمر فيهم وارد، وأن جهة فض التنازع إنما تكون بمرجعية القرآن والسنة. وهكذا، ظهر من نصوص القرآن وسيرة النبي (طوال عشر سنوات في المدينة) وسنة الخلفاء الراشدين (طوال ثلاثين سنة) نظام حقيقي انتقلت به أمة العرب من الجاهلية إلى الحضارة، ثم تأسست به حضارة زاهرة ظلت في موقع الصدارة أكثر من ألف سنة، فنظام الخلافة هو من أبرز حقائق التاريخلم تزل الخلافة عن المسلمين إلا قبل تسعين عاما فقط، لا كما يحاول البعض تصوير هذا النظام وكأنه نظام سحيق عتيق تجاوزه العصر وانتهى الأمر، بل من الغريب أن صار بعضهم يتصور استحالة إحياء نظام الخلافة مرة أخرى، رغم أنه النظام الذي أجمع عليه المسلمون، فليس في مذاهب المسلمين من لم يُوجب نصب الخليفة، ومن اقترح صيغا أخرى –كالسنهوري في فقه الخلافة- إنما جعلها ضرورة واعترف بأن ما يطرحه عن عصبة الأمم الإسلامية إنما هو حكومة إسلامية "ناقصة" للعجز عن إقامة الكاملة، حتى فوجئنا في الأعوام الأخيرة من يؤصل لأن الخلافة يمكن أن تكون على طريقة الاتحاد الأوروبي!
ربما يتفهم المرء وبكثير من الصعوبة أن يخرج هذا الكلام من سياسي إسلامي يسير على جمر العلاقات والتوازنات، أو من شيخ في فتوى مخصوصة اضطرته إليها ظروف إقامته أو محاضرته في بلد ما، أما أن يُقال هذا الكلام على سبيل التأصيل الفقهي وفي غير موطن اضطرار مخصوص فهذا هو الشذوذ نفسه، ليس شذوذا عن فقه الأمة وحده بل شذوذ عن مسار التاريخ.
فأما الفقه فقد اضطرد في أقوال العلماء ضرورة وجود الإمامة، وأنها "من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها"وأما التاريخ فكيف يُقارن نظام دام ثلاثة عشر قرنا ونصف القرن بنظام جاوز بالكاد نصف القرن، ثم هو مضطرب على أهله أيضا ويُصَوِّت بعض أطرافه بالانفصال عنه، ويهدد بعضهم بعدم تمويل بعض مشاريعه، ولئن كان مفهوما أن يصل الأوروبيون إلى هذا المستوى من التعاون والتنسيق –لا الوحدة- وهم الذين أهلكتهم حروب القرون الوسطى ثم التنافس الاستعماري ثم حربين عالميتين، فليس من المفهوم إطلاقا أن يكون هذا المستوى هو أمل من حققوا الأمة الواحدة بالمعنى الكامل للكلمة فكان لهم خليفة واحد في المدينة أو في دمشق أو في بغداد يحكم سائر المسلمين شرقا وغربا، فيرى أنه مسؤول عنهم ويرون أنهم مسؤولون منه، ويكون استقلال أي طرف عنه بمثابة الانحراف عن الأصل فهو دليل على ضعف النظام وانهيار الوحدة.
لم تكن قدوتنا ولن تكون في نسخة حضارية طرحها الشرق أو الغرب، بل لدينا نموذجنا الذي تحقق فعلا في دولة المدينة في عصر الخلافة الراشدة، وكوننا ملزمين بالاقتداء بهذا النموذج يدفعنا دائما إلى العودة إليه كما كان وبأدق صورة ممكنة، ولا نجاوز شيئا كان فيه إلا لضرورة يقتضيها الواقع تقدر بقدرها.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية 

للمزيد، راجع: قيمة ومعنى وجود نموذج سياسي إسلامي. ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط1 (الرياض: جامعة الإمام، 1986)، 1/557. راجع: هل تجاوز الواقع تراث الفقه السياسي ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ط1 (الرياض: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، 1998)، ص129. محمد رشيد رضا، الخلافة، مجلة المنار، المجلد 24، شعبان 1341هـ.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 03, 2017 14:42

February 1, 2017

كيف تحول المصري الطبيعي إلى "عسكر"

هذه هي الحلقة الثالثة من الكتاب الخامس في "مكتبةالثائر المصري" (راجع الأولى، الثانية)، حيث نواصل فهم نشأة ووظيفة الجيش المصري الذي أنشأه محمد علي، واستعبد له الناس وسحقهم وأذلهم، ثم أنشأ مؤسسات الدولة لخدمة الجيش، وأما الشعب فكان يراهم مجموعة من البهائم والمتخلفين. لقد نجح محمد علي أن يختطف من بين الشعب شريحة يحولهم من أفراد طبيعيين إلى جنود عبر رحلة من تغيير حياتهم وأفكارهم بالتعذيب والقهر والضبط حتى ينفصلوا عن شعبهم، ثم يستخدمهم في قهر الشعب وضبطه والسيطرة عليه، وهو ما سنقرأ هنا خلاصة مكثفة لقصته المريرة.
خلاصات الكتاب:
21. بذلت السلطة كل وسعها في منع التهرب من التجنيد أو الهروب منه، فألزمت كل من ينتقل بين قرية وأخرى أن يحمل بطاقة شخصية فيها اسمه وقريته وصفاته الجسمانية، وإذا وُجِد فلاح بغير التذكرة يُعاد إلى قريته فورا، وأُلزم مشايخ القرى بحمل هذه البطاقة إذا ذهبوا إلى القاهرة، ثم استحدثت السلطة نظام وشم الجنود بحيث إذا عثر على هارب يُعاد إلى التجنيد، ونظمت قوات خاصة لمراقبة الجنود لمنع هروبهم، وتعاونت مع العربان لتسليمهم من يهرب من قريته أو من المعسكر.
22. لما أدركت سلطة محمد علي أنها لا يمكن أن تعتمد على مشايخ القرى والعُمَد في تجنيد الفلاحين إذ يتواطؤون معهم لتهريبهم وإخفائهم، شرعت في نظام "دفترة الواقع"، وهو أن يكون لديها إحصاء وتعداد لكل شيء، ويكون كل شئ مسجلا في الدفاتر بحيث تسيطر السلطة على البشر، فتعرف عدد من يمكن تجنيدهم، وتكافح المتهربين من التجنيد ثم الهاربين من المعسكرات. وهكذا توفر للسلطة أول تعداد دقيق للمصريين.
23. في هذه اللحظة تحول الإنسان إلى اسم في دفتر، وصارت حياته كلها متعلقة بورقته، فهو بلا وجود في الدولة إلا إذا وُجِد اسمه في دفتر، يُلزم بالتكاليف أو ترفع عنه بحسب وجود اسمه في دفتر أو شطب اسمه من دفتر، فصار الشعب محصورا في دفتر أمام السلطة، وصار الكاتب وظيفة كبرى في دولة الباشا لأنه محور جهاز الدولة، ولما هرب كاتب بدفاتره جُنَّ جنون السلطة وكانت عنايتها العثور على الدفاتر أكثر من عنايتها العثور على الشخص نفسه، ونَظَّمت السلطة دفاترها بحيث تكون مسلسلة مرقمة ولا يسمح فيها بكشط أو شطب أو ترك صحفات بيضاء فارغة.
24. لقد نجح محمد علي في تكوين جيش مصري على النمط الحديث، ذلك النمط الذي لا يعتمد على شجاعة المقاتل وذكائه أو على "فن القتال" المعتمد على الموهبة الشخصية، وإنما على الدقة والنظام والتراتبية الجندية والتخطيط بناء على "علم الحرب"، وبهذا تحققت انتصارات الباشا العسكرية المشهورة، ولكن السؤال: كيف أمكن لسلطة الباشا تحويل الفلاحين إلى جنود طيِّعين منقادين ملتزمين بالنظام المفروض عليهم؟
الإجابة: لم يكن هذا بالعقاب العنيف القاسي وحده، وإنما باتخاذ الأساليب التي ابتكرتها السلطة الحديثة في احتلال العقول والأفكار، لقد عمدت السلطة الحديثة إلى السيطرة على الناس لا بمجرد العقوبة أو التعذيب البدني، وإنما بأنماط من التحكم في النفس والعقل من خلال "تنظيم المجال المادي" و"إنتاج المعنى" كما بيَّن ذلك ميشيل فوكو في أعماله خصوصا "المراقبة والمعاقبة" وجاك دريدا، وقد أوضح تيموثي ميتشيل في كتابه "استعمار مصر" كيف طبَّق الباشا عبر مستشاريه الأجانب هذه الوسائل على المصريين.
(لمزيد توضيح وضرب أمثلة انظر: هنا ÙˆÙ‡Ù†Ø§)
25. أول هذه الأساليب هي "الاعتقال" حيث اتخذت التدابير القاسية لعزل المجندين عزلا تاما عن حياتهم المدنية، ليكون دخولهم إلى الجندية فاصلا جذريا ورهيبا بين حياتيْن، وبعدما سُمِح في البداية أن ينتقل أهل المخطوف للتجنيد أن يأتوا معه ساكنين أكواخا خارج المعسكر عادت السلطة فمنعت هذا ونفذت عزلا تاما ونهائيا للمجندين عن المدنيين، وعومل المجندون كالمعتقلين في معسكرات اعتقال.
26. كذلك استخدمت السلطة أسلوب "المراقبة" والمراد منه أن يرسخ في أذهان الجنود أن الهروب أمر مستحيل والتفكير فيه هو النهاية، فمن ذلك أن ضابطا خيَّر ثلاثين من الجنود بين البقاء أو الرحيل من المعسكر، فلما اختاروا الرحيل أطلق عليهم النار وذبح معظمهم. ومن ذلك ابتكار طريقة "كشف التمام" الذي جرى تفعليه مرتين في اليوم، فمن لم يوجد يُعتبر فارا ثم تُطبَّق عليه عقوبة الهارب. ومن ذلك فكرة "البطاقة" التي يجب أن يحملها كل عسكري بما فيهم كبار الضباط، وإلا عوقب كهارب، وهي بطاقة لا تُعطى إلا بإذن السلطة. وهكذا تعاونت الوسيلة العنيفة (العقاب الجسدي) مع الوسيلة الناعمة (أساليب الضبط والنظام) في السيطرة على عقول الجنود وإقناعهم أنهم مراقبون ولا حل أمامهم إلا السمع والطاعة.
27. كان العقاب الجسدي ينفذ أمام الناس في دولة محمد علي، وكان يُقصد به فوق ردع الناس تثبت مركز السلطة وتعظيم وجودها، وقد عوقب جندي فقد دلو ماء بخمسين جلدة أمام زملائه، وكانت هذه الخمسون جلدة عقابا في ستة وعشرين مادة من خمسة وخمسين من قانون الفلاحة، وقتل محمد علي ثلاثة وعلقهم على أحد أبواب القاهرة وعلى جثامينهم لافتة "هذا جزاء من لا يمسكون ألسنتهم"، وكان الجزار الذي يزيد سعر اللحم تُقطع أنفه وتُعلَّق أمام الجميع ويربط بها قطعة لحم، ويوضع بائع الكنافة إذا غش في الوزن أو السعر فوق مقلاة الكنافة وهي فوق النار، وشُنِقت النساء المتهمات بمساعدة رجالهن على تشويه أنفسهم للتهرب من الجندية بالشنق في مدخل القرية [وهي عقوبة عظيمة على نفوس مجتمع يصون النساء]، وأمر بشنق بعض الكهول والمُقْعدين على مداخل القرى لإنهاء ثورة الصعيد (1824م) ليكونوا ردعا خصوصا وأنهم بلا فائدة للباشا لكونهم لا يستطيعون العمل!
28. كان السجن في دولة الباشا للانتقام والنفي لا للإصلاح، فلا يشترط في السجن أن يكون مناسبا بل سُجِّلت حالات ارتفاع الوفاة بين المسجونين مما استدعى تحقيقا ذات مرة، وكان المسجون تحت سلطة الباشا يُستعمل في أي شيء تريده السلطة، حتى إنه أحيانا أجرى عليهم تجارب طبية كنقل العدوى من أشخاص مصابين، وكان كثير من المساجين لم يخرقوا أي قانون وإنما قرر الباشا سجنهم، وبالمثل فللباشا الإفراج عنهم بمجرد العفو دون أي اعتبار آخر.
وكان السجن الرئيس هو ليمان الإسكندرية، ومع أن كلمة ليمان تعني بالتركية ميناء، إلا أنها تحولت في اللغة المصرية إلى معنى "السجن"، وهذا دليل كافٍ على انطباع صورة السجن في العقلية المصرية.
29. أما العقوبات العسكرية فكانت على العكس، لا تستهدف الانتقام من المذنب بل إخضاعه للنظام، وغرس اليقين فيه أنه لن تمضي جريمة بلا عقاب، كان المطلوب إخضاع الجميع لنظام عسكري صارم يتحول إلى عادة وتقليد مهيمن على الجميع، مهيمن على نفوسهم وعقولهم كطريقة حياة لا لمجرد خوفهم من العقاب الجسدي، فالخوف وحده ليس كافيا في تحقيق الضبط اللازم.

إلى هنا انتهت المساحة المخصصة ونواصل في المقال القادم إن شاء الله.
نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 01, 2017 14:56

صدور كتابي الجديد "في أروقة التاريخ" (1)


أنعم الله على عبده الفقير بصدور هذا الكتاب الجديد "في أروقة التاريخ".وهو مجموعة من بحوث تاريخية ألقيتها في مؤتمرات علمية أو ندوات أو فعاليات ثقافية، أو بحوثا طُبِعت ضمن أعمال بحثية أوسع ضمن لمراكز دراسات، بالإضافة إلى مقالات مجموعة في موضوع بعينه، بعضها نُشِر وبعضها لم ير النور بعد.وهو بهذا الكتاب التاسع ضمن ما صدر لي من كتب، كلها تمنيت لو زدت فيها ونقصت، ولكن -ولله وحده الحمد- ليس فيها ما أتراجع عنه أو أتبرأ منه.أسأل الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به من قرأه ومن كتبه.الكتاب من إصدار Ø¯Ø§Ø± التقوى للطبع والنشر والتوزيع، وتجدونه في جناحها بمعرض كتاب القاهرة.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 01, 2017 00:45

January 30, 2017

السلطان المسلم الذي أبهر الغربيين

ذكرنا في المقالالماضيأن شخصية صلاح الدين تفردت رغم تعدد الحملات الصليبية وطول فترتها الزمنية وكثرة من شاركوا فيها من الطرفين، وقد بلغ الثناء على شخصيته حدا جعله واحدا ممن يفيض الغربيون بالثناء عليه، وقد اخترنا سبعة فقط من وجوه إعجاب الغربيين به، بدأنا في المقال الماضي، ونواصلها اليوم بتوفيق الله.
3. حسن السياسة واتساع النفوذ
لما أرخ أولج فولكف للقاهرة جاء على ذكر صلاح الدين، فوصفه بهذه الكلمات: "كان سياسيا محنكا ذو رأي صائب. وتمتع بمقدرة على انتقاد مستشاريه والإصغاء إليهم، وهي مقدرة هامة لأي ملك، كما تميز بالصدق في وسط كانت تسممه الخديعة، وبالتسامح إلا فيما يتعلق بسيادة العقيدة. وقد خاض غمار الحروب طيلة حياته رغم رقة بنيته. واتصفت أخلاقه بالشهامة والفروسية وكانت تملؤه روح العطف والحب مما أثر في أفكاره وأفعاله. كان دؤوبا على عمله، بسيطا في حياته، عميقا في إيمانه حتى مثَّل بحق الصورة المثالية لفارس عربي"وقد أثمر هذا كله –كما يقول المستشرق الألماني الشهير كارل بروكلمان- أن "وُفِّق صلاح الدين بعزيمته الراسخة وموهبته الدبلوماسية النادرة إلى أن يثب من غمرة هذا الوضع الحرج الدقيق إلى قمة من القوة والسلطان لم ينته إلى مثلها أحد من أمراء الإسلام منذ عهد طويل"هذه القمة من القوة يصفها ستانلي لين بول في قوله: "لقد تجمعت كل قوى العالم المسيحي في الحرب الصليبية الثالثة، ولكنها لم تستطع أن تنال من قوة صلاح الدين وسلطانه، ولما انتهت حروب السنوات الخمس وخفت محنها ومصائبها لم يكن لصلاح الدين منافس يحكم الأقطار التي تقع بين جبال كردستان وصحراء ليبيا. وكان ملك جورجيا وكاثوليك أرمينيا وسلطان قونية وإمبراطور القسطنطينية –وكلهم وراء الحدود- يخطبون وده ويتوقون إلى محالفته"، ولهذا وصفه بأنه "بطل الإسلام العظيم" وأن ما فعله "جعل اسم صلاح الدين يتردد على كل لسان حتى في أوروبا نفسها"4. التسامح الديني
يسوق توماس أرنولد عصر صلاح الدين وخلفائه كدليل على ما تمتع به النصارى من تسامح في البلاد الإسلامية، يقول: "في عهد صلاح الدين الأيوبي في مصر تمتع المسيحيون بالسعادة إلى حد كبير في ظل ذلك الحاكم، الذي عرف بالتسامح الديني، فقد خففت الضرائب التي كانت فرضت عليهم، وزال بعضها جملة، وملئوا الوظائف العامة؛ كوزراء، وكتاب، وصيارفة. وفي عهد خلفاء صلاح الدين نعموا بمثل هذا التسامح والرعاية قرابة قرن من الزمان، ولم يكن هناك ما يشكون منه إلا ما اتصف به كهنتهم أنفسهم من الفساد والانحطاط، فقد فشت السيمونية بينهم، فبيعت مناصب القسيسين الذين اتصفوا بالجهل والرذيلة، على حين حيل بين الذين طلبوا التعيين وبين هذا المنصب المقدس؛ بعجزهم عن أداء الأموال المطلوبة في احتقار وازدراء، مع أنهم كانوا الجديرين بشغل هذا المنصب"5. رعاية العلم والعلماء
لقد سبق تحرير صلاح الدين لبيت المقدس تحريره لمصر من الحكم العبيدي (الفاطمي) الباطني، كان تحرير بيت المقدس بالسيف والسنان وكان تحرير مصر بالعلم والبيان واللسان، ولهذا فقد أثار صلاح الدين نشاطا علميا وتعليميا واسعا في مصر للقضاء على الفكر الإسماعيلي الباطني.
يقول كارل بروكلمان: "لم يستطع أعداؤه أنفسهم إلا الإقرار لهم بالشهامة والنبل في معاملة الخصم المغلوب. ليس هذا فحسب، فقد كان صلاح الدين بالإضافة إلى ذلك كله نصيرا للعلم، ولقد وُفِّق إلى نفر من العلماء حفظوا جميله له"ويقول المستشرق الأمريكي لبناني الأصل فيليب حتي في كتابه الموجز عن تاريخ العرب: "لم يكن صلاح الدين بطلا وحاميا للسنة فقط بل كان منشطا للعلم والعلماء مشجعا للدراسات الدينية ومصلحا اجتماعيا واقتصاديا، فلقد أنشأ المدارس والمساجد وابتنى السدود واحتفر الأقنية... وصلاح الدين عند العرب في مصاف هارون الرشيد وبيبرس وفي مقدمة من تهواهم مخيلات الشعب عامته وخاصته إلى يومنا هذا. أما في أووربا فلقد أطنب في ذكراه المنشدون في العصور الوسطى وحاكاهم في ذلك الروائيون العصريون. وهو لا يرزال يعتبر حتى اليوم مثال الفروسية الكاملة"6. الإدارة والعمران
يشهد مؤرخ القاهرة المستشرق الفرنسي جاستون فييت أن القاهرة لم يبدأ مجدها إلا بصلاح الدين، يقول: "كانت مدينة ابن طولون [القطائع] مسكنا للأمير؛ ويمكن إطلاق هذا التعبير ذاته على قاهرة الفاطميين. ولم يصبح لمصر عاصمة حقيقية إلا بوصول صلاح الدين. فمجد القاهرة –دون التقليل من عمل الفاطميين- يبدأ من عصر الأيوبيين"، ويضيف: "ما زالت القلعة شاهدا على عظمة عصر صلاح الدين، رغم أن السلطان لم يسكنها أبدا. وهي تقدم دليلا ملموسا على شخصية فذة، ورجل سابق لزمانه، وأرقى من معاصريه، سواء في ذلك إخوانه في الدين أو أعداؤه، الذين رأوا فيه إنسانا يغلب عليه الاعتدال وشعور الولاء، مبرأ تماما من الأنانية والدوافع الشخصية –وبعبارة مختصرة- رجلا فذا"وما قاله جاستون فييت مختصرا، فصَّل فيه ستانلي لين بول الذي قرر أن صلاح الدين كان أكثر عمارة في مصر والقاهرة من كافة الحكام الذين سبقوه، يقول: "وعلى الرغم من أن مدة إقامة صلاح الدين الأيوبي لم تطل في القاهرة، لم يترك أحد ممن سبقوه من الحكام فيها مثل ما خلف من الآثار الخالدة. فإليه يرجع الفضل في اتساع الحاضرة، وتنسيق هندستها التي كانت تفخر بها إلى عهد قريب؛ فالقلعة وهي أبرز معالمها من إنشائه، والمدرسة التي بناها هي أكثر عمائرها ذيوعا وشهرة، وكل هذه التغييرات تمت بفضل توجيهاته. ولما غادر صلاح الدين القاهرة بعد أن مكث فيها ثماني سنوات، ظل يبعث في طلب إمدادات منها بمعاونته في حروبه السنوية، وقد ترك بها من القواد والأقارب من قام بإتمام ما بدأه من أعمال، كان بعضها من أجل الدفاع عن البلاد وبعضها في سبيل الدين. فأما الأعمال الدفاعية، فقد تجلت في إنشاء القلعة والسور وجسر النيل، وكلها من الأعمال المستحدثة التي لم يسبقه إليها أحد، إذ أن الحكام الذين جاءوا قبله جعلوا هدفهم بناء مبان حكومية أو ضواح ملكية، كل يبعد عن سابقه نحو نصف ميل إلى الجهة الشمالية الشرقية من المدينة، حتى إن القاهرة الفاطمية نفسها لم تكن تشمل سوى قصور الخلفاء والموظفين ولم تكن حاضرة للبلاد المصرية. أما صلاح الدين فكان أول من وضع بإحكام تصميم شامل لحاضرة عظيمة، إذ أنه بدلا من أن يحذو حذو من سبقوه من الحكام ويقيم ضاحية جديدة كما أقام أسلافه، عقد العزم على توحيد جميع الأحياء الآهلة بالسكان وإحاطتها بسور عظيم وتتويجها بقلعة منيعة"بقي الوجه الأهم والأوسع والأشهر الذي أثار إعجاب المستشرقين والمؤرخين الغربيين من شخصية السلطان الناصر صلاح الدين، ونتناوله في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في ساسة بوست

أولج فولكف، القاهرة: مدينة ألف ليلة وليلة، ترجمة: أحمد صليحة، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1986م)، ص80. كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، ط5 (بيروت: دار العلم للملايين، 1968م)، ص352. ستانلي لين بول، سيرة القاهرة، ترجمة: حسن إبراهيم حسن وآخرون، ط2 (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، بدون تاريخ)، ص158، 159؛ ستانلي لين بول، صلاح الدين، مرجع سابق، ص288. توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام: بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، ترجمة: حسن إبراهيم حسن وآخرون، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1980م)، ص128، 129. كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، مرجع سابق، ص358. فيليب حتي، العرب تاريخ موجز، (بيروت: دار العلم للملايين، 1991م)، ص243. جاستون فييت، القاهرة: مدينة الفن والتجارة، ترجمة: د. مصطفى العبادي، (بيروت: مكتبة لبنان، 1968م)، ص76، 77. ستانلي لين بول، سيرة القاهرة، مرجع سابق، ص159.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 30, 2017 14:52

January 25, 2017

هل تعلم أن الدولة المصرية نشأت لخدمة الجيش؟!

لا زلنا في الكتاب الخامس من سلسلة "مكتبة الثائر المصري"، وهو كتاب "كل رجال الباشا" الذي بدأناه في المقال الماضي، والذي يحكي جانبا مغمورا من تاريخ محمد علي باشا وجيشه الذي تأسس بإذلال المصريين واستعبادهم تحقيقا لمجد شخصي للباشا وأسرته، وهي الأسرة التي حافظ الاحتلال على بقائها ونزل بجيوشه وجنوده للحفاظ على نظامها من السقوط أمام ثورة عرابي، ولم ينسحب المحتل إلا حين نقل السلطة "بسلاسة" منها إلى العسكر.
[راجع خلاصات الكتب السابقة هنـــــــــا]
خلاصات الكتاب:
8. مات أكثر السودانيين الذين جمعتهم حملة الباشا ليكونوا جنودا لظروف النقل العصيبة ولم يبق من عشرين ألفا سيقوا إلا ثلاثة آلاف فقط، وكذلك فتكت الأمراض بالجنود الألبان والترك الذين ظلوا في السودان وبدؤوا في التمرد، فعندئذ قرر محمد علي تجنيد المصريين (الذين كان ينظر إليهم كبهائم ومتخلفين)، وحين وُضِع تصميم الجيش أصر الباشا ألا تتجاوز رتبة المصرية البلوكباشي أي العريف(قائد 25 جنديا)، وكان يعارض زيادة رواتب الجنود ويصرف الزيادة لصف الضابط والضباط فقط.
9. اجتاحت موجة التجنيد البلاد، وبعد عام كان ثلاثون ألفا من المصريين يتدربون كجنود، وقبل أن يكملوا تدريبهم أرسل الباشا فرقة منهم لمواجهة الوهابيين فاستطاعت فرقة من 2500 جندي هزيمة جيش وهابي يبلغ عشرة أضعاف عددهم، وفي أول عرض عسكري للقوات المصرية اصطحب الباشا معه القنصل الإنجليزي والفرنسي وأعجب الجميع بكفاءة المجندين الذين نظموا عرض حرب مصغرة.
10. ظهرت كفاءة القوات أيضا حين فجَّر بعض الجنود الألبان مخزنا للبارود في القلعة فقُتِل أربعة آلاف، فأبدت أورطة من الجنود المصريين كفاءة في احتواء الوضع بسرعة. وكان أهم اختبار لنجاح الباشا في تجنيد المصريين هو ما فعله أولئك الجنود في إخماد ثورة بالصعيد (إبريل 1824) حيث قتل الجنود –وهم من مديريات الصعيد أيضا- أربعة آلاف لإخماد الثورة، ورقَّى الباشا جنديا قتل أباه في المعارك، وأعدم 45 ضابطا رميا بالرصاص بتهمة الانشقاق عن الجيش والانضمام للثورة.
11. بعد هذه الاختبارات الثلاث (حرب الوهابيين، السيطرة على حريق الانفجار، إخماد ثورة الصعيد) ثبت للباشا أنه نجح في صناعة جيش على النمط الحديث لا ولاء له إلا للباشا، وعلى استعداد أن يقتل أهله عند الضرورة، فاستكثر من التجنيد حتى بلغ عدد المجندين 130 ألفا بنسبة 2.6% من عدد السكان، وهي نسبة مرتفعة للغاية تسببت في تدمير العائلات الريفية والحياة القروية.
12. حاول الباشا أن يرغب المصريين في التجنيد، وأرسل لابنه أن يستعمل بعض الوُعَّاظ والفقهاء ليقنعوا الفلاحين بأن الجندية ليست كالسخرة وتذكيرهم بأن الحملة الفرنسية استطاعت تكوين جيش من الأقباط لخدمة عقيدتهم، ولا شك أن المسلمين أقوى إيمانا وحماسا للدفاع عن دينهم من الأقباط.
13. كان واقع التجنيد أن تنزل الفرقة العسكرية على القرية فتقبض عشوائيا على أكبر عدد ممكن من الرجال بلا معايير تتعلق بالسنّ أو الصحة أو الحالة الأسرية، ثم يربط كل ستة أو ثمانية منهم بحبل حول أعناقهم ثم يُساقون إلى مركز التدريب تاركين خلفهم زوجات وأمهات وأطفال محطمين يولولون ويصرخون بلا أمل، وتاركين أرضا ستبور!
14. لم تفلح كل نداءات "الدفاع عن العقيدة" ضد الفرس أو الروس أو اليونانيين، كما يسوِّق الباشا، في دفع أحد إلى التطوع، وربما تسير فصيلة الجند بكل بهرجها من رشيد إلى أسوان بغير أن يستجيب لها متطوع واحد، بل على العكس قاوم المصريون التجنيد بكل الطرق الممكنة.
15. أول طرق المقاومة كان التمرد العام، وقد حدثت ثورتان، في الصعيد حيث ثار 30 ألف شخص هاجموا الموظفين ورفضوا دفع الضرائب وأسروا بعض المديرين، وفي المنوفية اندلعت انتفاضة أقل حجما لكنها كانت من الخطورة بحيث ذهب إليها محمد علي بنفسه على رأس حرس قصره وستة مدافع لإخمادها.
16. وقاوم المصريون التجنيد بالهرب، فقد كانت أنباء فرقة التجنيد تنتشر كالنار في الهشيم، فما إن تقترب من قرية حتى تنطلق موجة من الهاربين يتركون قراهم ومنازلهم في حال مزرية، وعند أواخر الثلاثينات بلغ الحال حد العثور على قرى مهجورة بأكملها. لكن الباشا كلف جهاز الدولة بمطاردة هؤلاء بداية من مشايخ القرى والعربان وحتى مشايخ الحارات في القاهرة بالعثور على هؤلاء "المُتَسَحِّبين" وإعادتهم إلى قراهم، غير أن العدد كان ضخما، وتواطأ بعض مشايخ القرى مع الفلاحين أو قبلوا منهم الرشاوى مقابل عدم تسليمهم، فأصدر الباشا قانونا يعاقب شيخ القرية بالضرب 200 جلدة بالكرباج إن فعل هذا، ويعاقب مأمور المركز إن فعل هذا بالضرب 100 فلقة مع سجنه مدى الحياة، ثم صدر قانون ينص على أنه إذا لم يُعْثَر على "المُتَسَحِّب" بعد أربعة أيام ولم يُبلغ عنه شيخ القرية فإنه يعد بهذا شريكا له فيُعاقب بالقتل صلبا أو شنقا!
17. وحين اكتشف المصريون عدم جدوى التمرد أو الفرار لجأ بعضهم إلى تشويه نفسه ليصير غير صالح للتجنيد، كأن يبتر إصبع السبابة أو يخلع أسنانه الأمامية أو يضع سم الفئران في عينيه ليُصاب بالعمى وهو يرجو أن يكون العمى مؤقتا، فقرر الباشا أن يُعاقب من يثبت عليه هذا بالسجن مدى الحياة وبتجنيد أقاربهم بدلا منهم.
18. كذلك فقد كان بعضهم يقاوم التجنيد بالاشتباك مع الضباط، وإن أفلتوا من فرقة تجنيد فلا يلبث أن يقعوا في فخ فرقة أخرى، وإن فعلوا فهم لا يُعاقبون بالسجن كما يأملون بل بإرسالهم إلى الجيش. وحاول بعضهم الفرار إما في الطريق إلى مراكز التجنيد أو من معسكرات التدريب، وكان الفرار هو المشكلة الأزلية التي عانت منها السلطة إذ كثيرا ما يُكتشف أن عدد من وصلوا لمراكز التدريب أقل من عدد الذين جُمِعوا، فكان الباشا يُكلف المدير (المحافظ) أن "يملأ هذه الفجوات" مع التهديد بالعقاب إن لم يفعل أقصى ما بوسعه.
19. سُجلت كثير من حالات الموت بسبب الكآبة والحزن، أو الموت بالشيخوخة أو بسبب صحي، وقد سجَّل تقرير أن 20 ألفا فقط كانوا لائقين طبيا من بين 48 ألفا جُمِعوا وحُشِد فيهم العُرج والعميان والمُقْعدين بغير تمييز.
20. لكي تُملأ هذه الفجوات من الأعداد الناقصة فإن الحل السريع هو خطف المزيد من الرجال، لكن الحل البطيئ هو تطوير جهاز الدولة بحيث يكون أكثر سيطرة وإحكاما، بداية من نظام شامل للأمن والمراقبة لمنع الهروب أو إعادة الهاربين، وإنشاء مستشفيات ونظام صحي لحل مشكلة غير اللائقين، وتطوير نظام إحصائي دقيق عن كل قرية وسكانها وأوصاف رجالها بحيث لا يؤخذ الشيوخ العجائز أو نحوهم. ومن هنا بدأت "الدولة المصرية"، بدأت كجهاز لخدمة الجيش!

وهذا ما نراه بتفصيل في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 25, 2017 14:45

January 20, 2017

من سعيد باشا إلى عبد الفتاح السيسي

صرح الأنبا مرقس أسقف شبرا الخيمة في حواره مع "اليوم السابع" بتاريخ 14 يناير 2017 أن الشرطة المصرية تدرب شباب الكنيسة على أعمال التأمين! وهو ما يعدُّ تطورا جديدا في العلاقة بين النظام والكنيسة، وتغييرا جديدا يطرأ على خريطة الواقع المصري بين المسلمين والأقباط.
وقبل نحو عام نشر مدير البعثات التنصيرية العالمية للمشيخية البروتستانتية هذا الفيديو الذي يحكي كيف أن فترة السيسي هي الأفضل بالنسبة لهم خلال المائة وخمسين عاما الماضية، ويذكر الأراضي والتسهيلات التي أعطاها لهم نظام السيسي وتشجيعهم على بناء الكنائس والمدارس واستئناف العمل الذي بدأ قبل مائة وخمسين عاما.
لماذا مائة وخمسين عاما بالتحديد؟! هذا هو موضوع مقالنا اليوم!
في مثل هذا اليوم (18 يناير 1863م) توفي سعيد باشا، الحاكم الثالث من سلالة محمد علي باشا، وهي السلالة التي قهرت شعبي مصر والسودان وحكمتهم بالحديد والنار، ثم فتحت للأجانب أبواب البلاد حتى كان الفقير الشريد في أوروبا يهاجر إلى مصر متسولا فيجد أبواب الثراء واسعة بما صار للأجانب من الامتيازات الاقتصادية والاستقلال القانوني، ولذلك ما إن بدا أن حكم أسرة محمد علي سيتزلزل أمام ثورة المصريين التي تزعمها عرابي حتى نزل الاحتلال الإنجليزي بنفسه وبوارجه ليحافظ على حكم الأسرة العلوية، وعاش رجالها تحت ظل الاحتلال قابلين أن يكونوا حكاما بلا سلطة حقيقية، حتى قرر الأجانب التخلي عنهم لصالح حكم العسكر، فسلموا البلاد للعسكر وخرجوا منها بعدما قسَّموها.
كان سعيد باشا أول اختراق أجنبي لمن حكم مصري منذ الفتح الإسلامي، فقد ربَّاه الفرنسيون للصداقة العميقة التي انعقدت بين أبيه محمد علي باشا وأتييه ديليسبس القنصل الفرنسي في مصر، وهو ما كانت له آثاره الخطيرة فيما بعدعلى أن بين السيسي وبين سعيد نسبا آخر، فسعيد هو الذي أعطى امتياز حفر قناة السويس ذلك المشروع الكارثي الذي لا تزال تعاني مصر من نتائجه، ثم أضاف السيسي تفريعة جديدة تجعل الكارثة مضاعفة ويدفع الشعب ثمنها من ماله ودمائه واستقلالهمن أشهر أقوال سعيد باشا: "لم نعلم الشعب؟ لكي يصبح الحكم عليه والتصرف فيه أعسر مما هما عليه؟ دعهم في جهلهم! فالأمة الجاهلة أسلس قيادا في يدي حاكمها"لكن الصورة لا تتضح إلا إذا نظرنا إلى انتشار التعليم الأجنبي التغريبي في مصر، ففي اللحظة التي تنهار فيها المؤسسات التعليمية الحكومية تزداد وتزدهر المؤسسات والمدارس والجامعات الأجنبية، وهو نفس ما فعله سعيد باشا من قبل، فلقد استلم سعيد حكم البلاد بعد اغتيال عباس باشا، وكان عباس يكره الأجانب كراهية عميقة فعمل على إغلاق المدارس التي افتتحها محمد علي والتي كانت من أبواب التغريب وصعود النفوذ الأجنبي، فلما جاء سعيد استمر في إغلاق المدارس الأهلية ولكنه كان في غاية الكرم مع المدارس التنصيرية الأجنبية.
ألغى سعيد ديوان المدارس (وزارة التعليم) وألغى مدرسة المهندسخانة بعدما أرسل ناظرها علي مبارك إلى حملة عسكرية، وألغى المدرسة التي أبقاها سعيد "المفروزة"، ثم أنشأ مدرسة حربية وأعاد فتح المهندسخانة كمدرسة حربية فقد كان "الجيش هوايته"لذلك يتحدث العديد من المنَصِّرين بالثناء الكبير على سعيد الذي تأسست جهودهم في عهده ولولاه لما بلغوا هذا القدر من النفوذمن أوجه الشبه كذلك بين سعيد والسيسي أن كليهما جاء على رغبة الأجانب، وكان كل منهما خلفا لحاكم يهدد المصالح الأجنبية، فقد اشتهر عباس الأول بأنه شديد الكراهية للأجانب وأنه يسعى في التخلص من نفوذهم، وتعددت الأقوال في تفسير هذا، مما أعطى عملية اغتياله في قصره بُعْدًا تآمريا إذ يُشتبه في أن للفرنسيين على الخصوص يدا في هذه العملية لتمهيد الطريق لربيبهم سعيد. وكذلك كان مرسي مثيرا للمخاوف بالنسبة للغرب إن استمر في حكمه لذلك عجَّلت المنظومة الغربية بالانقلاب عليه والإتيان بالسيسي، وهو واحد من الطبقة العسكرية المصرية التي تشربت الثقافة الأمريكية كما شهدت لهم آن باترسون –السفيرة الأمريكية في مصر ومهندسة الانقلاب العسكري- في جلسة استماع بالكونجرس بتاريخ 19 سبتمبر 2013م.
أما وجه الشبه الأخير فيكمن في أن سعيد باشا هو صاحب اختراع القروض، فهو الحاكم الأول الذي يقترض من البنوك الأجنبية والمصارف الدولية بغير سبب إلا الإنفاق على سفاهته وحماقته، وهي السنة التي تبعه فيها خلفه إسماعيل حتى زادت الديون الربوية الفاحشة وكانت السبب المباشر في التدخل الأجنبي المباشر في إدارة شأن الدولة.. وها نحن نرى السيسي لا يكاد يفعل إلا أن يقترض لينفق ثم يقترض لينفق ثم يقترض لينفق، وليته ينفق في أمر مهم، بل في صناعة زينته وأبهته وشراء شرعيات من الخارج وأسلحة لن يستعملها!
وهكذا يجدد السيسي سياسة سعيد باشا، إلا أن بعض الشرِّ أهون من بعض، فعلى الرغم من كل ما فعله سعيد إلا أنه رفع بعض الضرائب عن المصريين، وسمح للفلاحين بتملك الأراضي، وسمح للمصريين بالترقي للرتب العليا في الجيش، ولما وصل إليه أن نوابه في السودان يظلمون الناس فكَّر في الانسحاب من السودان وتركه لأهله، ولم تسجل عليه مذبحة لأبناء البلد كالتي حصلت في رابعة أو النهضة أو رمسيس أو غيرها من سلاسل المذابح!
كأن هذا السيسي جمع كل الشرَّ فتمثل بشرا!
ألا صدق أحمد مطر:أنا لست أهجو الحاكمين وإنما .. أهجو بذكر الحاكمين هجائي
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

راجع: فصل من الاختراق الأجنبي للدولة العثمانية راجع هذه المقالات الأربعة في بيان قصة قناة السويس وما تمثله من خطر وكارثة على المصالح المصرية: أخطار وأضرار قناة السويس، هل تضحي مصر بنفسها لمصلحة الأجانب، ماذا قال المؤرخون الأجانب عن قناة السويس، فصل من قصتنا مع الشرعية الدولية. إلياس الأيوبي، تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا، Ø·2 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996)، 1/ 183؛ جاك كرابس جونيور، كتابة التاريخ في مصر القرن التاسع عشر: دراسة في التحول الوطني، ترجمة وتعليق: د. عبد الوهاب بكر، سلسلة الألف كتاب الثاني 118 (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993)، ص130. John P. Dunn, Khedive Ismail’s Army, (London and New York: Routledge,2005), p. 21. أشرنا سابقا إلى أغراض محمد علي باشا في مسألة التعليم في مقال فصول من مأساة السلطة والعلم. إلياس الأيوبي، تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا، 1/184 وما بعدها؛ عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، Ø·4 (القاهرة: دار المعارف، 1987)، 1/48، 49. د. خالد محمد نعيم، الجذور التاريخية لإرساليات التنصير الأجنبية في مصر: دراسة وثائقية، (القاهرة: كتاب المختار، بدون تاريخ) ص44 وما بعدها.  Andrew Watson, The American Mission in Egypt: 1854 to 1896,  seconed edition (Pittsburgh: united Presbyterian, 1904), p. 333
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 20, 2017 12:06

مدج المستشرقين والمؤرخين الغربيين للسلطان الناصر صلاح الدين

رغم أن الحملات الصليبية بلغت ثماني حملات وامتدت على طول قرنين من الزمان، إلا أن شخصية السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي علقت في ذاكرة التاريخ الإنساني بتميز خاص، فذلك الرجل الذي لم يواجه سوى الحملة الصليبية الثالثة فحسب ولم تكن مدة حكمه سوى عشرين سنة فحسب استطاع أن يخلد في التاريخ الإنساني كواحد من أهم أبطاله.
استمد صلاح الدين عظمته من أمور عدة، من أهمها: أنه حرر بيت المقدس من بعد قرابة قرن من احتلاله، ثم أنه صمد أمام جيوش أوروبا وأقوى ملوكها وحافظ على بقاء بيت المقدس بحوزة المسلمين، إلا أن الذي هو أهم شيء قاطبة ما أبداه من حسن الخلق ونبل الفروسية الإسلامية التي سحرت معاصريه ومن تبعهم من المؤرخين حتى اليوم.
ولئن كثر الحديث عن صلاح الدين بين العرب لا سيما بعدما صار بيت المقدس أسيرا، فإن مما لا يُنتبه له كثيرا ما قاله المؤرخون الغربيون والمستشرقون عن شخصية صلاح الدين وأثرها في معاصريه، وكيف أنه انتصب نموذجا للسلطان المسلم حين ينتصر في المعركة كأقوى ما يكون النصر ثم يسيل سخاء ورحمة وحلما في التعامل مع العدو بعد أن صاروا مهزومين وأسرى، وهو الأمر الذي بدا مناقضا لما فعله الصليبيون حين اقتحموا بلاد الشام والقدس فأقاموا فيها مذابح تاريخية، بل ولم يفعله ملوك النصارى أنفسهم تجاه رعاياهم فلقد كان صلاح الدين أرفق برعاياهم منهم.
مجالات الكتابة الاستشراقية عن صلاح الدين
لقد كتبت العديد من الدراسات الغربية عن شخصية صلاح الدين، وتعددت وجوه التناول في هذه المؤلفات:
فمنها ما أُفْرِدَ له كما ستانلي لين بول في كتابه "صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس"، وهاملتون جب في "حياة صلاح الدين"، ومالكوم ليونز وجاكسون في "صلاح الدين: سياسة الحرب المقدسة"، وتشارلز بوزلت في "صلاح الدين أمير الفروسية".ومنها ما جاء في فصول ضمن موضوعات أخرى، إما في تأريخ الحروب الصليبية كما هو المتوقع من كل مؤرخ يتعرض لهذه الفترة، أو في التأريخ لمدينة القدس كما فعلت كارين أرمسترونج في "القدس: مدينة واحدة وثلاث عقائد"، أو في التأريخ لمدينة القاهرة كما عند ستانلي لين بول في "سيرة القاهرة" وأولج فولكف في "القاهرة: مدينة ألف ليلة وليلة" وجاستون فييت في "القاهرة: مدينة الفن والتجارة".ومنها ما جاء عرضا ضمن استعراض تاريخ الإسلام وحضارته مثلما فعل ول ديورانت في "قصة الحضارة"، وجوستاف لوبون في "حضارة العرب"، وكارل بروكلمان في "تاريخ الشعوب الإسلامية"، ومايكل مورجان في "تاريخ ضائع"، وغيرهم. ÙˆÙ…نها ما جاء عرضا في سياق مناقشة العلاقة بين الإسلام والمسيحية مثلما فعل مكسيم رودنسون في "الصورة الغربية والدراسات العربية والإسلامية".ومنها ما ركز عليه كنموذج لتصحيح الصورة المشوهة عن المسلمين كما فعلت زيجريد هونكه في "الله ليس كذلك"، وتوماس أرنولد في "الدعوة إلى الإسلام".
وقد تعددت القراءات لهذه الشخصية، فبعضهم أنصف حتى بالغ للغاية، وبعضهم حملته حقائق التاريخ على اختراع الأساطير التي تقول بأن صلاح الدين من نسل مسيحي وأنه مات على المسيحية، وما ذلك إلا لأنه لا يقبل ولا يتصور أن يكون صلاح الدين –بهذه الأخلاق- مسلما! وبعضهم لم تسمح نفسه بمدح صلاح الدين دون أن يطعن فيه.
هذه السلسلة من المقالات تلقي الضوء على هذا الجانب الذي تندر الكتابة فيه، وهي تسرد بعضا مما جاء من مدح صلاح الدين في كتابات المؤرخين الغربيين والمستشرقين كنوع من شهادة الخصوم (وشهد شاهد من أهلها)السلطان المثير للإعجاب
تنوعت جوانب الإعجاب التي أثارها السلطان الناصر في نفوس المستشرقين، إلا أن تعامله مع المغلوبين حين حرر بيت المقدس وأخلاقه في الحرب مع ريتشارد قلب الأسد كان لها نصيب الأسد من ذلك الإعجاب، وقد اخترنا من وجوه الإعجاب هذه سبعة أوجه فحسب.
1. قوة الشخصية وولاء الأتباع
يقرر المستشرق الإنجليزي ستانلي لين بول، وهو صاحب أول سيرة واقعية كاملة غربية لصلاح الدين في نهاية دراسته عنه أن "كل قوة المسيحية المركزة في الحملة الصليبية الثالثة لم تستطع أن تهز سلطة صلاح الدين. من الممكن أن يكون جنوده قد تذمروا طوال الأشهر من الخدمة الصعبة والخطرة، سنة بعد سنة، ولكنهم لم يرفضوا أبدا طلبا له للحضور وقدموا أرواحهم في سبيل تنفيذ غايته. أتباعه في الأودية البعيدة كنهر دجلة لربما تأوهوا لطلباته الدائمة، ولكنهم قدموا خدمهم بإخلاص تحت رايته. أخيرا في موقعة أرسوف الأخيرة أظهرت فرقة الموصل شجاعة فائقة وعظيمة. خلال جميع هذه الحملات المتعبة كان صلاح الدين دائما يعتمد على الفرق الوافدة من مصر ووادي الرافدين، كما اعتمد على فرق من شمالي وأواسط سورية من الأكراد والتركمان والعرب والمصريين، كلهم مسلمون وهم خدمه عندما يدعوهم بالرغم من الفروق في أعراقهم وغيرتهم الوطنية وفخارهم القبلي، فقد جمعهم كلهم كفريق واحد –ليس بصعوبة لكن لمرتين أو ثلاث بحساسية متشككة. بالرغم من تملص بعضهم في يافا فإنهم ظلوا جيشا متحدا تحت إمرته في خريف عام 1192م كما كانوا في أول مرة قادهم (في سبيل الله) عام 1187م. لم تسقط أية مقاطعة ولم يتخل رئيس ولا تابع عن الطاعة، بالرغم من متطلبات إخلاصهم وتحملهم كانت كافية لتجرب أقسى الإيمان وترهق قوة العمالقة"2. الزهد والورع
كتب المؤرخ الإنجليزي الشهير إدوارد جيبون في موسوعته الشهيرة "تاريخ اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها" أول صورة جميلة عن صلاح الدين في عمل علمي تاريخي غربي، فذكر في وصفه بأن "روحه الطموحة سرعان ما تخلت عن إغراءات اللذة لما هو أعظم خطرا من الشهرة والسلطان: كانت ملابسه من الصوف الخشن، وكان الماء شرابه الوحيد، وكان في زهده مثالا في العفةويذكر مؤرخ الحضارة الأمريكي ول ديورانت أن صلاح الدين "كان يعامل خدمه أرق معاملة، ويستمع بنفسه إلى مطالب الشعب جميعها، وكانت قيمة المال عنده لا تزيد على قيمة التراب، ولم يترك في خزانته الخاصة بعد موته إلا دينارا واحدا؛ وقد ترك لابنه قبل موته بزمن قليل وصية لا تسمو فوقها أية فلسفة مسيحية"ويفسر المستشرق الإنجليزي هاملتون جب إنجاز صلاح الدين بهذا الزهد، يقول: "لم يحقق هذا الأمر عن طريق القدوة التي تجلت في شجاعته وعزمه الذاتيين –وهما من سجاياه التي لا سبيل إلى نكرانها- بقدر ما حققه من خلال نكرانه للذات وتواضعه وكرمهن ودفاعه المعنوي عن الإسلام ضد أعدائه وضد من ينتمون إليه في الظاهر فحسب، على حد سواء. ولم يكن صلاح الدين رجلا ساذجا لكنه، مع ذلك، كان غاية في البساطة ورجلا نزيها لدرجة الشفافية. لقد أوقع أعداءه، الداخليين والخارجيين، في حيرة من أمره، لأنهم توقعوا أن يجدوا الحوافز التي تحركه على غرار حوافزهم، وتوسموا فيه أن يمارس اللعبة السياسية على طريقتهم هم. كان بريئا كل البراءة"ونستكمل جوانب إعجاب المستشرقين والمؤرخين الغربيين بالسلطان الناصر في المقال القادم إن شاء الله.
نشر في ساسة بوست

ولهذا تعتمد الورقة البحثية منهج العرض والوصف دون التفسير والتحليل إلا في أحيان نادرة، وأما سياق تحليل وتفسير الرؤية الغربية لشخصية صلاح الدين فنحيل فيها إلى دراسات وبحوث كلا من: كارول هيلينبراند وناصر عبد الرزاق الملا جاسم. ستانلي لين بول، صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس، ترجمة: فاروق سعد أبو جابر، Ø·1 (القاهرة: وكالة الأهرام، 1995م)، ص287، 288. تقول العبارة الأصلية "أنه في زهده أكثر عفة من نبيه [صلى الله عليه وسلم]" فآثرنا أن نستبدل بهذه المبالغة السفيهة الحمقاء ما أثبتناه في المتن.  Edward Gibbon‏, The History of the Decline and Fall of the Roman Empire, (New York, J. & J. Harper, 1826), Vol 6, pp 25, 26. ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة: مجموعة، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2001م)، 15/44، 45. هاملتون جب، صلاح الدين الأيوبي، تحرير: د. يوسف ايبش، Ø·2 (بيروت: بيسان للنشر والتوزيع، 1996م)، ص191، 192.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 20, 2017 12:02

January 19, 2017

محمد علي باشا.. سفاح كبير أم مؤسس مصر الحديثة؟

نفتح اليوم الكتاب الخامسيخوض الكتاب في التأريخ لجيش محمد علي من وجهة نظر المجند، وهي الرواية الغائبة، أو بالأحرى: الرواية الممنوعة من العرض في تاريخ محمد علي، لنكتشف كيف كان إنشاء الجيش المصري عملية إذلال وحشية استعبادية للشعب المصري، مع العلم بأن هذا الجيش لم تكن كل مسيرته انتصارات كما يُسوَّق تاريخيا، بل شهد هزائم مريعة، قبل أن ينهار تماما أمام التحالف الأجنبي قبل أن تغرب شمس محمد علي نفسه بداية من اتفاقية 1840. وهذه المرحلة التاريخية هي واحدة من أهم المراحل لفهم طبيعة الشعب المصري وطبيعة السلطة المصرية، إذ أن دولة محمد علي لم تنته بعد.
والكاتب شخصية أكاديمية معروفة وتكاد تكون شهرتها بسبب هذا الكتاب وحده الذي أُلِّف أصلا بالإنجليزية كرسالة للدكتوراة قضى فيها عشر سنوات، ثم نقله شريف يونس إلى العربية بترجمة رائقة. ونعيد التأكيد على أن الخلاصات التي نقدمها للكتاب هي اختصار شديد مكثف لا يغني عن قراءة الأصل، وأننا نقدم من الكتب ما نراه مفيدا لحالة الوعي الثوري في مصر بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع المؤلف أو مع كل ما يُطرح في الكتاب، كما يجدر التنبيه أننا لن نورد في هذه الخلاصات إلا ما يفيد في باب طبيعة السلطة والجيش والشعب في مصر، ولن نقتفي أثره فيما أثاره من أمور أخرى.
خلاصات الكتاب
1. كثير من المؤلفين حرفوا الترجمة الحقيقة لوثائق محمد علي المكتوبة بالتركية لإظهاره بمظهر المصلح العظيم، وبالرجوع إلى أصل هذه الوثائق يظهر كم كان محمد علي يحتقر المصريين ويزدريهم ويراهم كالبهائم ولا يناسبهم ما يناسب الشعوب الأوروبية المتنورة.
2. المشكلة الأساسية في التاريخ المكتوب لمحمد علي أنه يقدس شخصية الحاكم الأبوي ويهمل شأن المصري أو حقه في صناعة تاريخه، لذا يسود معنى أنه رجل سبق عصره وأن شعبه لم يفهمه. ومن يقرأ الوثائق بالتركية يعرف أن آخر ما فكَّر فيه محمد علي هو المصريين، إنما انحصر تفكيره في صناعة مجد له ولسلالته.
3. ساهمت عدد من العوامل في صناعة التاريخ المشهور عن محمد علي، أهمها:
أ. صنع تاريخ محمد علي في أروقة السلطة، وبدأ هذا منذ عهد محمد علي نفسه الذي كان حريصا على تقديم صورته للأجانب بأنه المصلح المحاط بالجهلة ويحكم شعبا من المتوحشين والذي أحيا مصر من الموات وبأنه المتنور من بين ولاة السلطنة العثمانية المتخلفة. وقد لاقى هذا الوصف للمصريين والعثمانيين هوى عند الأوروبيين الذين اعتادوا النظر للمسلمين بدونية وعنصرية فانتشر هذا في كتاباتهم. وكان محمد علي يستعد للقائهم بصناعة أجواء مسرحية تضفي عليه مهابة ورهبة.
ب. ثم إن مطبعة بولاق (جهاز الإعلام الرسمي حينذاك) كانت تطبع الكتب التي تحمل مدح الباشا وتتجاهل مؤلفات من ينقدونه (كتاريخ الجبرتي مثلا).
جـ. ساعدت فرنسا حليفة محمد علي في نشر ودعم هذه الصورة عنه.
د. استمرار حكم أولاده من بعده، مما رسَّخ هذه الصورة عنه وأطال عمرها، وبعض أولاده مثل الملك فؤاد حرص على "صناعة" تاريخ أسرته، وصلت إلى حد دفع رشاوى لمؤرخين أجانب لكتابة تاريخ لجده وسرعان ما ترجمت هذه الدراسات فضلَّلت الكثيرين لما لها من زخرف موضوعي وطلاء بحثي مزيف.
هـ. أدى مجهود الملك فؤاد في جمع الوثائق الخاصة بأسرته لأن تحتل هذه الوثائق مكانة خاصة في دار الوثائق، ترتيبا واهتماما وفهرسة وترجمة، مما يجعلها فخًّا يجذب إليه الباحثين الذين يجدون مشقة في الوصول إلى الوثائق الأخرى التي تبرز الجوانب المهملة في تلك الفترة، سواء وثائق العثمانيين أو الوثائق غير الصادرة عن مؤسسة السلطة المركزية.
د. ثم لاقى هذا التمجيد لمحمد علي هوى عند شرائح أخرى من المصريين، فالمؤرخون والوطنيون أرادوا أن يكون محمد علي صانع النهضة والتحديث نكاية ومضادة لدعوى الإنجليز أنهم من صنعوا مصر، والقوميون أرادوا أن يكون محمد علي صاحب مشروع توحيدي عربي نكاية في العثمانيين والأوروبيين، ففي ظل حالة الانهيار العام يلتمس البعض زعيما طموحا صاحب مشروع!
4. قاوم المصريون عملية التجنيد مقاومة عنيفة، وليس صحيحا ما يشيعه المؤرخون القوميون عن تقبل المصريين للتجنيد، بل لم يكن المصريون في هذا الوقت يعبرون عن هويتهم بأنها مصرية، ولا كان مشروع محمد علي يستهدف إنشاء "الأمة المصرية"، وإنما هو محض مشروع شخصي للباشا. بل إن القوميات الحديثة –كما يقول بندكت أندرسون- ليست إلا "جماعات متخيلة" لم تصنعها الأواصر الطبيعية كالدم والدين واللغة والثقافة كما يزعم الخطاب الوطني، بل صنعتها السلطة الحديثة من خلال أدوات إعلامية وتنفيذية كالمطبعة والإحصاء والمتحف. وقد كان الجيش هو وسيلة محمد علي القاهرة العنيفة لصناعة هوية قومية مصرية متخيلة.
5. مَهَّد محمد علي لخطته في تجنيد الشعب بمذبحة المماليك الرهيبة ليتخلص بها من ممثلي القوات العسكرية القديمة، فدعاهم إلى حفل قتل فيه نحو 450 ثم أباح لجنوده الألبان أن يجتاحوا بيوت المماليك في القاهرة فنهبوها واغتصبوا نساءها وقتلوا ألف أمير وجندي مملوكي، ثم خرج إبراهيم في طلب من فروا إلى الصعيد فقتل ألفا آخرين. ثم تخلص من الجنود الألبان الذين لم يكونوا يرون فيه سوى أنه "الأول بين الأنداد" بأن أرسلهم إلى حتفهم في صحراء الجزيرة العربية لمقاتلة الوهابيين.
6. بدأ محمد علي بتجنيد السودانيين، فقد كانت نظرته للمصريين كفلاحين يؤثر التجنيد على قوتهم الإنتاجية، فأرسل حملتين وعددا من الأمداد لاصطياد ستة آلاف منهم كعبيد، أحدهما بقيادة ابنه إسماعيل الذي تسبب بغلظته في أزمات وثورات، ثم دعاه ملك شندي إلى وليمة ثأر فيها من إسماعيل الذي صفعه على وجهه من قبل، فأُحْرق إسماعيل حيًّا.
7. كان عدد الشحنة الأولى 1900 رجل وامرأة وطفل، اختير منهم من يصلح للخدمة العسكرية وبيع الباقي في أسواق العبيد، لكن المساكين لم يتحملوا ظروف الطريق فمات الكثير منهم "كما تموت الخراف المصابة بوفاء العفن"، وصارت الأعداد المجلوبة أقل كثيرا من تكلفة الحملات نفسها، ولم تنجح إجراءات نقلهم بالسفن أو علاجهم في تكثير أعدادهم، فقرر الباشا أن يترك استعباد السودانيين ويجند المصريين.
إلى هنا انتهت المساحة المخصصة، ونبدأ في المقال القادم مع قصة تجنيد المساكين المصريين.
نشر في مدونات الجزيرة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 19, 2017 11:55

January 13, 2017

الاستثناء في النموذج السياسي الإسلامي

أحيط كتاب "الاستثناء الإسلامي" الذي أصدره قبل أشهر الباحث الأمريكي شادي حميد بعاصفة غير مفهومة من الدعاية، ذلك أن فكرته الأساسية القائلة بأن "الإسلام ليس مجرد شعائر بل منظومة حكم" ليست اكتشافا وإنما هي فكرة قديمة للغاية يكتشفها المستشرق عند بداية بحثه في الشأن الإسلامي، وقبل نحو القرن كان المستشرق الإنجليزي يكتب في بداية كتابه "وجهة العالم الإسلامي" هذه العبارة: "الحق أن الإسلام ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات، إنه أعظم من ذلك كثيرا، هو مدنية كاملة، ولو بحثنا عن لفظ مقابل له لقلنا: العالم المسيحي ولم نقل المسيحية، ولقلنا الصين بدل أن نقول ديانة كونفوشيوس"إن اعتبار ارتباط الإسلام من حيث هو دين بالسياسة ونظام الحكم نوعا من الاستثناء ليس فكرة صحيحة أصلا، بل إن عددا من مفكري ومؤرخي الحضارات يجزم بخلافها، يقول المستشرق والمؤرخ وعالم الاجتماع الشهير جوستاف لوبون: "لا يغب عن البال أن جميع النظم السياسية والاجتماعية منذ بدء الأزمنة التاريخية قامت على معتقدات دينية"إنما تصحُّ هذه الفكرة فقط عند من سيطرت عليه العلمانية الغربية، والتي تحسب أن تجربتها العلمانية في النهضة هي قدر ثابت وحقيقة تمرُّ بها سائر الأمم والحضارات، وحيث أن نهضتها الحالية تأسست على عزل الدين فهي لا تتصور إمكانية العكس، وتلك نظرة مغرقة في اللحظة الراهنة فضلا عن سطحيتها واختزاليتها.
لكن الاستثناء الإسلامي تمثل في أمور أخرى، من بينها ذلك التأثير الهائل الذي أحدثه في الشعوب التي فتحها، وهو استثناء نقدم له بشهادة عدد من مؤرخي الحضارات كذلك.
يعد كتاب "دراسة التاريخ" للمؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبيوقد اكتشف توينبي في هذه الدراسة –ضمن كثير من نظرياته ونظراته العميقة- قاعدة تاريخية تفيد بأن الغزاة يستطيعون تأسيس إمبراطوريات كبرى ويظفرون برضا ومحبة الشعوب المحكومة إن هم كانوا من ذات ثقافتهم أو اعتنقوها دون شوائب دخيلة، فأما إن اعتنقوا ثقافة أخرى أو كانوا ممثلين لحضارة أخرى فإنهم يصيرون مكروهين منبوذين من الشعوب المحكومة مهما طال زمن سيطرتهم ولا بد سيأتي يوم يتدمر سلطانهم على يد هذه الشعوب، يقول: "وفي وسعنا في الواقع أن نقدم على صياغة شيء يماثل قانونا اجتماعيا عاما مداره:
إن الغزاة البرابرة الذين يتبدون أحرارا من شائبة أية ثقافة دخيلة، في وسعهم كفالة مصائرهم. ويختلف الأمر بالنسبة لهؤلاء الذين اصطبغوا خلال مرحلة هجراتهم بصبغة أجنبية أو بنزعة ضالة، فهؤلاء يجب أن يحيدوا عن طريقهم ليطهروا أنفسهم من هذه الصبغة أو تلك النزعة، حتى يقيض لهم اجتناب المصير الآخر: أي الطرد والإبادة"إلا أنه بعدما ضرب الأمثلة على صدق نظريته، سارع ليرصد هذا الاستثناء، فقال: "وثمة استثناء من قاعدتنا يمثله العرب المسلمون الأوائل. إذ كان العرب جماعة من العشائر من خارج المجتمع الهليني، أنجزوا مرتبة سامية من النجاح إبان مرحلة هجراتهم التي صاحبت تحلل ذلك المجتمع. وتمَّ هذا النجاح رغما عن حقيقة قوامها أن العرب قد تشبثوا بمنحاهم الديني الأصيل عِوَضًا عن اعتناقهم المذهب المسيحي المينوفيستي الذي كان يعتنقه رعاياهم في الأقاليم التي انتزعوها من الإمبراطورية الرومانية. بيد أن الدور التاريخي للعرب المسلمين الأوائل، يعتبر دورا استثنائيا تماما... وبالأحرى؛ يعتبر تاريخ الإسلام حالة خاصة، لن تنسخ نتائج بحثنا العامة"وقد ذهب العديد مذاهب شتى في محاولة تفسير هذا الاستثناء التاريخي، ثم اتفقت كلمة عدد كبير من الباحثين والمؤرخين على أن السبب استثنائي أيضا، وهو التسامح الذي تميز به الفتح الإسلامي، يقول جوستاف لوبون: "وكان يمكن أن تُعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويُسِيئُوا معاملة المغلوبين، ويُكْرِهُوهم على اعتناق دينهم، الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم ... فالحقُّ أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا مثل دينهم.
وما جَهِله المؤرخون من حِلْم العرب الفاتحين وتسامحهم، كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونُظُمهم ولغتهم، التي رَسَخَت وقاومت جميع الغارات، وبَقِيَتْ قائمةً حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم، ونَعُدُّ من الواضح خاصةً أمرَ مصر التي لم يُوَفَّق فاتحوها من الفرس والإغريق والرومان أن يقلبوا الحضارةَ الفرعونية القديمة فيها وأن يُقيموا حضارتهم مقامها"ويوافقه في هذا جاك ريسلرإن الشائع في كل حضارة، كما يقول مؤرخ الحضارات الفرنسي فرناندو بروديل، "أنها تبدي نفورا من اعتناق فكر ثقافي يطرح دعامة من دعائمها الراسخة للمناقشة، ولئن كان هذا النفور وذلك العداء الخفي نادرا نسبيا فهو يؤدي دائما إلى صميم الحضارة ... فليس هناك حضارة -كما قال مارسيل موس- جديرة باسم الحضارة ليس لها عادات الرفض والنفور من الإسهامات الدخيلة"ومن هنا نعرف كم كان الاستثناء الإسلامي محيرا حين أدخل مناطق الحضارات الكبرى كالفارسية والرومانية والهندية ضمن أرضه، واحتواها تماما داخل حضارته، لقد حمل الفاتح المسلم نموذجه السياسي معه منذ الحرب الأولى، ولما حاول القائدُ الفارسي رستم إغراء السفير المسلم المغيرة بن شعبة ببعض المال قال له "وإن إسلامكم لأحب إلينا من فتح بلادكم".
لقد امتنَّ أوباما على قومه في آخر خطاب رئاسي له أنه جنَّب أمريكا نموذج عراقٍ آخر، مع أن حرب العراق اجتمع لها تحالف دولي هائل على بلد مُحاصَر منزوع السلاح حكمه مستبدٌ لعقود فأهلك قوته وبدَّد ثروته، ثم إن التكاليف دفعتها دول الخليج التي وفرت فوق الأموال الأرض والإمدادات.. أي أن إمكانية تحقيق نصر عسكري وسياسي وحضاري لم تكن أحسن منها في تلك الظروف!
ونستطيع أن نذكر مثل هذا عن امبراطوريات قاهرة ابتلعت دولا أو ممالك صغيرة منذ الاستعمار الإسباني وحتى الاتحاد السوفيتي مرورا بالبرتغاليين والإنجليز والفرنسيين والهولنديين، ومع كل الفوارق الهائلة التي تمتعوا بها لم يستطيعوا إلزام أحد بنظامهم الحضاري إلا بقوة سلاح وقهر عاتية ولبعض من السنين أو العقو.
ثم انجلى الغبار ولم تُقِم امبراطورية واحدة عاصمة حضارية واحدة في أي من مستعمراتها، بل عاشت عواصم الاستعمار على نهب البلاد والتضخم بدمائها، بينما عواصم الإسلام الحضارية تناثرت شرقا وغربا، فكانت في مرو وطشقند وبخارى ونيسابور وأصفهان وبغداد ودمشق والقاهرة وفاس وقرطبة وغرناطة وتمبكتو فلم تنفرد مكة أو المدينة أو جزيرة العرب باحتكار خيرات الشعوب!
هذا هو الاستثناء بين من يحملون خير الشعوب إلى العواصم الاستعمارية، وبين من يحملون الخير من عواصمهم إلى الشعوب المفتوحة.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

هاملتون جب وآخران، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، (طبعة بدون بيانات)، ص9. جوستاف لوبون، السنن النفسية لتطور الأمم، ترجمة: عادل زعيتر، ط2 (القاهرة: دار المعارف، 1957)، ص157. Christopher Dawson, The Dynamics Of World History, (London: Sheed And Ward, 1965), p. 128 أرنولد توينبي (1889 – 1975م)، ولد في لندن، تقلد عدة مناصب منها: أستاذ الدراسات اليونانية والبيزنطية في جامعة لندن، ومدير دائرة الدراسات في وزارة الخارجية البريطانية، ويعد رائد مدرسة "التفسير الديني (أو الروحي) للتاريخ"، وصاحب نظرية "التحدي والاستجابة" في تفسير سقوط الأمم ونهوضها، وممن أدانوا فكرة تفوق العنصر الأبيض أو أن الغرب هو أصل الحضارة، وله مواقف مشهودة ضد الصهيونية ودعما للقضية الفلسطينية. أرنولد توينبي، مختصر دراسة التاريخ، ترجمة: فؤاد محمد شبل، (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2011). 2/248. السابق 2/248، 249 بتصرف بسيط. جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، ط مكتبة الأسرة (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2000م)، ص605. جاك ريسلر: باحث فرنسي، عمل أستاذا بمعهد باريس للدراسات الإسلامية، حصل كتابه "الحضارة العربية" على جائزة الأكاديمية الفرنسية بوصفه دراسة أساسية لمعرفة الإسلام. جاك ريسلر، الحضارة العربية، ترجمة: خليل أحمد خليل، ط1 (بيروت: منشورات عويدات، 1993م). ص52. فرناندو بروديل، تاريخ وقواعد الحضارات، ترجمة وتعليق سفير. د. حسين شريف، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999).
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 13, 2017 11:45

January 12, 2017

كيف أسس محمد علي باشا للأجانب في بيت المقدس

هذا هو المقال الرابع والأخير من هذه الورقة البحثية التي تتناول دور محمد علي باشا في تأسيس إسرائيل في فترة السنوات العشر التي حكم فيها الشام، وقد ألزمنا أنفسنا في هذه المقالات ألا ننقل معلومة إلا عن مصدر مؤيد لمحمد علي أو وثيقة رسمية من أرشيف دولته أو مصدر أجنبي (والمصادر الغربية معجبة بمحمد علي كذلك)، وقد رأينا في المقالات الثلاثة السابقة كيف استكثر محمد علي من اتخاذ اليهود في حاشيته وفي أعماله حتى الحساسة منها، وكيف سهل لهم التدفق والهجرة والإقامة في فلسطين، وكيف سمح لهم بالتسهيلات التجارية والاقتصادية والقانونية التي ترفعهم فوق أهل البلاد وتقلب الميزان الاجتماعي للشام. (راجع المقالات تفضلا: الأول، الثاني، الثالث).
والآن نختم بدوره في تأسيس النفوذ الأجنبي وتضخيم صلاحيات القناصل الأجانب، حيث بدأت القنصليات الأجنبية تغزو القدس وتهيمن بحمايتها على غير المسلمين، وهو الأمر الذي كانت له آثار بعيدة، ولم تستطع الدولة العثمانية أن تلغيه فيما بعد.
رابعا: تضخم نفوذ القناصل الأجانب
افتتحت القنصلية البريطانية في القدس لأول مرة في عهد سلطة محمد علي (1839م)، وهي القنصلية التي ستتولى حماية اليهود والبروتستانت المسيحيين في بيت المقدس والشام، وستبذر في هذه الأرض البذور الأولى للصهيونية بما كان لها من النفوذ، وكان ويليام تيرنر يونج أول قنصل في القدس، و"قد اهتم على وجه خاص بيهود الإشكنازيم، وأيضا كانت بريطانيا تود إنشاء "محمية" لها في القدس احتذاء بفرنسا وروسيا حيث إنه لم تكن هناك طائفة بروتستانتية يسبغ القنصل عليها حمايته، فقد وجد أن اليهود الأوروبيين كانوا دون كفيل أجنبي، ومن ثم نَصَّب نفسه راعيا لهم... وبحلول شهر ديسمبر من عام 1938، ونتيجة لمساعي يونج الحميدة تم السماح للجمعية اللندنية لترويج المسيحية والتي تُعرف أيضا "بجمعية لندن لليهود" بالعمل في القدس. وبدأت طلائع المبشرين البروتستانت في الوصول إلى المدينة المقدسة"لقد أسست سياسة إبراهيم لنفوذ القناصل الأجانب، إذ كانت القوانين تدفع بالأموال –ومن ثم النفوذ والعلاقات الاجتماعية- لتستقر في حجر القناصل، لقد "أتيح للأجانب ولقناصل الدول أن يكونوا أحرارا في البلاد، وأن يتَّجروا بلا عائق ولا مانع مع أن تجارتهم كانت محصورة ببعض الموانئ، ولكن القناصل الذين اتخذوا الامتيازات تكأة لهم أَلَّفوا من أنفسهم دولة في الدولة، وكانوا يعطون الحماية لمن أرادوا. وبما أن متاجر الأجانب كانت تدفع 3 بالمائة ومتاجر الرعية كانت تدفع 20 بالمائة، فقد أخذ القناصل أكثر التجار تحت حمايتهم ليعفوا من زيادة الرسوم الجمركية"وقد استثمر اليهود هذا الوضع المريح فأقدموا على محاولة الاستيلاء على حائط البراق من المسجد الأقصى، وأعانهم على هذا القناصل، وقد احتفظت لنا السجلات بوثيقة تتضمن شكوى شيخ المغاربة في بيت المقدس إلى إسماعيل عاصم حكمدار حلب من أن اليهود ما زالوا يتعاظم أمرهم ويزيدون في الإيذاء عند حائط البراق، فمن بعد ما كانوا يزورون الحائط زيارة عادية هادئة صارت تتعالى أصواتهم وتتكاثر أعدادهم ويزيدون طقوسهم حتى كأنه صار كنيسا لهم، ثم أرادوا أن يُبَلِّطوا الأرض التي أمام الحائط، وهو أمر جديد لم يسبق لهم أن تجرأوا عليه، ثم إنه سيؤدي إلى إغلاق طريق مؤدٍ إلى وقف إسلامي آخر بتلك المنطقة، وقد دُعِمت شكوى شيخ المغاربة بقرار من "مجلس شورى القدس"، ومن ثَمَّ قرر إسماعيل عاصم منع اليهود من إحداث شيء جديد، لكن ما لبث أن جاء أمر من القنصل الإنجليزي إلى متسلم القدس بأن يسمح لليهود بما أرادوا، فأصدر متسلم القدس أمرا بالسماح، ثم اعترض مجلس شورى القدس، فرُفِع الأمر لإبراهيم باشا الذي لم يبال به وفوض إسماعيل عاصم في القرار، وهو ما مآله عمليا إمضاء رغبة اليهود المدعومة بقوة القنصل الإنجليزيوكان القناصل يستخدمون نفوذهم في الدفاع عن غير المسلمين من أهالي الشام، ومن غريب ما وقع في مثل هذا الأمر أن المسلمين كانوا يتخذون زي اليهود ليتخلصوا من التجنيد الذي لم يكن يشمل اليهود والنصارى، فانتبه إلى هذا المكلف بجمع، أو بالأحرى: خطف، الشباب للتجنيد فأخذ يجمع الكل، فأخذ ضمن من أخذهم جملة من اليهود والنصارى، ورغم أن الخطأ لم يستغرق سوى ساعات إذ بدأ شباب اليهود والنصارى يعودون في عصر اليوم نفسه إلا أن السلطة عاقبت اليوزباشي الذي لم يتحقق في جمعه أُخِذ منه سيفه ونيشانه وضُرِب بالسياط أمام القنصل الفرنسي بودين وأُنْزل رتبتيْنوذات يوم وقعت جريمة قتل لأحد رهبان النصارى (حادثة الباديري)، فجندت لها سلطة الشام كل طاقتها للبحث عن الفاعلين، واتخذت التعذيب سبيلا حتى على يهودي مشتبه فيه، ومع هذا فقد حضر إليهم يهودي إفرنجي تدل الدلائل على معرفته بالمجرمين وحاول التشفع في اليهودي المُعذَّب، ثم خرج ولم يُعتقل أو يُحقق معه ولم يُتَتَبَّع، رغم أن خروجه كان لإنقاذ القتلة الذين لم يعترف عليهم بعد اليهودي المقبوض عليه! ثم وبعدما ثبتت التهمة عليهم بالاعتراف والإقرار جاء قرار سيادي من محمد علي بالعفو عنهم لما تحرك إليه اليهود الأوروبيونولقوة نفوذ القناصل كان إبراهيم باشا رغم قسوته العنيفة على من يتمردون عليه لا يستعمل نفس تلك القسوة مع غير المسلمين، فمن ذلك أنه حين خرَّب الكرك أمهل النصارى ثلاث ساعات يخرجون فيها من البلد وينقلون منها ما استطاعوا من أرزاقهم، ثم اجتاح البلد ونفذ فيها مذبحته فكان عساكره يقتلون من لقوه وينهبون ما وجدوه ثم جعل البلد ركاماومما يُرثى له أن المسلمين اضطروا أن يمتهنوا أنفسهم للقناصل للنجاة من بطش سلطة إبراهيم، وذلك أن قوانين التجنيد الإجباري –التي كانت في ذلك الوقت استعبادا لا رحمة فيه ولا أمل في النجاة منه- كانت تشمل المسلمين ويُعفى منها المسيحيون واليهود، فكان المسلمون "ذوو المقام النبيل يعملون قواسين وخدما وسواسا عند القناصل الأوروبيين، وحتى عند وكلائهم وتراجمهم من أتباع السلطان، ومن الرعايا المحتقرين ليتجنبوا خدمة الصف استنادا إلى المعاهدات التي تضمن حصانة العاملين في القنصليات"لقد أهين الشعور الديني للمسلمين بشدة –كما يقول قسطنطين بازيلي- حتى كان بعضهم يقول لبعض "الدولة صارت دولة نصارى خلصت دولة الإسلام"ويمكن اختصار الانقلاب الذي تم في أحوال الأجانب والقناصل في قصة المستر فارين القنصل الإنجليزي، فقبل حقبة محمد علي لم يكن يستطع أجنبي "التجول في البلاد إذا لم يكن مرتديا بالملابس الوطنية أو يحرسه الجند، حتى إن إنكلترا عينت المستر فلرين قنصلا لها في دمشق في سنة 1829، فلم يستطع دخول دمشق وأقام في بيروت""كان ترتيب دخوله (هكذا) طَلَع لملاقاته عمر بك أمير اللواء، واستنظره في قصر عبد الرزاق باشا الذي بالمرجة، وصُحْبته ألف عسكري نظام، وكان برفق القنصل حاضر من بيروت أربعة وعشرون خيال في بيارق النظام، وقواصته عدة ثمانية وعبدين وتراجمين ثلاثة وكيخية وخزندار، وحول في قصر عبد الرؤوف باشا عند عمر بك وتفكجي باشي واستقام مقدار نصف ساعة، وقام ركب، ومشيوا قدامه ألف عسكري نظام في الموسيقا، وبين باشي وبعده ثلاثين قواص من قواصه الوزير، بعده الخيالة الذين حضروا معه من بيروت ببيارقهم، وبعده التفكجي باشي وجماعته، وبعده قواصته لابسين طقومة وردي جزايرلي مقصب، وبيدهم عصي فضة مكوبجين (ذات قبضة) على كسم صليب، وبعدهم التراجمين في الشالات الكشمير في الخيل المنظومة، وبعدهم القنصل راكب على راس خيل من الخيول الجياد، عدته مشغولة في الصرما، ولابس على راسه برنيطة محجرة بالألماس، وفي راسها جملة ريش أبيض وأحمر، ويرمي سلام، ووراه كيخية وخزنداره وعبيده، وتنظر العالم [أي: وترى الناس] منتشرة من عند قصر المرجة شي لا ينحصى. وحكم طريقه على الدوالك، على بيت يوسف باشا، على باب السرايا، على سوق الأروام وسوق الجديد، على باب القلعة، على باب البريد، على سوق الحرير، على البزورية، على ماذنة الشحم، على الخراب، على طالع القبة، على حمام المسك، على باب توما، على حمام البكري، على زقاق القميمم (القميلة)، على بيته، فكانوا قبل بمدة آخذين له بيت قزيها الذي قدام قناية الحطب، ودخلوا العساكر جميعها لعند بيته فحالاً رفعوا له البنديرة فوق باب البيت على راس السطوح، وثاني يوم وضع فوق باب البيت نيشان المملكة (الآرما) مصور فيها تاج الملك وحصان وسبع، وكان يوجد قدام باب بيته على مدة سبعة ثمانية أيام مثل فرجة الحاج (بكثرة) الناس فوق بعضها بعض هذا ما كان من مادة دخول القنصل" وهكذا صار القناصل قوة فوق قوة السلطة نفسها، وقد استمر إنشاء القنصليات الأجنبية التي أسس محمد علي لوجودها حتى بعد رحيل سلطته؛ فلقد صار النفوذ الأجنبي قوة حقيقية قائمة، وصار ذلك النفوذ موضع تنافس غربي لا تقوى الدولة العثمانية في حالها آنذاك على اقتلاعه، "فخلال السنوات الخمس عشرة التالية كانت فرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا قد فتحن قنصليات لها في المدينة المقدسة، وأصبح هؤلاء القناصل ذوي حضور بالغ الأهمية في المدينة... بيد أنه كان لكل منهم أجندته السياسية، وكثيرا ما أدى ذلك إلى الصراع في المدينة المنقسمة على نفسها بالفعل. ووجد السكان المحليون أنفسهم طرفا في صراعات القوى الأوروبية"نشر في ساسة بوست
كارين أرمسترونج، القدس، ص565، 566. داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص143. أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 4/294 وما بعدها، (رقم الوثيقة 6205 بتاريخ 4 محرم 1256هـ) مجهول، مذكرات تاريخية، ص80، 81. مجهول، مذكرات تاريخية، ص117، 121، 122؛ وانظر: إيلي ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، (القاهرة: مطبعة النظام، 1934م)، ص154. مجهول، مذكرات تاريخية، ص78. أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 4/356 (وثيقة رقم 6312 بتاريخ 3 ربيع الآخر 1256هـ). قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص162. مجهول، مذكرات تاريخية، ص59، 60. داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص139. داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص189؛ مجهول، مذكرات تاريخية، ص25. مجهول، مذكرات تاريخية، ص68، 69. كارين أرمسترونج، القدس، ص565.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 12, 2017 11:40