محمد إلهامي's Blog, page 37

December 23, 2016

محنة الفقه السياسي

اشتعل الجدل في الساحة الإسلامية عقب قتل السفير الروسي في تركيا، وكان النصيب الأكبر من هذا الجدل في نقاش ما إن كان قتله جائزا أم لا، وفاضت الأقلام، ثم فاضت الاتهامات، وبقي أن نرصد بعض الدلالات في هذا الجدل.
1. لقد فشلت عصور التحديث والعلمانية في إنهاء ارتباط المسلمين بتراثهم الفقهي، ربما أجلتها وعطلتها، وبالرغم من تغييب الدين عن المجال العام، إلا أن حركات المقاومة عبر هذين القرنين من هيمنة العلمانية انبعثت من هذا الدين واسترشدت دائما بأصولها الدينية، حتى بدا واضحا أن تمنيات "تجاوز الأيديولوجيا" لم تكن إلا أوهاما وخرافات، وبدا أن العصر القادم هو "ثأر الله" كما يسميه جيل كيبل، إذ العودة إلى الدين يمثل ظاهرة في حركة المجتمعات المعاصرة.
2. لكن عصور العلمانية والتحديث طرحت العديد من التحديات التي لا تزال تمثل عقبة كبيرة في طريق الاجتهاد الفقهي المعاصر، وهذه التحديات لها ثلاثة مستويات كلها متشابك مع الآخر أخذ بعنانه متحد به اتحادا لا ينفك عنه، على هذا النحو:
§       لقد غيَّر نمط الدولة الحديثة كثيرا من الأحوال التي بنى عليها الفقهاء قديما أحكامهم واجتهاداتهم، لا سيما في مسائل العلاقة بين السلطة والمجتمع، وما صارت تملكه السلطة من احتكار القوة، وما تتمتع به من فارق قوة هائل بينها وبني عموم الناس، وما تهيمن عليه من مساحات كانت متروكة للمجتمع فيما مضى.
§       ثم إن زيادة الترابط الحاصل الآن بين الدول بعد ثورة الاتصالات والمواصلات حتى وصل إلى نظام عالمي ذي مؤسسات متحكمة طرح مزيدا من الحوادث والنوازل والعلاقات والتوازنات التي لم تكن متصورة في ذهن الفقيه قديما (وليس هذا بقادح فيه، فلا يُطلب من أحد أن يفكر في مسائل لم يعرفها).
§       ثم هذا الحال المعروف من الاستضعاف العام في الأمة كلها، حتى لا توجد فيها سلطة مستقلة ولا عاصمة آمنة وليس من بلد إسلامي يملك قراره منفردا، بل عامة الدول بين محتل مباشرة أو محتل بالوكالة، أو في حال من الضعف تجعله عاجزا عن القيام بواجبات الإمامة قديما، وعامة كتب الفقه ومصادره كُتبت في أزمان ليس فيها هذا الضعف والعجز العام، ولا هذا التفتت الكبير، ولذلك فكثير من المسائل التي تبدو مشتبهة هي في حقيقتها مختلفة عند التعمق في فهم آراء الفقهاء وتصورهم لها في أزمانهم.
وكل واحد من هذه الثلاثة، فضلا عن اجتماعها معا مؤثر في تنزيل الحكم على الواقع المعاصر.
3. وتزيد المأساة في أن العلماء صاروا معزولين عن عالم السياسة، وهذه العزلة التي طالت لنحو القرنين من الزمن أثمرت ضعفا عاما في العلم بالواقع الذي لا بد منه لتنزيل حكم الشرع عليه، ولذا فالفقهاء في باب السياسة هم أندر أهل الفقه في زماننا هذا، وحتى الحركات الإسلامية التي نهضت لمقاومة العلمانية لم تُخرج من يسد هذه الثغرة.
وقبل ثمانية قرون كتب ابن خلدون في مقدمته فصلا بعنوان "في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها" ذكر فيه أن العالِم المنعزل بعلمه عن شأن السياسة يتعامل مع المسألة تعاملا رياضيا نظريا، لأنه تمرَّن أن يجرد المسألة في صورة نظرية عامة ثم يُفرِّع منها الفروع، وهو إذا فعل ذلك فإنه يشتبه عنده ما ظاهره التشابه بينما يغفل عن الفروق التي يدركها السياسي، بل ربما أدركها العامي الذي لم يتكوَّن عقله على هذه الصورة الرياضية الهندسية التي تنحو إلى التجريد والتأصيل.
كتب ابن خلدون هذا، وهو الفقيه المالكي الذي تولى القضاء وعمل بالسياسة ومارس السفارة، في زمن لم يكن تعقيد شأن السياسة فيه شيئا من واقع هذا الشأن.. فكيف يمكن أن نقول الآن؟!
والقصد: أن العلم المعزول عن السياسة يفسد العلم والسياسة معا!
4. وإذا افترضنا أننا استطعنا ردم هذه الفجوات الهائلة فيظل الأمر في شأن النوازل غير مقتصر على الوصول إلى حكم فقهي صحيح في نفسه، بل الفتوى لا بد لها من اعتبار المآلات وحسابات المصالح والمفاسد، وهي أمور تقديرية لا ينفرد بها الساسة وحدهم ولا العلماء وحدهم، بل لا بد قبل هذا من عمل المتخصصين الذي يشرح الحال ويتوقع المآل ويعطي البدائل.
5. كل الذي سبق لا يعني بحال إهمال المدونة الفقهية الإسلامية، فالإيمان بأن الإسلام دين الله وأنه صالح لكل زمان ومكان وأن الله قد أتم دينه، كل هذا يقتضي بطبيعة الحال الانطلاق من أصول هذا الدين، ولا يمكن بناء اجتهاد على هذه الأصول إلا بالتشبع من المدونة الفقهية وتراثها الغني الواسع الثري، وإن الشهادة بثراء الفقه واشتماله على الحلول للمشكلات المعاصرة أمرٌ نطق به حتى المستشرقون وسُجِّل في مؤتمرات قانونية دولية، والكلام في هذا طويل وهو معروف مشهور.
والقصد أنه لا يمكن إنشاء اجتهاد معاصر إلا باستيعاب النهر الكبير من الفقه القديم حيث عملت ملايين العقول على تحقيق النصوص وتمحيصها والموازنة بينها وإقامة النظريات الفقهية في ضبط الأصول والمقاصد والمراتب والفروق. ومجرد التفكير في إهمال هذا التراث العريض يعني القبول بالذوبان في الحضارة المعاصرة المهيمنة.
إن هذا التراث الفقهي هو القاعدة الصلبة التي يتأسس عليها بناء النموذج الحضاري الإسلامي المعاصر، ويمكننا –بنظرة تبسيطية- أن نقسم الفقهاء إلى نوعين: نوعٌ يحاول تطويع الفقه للواقع، ونوع يحاول تطويع الواقع للفقه، وبقدر ما يبدو الأول من أهل التيسير بقدر ما يُخشى من منهجه الاستسلام والذوبان في النظام المعاصر المخالف للإسلام، ثم بقدر ما يبدو الثاني من أهل التشدد بقدر ما يُخشى منه العزلة عن واقعه، إلا أن الثاني أثبت من الأول في سياق التأسيس للنموذج الحضاري الإسلامي، والأول أثبت من الثاني في إيجاد الوسائل المعاصرة لهذا النموذج الإسلامي، والمنطقة بينهما رمادية ودقيقة ولا يقف فيها إلا الجهابذة ونادرٌ ما هم.
6.  Ø¥Ù† الفقه كائن حيٌّ، ينمو بمخالطة الواقع والتصدي لمسائله، وبقدر ما استطاعت الأنظمة إبعاد الفقيه عن المجال العام بقدر ما ركد الفقه في الكتب والزوايا ولم يعد يُنتج الجديد، والبلاد التي انتهى فيها القضاء الشرعي غاب عن الفقهاء فيها ما هو من أخصِّ خصائص البيوت، فكيف بأمر السياسة الذي ما إن يتناوله الفقيه حتى تُفتح له أفواه السجون أو تنصب له أعواد المشانق؟!
إلا أن هذا لم يحل المسألة، إذ انسداد الباب أمام الفقه السياسي يفجر الموقف ولا يحله، إذ أن إبعاد العلماء عن الاجتهاد المعاصر يفتح الباب للحركيين والعمليين، ولو كانوا شبابا صغير السن قليل التجربة ضعيف العلم لا يمتلك سوى بندقية ولا يرى أبعد من فوهتها.
إن الثورة على الظلم طبيعة بشرية، وإغلاق أبواب الإصلاح يدفع بالناس إلى كسرها، ولا تزال السلطة تظلم وتتحرى الظلم حتى لا يبقى إلا أن تنفجر الأمور وتنفلت، وساعتئذ لا يجدي في المسألة قول عالم يراه الثائر عالم سلطة أو جبان أو عاجز عن فهم الواقع.
ومن هذا الواقع مسائل كثيرة تختص بأهل الذمة وأهل الحرب والمعاهَدين والمستأمنين وتولي غير المسلمين المناصب العليا، والمشاركة في ظل هذه الأنظمة بالانتخاب أو الترشح وأحكام العاملين في الإدارات والمؤسسات الحكومية، وغيرها الكثير.

وهذه المسائل إن لم يفتح العلماء بابها باجتهاد معاصر فإن الواقع سيكسره ثم يهرع العلماء لمحاولة ترقيع ما كُسِر أو حتى الاكتفاء بإدانته.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 23, 2016 10:37

محنة الفقه السياسي

اشتعل الجدل في الساحة الإسلامية عقب قتل السفير الروسي في تركيا، وكان النصيب الأكبر من هذا الجدل في نقاش ما إن كان قتله جائزا أم لا، وفاضت الأقلام، ثم فاضت الاتهامات، وبقي أن نرصد بعض الدلالات في هذا الجدل.
1. لقد فشلت عصور التحديث والعلمانية في إنهاء ارتباط المسلمين بتراثهم الفقهي، ربما أجلتها وعطلتها، وبالرغم من تغييب الدين عن المجال العام، إلا أن حركات المقاومة عبر هذين القرنين من هيمنة العلمانية انبعثت من هذا الدين واسترشدت دائما بأصولها الدينية، حتى بدا واضحا أن تمنيات "تجاوز الأيديولوجيا" لم تكن إلا أوهاما وخرافات، وبدا أن العصر القادم هو "ثأر الله" كما يسميه جيل كيبل، إذ العودة إلى الدين يمثل ظاهرة في حركة المجتمعات المعاصرة.
2. لكن عصور العلمانية والتحديث طرحت العديد من التحديات التي لا تزال تمثل عقبة كبيرة في طريق الاجتهاد الفقهي المعاصر، وهذه التحديات لها ثلاثة مستويات كلها متشابك مع الآخر أخذ بعنانه متحد به اتحادا لا ينفك عنه، على هذا النحو:
§       لقد غيَّر نمط الدولة الحديثة كثيرا من الأحوال التي بنى عليها الفقهاء قديما أحكامهم واجتهاداتهم، لا سيما في مسائل العلاقة بين السلطة والمجتمع، وما صارت تملكه السلطة من احتكار القوة، وما تتمتع به من فارق قوة هائل بينها وبني عموم الناس، وما تهيمن عليه من مساحات كانت متروكة للمجتمع فيما مضى.
§       ثم إن زيادة الترابط الحاصل الآن بين الدول بعد ثورة الاتصالات والمواصلات حتى وصل إلى نظام عالمي ذي مؤسسات متحكمة طرح مزيدا من الحوادث والنوازل والعلاقات والتوازنات التي لم تكن متصورة في ذهن الفقيه قديما (وليس هذا بقادح فيه، فلا يُطلب من أحد أن يفكر في مسائل لم يعرفها).
§       ثم هذا الحال المعروف من الاستضعاف العام في الأمة كلها، حتى لا توجد فيها سلطة مستقلة ولا عاصمة آمنة وليس من بلد إسلامي يملك قراره منفردا، بل عامة الدول بين محتل مباشرة أو محتل بالوكالة، أو في حال من الضعف تجعله عاجزا عن القيام بواجبات الإمامة قديما، وعامة كتب الفقه ومصادره كُتبت في أزمان ليس فيها هذا الضعف والعجز العام، ولا هذا التفتت الكبير، ولذلك فكثير من المسائل التي تبدو مشتبهة هي في حقيقتها مختلفة عند التعمق في فهم آراء الفقهاء وتصورهم لها في أزمانهم.
وكل واحد من هذه الثلاثة، فضلا عن اجتماعها معا مؤثر في تنزيل الحكم على الواقع المعاصر.
3. وتزيد المأساة في أن العلماء صاروا معزولين عن عالم السياسة، وهذه العزلة التي طالت لنحو القرنين من الزمن أثمرت ضعفا عاما في العلم بالواقع الذي لا بد منه لتنزيل حكم الشرع عليه، ولذا فالفقهاء في باب السياسة هم أندر أهل الفقه في زماننا هذا، وحتى الحركات الإسلامية التي نهضت لمقاومة العلمانية لم تُخرج من يسد هذه الثغرة.
وقبل ثمانية قرون كتب ابن خلدون في مقدمته فصلا بعنوان "في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها" ذكر فيه أن العالِم المنعزل بعلمه عن شأن السياسة يتعامل مع المسألة تعاملا رياضيا نظريا، لأنه تمرَّن أن يجرد المسألة في صورة نظرية عامة ثم يُفرِّع منها الفروع، وهو إذا فعل ذلك فإنه يشتبه عنده ما ظاهره التشابه بينما يغفل عن الفروق التي يدركها السياسي، بل ربما أدركها العامي الذي لم يتكوَّن عقله على هذه الصورة الرياضية الهندسية التي تنحو إلى التجريد والتأصيل.
كتب ابن خلدون هذا، وهو الفقيه المالكي الذي تولى القضاء وعمل بالسياسة ومارس السفارة، في زمن لم يكن تعقيد شأن السياسة فيه شيئا من واقع هذا الشأن.. فكيف يمكن أن نقول الآن؟!
والقصد: أن العلم المعزول عن السياسة يفسد العلم والسياسة معا!
4. وإذا افترضنا أننا استطعنا ردم هذه الفجوات الهائلة فيظل الأمر في شأن النوازل غير مقتصر على الوصول إلى حكم فقهي صحيح في نفسه، بل الفتوى لا بد لها من اعتبار المآلات وحسابات المصالح والمفاسد، وهي أمور تقديرية لا ينفرد بها الساسة وحدهم ولا العلماء وحدهم، بل لا بد قبل هذا من عمل المتخصصين الذي يشرح الحال ويتوقع المآل ويعطي البدائل.
5. كل الذي سبق لا يعني بحال إهمال المدونة الفقهية الإسلامية، فالإيمان بأن الإسلام دين الله وأنه صالح لكل زمان ومكان وأن الله قد أتم دينه، كل هذا يقتضي بطبيعة الحال الانطلاق من أصول هذا الدين، ولا يمكن بناء اجتهاد على هذه الأصول إلا بالتشبع من المدونة الفقهية وتراثها الغني الواسع الثري، وإن الشهادة بثراء الفقه واشتماله على الحلول للمشكلات المعاصرة أمرٌ نطق به حتى المستشرقون وسُجِّل في مؤتمرات قانونية دولية، والكلام في هذا طويل وهو معروف مشهور.
والقصد أنه لا يمكن إنشاء اجتهاد معاصر إلا باستيعاب النهر الكبير من الفقه القديم حيث عملت ملايين العقول على تحقيق النصوص وتمحيصها والموازنة بينها وإقامة النظريات الفقهية في ضبط الأصول والمقاصد والمراتب والفروق. ومجرد التفكير في إهمال هذا التراث العريض يعني القبول بالذوبان في الحضارة المعاصرة المهيمنة.
إن هذا التراث الفقهي هو القاعدة الصلبة التي يتأسس عليها بناء النموذج الحضاري الإسلامي المعاصر، ويمكننا –بنظرة تبسيطية- أن نقسم الفقهاء إلى نوعين: نوعٌ يحاول تطويع الفقه للواقع، ونوع يحاول تطويع الواقع للفقه، وبقدر ما يبدو الأول من أهل التيسير بقدر ما يُخشى من منهجه الاستسلام والذوبان في النظام المعاصر المخالف للإسلام، ثم بقدر ما يبدو الثاني من أهل التشدد بقدر ما يُخشى منه العزلة عن واقعه، إلا أن الثاني أثبت من الأول في سياق التأسيس للنموذج الحضاري الإسلامي، والأول أثبت من الثاني في إيجاد الوسائل المعاصرة لهذا النموذج الإسلامي، والمنطقة بينهما رمادية ودقيقة ولا يقف فيها إلا الجهابذة ونادرٌ ما هم.
6.  إن الفقه كائن حيٌّ، ينمو بمخالطة الواقع والتصدي لمسائله، وبقدر ما استطاعت الأنظمة إبعاد الفقيه عن المجال العام بقدر ما ركد الفقه في الكتب والزوايا ولم يعد يُنتج الجديد، والبلاد التي انتهى فيها القضاء الشرعي غاب عن الفقهاء فيها ما هو من أخصِّ خصائص البيوت، فكيف بأمر السياسة الذي ما إن يتناوله الفقيه حتى تُفتح له أفواه السجون أو تنصب له أعواد المشانق؟!
إلا أن هذا لم يحل المسألة، إذ انسداد الباب أمام الفقه السياسي يفجر الموقف ولا يحله، إذ أن إبعاد العلماء عن الاجتهاد المعاصر يفتح الباب للحركيين والعمليين، ولو كانوا شبابا صغير السن قليل التجربة ضعيف العلم لا يمتلك سوى بندقية ولا يرى أبعد من فوهتها.
إن الثورة على الظلم طبيعة بشرية، وإغلاق أبواب الإصلاح يدفع بالناس إلى كسرها، ولا تزال السلطة تظلم وتتحرى الظلم حتى لا يبقى إلا أن تنفجر الأمور وتنفلت، وساعتئذ لا يجدي في المسألة قول عالم يراه الثائر عالم سلطة أو جبان أو عاجز عن فهم الواقع.
ومن هذا الواقع مسائل كثيرة تختص بأهل الذمة وأهل الحرب والمعاهَدين والمستأمنين وتولي غير المسلمين المناصب العليا، والمشاركة في ظل هذه الأنظمة بالانتخاب أو الترشح وأحكام العاملين في الإدارات والمؤسسات الحكومية، وغيرها الكثير.

وهذه المسائل إن لم يفتح العلماء بابها باجتهاد معاصر فإن الواقع سيكسره ثم يهرع العلماء لمحاولة ترقيع ما كُسِر أو حتى الاكتفاء بإدانته.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 23, 2016 10:37

December 22, 2016

محمد علي باشا مؤسس إسرائيل

يُعرف محمد علي باشا الكبير بأنه مؤسس مصر الحديثة، والحق أنه مؤسس الدولة العلمانية العسكرية التي لا نزال نعاني منها حتى الآن، ودولته هي بداية النفوذ الأجنبي الكبير في الشرق الإسلامي، حتى إن الأجانب صاروا ينزلون بجيوشهم وأساطيلهم للدفاع عن نفوذهم الذي تأسس في مصر (كما حدث في ثورة عرابي) بل وتمكنوا من تغيير الجغرافيا المصرية والمشرقية حين شقُّوا قناة السويس فكان هذا بلاءً وبيلا تحملته مصر والعرب ولا تزال تعاني من ويلاته حتى الآن.
إلا أن جانبا لم يزل غير مشتهر عن حقبة محمد علي، تلك هي السنوات العشر التي حكم فيها الشام، تلك السنوات التي شهدت البذور الأولى لتأسيس دولة لليهود في فلسطين، إلا أن القدر لم يمهل هذا المشروع ليكتمل، غير أن المشروع نفسه تأسس وبدأ التفكير فيه جديا في ذلك الوقت، وهو ما سنعرض له خلال هذا المقال والمقالات القادمة.
لم ترحل آثار حكم محمد علي برحيله من الشام عام 1841م، وإنما استطاعت القوى اليهودية –المالية على وجه التحديد- والقوى السياسية الأجنبية البناء على ما تركته هذه الفترة من تغيرات في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم تتمكن السلطنة العثمانية من إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه من قبل.
ونحن نعتمد في هذه المقالات على المصادر الأساسية لتواريخ تلك الفترات من شهود العيان أو من الطبقة التالية لمؤرخي هذه الفترة، بالإضافة إلى الوثائق المحفوظة لذلك العهد والتي استخرجها الدكتور أسد رستم في عمليْه الكبيريْن "المحفوظات الملكية المصرية" والواقعة في أربعة مجلدات وهي عبارة عن وصف لكل وثيقة محفوظة متعلقة بالشام في الأرشيف المصري، و"الأصول العربية لتاريخ سورية" الواقعة في خمسة مجلدات.
لقد كانت مدينة بيت القدس جزءا من الشام الذي وقع تحت هذه السياسة، ولذلك لا يمكن فصل ما جرى في بيت المقدس عما جرى في عموم الشام، غير أن القدس بما لها من مكانة خاصة حظيت ببعض الإجراءات الخاصة في التمكين لليهود والمسيحيين –الرعايا والأجانب- ورفع شأنهم مع خفض شأن المسلمين والإزراء بهم.
وبالرغم من أن كاتب هذه السطور له موقف مضاد تماما من حكم محمد علي وأسرته في مصر والشام، إلا أنني التزمت بالاعتماد على المصادر المعجبة بتلك الفترة والتي تكيل الثناء الكبير لمحمد علي وولده إبراهيم باشا سواء ما كان منها مصريا أو ما كان من مصادر نصرانية شامية، بالإضافة إلى الوثائق، وإلى المصادر الأجنبية التي تنحاز عموما إلى جانب محمد علي و"إصلاحاته"! ولم أنقل عن مصدر وحيد كان له موقف مضاد لهذه الفترة.
وبداية يجب التنبيه إلى خطأ تسمية هذه الفترة بأنها "الحكم المصري" للشام، وهو الاسم المشتهر عنها، ذلك أن الشعب المصري كانوا -كإخوانهم في الشام- مقهورين تحت هذه السلطة، لم يختاروا سياستها ولم يوافقوا عليها، وإن دعمها كثيرون باللسان أو بالسنان بحكم غلبة السلطة وتمكنها واستقرار دولتها لقرن ونصف القرن.
محمد علي والبلاط الأجنبي
 Ø§Ø³ØªØ­Ø¯Ø«Øª سلطة محمد علي عددا من الإجراءات التي كان جماعها فتح أبواب الهجرة الأجنبية إلى الشام وإلى بيت المقدس على وجه الخصوص، وذلك عبر الرفع الدائم من شأن الأجانب الذين اتسع نفوذهم اتساعا واسعا وصارت لهم الكلمة العليا في معظم شؤون الحكم ما مثَّل انقلابا حقيقا في ميزان العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الأجانب وبين أهالي البلاد.
لقد كان بلاط محمد علي أجنبيا، وكان رجال حكمه من الأجانب، الفرنسيين خصوصا، وكانت دولته محسوبة على فرنسا في الصراع العالمي بين الإنجليز وفرنسا ذلك الوقت، وقد نقل المؤرخ إلياس الأيوبي المعجب بمحمد علي أن لفرنسا يد في توليته حكم مصر، إذ لما فشلت حملة نابليون أرادت فرنسا أن تبحث في العساكر العثمانيين عن رجل تمهد له حكم البلاد فيكون رجلها، فقام تييه ديليسبس –القنصل الفرنسي- بهذه المهمة واستطاع "اكتشاف" محمد علي، ثم أتم السفير الفرنسي في الآستانة سبستياني المهمة بالضغط على السلطان لتوليته حاكما لمصر، ولا ينقص هذا من مهارة ودهاء محمد علي الذي أدار معركته بين القوى المصرية حتى جعل نفسه مطلبها الذي أصرت عليه في وجه السلطان العثمانيولئن كان مفهوما كثرة الفرنسيين في بلاط محمد علي إلا أن المثير للشكوك هو استكثاره من اليهود، فلقد كانت "نظرته العملية وتطلعاته الإصلاحية كانت في صالح اليهود، فلقد استخدم اليهود في الإدارة، وحررهم من الابتزازات المالية التي فُرِضَت عليهم في الماضي، بل إنه شجع هجرة اليهود إلى مصر"أولا: تشجيع الحجاج اليهود والنصارى على التدفق إلى بيت المقدس، من خلال إلغاء كافة الضرائب التي تؤخذ منهم، وإنشاء المرافق الخاصة لرعاية الحجاج إلى بيت المقدس، وجعل ما يدفعونه من أموال خالصا للرؤساء الدينيين مما مكنهم من تحقيق استقلال مالي واسع ومستغرب بالنسبة لرجل كمحمد علي يؤسس دولة حديثة قائمة على نظام اقتصادي احتكاري وعلى ضرب الأوقاف وأعيان البلد.
ثانيا: تقديم التسهيلات التجارية للأجانب في منطقة الشام، إذ كان الأجانب ممنوعين من التجارة في داخل الشام وتقتصر أنشطتهم التجارية على الموانئ فحسب، فسمح محمد علي لهم بالتجارة في سائر المناطق، بل وضايق على السفن التجارية العثمانية، مما قلب الميزان الاقتصادي –ومن ثم الاجتماعي- بين المسلمين وغير المسلمين، وبين الرعايا والأجانب.
ثالثا: تضخيم نفوذ القناصل الأجانب، وبداية إنشاء القنصليات الأجنبية في بيت المقدس، وهي الأمور التي تطورت فيما بعد نحو تأسيس محميات ومناطق مستقلة اقتصاديا وسياسيا، إذ اتخذت القنصليات مهمة حماية الرعايا من اليهود والأرثوذكس والكاثوليك، وكانت القنصلية البريطانية أول ما أنشيء في بيت المقدس وأقوى ما أنشيء من النفوذ الأجنبي.
رابعا: إنشاء المشاريع الزراعية والصناعية لترسيخ النفوذ الأجنبي في منطقة الشام.
بهذه الإجراءات التي سارت بوتيرة محمومة، وبدأت منذ اليوم الأول، تحولت فكرة توطين اليهود في سيناء إلى فكرة واقعية تدخل مجال السياسة من بعد ما كانت محصورة في خيال المتدينين اليهود وبعض الأدباء والحالمين، لقد صارت تُنشر في الصحف وتُطرح في كتب سياسية وتُرفع بها تقارير إلى أروقة السياسة، وهنا وجدت أوروبا أنه من الممكن التخلص من مشاكلها دفعة واحدة بتوطين اليهود في فلطسين.
في المقالات القادمة بإذن الله تعالى سنناقش كل إجراء من تلك الإجراءات بتفصيل، اعتمادا على الوثائق والمصادر الأجنبية والمعجبة بمحمد علي وابنه إبراهيم باشا، لنرى كيف يستحق محمد علي لقب أن يكون المؤسس الأول لدولة إسرائيل.
نشر في ساسة بوست

انظر: إلياس الأيوبي، تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل، ط2 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996م). 1/328 وما بعدها. وهو ينقل هذا عن مذكرات فريدناند ديليسبس ابن القنصل الفرنسي المذكور، وصاحب امتياز قناة السويس. ميخائيل فنتر، علاقات اليهود مع السلطات والمجتمع غير اليهودي، ضمن: يعقوب لانداو (تحرير)، "تاريخ يهود مصر في الفترة العثمانية"، ترجمة جمال أحمد الرفاعي وأحمد عبد اللطيف حماد، تقديم ومراجعة: محمد خليفة حسن، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000م) ص522. Stanford J. Shaw‏, The Jews of the Ottoman Empire and the Turkish Republic, (Hampshire: Macillan Press LTD, 1991), p. 158.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 22, 2016 10:25

محمد علي باشا مؤسس إسرائيل

يُعرف محمد علي باشا الكبير بأنه مؤسس مصر الحديثة، والحق أنه مؤسس الدولة العلمانية العسكرية التي لا نزال نعاني منها حتى الآن، ودولته هي بداية النفوذ الأجنبي الكبير في الشرق الإسلامي، حتى إن الأجانب صاروا ينزلون بجيوشهم وأساطيلهم للدفاع عن نفوذهم الذي تأسس في مصر (كما حدث في ثورة عرابي) بل وتمكنوا من تغيير الجغرافيا المصرية والمشرقية حين شقُّوا قناة السويس فكان هذا بلاءً وبيلا تحملته مصر والعرب ولا تزال تعاني من ويلاته حتى الآن.
إلا أن جانبا لم يزل غير مشتهر عن حقبة محمد علي، تلك هي السنوات العشر التي حكم فيها الشام، تلك السنوات التي شهدت البذور الأولى لتأسيس دولة لليهود في فلسطين، إلا أن القدر لم يمهل هذا المشروع ليكتمل، غير أن المشروع نفسه تأسس وبدأ التفكير فيه جديا في ذلك الوقت، وهو ما سنعرض له خلال هذا المقال والمقالات القادمة.
لم ترحل آثار حكم محمد علي برحيله من الشام عام 1841م، وإنما استطاعت القوى اليهودية –المالية على وجه التحديد- والقوى السياسية الأجنبية البناء على ما تركته هذه الفترة من تغيرات في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم تتمكن السلطنة العثمانية من إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه من قبل.
ونحن نعتمد في هذه المقالات على المصادر الأساسية لتواريخ تلك الفترات من شهود العيان أو من الطبقة التالية لمؤرخي هذه الفترة، بالإضافة إلى الوثائق المحفوظة لذلك العهد والتي استخرجها الدكتور أسد رستم في عمليْه الكبيريْن "المحفوظات الملكية المصرية" والواقعة في أربعة مجلدات وهي عبارة عن وصف لكل وثيقة محفوظة متعلقة بالشام في الأرشيف المصري، و"الأصول العربية لتاريخ سورية" الواقعة في خمسة مجلدات.
لقد كانت مدينة بيت القدس جزءا من الشام الذي وقع تحت هذه السياسة، ولذلك لا يمكن فصل ما جرى في بيت المقدس عما جرى في عموم الشام، غير أن القدس بما لها من مكانة خاصة حظيت ببعض الإجراءات الخاصة في التمكين لليهود والمسيحيين –الرعايا والأجانب- ورفع شأنهم مع خفض شأن المسلمين والإزراء بهم.
وبالرغم من أن كاتب هذه السطور له موقف مضاد تماما من حكم محمد علي وأسرته في مصر والشام، إلا أنني التزمت بالاعتماد على المصادر المعجبة بتلك الفترة والتي تكيل الثناء الكبير لمحمد علي وولده إبراهيم باشا سواء ما كان منها مصريا أو ما كان من مصادر نصرانية شامية، بالإضافة إلى الوثائق، وإلى المصادر الأجنبية التي تنحاز عموما إلى جانب محمد علي و"إصلاحاته"! ولم أنقل عن مصدر وحيد كان له موقف مضاد لهذه الفترة.
وبداية يجب التنبيه إلى خطأ تسمية هذه الفترة بأنها "الحكم المصري" للشام، وهو الاسم المشتهر عنها، ذلك أن الشعب المصري كانوا -كإخوانهم في الشام- مقهورين تحت هذه السلطة، لم يختاروا سياستها ولم يوافقوا عليها، وإن دعمها كثيرون باللسان أو بالسنان بحكم غلبة السلطة وتمكنها واستقرار دولتها لقرن ونصف القرن.
محمد علي والبلاط الأجنبي
 استحدثت سلطة محمد علي عددا من الإجراءات التي كان جماعها فتح أبواب الهجرة الأجنبية إلى الشام وإلى بيت المقدس على وجه الخصوص، وذلك عبر الرفع الدائم من شأن الأجانب الذين اتسع نفوذهم اتساعا واسعا وصارت لهم الكلمة العليا في معظم شؤون الحكم ما مثَّل انقلابا حقيقا في ميزان العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الأجانب وبين أهالي البلاد.
لقد كان بلاط محمد علي أجنبيا، وكان رجال حكمه من الأجانب، الفرنسيين خصوصا، وكانت دولته محسوبة على فرنسا في الصراع العالمي بين الإنجليز وفرنسا ذلك الوقت، وقد نقل المؤرخ إلياس الأيوبي المعجب بمحمد علي أن لفرنسا يد في توليته حكم مصر، إذ لما فشلت حملة نابليون أرادت فرنسا أن تبحث في العساكر العثمانيين عن رجل تمهد له حكم البلاد فيكون رجلها، فقام تييه ديليسبس –القنصل الفرنسي- بهذه المهمة واستطاع "اكتشاف" محمد علي، ثم أتم السفير الفرنسي في الآستانة سبستياني المهمة بالضغط على السلطان لتوليته حاكما لمصر، ولا ينقص هذا من مهارة ودهاء محمد علي الذي أدار معركته بين القوى المصرية حتى جعل نفسه مطلبها الذي أصرت عليه في وجه السلطان العثمانيولئن كان مفهوما كثرة الفرنسيين في بلاط محمد علي إلا أن المثير للشكوك هو استكثاره من اليهود، فلقد كانت "نظرته العملية وتطلعاته الإصلاحية كانت في صالح اليهود، فلقد استخدم اليهود في الإدارة، وحررهم من الابتزازات المالية التي فُرِضَت عليهم في الماضي، بل إنه شجع هجرة اليهود إلى مصر"أولا: تشجيع الحجاج اليهود والنصارى على التدفق إلى بيت المقدس، من خلال إلغاء كافة الضرائب التي تؤخذ منهم، وإنشاء المرافق الخاصة لرعاية الحجاج إلى بيت المقدس، وجعل ما يدفعونه من أموال خالصا للرؤساء الدينيين مما مكنهم من تحقيق استقلال مالي واسع ومستغرب بالنسبة لرجل كمحمد علي يؤسس دولة حديثة قائمة على نظام اقتصادي احتكاري وعلى ضرب الأوقاف وأعيان البلد.
ثانيا: تقديم التسهيلات التجارية للأجانب في منطقة الشام، إذ كان الأجانب ممنوعين من التجارة في داخل الشام وتقتصر أنشطتهم التجارية على الموانئ فحسب، فسمح محمد علي لهم بالتجارة في سائر المناطق، بل وضايق على السفن التجارية العثمانية، مما قلب الميزان الاقتصادي –ومن ثم الاجتماعي- بين المسلمين وغير المسلمين، وبين الرعايا والأجانب.
ثالثا: تضخيم نفوذ القناصل الأجانب، وبداية إنشاء القنصليات الأجنبية في بيت المقدس، وهي الأمور التي تطورت فيما بعد نحو تأسيس محميات ومناطق مستقلة اقتصاديا وسياسيا، إذ اتخذت القنصليات مهمة حماية الرعايا من اليهود والأرثوذكس والكاثوليك، وكانت القنصلية البريطانية أول ما أنشيء في بيت المقدس وأقوى ما أنشيء من النفوذ الأجنبي.
رابعا: إنشاء المشاريع الزراعية والصناعية لترسيخ النفوذ الأجنبي في منطقة الشام.
بهذه الإجراءات التي سارت بوتيرة محمومة، وبدأت منذ اليوم الأول، تحولت فكرة توطين اليهود في سيناء إلى فكرة واقعية تدخل مجال السياسة من بعد ما كانت محصورة في خيال المتدينين اليهود وبعض الأدباء والحالمين، لقد صارت تُنشر في الصحف وتُطرح في كتب سياسية وتُرفع بها تقارير إلى أروقة السياسة، وهنا وجدت أوروبا أنه من الممكن التخلص من مشاكلها دفعة واحدة بتوطين اليهود في فلطسين.
في المقالات القادمة بإذن الله تعالى سنناقش كل إجراء من تلك الإجراءات بتفصيل، اعتمادا على الوثائق والمصادر الأجنبية والمعجبة بمحمد علي وابنه إبراهيم باشا، لنرى كيف يستحق محمد علي لقب أن يكون المؤسس الأول لدولة إسرائيل.
نشر في ساسة بوست

انظر: إلياس الأيوبي، تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل، ط2 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996م). 1/328 وما بعدها. وهو ينقل هذا عن مذكرات فريدناند ديليسبس ابن القنصل الفرنسي المذكور، وصاحب امتياز قناة السويس. ميخائيل فنتر، علاقات اليهود مع السلطات والمجتمع غير اليهودي، ضمن: يعقوب لانداو (تحرير)، "تاريخ يهود مصر في الفترة العثمانية"، ترجمة جمال أحمد الرفاعي وأحمد عبد اللطيف حماد، تقديم ومراجعة: محمد خليفة حسن، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000م) ص522. Stanford J. Shaw‏, The Jews of the Ottoman Empire and the Turkish Republic, (Hampshire: Macillan Press LTD, 1991), p. 158.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 22, 2016 10:25

December 21, 2016

أقوى اغتيالات النظام الخاص للإخوان المسلمين

وصلنا إلى الحلقة الأخيرة من خلاصات الكتاب الثالث الذي وضعناه في "مكتبة الثائر المصري"، وهو كتاب "حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين" لمؤرخه والقيادي فيه محمود الصباغ، ويمكن مراجعة الأجزاء السابقة لإكمال الصورة: الجزء الأول، الثاني، الثالث، الرابع.
خلاصات الكتاب:
48. جرت خطة تسليم فلسطين لليهود عبر التحكم في الجيوش العربية التي دخلت إلى فلسطين بحيث تنهزم أمام عصابات الصهيونية لتصير إسرائيل أمرا واقعا، وقد سُلِّح الجيش المصري بأسلحة فاسدة، وكان جلوب باشا –الإنجليزي، رئيس هيئة أركان القوات الأردنية- يصدر الأوامر بإجلاء المواقع المهمة ليستولي عليها اليهود دون قتال، ثم ينفذون المذابح التي تؤدي إلى تهجير القرى التالية.
49. تقدم الجيش المصري حتى وقف قبل تل أبيب بعشرين ميلا دون مقاومة من المستعمرات اليهودية، فلما بلغ هذه النقطة أُعطيت له أوامر عديدة ومتفرقة لتصرفه عن التقدم نحو عاصمة العدو ولتشتت قواته، وهناك عند أسدود ظهرت قوة العصابات الصهيونية فدارت معركة عنيفة استطاع الجيش أن يصدها عن نفسه، ثم انتفضت كل المستعمرات التي تركها خلفه وتركته دون مقاومة لتقطع عليه خطوط الإمداد وتُقَطِّع أوصال القوات، وكانت الروح المعنوية لأفراده قد ضعفت بعد تدخل السياسة وفرض الهدنة الأولى والثانية التي يستغلها اليهود لتغيير الميزان العسكري بما يستجلبونه من السلاح. وفي ظل هذا الوضع تصدر الأوامر العسكرية للجيش بالانسحاب من كل هذه المناطق، وتقع بعض القوات في الحصار كما في "حصار الفالوجا"، ولا يفعل الجيش شيئا لاستنقاذها، ولا يفعل شيئا ضد القوات التي انتفضت من خلفه ومزقت خطوط إمداداته. وهكذا رجع الجيش كله إلى الجنوب وبقي لواء الفالوجا محاصرا.
50. عند هذا الوضع طلبت قيادة الجيش تجهيز كتيبة من الإخوان تأتي من مصر لتدخل فلسطين لمحاولة إنقاذ الوضع، وكتبت القيادة بهذا إلى أمانة الجامعة العربية ورئاسة الأركان، وبدأ الإخوان فعلا في تجهيزها، كما نشطت قوات المتطوعين من الإخوان في مواجهة القوات الصهيونية التي تهدد وضع الجيش المصري51. لكن ما إن وصل الخبر إلى النقراشي حتى هاج وماج ورفض الفكرة أساسا، بل وأصدر قرار حل الجماعة وبدأ في حملته الأمنية ضد الإخوان في مصر –مصدر القوة الرئيسية لإمداد قوات فلسطين- بل وأمر الجيش في فلسطين باعتقال المتطوعين من الإخوان في الميدان فلا يبقى أمام الجيش بهذا إلا أن يعلن الهزيمة ويستسلم للصهاينة، وهذا هو إسهام الحكومة المصرية الخائنة في إقامة إسرائيل. وهي الخيانة العلنية التي لا يُحتاج معها إلى قراءة الوثائق البريطانية والأمريكية.
52. لم تكن الصورة مكتملة أمام البنا، فهو لم يطلع على ما جرى لجنوده في الميدان، ولم يطلع على ما يجري لهم في سجون مصر، وظنَّ أنه بإصدار بيان على هواهم قد يرهم إلى الصواب، ولكن: هيهات، بل لقد استعملوا بيان البنا في الضغط على الإخوان، ولما لم يفلحوا أقدموا على اغتيال الإمام الشهيد.
53. جزاء الخيانة في الشريعة معروف، وقد أمر النبي باغتيال كعب بن الأشرف على يد فرقة قادها الصحابي محمد بن مسلمة، وأمر باغتيال خالد بن سفيان الهذلي في مهمة نفذها الصحابي عبد الله بن أنيس الجهني، وأذن في اغتيال سلام بن أبي الحقيق فنفذته فرقة بقيادة الصحابي عبد الله بن عتيك.
54. بعد حل الجماعة كان الإخوان ما بين مجاهد في فلسطين ومعتقل في مصر أو مطارد، واستمر المجاهدون في مهمتهم بأمر من الإمام البنا، واستمرت بطولاتهم رغم ما كان يصلهم من بعض ما يتعرض له إخوانهم في سجون إبراهيم عبد الهادي.
55. كان الحبس انفراديا قبل قتل النقراشي، لا يخرج المسجون الإخواني إلا مرة واحدة في اليوم لقضاء الحاجة مع الحرص ألا يرى أحدا من إخوانه، بينما كان بالسجن عدد من الشيوعيات ينعمن بالرياضة والاختلاط والغناء الجماعي، ولم تكن في هذه المرحلة تعذيب. ثم بعد مقتل النقراشي كان الحبس انفراديا لكن يُسمح لهم بالذهاب للحمامات وبالتريض في السجن في جماعات. والمرحلة الثالثة هم سجناء قضايا الأوكار (أي الشقق المستأجرة من قبل النظام الخاص والموزعة في أنحاء القاهرة وهي مجهزة بالسلاح) وأولئك لا يصلون إلا السجن إلا بعد تعذيب شديد في أقسام الشرطة وسجن الاستئناف والقلعة تُشَرَّح فيه أجسادهم بالكرابيج وتُمزق أقدامهم وسيقانهم من الضرب والفلقة، ووصل التعذيب إلى ضرب الآباء والأمهات والأخوات وحلق شعورهن أمامهم بل والتهديد بهتك أعراضهن، والتهديد بهتك أعراض المسجونين أنفسهم. وإبراهيم عبد الهادي (رئيس الحكومة بعد النقراشي) هو أول من أدخل التعذيب الوحشي في سجون مصر فعليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة.
56. بقي في مصر من أعضاء النظام الخاص من لم يذهب إلى فلسطين، وكان السيد فائز هو مسؤول النظام الخاص في القاهرة بعد اعتقال كل من فوقه، وبه أنيطت مهمة حياة الدعوة في هذه الظروف العصيبة، فبدأ معركته مع رأس الخيانة: النقراشي. ورتَّب لاغتياله، ونجح، واستطاع بعض من أفراد النظام اغتيال النقراشي في حصنه وبين قواته وفي وضح النهار.
57. ثم نظر فوجد أن دعاية الحكومة السوداء مبنية على قضية السيارة الجيب، فقرر أن يحرق هذه الأوراق، فرتب لهذا من خلال قنبلة حارقة توضع بجوار الدولاب المحفوظة فيه، وتمكن شفيق أنس من وضع حقيبة بها القنبلة إلى جوار الدولاب متنكرا في هيئة وكيل نيابة ثم ترك الحقيبة، إلا أن أحد المخبرين أمسك بها وناداه فجرى شفيق لكي لا تنفجر القنبلة في المحكمة، ولما خرج إلى الميدان نادى على المخبر وحذره من القنبلة فتركها وهرب فانفجرت في الميدان دون خسائر تُذكر، وقُبض على شفيق. وهكذا صارت القضية مادة جديدة في وسائل الدعاية السوداء للحكومة، مما اضطر البنا لإصدار بيان "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين" لتخفيف الضغط عن الإخوان، وهو من الخدعة الجائزة في الحرب، ولكن عبد المجيد حسن –قاتل النقراشي- انهار صموده حين عُرِض عليه هذا البيان فاعترف على إخوانه.
58. هذا الانهيار من عبد المجيد قاد الشرطة إلى اكتشاف من لم يتم اعتقالهم من النظام الخاص وإلى أمر الشقق التي يستأجرها النظام الخاص والموزعة بأنحاء القاهرة والمجهزة بالسلاح، وقد كان ينزل فيها من قادة النظام وبعض من أبلوا بلاء حسنا في فلسطين، وبعضهم عاد ليدافع عن دعوته في هذا الظرف. وقد اعتقلوا عددا من المؤثرين ووصلوا إلى السيد فايز.
59. تولى أحمد الملط القيادة بعده وخطط لاغتيال إبراهيم عبد الهادي، ولكن المحاولة أخفقت، واعتقل أحد أفرادها، وتولى إبراهيم عبد الهادي تعذيبه بنفسه. وأدى هذا إلى اكتشاف المزيد من الأوكار، ومع هذا فما يلبث أن يُكتشف وكر آخر مما جعل إبراهيم عبد الهادي يعيش أيامه في رعب، ثم قرر الملك إقالته يوم عيد الفطر لتكون هدية للشعب، وكان نصرا جديدا للإخوان.
نشر في مدونات الجزيرة 

يرجى الرجوع للتفاصيل في الكتاب نفسه، إذ يتعذر اختصارها على نحو لا يُخلّ بها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 21, 2016 10:46

أقوى اغتيالات النظام الخاص للإخوان المسلمين

وصلنا إلى الحلقة الأخيرة من خلاصات الكتاب الثالث الذي وضعناه في "مكتبة الثائر المصري"، وهو كتاب "حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين" لمؤرخه والقيادي فيه محمود الصباغ، ويمكن مراجعة الأجزاء السابقة لإكمال الصورة: الجزء الأول، الثاني، الثالث، الرابع.
خلاصات الكتاب:
48. جرت خطة تسليم فلسطين لليهود عبر التحكم في الجيوش العربية التي دخلت إلى فلسطين بحيث تنهزم أمام عصابات الصهيونية لتصير إسرائيل أمرا واقعا، وقد سُلِّح الجيش المصري بأسلحة فاسدة، وكان جلوب باشا –الإنجليزي، رئيس هيئة أركان القوات الأردنية- يصدر الأوامر بإجلاء المواقع المهمة ليستولي عليها اليهود دون قتال، ثم ينفذون المذابح التي تؤدي إلى تهجير القرى التالية.
49. تقدم الجيش المصري حتى وقف قبل تل أبيب بعشرين ميلا دون مقاومة من المستعمرات اليهودية، فلما بلغ هذه النقطة أُعطيت له أوامر عديدة ومتفرقة لتصرفه عن التقدم نحو عاصمة العدو ولتشتت قواته، وهناك عند أسدود ظهرت قوة العصابات الصهيونية فدارت معركة عنيفة استطاع الجيش أن يصدها عن نفسه، ثم انتفضت كل المستعمرات التي تركها خلفه وتركته دون مقاومة لتقطع عليه خطوط الإمداد وتُقَطِّع أوصال القوات، وكانت الروح المعنوية لأفراده قد ضعفت بعد تدخل السياسة وفرض الهدنة الأولى والثانية التي يستغلها اليهود لتغيير الميزان العسكري بما يستجلبونه من السلاح. وفي ظل هذا الوضع تصدر الأوامر العسكرية للجيش بالانسحاب من كل هذه المناطق، وتقع بعض القوات في الحصار كما في "حصار الفالوجا"، ولا يفعل الجيش شيئا لاستنقاذها، ولا يفعل شيئا ضد القوات التي انتفضت من خلفه ومزقت خطوط إمداداته. وهكذا رجع الجيش كله إلى الجنوب وبقي لواء الفالوجا محاصرا.
50. عند هذا الوضع طلبت قيادة الجيش تجهيز كتيبة من الإخوان تأتي من مصر لتدخل فلسطين لمحاولة إنقاذ الوضع، وكتبت القيادة بهذا إلى أمانة الجامعة العربية ورئاسة الأركان، وبدأ الإخوان فعلا في تجهيزها، كما نشطت قوات المتطوعين من الإخوان في مواجهة القوات الصهيونية التي تهدد وضع الجيش المصري51. لكن ما إن وصل الخبر إلى النقراشي حتى هاج وماج ورفض الفكرة أساسا، بل وأصدر قرار حل الجماعة وبدأ في حملته الأمنية ضد الإخوان في مصر –مصدر القوة الرئيسية لإمداد قوات فلسطين- بل وأمر الجيش في فلسطين باعتقال المتطوعين من الإخوان في الميدان فلا يبقى أمام الجيش بهذا إلا أن يعلن الهزيمة ويستسلم للصهاينة، وهذا هو إسهام الحكومة المصرية الخائنة في إقامة إسرائيل. وهي الخيانة العلنية التي لا يُحتاج معها إلى قراءة الوثائق البريطانية والأمريكية.
52. لم تكن الصورة مكتملة أمام البنا، فهو لم يطلع على ما جرى لجنوده في الميدان، ولم يطلع على ما يجري لهم في سجون مصر، وظنَّ أنه بإصدار بيان على هواهم قد يرهم إلى الصواب، ولكن: هيهات، بل لقد استعملوا بيان البنا في الضغط على الإخوان، ولما لم يفلحوا أقدموا على اغتيال الإمام الشهيد.
53. جزاء الخيانة في الشريعة معروف، وقد أمر النبي باغتيال كعب بن الأشرف على يد فرقة قادها الصحابي محمد بن مسلمة، وأمر باغتيال خالد بن سفيان الهذلي في مهمة نفذها الصحابي عبد الله بن أنيس الجهني، وأذن في اغتيال سلام بن أبي الحقيق فنفذته فرقة بقيادة الصحابي عبد الله بن عتيك.
54. بعد حل الجماعة كان الإخوان ما بين مجاهد في فلسطين ومعتقل في مصر أو مطارد، واستمر المجاهدون في مهمتهم بأمر من الإمام البنا، واستمرت بطولاتهم رغم ما كان يصلهم من بعض ما يتعرض له إخوانهم في سجون إبراهيم عبد الهادي.
55. كان الحبس انفراديا قبل قتل النقراشي، لا يخرج المسجون الإخواني إلا مرة واحدة في اليوم لقضاء الحاجة مع الحرص ألا يرى أحدا من إخوانه، بينما كان بالسجن عدد من الشيوعيات ينعمن بالرياضة والاختلاط والغناء الجماعي، ولم تكن في هذه المرحلة تعذيب. ثم بعد مقتل النقراشي كان الحبس انفراديا لكن يُسمح لهم بالذهاب للحمامات وبالتريض في السجن في جماعات. والمرحلة الثالثة هم سجناء قضايا الأوكار (أي الشقق المستأجرة من قبل النظام الخاص والموزعة في أنحاء القاهرة وهي مجهزة بالسلاح) وأولئك لا يصلون إلا السجن إلا بعد تعذيب شديد في أقسام الشرطة وسجن الاستئناف والقلعة تُشَرَّح فيه أجسادهم بالكرابيج وتُمزق أقدامهم وسيقانهم من الضرب والفلقة، ووصل التعذيب إلى ضرب الآباء والأمهات والأخوات وحلق شعورهن أمامهم بل والتهديد بهتك أعراضهن، والتهديد بهتك أعراض المسجونين أنفسهم. وإبراهيم عبد الهادي (رئيس الحكومة بعد النقراشي) هو أول من أدخل التعذيب الوحشي في سجون مصر فعليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة.
56. بقي في مصر من أعضاء النظام الخاص من لم يذهب إلى فلسطين، وكان السيد فائز هو مسؤول النظام الخاص في القاهرة بعد اعتقال كل من فوقه، وبه أنيطت مهمة حياة الدعوة في هذه الظروف العصيبة، فبدأ معركته مع رأس الخيانة: النقراشي. ورتَّب لاغتياله، ونجح، واستطاع بعض من أفراد النظام اغتيال النقراشي في حصنه وبين قواته وفي وضح النهار.
57. ثم نظر فوجد أن دعاية الحكومة السوداء مبنية على قضية السيارة الجيب، فقرر أن يحرق هذه الأوراق، فرتب لهذا من خلال قنبلة حارقة توضع بجوار الدولاب المحفوظة فيه، وتمكن شفيق أنس من وضع حقيبة بها القنبلة إلى جوار الدولاب متنكرا في هيئة وكيل نيابة ثم ترك الحقيبة، إلا أن أحد المخبرين أمسك بها وناداه فجرى شفيق لكي لا تنفجر القنبلة في المحكمة، ولما خرج إلى الميدان نادى على المخبر وحذره من القنبلة فتركها وهرب فانفجرت في الميدان دون خسائر تُذكر، وقُبض على شفيق. وهكذا صارت القضية مادة جديدة في وسائل الدعاية السوداء للحكومة، مما اضطر البنا لإصدار بيان "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين" لتخفيف الضغط عن الإخوان، وهو من الخدعة الجائزة في الحرب، ولكن عبد المجيد حسن –قاتل النقراشي- انهار صموده حين عُرِض عليه هذا البيان فاعترف على إخوانه.
58. هذا الانهيار من عبد المجيد قاد الشرطة إلى اكتشاف من لم يتم اعتقالهم من النظام الخاص وإلى أمر الشقق التي يستأجرها النظام الخاص والموزعة بأنحاء القاهرة والمجهزة بالسلاح، وقد كان ينزل فيها من قادة النظام وبعض من أبلوا بلاء حسنا في فلسطين، وبعضهم عاد ليدافع عن دعوته في هذا الظرف. وقد اعتقلوا عددا من المؤثرين ووصلوا إلى السيد فايز.
59. تولى أحمد الملط القيادة بعده وخطط لاغتيال إبراهيم عبد الهادي، ولكن المحاولة أخفقت، واعتقل أحد أفرادها، وتولى إبراهيم عبد الهادي تعذيبه بنفسه. وأدى هذا إلى اكتشاف المزيد من الأوكار، ومع هذا فما يلبث أن يُكتشف وكر آخر مما جعل إبراهيم عبد الهادي يعيش أيامه في رعب، ثم قرر الملك إقالته يوم عيد الفطر لتكون هدية للشعب، وكان نصرا جديدا للإخوان.
نشر في مدونات الجزيرة 

يرجى الرجوع للتفاصيل في الكتاب نفسه، إذ يتعذر اختصارها على نحو لا يُخلّ بها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 21, 2016 10:46

December 19, 2016

حقوق الحيوان في الإسلام (5) حق جودة السلالة

ذكرنا في المقالات الماضية حقوق الحيوان التي كفلها له الإسلام، وأوصلنا استقراؤنا إلى أنها خمسة حقوق: حق الحياة وبقاء النوع، حق الرعاية الصحية، حق العناية بالطعام والشراب والنفقة، حق الإيواء للحيوانات الضعيفة التي لا تستقل بحفظ حياتها.
وهذا هو الحق الخامس، وهو حق جودة السلالة، وهو مأخوذ من نهي النبي r عن إنزاء الحُمُر على الخيل، روى علي بن أبي طالب t قال: أُهديت لرسول الله r بغلة فركبها، فقال عليّ t: لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذه. قال رسول الله r: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون"وقد اختلف العلماء في كون هذا النهي يفيد الحرمة أم الكراهة، وذلك أن نتاج هذا النزو هو البغل الذي هو أدنى من الخيل، فمنهم من قال بالحرمة لأنه استبدال الذي هو أدنى (البغل) بالذي هو خير (الخيل)، ومنهم من قال بالكراهة واعتبر أن ركوب النبي r للبغل دليل على الجواز، وحملوا هذين الحديثين على أنه كان خاصا وقت أن كانت الخيل قليلة في بني هاشم فلهذا نهي عنه، فلو كثرت الخيل فقد زالت العلَّة.
وبين الفريقين أخذٌ وردٌ في هذا الموضوع، ولكن خلاصته أنهم متفقون على المنع إذا قَلَّت الخيل أو خيف انقطاع نسلها، كما أنهم متفقون -بطبيعة الحال- على أن الأفضل هو عدم إنزاء الحمر على الفرس، فهم إذًا متفقون على الحدِّ الأدنى وهو الحماية من الانقراض أو القلَّةويبدو أن الرأي القائل بالحرمة أرجح لعموم قول النبي r "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون" ولأنه يجوز استعمال ما حُرِّم أحيانا كما نقل المباركفوري عن الطيبي قوله "لعلَّ الإنزاء غير جائز، والركوب والتزين به جائز، إنْ كان كالصور، فإنَّ عَمَلَها حرامٌ واستعمالها في الفرش والبسط مباح. قلتُ (المباركفوري): وكذا تخليل الخمر حرام، وأكل خلِّ الخمر جائز على رأي بعض الأئمة"وفيما يتعلق بموضوع الإنزاء هذا منع الفقهاء ما فيه ألم أو ضرر بالحيوان، ولو كان فيه تجويد النسل، وهذا من دقيق فهمهم لما جاء في النصوص من الرحمة والشفقة، قال الرملي وهو من شيوخ الشافعية: "وبحث الأذرعي تحريم إنزاء الخيل على البقر لكبر آلتها، ويؤخذ منه أن كل إنزاء مضرٍّ ضررًا لا يحتمل عادة كذلك (أي: في الحرمة)، وبه يرد تنظير بعض الشارحين حيث ألحق إنزاء الخيل على الحمير بعكسه في الكراهة، نعم: إن لم يحتمل الأتان الفرس لمزيد كبر جثته اتجهت الحرمة"ومما يجدر قوله في ختام استعراض هذه الحقوق التي كفلها الإسلام للحيوان أن نُذَكِّر بعدد من الأمور المهمة:
أولا: أن الإسلام حين جاء بهذه الوصايا والتعاليم إنما كان هذا صادرا عنه بالأصالة، ليس أمرا تؤدي إليه تطورات فكرية أو فلسفات سابقة أو أوضاع قائمة، تلك الأمور التي يستند إليها الماديون في التحليل والتفسير، وهذا بحد ذاته دليل ربانية هذا الدين وصدقه، وأنه ليس ردَّ فعل ولا هو استجابة لتحديات زمنية مكانية.
ثانيا: أنك لا تجد في فلسفة من الفلسفات أو منهج من المناهج الوضعية ما يهتم بأمر الحيوان وحقوقه، فضلا عن أن يهتم به إلى هذا الحد من التفاصيل، حتى تأتي النصوص في مسائل مثل الإنزاء والإيواء والنفقة على الحيوان، وهو ما صنع تراثا فقهيا غاية في الثراء لم نعرض في هذه السلسلة إلا لخلاصاته الأخيرة وقشوره فقط، وهو تراث دونه كل المدونات الحقوقية المكتوبة في رعاية الحيوان، فإن لم تكن دونه من حيث التفصيل والتوضيح فهي دونه من حيث المقام والمكانة، إذ الإسلام دين ملزم لأتباعه ونصوصه مقدسة واجتهاد علمائه معتبرن بينما دواوين الحقوقيين في موضع الاهتمام والتنفيذ لا تكاد تساوي الحبر الذي كُتبت به.
ثالثا: أننا عرضنا في هذه السلسلة لحقوق الحيوان، ولم نتعرض لما ورد من النهي عن إيذاء الحيوان، ولا لما ورد في هذا الباب من آداب الذبح والقتل، وهو ما نسأل الله أن يعيينا على إكماله في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى، إذ فيه من الأمور الدقيقة والمدهشة ما لا يكاد يُصدق.
وهذا كله –وغيره- إنما هي صورة من قول الله تعالى لنبيه "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، فليست رحمته قاصرة على البشر، بل هي شاملة للبشر وغيرهم من الكائنات والمخلوقات، وهو أمر لم يبلغه منهج آخر ولم تتطلع إلى آفاقه فلسفة أخرى.
ثم نختم هذه السلسلة بثلاث مواقف لطيفة لبعض العلماء المسلمين، فمن ذلك ما أفتى به الإمام أبو حامد المروروذي (ت 362هـ) حين سئل في تَنَازُعٍ بين جارين، طائرُ أحدِهِما بلع لؤلؤة للآخر، هل يحل للآخر ذبحه، فقال: "لا آمر بذبحه وأتركهم حتى يصطلحوا عليه؛ لأن للحيوان حرمة، ألا ترى أنه لو غَصَب خيطًا وخاط به جرح حيوان لم يُكلَّف الرد"وحين وضع الإمام تاج الدين السبكي كتابه "معيد النعم ومبيد النقم"، حدَّد فيه آداب كل مهنة، فكان من روائع ما أورده في آداب "الطيان" –وهو الذي يُطيِّن الجدران عند البناء- قوله: "ومن حقه ألا يُطين مكانًا قبل الكشف عنه: هل فيه شيء من الحيوانات أو لا؛ فأنت ترى كثيرًا من الطيانين يعجلون في وضع الطين على الجدار، وربما صادف ما لا يحل قتله لغير مأكلة من عصفور ونحوه، فقتله واندمج في الطين؛ ويكون حينئذ خائنًا لله تعالى من جهة قتله هذا الحيوان، ولصاحب الجدار من جهة جعله مثل ذلك ضمن جداره"ونامت هرة –مرَّةً- على ثوب الشيخ أبي العباس أحمد الرفاعي، فلما أراد أن يقوم إلى الصلاة قصَّ كُمَّه لئلا يزعجها، ثم صلى وعاد فخاطه مرة أخرى وقال: "ما تغير شيء"
أبو داود (2565)، والنسائي (3580) وصححه الألباني. أي آل البيت. أحمد (1977)، وأبو داود (808)، والترمذي (1701)، والنسائي (141)، وصححه الألباني وشعيب الأرناءوط. الطحاوي: شرح مشكل الآثار 1/204 وما بعدها، وعبد الرحمن المباركفوي: تحفة الأحوذي 5/289 وما بعدها. المباركفوري: تحفة الأحوذي 5/290. شمس الدين الرملي: نهاية المحتاج 6/170. الماوردي: الحاوي في فقه الشافعي 6/407. السبكي: معيد النعم ومبيد النقم ص129، 130. الذهبي: سير أعلام النبلاء 21/78.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 19, 2016 10:31

December 18, 2016

حقوق الحيوان في الإسلام (5) حق جودة السلالة

ذكرنا في المقالات الماضية حقوق الحيوان التي كفلها له الإسلام، وأوصلنا استقراؤنا إلى أنها خمسة حقوق: حق الحياة وبقاء النوع، حق الرعاية الصحية، حق العناية بالطعام والشراب والنفقة، حق الإيواء للحيوانات الضعيفة التي لا تستقل بحفظ حياتها.وهذا هو الحق الخامس، وهو حق جودة السلالة، وهو مأخوذ من نهي النبي r عن إنزاء الحُمُر على الخيل، روى علي بن أبي طالب t قال: أُهديت لرسول الله r بغلة فركبها، فقال عليّ t: لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذه. قال رسول الله r: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون"
أبو داود (2565)، والنسائي (3580) وصححه الألباني. أي آل البيت. أحمد (1977)، وأبو داود (808)، والترمذي (1701)، والنسائي (141)، وصححه الألباني وشعيب الأرناءوط. الطحاوي: شرح مشكل الآثار 1/204 وما بعدها، وعبد الرحمن المباركفوي: تحفة الأحوذي 5/289 وما بعدها. المباركفوري: تحفة الأحوذي 5/290. شمس الدين الرملي: نهاية المحتاج 6/170. الماوردي: الحاوي في فقه الشافعي 6/407. السبكي: معيد النعم ومبيد النقم ص129، 130. الذهبي: سير أعلام النبلاء 21/78.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 18, 2016 15:19

حقوق الحيوان في الإسلام (5) حق جودة السلالة

ذكرنا في المقالات الماضية حقوق الحيوان التي كفلها له الإسلام، وأوصلنا استقراؤنا إلى أنها خمسة حقوق: حق الحياة وبقاء النوع، حق الرعاية الصحية، حق العناية بالطعام والشراب والنفقة، حق الإيواء للحيوانات الضعيفة التي لا تستقل بحفظ حياتها.وهذا هو الحق الخامس، وهو حق جودة السلالة، وهو مأخوذ من نهي النبي r عن إنزاء الحُمُر على الخيل، روى علي بن أبي طالب t قال: أُهديت لرسول الله r بغلة فركبها، فقال عليّ t: لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذه. قال رسول الله r: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون"
أبو داود (2565)، والنسائي (3580) وصححه الألباني. أي آل البيت. أحمد (1977)، وأبو داود (808)، والترمذي (1701)، والنسائي (141)، وصححه الألباني وشعيب الأرناءوط. الطحاوي: شرح مشكل الآثار 1/204 وما بعدها، وعبد الرحمن المباركفوي: تحفة الأحوذي 5/289 وما بعدها. المباركفوري: تحفة الأحوذي 5/290. شمس الدين الرملي: نهاية المحتاج 6/170. الماوردي: الحاوي في فقه الشافعي 6/407. السبكي: معيد النعم ومبيد النقم ص129، 130. الذهبي: سير أعلام النبلاء 21/78.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 18, 2016 15:19

December 15, 2016

وعند الثورة يتذكر الحكام الدين

لا زلنا في دروس الثورة العباسية التي استعرضناها في سلسلة المقالات الماضيةببصيرة السياسي الحاذق أدرك نصر بن سيار أن خطر أبي مسلم هو الخطر الأكبر في بلاده، وأنه من الممكن تجميد وتأجيل كل الخلافات والصراعات إلا هذا الخطر المجهول، فالدعوة الهاشمية الغامضة التي كان يلمحها سرا، ولا يستطيع الإمساك بخيوطها قد صارت قوة كبرى، وهي ليست من جنس الحركات التي يمكن التفاهم معها بالأموال أو الولايات؛ بل هي دعوة تطلب أمر الخلافة نفسه، ثم إنه ليس في حالة تسمح له بمحاربتها وحده، وخراسان منقسمة عليه، وجيشه لا يكاد يخرج من نزاع حتى يدخل في آخر، فلا طاقة له بهذه الدعوة الفتية الجديدة، لكل هذا ولغيره بدأ نصر بن سيار منذ تلك اللحظة في إرسال استغاثاته ومناشداته.
فأرسل إلى الخليفة مروان بن محمد قائلا:أرى خلل الرماد وميض جمر ... فيوشك أن يكون لها ضرامفإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلامفإن لم تطفئوها تجن حربا ... مشمرة يشيب لها الغلامفقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيامفإن كانوا لحينهم نياما ... فقل قوموا فقد حان القيامففري عن رحالك ثم قولي ... على الإسلام والعرب السلامعلى أن مروان، في الواقع، لم يكن غافلا؛ ولكنه كان مشغولا بقمع ثورات العراق والجزيرة والحجاز واليمن ومصر، التي تكالبت عليه من كل جهةفكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة، والي الأمويين على العراق، وهو الذي ترجع إليه أمور خراسان، قائلا:أبلغ يزيد وخير القول أصدقه ... وقد تبينت أن لا خير في الكذببأن خراسان أرض قد رأيت بها ... بيضا لو أفرخ قد حدثت بالعجبفراخ عامين إلا أنها كبرت ... لما يطرن وقد سربلن بالزغبفإن يطرن ولم يحتل لهن بها ... يلهبن نيران حرب أيما لهبفقال يزيد: لا غلبة إلا بكثرة؛ وليس عندي رجل. وكانت العلاقة بين الرجلين سيئة ومضطربة، لذا لم يفكر في إنجاده متعللا باحتياجه إلى من لديه من الجنود لمواجهة ثورات الخوارج في العراقوأرسل نصر استغاثة أخرى إلى مروان بن محمد ولم يكن مصيرها أفضل من سابقاتهاوبالموازاة مع هذه الرسائل اجتهد نصر بن سيار ليمنع تحالفا قد يكون بين الكرماني ومن وراءه من اليمانية وبين أبي مسلم، ثم خاف أكثر من ذلك أن ينضم الربعية إلى هذا الحلف فيكون الأمر قد انتهى تقريبا وصار بلا قوة، ولئن كانت العداوة مشتعلة بينه وبين الكرماني زعيم اليمانية؛ فلقد سارع أولا إلى محاولة تحييد الربعية، فأنشد يقول:أبلغ ربيعة في مرو وإخوتهم ... فليغضبوا قبل أن لا ينفع الغضبولينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا ... حربا يحرق في حافاتها الحطبما بالكم تلقحون الحرب بينكمو ... كأن أهل الحجا عن فعلكم غيبوتتركون عدوا قد أظلكمو ... مما تأشب لا دين ولا حسبليسوا إلى عرب منا فنعرفهم ... ولا صميم الموالي إن هم نسبواقدما يدينون دينا ما سمعت به ... عن الرسول ولم تنزل به الكتبفمن يكن سائلا عن أصل دينهم ... فإن دينهمو أن تقتل العربمواجهة نصر بن سيار للدعوة العباسية
بعد الفشل على المستوى السياسي، مستوى الزعماء، توجه نصر بن سيار إلى المستوى الشعبي؛ إذ بعث نصر بن سيار إلى المتفقهين والقراء والنساك، ومن كان معارضا للحروب الداخلية بين نصر والكرماني، وقال: إنكم كرهتم مشاهدتنا في حربنا هذه، وزعمتم أنها فتنة القاتل والمقتول فيها في النار، فلم نردد عليكم رأيكم في ذلك، وهذا حدث قد ظهر بحضرتكم: هذه المسودة وهي تدعو إلى غير ملتنا وقد أظهروا غير سنتنا، وليسوا من أهل قبلتنا يعبدون السنانير (أي: القطط)، ويعبدون الرءوس، علوج وأغتامإنها سيرة المستبدين في كل زمان، ألا يحفلوا بعلماء الدين ولا يلقوا لهم بالا؛ حتى إذا وقعوا في أزمة سارعوا إليهم: أن أنقذوا الأمة والبلاد، ولكم علينا إن انتهت الفتنة أن نحكم بشرع الله. وعلى الجانب الآخر فلا شك أن في المتفقهين والنساك من لا يدرك أمور السياسة؛ لا سيما إن صور له الأمر على أنها فتنة تسيل فيها دماء المسلمين، فهو يسارع إلى إطفاء هذه الفتنة دون أن يعمل جهده في تبين وجه الحق فيها، وقد رأينا في عالمنا المعاصر كيف يستخدم الطغاة المستبدون بعض العلماء في إخماد الثورات الشعبية؛ باعتبارها فتنة تهدد البلاد والعباد، وتسيل فيها الدماء، وكذبوا: فما هدد بلادنا ودمرها وأسال دماء أهلها إلا هم أنفسهم!
أقلقت هذه الدعاية بالتحديد العباسيين، وخشوا من تأثيرها البالغ، ولم ينزل بأبي مسلم غم كما نزل به في هذا الحين؛ إذ الطعن في العقيدة أنفذ في النفوس من غيره، فسارع أبو مسلم لجمع أهل الرأي من النقباء وطرح الأمر عليهم فاقترح أسلم بن أبي سلام أن يجمع أبو مسلم أهل المعسكر جميعا، ثم ينادي فيهم أنه يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإقامة الحق والعدل، وأنه يبايع على ذلك هو وجميع أهل الدعوة، وبهذا تنتهي دعاية نصر بن سيار بأنهم على غير ملة الإسلام، واتفقوا على هذا الرأي، فنادى أبو مسلم بأن يجتمع أهل المعسكر جميعا صباح الغد لأمر مهم، وبلغ أمر الدعوة نصر بن سيار فبعث جواسيس إلى معسكر العباسيين لاستطلاع الأمر، ولما جاء الصباح نادى أبو مسلم: «يا معشر المسلمين بلغنا أن نصر بن سيار جمع قوما فخبرهم بأنكم على غير دين الإسلام، وأنكم تستحلون المحارم، ولا تعملون بكتاب الله ولا سنة نبيه، يريد بذلك ليطفئ نوركم، ويؤلب عليكم الناس، وقد كان الإمام أمرنا وتوالت كتبه إلينا بأن ندعو الناس إلى كتاب الله وسنة نبيه والعمل بذلك، وإظهار العدل، وإنكار الجور، وأن أبايع الناس على ذلك، وأنا أول من بايع على كتاب الله تعالى وسنة نبي الله والعمل بالحق والعدل ودفع الظلم عن الضعفاء، وأخذ الحق من الأقوياء، خذ بيعتي يا أبا محمد» (سليمان بن كثير). فأخذ بيعته، وقال: عليك عهد الله وميثاقه لتفين بما أعطيت من نفسك؟ قال: نعم. ثم تتابع أهل الدعوة على البيعة حتى شمل كل من في المعسكر، وقد فوجئ القراء والنساك بهذا؛ فأمسكوا عن الطعن في العباسيين وفي أبي مسلم؛ بل إن منهم من انحاز إليهم، وفشل تدبير نصر بن سيارومع هذا الفشل لجأ نصر بن سيار إلى الحوار، فأرسل رجلين من بني ليث ومن باهلة إلى أبي مسلم لسؤاله عن هذه الدعوة، وقد اندهش الرسولان حين علما بأنهم يقيمون الصلاة وقالا: «والله ما كنا نحسبكم تصلون ... كان يقال لنا: إنكم لا تصلون وإنكم تعبدون السنانير. فلما رأيناك (أبا مسلم) تصلي ورأينا السنور مهينا لديكم؛ علمنا أن ما قيل فيكم باطل». وأحضر أبو مسلم كبار الدعوة وعلى رأسهم سليمان بن كثير لمجلس المناظرة، وبين أنه يدعو لدعوة الحق على كتاب الله وسنة نبيه وعلى المبايعة للرضا من آل محمد، فحاولا معرفة زعيم هذه الدعوة من آل البيت فلم يمكنهما؛ بل قال لهما أبو مسلم: «إن أجبتمانا ووثقتما له وأعطيتمانا ما نطمئن إليه منكما جمعنا بينكما وبينه، فأما أن ندلكما على صاحبنا وأنتما مقيمان على باطلكما فلا». وأظهر لهما الزهد والتواضع وتجرد من الأحساب والأنساب، وأعلن أن نسبه هو الدين وأن حسبه هو نصرة آل البيت لا غير، وبهذا ارتفع بدعوته فوق العصبيات والقبليات، فعاد الرجلان إلى نصر بن سيار يخبرانه بأن عدوه هذه المرة إنما هو داهيةوفي رواية عند الطبري أن العباسيين أسروا جماعة من أتباع الأمويين؛ ومنهم مولى لنصر بن سيار نفسه، فأمر أبو مسلم أن يعالج مولى نصر من جراحه، ويحسن إليه، ثم دعاه إليه فقال: إن شئت أن تقيم معنا وتدخل في دعوتنا فقد أرشدك الله، وإن كرهت فارجع إلى مولاك سالما، وأعطنا عهد الله ألا تحاربنا وألا تكذب علينا، وأن تقول فينا ما رأيت. فاختار الرجوع إلى مولاه، وقال أبو مسلم: إن هذا سيرد عنكم أهل الورع والصلاح؛ فإنا عندهم على غير الإسلام. فلما قدم على نصر بن سيار قال نصر: لا مرحبا بك، والله ما ظننت استبقاك القوم إلا ليتخذوك حجة علينا. فقال: فهو والله ما ظننت وقد استحلفوني ألا أكذب عليهم، وأنا أقول: إنهم يصلون الصلوات لمواقيتها بأذان وإقامة، ويتلون الكتاب، ويذكرون الله كثيرا ويدعون إلى ولاية رسول الله، وما أحسب أمرهم إلا سيعلو، ولولا أنك مولاي أعتقتني من الرق ما رجعت إليك، ولأقمت معهم. والحال نفسه تكرر مع أسرى لسرية من جيش نصر بن سيار آذت أهل قرية طوسان، فاستغاثوا بأبي مسلم؛ فأرسل إليهم سرية هزمتهم وأسرت منهم، فداوى جرحاهم ثم أفرج عنهمثم أرسل إليهم رجلا آخر واعظا فصيحا اسمه حية، وكان ممن استجاب لدعوة العباسيين، ثم انفصل عنهم، ولم تكن هذه المرة مثل السابقة تقصد الفهم والتعرف على هذه الدعوة؛ بل كانت هجومية؛ حتى لقد أوصى نصر حية بأن يسائله عن انحياز العبيد إليه، وهل يرضى هروبهم من مواليهم، وعن تجاوزات وقعت من أصحاب الدعوة في مدن نسا وطالقان وآمل، وعن انحيازه لقبائل اليمانية في اتهام له بالحزبية والعصبية والقبلية؛ التي لا تتفق مع دعوة الإسلام، وقد أفاض حية في عرض هذه العيوب بأسلوب فصيح إلا أن أبا مسلم رد عليه بكلام قليل موجز؛ لكنه بليغ كذلك، قال: "أما العبيد فلسنا نكره أحدا منهم، فمن أراد مولاه فشأنه، وإن أنفذتم أحكامنا حكمنا بينهم وبين مواليهم بالحق، وأما أهل نسا وطالقان وآمل، فإن الذي كان منهم لم يكن عن رأينا ولا بأمرنا؛ ولكنهم أمة أريد ظلمهم وسفك دمائهم فامتنعوا؛ فلا حجة عليهم ... ونعم أمرني الإمام أن أنزل في أهل اليمن وأتألف ربيعة، ولا أدع نصيبي من صالحي مضر"وبهذا نفى عن نفسه تهمة العصبية، وذنب تحريض الموالي على الهرب من مواليهم، والمسئولية عما فعل أهل الدعوة من تجاوزات مع التماس العذر لهم وتبرئتهم من الذنب باعتبار أنهم الذين أريد الاعتداء عليهم ولم يبدءوا بالعداوة.ولما شاعت هذه الإجابة السديدة بين الناس؛ زاد هذا في إقبال العبيد عليه؛ حتى بلغوا سبعة آلاف، فكان يكرمهم ويعطي الواحد منهم ثلاثة دراهم يوميا، ثم زادت إلى أربعة، وكذلك زاد إقبال اليمانية إما رغبة في الدعوة، وإما طلبا للثأر من نصر بن سيار، وكذلك إقبال الناس من ربيعة، وإقبال العديد من مضر أيضاوعلى هذا فشل نصر بن سيار في هذا الأسلوب أيضا! وصار استيلاء العباسيين على خراسان مسألة وقت.
نشر في ساسة بوست

راجع: اختيار مكان الثورة، وتأسيس الخلايا السرية، ومقاومة الاختراقات، وصورة مختصرة عن التنظيم السري العباسي ØŒ وعوائق في طريق الثورة، ولحظات ما قبل الثورة العباسية، أبو مسلم الخراساني، درس التمهيد للدولة، قصة ظهور الدعوة العباسية. خليفة بن خياط: تاريخ خليفة ص115، وابن عبد ربه: العقد الفريد 5/ 221، وابن ظافر الأزدي: أخبار الدول المنقطعة 2/ 275. د. فاروق عمر: الثورة العباسية ص101. الدينوري: الأخبار الطوال ص357. الثؤلول: بثر صغير صلب مستدير بقدر الحمصة أو أصغر منها يشبه الخراريج يظهر في الجسم. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 314، وابن ظافر الأزدي: أخبار الدول المنقطعة 2/ 275.  Ø§Ù„بلاذري: أنساب الأشراف 4/ 133. البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 133، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 315. الدينوري: الأخبار الطوال ص360.  Ø§Ù„بلاذري: أنساب الأشراف 4/ 132، والدينوري: الأخبار الطوال ص361، وابن عبد ربه: العقد الفريد 5/ 221. أغتام: جمع غتمي، وهو الذي لا يفصح شيئا. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص290. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص290 - 293. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص281 - 283. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 309، 313. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص284، 285. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص285، والطبري: تاريخ الطبري 7/ 366.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 15, 2016 15:15