محمد إلهامي's Blog, page 41

October 27, 2016

عملية اختراق ناجحة للدعوة العباسية

اختار العباسيون خراسان كمقر انطلاق للدعوة لأسباب عديدة، وهو درس في اختيار مكان الثورة. ثم أسسوا خلايا سرية تعتمد على توجيهات واضحة في الاختيار والانتقاء والانتشار والتخفي، فهو درس في تكوين وتأسيس الخلايا الدعوية، واليوم يقدم لنا العباسيون درسا آخر في مواجهة الاختراقات التي قد تصيب بنيان الدعوة.
اختار بكير بن ماهان داعية جديدًا ليتولَّى أمر خراسان (118هـ)، فوقع اختياره على عمار بن يزيد، وكان عمار بن يزيد من النصارى الذين أسلموا في الكوفة، وكان داعية موهوبًا، وأحدث تقدُّمًا في الدعوة في خراسان، والتفَّ حوله كثير من الأتباع، وكان قد غيَّر اسمه إلى «خداش»؛ وفجأة بدا أن خداشًا يسير في طريقة أخرى غير طريق الدعوة؛ إذ دعا أتباعه إلى مذهب الخرمية؛ فأحل لهم نساء بعضهم، وأسقط عنهم الصلاة والصيام والحج؛ باعتبار أن الصلاة المطلوبة هي الدعاء للإمام، وأن الصيام هو الصيام عن ذكر اسم الإمام، وأن الحج هو القصد إلى الإمام، وكما فَرَّقَت هذه الآراء جموعًا كثيرة عنه، فهي قد جذبت إليه آخرين من أصحاب الجهل والهوى؛ لا سيما وهو يغلف هذه الدعوات بتفسيرات قرآنية؛ مثل: أخذه بظاهر الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93]، ويزعم أنه يقول هذا نقلًا عن الإمام صاحب العلوم من آل البيت، ولم يكن غريبًا -وقد وصلت هذه الأفكار إلى الدعوة- أن يصل خبرها إلى والي خراسان أسد بن عبد الله القسري، الذي قبض على خداش وعذَّبه؛ حتى عرف منه اسم إمامه محمد بن علي العباسي ثم قتلهما من شكٍّ في أنها أزمة قاسية نزلت بالدعوة العباسية ورجالها؛ وذلك على مستوى سمعتها بين الناس أو على مستوى انكشاف بعض رجالها أمام السلطة الأموية، وقد استدعى هذا تحركًا سريعًا؛ إذ قام الإمام محمد بن علي بإرسال بكير بن ماهان بنفسه إلى خراسان، وهناك قام بكير بمهمتين أساسيتين: أولهما البيان والشرح بأن أفكار خداش إنما هي أفكار منحرفة، ولا تمت للدعوة بصلة، ولا يرضاها الإمام، ويتبرأ منها، والثانية إعادة هيكلة الدعوة في خراسان بما يُعالج أي انكشاف كان قد وقع في هذه الأزمةوصل بكير بن ماهان إلى خراسان ومعه رسالتان؛ رسالة إلى العامة، ورسالة أخرى إلى خاصة أهل الدعوة.
جاء في الرسالة الأولى، وهي طويلة مسهبة، توصيات حافلة واضحة ناصعة تؤكد على معاني تعظيم الله وعلى الزهد والعبادة والتقوى والصبر والعمل للآخرة، والتحذير من المعصية والاغترار بالدنيا ونسيان الآخرة ومصاحبة قرناء السوء، وبعد موعظة طويلة ذكر ما فيه إنكاره على الأفكار المنحرفة التي أعلن بها خداش، وقال "فاتقوا الله ولا تكونوا أشباهًا للجفاة؛ الذين لم يتفقهوا في الدين، ولم يُعطوا بالله اليقين، وإن الله أنزل عليكم كتابًا واضحًا ناطقًا محفوظًا، قد فصل فيه آياته، وأحكم فيه تبيانه، وبيَّن لكم حلاله وحرامه، وأمركم أن تتبعوا ما فيه، فاتخذوه إمامًا، وليكن لكم قائدًا ودليلًا، فعليكم به فعوه، ولا تُؤَثروا عليه غيره؛ فإنه أصدق الحديث، وأحسن القصص، وأبلغ الموعظة، به هدى الله من مضى من الأولين والآخرين. و {اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 41 - 44]. {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30، 31]، فإن الله قد بيَّن لكم ما تأتون وما تتقون، فقال لنبي الرحمة: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ... } [الأعراف: 33] الآية، وقال لنبيه: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... } [الأعراف: 29] الآية. أسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم مهتدين غير مرتابين، والسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين"وقد جاء في الرسالة الطويلة فقرة تؤكد على معنى طاعة أولياء الأمر، تقول " ولا تقطعوا رحمًا ماسة محقة، ولا ترموا بريئًا، ولا تعصوا إمامًا، ولا تركبوا زيغًا، ولا تطيعوا إثمًا، ولا تفتحوا مغلقًا، ولا تقفلوا مفتوحًا، ولا تختانوا ولاة أموركم، وأحسنوا مؤازرتهم وصيانة أمرهم، أعينوهم إذا شهدتم، وانصحوا لهم إذا غبتم، وأقسطوا إذا حكمتم، واعدلوا إذا قلتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدُّوا إذا ائتمنتم، واصبروا إذا ابتليتم، واشكروا إذا أعطيتم".
وهذه الفقرة عليهم تحتمل معنيين؛ الأول: أن محمد بن علي العباسي لما علم بأن خداشًا قد انتسب إليه سارع بتبرئة نفسه علنًا أمام بني أمية برسالة يرسلها إلى عامة أهل خراسان، ويتولى تسريبها إليهم بكير بن ماهان، فكان طبيعيًّا أن يُعيد التأكيد على براءته من فتنة خداش البراءة من الأفكار المنحرفة عن الدين، والبراءة من الدعوة للثورة على بني أمية. والثاني: أنها رسالة إلى عامة أهل الدعوة لا إلى عامة أهل خراسان، وحينها ينصرف معنى ولاة الأمور إلى قادة الدعوة لا إلى أمراء بني أمية؛ رغبة في ضبط الأفراد داخل سياق التنظيم، وإلزامهم عدم الاجتهاد من أنفسهم في شيء قد يجر على الدعوة وبالاً كثيرًا.
وجاءت الرسالة الثانية التي هي خاصَّة لأهل الدعوة قصيرة مركزة مباشرة: «أما بعد؛ عصمنا الله وإياكم بطاعته وهدانا وإياكم سبيل الراشدين. قد كنتُ أعلمتُ إخوانكم رأيي في خداش، وأمرتهم أن يبلغوكم قولي فيه، وإني أشهد الله الذي يحفظ ما تلفظ به العباد من زكي القول وخبيثه، أني بريء من خداش؛ وممَّنْ كان على رأيه ودان بدينه. وآمركم ألا تقبلوا من أحد ممن أتاكم عني قولًا ولا رسالة خالفت فيها كتاب الله وسنة نبيه والسلاموكان محمد بن علي قد أرسل رسالة أخرى مع قحطبة بن شبيب الطائي؛ لكنه تأخَّر لمرض أصابه، وكان نصُّها: «وفقنا الله وإياكم لطاعته، قد وجهت إليكم شقَّة مني بكير بن ماهان، فاسمعوا منه وأطيعوا، وافهموا عنه؛ فإنه من نجباء الله، وهو لساني إليكم، وأميني فيكم؛ فلا تخالفوه، ولا تقضوا الأمور إلَّا برأيه، وقد آثرتكم به على نفسي لثقتي به في النصيحة لكم، واجتهاده في إظهار نور الله فيكم والسلام"وكانت هذه الرسالة بمثابة تفويض لبكير بن ماهات الذي بدأ في إعادة هيكلة التنظيم العباسي السري في خراسان (118هـ)، فجعل الدعاة على مراتب ودرجات؛ فالهيئة العليا للدعوة في خراسان سماهم النقباء؛ وعددهم اثنا عشر، اختارهم أهل الدعوة في خراسان ليكونوا رؤساءهم، ثم في المرتبة الثانية مجلس مكون من سبعين رجلًا (هيئة تأسيسية) يضمُّ الاثنى عشر نقيبًا، فهؤلاء هم رؤساء الدعوة في مرو (عاصمة خراسان)، وأما في البلاد والقرى المحيطة فكل داعية من الدعاة نقيب على من ببلدته من الذين يستجيبون للدعوةوبعدما تمَّ هذا الضبط وإعادة الهيكلة للتنظيم والقيادة لم يسجل التاريخ أن اختراقا آخر حدث ولا نجح للدعوة العباسية حتى قامت الثورة وصارت دولة.
نشر في ساسة بوست

الطبري: تاريخ الطبري 4/ 164، وابن عساكر: تاريخ دمشق 10/ 389 (ترجمة بكير بن ماهان)، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 4/ 420، وابن كثير: البداية والنهاية 9/ 351، وابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 1/ 357. البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 117، والمطهر المقدسي: البدء والتاريخ 6/ 61. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص208 وما بعدها.ولا بد من القول بأنه من ناحية الإسناد، فإن هذه الرسالة ضعيفة؛ لأنها رُويت بغير إسناد، ويزيدها ضعفًا طولها المفرط، الذي يصعب أن ينتقل عبر الجيل دون أن يُصيبه التحريف، وعلى هذا فلسنا نقول بأنها صحيحة السند، ولكنها مقبولة في إطار التأريخ؛ فهي لا تخرج عن الأطر العامة للدعوة العباسية وأفكارها، كما أنها مناسبة لأن تُقال في ظرفٍ كالذي وقع في أزمة خداش. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص213. المصدر السابق. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص214 وما بعدها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 27, 2016 11:07

October 26, 2016

الرواية الجهادية للتجربة الجزائرية

ما زلنا نواصل استكمال مشروع "مكتبة الثائر المصري"، وقد بدأنا في تكوينها بكتاب "الشيخ أحمد ياسين شاهد على عصر الانتفاضة" وعرضنا له في جزئين: الأول، والثاني.
وموعدنا في السطور القادمة مع تجربة جديدة، لكنها هذه المرة تجربة فاشلة ومريرة وليست ناجحة على غرار تجربة تأسيس حركة حماس، وهي التجربة الجزائرية، ونعرض لها هنا من وجهة النظر الجهادية، وهي الوجهة المغمورة التي نادرا ما يلتفت لها أحد في سياق تحليل ما حدث بالجزائر.
نعرض هنا لكتاب "مختصر شهادتي على التجربة الجهادية في الجزائر" لمؤرخ الجهاديين الأبرز مصطفى عبد القادر ست مريم المعروف بـ "أبي مصعب السوري"، وهو شاهد عيان على تجارب جهادية عديدة في سوريا وأفغانستان والجزائر، وأصل عمله مهندس ثم درس التاريخ، ويجيد أربع لغات: العربية والفرنسية والإسبانية وبشكل أقل: الإنجليزية، وكتاباته مصدر أساسي لتحليل الفكر الجهادي، ويكاد يكون الوحيد الذي اهتم بالتأريخ للحالة الجهادية من الجهاديين، وقد اعتقلته السلطات الباكستانية عام 2006 في إطار التعاون الباكستاني الأمريكي لمكافحة الإرهاب، وآخر المعلومات المتوفرة عنه أنه مسجون في سوريا، ولا يُعرف مصيره على وجه اليقين.
كان أبو مصعب شاهد عيان على تجربة الجزائر، ويقول بأنه كتب فيها كتابا مفصلا لكنه ضاع ضمن ما ضاع من أوراقه مع حرب أفغانستان (2001م) ولم يبق إلا أن يسجل التجربة من ذاكرته وقليل مما بقي له من أوراق، ومن هنا نشر كتابه هذا إلكترونيا، فألقى به الضوء على مساحة مجهولة في تاريخ التجربة.
ندلف الآن إلى خلاصات الكتاب:
1. التجربة الجزائرية من أهم التجارب الجهادية بل وتجارب الصحوة الإسلامية في الدروس والعبر.
2. يعود الفضل لاحتفاظ الجزائر بهويتها وعروبتها للرجل الفذ عبد الحميد بن باديس الذي أسس "جمعية علماء المسلمين".
3. لما أيقنت فرنسا استحالة استقرارها في الجزائر عملت على أن يكون الحكم بعدها للمتغربين، ولهذا قال ديغول "سنعطيهم استقلال الجزائر ولكن سنأخذها مرة أخرى بعد ثلاثين سنة".
4. آلت الأمور إلى هواري بومدين الذي كان قوميا يساريا، وكان عهده عسكريا بوليسيا، وصار حزب المتفرنسين "جبهة التحرير الوطني" هو حزب السلطة الذي تولى مهمة حرب الإسلام وتصفية الإسلاميين ، وسارت الجزائر إلى الإفلاس والهاوية. ثم زاد الطين بلة حين جاء بعده الشاذلي بن جديد الذي زاد على سيئات سلفه سياسة العودة إلى أحضان فرنسا، فازداد ترسخ النفوذ الفرنسي والعسكري، وزادت أحوال الجزائر سوءا وإفلاسا رغم كونها من كبرى الدول المصدرة للنفط والغاز في العالم.
5. في السبعينات بزغت ثورة جهادية قادها الشيخ مصطفى بويعلي، وكان من المجاهدين القدامى ضد فرنسا، لكن السلطة استطاعت إجهاض حركته وقتلته (1976م).
6. بلغت الأزمة الاقتصادية مداها في الثمانينات وانفجرت عنها ما عرفت بـ "مظاهرات الخبز"، ولم تجد السلطة سبيلا لامتصاص الغضب إلا الإعلان عن إصلاحات سياسية تنهي نظام الحزب الواحد وتطلق المسار الديمقراطي وحرية تشكيل الأحزاب، وأعلن عن إجراء انتخابات بلدية (1988م) ثم برلمانية (1989م).
7. كان طبيعيا أن يؤدي جو الحريات إلى ازدهار للصحوة الإسلامية، وتأسست "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" من مجموعة اتجاهات إسلامية حتى لم يبق خارجها إلا جماعة الإخوان بزعامة محفوظ نحناح وجماعة النهضة الإسلامية بزعامة الشيخ عبد الله جاب الله.
8. كان خطاب "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" مرتبكا ومضطربا في مسألة الديمقراطية، إذ كان عباسي مدني أكثر دبلوماسية بينما كان خطاب علي بلحاج أكثر وضوحا ومفاده أنهم يخوضون الديمقراطية لثقتهم في الفوز، بينما مشروعهم تطبيق الشريعة الإسلامية، وبقدر ما أفادهم هذا الازدواج في جمع صفوف الإسلاميين على اختلافهم وراء الجبهة، بقدر ما أعطى الذرائع القوية لمن عصهم بتجربتهم ونصرهم الديمقراطي بذريعة أنهم لا يؤمنون بالديمقراطية إلا لإلغائها.
9. وأما بقية الإسلاميين، فقد ظل الإخوان –بزعامة نحناح- على موقف العداء والمناوءة والهجوم على الجبهة إلى النهاية حتى في ظل محنتهم، بينما كانت مناوءة حزب النهضة الإسلامية غير مباشرة، وتحولوا مع الوقت إلى مزيج من الفكر الإسلامي والوطني والليبرالي الديمقراطي. وأما السلفيون فكانت شريحة كبيرة منهم على الفكر الجامي المدخلي (السعودي) وأولئك كانوا مع السلطة ضد كل الطيف الإسلامي، ثم بعض الشباب السلفي المتشدد الذين عُرِفوا بـ "سلفية العاصمة" وأولئك تفشت فيهم منذ البداية أفكار التشدد والتكفير. وبقي بعض الجهاديين من أنصار الشيخ مصطفى بويعلى معتزلين الجبهة لرفضهم دخولها في الديمقراطية.
10.  أسفرت الانتخابات البلدية عن نصر ساحق للجبهة الإسلامية للإنقاذ، وتلقى حزب السلطة "جبهة التحرير الوطني" هزيمة غير متوقعة، ولم تحصل الأحزاب العلمانية حديثة التشكل إلا على نسب ضئيلة، وتولى عناصر الجبهة معظم بلديات الجزائر، وعملوا في خدمة الناس بروح طيبة وإخلاص افتقدها الجزائريون منذ عهود طويلة، فزاد هذا في رفع أسهم الجبهة شعبيا، ومهَّد لها النصر التالي.
11. أسفر الدور الأول من انتخابات البرلمان عن فوز ساحق تام لجبهة الإنقاذ، وبدا معه أن الدور الثاني سيُمكِّنها من تشكيل الحكومة منفردة، والترشح لرئاسة الدولة. فضربت أجراس الإنذار ونواقيس الخطر في مشرق الأرض ومغاربها وأعلنت الدول الكبرى استعدادها للتدخل لمنع الإسلاميين من الوصول إلى السلطة.
12. وهنا وقع الانقلاب العسكري، ولم تبال السلطة بالاعتصام الكبير الذي ضم مئات الآلاف، واعتقلت قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأودعتهم السجون، وقد جرى الاعتقال بطريقة عجيبة إذ ظنت القيادات أن ما معهم من "الشرعية" يحول بينهم وبين الاعتقال! وبهذا افتقدت الحركةُ للقيادة، وعادت مكونات الجبهة للعمل بصورة غير مركزية، فبرزت بعض القيادات لكتل متفرقة في العاصمة والجبال، ثم سُحِقت المظاهرات بالحديد والنار، فانفلت الوضع من الإسلاميين، وعمَّت الفوضى والأعمال المسلحة. ثم انشقت بعض قيادات مجلس شورى جبهة الإنقاذ ودخلت في تفاوض مع الحكومة بينما رفض آخرون هذا واختاروا مواجهة النظام وشكلوا "الجيش الإسلامي للإنقاذ".
 13. كان مئات من الشباب الجزائري قد ذهب للجهاد الأفغاني، وبرز فيهم شاب فاضل حافظ للقرآن يدعى "القاري سعيد"، وكان لديه مشروع تشكيل تنظيم جهادي في الجزائر، وعُرف هذا التنظيم بـ "الأفغان الجزائريين"، ولم يكن متعجلا وإنما انصب اهتمامه على التدريب والإعداد. فلما تسارعت أحداث الجزائر رأى القاري سعيد بأن الوقت قد حان لخوض التجربة، فعاد إلى الجزائر ورتب أموره وأخبر أصحابه في أفغانستان بأنهم قد شكلوا "الجماعة الإسلامية المسلحة"، وكان ذلك في أوائل (1991) تقريبا.
14. سرعان ما برز اسم "الجماعة الإسلامية المسلحة" كأهم كتلة مسلحة تواجه السلطة الجزائرية، وكانت السلطة قد وسعت عمليات القتل والتصفية، وصار الأمر كالحرب المفتوحة، ثم اعتقل "القاري سعيد" إثر تنفيذه هجمة كبرى على قيادة القوات البحرية في العاصمة، لكنه بعد أشهر استطاع الهرب مع أكثر من 700 سجين، والتحقوا بالجبال. وقد روى بعضهم -والله أعلم- أن الاستخبارات الجزائرية سهلت عملية الهروب لزرع عشرات الجواسيس وسط المجاهدين أثناء الفرار، وبذل القاري سعيد جهدا واسعا في توحيد الفصائل المقاتلة لكنه قُتِل في ظروف غامضة أواخر (1994). ليبدأ الفصل الأهم في التجربة المريرة.

وإلى هنا انتهت المساحة المخصصة، فنستكمل الموضوع إن شاء الله في المقال القادم.
نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 26, 2016 10:59

October 25, 2016

درس الدعوة العباسية في تأسيس الخلايا السرية

ذكرنا في مقال سابق كيف اختارت الدعوة العباسية الموقع الجغرافي الذي ستبدأ منه نشاطها، وكيف كانت معايير هذا الاختيار.
ولما استقر الاختيار على خراسان، انطلق إليها رجل الدعوة ومؤسسها هناك بكير بن ماهان، فالتقى بمَنْ كان قد رأى منهم حبًّا لآل البيت واستعدادًا لدعوتهم، واستطاع في هذه المهمَّة أن يكسب بعض الأتباع المهمين، والذين سيكون لهم أثر بعيد في الدعوة، وعلى رأسهم سليمان بن كثير، وكذلك إسماعيل بن عامر، ويزيد بن النهيد، وشبر بن النهيد، ومالك بن الهيثم، وعمرو بن أعين، وزياد بن صالح، وطلحة بن زريق، وخالد بن إبراهيم، وعلاء بن الحارث، وموسى بن كعب، وآخرون من خزاعة إضافة إلى بعض المواليوبهذا أسس بكير بن ماهان نواة الدعوة العباسية في خراسان؛ وطبيعيٌ ألا نعلم كيف تمَّ هذا على وجه مفصَّل؛ فإن مثل هذا مما لا يُسَجَّل في كتب التاريخ، ولا يعرفه إلَّا أصحابه الذين يكتمون التفاصيل عن أنفسهم فلا يعرف أحد منهم إلَّا ما ينبغي له أن يعرفه فحسب .. لئن كان هذا طبيعيًّا؛ فالثابت أن تأسيس الدعوة في خراسان كان قويًّا ومتميزًا، كما دلت على ذلك ثمراته فيما بعدُ.
وقد احتاجت خراسان إلى كبير للدعاة يقوم على أمر الدعوة؛ ذلك أن الدعوة تحتاج وجود بكير بن ماهان في الكوفة، فأرسل محمد بن علي أبا عكرمة زياد بن درهم السراج إلى خراسان، وأمره بالسير على طريقة بكير بن ماهان، وكانت وصيته له هكذا:
«أوصيك بتقوى الله، والعمل ليوم مرجعك، واعلم أنه لا تخطو خطوة فيما تذهب إليه إلَّا كتب الله لك بها حسنة، وحطَّ عنك بها سيئة، ولا تظهرنَّ شيئًا من أمرك؛ حتى تقدم جرجان وتلقى بها أبا عبيدةولا تظهرنَّ جدًّا ولا دعاء إلى سَلَّةِ سيف، وأقلل مكاتبتي ومراسلتي، وأنفذ كتبك إلى أبي الفضل وإلى أبي هاشم إن رجع إلى العراق، وإن دعوت أحدًا من العامة فلتكن دعوتك إلى الرضا من آل محمد، فإذا وثقت بالرجل في عقله وبصيرته؛ فاشرح له أمركم، وقل بحجتك التي لا يعقلها إلَّا أولو الألباب، وليكن اسمي مستورًا عن كل أحدٍ إلَّا عن رجل عَدَلَكَ في نفسك في ثقتك به، وقد وكدت عليه، وتوثقت منه، وأخذت بيعته، وتقدَّم بمثل ذلك إلى مَنْ تُوَجِّه من رسلك، فإن سُئِلْتم عن اسمي فقولوا: نحن في تقية، وقد أُمِرْنا بكتمان اسم إمامنا.
وإذا قدمت مرو فاحلل في أهل اليمن، وتألف ربيعة، وتَوَقَّ مضر، وخذ بنصيبك من ثقاتهم، واستكثر من الأعاجم، فإنهم أهل دعوتنا، وبهم يُؤَيِّدُها الله، واحذر غالبًا ورهيطًا قد ظاهروه على رأيه من أهل الكوفةذهب أبو عكرمة زياد بن درهم السراج، ويُسَمَّى -أيضًا- أبو محمد الصادق، إلى خراسان فكان أول كبير للدعاة فيها، ويحسب له تنظيم أمر الدعاة في خراسان؛ إذ اختار اثني عشر نقيبًا يتولون أمر الدعاةوكانت هذه سياسة الولاة الأمويين في خراسان من بعد أسد القسري كالجنيد بن عبد لرحمن، الذي قتل مَنِ استطاع القبض عليه من دعاة العباسيينبعد أبي عكرمة تولَّى أمر الدعوة في خراسان سليمان بن كثير، وكان معه خمسة آخرون؛ هم: مالك بن الهيثم، وموسى بن كعب، وخالد بن الهيثم، وطلحة بن زريق، ومضوا في الدعوة بين الناس في قرى خراسان؛ حتى وصلت أخبارهم إلى والي خراسان أسد القسري -وكان قد عُزِل، ثم عاد لإنهاء حركة تمرُّد الحارث بن سريج- فواجههم بهذا، فأنكروا واتهموا من وشى بهم بالعصبية القبلية، واستثمروا كونهم من العرب اليمانية -التي منها الوالي- فاستعاذوا به أن يُؤذيهم -وهم من قومه- لوشاية واشٍ من المُضرية، وكان تقدير أسد أن يهدئ الأجواء، ولا يستعدي قبائلهم بقتلهم في ظلِّ ما تمور به خراسان من اضطرابات، فأطلقهم إلَّا موسى بن كعب؛ فقد عذبَّه حتى كُسِرت أسنانه وأنفه، ولاهز بن قريظ فقد جُلِد على الرغم من كونه من المضريين، وحين كتبوا بما حدث معهم للإمام أمرهم بالتهدئة والمزيد من الاستخفاء، وأن يعملوا بدعوتهم بعيدًا عن العاصمة «مرو»؛ فانتقل أساس نشاطهم إلى المدن الخراسانية الأخرى؛ مثل: بخارى، وسمرقند، وكش، ونسف، والصغانيان، وختلان، ومرو الروذ، والطالقان، وهراة، وبوشنج، وسجستانوانتشرت دعوتهم في هذه المدن حتى بلغت الأخبار إلى والي خراسان؛ فندم على تركهم من قبلُ، وحاول أن يقبض عليهم مرَّة أخرى فلم يستطع؛ إذ يبدو أنهم كانوا محتاطين للغاية لمثل هذا الأمر، ثم لم يجد الجنيد بن عبد الرحمن والي خراسان إلَّا أن يرفع الأمر إلى والي الكوفة خالد القسري، الذي رفعه بدوره إلى الخليفة هشام بن عبد الملك، غير أن هشامًا -الذي كان منشغلًا في ذلك الوقت بأخبار المغرب والأندلسمهارة شعار «الرضا من آل محمد»
كان دعاة العباسيين، وعلى رأسهم إمامهم، يُخططون ولا يتعجلون، ولا يطلقون شعارًا قبل دراسته، وعلى أي ساحة يُطلقونه، وفي أي ساحة يحقِّق لهم الأهداف، ويكسب لهم الأتباع، فكان شعار «الرضا من آل محمد» مدروسًا وَفق منهج الدعوة، فإذا اشتمَّت المخابرات الأموية ما يفوح بهذا الشعار راحت تترصَّد كل علوي، وربما زجت به في السجن أو قضت عليه بالقتل، فتزداد النفوس اشتعالًا وتربح الدعوة أنصارًا، ولم يكن سهلًا أن تظن الدولة الأموية الحاكمة في العباسيين، الذين ارتضوا بالظلِّ في مقابل نار العلويين التي لم تهدأنشر في ساسة بوست

مجهول: أخبار الدولة العباسية ص199 وما بعدها. هو أبو عبيدة قيس بن السري، ويبدو من النص أنه مسئول الدعوة في جرجان، وكان من السابقين في الانضمام إلى الدعوة. كانت هذه المجموعة ممن قالوا بإمامة محمد بن علي العباسي؛ لكنهم تحمسوا وشرعوا في الثورة. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص203، 204، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 126. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 66، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 4/ 322. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 105. الدينوري: الأخبار الطوال ص334، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 120، 122. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 149.  الدينوري: الأخبار الطوال ص335، 336، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 162، 163، والمطهر المقدسي: البدء والتاريخ 6/ 60. في هذا الوقت انتشرت في المغرب دعوات الخوارج، وكثر خروجهم على الولاة من بني أمية، كما خرجوا -أيضًا- في الأندلس التي كانت في هذه الأثناء قد دخلت في آخر عهد الولاة، وهو العهد الذي فشت فيه العصبية القبلية بين أهل الأندلس، ففضلاً عن الخوارج انقسم العرب إلى قيسية ويمانية، واندلعت بينهم الحروب؛ حتى لقد فقد المسلمون الأراضي التي فتحوها في فرنسا، وأراضي الشمال الإسباني، وتوسعت على حسابهم ممالك الصليبيين. الدينوري: الأخبار الطوال ص336. د. فتحي أبو سيف: الدولة العباسية والمشرق الإسلامي ص11، 15. د. حسين عطوان: الدعوة العباسية مبادئ وأساليب ص93.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 25, 2016 10:54

October 21, 2016

أصحاب الثأر وأصحاب الثورة

لا يخفى على متابع مدى حالة الغضب المتفجرة في صفوف الشعب المصري، فهو أوشك بكونه ساحة من البنزين تنتظر وقوع الشرارة، أو هو كما قال نصر بن سيار قديما:أرى بين الرماد وميض جمر .. فيوشك أن يكون له ضرامفإن النار بالعودين تذكو .. وإن الحرب أولها الكلام
وإني أتفهم تشكك بعض الأصوات من الدعوات إلى موجة ثورية قادمة، وقد يكون في كلامهم شيء من الحق، أتفهم هذا مع رفضي الكامل له، ذلك أن الذي يبدأ الشرر لا يستطيع بالضرورة أن يسيطر على الحريق، ويمكن لمؤامرة أن تنقلب على صاحبها، وكم حصل هذا في التاريخ وفي الواقع بل وفي حياتنا الشخصية المحدودة، وقد قال الله تعالى {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، وقال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
أتفهم كذلك أن تخرج بعض الأصوات تُذَكِّر الجوعى والفقراء الذين مسَّهم الضُرُّ بأفعالهم في خدمة حكم العسكر بدءا من ضرب المظاهرات وحتى الرقص في الانتخابات، وتبدي لونا من الشماتة والفرح فيما حلَّ بهم من فقر وقهر وجوع وذل، وإلى هؤلاء يتوجه هذا المقال.
(1) بين الثأر والثورة
بين الثائر وصاحب الثأر فارق دقيق ولكنه عميق، وله آثار واسعة..
لا يزال الثائر صاحب فكرة ورسالة، يرى العسكر أعداءه، ويعرف أنهم العدو الأصيل ورأس الأفعى، ولا يرضى في سعيه بأقل من حلم إسقاط النظام وتحقيق أحلام الشهداء والأسرى والمظلومين. بينما صاحب الثأر ثائر قديم أصابته جراحات في حلمه وعزمه (وهذا متوقع، ومفهوم) فلم يعد يحلم بإسقاط النظام بل يكفيه من كل هذه المعركة إخراج أصحابه الأسرى وأمن أصحابه المطاردين، ثم ليضرب الله الظالمين من العسكر بالظالمين من الشعب، ولتخرب البلد على رؤوسهم جميعا!
الثائر يعرف أنه في سبيل مكافحة الظالمين ستأتيه الطعنات من مظلومين حوَّلَهم الظلم والجهل والفقر إلى حراس للاستبداد، وهو وإن واجههم وقاتلهم أحيانا فإنما يشفق عليهم ويرجو تغيير حالهم وإصلاح أمرهم، فذلك هو منطق الثورة وغايتها، وليس من منطقها ولا من طبيعتها أنهم إذا خذلوها في جولة أن تخذلهم هي في جولة أخرى. بينما صاحب الثأر مصدوم من هؤلاء ساخط عليهم يراهم أداة غدر قذرة استعملها العدو في قتل أهله وإخوانه وأصحابه، وبهم قضى على حلم عظيم كان سيغير أحوالهم هم إلى أحسن حال.
الثائر لم يزل واسع الأمل واسع الاحتمال يطير إلى كل بارقة أمل فيثمرها وينميها ويعمل على تحويلها إلى موجة ثورية جديدة، لا يهتم بأسباب عودة العائدين إلى خزان الغضب الثوري إلا لأجل أن يثمر الثورة ويشعلها وينميها ويحفظها من أن ترتد على أعقابها مرة أخرى. بينما صاحب الثأر يبذل لهم الشماتة ويوجه لهم التأنيب والتقريع، ويفرح لهم بالمزيد من العذاب جزاء بما كسبت أيديهم، ولئن ثار هؤلاء فليس يهمه من كل هذا إلا أن يذوقوا بعضا من المعاناة التي ذاقها وأذاقوها له، ولا يأمل من ثورتهم إلا إخراج الأسرى وعودة المطاردين.
فمن أنت؟!
صاحب ثأر أم صاحب ثورة؟!
(2) إلى صاحب الثأر
حتى صاحب الثأر، لو هدأ قليلا وتفكر في الأمر، لَعَرَف أن هؤلاء إنما كانوا أداة بيد عدوه، وليسوا هم العدو نفسه، وإنما الثأر الحقيقي عند هذا العدو لا عند أدواته، وهو الآن في فرصة من يمكنه استثمار غضب أولئك وتحويلهم إلى أداة في يده، أداة لتحصيل الثأر إن لم يكن تحصيل الثورة.
لئن لم يكن ممكنا تغيير حال هؤلاء إلى الأفضل كما هو منطق وغرض صاحب الثورة، فإن تحويلهم من أداة للعدو إلى أداة ضده هو المنطق الذي يفترض أن يحمله صاحب الثأر!
إذا انتقل سيف قُتِل به أخوك إليك، فإن تكسيره ليس أخذا بالثأر، الثأر أن تحمل هذا السيف على من حمله عليك، فذلك مَثَل هؤلاء!
إن الشماتة في هؤلاء والتلذذ بمعاناتهم لا تأتي بالثأر، بل في الواقع فإن من يعجبه ترك هؤلاء لمصيرهم البائس، فإنه يعلن على الحقيقة تخليه عن الثورة وعن الثأر معا!
(3) الخطيئة الخطيرة
أخطر ما يقع فيه الثوار أن يدخلوا في عداء مع الناس، فإنهم قُوتُهم وقُوَّتُهم وحاضنتهم ومددهم، وليس لهم بعد الله إلا الناس.
وتلك خلاصة التجربة الجهادية، فبعد استعراض تاريخي طويل قرر المؤرخ والمنظر الجهادي الأبرز أبو مصعب السوري –في كتابه الضخم: دعوة المقاومة الإسلامية العالمية- أن الحركات الجهادية إنما فشلت في مواجهة الحرب العالمية لأن فكرة الجهاد كانت نخبوية ولم تكن فكرة متغلغلة في صفوف الأمة، وذلك من الأخطاء الفادحة الحركات الإسلامية، وهو بعد استعراض التاريخ الإسلامي استخلص هذه المعادلات:
·       الحملات الصليبية الأولى: 1.    أمة الصليب × أمة الإسلام = انتصرت أمة الإسلام
·        الحملات الصليبية الثانية (مرحلة الاستعمار القديم 1800 - 1970) أسفرت عن معادلتين، واحدة للأمة وواحدة للصحوة الإسلامية:2.    أمة الصليب + أمة اليهود × أمة الإسلام = انتصرت أمة الإسلام (رحل الاستعمار)3.    أمة الصليب + أمة اليهود + الحكومات العميلة × الصحوة الإسلامية = هُزِمت الصحوة (وخرجت الأمة من المعركة)
·       الحملات الصليبية الثالثة (المرحلة الأمريكية 1990 - 2003)4.    أمة الصليب + أمة اليهود + الحكومات العميلة + المنافقين "علماء السوء ومن فسدوا من قيادات الصحوة" × التيار الجهادي = هزيمة التيار الجهادي وشلل الصحوة (وبقيت الأمة خارج المعركة).
وخلص من هذه المعادلات الأربع إلى ضرورة حشد الأمة كلها في المعركة، وإلا فإن الهزيمة هي النتيجة الحتميةإن العلاقة بين الثائرين وبين الناس كالعلاقة بين الأب وابنه، لا يسع الواحد فيهما أن ينفصل عن الآخر إلا إن استحال الاجتماع، ويبذل كل منهما جهده في حمل الآخر على رأيه إذ يراه الأهدى والأقوم سبيلا، ولئن بدا أن أحدهما يراجع نفسه ويرجع إلى الآخر فليس من منطق هذه العلاقة ولا طبيعتها أن يجد ردًّا وصدودا.
(4) المصير الواحد
لقد حذَّرنا الله تبارك وتعالى من أن ترك المفسدين لن يؤدي إلى هلاك المفسدين وحدهم، بل سيهلك معهم سائر من كان يستطيع ردعهم ولم يفعل.
قال تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم"لو كان المفسدون يهلكون وحدهم لارتاح المرء من عناء التفكير، لكن الله قضى غير ذلك، ولهذا فصاحب الثأر ليس بعيدا عن المصير البائس الذي ينتظر الجميع، المصير الذي سيذوقه الجميع إذا كثر الخبث، وربما كان الحكام المجرمون أحسن الناس حالا إذا استطاعوا النجاة بأنفسهم وأموالهم وقضوا بقية حياتهم في أوروبا أو الخليج بما معهم من أموال نهبوها.
إن رجوع البعض إلى صف الغضب والثورة ولو بسبب الجوع والفقر لا بسبب الدماء هي فرصة نكاثر بها المجرمين ونغالب بها الخبث قبل أن يزيد ويستفحل، وننقذ أنفسنا وأهلنا من مصير أسود سيتناول الجميع ولن يستثني أحدا. وعامل الإنقاذ لا يبالي أي يد امتدت إليه وهو في تلك المهمة!
(5) هل نملك الاختيار؟
هل نملك رفاهية أن نترك الناس إذ عادوا بأثر الفقر والجوع؟
إن تركنا لهم لن يؤدي إلى إرجاع الحقوق، ولن ينجينا من المصير البائس المنتظر، لكن الأسوأ من هذا كله أن العدو المجرم قد يرى نجاته في أن يسلط الناسَ بعضهم على بعض، فيجعل غضبتهم له وعليهم، ويجعل بأسهم على أنفسهم!كل طاغية فيه تلك الخصلة من فرعون {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4].
إذا لم يسبق الثوار إلى الناس فوجهوا غضبتهم إلى السلطة، فإن السلطة ستوجه غضبهم إلى فئة منهم تحملها مسؤولية كل ما يجري من كوارث، فينهبونها وينهشونها ويظلمونها، فإذا انتهوا منها أخرج لهم طائفة أخرى ينفذون فيها غضبهم وسطوتهم، وهكذا دواليك!
أو قد يكون الحل إقليميا أو دوليا، مسرحية يُستبدل بها السيسي كما استُبْدِل مبارك، ويأتي آخر يعطي الناس جرعة من التخدير وبعضا من الأمل لا أكثر، وتستمر دولة الطغيان وحكم العسكر. ونحتاج سنوات أخرى حتى ينشأ في الناس غضب يمكن تحويله إلى ثورة!
ألا ترى، بعد هذا كله، أن صاحب الثورة وصاحب الثأر مضطر بالضرورة إلى التفاعل مع غضب الجوعى والمقهورين بما يعيدها ثورة جذعة تأكل الطغيان والإجرام وتنسف جبال الظلم نسفا؟!
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية 

أبو مصعب السوري، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، نسخة إلكترونية (2006م)، ص626. الترمذي (2169) وقال: حديث حسن، وأحمد (23349)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7070). البخاري (3168)، ومسلم (2880).
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 21, 2016 13:54

October 20, 2016

أحمد ياسين شاهد على عصر الانتفاضة (2)

أطلقنا عبر "مدونات الجزيرة" نداء للمثقفين وأصحاب التخصص أن يقدموا للثوار المصريين خلاصات الكتب التي تعينهم على تنفيذ ثورة ناضجة راشدة تتعلم من الماضي وتفقه سنن السياسة والاجتماع وإدارة الصراع، وسميناه مشروع "مكتبة الثائرالمصري".

وبدأنا باستعراض تجربة تأسيس حركة المقاومة الإسلامية حماس من خلال كتاب "أحمد ياسين شاهد على عصر الانتفاضة"، والذي نواصل اليوم استعراض خلاصاته:

19. صار لنا وضع وقوة عند 1980، ودخلنا في مواجهة مع فتح لأننا رفضنا محاولتها وضع رئيس مسيحي للجامعة الإسلامية في غزة، وواجهناه بالقوة، ثم دخلنا في اشتباك آخر معهم حين أرادوا تثبيت شخصية مشبوهة في رئاسة الجامعة (1982) وأصررنا على رئيس إسلامي لها، ونجحنا، ولم نسمح أن يمر الاعتداء علينا بلا ثمن، وبادلناهم التهديد بتهديد أشد.

20. بدأ التفكير بالمقاومة العسكرية عام 1980، بمجرد ما صار لدينا قاعدة من الشباب وتعاطف من بعض جهات بالخارج يمكن أن تدعمنا بالمال، استهدفنا إعداد 100 شاب، لكن المحاولة الأولى أُجهضت عبر ضربتين، مرة عبر وشاية تاجر سلاح، والأخرى عبر خطأ تكتيكي.
21. اعتقلت لأول مرة لما اكتشفت سلسلة تسليح كنت مشرفا عليها، بينما ظل بقية التنظيم مجهولا لهم، لكن هذا الانكشاف كان تجربة نتعلم منها وليست مشكلة [تدفعنا لترك المقاومة]
22. كنا شعبيا أقوى من فتح لكنهم يتميزون بتجربتهم القتالية، وإن لم يعودوا يقاتلون، بينما نحن نبدأ الطريق.
23. كانت خطتنا تصفية العملاء قبل العمليات ضد الاحتلال، كنا نحقق معهم تحقيقا مسجلا يُنقل إلى لجنة قضائية تصدر فيه الحكم، وحين تثبت التهمة يُقتل، وأغلب العملاء كانوا يُسقطون غيرهم بالنساء والتصوير المفبرك أو الحقيقي، وكان ضرب العملاء يُحدث ارتباكا فيكشف المزيد، وكانت فتح تقتل العملاء بغير تحقيق بل تصفيهم في الشوارع لكننا لم نسمح لأنفسنا بالقتل بدون حكم شرعي، ولما وقع خطأ في القتل دفعنا الدية لأهله.
24. سبب إطلاق سراحي بعد الاعتقال الأول أخ دخل السجن وهو من أنصار أحمد جبريل (الجبهة الشعبية) لكنه التزم وحفظ القرآن وصار "رئيس الجماعة الإسلامية" في السجن، ثم خرج قبلي، فجعلني في صفقة التبادل التي نفذتها الجبهة الشعبية.
25. كان اليهود حريصون على إخراج الأسرى خارج فلسطين، وكانت نصيحتي للشباب أن يصروا على البقاء في فلسطين.
26. كان عملنا جماعيا شوريا فلم يتأثر بغيابي، بل ظل التنظيم في حالة الإعداد والتدريب كما هو، وكانت اعترافاتي واعتراف من سبقني إلى الاعتقال منسجمة وتدل على أننا مجموعة صغيرة ولا زلنا في البداية فلم يتوقع الإسرائيليون أن يكون خلفنا تنظيم آخر لم يكتشفوه. وبعد خروجي ظللت سنة في إجازة من التنظيم كي لا يتتبعني اليهود، ولما عدت إليه عدت جنديا.
27. لم نسمح لفتح بالاعتداء على شبابنا، بل رددنا عليهم الاعتداءات، ودخلنا مواجهة دموية حتى انتهت بتهدئة ومصالحة ضمنية.
28. لما بدأنا تنفيذ العمليات ضد جنود الاحتلال والمستوطنين اتخذنا منهج عدم إصدار بيانات تعلن عن الجهة المنفذة ليظل العدو في ارتباك وحيرة، وقد تسبب خطأ أمني في كشف الخلية التي نفذت العمليات الأولى.
29. الأحداث دائما تحتاج من يقودها ويستثمرها، فالانتفاضة كانت حدثا عاديا وانطلقت من جباليا لكن لأنه ليس ثمة تنظيم في جباليا فسرعان ما هدأت الأمور، فنقلناها إلى الجامعة، ولما أغلقت إسرائيل الجامعة نقلناها إلى الشوارع، وهكذا نقلنا الحدث العادي إلى انتفاضة كبيرة بتنظيمنا. للشعوب قدرة عظمى لا يفهمها إلا من جربها.
30. لم يعرف الإسرائيليون من وراء الانتفاضة لكنهم يعرفون أن وراءها إسلاميين فنفوا عددا من أبرز قيادات الإخوان والجهاد والسلفيين، وكانت سياستهم تساعد في اشتعال الانتفاضة.
31. لما وجدت فتح نفسها خارج المشهد ولا تفهم من الذي يقود نزلوا إلى الانتفاضة ودعوا للإضرابات، فحاولنا التنسيق معهم لئلا يتضرر الناس لكثرة الإضرابات لكنهم كانوا ينقضون الاتفاق.
32. تحت التعذيب اعترفت بعض القيادات التي اعتقلتها إسرائيل بأني زعيم التنظيم ومؤسسه، فهددني الإسرائيليون وساوموني على وقف الانتفاضة، فاضطررت لترك القيادة لآخرين كي لا يتوقف العمل، وكنا في ذلك الوقت بدأنا في عمليات تفجير العبوات الناسفة وكانت بدائية في ذلك الوقت.
33. نتخير عناصرنا اعتمادا على الإيمان، مع تنظيم أمني دقيق لا يعرف فيه الواحد غيره إلا في الواقع الميداني، والاتصال يتم عبر النقاط الميتة كيلا ينكشف التسلسل.
34. يكاد التعذيب ألا يصمد له أحد، ولكن ينبغي على الشخص أن يجتهد في أن يعترف على نفسه بأضيق الحدود ولا يفتح عليها ولا على الحركة أبوابا أخرى، ولهذا لما واجهوني باعترافات المعتقلين جعلتُ نفسي في موضع من يعطيهم الفتاوى وبعض الأموال فحسب، وأصررت على هذا لكي لا أفتح على نفسي باب الحركة أو التنظيم العسكري.
35. من يعمل في مجال المقاومة يكون له اتصال بتجار السلاح والمخدرات والسيارات المسروقة واللصوص، ويجب ألا يخطئ خطأ يؤدي لانكشافه، لكن "كل يوم بنتعلم".
36. رغم ظروف السجن إلا أنه فرصة للعلم والتقرب إلى الله، وفي هذا السجن الثاني حفظت القرآن واطلعت على تفاسير وعلوم شرعية، وكنت أقرأ أربعة أجزاء يوميا في صلاة السنن.
37. حافظ الإسرائيليون على حياتي لأنهم يعلمون أن موتي داخل السجن سيفجر ردة فعل عنيفة في الشارع.
38. كانت لنا نقاط ميتة داخل السجون، خلال دورات المياه، نوصل بها الرسائل إلى عموم السجون.
39. لا أحد منا يسلم نفسه، نقاتل حتى الشهادة.
40. أوسلو كان إرادة أمريكية لإنهاء الانتفاضة، لم يكن جادا، مزَّق وحدة الفلسطينيين، وصار التعاون الأمني بين السلطة وإسرائيل ضد المجاهدين علنيا، صحيح نحن لم نوجه سلاحنا للسلطة كي لا تكون حربا أهليا، لكننا أيضا لم نسمح لهم بالقضاء على الحركة الإسلامية خدمة لليهود. ولكن أوسلو والتعاون الأمني ضرب المقاومة ضربة مؤثرة وشديدة.
41. اشترطت قبل الإفراج عني (بعد الصفقة التي جرت عند فشل اغتيال مشعل) أن لا أُبْعد خارج فلسطين، ورضخوا.
42. وجدت مشهدا رهيبا لما خرجت، الناس يحتشدون لي، حماس صارت قوية وشعبيتها طاغية. ومع هذا كان وضع حماس صعبا إذ اعتقلت السلطة ألفا من قيادتها، فبدأ الحال ينتعش بخروجي.
43. في الأجهزة الأمنية 35000 عنصر، لكن هذا لا يخيفنا لأن النفعي لا خطر منه، وهم متناحرون فيما بينهم، وناقمون على بعضهم في التمييز بالأموال والنفوذ، والفساد كبير في جهاز السلطة، والناس ينقمون عليهم كل هذا.
44. محمود عباس هو المرشح لخلافة عرفات لأنه الأكثر طواعية لدى الإسرائيليين، أما دحلان أو الرجوب فليست لهما شعبية أبدا.
45. خيارنا الجهاد، ويمكن القبول فقط بهدنة، وأتوقع زوال إسرائيل عند 2027، حين تكمل ثمانين عاما، فالأجيال تتغير كل أربعين سنة، ففي الأربعين الأولى انتفاضة، وفي الثانية تكون النهاية إن شاء الله.
46. لا يعرف اليأس طريقا إلى قلبي، وأملي أن يرضى الله عني، ورضا الله بطاعته، وطاعته هي الجهاد لإقامة العدل في الأرض وتطهيرها من الفساد.

نشر في مدونات الجزيرة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 20, 2016 14:09

October 14, 2016

دخول الدولة العباسية تحت حكم العسكر

قال ابن خلدون: "ربما يحدث في الدولة إذا طرقها هذا الهرم بالترف والراحة أن يتخير صاحب الدولة أنصارا وشيعة من غير جلدتهم ممن تعود الخشونة فيتخذهم جندا يكون أصبر على الحرب، وأقدر على معاناة الشدائد من الجوع والشظف، ويكون ذلك دواء للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها حتى يأذن الله فيها بأمره"لقد ساهمت كثير من العوامل في انتقال الخلافة العباسية إلى هذا الطور الجديد: عصر سيطرة الترك! إلا أن عامليْن رئيسين صنعا الفارق الكبير، الأول: طبيعة الخلفاء، والثاني: طبيعة الأجناد ..
فطبقة الخلفاء نشأوا في الدعة والترف والرفاه على عكس ما كان من حال الخلفاء الأوائل الذين كانوا رجال دعوة قبل أن يكونوا مؤسسي الدولة، وحرص كل منهم على صناعة ابنه - ولي العهد - على عينه حتى نشأوا رجالا قادرين على سياسة الدولة وإدارتها.
وأما طبقة الأجناد ورجال الدولة فقد صاروا من الترك، وهم «بدو العجم» حسبما وصفهم الجاحظ، فما أبعد ما بينهم وبين الفرس ذوي الحضارة العريقة والأصول المدنية الضاربة في أعماق التاريخ، فهم قوم أشد خشونة وأبعد عن فهم طبيعة وتكوين حضارة كبرى، كما أن ارتباطهم بالعباسيين بدأ بعلاقة السادة والأجناد، بعكس ما كان بينهم وبين الفرس وهي علاقة أنصار الدعوة ثم رجال الدولة.
لكل هذا سرعان ما اختلت العلاقة بين الخلفاء والعسكر الأتراك، ودخلت الدولة في مرحلة الحكم العسكري -وهي مرحلة كارثية لكل الدول عبر التاريخ- ولم يعتدل الأمر إلا حين ظهر من بين البيت العباسي خليفة قائد قوي يقود الجيوش بنفسه، فاستطاع أن يعدل الميزان لفترة هو وابنه وحفيده ثم أورثوا الحكم خليفة ضعيفا صغيرا فعاد الاختلال إلى الدولة حتى انهارت تماما، وظل الانهيار يستفحل تحت الحكم العسكري حتى جرت سنة الله وتسلط على العراق قوم هم في مقام الغزاة المحتلين .. وهم البويهيون!
لقد بدأت القصة، كما ذكرنا في المقال الماضي، عندما تحالف ولي العهد المنتصر بالله مع العسكر الأتراك لقتل أبيه الخليفة المتوكل على الله خشية من تحويل ولاية العهد إلى أخيه وحرمانه من الوصول إلى منصب الخلافة. وبدا أن الأمر تمَّ للمنتصر، إذ استطاعت فرقة من جيشه تفريق وإخماد المتجمهرين من الناس والجنود الذين هالهم مقتل الخليفة، واستطاع المنتصر إجبار أخويه على البيعة له بالخلافة فانتهى بهذا منازعته في الشرعية، وزيادة في التأمين ترك المنتصر العاصمة الجديدة "المتوكلية" وعاد إلى العاصمة العسكرية "سامراء".
وعلى رغم هذه الإجراءات التي بدا منها أن الأمر استقر للمنتصر سريعا إلا أن الحقيقة كانت غير ذلك، لقد كان الوضع خطيرا أمام المنتصر، فتلك هي المرة الأولى التي يتجرأ فيها رعايا الدولة الذين هم أيضا من غير العرب على قتل الخلفاء، وعلى رغم ما كان بين المنتصر والأتراك من الود قبل هذا إلا أنه علم أن وصول نفوذهم في الدولة إلى درجة قتل الخليفة وتولية غيره يعني أنهم صاروا الأسياد المتحكمين فعلا في أمر الدولة، ومن غير شك فإن كثيرا من الأفعال التي قام بها القادة الأتراك في تلك الأيام الأولى لخلافته كانت تعني أنهم رأوا أنفسهم الأعلى يدا والأقوى من كل قوة ولو كانت هيبة الخلافة ومكانتها .. لهذا نرى تَحَوُّل المنتصر من حبهم إلى بغضهم وكان يسميهم «قَتَلة الخلفاء»! وبدا كأن المنتصر سيحاول تكرار سيرة أبيه في محاولة التخلص من النفوذ التركي.
بدأ المنتصر بقتل القائد التركي الفتح بن خاقان متهما إياه بأنه قاتل والده الخليفة المتوكل، وأرسل القائد التركي التالي له في القوة "وصيفا" ليصد هجوما للروم، وأمره أن يبقى في الشام بعد انتصاره لأربع سنين لينظم فيها أمر الثغور ويجاهد هناك كلما احتاج الوضع إلى الجهاد، فأراد بهذا إبعاده عن مركز الخلافة تخلصا من نفوذه.
ثم إنه أجبر أخويه على خلع أنفسهما من ولاية العهد، وأخبرهما بأن هذه هي رغبة العسكر الأتراك وأنهما إن لم يتنازلا فإنهما يعرضان أنفسهما للاغتيال، ففعلا هذا، وهكذا لم يعد في المشهد السياسي سوى المنتصر ووزيره (يمثلان الجناح المدني) مقابل الجناح العسكري ذي السطوة والنفوذ.
وهنا يموت المنتصر موتا مفاجئا، بعد ستة أشهر فقط من توليه الخلافة، فلا يبقى إلا النفوذ العسكري المسيطر، ولهذا يشك بعض المؤرخين في أنه مات مقتولا، لا سيما والمتهم موجود: وهم الترك، والدافع موجود: سعي المنتصر في التخلص منهم والتوطيد لنفسه، وقد وردت رواية تفيد أن الطبيب الطيفوري وضع له السم في آلات الحجامة فمات منها حين احتجموبموت المنتصر -أو مقتله- من بعد مقتل المتوكل كانت الخلافة العباسية قد دخلت بالفعل عصر سيطرة الترك، حيث الخليفة، كما يقول ابن الطقطقي، "في يدهم كالأسير، إن شاءوا أبقوه وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه"كان الوزير أحمد بن الخصيب العقل المدبر أيام المنتصر، وقد وصفه المسعودي بأنه "قليل الخير، كثير الشر، شديد الجهل"، ومن اللافت للنظر أن حكم العسكر لا يبدأ ولا يترسخ إلا إن كان السلطان بيد جاهل لا يحسن تقدير الأمور.
ما إن مات المنتصر حتى سارع الوزير بجمع القادة الأتراك الذين كان أهمهم: بُغا الكبير، وبُغا الصغير، وأتامش. وسعى في أن يجمع قادة الجنود الأتراك والمغاربة والأشروسنيةكان العسكر الأتراك رافضين لحكم المعتز أو المؤيد لأنهما من ولد المتوكل، فسعوا في أن يكون الخليفة من نسل المعتصم، ووقع اختيارهم على أحمد بن محمد بن المعتصم، والذي لقب بـ «المستعين بالله»، وإن كان بعض القادة لم يُرضهم هذا الاختيار ، وقد أوقع هؤلاء بعض الاضطرابات وساندهم كل من لم يرض من الناس بهذا التحكم العسكري، إلا أن هذه الحركة هُزِمت أمام جمهور الجيش الذي كان متماسكا خلف اختيار قادته للمستعين بعد قتال استمر عدة أيام، حفلت بالاضطراب وانتهبت فيه كثير من الأماكن في بغداد وغيرها، ثم استقر الأمر للمستعين.
وبهذا يكون النفوذ التركي قد استقر وتمكن تماما، فهاهم بعد أن قتلوا خليفة، وخلعوا وليين للعهد، صاروا يقررون من الخليفة القادم، ليس هذا فحسب، بل إن الخليفة القائم يعلم أنه لولا الأتراك ما كان ليصل إلى كرسي الخلافة على عكس المتوكل والمنتصر اللذين كانا وليين للعهد. وقد وصف الشاعر هذا الحال بقوله:خليفة في قفص ... بين وصيف وبغايقول ما قالا له ... كما تقول الببغا
ودخلت الدولة الإسلامية أياما عصيبة وصارت تسرع الخطى إلى الانهيار.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/ 169. الطبري، تاريخ الطبري، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1995م)، 5/351، 352؛ المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ط2 (بيروت: الشركة العالمية للكتاب ، 1990م)، 2/ 513، 514. ابن الطقطقي، الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، تحقيق: عبد القادر محمد مايو، ط1 (بيروت: دار القلم العربي، 1997م)، ص240. المغاربة: هم الجند المنتسبون إلى الشام ومصر والشمال الإفريقي، فهذه بالنسبة إلى العراق "مغرب"، والأشروسنية: هم الجند المنتسبون إلى أشروسنة من بلاد الترك ما وراء النهر!
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 14, 2016 13:57

عرض كتاب "النظرية الحركية في السياسة الشرعية" (2)


§       اسم الكتاب: النظرية الحركية في السياسة الشرعية§       المؤلف: محمد مصطفى النوباني§       دار النشر: نداء (اسطنبول: تركيا)§       عدد الصفحات: 216 من القطع الكبير§       الطبعة: الأولى (يناير 2016م)§       من إصدارات: هيئة علماء فلسطين في الخارجوقفنا في المقال السابق عند منتصف الكتاب الذي نستعرضه بنوع تفصيل، وهذا مع التأكيد على أن هذا العرض مجرد إشارة لا تغني عن قراءة الكتاب، فالكتاب هو منهج لاستخدام أدوات البحث في استنباط النظرية السياسية الحركية في واقع الجماعة المسلمة (في مرحلة الدعوة/ ما قبل الدولة) ثم في واقع قيام الدولة. ولهذا ننصح بقراءة المقال الماضي قبل البدء في هذه الأسطر القادمة.
(3) المحور الثالث: النظرية السياسية من خلال السيرة النبوية
دلَّ القرآن نفسه على أن السنة مرجعية عليا عبر الكثير من الآيات، كما أن السيرة هي النموذج العملي التطبيقي للنظرية السياسية الإسلامية، ومن ثم فهي مرجعية بالنص وبالعقل معا. وهكذا يعتمد المؤلف شمولية السيرة لكافة الجوانب لكونها تطبيقا للقرآن وينطلق من هذا الاعتماد إلى عدم تجويز الأخذ بشرع من قبلنا واعتبار أنه ليس شرعا لنا، وهو خلاف مشهور بين الأصوليين.
وقد اقتضت محاولة فهم القرآن كمرشد وموجِّه لحركة الجماعة المسلمة أن يكون ثمة تصور واضح عن السيرة النبوية، ذلك أن فهم القرآن لا يتم على وجهه الأمثل إلا إذا استحضرنا الظروف والأجواء الذي نزل فيه، ولهذا خرج المؤلف من قراءته للسيرة بتقسيمها إلى ست مراحل، ثلاث في المرحلة المكية وثلاث في المرحلة المدنية، وجعل لكل مرحلة سمات وخصائص تتميز بها، ومن خلال هذه السمات يمكن فهم القرآن الكريم وكيف قاد ووجَّه حركة الجماعة المسلمة.
والمراحل هي:
1.    مرحلة الدعوة السرية (1 – 3 من البعثة)2.    مرحلة الجهر بالدعوة (3 – 10)3.    مرحلة البحث عن مظلة سياسية (10 – 13) [وهذه هي المراحل المكية]4.    مرحلة بناء الدولة واستراتيجية الدفاع (1 – 5هـ)5.    مرحلة التوسع (5 – 8)6.    مرحلة الخطاب العالمي (8 – 11: وفاة النبي) [وهذه هي المراحل المدنية]
يقول المؤلف بأنه ينبغي علينا دراسة المحاور الخمسة للعملية السياسية (نظام الحكم، منظومة الدعوة والمواجهة، علم النفس السياسي، علم الاجتماع السياسي) في كل مرحلة من مراحل السيرة، لنخرج من ذلك كله بالواجب السياسي على الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية في المرحلة المشابهة لها في واقعها المعاصر.. وضرب على هذا بعض الأمثلة في كل مرحلة.
(4) المحور الرابع: النظرية السياسية من خلال الخلافة الراشدة
لقد كانت السيرة النبوية تجربة تطبيق بشرية لكنها محوطة بالوحي الذي يوجهها أو يصححها، فلذلك سن رسول الله للأمة الاقتداء "بالخلفاء الراشدين المهديين من بعده"، وقوله "الخلفاء" دليل على أنه اقتداء بهم في باب السياسة والإمامة، إذ هو حددهم بصفتهم "الخلفاء"، كما أنه لا سنة للخلفاء تُتَّبَع في الدين إلا سنتهم في السياسة فالنبي قد وضَّح السنن، وذلك لضرورة أن تكون ثمة مرحلة بشرية كاملة يقتدي الناس بها، مرحلة بلا وحي ولا رسول معصوم، ومن هنا فإن فترة الخلافة الراشدة هي النموذج الذي تقتدي به الأمة في باب السياسة.
وقد أراد المؤلف ضبط منهج الاقتداء بهذه الفترة فوضع ثلاثة قيود:
-       الأول: قيد التوجيه النبوي بمعنى أن حديث النبي حدد الاقتداء بهم في باب السياسة، وبهذا يخرج من الاقتداء ما كان من آرائهم في فقه العبادات والمعاملات ونحوه.
-       الثاني: قيد الاختصاص، ومعناه –كما يرى المؤلف، وهذه من ابتكاراته- أن مرحلة الخلافة شملت كل أحوال الدولة الإسلامية صعودا ورخاء وفتنة وحربا، وأن كل خليفة قام بما يناسب مرحلته، فيكون الاقتداء به أنسب حين تتشابه أحوالنا مع أحواله، فمشكلات التأسيس والبناء نقتدي فيها بأبي بكر، ومرحلة التمكين والنهوض نقتدي فيها بعمر وبالقسم الأول من خلافة عثمان، ومرحلة وجود تيارات معارضة وسلمية نقتدي فيها بعثمان، ومرحلة التهديدات الداخلية نقتدي فيها بعلي.. وهكذا، ومن ثَمَّ صار لكل خليفة اختصاص بمرحلة زمنية هو الأولى في الاقتداء به فيها.
-       الثالث: قيد الإجماع السياسي، ومعناه أن ما أجمع عليه الخلفاء الراشدون في باب السياسة هو واجب الاتباع، وهذا خلاف إجماعهم في رأي فقهي جزئي فهذا الذي لا يمثل إجماعهم فيه سنة واجبة الاتباع، وقولهم فيه كقول الصحابي وهذه هي المسألة المبحوثة في علم أصول الفقه.
(5) المحور الخامس: ذيول وتطبيقات
ثم أفرد المؤلف في النهاية فصولا كأنها ذيول وتطبيقات على النظرية:
ففي الفصل الثاني عشر يتناول علاقة النظرية بعلم أصول الفقه، وهو يقول بأن النظر السياسي والفقه السياسي يحمل على أن نجعل "الإجماع" كمصدر تشريع مقيدا في النظرية السياسية بكونه "إجماع الخلفاء الراشدين"، كذلك "القياس" لا بد فيه من مراعاة "قيد المرحلة" الذي تناوله من قبل في السيرة وفي فترة الخلافة الراشدة ولا يمكن إهدار قيد المرحلة هذا في عملية القياس ضمن الفقه السياسي.
وفي الفصل الثالث عشر يتحدث عن عملية الاستنباط السياسي، انطلاقا من قول الله تعالى {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]، والسياسة في القرآن، كما يقول المؤلف، هي "إدارة شأن الأمن والخوف"، فلذلك لا بد من وجود هيئة (أولي الأمر) وفي ضمنها هيئة أخرى هي (أهل الاستنباط)، وهذا هو ما يعصم الجماعة المسلمة من الوقوع في الخطأ واتباع الشيطان. ومن هذه الآية يدخل المؤلف في اقتراح تشكيل مؤسسات تمثل أعمدة يستند إليها التطبيق السياسي، فبالإضافة إلى أولي الأمر وأهل الاستنباط يقترح إنشاء "محكمة المرجعية" التي تفصل فيما يختلف فيه أهل الاستنباط، واقتراحه هذا متأسس على قول الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
وتبعا لما سبق فهو يقترح إنشاء "معهد الاستنباط" الذي يتكون فيه أهل الاستنباط ويكون محضنهم التربوي والتعليمي، وإنشاء "فريق رفع الكتلة السياسية" المختص بتوصيف واقع الجماعة أو الكتلة المسلمة وتحديد أي مراحل السيرة تعيشها، وإنشاء "هيئة رفع الواقع السياسي" المختصة بدراسة الواقع السياسي فهي مركز دراسات استراتيجية، وإنشاء "وحدة توزيع المهام" التي تتولى توزيع المهمات بحسب المواهب والإمكانيات لدى أبناء الصف، وإنشاء "وحدة دراسة فقه الصراع" وهي المختصة بدراسة العدو من خلال أوصافه الواردة في القرآن والسنة ومن خلال الواقع، وإنشاء "الوحدة التربوية" التي تختص بضبط محاور التربية للكتلة أو الجماعة المسلمة من خلال مرحلة السيرة المشابهة. ثم ضرب مثالا على تصوره لهذه المؤسسات وإدارة عملية الاستنباط ومهمات الوحدات السالف ذكرها في العملية السياسية.
***
كانت هذا عرضا في غاية الاختصار والإيجاز لفكرة الكتاب، والمقصود منه أن يُغري ويُشَوِّق لقراءته والاطلاع عليه، إذ لا يمكن شرح فكرته على وجه الكفاية في مقال.
إن الفكرة التي يؤسس لها الكتاب ليست جديدة في عطاء الصحوة الإسلامية الحديثة، فلا يزال التراث الفكري للصحوة في باب السياسة يدندن حول قدرة الإسلام وتميزه في النموذج السياسي، إلا أن الجديد الذي أتى به المؤلف هو هذا التفصيل والتفريع في بناء النظرية ومحاولة الوصول إلى قدر تام من الانضباط والتحديد، وهو أمر لا يمكن استيفاؤه على الوجه المطلوب قبل دراسات مكثفة في التفسير والسيرة والتاريخ والفقه والأصول، وهو ما يعمل عليه المؤلف وفريق عمله، نسأل الله لهم السداد والتوفيق.
والنظرية تطرح إشكالات علمية تتنازع بعض أبوابها، مثل: ما يراه من لزوم الحاجة إلى ترتيب القرآن حسب النزولوقد جرى نقاش مطول بيني وبين المؤلف في هذا ولم نهتد في هذه المسائل إلى رأي مقنع لي، وبعض المسائل يقر هو أنه لم ينته فيها لرأي، ولكن يمكن الوصول فيها لرأي حاسم مع البحث والتقصي.
ومع هذا فإن المؤكد الذي ينبغي تكرار الإشارة إليه: أن هذا الكتاب جدير بالقراءة والدراسة والتأمل، ثم مدّ يد العون لمؤلفه وفرق العمل العاملة على استكمال لوازمه. فالنظرية ما تزال في طور التكون، وهي نظرية في المنهج لاستنباط نظرية سياسية منضبطة ومفصلة، ولا يُتوقع أن تنضج ثمرتها في المدى القريب.
نشر في ساسة بوست

وهو ليس مسبوقا في أصل الفكرة فقد طرحها عدد قبله من المفكرين والعلماء، وبعضهم أصدر تفاسير مرتبة حسب النزول مثل محمد عزت دروزة وعبد الرحمن حبنكة، وقد تناول هذه التفاسير دراسة وتقويما د. طه أبو فارس في رسالته للدكتوراة "تفاسير القرآن الكريم حسب ترتيب النزول: دراسة وتقويم"، وهي من منشورات دار الفتح العربي.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 14, 2016 02:45

October 13, 2016

أحمد ياسين شاهد على عصر الانتفاضة (1)

هذا هو الكتاب الأول من سلسلة "مكتبة الثائر المصري" التي نقدمها عبر مساحة "مدونات الجزيرة"، ونسأل الله التوفيق والإعانة.
يقع هذا الكتاب ضمن المجال الثالث: تجارب المقاومة في التاريخ، وهي من أهم التجارب المعاصرة، بل يمكن القول بأن تجربة حركة حماس هي أنضج تجربة لحركة إسلامية في التاريخ المعاصر، حصل فيها الموازنة بين السياسة والمقاومة، وبين البسالة العسكرية مع النضج والاعتدال الفكري، وبين التربية الانضباطية مع الإبداع والابتكار.
ومؤسسها الشيخ أحمد ياسين هو علامة فارقة في تاريخ المسلمين المعاصر، وهو أسطورة تُروى في التاريخ النضالي الإنساني كله، فهو رجل قعيد مصاب بعدد من الأمراض، وُلِد في زمن هزيمة ساحقة، أسس لحركة مقاومة في بيئة كلها معيقات، أرض مكشوفة جغرافيا بلا عمق دفاعي وبلا داعم إقليمي أو دولي ومحاصرة من القريب أشد من حصارها من قبل العدو، بإمكانيات معدومة، وتحت سلطة محلية عميلة.. ظروف يستحيل فيها تأسيس حركة مقاومة، لكنه فعلها، بل ونجح نجاحا باهرا، وصارت حركته التي أسسها صفحة باهرة في تاريخ حركات المقاومة.
وأصل هذا الكتاب مجموعة من الحلقات التي سجلها الشيخ مع الإعلامي أحمد منصور ضمن برنامج "شاهد على العصر" وبُثَّ على قناة الجزيرة عام 1999م. ونحن إذ نقدم خلاصات من الكتاب فإنه ينبغي قراءتها بعناية شديدة، ثم ينبغي لمن أراد التوسع العودة للكتاب نفسه لتحصيل فهم أعمق وأقوى للتجربة.
خلاصات الكتاب
1. سقطت فلسطين لأن الجيوش العربية سحبت سلاح الشعب الفلسطيني ثم انسحبت أمام إسرائيل، ولو كان بيدنا السلاح لما سقطت فلسطين ولا التزمنا بقرارات وقف إطلاق نار، لكن الشعب الأعزل كان يضطر إلى النزوح حين يسمع بأنباء المذابح التي تجري في القرى المجاورة.
2. كانت الجيوش العربية تهدر ما يحققه المجاهدون المتطوعون من إنجازات وتنسحب من المواقع رغم قدرتها على القتال.
3. كان من شروط إيقاف العدوان الثلاثي أن يصير قطاع غزة تحت إشراف دولي، لكن أهل غزة تمسكوا أن يكونوا تحت الإدارة المصرية.
4. سهولة الانتصار في حرب 1956 فتحت شهية إسرائيل لتكرار التجربة في 1967.
5. اعتقلتُ لأول مرة في ديسمبر 1965، في سجن غزة المركزي وكان تحت إشراف مصري، وكان مسؤول المخابرات فلسطيني، بتهمة الإخلال بالأمن! وبلا مرافق، وكنت أحتاج نصف ساعة لتهيئة فراشي لنفسي لأنام! واستمر لمدة شهر.
6. في عصر عبد الناصر لم يكن طلاب الجامعة في مصر يعرفون أين غزة ولا أوضاعها رغم أنها تحت الإدارة المصرية، وكان منهج الجغرافيا يضع "إسرائيل" كجزء من بلاد الشام.
7. خطب عبد الناصر 1965 في أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني –في مصر- وقال لهم "اللي بيقول لكم عنده مخطط لتحرير فلسطين بيكذب عليكم، ولو قلت لكم عندي مخطط باكذب عليكم". وكان الجنود المصريون الذاهبون إلى غزة لا يعرفون عنها شيئا ولا يعرفون حتى أين يذهبون ولا لديهم فكرة عن الحدود أو مواقع اليهود، وكان الضباط يتربحون من التجارة في غزة التي كانت منطقة حرة.
8. ضُرِب الطيران المصري عام 1967 كأنه حظيرة دجاج، ومن المذهل أن تباد الإمكانيات الهائلة لمصر، خصوصا مع البسالة التي كان يبديها الجنود البسطاء، لقد كنا نجد اثنين من الجنود يواجهون الدبابات والطائرات ولا يستسلمون!
9. كان يوم 5 يونيو مأساويا في غزة، كان الناس يتابعون الإذاعتين: الإسرائيلية والمصرية، يرون منشورات إسرائيل التي تدعو إلى التسليم ويرون ضرب الطائرات الإسرائيلية لدفاعات الجيش المصري، ثم يسمعون أكاذيب أحمد سعيد فيتضاعف حزنهم، كان الناس يومها كأنهم سكارى!
10. كانت الحركة الإسلامية ضعيفة في غزة لشدة وطأة السلطة المصرية التي كانت تحارب الكتاب الإسلامي، والاعتقالات والإعدامات، فما بالك بالسلاح؟! فكانت هناك رغبة في المقاومة ولكن ينقصها السلاح، وهذا ما أخَّر الحركة الإسلامية عن المقاومة، فاتخذنا قرارا بأن من شاء من الشباب الانضمام إلى الفصائل الأخرى فعل.
11. يتعامل اليهود مع الناس بالحرب النفسية، فمن ذلك أنهم لما وصلوا إلى مخيم الشاطئ جمعوا الناس وقالوا لهم: سلموا الأسلحة وإلا فمن سنجد في بيته سلاحا سنهدم البيت، وبالفعل هدموا بيتا أو بيتين فصار الناس يسلمون أسلحتهم.
12. يتعامل اليهود مع الشعب فرادى فرادى لتسهل السيطرة عليهم، لما احتلوا غزة جعلوا لكل منطقة ضابط مخابرات بيده إعطاء تصاريح لأي شيء، ومن خلال حاجة الناس للسفر أو العمل أو غيره يبدأ في مساومتهم ليكونوا عملاء، ونحن استطعنا أن نفرض على اليهود التعامل بشكل جماعي خصوصا في السجون لكن هذا كان صعبا في الشارع العام.
13. لو كان لدينا تنظيم في ذلك الوقت كنا استطعنا إدارة إضراب كامل عن العمل وأسقطنا الاحتلال، لكن هذا كان مستحيلا في ظل القبضة الأمنية المصرية، فبدأ الناس تحت ضغط الحاجة بالعودة إلى العمل، وأنا في البداية رفضت العودة للعمل كمدرس لكي لا أخدم اليهود، ثم فكَّرت في أني بهذا أخدمهم وأخرب الجيل الجديد، والواجب أن نعلم هذا الجيل ونحافظ عليه ولا نتركه فريسة للجهل.
14. رحَّل اليهود عددا من الشخصيات الإسلامية إلى مصر والأردن ولبنان ليمنعوا تكوين وعي أو مقاومة، وكنت من القلائل الذين بقوا وبدأت في تكوين تنظيم وعمل يدعم صمود الشعب ويساعد الأسر التي ليس لها عائل.
15. رفضت الانضمام لحركة فتح لأنها اعتمدت نهج مقاومة إسرائيل انطلاقا من الدول العربية، وهذه الدول أضعف من أن تواجه إسرائيل أو تحمي المقاومة، بل إن مصر اعتقلت من نفذوا عملية مقاومة في قطاع غزة عام 1965، والأردن ضربت المخيمات الفلسطينية 1970 وسوريا ضربت مخيم نهر البارد في لبنان، لهذا لم يكن العمل المقاوم ممكنا إلا من داخل الأرض المحتلة.
16. استطاعت إسرائيل إجهاض بذرة المقاومة التي أخذت في التكون حتى أنهتها 1972 – 1973، وذلك من خلال وحشية الإجراءات التي كانت تبلغ إزالة وهدم شوارع بكاملها، وكذلك لضعف الخبرة الأمنية للمقاومة وسهولة انكشافها.
17. استغرق إنشاء التنظيم منا خمسة عشر عاما حتى وصلنا إلى لحظة امتلاك وشراء السلاح (1967 – 1982م)، بدأنا بعشر أشخاص وبعدها بعام صار العدد شخصين فقط، وعند ذلك الوقت كان العداء القديم للإخوان قد زال وصار رواسب لدى الجيل القديم، وطبعت الجزء الثلاثين من تفسير سيد قطب ووزعته مجانا فبدأ إقبال الناس عليه، وأسسنا "الجمعية الإسلامية" كتجمع للشباب وكغطاء لأنشطتنا، واستعنا بشيخ كان من الإخوان قديما لكنه صار من الموافقين على كامب ديفيد لكي يتوسط لنا للحصول على التصريح من السلطة الإسرائيلية.
18. عند سماعي لخبر حرب أكتوبر دعوت الله أن تكون "حرب تحرير لا حرب استجداء السلام"، لكن للأسف هذا ما كان، فكُسِر الحصار حول إسرائيل وخرجت مصر من المعركة، لكن الحرب نفسها أشعلت الأمل والنفسية العربية وأثبتت أن النصر ممكن وأن الهزيمة ليست قدرا.

إلى هنا انتهت المساحة المخصصة، ونواصل في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 13, 2016 02:39

October 7, 2016

مطلع حكم العسكر في التاريخ الإسلامي

لا بد من التنبيه في صدر هذا المقال إلى أمر غاية في الأهمية، ذلك هو: أن العسكر الذين وصلوا إلى السلطة في التاريخ الإسلامي سواء أكانوا من الأتراك أو الأكراد أو الأمازيغ أو الشركس أو غيرهم إنما كانوا من صميم هذه الأمة، لا يعرفون ولاءًا لغيرها، وكثير منهم بذل في إقامة مجدها أروع البطولات، وهم قد وصلوا إلى الحكم في سياق الحضارة الإسلامية وعبر تفاعل خريطة القوى الداخلية، وأولئك الذين فسدوا منهم وأفسدوا إنما كانوا يصنعون لأنفسهم سلطانا فسلكوا في هذا سبيل الحق والباطل. أما حكم العسكر الذي تعانيه الأمة هذه الأيام فأمرٌ مختلف تماما، فأولئك وصلوا إلى الحكم بتمهيد ورعاية ودعم عدو الأمة الذي احتلها ونكبها ثم رأى أنه يمكن له السيطرة عليها بالوكالة من خلال الحكم العسكري المستند إلى الأقليات العرقية والطائفية والدينية، وأولئك العسكر الآن لم يكن لهم إنجاز مطلقا ضد هذا العدو، بل سائر حروبهم هزائم ونكبات، وسائر انتصاراتهم إنما هي مذابح ضد شعوبهم، ولا يرحل حكم أولئك العسكر إلا بتسليم البلاد مرة أخرى إلى الاحتلال كما استلمها من الاحتلال (كما حدث في العراق)، وهم يستدعون قوات الاحتلال لتحفظ لهم عروشهم ومناصبهم، بل هم إذا تهددت عروشهم يعلنون أن مصالح العدو ستكون في خطر حال زوالهم من مناصبهم.
فنحن حين نتحدث عن مساوئ الحكم العسكري في التاريخ الإسلامي إنما نتحدث عنه لبيان حقيقة أن الحكم العسكري شرٌ ووبالٌ على الأمم لأنه حكم عسكري، لكن لا نرمي أبدا أحدا من أولئك بشيء من الخيانات التي يمارسها عسكر اليوم(1) بداية الأزمة
دخل هارون الرشيد على ولده الصغير المدلل، الذي صار فيما بعد الخليفة العباسي الثامن المعتصم بالله، فأراد أن يعزيه في صديقه الذي كان يرافقه كل يوم إلى الكُتَّاب، فقال له: يا محمد مات غلامك؟! فقال: نعم يا سيدي واستراح من الكُتَّاب. ففوجئ الرشيد وقال: وإن الكُتَّاب ليبلغ منك هذا المبلغ أن تجعل الموت راحة منه؟! دعوه حيث انتهى لا تعلموه شيئًا، فوجَّهه إلى البادية ليتعلم الفصاحة، فكان أمُّيَّا ضعيفا في القراءة والكتابةلم يكن يُتوقع أن تؤول الخلافة إلى المعتصم لوجود أخويه الأمين والمأمون، لكن كليهما مات صغيرا، فوصلت إليه الخلافة، وكان الفارق هائلا بينه وبين المأمون الذي سبقه، فلقد كان المأمون عالما واسع الذكاء قوي العقل وفي أيامه نبغ شأن المعتزلة، فلما جاء المعتصم لم يكن أهلا أن يفهم هذه الأمور، فكان رجلا أقرب إلى العقل العسكري منه إلى العقل المدني، فمضى على منهج أخيه لكن بوتيرة عسكرية أشد.
قامت الدولة العباسية على قاعدة من الفرس الذين كانوا جماهير دعوتها ثم كانوا رجال دولتها كالبرامكة والطاهريين وغيرهم، إلا أنه وبعد مرور مائة عام بدأت الفرقة والتمزق تنتشر بين الفارسيين، واحتاجت الدولة لعنصر آخر تغذي به الجيش، فوقع اختيار المأمون على العنصر التركي، فبدأ في شراء المماليك الأتراك وتقوية الجيش بهم، ثم زاد المعتصم في هذه الوتيرة فصار الأتراك يمثلون في عهده عصب جيش الخلافة، واستطاعوا بالفعل إنقاذ الدولة العباسية وتحقيق انتصارات تاريخية وتعويض الدولة عما فقدته من القوة العسكرية، إلا أنهم في نفس الوقت أسسوا لدخول الدولة العباسية تحت نفوذ الحكم العسكري، ومن أبلغ ما يدل على هذا أن أهل بغداد لم يتحملوا غلظة الأتراك وبداوتهم، وخاف المعتصم من الاضطرابات فقرر بناء عاصمة جديدة للدولة هي (سامراء)، لتكون عاصمة عسكرية مقابل العاصمة المدنية الحضارية (بغداد) وإليها انتقلت مؤسسات الدولة وقصر الخلافةولما مات المعتصم سار ابنه الواثق بالله –الخليفة التاسع- على نهجه في الاعتماد على الأتراك فاتسع نفوذهم جدا، وبدأت من هاهنا دخولهم في نفوذ القرار السياسي، والواثق هو الخليفة الذي يمكن للمؤرِّخ أن يحمله مسئولية ما آل إليه حال الأتراك، فإنه طوال فترته «لم يقم بفعاليات عسكرية تذكر، فكان حكمه فترة ركود جعل الترك يشعرون بأهمِّيَّتهم ويتدخَّلون في السياسة، وبدل أن يقف الخليفة ضد هذا الاتجاه ويقصر فعاليتهم على النواحي العسكرية -كما كان يفعل المعتصم- نراه يسهل الطريق لهم بتعيينهم في الإدارة، فاتَّسع مدى نفوذهم، ولعلَّ ضعفه وقلة إدراكه مسئولان عن خطئه الخطير، وهو عدم تعيين ولي عهده بعده، ففتح للترك باب التدخل في آخر مراحل السلطة وهي اختيار الخليفة، فلم يترددوا في استغلال الفرصة؛ بل كانت لهم اليد الطولى في انتخاب المتوكل فكانت هذه سابقة جرت الويلات على العباسيين»ولم تطل أيام الواثق في الخلافة، فلم يحكم سوى خمسة سنوات وشهور، لكنها كانت كافية لترسيخ نفوذ العسكر الأتراك، فلما جاء بعده ابنه المتوكل على الله –الخليفة العباسي العاشر- حاول كثيرا حصار نفوذ الأتراك، واتخذ عددا من الإجراءات التي من شأنها إعاة هيبة الخلافة لتكون فوق العناصر جميعها ولتكون قادرة على الموازنة بينهم، إلا أنه لم ينجح، ويكفي دليلا على هذا أنه لما حاول التخلص من نفوذ كبير القادة الترك بذل مجهودا في عملية خداع واسعة تُخرجه من سامراء إلى الحج ثم إعادته إلى بغداد وهناك قُبِض عليه ثم قُتِل، ولولا ذلك لم يكن أحد ليمكنه شيء، بل يقول الطبري: "لو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه ولو دخل إلى سامرا فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه أمكنه ذلك"ومن إجراءات المتوكل أيضا تسميته ولي للعهد منذ وقت مبكر، بعد وصوله إلى الخلافة بقليل، رغم صغر أبنائه، وكان بذلك يحاول تثبيت شأن الخلافة من بعده لكي لا يتحكم العسكر الترك فيمن يكون خليفة كما كان لهم ذلك بعد موت أبيه الواثق، فوضع ترتيبا لولاية العهد يكون فيه الأمر من بعده لمحمد المنتصر بالله ثم لمحمد (أو الزبير) المعتز بالله، ثم لإبراهيم المؤيد بالله.
لكن المتوكل بدا له أن ابنه المعتز بالله أصلح للخلافة من ولي عهده المنتصر بالله، وقد ظهر هذا في كثير من المواطن والمواقف، فصار المتوكل يُقَدِّمه ويزيد في تقديمه، ثم طلب صراحة من المنتصر أن ينزل عن ولاية العهد لأخيه المعتز، فرفض المنتصر، فكان المتوكل بعدها يُحَقِّره ويهينه ويُنْقِص من شأنه أمام الناس، فزاد هذا من تغيُّر المنتصر على أبيه. وعلى جهة أخرى كان المتوكل قد عزم على مصادرة ضياع القائد التركي وصيف في مناطق أصبهان والجبل، وكتب هذا القرار ولم يبقَ إلَّا أن يُختم، فبلغ هذا وصيفًا، فكانت لحظة اجتمع فيها حنق المنتصر والأتراك على المتوكل.
تحالف الطرفان الغاضبان، وكان المتوكل مريضًا في تلك الأيام من عيد الفطر (247هـ)، لكنه بدأ يتجه نحو العافية في صباح الثلاثاء (3 من شوال 247هـ)، فلما جاء الليل وعزم على الجلوس إلى السمر مع الشعراء والسُمَّار كعادته، دخل عليه جماعة من الأمراء فقتلوه في تلك الليلة ثم بايعوا ولده المنتصر بالله.
كان عمر المتوكل في هذه اللحظة أربعين سنة فحسب، ونحسب أنه لو امتد به العمر لكان قد استطاع القضاء على نفوذ الأتراك وإعادة قوة الدولة، ولكن هكذا جرت الأيام ولا يعلم الغيب إلا الله! إلَّا أنها كانت سابقة جديدة في نفوذ الأتراك الذين وصلوا إلى قتل الخليفة نفسه، فكان لهذا ما بعده، وأعلنت هذه الحادثة عن فشل الخليفة في مسعاه بإنهاء نفوذ الأتراك، لا سيما وأنهم «على الرغم من انقسامهم على أنفسهم كانوا يشعرون بالمصلحة المشتركة، وساعدهم تخليط الخليفة في أمر العهد وانقسام العائلة المالكة على نفسها فاستغلُّوا ذلك لقتل خصمهم والتخلص منه، وتلا ذلك فترة فوضى مريعة»استطاع المنتصر بالله أن يصل إلى الخلافة وأن يصير الخليفة العباسي الحادي عشر، لكنه لم يدر أنه سيكون الخليفة الأول في عصر سيطرة العسكر، لتبدأ معه رحلة انحدار الدولة العباسية العظيمة الزاهرة ذات الحضارة المتألقة إلى الانهيار!
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية


انظر في المقارنة بين حكم العسكر الآن وحكم المماليك هذين المقالين المنشورين على "المعهد المصري": المقال الأول، المقال الثاني. ابن عبد ربه، العقد الفريد، ط1 (بيروت: دار الكتب العلمية، 1994م)، 2/275؛ ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ط1 (بيروت، دار الكتب العلمية، 1992م)، 11/27. لمزيد من التفصيل: محمد إلهامي، رحلة الخلافة العباسية، ط1 (القاهرة: مؤسسة اقرأ، 2013م)، 1/556 وما بعدها. وانظر: الأتراك في بلاط الخلافة العباسية. د. عبد العزيز الدوري، دراسات في العصور العباسية المتأخرة، (بغداد: مطبعة السوريان، 1945م)، ص13. الطبري، تاريخ الطبري، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1995م)، 5/302، 303. عبد العزيز الدوري، دراسات في العصور العباسية المتأخرة، مرجع سابق، ص14.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 07, 2016 07:26

عرض كتاب "النظرية الحركية في السياسة الشرعية"


§       اسم الكتاب: النظرية الحركية في السياسة الشرعية§       المؤلف: محمد مصطفى النوباني§       دار النشر: نداء (اسطنبول: تركيا)§       عدد الصفحات: 216 من القطع الكبير§       الطبعة: الأولى (يناير 2016م)§       من إصدارات: هيئة علماء فلسطين في الخارجليس كتابا بقدر ما هو تمهيد لمشروع بحثي ضخم يريد بناء النظرية الحركية الإسلامية في باب السياسة الشرعية، وهو من الكتب التي يصعب استعراضها في مقال، وإن كان ضروريا التعريف به والإشارة إليه.
ومؤلفه باحث أردني هو أبو الحسن محمد النوباني، ويعمل عليه –كما أخبرني- منذ عشر سنوات أو يزيد، وقد نتج عن هذه النظرية تطبيقات جزئية بعضها مثير للتأمل والنظر، وله بعض التنبؤات السياسية، وبعضها مثير للأخذ والرد والاعتراض.
والمزية الكبرى للكتاب هو انطلاقه من القرآن والسنة، من المرجعية الإسلامية، إذ الغالب على من يكتب في هذا الباب هو أن ينطلق من كتب السياسة ثم يحاول تنزيل ما فيها على القرآن والسنة، فكأنما كتب السياسة أصل، بينما الواجب أن يكون العكس، إذ مجرد ترتيب أبواب العلم جزء من فلسفته وتعبير عن انحياز فيه. وسنعود لتناول هذا الأمر بعد الانتهاء من عرض الكتاب إن شاء الله تعالى.
ينقسم الكتاب إلى أربعة عشر فصلا بالإضافة إلى مقدمة وتمهيد وخاتمة. على أنه يمكن لنا أن نختصر تقسيمه إلى محاور على هذا النحو:
(1) المحور الأول: أصول النظرية
وهو يشمل المقدمة والتمهيد والفصول الأربعة الأولى:
تنطلق المقدمة من حقيقة أن الله كما خلق كونا بديع النظام محكوما بقوانين دقيقة فإن خلقه للإنسان على ذات المستوى من النظم والإحكام، وحيث انحرفت الإنسانية فظهر فيها الفساد فلا بد لأمة الإسلام أن تتحمل مسؤوليتها في الإصلاح لا سيما وهي تمتلك القرآن الذي هو أعلى قدرا وأعمق أثرا من عصا موسى ومسحة عيسى. إلا أن المشكلة قائمة في عدم الاستفادة المثمرة من القرآن في مسألة السياسة، إذ البعض يحسبه مجملا لا يتناول تفصيل شأن السياسة، والبعض يحسب السياسة خارجة عن متناول القرآن خاضعة للرأي وحده، والبعض يجمد على النصوص حتى يقدم قراءة يستحيل تطبيقها فتفقد بذلك صلاحيتها. فصار واجب الوقت استكناه القرآن لفهم النظرية السياسية التي تضبط حركة الكتلة المسلمة كما تضبط حياة الإنسان.
ويقدم التمهيد خلاصة منهج المؤلف في بنائه للنظرية وهي: مزاوجة استنباطية بين آيات القرآن والواقع الذي نزلت فيه، فتكون مهمة الباحث إدراك الواقع الذي هو فيه ليحسن تنزيل الآيات عليه، فنتخلص بهذا من فتوى الاستدلال والاستشهاد.
ثم يقدم الفصل الأول تعريفات للنظرية والحركة والسياسة والسياسة الشرعية.
ويقدم الفصل الثاني تأصيلا للنظرية الحركية من المرجعية الإسلامية، فيتناول ضرورة الاتفاق على مرجعية القرآن في النظرية السياسية، وخطورة الانهزام النفسي الذي يؤدي للتخلي عن المرجعية، كما أن الانطلاق بغير رؤية واضحة لعموم النظرية يؤدي إلى مصائب عملية، وطفق الباحث يؤصل مستشهدا بآيات القرآن ضرورة الالتزام بالقرآن والاهتداء به والتحاكم إليه والتسليم له، فهو الهدى والبصائر والنور والشفاء، وقد وعد الله المستمسكين به بالنصر والتمكين والتأييد والفلاح، وتوعد المنحرفين عنه –باتباع المتشابه أو بتقديم غيره عليه أو بترك التحاكم إليه- بالتنازع والفشل والخسارة والحبوط. ثم إن اتباع القرآن يقود إلى اتباع السنة، واتباع السنة يقود إلى اتباع سنة الخلافة الراشدة، وهذه الثلاثية (القرآن والسنة وسنة الخلفاء الراشدين) هي المرجعية للنظرية السياسية.
ويقف الفصل الثالث مع "خصائص الأصول المرجعية الإسلامية" فيذكر أن أي مرجعية لا بد أن تتوفر لها خمسة خصائص كي تكون صالحة للتطبيق: الربانية، والثبات والحركية، الشمولية، التوازن، الواقعية. ثم يذكر أن لمرجعية الأمة ثلاث خصائص إضافية تميزت بها هي: العالمية، والخلود والحفظ، والإعجاز.
ويُختم هذا المحور بالفصل الرابع الذي يشرح "محاور العملية السياسية" فيتناولها باختصار شديد عند الغرب وعند الفقهاء، ثم يجمع أطرافها في خمسة كليات رئيسية:
1.    نظام الحكم: ويشمل علاقة الحاكم بالمحكوم أو القائد بالأتباع، وطريقة اختيار القائد وصلاحياته وعلاقته بالمؤسسات وواجباته وحقوقه، وطبيعة السلطة والقوانين والقواعد.
2.    منظومة الدعوة والمواجهة: وهي منظومة تحقيق الغايات الكبرى للمشروع الإسلامي التي تشمل الاستراتيجيات والمنهجيات والأدوات المستخدمة للمواجهة في كل مرحلة، في حالات السلم والحرب وحالات التحديات الداخلية والخارجية، وإدارة الإمكانيات والموارد.
3.    علم الاقتصاد السياسي: ويشمل الإدارة المالية ونظام وسياسة الكسب والإنفاق والرقابة.
4.    علم الاجتماع السياسي: ويشمل دراسة المجتمع المحيط بالكتلة أو الدولة الإسلامية وتصنيفها وفرزها وكيفية التعامل معها.
5.    علم النفس السياسي: ويشمل الخطاب والسلوك الموجَّه لكل كتلة من كتل الاجتماع السياسي، وإدارة جهاز الإعلام وأدوات التواصل.
إلى هنا ينتهي هذا المحور الأول الذي هو تأسيس نظري يمهد للنظرية ويُعَرِّف بأدواتها، وقد استغرق نحو ثلث الكتاب.
(2) المحور الثاني: النظرية السياسية من خلال القرآن الكريم
ويشمل أربعة فصول: الخامس والسادس والسابع والثامن
يؤصل الفصل الخامس لشمولية القرآن وأدلة كونه مرجعية، وغرض الفصل الذي يدور حوله هو تثبيت وجوب اتخاذ القرآن الكريم مرجعية في بناء وتأصيل النظرية السياسية، وكون ذلك ليس بخيار بالنسبة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسوله، فأورد الآيات وأقوال المفسرين التي تدل على شمولية القرآن الذي نزل (تبيانا لكل شيء)، ومن أهم هذه الأشياء: الجانب السياسي الذي يدير حياة الناس ويدبر أمورهم ويتحكم في مصائرهم، فليس يُعقل أن الكتاب الذي نزل تبيانا لكل شيء أغفل جانب السياسة أو تركه عاما مجملا لا يُهتدى فيه لبيان مفصل، لا سيما والإسلام نفسه حركة سياسية أنشأت دولة وقادت العرب والعجم، وقد أبان عن المنهج السياسي منذ لحظاته الأولى وتبدت أصول الفكر السياسي في القرآن المكي. ولذلك أفرد المؤلف مبحثا لبعض الآيات التي تتناول بعض الأمور التفصيلية في الجانب السياسي للدلالة على خطأ من اعتبر أن هذا الجانب قد ورد مجملا.
ويتناول الفصل السادس، وهو من أدق وأهم فصول الكتاب، موضوع "حركية القرآن"، فيقرر أن معنى الحركية هو: قابلية القرآن للحركة مع الواقع وتطويعه وصلاحية تطبيقه في مختلف الظروف والملابسات في الزمان والمكان، ويستدل في هذا الفصل بنصوص مطولة من "ظلال القرآن" لسيد قطب تدور حول معنى أن القرآن لما نزل على أصحاب رسول الله إنما كان يقودهم في حركة الدعوة وفي معركة إقامة الدولة وفي تحديات مواجهة الكافرين والمنافقين، وحيث كان هذا دور القرآن حينئذ فليس يمكن تحصيل الاستفادة الحقيقية منه في واقع الحال إلا إذا أُخِذ على ذات القدر وبذات الكيفية. ويتوصل من تقرير هذا إلى القول بأنه لا بد من فهم طبيعة المرحلة التي نزلت فيها الآيات ليكون تحديد المرحلة في الواقع سبيلا للفهم الأحسن للآيات المناسبة لهذه المرحلة. وقد قاده هذا المعنى إلى التوقف عند ما أسماه "المدخل العلمي لفهم الحركية"، ويعني بها أنه يجب التنبه الدقيق لأمور في القرآن كي لا تشرد الأفهام في التفسير، وحددها في ثلاثة أمور:
1.    التفسير الموضوعي، وله ثلاث صور هي: وحدة الموضوع في السورة الواحدة حيث لكل سورة موضوع، ووحدة الموضوع في ألفاظ القرآن حيث يُفهم لفظ القرآن على وجهه الصحيح حين ينظر في سائر سياقاته، ووحدة الموضوع في سائر القرآن.
2.    المحكم والمتشابه، وله في هذا رأي لم أقف عليه سابقا، وهو قوله بأن المحكم هو ما اتضحت دلالته من خلال الأخذ بالتفسير الموضوعي –بصوره الثلاث- وسياق نزوله، والمتشابه هو ما لم يؤخذ فيه بهذا وقُطِع عن سياق نزوله وموضوعه، ومفاد كلامه أن كل متشابه إذا ضُمَّ إلى وحداته الموضوعية –في اللفظ والسورة والقرآن- وعُرف سياق تنزله فإنه يصير محكما واضحا. وبهذا يتضح معنى النص وفائدته في التنزيل السياسي على المراحل المختلفة لحركة الكتلة المسلمة أو الدولة الإسلامية.
3.    نفي الترادف في القرآن، حيث يأخذ المؤلف برأي أن كل لفظ في القرآن له معنى ودلالة تختلف عن غيره، وأنه لا يتحد لفظان في معنى واحد، ومآل هذا أن لكل لفظ أثر مختلف في الفهم والتنزيل السياسي عن اللفظ الآخر، مما يجعل قدرتنا على فهم وتحليل الآية القرآنية سياسيا أعلى وأكثر وضوحا.
وختم هذا الفصل برأي لم يُسبق إليه، فيما أعلم، وهو تفريقه بين "النزول" و"التنزيل" في القرآن الكريم، حيث قال بأن النزول إنما قُصِد به النزول الأول للقرآن، والتنزيل هو "منهجية اتصال القرآن بالواقع بعد اكتمال النزول الأول"، ولدقة هذا الرأي فقد أفرد له الفصل السابع والثامن.
تناول الفصل السابع موضوع "فقه النزول"، ويعني به فقه نزول القرآن، وقيمة هذا الموضوع هو في فهم تفاعل القرآن مع الوقائع التي نزل فيها، وقد شرح أهمية نزول الوحي متفرقا وكيف كان هذا مثيرا لتوتر وارتباك الكافرين والمنافقين الذين تمنوا أن ينزل القرآن جملة واحدة، لكن الجديد الذي أتى به هو أننا نستطيع أن نحدد متى نزلت كل آية –أو مجموعة آيات- من القرآن، فبعضها نحن نعرف أسباب نزوله، وبعضها الآخر الذي لا نعرفه يمكن أن نستنتجه من "جو النزول"، إذ لا نريد أكثر من أن نعرف في أي مرحلة نزلت هذه السورة أو هذه المجموعة من الآيات، ولو أننا استطعنا ضبط هذا الموضوع لتمَّت لنا صورة واضحة من خريطة القرآن بالنسبة لمراحل السيرة وعرفنا منها ما الذي يناسب مرحلتنا الحالية بوضوح ويسر.
ثم جاء الفصل الثامن ليتناول القضية الجديدة التي ابتكرها وهي "فقه التنزيل"، وخلاصة كلام المؤلف فيه أن التنزيل غير النزول، فالتنزيل هو المعبر عن صفة الحركية في القرآن، وهو بمعنى استمرار تنزل معاني القرآن على الواقع الحالي طالما تشابهت الظروف والأحوال، فتشابه الظروف والأحوال يسميه "أسباب التنزيل"، وهذا كامن –بحسب المؤلف- في خمسة أمور هي: السنن والقوانين، القصص، الأمثال، الأحكام والتوجيهات، وقد أفاض في بيان كيف أن هذه الأمور الخمسة منبع ثرٌّ فياض بالتوجيهات السياسية، خصوصا إذا روعيت المراحل التي نزلت فيها. ثم إن تشابه الظروف والأحوال يحملنا على "التبديل"، وهنا يذهب المؤلف إلى القول بعدم النسخ في القرآن (مقتصرا هنا على الأحكام السياسية منه فحسب، ولا يمتد هذا على بقية الأحكام الفقهية، وفي هذه القسمة إشكال ظاهر)، إذ المنسوخ منه إنما يناسب مرحلة من المراحل نحتاج للاهتداء به إن كنا في ذات المرحلة. كذلك فإن تشابه الظروف والأحوال يحملنا على التعامل مع القرآن كأنه "روح" كما تعامل الصحابة معه على أنه "وحي متصل"، وقال في هذه النقطة كلاما بلاغيا لا ينضبط بمعنى واضح، أو لعلي أنا الذي لم أفهمه.
وهنا وصلنا تقريبا إلى منتصف الكتاب، ونواصل عرضه في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في ساسة بوست 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 07, 2016 07:19