محمد إلهامي's Blog, page 42
October 6, 2016
مكتبة الثائر المصري
"يصرون على أنها كرة قدم ويلتزمون بقوانينها، بينما اللعبة مصارعة حرة، وبالسيوف، وبلا قوانين".. كان هذا تعليقا من صديقي على موقف بعض المعارضين للانقلاب العسكري في مصر، فهم حريصون على مؤسسات الدولة وإن ذبحت الثورة، وحريصون على قوانين النظام وقواعده وإن كانت موضوعة خصيصا لسحق الثورة والثوار، ويتوهمون أن مجرد النضال الدستوري، قد يوصلهم إلى انتصار ثوري، يستلمون فيه دولة سليمة ذات مؤسسات متعافية، يستعملونها في إقامة محاكمات عادلة للانقلابيين.
الواقع أنه منذ الانقلاب العسكري، فإن الثورة دخلت لحظة "المواجهة" مع النظام العسكري في مصر، ومهما حاول فريق من الثوار دفع هذا الخطر، والتعامي عنه، فإن الطرف الآخر يستعلن به ولا يتردد فيه، وقد استمع الناس على الشاشات لعمرو أديب وهو يقول "انسوا إن انتو ترجعوا.. ده احنا نجيب عاليها واطيها"، واستمعوا لـ "خبير استراتيجي" يقول: "لو أوروبا ما لمِّتْش موضوع ريجيني ومشيوا في تهديد النظام، فسنرسل لهم طوفانا من المهاجرين غير الشرعيين"، ومثل هذا كثير.
وحيث صار الحال هكذا، فقد صار من الواجب على المخلص للثورة حقا، أن يستعين في ثورته بعدد من الخبرات، تلك الخبرات التي أدى غيابها إلى انتكاسات الثورة، ودُفِع ثمنها من الأرواح والأموال والدموع. يجب على مثقف الثورة المصرية، أن يركز جهوده في عدد من المجالات، وهي أولى في حق المتخصصين فيها، بحيث يقدم لصفوف الثوار خلاصات عملية تنضج الثورة، وترشدها، وتعصمها من الوقوع في أخطاء التجارب السابقة.
الثورة هي قلب دائرة التقاطع بين علم الاجتماع وعلم السياسة، ولا تكفي الأحلام الثورية والمثاليات الخيالية في توجيه حركة الثورة.
وأهم هذه المجالات برأيي أربعة: (1) خصاص الشعب المصري(2) علم الاجتماع السياسي(3) تجارب المقاومة في التاريخ(4) العلوم الأمنية والعسكرية.
وقولي بأن هذه هي أهم المجالات، إنما هو لكونها أصولا وأساسا، يستخرج منها جميع صف الثوار نتائج أساسية، وإرشادات عامة، تؤثر على قرارهم الاستراتيجي واختياراتهم المبدئية، ولكن بعض المجالات الأخرى لن يستطيع الإفادة فيها سوى المتخصصون مثل: علوم الإدارة (خصوصا: إدارة الأزمات) والاقتصاد (خصوصا: اقتصاد الأزمات) وعلم النفس (خصوصا علم النفس السياسي وعلم نفس الجماهير) وما إلى ذلك.
أولا: خصائص الشعب المصري
وذلك أن البيئة التي سيعمل فيها الثائر، بيئة مخصوصة، لها تميزات وانفرادات عن غيرها، فيلزم من ذلك فهم ما يميزها، وعلم طبائع البلدان علم قديم، كتب فيه المسلمون منذ القرن الثاني الهجري، ومن المعلوم أن الشعوب تتأثر وتتشكل بعدد من العوامل، منها الجغرافيا والبيئة والمناخ، والنشاط الاقتصادي الغالب عليها، وميراثها الثقافي والروحي وغيره، فلا يسع الثائر الذي يتحرك في هذه البيئة، ويلزمه أن تكون بالنسبة له حاضنة شعبية، إلا أن يفهم طبيعة الخطاب وطبيعة السلوك الذي يناسب هذه الحاضنة، ثم آثار هذا على طبيعة المعركة التي يخوضها مع النظام العسكري.
وقد كُتب في هذا الباب كثير من الكتب، أشهرها كتب المفكر الراحل جمال حمدان، وعلى رأسها "موسوعة شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان"، فهذا الكتاب يلقي مساحة ضوء باهرة على الطبيعة المصرية أرضا وشعبا ونظاما سياسيا، وله بخلاف هذا عدد من الكتب في ذات الموضوع، ومنها كتب جلال أمين، خصوصا كتابه "ماذا حدث للمصريين في نصف قرن"، وغيرها.. وكلما كانت الكتب حديثة كلما كانت أحسن وأكثر فائدة.
ثانيا: علم الاجتماع السياسي
ضرورته واضحة، فالثورة هي قلب دائرة التقاطع بين علم الاجتماع وعلم السياسة، وهي حركة تستهدف إزالة نظام وإقامة بديل له، ولا تكفي الأحلام الثورية والمثاليات الخيالية في توجيه حركة الثورة، بل لابد للثائر أن يقف من أصول هذا العلم على أرض صلبة، فسنن الكون غلابة ولا رادَّ لها، وليس من سبيل سوى استعمالها بعد فهمها.. والمكتبة الخاصة بهذا العلم وتجاربه كثيرة وغزيرة ومتطورة، ويصدر فيها كل يوم جديدا.
إن الدول الآن ليست إلا كيانات أمنية تدير ذراعا عسكريا، وكل ما سوى ذلك إنما هو بمثابة الأعضاء والجوارح بالنسبة إلى القلب.
ويندرج في هذا القسم كتب السياسة الشرعية، فهي -من وجهة نظر التقسيم النظري التعليمي- واقعة في هذه الدائرة أكثر بكثير من وقوعها في دائرة الفقه والأصول، وإن كانت تستمد منهما وتتكئ عليهما، ونحن قبل كل شيء وبعده مسلمون، وأصحاب تاريخ وحضارة، ومُلزَمون دينا وعقلا بالانطلاق من هويتنا وإحياء حضارتنا وتطبيق ديننا، ثم إن هضم وفهم السياسة الشرعية هو العاصم من التيه في بحر مدارس ونظريات الاجتماع السياسي في النظرية الغربية، سواء على مستوى التنظير، أو على مستوى السلوك والتطبيق.
ثالثا: تجارب المقاومة في التاريخ
وذلك أن الثورة ليست اختراعا جديدا، ولا يكاد يوجد فصل ثوري لم يكن له نظير في التاريخ، فالتاريخ مستودع التجارب والخبرات، ويكاد يكون تاريخ تجارب المقاومة مصداقا لقول بعضهم "كل ما يقال قد قيل"، وغني عن القول أننا لا نقصد التفاصيل، فتلك لا تتكرر بحال، إنما نقصد ما يُستفاد من تجارب المقاومة: إبداعاتها وابتكاراتها في طرائق المواجهة (وهي فائدة عملية)، وبسالتها وبطولاتها (وهي فائدة معنوية)، وأساليب العدو في إجهاضها (وهي فوائد عملية وسياسية).
ولذلك فإن مكتبة التجارب تشمل ثلاثة فروع:
(1) المذكرات الشخصية التي كتبها المقاومون أو كتبها الساسة، سواء منهم من نجح أو فشل.(2) الكتابات التحليلية والتأريخية للثورات، وتجارب المقاومة وشخصياتها. (3) الدراسات الأمنية والبحثية التي تستخلص أساليب الثورة وأساليب القضاء عليها. وهي أيضا مكتبة في غاية الغزارة والتنوع، ولكن كلما كان الكتاب في التاريخ الحديث والمعاصر، كلما كان أقرب فائدة.
رابعا: العلوم الأمنية والعسكرية
لا نبعد إذا قلنا إن الدول الآن ليست إلا كيانات أمنية تدير ذراعا عسكريا، وكل ما سوى ذلك إنما هو بمثابة الأعضاء والجوارح بالنسبة إلى القلب، وهذه العلوم هي الأكثر سرية في واقعنا المعاصر، وثمة مواد لا تدرس في عالمنا العربي إلا في الكليات الأمنية وحدها، رغم أن موضوعها مدني، كالتخطيط الاستراتيجي. وهذا المجال تمتلك فيه الأنظمة الحاكمة تفوقا كاسحا، وبفجوة علمية غير مسبوقة في التاريخ، وتتراكم في أروقتها ملفات دراسة الحالات عن التعامل مع الثورات وحركات المقاومة، وطرق اختراقها وحرف مسارها، وإسقاط زعمائها أو اغتيالهم أو استبدالهم بالعملاء... إلخ!
وهذه المكتبة فرعان: فرعٌ كتبته حركات المقاومة، بعد تجاربها في المواجهة والتحقيق والمطاردة والاغتيال، وفرعٌ كتبته الأنظمة ورجالها الأمنيون، في تجارب إخماد الثورات والقضاء على المقاومة، ولا ريب أن المنشور في هذا أكبر بكثير من غير المنشور.
هذا نداء للمثقفين والمتخصصين وأصحاب القلم، أن أنفقوا طاقتكم وجهودكم في إرشاد الثوار إلى هذه الكتب، بتبسيطها وتلخيصها واستخراج خلاصاتها العملية، لتنضج الثورة ولا تكرر تجارب سابقيها، فهذا العمل هو واجب الوقت، ولا نرى غيره أوجب منه الآن، وبإذن الله تعالى، سنحاول في هذه المساحة "مدونات الجزيرة" أن نقدم كل أسبوع خلاصة كتاب في واحد من هذه الفروع الأربعة، سائلين الله تعالى التوفيق والإعانة والقبول، ثم سائلين أهل الفكر والقلم أن يخوضوا هذا الباب بعطائهم ومجهودهم، والله الموفق والمستعان.
نشر في مدونات الجزيرة
الواقع أنه منذ الانقلاب العسكري، فإن الثورة دخلت لحظة "المواجهة" مع النظام العسكري في مصر، ومهما حاول فريق من الثوار دفع هذا الخطر، والتعامي عنه، فإن الطرف الآخر يستعلن به ولا يتردد فيه، وقد استمع الناس على الشاشات لعمرو أديب وهو يقول "انسوا إن انتو ترجعوا.. ده احنا نجيب عاليها واطيها"، واستمعوا لـ "خبير استراتيجي" يقول: "لو أوروبا ما لمِّتْش موضوع ريجيني ومشيوا في تهديد النظام، فسنرسل لهم طوفانا من المهاجرين غير الشرعيين"، ومثل هذا كثير.
وحيث صار الحال هكذا، فقد صار من الواجب على المخلص للثورة حقا، أن يستعين في ثورته بعدد من الخبرات، تلك الخبرات التي أدى غيابها إلى انتكاسات الثورة، ودُفِع ثمنها من الأرواح والأموال والدموع. يجب على مثقف الثورة المصرية، أن يركز جهوده في عدد من المجالات، وهي أولى في حق المتخصصين فيها، بحيث يقدم لصفوف الثوار خلاصات عملية تنضج الثورة، وترشدها، وتعصمها من الوقوع في أخطاء التجارب السابقة.
الثورة هي قلب دائرة التقاطع بين علم الاجتماع وعلم السياسة، ولا تكفي الأحلام الثورية والمثاليات الخيالية في توجيه حركة الثورة.
وأهم هذه المجالات برأيي أربعة: (1) خصاص الشعب المصري(2) علم الاجتماع السياسي(3) تجارب المقاومة في التاريخ(4) العلوم الأمنية والعسكرية.
وقولي بأن هذه هي أهم المجالات، إنما هو لكونها أصولا وأساسا، يستخرج منها جميع صف الثوار نتائج أساسية، وإرشادات عامة، تؤثر على قرارهم الاستراتيجي واختياراتهم المبدئية، ولكن بعض المجالات الأخرى لن يستطيع الإفادة فيها سوى المتخصصون مثل: علوم الإدارة (خصوصا: إدارة الأزمات) والاقتصاد (خصوصا: اقتصاد الأزمات) وعلم النفس (خصوصا علم النفس السياسي وعلم نفس الجماهير) وما إلى ذلك.
أولا: خصائص الشعب المصري
وذلك أن البيئة التي سيعمل فيها الثائر، بيئة مخصوصة، لها تميزات وانفرادات عن غيرها، فيلزم من ذلك فهم ما يميزها، وعلم طبائع البلدان علم قديم، كتب فيه المسلمون منذ القرن الثاني الهجري، ومن المعلوم أن الشعوب تتأثر وتتشكل بعدد من العوامل، منها الجغرافيا والبيئة والمناخ، والنشاط الاقتصادي الغالب عليها، وميراثها الثقافي والروحي وغيره، فلا يسع الثائر الذي يتحرك في هذه البيئة، ويلزمه أن تكون بالنسبة له حاضنة شعبية، إلا أن يفهم طبيعة الخطاب وطبيعة السلوك الذي يناسب هذه الحاضنة، ثم آثار هذا على طبيعة المعركة التي يخوضها مع النظام العسكري.
وقد كُتب في هذا الباب كثير من الكتب، أشهرها كتب المفكر الراحل جمال حمدان، وعلى رأسها "موسوعة شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان"، فهذا الكتاب يلقي مساحة ضوء باهرة على الطبيعة المصرية أرضا وشعبا ونظاما سياسيا، وله بخلاف هذا عدد من الكتب في ذات الموضوع، ومنها كتب جلال أمين، خصوصا كتابه "ماذا حدث للمصريين في نصف قرن"، وغيرها.. وكلما كانت الكتب حديثة كلما كانت أحسن وأكثر فائدة.
ثانيا: علم الاجتماع السياسي
ضرورته واضحة، فالثورة هي قلب دائرة التقاطع بين علم الاجتماع وعلم السياسة، وهي حركة تستهدف إزالة نظام وإقامة بديل له، ولا تكفي الأحلام الثورية والمثاليات الخيالية في توجيه حركة الثورة، بل لابد للثائر أن يقف من أصول هذا العلم على أرض صلبة، فسنن الكون غلابة ولا رادَّ لها، وليس من سبيل سوى استعمالها بعد فهمها.. والمكتبة الخاصة بهذا العلم وتجاربه كثيرة وغزيرة ومتطورة، ويصدر فيها كل يوم جديدا.
إن الدول الآن ليست إلا كيانات أمنية تدير ذراعا عسكريا، وكل ما سوى ذلك إنما هو بمثابة الأعضاء والجوارح بالنسبة إلى القلب.
ويندرج في هذا القسم كتب السياسة الشرعية، فهي -من وجهة نظر التقسيم النظري التعليمي- واقعة في هذه الدائرة أكثر بكثير من وقوعها في دائرة الفقه والأصول، وإن كانت تستمد منهما وتتكئ عليهما، ونحن قبل كل شيء وبعده مسلمون، وأصحاب تاريخ وحضارة، ومُلزَمون دينا وعقلا بالانطلاق من هويتنا وإحياء حضارتنا وتطبيق ديننا، ثم إن هضم وفهم السياسة الشرعية هو العاصم من التيه في بحر مدارس ونظريات الاجتماع السياسي في النظرية الغربية، سواء على مستوى التنظير، أو على مستوى السلوك والتطبيق.
ثالثا: تجارب المقاومة في التاريخ
وذلك أن الثورة ليست اختراعا جديدا، ولا يكاد يوجد فصل ثوري لم يكن له نظير في التاريخ، فالتاريخ مستودع التجارب والخبرات، ويكاد يكون تاريخ تجارب المقاومة مصداقا لقول بعضهم "كل ما يقال قد قيل"، وغني عن القول أننا لا نقصد التفاصيل، فتلك لا تتكرر بحال، إنما نقصد ما يُستفاد من تجارب المقاومة: إبداعاتها وابتكاراتها في طرائق المواجهة (وهي فائدة عملية)، وبسالتها وبطولاتها (وهي فائدة معنوية)، وأساليب العدو في إجهاضها (وهي فوائد عملية وسياسية).
ولذلك فإن مكتبة التجارب تشمل ثلاثة فروع:
(1) المذكرات الشخصية التي كتبها المقاومون أو كتبها الساسة، سواء منهم من نجح أو فشل.(2) الكتابات التحليلية والتأريخية للثورات، وتجارب المقاومة وشخصياتها. (3) الدراسات الأمنية والبحثية التي تستخلص أساليب الثورة وأساليب القضاء عليها. وهي أيضا مكتبة في غاية الغزارة والتنوع، ولكن كلما كان الكتاب في التاريخ الحديث والمعاصر، كلما كان أقرب فائدة.
رابعا: العلوم الأمنية والعسكرية
لا نبعد إذا قلنا إن الدول الآن ليست إلا كيانات أمنية تدير ذراعا عسكريا، وكل ما سوى ذلك إنما هو بمثابة الأعضاء والجوارح بالنسبة إلى القلب، وهذه العلوم هي الأكثر سرية في واقعنا المعاصر، وثمة مواد لا تدرس في عالمنا العربي إلا في الكليات الأمنية وحدها، رغم أن موضوعها مدني، كالتخطيط الاستراتيجي. وهذا المجال تمتلك فيه الأنظمة الحاكمة تفوقا كاسحا، وبفجوة علمية غير مسبوقة في التاريخ، وتتراكم في أروقتها ملفات دراسة الحالات عن التعامل مع الثورات وحركات المقاومة، وطرق اختراقها وحرف مسارها، وإسقاط زعمائها أو اغتيالهم أو استبدالهم بالعملاء... إلخ!
وهذه المكتبة فرعان: فرعٌ كتبته حركات المقاومة، بعد تجاربها في المواجهة والتحقيق والمطاردة والاغتيال، وفرعٌ كتبته الأنظمة ورجالها الأمنيون، في تجارب إخماد الثورات والقضاء على المقاومة، ولا ريب أن المنشور في هذا أكبر بكثير من غير المنشور.
هذا نداء للمثقفين والمتخصصين وأصحاب القلم، أن أنفقوا طاقتكم وجهودكم في إرشاد الثوار إلى هذه الكتب، بتبسيطها وتلخيصها واستخراج خلاصاتها العملية، لتنضج الثورة ولا تكرر تجارب سابقيها، فهذا العمل هو واجب الوقت، ولا نرى غيره أوجب منه الآن، وبإذن الله تعالى، سنحاول في هذه المساحة "مدونات الجزيرة" أن نقدم كل أسبوع خلاصة كتاب في واحد من هذه الفروع الأربعة، سائلين الله تعالى التوفيق والإعانة والقبول، ثم سائلين أهل الفكر والقلم أن يخوضوا هذا الباب بعطائهم ومجهودهم، والله الموفق والمستعان.
نشر في مدونات الجزيرة
Published on October 06, 2016 17:42
October 4, 2016
تجربة حماس.. درس للشيوخ والشباب
استطاعت ضربة جمال عبد الناصر للإخوان المسلمين عند سنة 1954 أن تضرب العمل الجهادي في فلسطين ضربة قاضية، فمن بعد ما كان الإخوان المسلمون في فلسطين هم أقوى الحركات الشعبية في فلسطين بل لا يكاد يكون لهم منافس حقيقي صاروا لا يرجون أكثر من البقاء على قيد الحياة مع الحملة الإعلامية الناصرية العنيفة، بالإضافة إلى أن الإدارة المصرية لقطاع غزة كانت تعمل بجد في كسر المقاومة واستئصال الإخوان، وأسفر الواقع عن نتيجة خلاصتها أن صار توجه الإخوان "المحافظة على النفس والانكفاء على الذات بانتظار ظروف أفضل"لكن المثير للتأمل هنا أن الظروف الأفضل حين جاءت كانت قيادة الإخوان الفلسطينيين نفسها قد تعوَّدت على هذا الموقع السري المهموم بأمور الدعوة والتربية ومراعاة الأيتام، حتى صارت تستغرب وتستنكر بشدة من يحدثها عن فكرة الجهاد والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي!!
لقد كان "التيار العام وسطهم يدعو إلى التريث والتركيز على الجوانب التربوية والإيمانية"، واضطر الشباب الذين يصرون على الجهاد إلى التحرك بعيدا عن مسار الإخوان، وكان من هؤلاء مؤسسي حركة فتح الأوائل، وقد استمر هؤلاء يركزون في تجنيدهم على الشباب الإخواني حتى عام 1962م، إلا أن الافتراق ظل يتسع حتى أصدر إخوان غزة أمرا بالتمايز التام: إما مع الإخوان أو مع فتح. وحتى بعد أن حلَّت نكبة 1967 وشاركت تنظيمات الإخوان بالخارج في "معسكرات الشيوخ" بالأردن فإن "قيادة التنظيم الفلسطيني لم تَتَبنَّ المشاركة في هذه المعسكرات، على أساس أن هذا العمل العسكري سابق لأوانه"يروي عدنان مسودي، أحد مؤسسي حماس في الضفة، هذه الفترة في مذكراته، فيذكر أنه حين عاد إلى فلسطين (1970م) كان محملا بأفكار الجهاد والمقاومة التي تلقاها في "معسكرات الشيوخ" وفي سوريا، لكنه فوجئ أن فكرة مقاومة الاحتلال تسبب صدمة للإخوان هناك، واكتشف أن الإخوان هناك لم يقرؤوا تراث الحركة الإسلامية نفسها مثل "في ظلال القرآن" و"معالم في الطريق" كلاهما لسيد قطب و"جاهلية القرن العشرين" لمحمد قطب، فعقدت له جلسة خاصة من قيادة الإخوان في الخليل، ودارت فيها نفس الأفكار التي نسمعها اليوم في مصر حول خطورة هذه الأفكار والعجز عن تحويلها إلى واقع وصدورها عن شاب متحمس لم يختبر شدة العدو وجهازه العسكري، ومسودي من ناحيته يدافع ويقول: لسنا أقل من فتح أو الجبهة الشعبية، ثم انتهى الاجتماع بقرارين؛ قرار من جهتهم برفض ما يقول وبتحذيره من الاتصال "بأحد من الإخوان الذين كنت تعرفهم، فقد يكون هذا الأخ (عميل)!؟"، وقرار من جهته هو بالعمل بعيدا عنهم في تكوين حركة واستقطاب شباب على هذه الأفكار. ومن الطريف اللافت للنظر أنه سمى تلك الفترة بـ "انقلاب قطبي"وأما في قطاع غزة فلا خلاف في أن تأسيس حماس كان منفصلا عن الإخوان المسلمين، وقد بدأه الشيخ أحمد ياسين الذي صرح بانتفاء كونه من الإخوان حتى الثلاثين من عمره وإن كان تتلمذ على أفكار حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب ومحمد الغزالي، واستخدم في وصف حماس تعبير "خرجت من رحم الإخوان المسلمين، هذا صحيح، لأنه فكرنا ونشاطنا هو نفس الفكر والنشاط"وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى تجربة مجموعة أخرى، يرويها أحد أطرافها وهو المهندس إبراهيم غوشة في مذكراته، وخلاصتها أن حركة فتح التي بدأت بشباب من الإخوان انطلقت في اتجاه التسلح والمقاومة، وازداد الافتراق بينها وبين الإخوان، وانحرفت فتح عن الوجهة الإسلامية واتخذت وجها وطنيا علمانيا واستغرفت فيه (وهنا لا يملك المرء إلا أن يتحسر على قرارات قيادية استسلامية تدفع بالشباب الإسلامي إلى العلمانية)، ثم عندما شعرت فتح بتزايد الضغوط السياسية عليها عرضت على تنظيم الإخوان بفلسطين الانضمام إليها وبمواقع متقدمة، فاشترط الإخوان أن "تلتزم حركة فتح بالإسلام" فجاء الجواب بالرفض، وهكذا تم الافتراق وانتهت آمال التحالف والاندماج، وكان هذا في عام (1964م)لكن صدمة الهزيمة (1967م) دفعت عددا من الشباب إلى القيام بحركة تصحيحية داخل الإخوان المسلمين، إذ لم يُرْضِهم ما أسفر عنه مؤتمر دعا إليه الإخوان في الأردن لكونه توقف عند الوصف والتحليل دون الدعوة إلى بناء جهادي للبدء في العمل، وهنا يقر إبراهيم غوشة بأن قرار حركة فتح لبدء المعركة كان "حكيما وبعيد النظر"، ويقول: "كنا نحن الإسلاميين وقبل حركة فتح يمكن أن نملأ الفراغ بالجهاد"، وهكذا بدأت مجموعة الشباب هؤلاء في مشروع جهادي داخل حركة الإخوان، وكانوا "متأثرين بفكر المرحوم حسن البنا وسيد قطب"، إلا أن الحركة لم تستمر لسببين؛ الأول: نذر المواجهة بين النظام الأردني والمقاومة الفلسطينية الذي انتهى إلى حادثة أيلول الأسود (1970م)، والثاني: أن قيادة الإخوان اكتشفت هذه الحركة وتمكنت من إجهاضها بالشدة واللين، ثم انتهى الشباب إلى "إنهاء هذه التجربة، على أن يُترك للزمن، وللعمل من داخل الصف تحقيق التصحيح المطلوب، حيث في هذه المرحلة الأخيرة خشينا من أن نكون سببا في شق الإخوان المسلمين"ولم يستطع أولئك الشباب شيئا على الحقيقة، لكن بعضا من أحلامهم بدأ يتحقق بعد ثلاثة عشر سنة (1983) حين أنشأ الإخوان قسم فلسطين، واتفقوا في مؤتمر أن العمل لتحريرها لا يتعارض مع السعي لإقامة دولة إسلامية، إلا أنهم على الحقيقة دعموا حراكا قد تكون على الأرض من خارج صفوفهم التقليدية سواء في قطاع غزة أو في الضفة، وكان الدعم ماليا ومعنويا، فلو نظرنا إلى مسار التاريخ لوجدنا ثلاثين سنة تفصل بين 1954 و1983، هذه الثلاثين سنة أفرزت على الأرض حراكا لم ينشأ ضمن الإخوان المسلمين في فلسطين.
والخلاصة التي نريد قولها في النهاية أن الجيل المهزوم الذي قرر الانتظار إلى حين تتحسن الظروف لم يفعل شيئا حين تحسنت الظروف، بل كان ظرفا سيئا ضمن الظروف المعيقة والمضادة لتجربة المقاومة، المقاومة التي بدأها جيل جديد إما تفلت من هذه القيادة القديمة فأسس كيانات أخرى، أو أتى بعدها فأسس كيانات تجاهلت الجيل القديم وجنَّبتْه الحركة، وحسنا فعلوا فإنه أمر لم يعودوا يحسنونه.
والسؤال هنا: هل يستوعب الشباب درس التاريخ فيُقدمون؟ وهل يستوعب الشيوخ فيؤدون أمانة الله ثم أمانة الأمة فيفسحون الطريق ولا يكونوا من المعوقين؟!
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
د. محسن صالح، حركة المقاومة الإسلامية (حماس): قراءة في رصيد التجربة 1987 – 2005، ضمن: محسن صالح (محرر)، حماس: دراسات في الفكر والتجربة، ط2 (بيروت: مركز الزيتونة، 2015م)، ص27. نفس المصدر ص28. بلال محمد (محرر)، إلى المواجهة: ذكريات د. عدنان مسودي، ط1 (بيروت: مركز الزيتونة، 2013م)، ص71 وما بعدها. أحمد ياسين، برنامج: شاهد على العصر، الحلقة الثانية، قناة الجزيرة، بتاريخ 24 إبريل 1999م. نفس المصدر، الحلقة الثالثة، بتاريخ 1 مايو 1999م. إبراهيم غوشة، المئذنة الحمراء: سيرة ذاتية، ط2 (بيروت: مركز الزيتونة، 2015م)، ص93، 94. نفس المصدر، ص107 – 109.
لقد كان "التيار العام وسطهم يدعو إلى التريث والتركيز على الجوانب التربوية والإيمانية"، واضطر الشباب الذين يصرون على الجهاد إلى التحرك بعيدا عن مسار الإخوان، وكان من هؤلاء مؤسسي حركة فتح الأوائل، وقد استمر هؤلاء يركزون في تجنيدهم على الشباب الإخواني حتى عام 1962م، إلا أن الافتراق ظل يتسع حتى أصدر إخوان غزة أمرا بالتمايز التام: إما مع الإخوان أو مع فتح. وحتى بعد أن حلَّت نكبة 1967 وشاركت تنظيمات الإخوان بالخارج في "معسكرات الشيوخ" بالأردن فإن "قيادة التنظيم الفلسطيني لم تَتَبنَّ المشاركة في هذه المعسكرات، على أساس أن هذا العمل العسكري سابق لأوانه"يروي عدنان مسودي، أحد مؤسسي حماس في الضفة، هذه الفترة في مذكراته، فيذكر أنه حين عاد إلى فلسطين (1970م) كان محملا بأفكار الجهاد والمقاومة التي تلقاها في "معسكرات الشيوخ" وفي سوريا، لكنه فوجئ أن فكرة مقاومة الاحتلال تسبب صدمة للإخوان هناك، واكتشف أن الإخوان هناك لم يقرؤوا تراث الحركة الإسلامية نفسها مثل "في ظلال القرآن" و"معالم في الطريق" كلاهما لسيد قطب و"جاهلية القرن العشرين" لمحمد قطب، فعقدت له جلسة خاصة من قيادة الإخوان في الخليل، ودارت فيها نفس الأفكار التي نسمعها اليوم في مصر حول خطورة هذه الأفكار والعجز عن تحويلها إلى واقع وصدورها عن شاب متحمس لم يختبر شدة العدو وجهازه العسكري، ومسودي من ناحيته يدافع ويقول: لسنا أقل من فتح أو الجبهة الشعبية، ثم انتهى الاجتماع بقرارين؛ قرار من جهتهم برفض ما يقول وبتحذيره من الاتصال "بأحد من الإخوان الذين كنت تعرفهم، فقد يكون هذا الأخ (عميل)!؟"، وقرار من جهته هو بالعمل بعيدا عنهم في تكوين حركة واستقطاب شباب على هذه الأفكار. ومن الطريف اللافت للنظر أنه سمى تلك الفترة بـ "انقلاب قطبي"وأما في قطاع غزة فلا خلاف في أن تأسيس حماس كان منفصلا عن الإخوان المسلمين، وقد بدأه الشيخ أحمد ياسين الذي صرح بانتفاء كونه من الإخوان حتى الثلاثين من عمره وإن كان تتلمذ على أفكار حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب ومحمد الغزالي، واستخدم في وصف حماس تعبير "خرجت من رحم الإخوان المسلمين، هذا صحيح، لأنه فكرنا ونشاطنا هو نفس الفكر والنشاط"وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى تجربة مجموعة أخرى، يرويها أحد أطرافها وهو المهندس إبراهيم غوشة في مذكراته، وخلاصتها أن حركة فتح التي بدأت بشباب من الإخوان انطلقت في اتجاه التسلح والمقاومة، وازداد الافتراق بينها وبين الإخوان، وانحرفت فتح عن الوجهة الإسلامية واتخذت وجها وطنيا علمانيا واستغرفت فيه (وهنا لا يملك المرء إلا أن يتحسر على قرارات قيادية استسلامية تدفع بالشباب الإسلامي إلى العلمانية)، ثم عندما شعرت فتح بتزايد الضغوط السياسية عليها عرضت على تنظيم الإخوان بفلسطين الانضمام إليها وبمواقع متقدمة، فاشترط الإخوان أن "تلتزم حركة فتح بالإسلام" فجاء الجواب بالرفض، وهكذا تم الافتراق وانتهت آمال التحالف والاندماج، وكان هذا في عام (1964م)لكن صدمة الهزيمة (1967م) دفعت عددا من الشباب إلى القيام بحركة تصحيحية داخل الإخوان المسلمين، إذ لم يُرْضِهم ما أسفر عنه مؤتمر دعا إليه الإخوان في الأردن لكونه توقف عند الوصف والتحليل دون الدعوة إلى بناء جهادي للبدء في العمل، وهنا يقر إبراهيم غوشة بأن قرار حركة فتح لبدء المعركة كان "حكيما وبعيد النظر"، ويقول: "كنا نحن الإسلاميين وقبل حركة فتح يمكن أن نملأ الفراغ بالجهاد"، وهكذا بدأت مجموعة الشباب هؤلاء في مشروع جهادي داخل حركة الإخوان، وكانوا "متأثرين بفكر المرحوم حسن البنا وسيد قطب"، إلا أن الحركة لم تستمر لسببين؛ الأول: نذر المواجهة بين النظام الأردني والمقاومة الفلسطينية الذي انتهى إلى حادثة أيلول الأسود (1970م)، والثاني: أن قيادة الإخوان اكتشفت هذه الحركة وتمكنت من إجهاضها بالشدة واللين، ثم انتهى الشباب إلى "إنهاء هذه التجربة، على أن يُترك للزمن، وللعمل من داخل الصف تحقيق التصحيح المطلوب، حيث في هذه المرحلة الأخيرة خشينا من أن نكون سببا في شق الإخوان المسلمين"ولم يستطع أولئك الشباب شيئا على الحقيقة، لكن بعضا من أحلامهم بدأ يتحقق بعد ثلاثة عشر سنة (1983) حين أنشأ الإخوان قسم فلسطين، واتفقوا في مؤتمر أن العمل لتحريرها لا يتعارض مع السعي لإقامة دولة إسلامية، إلا أنهم على الحقيقة دعموا حراكا قد تكون على الأرض من خارج صفوفهم التقليدية سواء في قطاع غزة أو في الضفة، وكان الدعم ماليا ومعنويا، فلو نظرنا إلى مسار التاريخ لوجدنا ثلاثين سنة تفصل بين 1954 و1983، هذه الثلاثين سنة أفرزت على الأرض حراكا لم ينشأ ضمن الإخوان المسلمين في فلسطين.
والخلاصة التي نريد قولها في النهاية أن الجيل المهزوم الذي قرر الانتظار إلى حين تتحسن الظروف لم يفعل شيئا حين تحسنت الظروف، بل كان ظرفا سيئا ضمن الظروف المعيقة والمضادة لتجربة المقاومة، المقاومة التي بدأها جيل جديد إما تفلت من هذه القيادة القديمة فأسس كيانات أخرى، أو أتى بعدها فأسس كيانات تجاهلت الجيل القديم وجنَّبتْه الحركة، وحسنا فعلوا فإنه أمر لم يعودوا يحسنونه.
والسؤال هنا: هل يستوعب الشباب درس التاريخ فيُقدمون؟ وهل يستوعب الشيوخ فيؤدون أمانة الله ثم أمانة الأمة فيفسحون الطريق ولا يكونوا من المعوقين؟!
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
د. محسن صالح، حركة المقاومة الإسلامية (حماس): قراءة في رصيد التجربة 1987 – 2005، ضمن: محسن صالح (محرر)، حماس: دراسات في الفكر والتجربة، ط2 (بيروت: مركز الزيتونة، 2015م)، ص27. نفس المصدر ص28. بلال محمد (محرر)، إلى المواجهة: ذكريات د. عدنان مسودي، ط1 (بيروت: مركز الزيتونة، 2013م)، ص71 وما بعدها. أحمد ياسين، برنامج: شاهد على العصر، الحلقة الثانية، قناة الجزيرة، بتاريخ 24 إبريل 1999م. نفس المصدر، الحلقة الثالثة، بتاريخ 1 مايو 1999م. إبراهيم غوشة، المئذنة الحمراء: سيرة ذاتية، ط2 (بيروت: مركز الزيتونة، 2015م)، ص93، 94. نفس المصدر، ص107 – 109.
Published on October 04, 2016 07:13
September 27, 2016
فجر عصر سيطرة الأتراك في العصر العباسي
ذكرنا في المقالات الماضية كيفبدأ نفوذ الأتراك في بلاط الخلافة العباسية، وكيف كانت لهم إنجازات على الصعيد العسكري مثل القضاء على تمرد بابك الخرميالخطير الذي ذهب ضحيته ربع مليون مسلم، وفتح عموريةالشهير، ثم ذكرنا كيف اكتشفت مؤامرة في قصر الخلافة العباسي هي أشبه ما يكون بمؤامرات التنظيم الموازي في تركيا المعاصرة، والتي أدت لنهاية القائد التركي اللامعالأفشين.
ثم انتهى عصر المعتصم بالله (الخليفة العباسي الثامن)، وبدأ عصر ابنه الخليفة الواثق بالله..
سار الواثق على خطى أبيه في تقديم الأتراك والاعتماد عليهم، ففي (رمضان 228هـ) خلع الواثق على أشناس الأمير التركي، لقب السلطان، وتَوَّجَه وألبسه وشاحين من جوهروالواثق هو الخليفة الذي يمكن للمؤرِّخ أن يحمله مسئولية ما آل إليه حال الأتراك، فإنه طوال فترته «لم يقم بفعاليات عسكرية تذكر، فكان حكمه فترة ركود جعل الترك يشعرون بأهمِّيَّتهم ويتدخَّلون في السياسة، وبدل أن يقف الخليفة ضد هذا الاتجاه ويقصر فعاليتهم على النواحي العسكرية -كما كان يفعل المعتصم- نراه يسهل الطريق لهم بتعيينهم في الإدارة، فاتَّسع مدى نفوذهم، ولعلَّ ضعفه وقلة إدراكه مسئولان عن خطئه الخطير، وهو عدم تعيين ولي عهده بعده، ففتح للترك باب التدخل في آخر مراحل السلطة وهي اختيار الخليفة، فلم يترددوا في استغلال الفرصة؛ بل كانت لهم اليد الطولى في انتخاب المتوكل فكانت هذه سابقة جرت الويلات على العباسيين»وكان عهد المتوكل كأنه رد فعل على الخلفاء الذين سبقوه، لا سيما المأمون والمعتصم والواثق، وقد كان رد فعل متطرفًا في الاتجاه الآخر.
كان نفوذ الجند الأتراك قد ازداد جدًّا حتى أصبحوا الآمر الناهي في شئون الدولة مهما كبرت؛ حتى مسألة الخلافة كان أمرها بيدهم، وحين مات الواثق كانت رغبة الأتراك في تولية ابنه محمد غير أن سنه الصغيرة وقفت حائلا دون تنفيذ مرادهم، ولعلَّهم خشوا أن يُثير هذا عامة العرب وأهل البلاد إذ سيصير واضحًا أن الخلافة في أيديهم فعليًّا، فربما تهيبوا من هذا الموقف وتداعياته، ومن ثم ذهبوا بالخلافة إلى جعفر المتوكل الذي كان في السادسة والعشرين من عمره مؤملين أن يكون الأمر فعليًّا بيدهم في وجود واجهة مقبولةوكان أول ما فعله المتوكل أن أمر بإعطاء الشاكريةوعلى عكس ما فعل الواثق من ترك أمر ولاية العهد -أو ربما تَعَلُّمًا من الدرس- فما هي لا شهور حتى ولى المتوكل ابنه محمد المنتصر الحجاز واليمن وعقد له على ذلك كله في رمضان (233هـ)في العام التالي (234هـ)، وذات ليلة سمر وخمرٍ صدرت عن المتوكل إساءات للحاجب التركي إيتاخوما كاد يعود إيتاخ إلى سامراء (عاصمة الخلافة في ذلك الوقت) حتى استقبلته هدايا الخليفة في الطريق إليها، ثم وصلته رسالة من إسحاق بن إبراهيم (نائب بغداد) أن الخليفة رأى أن يأتي إلى بغداد أولًا؛ لكي يستقبله وجوه الهاشميين، فما إن دخل إلى بغداد حتى قبض عليه إسحاق بن إبراهيم فحبسه، ثم قُتل داخل سجنه (5 من جمادى الآخرة 235هـ)، وقد علَّق الطبري بعبارة تدل على نفوذ إيتاخ الواسع: "لو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه ولو دخل إلى سامرا فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه أمكنه ذلك"وفي آخر هذا العام، وتحديدا (27 من ذي الحجة 235هـ)، أخذ المتوكل العهد من بعده لأولاده الثلاثة وهم: محمد (المنتصر بالله)، ثم محمد (أو الزبير) المعتز (المعتز بالله)، ثم إبراهيم وأعطاه لقب (المؤيد بالله)، وجعل لكلِّ منهم الإشراف على البلاد التي تقع تحت سلطة الخلافة، فالمنتصر بالله كان له الإشراف على مصر والشمال الإفريقي وثغور الشام والعراق وبلاد اليمن والحجاز والعراق وفارس، والمعتز بالله كان له الإشراف على خراسان وما والاها وأرمينية والري وأذربيجان، وأما المؤيد بالله فكان له الإشراف على الجيوش في دمشق وحمص والأردن وفلسطين. فكان الواحد منهم يستنيب الولاة في حكم هذه البلاد ويرجعون إليه، وكانت تُضْرب السِّكَّة (العملة) في البلاد باسم المتولي عليها من أبناء الخليفةلكن إجراءات المتوكل جميعها ستفشل، وستدخل الخلافة العباسية عصرها الثاني، وهو العصر الذي سماه المؤرخون "عصر سيطرة الترك"، وهو ما نبدأ به في المقالات القادمة إن شاء الله تعالى.
نشر في تركيا بوست
الطبري: تاريخ الطبري 5/ 274. د. أحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي 3/ 198. د. عبد العزيز الدوري: دراسات في العصور العباسية المتأخرة ص13. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 293. الشاكري: الأجير المستخدم، وهو معرب من جاكر. انظر: الفيروزآبادي: القاموس المحيط ص538. والشاكرية هم أحد الفرق العسكرية للدولة العباسية. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 293. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 297، 298. وأصله عبدٌ من بلاد الخزر التحق بخدمة المعتصم ثم ظهرت منه مواهب القتال والفروسية فارتفعت مكانته في الدولة أيام المعتصم والواثق والمتوكل، وتولى كثيرًا من الأعمال الإدارية المهمة، فهو قائد جيش المغاربة والمسئول عن دار الخلافة، والمسئول عن تنفيذ عقوبات الأسر والحبس. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 300. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 300. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 302، 303. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 306 وما بعدها. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 317، 326، 327.
ثم انتهى عصر المعتصم بالله (الخليفة العباسي الثامن)، وبدأ عصر ابنه الخليفة الواثق بالله..
سار الواثق على خطى أبيه في تقديم الأتراك والاعتماد عليهم، ففي (رمضان 228هـ) خلع الواثق على أشناس الأمير التركي، لقب السلطان، وتَوَّجَه وألبسه وشاحين من جوهروالواثق هو الخليفة الذي يمكن للمؤرِّخ أن يحمله مسئولية ما آل إليه حال الأتراك، فإنه طوال فترته «لم يقم بفعاليات عسكرية تذكر، فكان حكمه فترة ركود جعل الترك يشعرون بأهمِّيَّتهم ويتدخَّلون في السياسة، وبدل أن يقف الخليفة ضد هذا الاتجاه ويقصر فعاليتهم على النواحي العسكرية -كما كان يفعل المعتصم- نراه يسهل الطريق لهم بتعيينهم في الإدارة، فاتَّسع مدى نفوذهم، ولعلَّ ضعفه وقلة إدراكه مسئولان عن خطئه الخطير، وهو عدم تعيين ولي عهده بعده، ففتح للترك باب التدخل في آخر مراحل السلطة وهي اختيار الخليفة، فلم يترددوا في استغلال الفرصة؛ بل كانت لهم اليد الطولى في انتخاب المتوكل فكانت هذه سابقة جرت الويلات على العباسيين»وكان عهد المتوكل كأنه رد فعل على الخلفاء الذين سبقوه، لا سيما المأمون والمعتصم والواثق، وقد كان رد فعل متطرفًا في الاتجاه الآخر.
كان نفوذ الجند الأتراك قد ازداد جدًّا حتى أصبحوا الآمر الناهي في شئون الدولة مهما كبرت؛ حتى مسألة الخلافة كان أمرها بيدهم، وحين مات الواثق كانت رغبة الأتراك في تولية ابنه محمد غير أن سنه الصغيرة وقفت حائلا دون تنفيذ مرادهم، ولعلَّهم خشوا أن يُثير هذا عامة العرب وأهل البلاد إذ سيصير واضحًا أن الخلافة في أيديهم فعليًّا، فربما تهيبوا من هذا الموقف وتداعياته، ومن ثم ذهبوا بالخلافة إلى جعفر المتوكل الذي كان في السادسة والعشرين من عمره مؤملين أن يكون الأمر فعليًّا بيدهم في وجود واجهة مقبولةوكان أول ما فعله المتوكل أن أمر بإعطاء الشاكريةوعلى عكس ما فعل الواثق من ترك أمر ولاية العهد -أو ربما تَعَلُّمًا من الدرس- فما هي لا شهور حتى ولى المتوكل ابنه محمد المنتصر الحجاز واليمن وعقد له على ذلك كله في رمضان (233هـ)في العام التالي (234هـ)، وذات ليلة سمر وخمرٍ صدرت عن المتوكل إساءات للحاجب التركي إيتاخوما كاد يعود إيتاخ إلى سامراء (عاصمة الخلافة في ذلك الوقت) حتى استقبلته هدايا الخليفة في الطريق إليها، ثم وصلته رسالة من إسحاق بن إبراهيم (نائب بغداد) أن الخليفة رأى أن يأتي إلى بغداد أولًا؛ لكي يستقبله وجوه الهاشميين، فما إن دخل إلى بغداد حتى قبض عليه إسحاق بن إبراهيم فحبسه، ثم قُتل داخل سجنه (5 من جمادى الآخرة 235هـ)، وقد علَّق الطبري بعبارة تدل على نفوذ إيتاخ الواسع: "لو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه ولو دخل إلى سامرا فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه أمكنه ذلك"وفي آخر هذا العام، وتحديدا (27 من ذي الحجة 235هـ)، أخذ المتوكل العهد من بعده لأولاده الثلاثة وهم: محمد (المنتصر بالله)، ثم محمد (أو الزبير) المعتز (المعتز بالله)، ثم إبراهيم وأعطاه لقب (المؤيد بالله)، وجعل لكلِّ منهم الإشراف على البلاد التي تقع تحت سلطة الخلافة، فالمنتصر بالله كان له الإشراف على مصر والشمال الإفريقي وثغور الشام والعراق وبلاد اليمن والحجاز والعراق وفارس، والمعتز بالله كان له الإشراف على خراسان وما والاها وأرمينية والري وأذربيجان، وأما المؤيد بالله فكان له الإشراف على الجيوش في دمشق وحمص والأردن وفلسطين. فكان الواحد منهم يستنيب الولاة في حكم هذه البلاد ويرجعون إليه، وكانت تُضْرب السِّكَّة (العملة) في البلاد باسم المتولي عليها من أبناء الخليفةلكن إجراءات المتوكل جميعها ستفشل، وستدخل الخلافة العباسية عصرها الثاني، وهو العصر الذي سماه المؤرخون "عصر سيطرة الترك"، وهو ما نبدأ به في المقالات القادمة إن شاء الله تعالى.
نشر في تركيا بوست
الطبري: تاريخ الطبري 5/ 274. د. أحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي 3/ 198. د. عبد العزيز الدوري: دراسات في العصور العباسية المتأخرة ص13. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 293. الشاكري: الأجير المستخدم، وهو معرب من جاكر. انظر: الفيروزآبادي: القاموس المحيط ص538. والشاكرية هم أحد الفرق العسكرية للدولة العباسية. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 293. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 297، 298. وأصله عبدٌ من بلاد الخزر التحق بخدمة المعتصم ثم ظهرت منه مواهب القتال والفروسية فارتفعت مكانته في الدولة أيام المعتصم والواثق والمتوكل، وتولى كثيرًا من الأعمال الإدارية المهمة، فهو قائد جيش المغاربة والمسئول عن دار الخلافة، والمسئول عن تنفيذ عقوبات الأسر والحبس. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 300. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 300. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 302، 303. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 306 وما بعدها. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 317، 326، 327.
Published on September 27, 2016 12:25
September 23, 2016
في مدح رمسيس الثالث قائد معركة حطين!
أكتب هذه الكلمات وأنا في انتظار الطائرة التي تتجه بي إلى مؤتمر علمي دولي عن "صلاح الدين الأيوبي" يضم ثمانين شخصية علمية عربية وأجنبية، وحين تكون في هذه الأجواء يكون أقسى ما ينزل بك من أحداث أن ينتشر مقطع فيديو للواء أركان حرب نجم الدين محمود، مدير إدارة المتاحف العسكرية المصرية، يفخر فيه بانتصارات الجيش المصري، ومنها (معركة حطين) التي قادها (رمسيس الثالث) وانتصر فيها على (الحيثيين)، ومنها (معركة عين جالوت) التي قادها (صلاح الدين) لتحرير القدس! ومنها (معركة نسيب البحرية) التي قادها إبراهيم باشا الابن الأكبر لمحمد علي![شاهد الفيديو]
هذا الكلام نطق به رجل مهنته تفرض عليه التخصص في التاريخ العسكري المصري، فإذا به يجهل العلم الذي يُدَرَّس للأطفال في المدارس الابتدائية!! وهذا فضلا عن الخطأ الظاهر في معركة نسيب التي لم تكن بحرية بأي حال، بل كانت برية عند على الحدود السورية التركية، مما لا يجعل الخطأ هنا مجرد زلة لسان بل هو جهل فاحش، ولكنه على كل حال أقل من الجهل في صلاح الدين وحطين وعين جالوت!!
وليس الرجل إلا واحدا من طبقة غريبة نكتشفها في مصر يوميا تحمل عنوان "خبير استراتيجي" من العسكريين المتقاعدين، ولهم في كل يوم جديد طريف مثير للسخرية والشفقة والحسرة معا كتصريحات شفيق قبل انتخابات الرئاسة ثم قصة عبد العاطي مخترع جهاز الكفتة ثم تصريحات اللواء محافظ السويس عن الرياح وعن مقاومة الفئران وغيرها مما يستحق أن يُفرد له دراسة خاصة، ثم يأتي على رأس الهرم عبد الفتاح السيسي الذي لم يخجل من أن يقدم نفسه كـ "طبيب الفلاسفة"، في حين أن حصيلته اللغوية وأسلوبه في التعبير يدلان على فقر وضحالة علمية فضلا عن تفكير بسيط محدود مؤسف.
(1) جيوش العدو
وضع المستشرق الأمريكي فيليب حتى (وهو لبناني الأصل) كتابا في تاريخ العرب، هو "تاريخ العرب المطول"، وهو كتاب قيِّم على ما فيه من ملاحظات، وفيليب هذا هو أحد أعمدة الاستشراق الأمريكي، وهو مؤسس قسم الدراسات الشرقية في جامعة برنستون التي هي كهف الاستشراق وقلعته الكبرى منذ نبغ العصر الأمريكي، ثم كلفته الجامعة بوضع مختصر له، فاختصره في "العرب.. تاريخ موجز".
ذكر فيليب حتي في مقدمة الترجمة العربية لكتابه هذا أنه طُبِع ست طبعات خلال عام ونيف، منها طبعة خاصة بالجيش الأمريكيومن يطالع في تاريخ الاستشراق سيجد جملة من المستشرقين الخبراء خدموا في الجيوش الأجنبية، فقدموا لها خلاصات علمية لا تقدر بثمن، (وهذا بخلاف المؤسسات والمجامع العلمية والجواسيس الذين كانت مهمتهم فقط تقديم المعلومات).
ومن بين أشهر هؤلاء المستشرقين: برنارد لويس المستشرق الصهيوني المعروف وصاحب خريطة تقسيم المنطقة العربية حسب الأعراق والطوائف، فقد خدم في الجيش البريطاني بعد أن صار محاضرا في جامعيا في الحرب العالمية الثانية. ومنهم: لوي ماسينيون وهو غني عن التعريف وقد كان مستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، والراعي الروحي للجمعيَّات التبشيرية الفرنسية في مصر، وخدم بالجيش الفرنسي خمس سنوات في الحرب العالمية الأولى، واشتهر بكتابه عن الحلاج وبحوثه في الفلسفة الإسلامية والتصوف. ومنهم: المستشرق البريطاني أندرسون الذي التقاه الشيخ مصطفى السباعي وسجل أنه "رئيس قسم قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في العالم الإسلامي -في معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن- وهو متخرج من كلية اللاهوت في جامعة كمبردج، وكان من أركان حرب الجيش البريطاني في مصر خلال الحرب العالمية الثانية كما حَدَّثَنِي هو بذلك عن نفسه"ومنهم من هو أقل شهرة مثل: رونالد فيكتور بودلي، والذي كان برتبة كولونيل في الجيش البريطاني، وعمل في صفوفه في العراق وشرقي الأردن، ثم عمل مستشارا لسلطنة مسقط، وكان أوائل من عَبَروا الربع الخالي، وكشف عن أسراره المجهولة بين عامي (1930 - 1931م)، ولما ترك الخدمة عاش بين عرب الصحراء، وألف عدة كتب أشهرها (الرسول: حياة محمد)، و(رياح الصحراء)، و(صمت الصحراء) وغيرها. ومنهم: هنري دي كاستري، وكان مُقَدِّمًا في الجيش الفرنسي بالجزائر، وقضى زمنا في الشمال الإفريقي، ومن كتبه (الإسلام خواطر وسوانح)، و(مصادر غير منشورة عن تاريخ المغرب)، و(الأشراف السعديون)، و(رحلة هولندي إلى المغرب)، وغيرهما.
وقد ذكر د. مازن مطبقاني، وهو متخصص في الاستشراق وأعد رسالته للدكتوراة عن الاستشراق الأمريكي، أثناء وجوده في أمريكا أنه رأى طلابا مبتعثين من الجيش الأمريكي "لدراسة أحوال الشرق الأوسط الفكرية والسياسية والاجتماعية. وقد درس اللغة العربية مدة ثلاث سنوات"، وعرف بطالب آخر يعمل "في البحرية الأمريكية وقد كان بحثه لدرجة الماجستير حول التنصير في الخليج العربي" فأخذ نسخة منها وترجمها ونشرت بالعربيةهذه مجرد أمثلة وشذرات لما تتعلمه جيوش العدو عنا نحن لا عن أقوامهم هم!
(2) صناعة الجهل في الجيش المصري
يمكننا توقع كيف نشأ جيل من الجهلة محدودي العقول في الجيش المصري عبر تلك الحكاية التي يرويها نورفيل دي أتكين، العقيد المتقاعد في الجيش الأمريكي، والذي قضى فترة في تدريب الجيش المصري ضمن برامج التعاون العسكري بين البلدين، يقول:
"في كل المجتمعات، تكون المعلومات وسيلة لكسب العيش أو امتلاك القوة، لكن العرب يدخرون المعلومات ويحتفظون بها بإحكام خاص. وغالبا ما يفاجأ المدربون الأميركيون على مر السنين بحقيقة أن المعلومات التي يقدمونها إلى المسئولين الكبار لا تتخطاهم. فبعد أن يتعلم أي فني عربي تنفيذ بعض الإجراءات المعقدة، فهو يعرف أنه الآن لا يقدر بثمن طالما أنه هو الوحيد في وحدته الذي يمتلك تلك المعرفة؛ وبمجرد أن يوزعها على الآخرين، لن يعد هو مركز المعلومة الوحيد، مما يبدد سلطته. وهذا ما يفسر اعتياد اكتناز الكتيبات والكتب والنشرات التدريبية، وغيرها من أدبيات التدريب أو الخدمات اللوجستية. في أحد المرات، تَسَلّم فريق تدريب متنقل من الجيش الأمريكي يعمل مع القوات المدرعة المصرية بعد طول انتظار آخر كتيبات التشغيل التي ترجمت إلى اللغة العربية بمشقة. أخذ المدربون الأمريكيون الكتيبات حديثة الطباعة مباشرة إلى ساحة الدبابات وقاموا بتوزيعها على طاقم جنود الدبابات. لحق بهم مباشرة قائد السرية- وهو خريج مدرسة المدرعات في فورت نوكس كما تلقى دورات متخصصة في مدرسة ذخائر ابردين- ليجمع الكتبيات من طواقم. وعندما سئل عن سبب أخذه للكتبيات، قال القائد أنه لا فائدة من إعطائها للسائقين لأن المجندين لا يستطيعون القراءة. لكنه في الواقع لم يُرِد أن يجد المجندين مصدرًا مستقلًا للمعرفة. فكونه الشخص الوحيد الذي يمكنه شرح وسيلة إطلاق النيران أو تصويب أسلحة المدفعية يجلب الهيبة والاهتمام. ومن الناحية العسكرية، هذا يعني أن القليل جدًا من التدريبات التي تتلاقها تلك القوات تنتقل إلى غيرهم، فمثلًا بالنسبة لطاقم الدبابات، قد يكون جنود المدفعية، والحمالون، والسائقون بارعون في وظائفهم ولكنهم ليسوا على استعداد للقيام بدور آخر في حال وقوع الإصابات. ويقيد عدم فهم وظائف بعضهم البعض قيامهم بالعمل بسلاسة. كما يعني الأمر على مستوى أعلى عدم وجود عمق في البراعة التقنية"وهذه الرواية تفسر لنا من جهة أخرى كيف يستطيع أولئك "الخبراء الاستراتيجيون" من العسكريين المتقاعدين أن يتحدثوا في الإعلام وكلهم ثقة وافتخار بما هو مثير للسخرية والكوميديا، يبدو أنهم تعودوا السيطرة بهذه المعلومات على طبقات من الجهلة المحرومين من القراءة والاطلاع، حتى طال عليهم الأمد، فصدقوا أنهم خبراء وظنوا أنه يمكنهم مخاطبة سائر الناس بهذه الخرافات والتخريفات التي يلوكونها.
وهي تفسر أيضا كيف يستطيع أمثال عكاشة وأحمد موسى أن يكونوا مراجع فكرية لهذه الطبقة من العسكريين، وأن يكون كلامهم –بكل ما فيه من مضحكات وتناقضات- هو المصدر الثقافي المُكَوِّن لعقول ونفوس هذه الفئة.
وكنت ذات مرة مع واحد من أشهر الباحثين في شؤون العلاقات المدنية العسكرية، وطرح وجهة نظر في الملف المصري تقول بالحوار والتفاوض مع قادة الجيش، فسألته: أنت تتابع مستوى العقليات التي تتحدث في الجيش من محافظين و"خبراء استراتيجيين" وغيرهم، برأيك: هل يمكن إقامة حوار أو تفاوض مع شخصيات بهذا المستوى من الفهم؟ فابتسم وسكت!
ويالها من مأساة ومن مأزق!
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
فيليب حتي، العرب: تاريخ موجز، ط6 (بيروت: دار العلم للملايين، 1991م)، ص7. مصطفى السباعي، الاستشراق والمستشرقون: ما لهم وما عليهم، (بيروت: المكتب الإسلامي ودار الوراق، بدون تاريخ)، ص66. مازن مطبقاني، بحوث في الاستشراق الأمريكي المعاصر، ص18 (نسخة إلكترونية خاصة من المؤلف). نورفيل دي أتكين، لماذا يخسر العرب الحروب، ورقة بحثية بتاريخ (1 ديسمبر 1999م) على موقع راقب، ويمكن مطالعة الأصل الإنجليزي على موقع ميدل إيست فورم.
هذا الكلام نطق به رجل مهنته تفرض عليه التخصص في التاريخ العسكري المصري، فإذا به يجهل العلم الذي يُدَرَّس للأطفال في المدارس الابتدائية!! وهذا فضلا عن الخطأ الظاهر في معركة نسيب التي لم تكن بحرية بأي حال، بل كانت برية عند على الحدود السورية التركية، مما لا يجعل الخطأ هنا مجرد زلة لسان بل هو جهل فاحش، ولكنه على كل حال أقل من الجهل في صلاح الدين وحطين وعين جالوت!!
وليس الرجل إلا واحدا من طبقة غريبة نكتشفها في مصر يوميا تحمل عنوان "خبير استراتيجي" من العسكريين المتقاعدين، ولهم في كل يوم جديد طريف مثير للسخرية والشفقة والحسرة معا كتصريحات شفيق قبل انتخابات الرئاسة ثم قصة عبد العاطي مخترع جهاز الكفتة ثم تصريحات اللواء محافظ السويس عن الرياح وعن مقاومة الفئران وغيرها مما يستحق أن يُفرد له دراسة خاصة، ثم يأتي على رأس الهرم عبد الفتاح السيسي الذي لم يخجل من أن يقدم نفسه كـ "طبيب الفلاسفة"، في حين أن حصيلته اللغوية وأسلوبه في التعبير يدلان على فقر وضحالة علمية فضلا عن تفكير بسيط محدود مؤسف.
(1) جيوش العدو
وضع المستشرق الأمريكي فيليب حتى (وهو لبناني الأصل) كتابا في تاريخ العرب، هو "تاريخ العرب المطول"، وهو كتاب قيِّم على ما فيه من ملاحظات، وفيليب هذا هو أحد أعمدة الاستشراق الأمريكي، وهو مؤسس قسم الدراسات الشرقية في جامعة برنستون التي هي كهف الاستشراق وقلعته الكبرى منذ نبغ العصر الأمريكي، ثم كلفته الجامعة بوضع مختصر له، فاختصره في "العرب.. تاريخ موجز".
ذكر فيليب حتي في مقدمة الترجمة العربية لكتابه هذا أنه طُبِع ست طبعات خلال عام ونيف، منها طبعة خاصة بالجيش الأمريكيومن يطالع في تاريخ الاستشراق سيجد جملة من المستشرقين الخبراء خدموا في الجيوش الأجنبية، فقدموا لها خلاصات علمية لا تقدر بثمن، (وهذا بخلاف المؤسسات والمجامع العلمية والجواسيس الذين كانت مهمتهم فقط تقديم المعلومات).
ومن بين أشهر هؤلاء المستشرقين: برنارد لويس المستشرق الصهيوني المعروف وصاحب خريطة تقسيم المنطقة العربية حسب الأعراق والطوائف، فقد خدم في الجيش البريطاني بعد أن صار محاضرا في جامعيا في الحرب العالمية الثانية. ومنهم: لوي ماسينيون وهو غني عن التعريف وقد كان مستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، والراعي الروحي للجمعيَّات التبشيرية الفرنسية في مصر، وخدم بالجيش الفرنسي خمس سنوات في الحرب العالمية الأولى، واشتهر بكتابه عن الحلاج وبحوثه في الفلسفة الإسلامية والتصوف. ومنهم: المستشرق البريطاني أندرسون الذي التقاه الشيخ مصطفى السباعي وسجل أنه "رئيس قسم قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في العالم الإسلامي -في معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن- وهو متخرج من كلية اللاهوت في جامعة كمبردج، وكان من أركان حرب الجيش البريطاني في مصر خلال الحرب العالمية الثانية كما حَدَّثَنِي هو بذلك عن نفسه"ومنهم من هو أقل شهرة مثل: رونالد فيكتور بودلي، والذي كان برتبة كولونيل في الجيش البريطاني، وعمل في صفوفه في العراق وشرقي الأردن، ثم عمل مستشارا لسلطنة مسقط، وكان أوائل من عَبَروا الربع الخالي، وكشف عن أسراره المجهولة بين عامي (1930 - 1931م)، ولما ترك الخدمة عاش بين عرب الصحراء، وألف عدة كتب أشهرها (الرسول: حياة محمد)، و(رياح الصحراء)، و(صمت الصحراء) وغيرها. ومنهم: هنري دي كاستري، وكان مُقَدِّمًا في الجيش الفرنسي بالجزائر، وقضى زمنا في الشمال الإفريقي، ومن كتبه (الإسلام خواطر وسوانح)، و(مصادر غير منشورة عن تاريخ المغرب)، و(الأشراف السعديون)، و(رحلة هولندي إلى المغرب)، وغيرهما.
وقد ذكر د. مازن مطبقاني، وهو متخصص في الاستشراق وأعد رسالته للدكتوراة عن الاستشراق الأمريكي، أثناء وجوده في أمريكا أنه رأى طلابا مبتعثين من الجيش الأمريكي "لدراسة أحوال الشرق الأوسط الفكرية والسياسية والاجتماعية. وقد درس اللغة العربية مدة ثلاث سنوات"، وعرف بطالب آخر يعمل "في البحرية الأمريكية وقد كان بحثه لدرجة الماجستير حول التنصير في الخليج العربي" فأخذ نسخة منها وترجمها ونشرت بالعربيةهذه مجرد أمثلة وشذرات لما تتعلمه جيوش العدو عنا نحن لا عن أقوامهم هم!
(2) صناعة الجهل في الجيش المصري
يمكننا توقع كيف نشأ جيل من الجهلة محدودي العقول في الجيش المصري عبر تلك الحكاية التي يرويها نورفيل دي أتكين، العقيد المتقاعد في الجيش الأمريكي، والذي قضى فترة في تدريب الجيش المصري ضمن برامج التعاون العسكري بين البلدين، يقول:
"في كل المجتمعات، تكون المعلومات وسيلة لكسب العيش أو امتلاك القوة، لكن العرب يدخرون المعلومات ويحتفظون بها بإحكام خاص. وغالبا ما يفاجأ المدربون الأميركيون على مر السنين بحقيقة أن المعلومات التي يقدمونها إلى المسئولين الكبار لا تتخطاهم. فبعد أن يتعلم أي فني عربي تنفيذ بعض الإجراءات المعقدة، فهو يعرف أنه الآن لا يقدر بثمن طالما أنه هو الوحيد في وحدته الذي يمتلك تلك المعرفة؛ وبمجرد أن يوزعها على الآخرين، لن يعد هو مركز المعلومة الوحيد، مما يبدد سلطته. وهذا ما يفسر اعتياد اكتناز الكتيبات والكتب والنشرات التدريبية، وغيرها من أدبيات التدريب أو الخدمات اللوجستية. في أحد المرات، تَسَلّم فريق تدريب متنقل من الجيش الأمريكي يعمل مع القوات المدرعة المصرية بعد طول انتظار آخر كتيبات التشغيل التي ترجمت إلى اللغة العربية بمشقة. أخذ المدربون الأمريكيون الكتيبات حديثة الطباعة مباشرة إلى ساحة الدبابات وقاموا بتوزيعها على طاقم جنود الدبابات. لحق بهم مباشرة قائد السرية- وهو خريج مدرسة المدرعات في فورت نوكس كما تلقى دورات متخصصة في مدرسة ذخائر ابردين- ليجمع الكتبيات من طواقم. وعندما سئل عن سبب أخذه للكتبيات، قال القائد أنه لا فائدة من إعطائها للسائقين لأن المجندين لا يستطيعون القراءة. لكنه في الواقع لم يُرِد أن يجد المجندين مصدرًا مستقلًا للمعرفة. فكونه الشخص الوحيد الذي يمكنه شرح وسيلة إطلاق النيران أو تصويب أسلحة المدفعية يجلب الهيبة والاهتمام. ومن الناحية العسكرية، هذا يعني أن القليل جدًا من التدريبات التي تتلاقها تلك القوات تنتقل إلى غيرهم، فمثلًا بالنسبة لطاقم الدبابات، قد يكون جنود المدفعية، والحمالون، والسائقون بارعون في وظائفهم ولكنهم ليسوا على استعداد للقيام بدور آخر في حال وقوع الإصابات. ويقيد عدم فهم وظائف بعضهم البعض قيامهم بالعمل بسلاسة. كما يعني الأمر على مستوى أعلى عدم وجود عمق في البراعة التقنية"وهذه الرواية تفسر لنا من جهة أخرى كيف يستطيع أولئك "الخبراء الاستراتيجيون" من العسكريين المتقاعدين أن يتحدثوا في الإعلام وكلهم ثقة وافتخار بما هو مثير للسخرية والكوميديا، يبدو أنهم تعودوا السيطرة بهذه المعلومات على طبقات من الجهلة المحرومين من القراءة والاطلاع، حتى طال عليهم الأمد، فصدقوا أنهم خبراء وظنوا أنه يمكنهم مخاطبة سائر الناس بهذه الخرافات والتخريفات التي يلوكونها.
وهي تفسر أيضا كيف يستطيع أمثال عكاشة وأحمد موسى أن يكونوا مراجع فكرية لهذه الطبقة من العسكريين، وأن يكون كلامهم –بكل ما فيه من مضحكات وتناقضات- هو المصدر الثقافي المُكَوِّن لعقول ونفوس هذه الفئة.
وكنت ذات مرة مع واحد من أشهر الباحثين في شؤون العلاقات المدنية العسكرية، وطرح وجهة نظر في الملف المصري تقول بالحوار والتفاوض مع قادة الجيش، فسألته: أنت تتابع مستوى العقليات التي تتحدث في الجيش من محافظين و"خبراء استراتيجيين" وغيرهم، برأيك: هل يمكن إقامة حوار أو تفاوض مع شخصيات بهذا المستوى من الفهم؟ فابتسم وسكت!
ويالها من مأساة ومن مأزق!
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
فيليب حتي، العرب: تاريخ موجز، ط6 (بيروت: دار العلم للملايين، 1991م)، ص7. مصطفى السباعي، الاستشراق والمستشرقون: ما لهم وما عليهم، (بيروت: المكتب الإسلامي ودار الوراق، بدون تاريخ)، ص66. مازن مطبقاني، بحوث في الاستشراق الأمريكي المعاصر، ص18 (نسخة إلكترونية خاصة من المؤلف). نورفيل دي أتكين، لماذا يخسر العرب الحروب، ورقة بحثية بتاريخ (1 ديسمبر 1999م) على موقع راقب، ويمكن مطالعة الأصل الإنجليزي على موقع ميدل إيست فورم.
Published on September 23, 2016 23:30
September 22, 2016
درس في اختيار مكان الثورة
لا بد للثورة من فهم للجغرافيا السياسية والميول الاجتماعية للمناطق المختلفة لتختار من بينها المكان الذي يكون نواة بذرتها ومقر تخطيطها وكتلة حاضنتها الشعبية.. وهذا درس الثورة العباسية في هذا الموضوع.
ذكرنا في المقال الماضي كيف وصلت زعامة تنظيم سري علوي إلى محمد بن علي العباسي الذي نقله من مجرد دعوة إلى تنظيم حركي فعال، والنقطة الأهم التي تغيرت في هذا التنظيم السري أنها سارت بمحبي آل البيت وأنصارهم، بجانب كبير منهم، نحو العباسيين الذين لم يكونوا في هذا الوقت مصدر قلق بالنسبة إلى الأمويين كأبناء عمومتهم العلويين، فتأسَّست للعباسيين –بوصية أبي هاشم- شرعيةٌ جُمِع لهم فيها كل أنصار آل البيت، الذين ما جال ببال أكثرهم أن الإمام عباسي لا علوي، وهي الشرعية التي استمرَّت معهم حتى قامت الدولة بالفعل، وحينها سيكون لكلِّ حادث حديث.
بداية الحركة
تسلَّم محمد بن علي العباسي أمر أتباع أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وكانت حلقة الوصل بينه وبينهم سلمة بن بجير، وكان أغلبهم من بني مسيلة؛ وهم قوم يُقيمون بالكوفة، وهؤلاء هم الذين سيُؤَسِّسون الدعامات الأولى والرئيسية للدعوة العباسية؛ فمنهم: بكير بن ماهان، وأبو سلمة الخلال، وميسرة الرحال، وأبو موسى السراج، وأبو عكرمة زياد بن درهم. إلَّا أنَّ عدد الكوفيين ظلَّ في الدعوة قليلًا لا يبلغ الثلاثين؛ لأن محمدًا العباسي كان حَذِرًا من الكوفيين، وأغلب الظن لما لهم من تاريخ في إفشال الثورات العلوية بقلة ثباتهم وسرعة انفضاضهم، وقد ورد عنه قوله لأتباعه: "ولا تُكْثِروا من أهل الكوفة، ولا تقبلوا منهم إلَّا أهل النيات الصحيحة"لكنَّ سلمة بن بجير لم يَطُلْ به العمر؛ فما إن خرج من عند محمد بن علي حتى مرض ومات في الطريق، وكأنما لم يتحمَّل الحياة بغير شيخه أبي هاشم، فما استطاع أن يرى الكوفة خالية منه، فكان القائم على الدعوة في الكوفة بعده أبو رباح ميسرة النبال، الذي صار بهذا أول كبير للدعاة في الكوفة، وثاني كبير للدعاة -بعد ابن بجير- العباسيين، لكنَّ أبا رباح لم يُكمل هو الآخر شهورًا معدودة حتى تُوُفِّيَ قبل انقضاء عام 100 هـ، وأوصى من بعده لسالم بن بجير، الذي سارع بالإرسال إلى محمد بن علي بما حدث من موت ابن بجير وأبي رباح مع بكير بن ماهانبكير بن ماهان
لم يكن رجلًا عاديًّا .. بل هو عمليًّا المؤسس الحقيقي للدعوة العباسية في العراق وخراسان، وبه دخلت الدعوة العباسية منعطفًا جديدًا؛ وذلك على مستوى الرؤية والتخطيط، وليس التنفيذ فحسب.
تعرف على دعوة بني العباس سنة (105هـ)استعدَّ بكير بن ماهان للسفر بالرسالة إلى محمد بن علي، وقبل أن ينطلق إليه جاءه خبر بوفاة أخيه في السند، فأعفاه سالم بن بجير من مهمَّة الرسالة؛ لكي يُدرك أمر أخيه وميراثه منه، لكن بكيرًا رفض وفَضَّل الآخرة على الدنيا، وترك الميراث الكبير لحساب المهمَّة الدعوية، وانطلق إلى دمشق، فاشترى عطورًا، ولبس ثياب العطارين، واصطنع أنه تاجر يجوب البلاد؛ حتى وصل بعد بعض الاحتياطات والاحترازات إلى محمد بن علي بالرسالة، ولقد حزن محمد حزنًا شديدًا لموت ابن بجير، كما تأسَّف لموت أبي رباح؛ لكنه اطمأن لوضع الدعوة في الكوفة. وكان أول ما نصح به بكيرُ بن ماهان محمدَ بن علي أن يتخذ منزلًا بعيدًا عن إخوته (وهم أكثر من عشرين)؛ حتى لا ينتبه أحد منهم أو من جيرانه إلى مَنْ يقدم عليه ويذهب من عنده؛ فيفشو سرُّ الدعوة، فاتخذ محمد منزلًا أبعد عن الناس، كما نصحه بأن يجعل واحدًا من أهله في حكم «السكرتير» أو مدير الأعمال؛ حتى يكون الاجتماع بينهما طبيعيًا وغير لافت للأنظار، كما أن هذا يقلل لقاء الأتباع بالإمام محمد نفسه، فيظلّ بعيدًا عن الشبهات ما أمكن، فاختار محمدٌ فضالة بن معاذ مولاه لهذه المهمَّة، ثم نصح بكيرٌ محمدًا بأن يجعل أساس دعوته في خراسان لأنه -وهو الذي جال في البلاد- قد رأى بنفسه حبَّ هؤلاء القوم لآل البيت، واستغرابهم أن العرب لم يصرفوا الأمر لآل بيت نبيهم بعد موتهوبهذا انتهت المهمَّة العاجلة لبكير بن ماهان فعاد إلى الكوفة، وصارت الرسائل بينهم وبين محمد بن علي تكتب إلى فضالة بن معاذ، وانطلق إلى السند ليأتي بميراث أخيه، وليُؤَسِّس لأمر الدعوة في خراسان.
لماذا خراسان؟
كان محمد بن علي العباسي بصيرًا بالحال في عصره، فعندما قرَّر أن يجعل خراسان مركز دعوته شرح لأتباعه أسباب هذا القرار؛ قائلًا:
«أمَّا الكوفة وسوادهم فهناك شيعة عليّ بن أبي طالب. وأمَّا البصرة فعثمانية تدين بالكفِّ وتقول كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل. وأمَّا الجزيرة فحرورية مارقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى. وأمَّا أهل الشام فليس يعرفون إلَّا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان، عداوة لنا راسخة وجهلًا متراكمًا. وأمَّا أهل مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان؛ فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وصدورًا سليمة، وقلوبًا فارغة، لم تتقسمهم الأهواء، ولم تتوزَّعهم النِّحَل، ولم تشغلهم ديانة، ولم يتقدَّم فيهم فساد، وليست لهم اليوم همم العرب ولا فيهم؛ كتحازب الأتباع بالسادات، وكتحالف القبائل وعصبيَّة العشائر، ولم يزالوا يذلون ويمتهنون، ويظلمون ويكظمون، ويتمنّون الفرج ويؤمّلون «الدول»، وهم جند لهم أجسام وأبدان، ومناكب وكواهل وهامات، ولحىً وشوارب، وأصوات هائلة، ولغات فخمة، تخرج من أفواه منكرة، وبعدُ فكأني أتفأّل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلقوهذه المقولة فوق أنها بيان لبصيرة محمد بن علي، ومعرفته بالبلاد، تكشف لنا أحوال هذه الحواضر الإسلامية:
· فأمَّا الكوفة فهي علوية؛ ترى أن الحق في الخلافة لعلي وأبنائه من بعده، فلن تصلح للعباسيين. · وأمَّا البصرة فقومها ليسوا أهل فتن؛ بل هم أهل زهد وتصوف وتقشُّف، شعارهم: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل. · وأما الجزيرة (أي: الجزيرة الفراتية) فتسودها أفكار الخوارج، وهم لا يرون أن الخلافة من حقِّ أحد بعينه لا من آل البيت ولا من خارجه.· وأما الشام فهو عصبة الأمويين وأهل الشام تعلَّقُوا بهم منذ كان معاوية واليًا عليهم أيام عمر بن الخطاب، وخاضوا معه الحروب الداخلية والخارجية، ولا يُفَضِّلُون على الأمويين أحدًا.· وأمَّا مكة والمدينة فأهلها ممن حَكَمَهم أبو بكر وعمر أرشد حكم؛ فهم يرون الأمر في قريش عامة ولا يضعونها في أحد بعينه من آل البيت.· وأمَّا خراسان فقد اجتمع فيها العديد من المزايا، ففيها المقاتلون العرب أو كما يقال - «جمجمة العرب وفرسانها»إنها كلمات من عيون الحِكَم السياسية المثيرة للإعجاب بنفسها وقائلها.
إضافة إلى أن خراسان في مشرق الدولة الإسلامية؛ ومن ثَمَّ فهي أبعد عن يد سلطة الدولة الأموية، وكانت العلاقة بين محمد بن علي وأهل خراسان قد بدأت قديمًا في حلقة أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، التي كان يرتادها بعض من الخراسانيين، ولما سألوه ممن يأخذون العلم إن مات هو؟ قال: لا أعلم أحدًا أعلم من محمد بن علي ولا خيرًا منه، ثم صاروا يأخذون العلم منهوهكذا قررت الدعوة العباسية أن تنطلق من خراسان.
نشر في ساسة بوست
مجهول: أخبار الدولة العباسية ص193، 194. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص192 - 196. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 111. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص191، 196. وهذه هي التقاليد الفارسية التي شَكَّلت ثقافتهم، وما كان لهم أن يستوعبوا أن الإسلام يجعل الزعامة بالشورى لا بالنسب في ظلِّ العديد من الحركات الشيعية، التي تؤصل لمبدأ حق آل البيت بالخلافة. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص196 - 199، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 111. الجاحظ: رسائل الجاحظ 1/ 16 وما بعدها، وابن قتيبة: عيون الأخبار 1/ 303. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص386. ابن عساكر: تاريخ دمشق 54/ 367، 368، والذهبي: تاريخ الإسلام 6/ 406.
ذكرنا في المقال الماضي كيف وصلت زعامة تنظيم سري علوي إلى محمد بن علي العباسي الذي نقله من مجرد دعوة إلى تنظيم حركي فعال، والنقطة الأهم التي تغيرت في هذا التنظيم السري أنها سارت بمحبي آل البيت وأنصارهم، بجانب كبير منهم، نحو العباسيين الذين لم يكونوا في هذا الوقت مصدر قلق بالنسبة إلى الأمويين كأبناء عمومتهم العلويين، فتأسَّست للعباسيين –بوصية أبي هاشم- شرعيةٌ جُمِع لهم فيها كل أنصار آل البيت، الذين ما جال ببال أكثرهم أن الإمام عباسي لا علوي، وهي الشرعية التي استمرَّت معهم حتى قامت الدولة بالفعل، وحينها سيكون لكلِّ حادث حديث.
بداية الحركة
تسلَّم محمد بن علي العباسي أمر أتباع أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وكانت حلقة الوصل بينه وبينهم سلمة بن بجير، وكان أغلبهم من بني مسيلة؛ وهم قوم يُقيمون بالكوفة، وهؤلاء هم الذين سيُؤَسِّسون الدعامات الأولى والرئيسية للدعوة العباسية؛ فمنهم: بكير بن ماهان، وأبو سلمة الخلال، وميسرة الرحال، وأبو موسى السراج، وأبو عكرمة زياد بن درهم. إلَّا أنَّ عدد الكوفيين ظلَّ في الدعوة قليلًا لا يبلغ الثلاثين؛ لأن محمدًا العباسي كان حَذِرًا من الكوفيين، وأغلب الظن لما لهم من تاريخ في إفشال الثورات العلوية بقلة ثباتهم وسرعة انفضاضهم، وقد ورد عنه قوله لأتباعه: "ولا تُكْثِروا من أهل الكوفة، ولا تقبلوا منهم إلَّا أهل النيات الصحيحة"لكنَّ سلمة بن بجير لم يَطُلْ به العمر؛ فما إن خرج من عند محمد بن علي حتى مرض ومات في الطريق، وكأنما لم يتحمَّل الحياة بغير شيخه أبي هاشم، فما استطاع أن يرى الكوفة خالية منه، فكان القائم على الدعوة في الكوفة بعده أبو رباح ميسرة النبال، الذي صار بهذا أول كبير للدعاة في الكوفة، وثاني كبير للدعاة -بعد ابن بجير- العباسيين، لكنَّ أبا رباح لم يُكمل هو الآخر شهورًا معدودة حتى تُوُفِّيَ قبل انقضاء عام 100 هـ، وأوصى من بعده لسالم بن بجير، الذي سارع بالإرسال إلى محمد بن علي بما حدث من موت ابن بجير وأبي رباح مع بكير بن ماهانبكير بن ماهان
لم يكن رجلًا عاديًّا .. بل هو عمليًّا المؤسس الحقيقي للدعوة العباسية في العراق وخراسان، وبه دخلت الدعوة العباسية منعطفًا جديدًا؛ وذلك على مستوى الرؤية والتخطيط، وليس التنفيذ فحسب.
تعرف على دعوة بني العباس سنة (105هـ)استعدَّ بكير بن ماهان للسفر بالرسالة إلى محمد بن علي، وقبل أن ينطلق إليه جاءه خبر بوفاة أخيه في السند، فأعفاه سالم بن بجير من مهمَّة الرسالة؛ لكي يُدرك أمر أخيه وميراثه منه، لكن بكيرًا رفض وفَضَّل الآخرة على الدنيا، وترك الميراث الكبير لحساب المهمَّة الدعوية، وانطلق إلى دمشق، فاشترى عطورًا، ولبس ثياب العطارين، واصطنع أنه تاجر يجوب البلاد؛ حتى وصل بعد بعض الاحتياطات والاحترازات إلى محمد بن علي بالرسالة، ولقد حزن محمد حزنًا شديدًا لموت ابن بجير، كما تأسَّف لموت أبي رباح؛ لكنه اطمأن لوضع الدعوة في الكوفة. وكان أول ما نصح به بكيرُ بن ماهان محمدَ بن علي أن يتخذ منزلًا بعيدًا عن إخوته (وهم أكثر من عشرين)؛ حتى لا ينتبه أحد منهم أو من جيرانه إلى مَنْ يقدم عليه ويذهب من عنده؛ فيفشو سرُّ الدعوة، فاتخذ محمد منزلًا أبعد عن الناس، كما نصحه بأن يجعل واحدًا من أهله في حكم «السكرتير» أو مدير الأعمال؛ حتى يكون الاجتماع بينهما طبيعيًا وغير لافت للأنظار، كما أن هذا يقلل لقاء الأتباع بالإمام محمد نفسه، فيظلّ بعيدًا عن الشبهات ما أمكن، فاختار محمدٌ فضالة بن معاذ مولاه لهذه المهمَّة، ثم نصح بكيرٌ محمدًا بأن يجعل أساس دعوته في خراسان لأنه -وهو الذي جال في البلاد- قد رأى بنفسه حبَّ هؤلاء القوم لآل البيت، واستغرابهم أن العرب لم يصرفوا الأمر لآل بيت نبيهم بعد موتهوبهذا انتهت المهمَّة العاجلة لبكير بن ماهان فعاد إلى الكوفة، وصارت الرسائل بينهم وبين محمد بن علي تكتب إلى فضالة بن معاذ، وانطلق إلى السند ليأتي بميراث أخيه، وليُؤَسِّس لأمر الدعوة في خراسان.
لماذا خراسان؟
كان محمد بن علي العباسي بصيرًا بالحال في عصره، فعندما قرَّر أن يجعل خراسان مركز دعوته شرح لأتباعه أسباب هذا القرار؛ قائلًا:
«أمَّا الكوفة وسوادهم فهناك شيعة عليّ بن أبي طالب. وأمَّا البصرة فعثمانية تدين بالكفِّ وتقول كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل. وأمَّا الجزيرة فحرورية مارقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى. وأمَّا أهل الشام فليس يعرفون إلَّا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان، عداوة لنا راسخة وجهلًا متراكمًا. وأمَّا أهل مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان؛ فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وصدورًا سليمة، وقلوبًا فارغة، لم تتقسمهم الأهواء، ولم تتوزَّعهم النِّحَل، ولم تشغلهم ديانة، ولم يتقدَّم فيهم فساد، وليست لهم اليوم همم العرب ولا فيهم؛ كتحازب الأتباع بالسادات، وكتحالف القبائل وعصبيَّة العشائر، ولم يزالوا يذلون ويمتهنون، ويظلمون ويكظمون، ويتمنّون الفرج ويؤمّلون «الدول»، وهم جند لهم أجسام وأبدان، ومناكب وكواهل وهامات، ولحىً وشوارب، وأصوات هائلة، ولغات فخمة، تخرج من أفواه منكرة، وبعدُ فكأني أتفأّل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلقوهذه المقولة فوق أنها بيان لبصيرة محمد بن علي، ومعرفته بالبلاد، تكشف لنا أحوال هذه الحواضر الإسلامية:
· فأمَّا الكوفة فهي علوية؛ ترى أن الحق في الخلافة لعلي وأبنائه من بعده، فلن تصلح للعباسيين. · وأمَّا البصرة فقومها ليسوا أهل فتن؛ بل هم أهل زهد وتصوف وتقشُّف، شعارهم: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل. · وأما الجزيرة (أي: الجزيرة الفراتية) فتسودها أفكار الخوارج، وهم لا يرون أن الخلافة من حقِّ أحد بعينه لا من آل البيت ولا من خارجه.· وأما الشام فهو عصبة الأمويين وأهل الشام تعلَّقُوا بهم منذ كان معاوية واليًا عليهم أيام عمر بن الخطاب، وخاضوا معه الحروب الداخلية والخارجية، ولا يُفَضِّلُون على الأمويين أحدًا.· وأمَّا مكة والمدينة فأهلها ممن حَكَمَهم أبو بكر وعمر أرشد حكم؛ فهم يرون الأمر في قريش عامة ولا يضعونها في أحد بعينه من آل البيت.· وأمَّا خراسان فقد اجتمع فيها العديد من المزايا، ففيها المقاتلون العرب أو كما يقال - «جمجمة العرب وفرسانها»إنها كلمات من عيون الحِكَم السياسية المثيرة للإعجاب بنفسها وقائلها.
إضافة إلى أن خراسان في مشرق الدولة الإسلامية؛ ومن ثَمَّ فهي أبعد عن يد سلطة الدولة الأموية، وكانت العلاقة بين محمد بن علي وأهل خراسان قد بدأت قديمًا في حلقة أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، التي كان يرتادها بعض من الخراسانيين، ولما سألوه ممن يأخذون العلم إن مات هو؟ قال: لا أعلم أحدًا أعلم من محمد بن علي ولا خيرًا منه، ثم صاروا يأخذون العلم منهوهكذا قررت الدعوة العباسية أن تنطلق من خراسان.
نشر في ساسة بوست
مجهول: أخبار الدولة العباسية ص193، 194. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص192 - 196. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 111. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص191، 196. وهذه هي التقاليد الفارسية التي شَكَّلت ثقافتهم، وما كان لهم أن يستوعبوا أن الإسلام يجعل الزعامة بالشورى لا بالنسب في ظلِّ العديد من الحركات الشيعية، التي تؤصل لمبدأ حق آل البيت بالخلافة. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص196 - 199، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 111. الجاحظ: رسائل الجاحظ 1/ 16 وما بعدها، وابن قتيبة: عيون الأخبار 1/ 303. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص386. ابن عساكر: تاريخ دمشق 54/ 367، 368، والذهبي: تاريخ الإسلام 6/ 406.
Published on September 22, 2016 13:06
September 21, 2016
نهاية قائد تركي في البلاط العباسي
لا يمرُّ أحد على التاريخ العباسي إلا ويتذكر اسم القائد التركي اللامع حيدر بن كاوس الأشروسني، الملقب بـ «الأفشين».. فلهذا الرجل قصة غريبة عجيبة لا تزال تختلف فيها الآراء.
كانت بداية القصة كما حكيناها في المقال السابق (الأتراك في بلاط الخلافة العباسية)، ثم ما لبث أن لمع اسم الأفشين كقائد عسكري موهوب منذ أيام المأمون، وذلك أنه تصدى لتمرد قوي نشب في مصر (شارك فيه الأقباط) بسبب سوء سياسة الوالي على مصر عيسى بن منصور، واستطاع أن يخمد حركة الثورة هذه في سائر مصر إلا الإسكندرية، وقضى ثمانية أشهر في تتبعها (من جمادى الأولى 216هـ وإلى نهاية العام)، حتى وصل المأمون بنفسه إلى مصر، فقضى تماما على هذه الحركةثم توفي المأمون، وصار الأفشين القائد الأعلى للجيش لدى الخليفة المعتصم، وبلغ غاية ما يبلغه قائد عسكري من الشهرة والقوة والنفوذ والمكانة، فقد انتصر في حربين كبيرتيْن من أهم معارك التاريخ العباسي بل والتاريخ الإسلامي كله، الأولى كانت: القضاء على تمرد بابك الخرمي وهو من أخطر التمردات التي واجهت الخلافة العباسية، والذي بلغ عدد ضحاياه من المسلمين ربع المليون مسلم. والثانية كانت: معركة فتح عمورية المشهورة التي اقتحم فيها المعتصم مدينة عمورية وهزم جيش الإمبراطورية البيزنطية هزيمة قاسية.. ومن المفارقات أن كلا هذين النصرين كانا في شهر رمضان المبارك.
وهكذا ضحكت الأيام للأفشين، وسار السعد في ركابه، حتى وقعت حادثة خطيرة: تمرد المازيار بن قارن في طبرستان:وأصل القصة أن جد المازيار اسمه ونداد هرمزد، وكان يحكم طبرستان في عهد الرشيد ويلتزم بدفع مبلغ سنوي لوالي طبرستان، وكان ابنه قارن موجودًا في بغداد كرهينة عند الرشيد لضمان عدم التمرد والإخلال بدفع الأموال، وبعد هذا بسنين ساعد قارن بن ونداد الخليفة المأمون في حروبه ضد الروم حتى تمنى المأمون أن يدخل قارن في الإسلام، وبعد وفاة قارن تغلب زعيم قبلي على ملكه وانتزعه من ابنه المازيار فلجأ المازيار إلى بغداد وساعدته الخلافة على استرجاع ملكه والتمس منه المأمون أن يدخل في الإسلام فأسلم وسمى «محمد مولى أمير المؤمنين» وتكنى بـ «أبي الحسن».
ولطبيعة هذا القرب بين المازيار والمأمون كان يرفض أن يدفع الأموال المقررة إلى نائب المشرق عبد الله بن طاهر بل كان يرسلها مباشرة إلى الخلافة، لكنه لم يلبث كثيرًا حتى أعلن العصيان على الخلافة (218هـ) بعد مناورات، وارتد عن الإسلام واعتنق المزدكية.
ولم يستطع المأمون مواجهة المازيار إذ تُوُفِّيَ في العام ذاته، فوقع عاتق المواجهة على المعتصم.
وكانت وفاة المأمون فرصة لاتِّساع ظلمه وبطشه وفساده، فقد امتنع عن إرسال الخراج وأخذ في اضطهاد المسلمين ممن هم تحت ولايته حتى لقد هرب كثير منهم من أرضه، ولجأ إلى خراسان، وأرسلوا إلى المعتصم يشكون إليه الحال الذي هم فيه فأرسل إليهم يطمئنهم ويخبرهم أن عبد الله بن طاهر سيتولى هذا الأمر وقد قيل إن الأفشين كان يحبُّ أن يتولَّى نيابة الشرق مكان عبد الله بن طاهر، وأنه لذلك حرض المازيار على التمرد متوقعا فشل عبد الله بن طاهر في التصدي له، ومن ثَمَّ يعهد الخليفة إليه بمواجهة هذه الثورة وبالولاية على المشرق، وقد استند هذا التوقع لما سيظهر بعد ذلك من الأفشين!
راسل عبد الله بن طاهر المزيار فكان الرد عنيفًا، إذ طالبه المازيار بدفع خراج عامين له، فبدأت خطَّة عبد الله بن طاهر في حربه، وكان يخطط لحصاره من ثلاث جهات بثلاثة جيوش، جيشان من خراسان أحدهما بقيادة عمه الحسن بن الحسين لحصاره من ناحية جرجان، والثاني بقيادة حيان بن جبلة لحصاره من ناحية قومس، واستدعى جيشًا من نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم فأرسل جيشًا يقوده محمد بن إسحاق الطاهري، فجرت بين هذه الجيوش وبين المازيار حروب طويلة مُجْهِدة استطاع فيها عبد الله بن طاهر أن يوقع بين المازيار وبين قادته ومنهم ابن أخيه، ثم انتهت إلى أسر المازيار وإرساله إلى ابن طاهر، وهناك اعترف المازيار بخطَّة كبيرة شاركه فيها الأفشين -القائد التركي الكبير الذي أنهى تمرد بابك- لإسقاط الدولة العباسية، وكانت مهمَّة الأفشين هي قتل المعتصم وأبنائه، فكان أول هَمِّ عبد الله بن طاهر أن يحصل على رسائل الأفشين إليه، ثم أرسله أسيرًا إلى المعتصم فوصل بغداد في (225هـ)، ومعه كثير من الغنائم النفيسة من الجواهر والذهب والثياب.
وفي هذه الأثناء وقبل أن يصل المازيار أسيرًا إلى الخليفة، كان نائب الأفشين في أذربيجان وهو من قرابته -أيضًا- واسمه منكجور الأشروسني قد وجد أموالًا كثيرة ونفائس كانت مكنوزة من تراث بابك الخرمي فأغراه كثرتها، فلم يخبر بها الخليفة، فوصل الخبر إلى المعتصم عن طريق شاهد عيان، فكتب الخليفة إلى منكجور بهذا فأنكر أن يكون قد حدث وعزم على قتل من أبلغ الخليفة لولا أنه هرب منه واحتمى بأهل أردبيل، ثم تأكد للمعتصم كذب منكجور فأرسل إليه جيشًا يقوده بغا الكبير (وهو قائد تركي كبير أيضا في جيش الخلافة العباسية) فقاتله حتى ألجأه إلى طلب الأمان فعاد به إلى الخليفة (225هـ).
ثم وصل المازيار أسيرًا إلى المعتصم فأنكر عنده ما اعترف به لعبد الله بن طاهر من أن يكون الأفشين قد كتب إليه شيئًا، وعاقبه المعتصم بالجلد أربعمائة وخمسين سوطا، فأقر بأن الأفشين كان يراسله ويحرضه على التمرد، ثم لم يتحمل المازيار ما نزل به من الضرب فمات فيه، ثم صُلب إلى جوار جثة بابك الخرمي على جسر بغداد، وقَتَل المعتصم أهمَّ قواده ورجاله.
ومن ناحية أخرى تحقق المعتصم بما كان من خيانة الأفشين، وقد كانت تلوح الشبهات حول الأفشين من عدة أمور: فهو يرسل أموالًا جزيلة إلى أشروسنة -من معاقل الأتراك فيما وراء النهر- بغير علم الخليفة أو عماله، فوقع هذا في يد عبد الله بن طاهر -والي خراسان- الذي تعبر هذه الأموال في ولايته، وأبلغ المعتصم بهذا فأرسل إليه المعتصم أن يتابع مراقبة الأمر، ثم هذا الاعتراف الخطير الذي صرح به مازيار عند القبض عليه بأن الأفشين هو مَنْ كان يحرضه على الخروج فأمر بحبسه.
وسبحان المعز المذل! فقبل هذا الحبس بشهور كان الأفشين في أعظم مكانة لدى المعتصم بل إن زواج ابنه الحسن بن الأفشين (جمادى الآخرة 224هـ) تم في قصر المعتصم بسامراء، وكان المعتصم بنفسه يتفقد الحضور، وكان توزع على الناس أطيب أنواع العطور «الغالية» فتُدهن بها لحاهم.
نهاية الأفشين
بعدما تكشف من أمر الأفشين ما سبق أحس بالخطر وعزم على الهروب، ولم يكن بإمكانه أن يهرب شرقًا، فإنه لا محالة سيقع في أيدي ولاة الخلافة في العراق وفارس وخراسان -التي يتولاها خصمه عبد الله بن طاهر- حتى يصل إلى مراده في بلاد الترك فيما وراء النهر، لذا كانت خطته الهرب في النهر شمالًا حتى بلاد الجزيرة الفراتية، ثم شمالًا إلى أرمينية، ثم شمالًا إلى بلاد الخزر، ثم يدور من حول بحر قزوين حتى يصل إلى مراده في بلاد الترك، ثم يُثير من هناك -وبالاستعانة بالخزر- تمرده الكبير الذي يدبر له.
وكان من خطته إقامة وليمة للمعتصم وقادته وأن يضع لهم سُمًّا فيها، فإن لم يستجب المعتصم فحسبه هؤلاء القادة، إلَّا أنَّ أحد الأتراك أفضى بما يعلم إلى المعتصم، فدبر المعتصم حبسه في قصر الجوسق وبنى له سجنا مرتفعا سمي باللؤلؤة وعُرِف فيما بعد بسجن الأفشين.
وفي الوقت ذاته أرسل المعتصم سريعًا إلى عبد الله بن طاهر ليحتال حتى يحبس الحسن بن الأفشين، وقد كان في بلاد ما وراء النهر، قبل أن يصل إليه خبر أبيه، فتعاون عبد الله بن طاهر مع نوح بن أسد الساماني حتى خدعوه وقبضوا عليه وأرسلوا به إلى المعتصم في سامراء.
وكعادة رجال السياسة إذا سقطوا تكشفت الكثير من أفعاله التي كانت خافية!!
أقيمت محاكمة للأفشين، كان قاضيها أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، وممثل الاتهام هو الوزير محمد بن عبد الملك الزيات، وحضرها نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وقد اتهم فيها بما يدل على بقائه على دين الفرس:
· أنه غير مختتن.· أنه ضرب رجلين إمامًا ومؤذنًا كل واحد ألف سوط لأنهما هدما بيت أصنام فاتخذاه مسجدًا.· أن لديه كتاب كليلة ودمنة مصورًا فيه الكفر وهو محلى بالجواهر والذهب.· أن الأعاجم يكتبون في رسائلهم إليه: أنت إله الآلهة من العبيد. دون أن يعترض عليهم.· أنه كان يكاتب المازيار بأن يخرج عن الطاعة وأنه في ضيق حتى ينصر دين المجوس الذي كان قديما ويظهره على دين العرب.· أنه يستطيب المنخنقة على المذبوحة.· أنه كان في كل يوم أربعاء يستدعي بشاة سوداء فيضربها بالسيف نصفين ويمشي بينهما ثم يأكلها (وهي عادة مجوسية).
وقد رد الأفشين على بعض هذه الاتهامات، فقال بأنه لم يختتن لأنه يخاف الألم، ولم يبد هذا مقنعا فقال له الوزير: أنت تطاعن بالرماح في الحروب ولا تخاف من طعنها وتخاف من قطع قلفة ببدنك؟ وبأنه إنما ورث كتاب كليلة ودمنة الفارسي من آبائه، وبأن سكوته على تلقيبه بالإله، إنما لكي لا ينحط من نظر الأعاجم الذين كانوا يكاتبون آباءه وأجداده بهذا.
وظل الأفشين محبوسا بعد العزة الكاملة والمكانة الرفيعة حتى مات في حبسه (شعبان 226هـ)، فأمر به المعتصم فصُلِب ثم أحرق وذُرِّي رماده في دجلة، وصودرت أمواله فوجدوا في أملاكه أصناما مكللة بذهب وجواهر، وكتبا في فضل دين المجوس وأشياء كثيرة كان يتهم بها، تدل على كفره وزندقته، وتحقق بسببها ما ذكر عنه من الانتماء إلى دين آبائه المجوس.
وهذه النهاية غير المتوقعة للقائد الأكبر للدولة الإسلامية، وثبوت انتمائه لغير الإسلام جعلت بعض المؤرِّخين يتشككون في كثير من أعماله وقد ذهب بعضهمنشر في تركيا بوست
اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي 3/ 192، 193، والطبري: تاريخ الطبري 5/ 182، 184، والكندي: الولاة والقضاة ص142 وما بعدها. عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق ص268، والغزالي: فضائح الباطنية ص14. أبو تمام: ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي 2/ 199، 200.
كانت بداية القصة كما حكيناها في المقال السابق (الأتراك في بلاط الخلافة العباسية)، ثم ما لبث أن لمع اسم الأفشين كقائد عسكري موهوب منذ أيام المأمون، وذلك أنه تصدى لتمرد قوي نشب في مصر (شارك فيه الأقباط) بسبب سوء سياسة الوالي على مصر عيسى بن منصور، واستطاع أن يخمد حركة الثورة هذه في سائر مصر إلا الإسكندرية، وقضى ثمانية أشهر في تتبعها (من جمادى الأولى 216هـ وإلى نهاية العام)، حتى وصل المأمون بنفسه إلى مصر، فقضى تماما على هذه الحركةثم توفي المأمون، وصار الأفشين القائد الأعلى للجيش لدى الخليفة المعتصم، وبلغ غاية ما يبلغه قائد عسكري من الشهرة والقوة والنفوذ والمكانة، فقد انتصر في حربين كبيرتيْن من أهم معارك التاريخ العباسي بل والتاريخ الإسلامي كله، الأولى كانت: القضاء على تمرد بابك الخرمي وهو من أخطر التمردات التي واجهت الخلافة العباسية، والذي بلغ عدد ضحاياه من المسلمين ربع المليون مسلم. والثانية كانت: معركة فتح عمورية المشهورة التي اقتحم فيها المعتصم مدينة عمورية وهزم جيش الإمبراطورية البيزنطية هزيمة قاسية.. ومن المفارقات أن كلا هذين النصرين كانا في شهر رمضان المبارك.
وهكذا ضحكت الأيام للأفشين، وسار السعد في ركابه، حتى وقعت حادثة خطيرة: تمرد المازيار بن قارن في طبرستان:وأصل القصة أن جد المازيار اسمه ونداد هرمزد، وكان يحكم طبرستان في عهد الرشيد ويلتزم بدفع مبلغ سنوي لوالي طبرستان، وكان ابنه قارن موجودًا في بغداد كرهينة عند الرشيد لضمان عدم التمرد والإخلال بدفع الأموال، وبعد هذا بسنين ساعد قارن بن ونداد الخليفة المأمون في حروبه ضد الروم حتى تمنى المأمون أن يدخل قارن في الإسلام، وبعد وفاة قارن تغلب زعيم قبلي على ملكه وانتزعه من ابنه المازيار فلجأ المازيار إلى بغداد وساعدته الخلافة على استرجاع ملكه والتمس منه المأمون أن يدخل في الإسلام فأسلم وسمى «محمد مولى أمير المؤمنين» وتكنى بـ «أبي الحسن».
ولطبيعة هذا القرب بين المازيار والمأمون كان يرفض أن يدفع الأموال المقررة إلى نائب المشرق عبد الله بن طاهر بل كان يرسلها مباشرة إلى الخلافة، لكنه لم يلبث كثيرًا حتى أعلن العصيان على الخلافة (218هـ) بعد مناورات، وارتد عن الإسلام واعتنق المزدكية.
ولم يستطع المأمون مواجهة المازيار إذ تُوُفِّيَ في العام ذاته، فوقع عاتق المواجهة على المعتصم.
وكانت وفاة المأمون فرصة لاتِّساع ظلمه وبطشه وفساده، فقد امتنع عن إرسال الخراج وأخذ في اضطهاد المسلمين ممن هم تحت ولايته حتى لقد هرب كثير منهم من أرضه، ولجأ إلى خراسان، وأرسلوا إلى المعتصم يشكون إليه الحال الذي هم فيه فأرسل إليهم يطمئنهم ويخبرهم أن عبد الله بن طاهر سيتولى هذا الأمر وقد قيل إن الأفشين كان يحبُّ أن يتولَّى نيابة الشرق مكان عبد الله بن طاهر، وأنه لذلك حرض المازيار على التمرد متوقعا فشل عبد الله بن طاهر في التصدي له، ومن ثَمَّ يعهد الخليفة إليه بمواجهة هذه الثورة وبالولاية على المشرق، وقد استند هذا التوقع لما سيظهر بعد ذلك من الأفشين!
راسل عبد الله بن طاهر المزيار فكان الرد عنيفًا، إذ طالبه المازيار بدفع خراج عامين له، فبدأت خطَّة عبد الله بن طاهر في حربه، وكان يخطط لحصاره من ثلاث جهات بثلاثة جيوش، جيشان من خراسان أحدهما بقيادة عمه الحسن بن الحسين لحصاره من ناحية جرجان، والثاني بقيادة حيان بن جبلة لحصاره من ناحية قومس، واستدعى جيشًا من نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم فأرسل جيشًا يقوده محمد بن إسحاق الطاهري، فجرت بين هذه الجيوش وبين المازيار حروب طويلة مُجْهِدة استطاع فيها عبد الله بن طاهر أن يوقع بين المازيار وبين قادته ومنهم ابن أخيه، ثم انتهت إلى أسر المازيار وإرساله إلى ابن طاهر، وهناك اعترف المازيار بخطَّة كبيرة شاركه فيها الأفشين -القائد التركي الكبير الذي أنهى تمرد بابك- لإسقاط الدولة العباسية، وكانت مهمَّة الأفشين هي قتل المعتصم وأبنائه، فكان أول هَمِّ عبد الله بن طاهر أن يحصل على رسائل الأفشين إليه، ثم أرسله أسيرًا إلى المعتصم فوصل بغداد في (225هـ)، ومعه كثير من الغنائم النفيسة من الجواهر والذهب والثياب.
وفي هذه الأثناء وقبل أن يصل المازيار أسيرًا إلى الخليفة، كان نائب الأفشين في أذربيجان وهو من قرابته -أيضًا- واسمه منكجور الأشروسني قد وجد أموالًا كثيرة ونفائس كانت مكنوزة من تراث بابك الخرمي فأغراه كثرتها، فلم يخبر بها الخليفة، فوصل الخبر إلى المعتصم عن طريق شاهد عيان، فكتب الخليفة إلى منكجور بهذا فأنكر أن يكون قد حدث وعزم على قتل من أبلغ الخليفة لولا أنه هرب منه واحتمى بأهل أردبيل، ثم تأكد للمعتصم كذب منكجور فأرسل إليه جيشًا يقوده بغا الكبير (وهو قائد تركي كبير أيضا في جيش الخلافة العباسية) فقاتله حتى ألجأه إلى طلب الأمان فعاد به إلى الخليفة (225هـ).
ثم وصل المازيار أسيرًا إلى المعتصم فأنكر عنده ما اعترف به لعبد الله بن طاهر من أن يكون الأفشين قد كتب إليه شيئًا، وعاقبه المعتصم بالجلد أربعمائة وخمسين سوطا، فأقر بأن الأفشين كان يراسله ويحرضه على التمرد، ثم لم يتحمل المازيار ما نزل به من الضرب فمات فيه، ثم صُلب إلى جوار جثة بابك الخرمي على جسر بغداد، وقَتَل المعتصم أهمَّ قواده ورجاله.
ومن ناحية أخرى تحقق المعتصم بما كان من خيانة الأفشين، وقد كانت تلوح الشبهات حول الأفشين من عدة أمور: فهو يرسل أموالًا جزيلة إلى أشروسنة -من معاقل الأتراك فيما وراء النهر- بغير علم الخليفة أو عماله، فوقع هذا في يد عبد الله بن طاهر -والي خراسان- الذي تعبر هذه الأموال في ولايته، وأبلغ المعتصم بهذا فأرسل إليه المعتصم أن يتابع مراقبة الأمر، ثم هذا الاعتراف الخطير الذي صرح به مازيار عند القبض عليه بأن الأفشين هو مَنْ كان يحرضه على الخروج فأمر بحبسه.
وسبحان المعز المذل! فقبل هذا الحبس بشهور كان الأفشين في أعظم مكانة لدى المعتصم بل إن زواج ابنه الحسن بن الأفشين (جمادى الآخرة 224هـ) تم في قصر المعتصم بسامراء، وكان المعتصم بنفسه يتفقد الحضور، وكان توزع على الناس أطيب أنواع العطور «الغالية» فتُدهن بها لحاهم.
نهاية الأفشين
بعدما تكشف من أمر الأفشين ما سبق أحس بالخطر وعزم على الهروب، ولم يكن بإمكانه أن يهرب شرقًا، فإنه لا محالة سيقع في أيدي ولاة الخلافة في العراق وفارس وخراسان -التي يتولاها خصمه عبد الله بن طاهر- حتى يصل إلى مراده في بلاد الترك فيما وراء النهر، لذا كانت خطته الهرب في النهر شمالًا حتى بلاد الجزيرة الفراتية، ثم شمالًا إلى أرمينية، ثم شمالًا إلى بلاد الخزر، ثم يدور من حول بحر قزوين حتى يصل إلى مراده في بلاد الترك، ثم يُثير من هناك -وبالاستعانة بالخزر- تمرده الكبير الذي يدبر له.
وكان من خطته إقامة وليمة للمعتصم وقادته وأن يضع لهم سُمًّا فيها، فإن لم يستجب المعتصم فحسبه هؤلاء القادة، إلَّا أنَّ أحد الأتراك أفضى بما يعلم إلى المعتصم، فدبر المعتصم حبسه في قصر الجوسق وبنى له سجنا مرتفعا سمي باللؤلؤة وعُرِف فيما بعد بسجن الأفشين.
وفي الوقت ذاته أرسل المعتصم سريعًا إلى عبد الله بن طاهر ليحتال حتى يحبس الحسن بن الأفشين، وقد كان في بلاد ما وراء النهر، قبل أن يصل إليه خبر أبيه، فتعاون عبد الله بن طاهر مع نوح بن أسد الساماني حتى خدعوه وقبضوا عليه وأرسلوا به إلى المعتصم في سامراء.
وكعادة رجال السياسة إذا سقطوا تكشفت الكثير من أفعاله التي كانت خافية!!
أقيمت محاكمة للأفشين، كان قاضيها أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، وممثل الاتهام هو الوزير محمد بن عبد الملك الزيات، وحضرها نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وقد اتهم فيها بما يدل على بقائه على دين الفرس:
· أنه غير مختتن.· أنه ضرب رجلين إمامًا ومؤذنًا كل واحد ألف سوط لأنهما هدما بيت أصنام فاتخذاه مسجدًا.· أن لديه كتاب كليلة ودمنة مصورًا فيه الكفر وهو محلى بالجواهر والذهب.· أن الأعاجم يكتبون في رسائلهم إليه: أنت إله الآلهة من العبيد. دون أن يعترض عليهم.· أنه كان يكاتب المازيار بأن يخرج عن الطاعة وأنه في ضيق حتى ينصر دين المجوس الذي كان قديما ويظهره على دين العرب.· أنه يستطيب المنخنقة على المذبوحة.· أنه كان في كل يوم أربعاء يستدعي بشاة سوداء فيضربها بالسيف نصفين ويمشي بينهما ثم يأكلها (وهي عادة مجوسية).
وقد رد الأفشين على بعض هذه الاتهامات، فقال بأنه لم يختتن لأنه يخاف الألم، ولم يبد هذا مقنعا فقال له الوزير: أنت تطاعن بالرماح في الحروب ولا تخاف من طعنها وتخاف من قطع قلفة ببدنك؟ وبأنه إنما ورث كتاب كليلة ودمنة الفارسي من آبائه، وبأن سكوته على تلقيبه بالإله، إنما لكي لا ينحط من نظر الأعاجم الذين كانوا يكاتبون آباءه وأجداده بهذا.
وظل الأفشين محبوسا بعد العزة الكاملة والمكانة الرفيعة حتى مات في حبسه (شعبان 226هـ)، فأمر به المعتصم فصُلِب ثم أحرق وذُرِّي رماده في دجلة، وصودرت أمواله فوجدوا في أملاكه أصناما مكللة بذهب وجواهر، وكتبا في فضل دين المجوس وأشياء كثيرة كان يتهم بها، تدل على كفره وزندقته، وتحقق بسببها ما ذكر عنه من الانتماء إلى دين آبائه المجوس.
وهذه النهاية غير المتوقعة للقائد الأكبر للدولة الإسلامية، وثبوت انتمائه لغير الإسلام جعلت بعض المؤرِّخين يتشككون في كثير من أعماله وقد ذهب بعضهمنشر في تركيا بوست
اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي 3/ 192، 193، والطبري: تاريخ الطبري 5/ 182، 184، والكندي: الولاة والقضاة ص142 وما بعدها. عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق ص268، والغزالي: فضائح الباطنية ص14. أبو تمام: ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي 2/ 199، 200.
Published on September 21, 2016 13:01
September 13, 2016
مواقع المستشفيات في الحضارة الإسلامية
لم يزل شأن الحضارة الإسلامية في حكم المجهول والمغمور، برغم أنها حضارة خير أمة أخرجت للناس، ولذلك لم يزل المرء كلما فتح بابا للبحث عاد منه مندهشا متحسرا معا، يندهش من عمل الأجداد ويتحسر على غمط حقهم وجهالة مقامهم في شأن الحضارة.
في هذه السطور القادمة نتناول مبحثا لم نعلم أن أحدا سبق إليه، وما إن فتحنا الباب حتى تدفقت المفاجآت، ذلك هو: موقع بناء المستشفى في الحضارة الإسلامية، من زاوية خصائصه البيئية، فوجدنا أن الأمر لم يكن حكاية أو حكايتان عن طبيب وزَّع قطع لحم ثم اختار المكان حيث كان اللحم أبطأ فسادا، لا لم يكن الأمر كذلك، وإنما كان هذا منهجا مضطردا وثابتا، بُنيت عليه المستشفيات في شرق عالم الإسلام وغربه، فما من مستشفى إلا وبُنِيَت في أفضل مواقع المدينة، وأفضل مواقع المدينة هذا يُحتفظ به للمسجد أو لقصر الحكم، لذلك كثيرا ما كانت المستشفيات بجوار المسجد أو بجوار القصر أو اتخذت القصور مستشفيات أو كانت المستشفى على ضفة نهر أو أمام وادٍ فسيح!
وهذا المبحث هو فرع عن منهج اختيار مواقع المدن، ولعلنا نفرده في مقال خاص إن شاء الله، ليظهر واضحا أن الأمر لم يكن اعتباطيا بحال، بل كُتِب في شأنه دراسات فقهية وعلمية يزخر بها تراثنا الإسلامي الزاخر.لقد كانت المستشفيات في بلاد المسلمين تُبنى في أفضل الأماكن البيئية وأبعدها عن أسباب التلوث والتغير؛ وبدأ ذلك منذ فترة مبكرة:
فأول بيمارستان في الإسلام كان خيمة نُصِبت في مسجد النبي r، والمسجد هو أطهر مكان في أرض المسلمين، إذ يجتمع الناس فيه للصلاة وهم متطهرون، وكان أول ذلك الأمر بعد غزوة الأحزاب، وكان أول من عولجوا هم جرحى هذه الغزوة، وعرفت الخيمة باسم طبيبتها رفيدة الأسلمية فكان يقال "خيمة رفيدة"ونرى كثيرا من المستشفيات في الحضارة الإسلامية بُنيت بجوار المسجد، ويزداد الأمر وضوحا إذا علمنا أن المسجد كان هو مركز المدينة الإسلامية وأفضل البقاع فيها، وأحيانا تُبنى بجوار القصور أو تُحوَّل القصور إلى مستشفيات، ولا ريب أن القصر يُبنى في أفضل المواقع من المدينة كما هو معروف ومتوقع. وأحيانا لا تبخل علينا المصادر فتصف موقع المستشفى بمزيد تفصيل فإذا بنا نجده على شاطئ نهر أو على شاطئ بحيرة (وتسمى: بِرْكَة) أو نحوا من هذا.
فمن هذا ما ورد من أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بنى بيمارستانا "كان مكانه في قبلة مطهرة الجامع الأموي" عند المئذنة الغربيةوأول بيمارستان معروف في مصر –وبني في العصر الأموي- كان في منطقة زقاق القناديلوبعده يأتي بيمارستان المغافر الذي بناه الفتح بن خاقان وزير الخليفة العباسي العاشر المتوكل على الله، وسمِّي بهذا الاسم لأنه كان في خطة المغافر التي تقع على طرف مصلى خولانوقد بنى أحمد بن طولون أول بيمارستان كبير في مصر، وكان قريبا من بركة قارون التي هي بحيرة مائية بديعة بُنيت على جوانبها حدائق وبساتين، ومن يقرأ في وصف مصر عند المقريزي وابن تغري بردي يعرف أن هذه المنطقة كانت قلب العاصمة وأجمل بقعة فيها. وكان إذا جاء المريض للمستشفى سلم أمواله وثيابه عند أمين المستشفى ثم يعطى ثيابا نظيفة ويعالج مجانا حتى يُشفىوبُنِي بيمارستان السيدة –وهي السيدة شغب أم الخليفة العباسي الثامن عشر: المقتدر بالله- على شاطئ نهر دجلة في منطقة تسمى سوق يحيى، وهي تقع بين بساتين تدعى بساتين الزاهروفي ذات الفترة –عهد المقتدر بالله- بنى الوزير علي بن عيسى الجراح بيمارستانا في منطقة الحربية (302 هـ)، ومنطقة الحربية حافلة بالأنهار المتفرعة من دجلة ذكرها الخطيب البغدادي في تاريخهولما أراد عضد الدولة البويهي أن يبني البيمارستان الكبير في بغداد استشار في ذلك أبا بكر الرازي –الطبيب النابغة- فأمر الرازي أن يوضع في كل جهة من جهات بغداد الأربع قطعة لحم، فما كان منها أبطأ فسادا كان دليلا على البيئة الأفضل فأشار بالبناء في هذا المكانوجرت ذات التجربة لدى بناء البيمارستان النوري –نسبة إلى الملك العادل نور الدين محمود زنكي- في حلب، فقد ذبحوا خروفا وقطعوه إلى أرباع فجعلوا في كل جهة من حلب ربعا، ثم اختاروا بناء المستشفي حيث بقي اللحم على حالته ورائحتهوذكر الغزي –مؤرخ حلب- أن ثمة بيمارستانا آخر "له بوابة عظيمة ينسب لابن خرخان" كان يقع "على باب الجامع الكبير الشمالي"وكان البيمارستان النوري في دمشق إلى جوار الجامع الأموي من الجهة الغربية، وقد بُني هذا البيمارستان في ذات موضع بيمارستان سابق يُسمى "البيمارستان الصغير"وذكرت بعض المصادر عن البيمارستان الدقاقي في دمشق -ولا يُعرف من بناه على وجه التحديد ولكن وصلنا وصفه من كتب الخطط- أنه كان إلى جوار الجامع الأموي عند الباب القبليوفي مصر، كان العزيز بالله -الخليفة العبيدي (الفاطمي) الخامس- قد بنى في قصر الحكم قاعة فاخرة ومصممة بتقنية تجعل من خصائصها ألا يدخل إليها النمل، فلما قضى صلاح الدين على الدولة العبيدية وعرف بأمر هذه القاعة وميزتها قال بأنها –لذلك- تصلح كبيمارستان، فتحولت القاعة إلى البيمارستان العتيقوتكرر نفس الأمر بقاعة قصر الأميرة العبيدية ست الملك –ابنة الخليفة العبيدي الخامس العزيز بالله، وأخت الخليفة السادس الحاكم بأمر الله- إذ تنقلت الأحوال بالقصر حتى عهد السلطان المملوكي سيف الدين قلاوون فأمر ببنائها بيمارستانا بعد أن عوَّض صاحبتها الأميرة الأيوبية بقصر آخروبنى الوزير ابن موسك القيمري الكردي بيمارستانا في الصالحية التي تقع في سفح جبل قاسيون وتطل على دمشق، وقد وصف الجغرافيون والرحالةُ الصالحيةَ أوصافا بديعة، قال ابن فضل الله العمري "مدينة ممتدة في سفح الجبل بإزاء المدينة (دمشق) في طول مدى، ذات بيوت وجناين ومدارس وربط وترب جليلة وعمائر ضخمة ومارستان وأسواق جليلة بالبز وغيره وبأعاليها من ذيل الجبل المقابر العامة، وجميع الصالحية مشرفة على دمشق، وغوطتها وكل بساتينها وشرفها وميادينها ومجرى واديها وبجانبها القرى"وقد سجل ابن جبير في رحلته أن مستشفى مدينة حماة كانت تقع على شاطئ النهر (نهر العاصي) بإزاء المسجد الجامعوسجل الحميري في "الروض المعطار" أن بيمارستان الموصل كان يقع على شاطئ دجلة أمام المسجد الكبير الذي بناه مجاهد الدين قايماز الزيني (ت 595 هـ)وفي الغرب الإسلامي يصف المراكشي البيمارستان الذي بناه يعقوب المنصور الموحدي –الخليفة الثالث في دولة الموحدين- في مراكش، فيذكر أنه تخير موضعه في "ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد"، وزيادة في الإحكام والإتقان "أمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه؛ فأتقنوا فيه من النقوش البديعة والزخاريف المحكمة ما زاد على الاقتراح؛ وأمر أن يغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار المشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياهًا كثيرة تدور على جميع البيوت، زيادة على أربع برك في وسطه، إحداها رخام أبيض"وبأقصى الغرب، في الأندلس، وصف مؤرخ غرناطة ابن الخطيب بيمارستان غرناطة الذي بناه محمد الخامس (الغني بالله) النصري بأوصاف عديدة نأخذ منها أنه كان آيةً من حيث كونه "فخامة بيت، وتعدد مساكن، ورحب ساحة، ودرور مياه، وصحة هواء، وتعدد خزاين ومتوضآت، وانطلاق جراية، وحسن ترتيب، أبَرَّونحسب أن هذا كافٍ في التدليل على أن اختيار المسلمين لمواقع المستشفيات لم يكن اعتباطيا، بل كان جاريا على قواعد النظر البيئية، وهذا في زمان لم يكن قد ظهرت فيه المشكلة البيئية، وقد اخترنا الأمثلة من الشرق والغرب، ومستشفيات كبرى وصغرى، وما بقي منها وما ذهب أثره، بما يثبت أنه أمر عام شائع. كما أننا لم نتعرض لنظام المستشفيات الإسلامية وما حفلت به من الرعاية الطبية لخروج هذا عن بحثنا الآن.
وأكرر القول بأن هذا هو ما وقع لي ببحث بسيط سطحي في هذا الموضوع، وأن هذا الموضوع مما يبشر بوجود مادة غزيرة فيه، وهو مقترح بحث أرجو أن يُوَفَّق إليه باحث، يربط بين ما في كتب التاريخ من المستشفيات ومواقعها مما في كتب الخطط وما تناثر في كتب الرجال والتاريخ ليرسم مواقع المستشفيات من وجهة النظر البيئيةنشر في مجلة البيان - شوال 1437 = يونيو 2016
ابن هشام: السيرة النبوية 2/239، الطبري: تاريخ الطبري 2/586. ابن العماد: شذرات الذهب 7/584. ابن دقماق: الانتصار 1/99. ابن عبد الحكم: فتوح مصر والمغرب ص138. المقدسي: أحسن التقاسيم ص199، ياقوت الحموي: معجم البلدان 3/145. المقريزي: المواعظ والاعتبار 4/268. القلقشندي: صبح الأعشى 3/417، المقريزي: المواعظ والاعتبار 3/74. المقريزي: المواعظ والاعتبار 2/102، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 1/327. ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 2/210، القفطي: إخبار العلماء بأخيار الحكماء ص151، ياقوت الحموي: معجم البلدان 3/284. ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 2/210. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 1/113. ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء 3/13. المقدسي: أحسن التقاسيم ص120.ويحتمل أن تكون المساحة المجاورة له من البساتين، إذ نقرأ في "مضمار الحقائق" (ص173) أن بجواره بستان فاخر لواحد من كبار رجال الدولة، وما يجعلنا نقول بالاحتمال أن ما هو في مضمار الحقائق إنما يتحدث عن حقبة لاحقة لحقبة إنشائه، فلسنا نستطيع الجزم. ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/382. ابن الشحنة: الدر المنتخب ص230، 231، الغزي: نهر الذهب 2/53. سبط ابن العجمي: كنوز الذهب 1/447. الغزي: نهر الذهب 2/54. ابن العماد: شذرات الذهب 5/334، 335. ابن شداد: الأعلاق الخطيرة أحمد عيسى: تاريخ البيمارستانات في الإسلام ص213. عبد القادر بدران: منادمة الأطلال ص60. النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس 2/313. ابن شداد: الأعلاق الخطيرة القلقشندي: صبح الأعشى 3/417. ابن جبير: رحلة ابن جبير ص24. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 5/462، النويري: نهاية الأرب 31/106 وما بعدها. النويري: نهاية الأرب 31/106 وما بعدها. ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار 3/519. ابن بطوطة: رحلة ابن بطوطة 1/76. محمد كرد علي: خطط الشام 6/158. ابن جبير: رحلة ابن جبير ص207. ابن العديم: بغية الطلب 1/391. الحميري: الروض المعطار ص563، ابن أبي شامة: عيون الروضتين 2/454. المراكشي: المعجب ص209. أبرَّ: أي أزيد. أغلب الظن أنه يقصد البيمارستان المنصوري. ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة 2/25. أحمد عيسى: تاريخ البيمارستانات في الإسلام ص289. قد وقع لي أثناء البحث رسالة ماجستير في قسم التاريخ والآثار بكلية الآداب بالجامعة الإسلامية بغزة، كتبها مؤمن أنيس عبد الله البابا بعنوان "البيمارستانات الإسلامية حتى نهاية الخلافة العباسية" (2009م)، وقد تناول هذا الموضوع بسرعة وخفة، وجاءت كثير من معلوماته غير دقيقة وفيها اختلاط لا يليق وغلب عليها الاستعجال والاغترار بنتائج الانترنت أو البرامج الحاسوبية دون مراجعتها على الأصول، وإن كان هذا لا يقلل من مجهوده الطيب الذي لو سلم من هذه العجلة لكان بحثه فريدا ووافيا في بابه.
في هذه السطور القادمة نتناول مبحثا لم نعلم أن أحدا سبق إليه، وما إن فتحنا الباب حتى تدفقت المفاجآت، ذلك هو: موقع بناء المستشفى في الحضارة الإسلامية، من زاوية خصائصه البيئية، فوجدنا أن الأمر لم يكن حكاية أو حكايتان عن طبيب وزَّع قطع لحم ثم اختار المكان حيث كان اللحم أبطأ فسادا، لا لم يكن الأمر كذلك، وإنما كان هذا منهجا مضطردا وثابتا، بُنيت عليه المستشفيات في شرق عالم الإسلام وغربه، فما من مستشفى إلا وبُنِيَت في أفضل مواقع المدينة، وأفضل مواقع المدينة هذا يُحتفظ به للمسجد أو لقصر الحكم، لذلك كثيرا ما كانت المستشفيات بجوار المسجد أو بجوار القصر أو اتخذت القصور مستشفيات أو كانت المستشفى على ضفة نهر أو أمام وادٍ فسيح!
وهذا المبحث هو فرع عن منهج اختيار مواقع المدن، ولعلنا نفرده في مقال خاص إن شاء الله، ليظهر واضحا أن الأمر لم يكن اعتباطيا بحال، بل كُتِب في شأنه دراسات فقهية وعلمية يزخر بها تراثنا الإسلامي الزاخر.لقد كانت المستشفيات في بلاد المسلمين تُبنى في أفضل الأماكن البيئية وأبعدها عن أسباب التلوث والتغير؛ وبدأ ذلك منذ فترة مبكرة:
فأول بيمارستان في الإسلام كان خيمة نُصِبت في مسجد النبي r، والمسجد هو أطهر مكان في أرض المسلمين، إذ يجتمع الناس فيه للصلاة وهم متطهرون، وكان أول ذلك الأمر بعد غزوة الأحزاب، وكان أول من عولجوا هم جرحى هذه الغزوة، وعرفت الخيمة باسم طبيبتها رفيدة الأسلمية فكان يقال "خيمة رفيدة"ونرى كثيرا من المستشفيات في الحضارة الإسلامية بُنيت بجوار المسجد، ويزداد الأمر وضوحا إذا علمنا أن المسجد كان هو مركز المدينة الإسلامية وأفضل البقاع فيها، وأحيانا تُبنى بجوار القصور أو تُحوَّل القصور إلى مستشفيات، ولا ريب أن القصر يُبنى في أفضل المواقع من المدينة كما هو معروف ومتوقع. وأحيانا لا تبخل علينا المصادر فتصف موقع المستشفى بمزيد تفصيل فإذا بنا نجده على شاطئ نهر أو على شاطئ بحيرة (وتسمى: بِرْكَة) أو نحوا من هذا.
فمن هذا ما ورد من أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بنى بيمارستانا "كان مكانه في قبلة مطهرة الجامع الأموي" عند المئذنة الغربيةوأول بيمارستان معروف في مصر –وبني في العصر الأموي- كان في منطقة زقاق القناديلوبعده يأتي بيمارستان المغافر الذي بناه الفتح بن خاقان وزير الخليفة العباسي العاشر المتوكل على الله، وسمِّي بهذا الاسم لأنه كان في خطة المغافر التي تقع على طرف مصلى خولانوقد بنى أحمد بن طولون أول بيمارستان كبير في مصر، وكان قريبا من بركة قارون التي هي بحيرة مائية بديعة بُنيت على جوانبها حدائق وبساتين، ومن يقرأ في وصف مصر عند المقريزي وابن تغري بردي يعرف أن هذه المنطقة كانت قلب العاصمة وأجمل بقعة فيها. وكان إذا جاء المريض للمستشفى سلم أمواله وثيابه عند أمين المستشفى ثم يعطى ثيابا نظيفة ويعالج مجانا حتى يُشفىوبُنِي بيمارستان السيدة –وهي السيدة شغب أم الخليفة العباسي الثامن عشر: المقتدر بالله- على شاطئ نهر دجلة في منطقة تسمى سوق يحيى، وهي تقع بين بساتين تدعى بساتين الزاهروفي ذات الفترة –عهد المقتدر بالله- بنى الوزير علي بن عيسى الجراح بيمارستانا في منطقة الحربية (302 هـ)، ومنطقة الحربية حافلة بالأنهار المتفرعة من دجلة ذكرها الخطيب البغدادي في تاريخهولما أراد عضد الدولة البويهي أن يبني البيمارستان الكبير في بغداد استشار في ذلك أبا بكر الرازي –الطبيب النابغة- فأمر الرازي أن يوضع في كل جهة من جهات بغداد الأربع قطعة لحم، فما كان منها أبطأ فسادا كان دليلا على البيئة الأفضل فأشار بالبناء في هذا المكانوجرت ذات التجربة لدى بناء البيمارستان النوري –نسبة إلى الملك العادل نور الدين محمود زنكي- في حلب، فقد ذبحوا خروفا وقطعوه إلى أرباع فجعلوا في كل جهة من حلب ربعا، ثم اختاروا بناء المستشفي حيث بقي اللحم على حالته ورائحتهوذكر الغزي –مؤرخ حلب- أن ثمة بيمارستانا آخر "له بوابة عظيمة ينسب لابن خرخان" كان يقع "على باب الجامع الكبير الشمالي"وكان البيمارستان النوري في دمشق إلى جوار الجامع الأموي من الجهة الغربية، وقد بُني هذا البيمارستان في ذات موضع بيمارستان سابق يُسمى "البيمارستان الصغير"وذكرت بعض المصادر عن البيمارستان الدقاقي في دمشق -ولا يُعرف من بناه على وجه التحديد ولكن وصلنا وصفه من كتب الخطط- أنه كان إلى جوار الجامع الأموي عند الباب القبليوفي مصر، كان العزيز بالله -الخليفة العبيدي (الفاطمي) الخامس- قد بنى في قصر الحكم قاعة فاخرة ومصممة بتقنية تجعل من خصائصها ألا يدخل إليها النمل، فلما قضى صلاح الدين على الدولة العبيدية وعرف بأمر هذه القاعة وميزتها قال بأنها –لذلك- تصلح كبيمارستان، فتحولت القاعة إلى البيمارستان العتيقوتكرر نفس الأمر بقاعة قصر الأميرة العبيدية ست الملك –ابنة الخليفة العبيدي الخامس العزيز بالله، وأخت الخليفة السادس الحاكم بأمر الله- إذ تنقلت الأحوال بالقصر حتى عهد السلطان المملوكي سيف الدين قلاوون فأمر ببنائها بيمارستانا بعد أن عوَّض صاحبتها الأميرة الأيوبية بقصر آخروبنى الوزير ابن موسك القيمري الكردي بيمارستانا في الصالحية التي تقع في سفح جبل قاسيون وتطل على دمشق، وقد وصف الجغرافيون والرحالةُ الصالحيةَ أوصافا بديعة، قال ابن فضل الله العمري "مدينة ممتدة في سفح الجبل بإزاء المدينة (دمشق) في طول مدى، ذات بيوت وجناين ومدارس وربط وترب جليلة وعمائر ضخمة ومارستان وأسواق جليلة بالبز وغيره وبأعاليها من ذيل الجبل المقابر العامة، وجميع الصالحية مشرفة على دمشق، وغوطتها وكل بساتينها وشرفها وميادينها ومجرى واديها وبجانبها القرى"وقد سجل ابن جبير في رحلته أن مستشفى مدينة حماة كانت تقع على شاطئ النهر (نهر العاصي) بإزاء المسجد الجامعوسجل الحميري في "الروض المعطار" أن بيمارستان الموصل كان يقع على شاطئ دجلة أمام المسجد الكبير الذي بناه مجاهد الدين قايماز الزيني (ت 595 هـ)وفي الغرب الإسلامي يصف المراكشي البيمارستان الذي بناه يعقوب المنصور الموحدي –الخليفة الثالث في دولة الموحدين- في مراكش، فيذكر أنه تخير موضعه في "ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد"، وزيادة في الإحكام والإتقان "أمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه؛ فأتقنوا فيه من النقوش البديعة والزخاريف المحكمة ما زاد على الاقتراح؛ وأمر أن يغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار المشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياهًا كثيرة تدور على جميع البيوت، زيادة على أربع برك في وسطه، إحداها رخام أبيض"وبأقصى الغرب، في الأندلس، وصف مؤرخ غرناطة ابن الخطيب بيمارستان غرناطة الذي بناه محمد الخامس (الغني بالله) النصري بأوصاف عديدة نأخذ منها أنه كان آيةً من حيث كونه "فخامة بيت، وتعدد مساكن، ورحب ساحة، ودرور مياه، وصحة هواء، وتعدد خزاين ومتوضآت، وانطلاق جراية، وحسن ترتيب، أبَرَّونحسب أن هذا كافٍ في التدليل على أن اختيار المسلمين لمواقع المستشفيات لم يكن اعتباطيا، بل كان جاريا على قواعد النظر البيئية، وهذا في زمان لم يكن قد ظهرت فيه المشكلة البيئية، وقد اخترنا الأمثلة من الشرق والغرب، ومستشفيات كبرى وصغرى، وما بقي منها وما ذهب أثره، بما يثبت أنه أمر عام شائع. كما أننا لم نتعرض لنظام المستشفيات الإسلامية وما حفلت به من الرعاية الطبية لخروج هذا عن بحثنا الآن.
وأكرر القول بأن هذا هو ما وقع لي ببحث بسيط سطحي في هذا الموضوع، وأن هذا الموضوع مما يبشر بوجود مادة غزيرة فيه، وهو مقترح بحث أرجو أن يُوَفَّق إليه باحث، يربط بين ما في كتب التاريخ من المستشفيات ومواقعها مما في كتب الخطط وما تناثر في كتب الرجال والتاريخ ليرسم مواقع المستشفيات من وجهة النظر البيئيةنشر في مجلة البيان - شوال 1437 = يونيو 2016
ابن هشام: السيرة النبوية 2/239، الطبري: تاريخ الطبري 2/586. ابن العماد: شذرات الذهب 7/584. ابن دقماق: الانتصار 1/99. ابن عبد الحكم: فتوح مصر والمغرب ص138. المقدسي: أحسن التقاسيم ص199، ياقوت الحموي: معجم البلدان 3/145. المقريزي: المواعظ والاعتبار 4/268. القلقشندي: صبح الأعشى 3/417، المقريزي: المواعظ والاعتبار 3/74. المقريزي: المواعظ والاعتبار 2/102، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 1/327. ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 2/210، القفطي: إخبار العلماء بأخيار الحكماء ص151، ياقوت الحموي: معجم البلدان 3/284. ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 2/210. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 1/113. ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء 3/13. المقدسي: أحسن التقاسيم ص120.ويحتمل أن تكون المساحة المجاورة له من البساتين، إذ نقرأ في "مضمار الحقائق" (ص173) أن بجواره بستان فاخر لواحد من كبار رجال الدولة، وما يجعلنا نقول بالاحتمال أن ما هو في مضمار الحقائق إنما يتحدث عن حقبة لاحقة لحقبة إنشائه، فلسنا نستطيع الجزم. ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/382. ابن الشحنة: الدر المنتخب ص230، 231، الغزي: نهر الذهب 2/53. سبط ابن العجمي: كنوز الذهب 1/447. الغزي: نهر الذهب 2/54. ابن العماد: شذرات الذهب 5/334، 335. ابن شداد: الأعلاق الخطيرة أحمد عيسى: تاريخ البيمارستانات في الإسلام ص213. عبد القادر بدران: منادمة الأطلال ص60. النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس 2/313. ابن شداد: الأعلاق الخطيرة القلقشندي: صبح الأعشى 3/417. ابن جبير: رحلة ابن جبير ص24. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 5/462، النويري: نهاية الأرب 31/106 وما بعدها. النويري: نهاية الأرب 31/106 وما بعدها. ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار 3/519. ابن بطوطة: رحلة ابن بطوطة 1/76. محمد كرد علي: خطط الشام 6/158. ابن جبير: رحلة ابن جبير ص207. ابن العديم: بغية الطلب 1/391. الحميري: الروض المعطار ص563، ابن أبي شامة: عيون الروضتين 2/454. المراكشي: المعجب ص209. أبرَّ: أي أزيد. أغلب الظن أنه يقصد البيمارستان المنصوري. ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة 2/25. أحمد عيسى: تاريخ البيمارستانات في الإسلام ص289. قد وقع لي أثناء البحث رسالة ماجستير في قسم التاريخ والآثار بكلية الآداب بالجامعة الإسلامية بغزة، كتبها مؤمن أنيس عبد الله البابا بعنوان "البيمارستانات الإسلامية حتى نهاية الخلافة العباسية" (2009م)، وقد تناول هذا الموضوع بسرعة وخفة، وجاءت كثير من معلوماته غير دقيقة وفيها اختلاط لا يليق وغلب عليها الاستعجال والاغترار بنتائج الانترنت أو البرامج الحاسوبية دون مراجعتها على الأصول، وإن كان هذا لا يقلل من مجهوده الطيب الذي لو سلم من هذه العجلة لكان بحثه فريدا ووافيا في بابه.
Published on September 13, 2016 21:35
September 9, 2016
من طبائع السلطة الحديثة: تفكيك الجماعات
روى أحمد أمين في مذكراته قصة إضراب للطلبة في مدرسة القضاء الشرعي، قال:
"أضرب فصل من فصول المدرسة لأن الناظر حتم عليه الألعاب الرياضية في مكان معين. وكان هذا المكان مشمسا والدنيا حارة، فاستأذن الطلبة أن يلعبوا في الظل، فأبى بحجة أن الطلبة يجب أن يتعودوا الخشونة في العيش والصبر على الشدائد. ولكن الطلبة لم يعجبهم هذا القول فامتنعوا عن اللعب ووقفوا في الظل لا في الشمس.
فلما علم الناظر بذلك رُعِب وامتقع لونه، لأن هذه أول حادثة من نوعها. فحضر في حالة عصبية ولكنه كتم غيظه، وطلب من الطلبة أن يصعدوا إلى فصلهم فأبوا، ثم كررها فأبوا، ففكر لحظة ماذا يفعل، ثم رأى أن مخاطبة الجموع غير مجدية، فنادى طالبا بعينه تفرس فيه الخوف والطاعة، وأمره أن يخرج أمام الصف فخرج، ثم قال له:
إما أن تصعد إلى فصلك وإما تخرج من باب المدرسة إلى الأبد.
وكل الطلبة كانوا يعلمون من الناظر جده وصدقه والتزامه تنفيذ وعده ووعيده، فإذا قال الكلمة ففداؤه رقبته، فتردد الطالب قليلا، ثم صعد إلى فصله.
وتفرس أيضا فنادى الثاني، وقال له ما قال للأول ففعل فعله، ثم نظر إلى الجماعة نظر المنتصر الظافر، وقال لهم: أظن أن لا معنى بعد ذلك للإضراب، انصرفوا إلى فصلكم.
فانصرفوا وانكسر الإضراب"(2)
روى الشيخ أحمد ياسين في حلقات "شاهد على العصر" كيف استطاع اليهود تجريد القرى من السلاح بعد عام 1967م، قال:
بعدما وصلوا معسكر الشاطئ نادى الميكروفون "اجمعوا الرجال في الساحة" طبعاً أنا ما بديش أطلع، لكن قلت بدي أطلع أتفرج، يعني أنا كان ممكن أقول لهم أنا مريض ومش طالع.. ما بديش أطلع لكن قلت لا بدي أروح أطلع وطلعت قعدت في الساحة بين الناس، فبدؤوا اليهود يجمعوا السلاح، بشكل.. الناس مش عاوزين يسلموا السلاح اللي عندهم، فإيجوا وحطونا في ساحة، وإيجوا إلى بيت.. كان بيت قدامنا، قالوا: اسمعوا اللي بنلاقي فيه سلاح البيت بنهدمه بندمره، خدوا بالكوا إحنا بنفتش.. عمالين نفتش في البلد، اللي عنده سلاح يروح يجيبه، واللي ما بيجبوش.. بنلاقي في بيته سلاح بنهدمه، فعلاً ورا المدرسة الأسوار طلعت قنبلة كده ثارت هدمنا بيت، الحرب النفسية الآن بتشتغل إيجوا أما منا في بيت مافيش فيه حاجة، ما بيسكنش شيء، فحطوا لهم قنبلة في العريشة بتاعته وفجروها، قالوا: ها البيت هذا دمرناه لقينا فيه سلاح، لما عملوا عمليتين تلاتة أمام الناس.. يلا اللي عنده سلاح يقوم يجيبه، الناس قامت وراحوا يجيبوا سلاح، قعدت يعني بدي أتفجر في نفسي ما فيش الوعي الكافي، طب هو بيضحك عليكوا... لقي سلاح قدامك في الدار هذه وجاي يفجرها!! بس بيضحك عليك، وفعلاً سلم كثير من الناس أسلحتهم اللي كانوا مخبيينها".
ويضيف الشيخ في نفس الحلقة:
"الإسرائيليين عادة بيتعاملوا مع الشعوب.. مع الشعب الفلسطيني فرادى ما بيتعاملوش بشكل جماعي، حتى في السجون كانوا ما بيرضوش يتعاملوا إلا فرادى، لكن إحنا فرضنا عليهم إرادتنا غصب عنهم، ولم نتعامل معهم إلا جماعي حسب قيادة منتخبة من فلسطينيين وتواجه اليهود وتحل المشاكل معهم، ما بنتعاملش فرادى في السجون، لكن في الشارع العام صعب أنك تجمع الناس وتحطهم في بوتقة واحدة، وخاصة إحنا ما كناش منظمين قبل الحرب، ما فيش الوضع التنظيمي، ما فيه هذا التنظيم اللي يشد الناس ويعمل المقاومة العنيفة والوحدة.. ما كانش هذا موجود".
(3)
وأما تفصيل ما يحدث في السجون الإسرائيلية فقد روى طرفا منه عبد الحكيم حنيني، من مؤسسي كتائب القسام والذي قضى في السجون الإسرائيلية تسعة عشر عاما (إبريل 1993 – أكتوبر 2011م)، وقد ذكر كيف استمر نضال الأسرى حتى كسروا إرادة الاحتلال الإسرائيلي في معاملة الأسرى فرادى حتى وصلوا إلى "حياة تنظيمية كاملة"، قال"حدثونا (الأسرى السابقون) في سنوات السبعينات يوم اعتقلوا كان في بدايات الاعتقال أسرى يعيشون في زنازين مع بعض يخرجوا على الساحة على ساحة المعتقل طبعاً ممنوع اثنين يمشوا مع بعض، ممنوع اثنين يمشوا مع بعض ويتحدثوا في الساحة هذا في بدايات الاعتقال، ممنوع في السجن شيء اسمه تنظيم ممنوع تعيشوا حياة شيء اسمها تنظيم يعني كل الأسرى الفلسطينيين هم مناضلون ومقاومون ومجاهدون أبناء تنظيمات فلسطينية يعني ما أجوا من فراغ كلهم أبناء تنظيمات وكلهم أبناء مقاومة، ممنوع تعيشوا حياتكم كتجمع، فُرادى لازم كل واحد نتعامل معه كفرد، حاول المحتل أو إدارة مصلحة السجون أن تفرض على الأسرى الفلسطينيين أن يعملوا في مصانع العدو العسكرية داخل السجون. شوف لوين يعني محاولة الإذلال: إنه يصنع شغلات للجيش شوادر وللدبابات ولكذا واللي زي هيك في السجن طبعاً هذا.
كان رفض مُطلق لذلك في بعض الإجراءات اللي حاولت إدارة مصلحة السجون تطبقها على الأسرى، الأسرى كيف قدروا يقاوموا هذه السياسة مثلما قلنا عبر الإضرابات عبر المواجهة، المواجهة العنيفة مع مصلحة السجون، فلذلك وجدت نفسها مصلحة السجون إذا ما بدها تلبي هذه الطلبات للأسرى رايحة تضل عايشة في إيش؟ في توتر وفي صِدام لذلك صارت تتنازل فبدأ الأسرى الفلسطينيين يحققون إنجازاتهم رويداً رويداً... انتزعوا حقوقهم انتزاعا لذلك اللي بدي أصل له إنه حياة تنظيمية في السجن هي انتزعت من إدارة مصلحة السجون انتزاعا بالتضحيات بالمواجهة بالدم بالشهداء بالإضراب عن الطعام لذلك نحن نعيش في تنظيمات كاملة داخل السجن، لكل تنظيم كما قلت غرفه وهو كيف يعني بعيش حياة تنظيمية كاملة".
(4)
كان الفيلسوف الإيطالي إيكو -الذي تحول إلى روائي- يقول: "عندما يتعطل التنظير تبدأ الرواية"، يعني بذلك أن الفكرة التي يعجز المرء عن كتابتها فكرا يمكنه أن يحكيها في رواية، ولذلك تحول هو نفسه من كاتب مفكر إلى روائي، يضع أفكاره في صيغة روائية.
لذلك كانت تلك الوقائع التاريخية الثلاث –الحقيقية وليست الروائية الخيالية- خير تعبير عن طبيعة السلطة الحديثة، تلك السلطة التي توسع ميشيل فوكو في تبيين آثارها التسلطية على الإنسان من خلال "تنظيم المجال العام" بحيث يكون الإنسان أسيرا لنظام سلطوي المدرسة فيه كالمستشفي كالسجن كالمؤسسة الإدارية كالتخطيط العمراني، نظام يحدد طريقة الإنسان في الحياة والسلوك، وهو نظام مؤسس على التعامل مع المواطن الفرد.
إن فلسفة الدولة الحديثة تعجز عن التعامل مع المجموع، ولذلك فهي تؤسس نظاما يحول كل المجموعات إلى أفراد، مواطنين، ويزعجها أي نوع من التكتل القبلي والعشائري، كما يزعجها أي نوع من تدبير المجتمع لشؤونه وأموره بعيدا عن إشرافها وهيمنتها، ولهذا لا تستقر الدولة الحديثة إلا بتدمير كل التكتلات ليتعامل النظام مباشرة مع المواطن الفرد ويتحكم فيه.
وقد شرح تيموثي ميتشل في كتابه "استعمار مصر" كيف تنفر الدولة الحديثة من كل شيء متكتل وعميق وخارج عن سيطرتها:
1. فهي تؤسس لمدن حديثة مفتوحة ذات شوارع واسعة يمكن للسلطة فيها أن تصل إلى كل مواطن بدون عوائق، عكس المدن القديمة الضيقة المتعرجة المتكتلة التي تغلق حاراتها بالأبواب ليلا -أو عند هياج الجند- والتي تختفي فيها النساء في البيوت والتي لا يمكن إنفاذ إحصاء لها والتي تتكافل من داخلها فتعيش بغض النظر عن سلطة الدولة.
ولذلك فإن كل قصة احتلال أو تحديث غربي للبلدان الإسلامية تحتوي فصلا عن هدم المدينة القديمة وإنشاء مدينة حديثة متسعة الطرقات، وفي مصر –مثلا- فإن أول من كسَّروا وأزالوا أبواب الحارات كانوا جنود الحملة الفرنسية، وذلك خوفا من الوقوع في الكمائن ومن تحصن الثوار المصريين خلفها، وهم أول من ألزموا الناس بوضع فوانيس منيرة على بيوتهم ليلا.. وما لم ينجح فيه الفرنسيس نجح فيه فيما بعد محمد علي.
2. وهي تؤسس لتعليم نظامي رتبت طرائقه وأساليبه بحيث يتحول الطالب إلى فرد منفرد منفصل بذاته، لا يكون أبدا جزءا من مجموع التلاميذ كما هي الحال في طرق التعليم القديمة "شيخ العمود"، وتتحكم هي في مناهجه تحكما كاملا، ولقد روى أحمد أمين يروي في مذكراته أن كل كتاب يجب أن يخلو من السياسة خلوا تاما، ولو كان في الشعر والأدب، بل ذكر أن المدرسة كانت تحتاج تصريحا بخلو المصحف من السياسة يأتي من المشرف على وزارة المعارف الإنجليزي "دنلوب"3. وهي تسعى لاحتكار كل موارد القوة والنفوذ، سواء أكان السلاح أم الزعامة الشعبية أم نظم التكافل، ويجب أن يكون كل نشاط فيها بتصريح مسبق، ومسجلا في دفاترها، فالمواطن فيها يساوي حقيقة مجموعة من الأوراق.. ولا تغفر لمن يتهرب منها، فمجرد الهروب من التجنيد يستلزم العقوبة، حتى تنتهي إلى الحالة المثالية التي وصفها جوروج أورويل في روايته 1984 وهي "نموذج الأخ الأكبر" الذي لا يرضى بأقل من السيطرة على العقل والنفس.
وهذا من مواضع التناقض بين النظام الإسلامي والنظام الغربي، فالإسلام حريص دائما على تقوية المجتمع وتكتيله وتمتين العلاقات والروابط بين عناصره، ولذلك فكل مجتمع لا يزال يعيش تماسكا عائليا وقبائليا فهو أقرب إلى الإسلام وأبعد عن العلمنة، والعكس بالعكس! ولا يمنع هذا أن النظام الغربي استفاد من المسلمين هذا النظام وإن في سياق هامشي هو تقوية المجتمع المدني.
ولذلك فإن كل سعي لتقوية الروابط بين عناصر المجتمع هو سحب من رصيد السلطة وإضافة لرصيد المقاومة، وبقدر ما تلتصق حركات المقاومة بروابط الأهل والقبيلة والجوار فتظفر بالحاضنة الشعبية بقدر ما يصعب الأمر على السلطة، وبقدر ما يكون المجتمع قويا متماسكا بقدر ما تغل يد السلطة عن الاستبداد به!
وهذا الطبع في السلطة الحديثة ومقاومته من أهم وأدق ما ينبغي أن تفقهه حركة المقاومة.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
أحمد أمين، حياتي، (القاهرة: كلمات عربية، 2011م)، ص89، 90. برنامج: شاهد على العصر، قناة الجزيرة، الحلقة السابعة، بثت بتاريخ 22 فبراير 2015م. (باختصار). أحمد أمين، حياتي، مرجع سابق، ص89.
"أضرب فصل من فصول المدرسة لأن الناظر حتم عليه الألعاب الرياضية في مكان معين. وكان هذا المكان مشمسا والدنيا حارة، فاستأذن الطلبة أن يلعبوا في الظل، فأبى بحجة أن الطلبة يجب أن يتعودوا الخشونة في العيش والصبر على الشدائد. ولكن الطلبة لم يعجبهم هذا القول فامتنعوا عن اللعب ووقفوا في الظل لا في الشمس.
فلما علم الناظر بذلك رُعِب وامتقع لونه، لأن هذه أول حادثة من نوعها. فحضر في حالة عصبية ولكنه كتم غيظه، وطلب من الطلبة أن يصعدوا إلى فصلهم فأبوا، ثم كررها فأبوا، ففكر لحظة ماذا يفعل، ثم رأى أن مخاطبة الجموع غير مجدية، فنادى طالبا بعينه تفرس فيه الخوف والطاعة، وأمره أن يخرج أمام الصف فخرج، ثم قال له:
إما أن تصعد إلى فصلك وإما تخرج من باب المدرسة إلى الأبد.
وكل الطلبة كانوا يعلمون من الناظر جده وصدقه والتزامه تنفيذ وعده ووعيده، فإذا قال الكلمة ففداؤه رقبته، فتردد الطالب قليلا، ثم صعد إلى فصله.
وتفرس أيضا فنادى الثاني، وقال له ما قال للأول ففعل فعله، ثم نظر إلى الجماعة نظر المنتصر الظافر، وقال لهم: أظن أن لا معنى بعد ذلك للإضراب، انصرفوا إلى فصلكم.
فانصرفوا وانكسر الإضراب"(2)
روى الشيخ أحمد ياسين في حلقات "شاهد على العصر" كيف استطاع اليهود تجريد القرى من السلاح بعد عام 1967م، قال:
بعدما وصلوا معسكر الشاطئ نادى الميكروفون "اجمعوا الرجال في الساحة" طبعاً أنا ما بديش أطلع، لكن قلت بدي أطلع أتفرج، يعني أنا كان ممكن أقول لهم أنا مريض ومش طالع.. ما بديش أطلع لكن قلت لا بدي أروح أطلع وطلعت قعدت في الساحة بين الناس، فبدؤوا اليهود يجمعوا السلاح، بشكل.. الناس مش عاوزين يسلموا السلاح اللي عندهم، فإيجوا وحطونا في ساحة، وإيجوا إلى بيت.. كان بيت قدامنا، قالوا: اسمعوا اللي بنلاقي فيه سلاح البيت بنهدمه بندمره، خدوا بالكوا إحنا بنفتش.. عمالين نفتش في البلد، اللي عنده سلاح يروح يجيبه، واللي ما بيجبوش.. بنلاقي في بيته سلاح بنهدمه، فعلاً ورا المدرسة الأسوار طلعت قنبلة كده ثارت هدمنا بيت، الحرب النفسية الآن بتشتغل إيجوا أما منا في بيت مافيش فيه حاجة، ما بيسكنش شيء، فحطوا لهم قنبلة في العريشة بتاعته وفجروها، قالوا: ها البيت هذا دمرناه لقينا فيه سلاح، لما عملوا عمليتين تلاتة أمام الناس.. يلا اللي عنده سلاح يقوم يجيبه، الناس قامت وراحوا يجيبوا سلاح، قعدت يعني بدي أتفجر في نفسي ما فيش الوعي الكافي، طب هو بيضحك عليكوا... لقي سلاح قدامك في الدار هذه وجاي يفجرها!! بس بيضحك عليك، وفعلاً سلم كثير من الناس أسلحتهم اللي كانوا مخبيينها".
ويضيف الشيخ في نفس الحلقة:
"الإسرائيليين عادة بيتعاملوا مع الشعوب.. مع الشعب الفلسطيني فرادى ما بيتعاملوش بشكل جماعي، حتى في السجون كانوا ما بيرضوش يتعاملوا إلا فرادى، لكن إحنا فرضنا عليهم إرادتنا غصب عنهم، ولم نتعامل معهم إلا جماعي حسب قيادة منتخبة من فلسطينيين وتواجه اليهود وتحل المشاكل معهم، ما بنتعاملش فرادى في السجون، لكن في الشارع العام صعب أنك تجمع الناس وتحطهم في بوتقة واحدة، وخاصة إحنا ما كناش منظمين قبل الحرب، ما فيش الوضع التنظيمي، ما فيه هذا التنظيم اللي يشد الناس ويعمل المقاومة العنيفة والوحدة.. ما كانش هذا موجود".
(3)
وأما تفصيل ما يحدث في السجون الإسرائيلية فقد روى طرفا منه عبد الحكيم حنيني، من مؤسسي كتائب القسام والذي قضى في السجون الإسرائيلية تسعة عشر عاما (إبريل 1993 – أكتوبر 2011م)، وقد ذكر كيف استمر نضال الأسرى حتى كسروا إرادة الاحتلال الإسرائيلي في معاملة الأسرى فرادى حتى وصلوا إلى "حياة تنظيمية كاملة"، قال"حدثونا (الأسرى السابقون) في سنوات السبعينات يوم اعتقلوا كان في بدايات الاعتقال أسرى يعيشون في زنازين مع بعض يخرجوا على الساحة على ساحة المعتقل طبعاً ممنوع اثنين يمشوا مع بعض، ممنوع اثنين يمشوا مع بعض ويتحدثوا في الساحة هذا في بدايات الاعتقال، ممنوع في السجن شيء اسمه تنظيم ممنوع تعيشوا حياة شيء اسمها تنظيم يعني كل الأسرى الفلسطينيين هم مناضلون ومقاومون ومجاهدون أبناء تنظيمات فلسطينية يعني ما أجوا من فراغ كلهم أبناء تنظيمات وكلهم أبناء مقاومة، ممنوع تعيشوا حياتكم كتجمع، فُرادى لازم كل واحد نتعامل معه كفرد، حاول المحتل أو إدارة مصلحة السجون أن تفرض على الأسرى الفلسطينيين أن يعملوا في مصانع العدو العسكرية داخل السجون. شوف لوين يعني محاولة الإذلال: إنه يصنع شغلات للجيش شوادر وللدبابات ولكذا واللي زي هيك في السجن طبعاً هذا.
كان رفض مُطلق لذلك في بعض الإجراءات اللي حاولت إدارة مصلحة السجون تطبقها على الأسرى، الأسرى كيف قدروا يقاوموا هذه السياسة مثلما قلنا عبر الإضرابات عبر المواجهة، المواجهة العنيفة مع مصلحة السجون، فلذلك وجدت نفسها مصلحة السجون إذا ما بدها تلبي هذه الطلبات للأسرى رايحة تضل عايشة في إيش؟ في توتر وفي صِدام لذلك صارت تتنازل فبدأ الأسرى الفلسطينيين يحققون إنجازاتهم رويداً رويداً... انتزعوا حقوقهم انتزاعا لذلك اللي بدي أصل له إنه حياة تنظيمية في السجن هي انتزعت من إدارة مصلحة السجون انتزاعا بالتضحيات بالمواجهة بالدم بالشهداء بالإضراب عن الطعام لذلك نحن نعيش في تنظيمات كاملة داخل السجن، لكل تنظيم كما قلت غرفه وهو كيف يعني بعيش حياة تنظيمية كاملة".
(4)
كان الفيلسوف الإيطالي إيكو -الذي تحول إلى روائي- يقول: "عندما يتعطل التنظير تبدأ الرواية"، يعني بذلك أن الفكرة التي يعجز المرء عن كتابتها فكرا يمكنه أن يحكيها في رواية، ولذلك تحول هو نفسه من كاتب مفكر إلى روائي، يضع أفكاره في صيغة روائية.
لذلك كانت تلك الوقائع التاريخية الثلاث –الحقيقية وليست الروائية الخيالية- خير تعبير عن طبيعة السلطة الحديثة، تلك السلطة التي توسع ميشيل فوكو في تبيين آثارها التسلطية على الإنسان من خلال "تنظيم المجال العام" بحيث يكون الإنسان أسيرا لنظام سلطوي المدرسة فيه كالمستشفي كالسجن كالمؤسسة الإدارية كالتخطيط العمراني، نظام يحدد طريقة الإنسان في الحياة والسلوك، وهو نظام مؤسس على التعامل مع المواطن الفرد.
إن فلسفة الدولة الحديثة تعجز عن التعامل مع المجموع، ولذلك فهي تؤسس نظاما يحول كل المجموعات إلى أفراد، مواطنين، ويزعجها أي نوع من التكتل القبلي والعشائري، كما يزعجها أي نوع من تدبير المجتمع لشؤونه وأموره بعيدا عن إشرافها وهيمنتها، ولهذا لا تستقر الدولة الحديثة إلا بتدمير كل التكتلات ليتعامل النظام مباشرة مع المواطن الفرد ويتحكم فيه.
وقد شرح تيموثي ميتشل في كتابه "استعمار مصر" كيف تنفر الدولة الحديثة من كل شيء متكتل وعميق وخارج عن سيطرتها:
1. فهي تؤسس لمدن حديثة مفتوحة ذات شوارع واسعة يمكن للسلطة فيها أن تصل إلى كل مواطن بدون عوائق، عكس المدن القديمة الضيقة المتعرجة المتكتلة التي تغلق حاراتها بالأبواب ليلا -أو عند هياج الجند- والتي تختفي فيها النساء في البيوت والتي لا يمكن إنفاذ إحصاء لها والتي تتكافل من داخلها فتعيش بغض النظر عن سلطة الدولة.
ولذلك فإن كل قصة احتلال أو تحديث غربي للبلدان الإسلامية تحتوي فصلا عن هدم المدينة القديمة وإنشاء مدينة حديثة متسعة الطرقات، وفي مصر –مثلا- فإن أول من كسَّروا وأزالوا أبواب الحارات كانوا جنود الحملة الفرنسية، وذلك خوفا من الوقوع في الكمائن ومن تحصن الثوار المصريين خلفها، وهم أول من ألزموا الناس بوضع فوانيس منيرة على بيوتهم ليلا.. وما لم ينجح فيه الفرنسيس نجح فيه فيما بعد محمد علي.
2. وهي تؤسس لتعليم نظامي رتبت طرائقه وأساليبه بحيث يتحول الطالب إلى فرد منفرد منفصل بذاته، لا يكون أبدا جزءا من مجموع التلاميذ كما هي الحال في طرق التعليم القديمة "شيخ العمود"، وتتحكم هي في مناهجه تحكما كاملا، ولقد روى أحمد أمين يروي في مذكراته أن كل كتاب يجب أن يخلو من السياسة خلوا تاما، ولو كان في الشعر والأدب، بل ذكر أن المدرسة كانت تحتاج تصريحا بخلو المصحف من السياسة يأتي من المشرف على وزارة المعارف الإنجليزي "دنلوب"3. وهي تسعى لاحتكار كل موارد القوة والنفوذ، سواء أكان السلاح أم الزعامة الشعبية أم نظم التكافل، ويجب أن يكون كل نشاط فيها بتصريح مسبق، ومسجلا في دفاترها، فالمواطن فيها يساوي حقيقة مجموعة من الأوراق.. ولا تغفر لمن يتهرب منها، فمجرد الهروب من التجنيد يستلزم العقوبة، حتى تنتهي إلى الحالة المثالية التي وصفها جوروج أورويل في روايته 1984 وهي "نموذج الأخ الأكبر" الذي لا يرضى بأقل من السيطرة على العقل والنفس.
وهذا من مواضع التناقض بين النظام الإسلامي والنظام الغربي، فالإسلام حريص دائما على تقوية المجتمع وتكتيله وتمتين العلاقات والروابط بين عناصره، ولذلك فكل مجتمع لا يزال يعيش تماسكا عائليا وقبائليا فهو أقرب إلى الإسلام وأبعد عن العلمنة، والعكس بالعكس! ولا يمنع هذا أن النظام الغربي استفاد من المسلمين هذا النظام وإن في سياق هامشي هو تقوية المجتمع المدني.
ولذلك فإن كل سعي لتقوية الروابط بين عناصر المجتمع هو سحب من رصيد السلطة وإضافة لرصيد المقاومة، وبقدر ما تلتصق حركات المقاومة بروابط الأهل والقبيلة والجوار فتظفر بالحاضنة الشعبية بقدر ما يصعب الأمر على السلطة، وبقدر ما يكون المجتمع قويا متماسكا بقدر ما تغل يد السلطة عن الاستبداد به!
وهذا الطبع في السلطة الحديثة ومقاومته من أهم وأدق ما ينبغي أن تفقهه حركة المقاومة.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
أحمد أمين، حياتي، (القاهرة: كلمات عربية، 2011م)، ص89، 90. برنامج: شاهد على العصر، قناة الجزيرة، الحلقة السابعة، بثت بتاريخ 22 فبراير 2015م. (باختصار). أحمد أمين، حياتي، مرجع سابق، ص89.
Published on September 09, 2016 12:38
September 8, 2016
محمد بن علي مؤسس الدعوة العباسية
اقرأ: ماذا تعرف عن أجداد الخلفاء العباسيين؟
كان محمد بن علي أكبر أبناء أبيه علي بن عبد الله بن العباس، وكان جميلًا طويل القامة، صاحب عقل وعلم وفضل وحلم وعبادة؛ حتى رُوي عن أخيه عيسى بن علي أنه يزيد في الفضل على أبيه علي بن عبد الله بن عباس، وكان من علماء عصره حتى عَدَّه ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار، وقال فيه: «من عُبَّاد أهل المدينة وعلماء بني هاشم». ومِنْ أشهر مَنْ تلقى عنه العلم أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، ولقب-لكثرة عبادته- بلقب أبيه «السَّجَّاد»وحياته تدلُّ على ما تميز به من قوَّة الشخصية والذكاء والفطنة، والمهارة في التجميع والتأسيس والتنظيم، والقدرة على قراءة الواقع قراءة خبيرة متعمِّقَة.
في الحُمَيْمَة
كان علي وأولاده من المشهورين بالزهد والعبادة مما زاد في حبِّ الناس لهم؛ حتى إن اشتهر العباسيون بالزهد والعبادة في الحميمة حتى لقد قيل: «لقد أفضت الخلافة إليهم وما في الأرض أحد أكثر قارئًا للقرآن، ولا أفضل عابدًا وناسكًا منهم بالحميمة»وربما لم يكن هذا الوضع مطمئنًا للأمويين وهم-أي العباسيين- في دمشق عاصمة الخلافة التي تزدحم عليها الأقدام، ويسهل فيها الاستكثار من الأتباع والالتقاء بهم، فكان قرار هشام بنزولهم الحميمة-التي لا هي بعيدة ولا هي قريبة من دمشق- يجعلهم أبعد عن الالتقاء بالناس وتكوين الأتباع، كما يجعلهم غير بعيدين عن يد الخلافة إذا بَدَر منهم ما يُخشى خطره.
لكن محمد بن علي استثمر كَوْن الحميمة بعيدة عن عين الأمويين ورقابتهم، ولئن كان الأمويون يخشون من ثورة أو فتنة علنية في دمشق؛ فإن تفكير محمد بن علي باتجاه تكوين التنظيم السري، والحميمة-في هذه الحال- أنسب من دمشق.
إن اختيار المركز هو الخطوة الأهمُّ في تأسيس الدول من الناحية والإستراتيجية؛ ولهذا فإن اختيار علي بن عبد الله للحميمة-التي تقع بين دمشق وفلسطين وعلى طريق الحجاز- لم يكن عشوائيًّا، بل هو وضع حجر الأساس للدعوة العباسية، فعند الحميمة يمكن التخفِّي في ثوب العالم الذي شغله علمه، والتاجر الذي يسعى في تجارته، والحاج الذي يُريد البيت الحرام؛ ولهذا يجعل بعض المؤرِّخين-كالمسعودي واليعقوبي- عليَّ بن عبد الله هو المؤسِّس الحقيقي للدعوة العباسيةإلا أن هذا الرأي قال به قليل من المؤرِّخين، وأغلبهم-كما نرى من المصادر- يُرْجِعون فضل تأسيس الدعوة العباسية إلى محمد بن علي.
آل البيت المعارضون
قال الذهبي: ولكن آل العباس، كان الناس يحبُّونهم، ويحبُّون آل علي، ويودُّون أن الأمر يئول إليهم؛ حبًّا لآل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبغضًا في آل مروان بن الحكم، فبقوا يعملون على ذلك زمانًا؛ حتى تهيأت لهم الأسباب، وأقبلت دولتهم وظهرت من خراسانما من شكٍّ في أن الناس كانوا يحبُّون آل البيت أكثر من حبِّهم لبني أمية، ولقد أمدَّ هذا الحبَّ رافدان: كونهم من سلالة النبي- صلى الله عليه وسلم-، ثم ما نزل بهم من مظالم على يد الأمويين؛ لا سيما في الثورات التي انتهت إلى الفشل.
إلا أن أتباع آل البيت لم يكونوا جبهة موحدة؛ بل كان كلما قُتل أو مات واحد من أئمة آل البيت تَفرَّق الأتباع إلى أكثر من مجموعة، بحسب اختلافهم على الإمام الذي ينبغي أن يليه؛ فمن بعد مقتل الحسين- رضي الله عنه- رأت جماعة أن الأولى بالإمامة من بعده أخوه محمد بن علي بن أبي طالب (محمد بن الحنفية)، وهو ابن علي من زوجته خولة بنت جعفر من قبيلة بني حنيفة؛ ولذلك دُعي «ابن الحنفية»، وكانت حُجَّتهم أنه لم يبقَ بعد الحسن والحسين أحد أقرب إلى عليٍّ من محمد ابن الحنفية؛ فهو أَوْلَى الناس بالإمامة، كما كان الحسين أَوْلَى بعد الحسن من ولد الحسن. وقد انتهت هذه الجماعة-بعد انقسامات أخرى- إلى زعامة أبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية.
ورأت جماعة أخرى أن الإمامة من بعد الحسين ينبغي أن تكون في ولده زين العابدين علي بن الحسين؛ وأنها ينبغي ألا تخرج إلى خارج أبناء فاطمة رضي الله عنها، وانتهت هذه المجموعة-بعد انقسامات أخرى- إلى زعامة زيد بن علي بن الحسين، الذي قاد ثورة ضد هشام بن عبد الملك وانتهت بالفشل؛ لكنَّ زعامة زيد لم تكن الزعامة الوحيدة، فظلَّت شخصيات أخرى تقود حركة المعارضة؛ مثل: جعفر الصادق-الذي كانت معارضته سلمية، ولم يُحاول أن يثور على الأمويين- وعبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وابناه محمد «النفس الزكية»، وإبراهيم.
وكانت ثمة جماعة أخرى؛ هي العباسيون الذين لم يظهروا على مسرح الأحداث، ولم يُتوقَّع منهم خطر كبير.. لكنَّهم اكتسبوا قوَّة أخرى جديدة على غير ترتيب.. فكيف حصل هذا؟
وصية أبي هاشم عبد الله
ذكرنا أن زعامة المجموعة التي رأت انتقال الإمامة إلى محمد ابن الحنفية انتهت إلى ابنه أبي هاشم عبد الله، لكنَّ أبا هاشم لم يكن له ولد، فلما كان عائدًا ذات مرَّة من زيارة للخليفة الأمويبعض المؤرِّخين لم يصدق هذه الرواية، واعتبروها نوعًا من ادِّعاء الشرعية؛ الذي احتاج إليه العباسيون لينضمَّ إليهم العلويون في معركتهم ضدَّ الأمويين.. لكنَّ المؤرِّخين الأوائل أثبتوا هذه الواقعة في كتبهم وتلقَّوْهَا بالقبول.
والجدير بالذكر أن روايات البلاذري واليعقوبي والطبري استُقِيَتْ من مصدر واحد؛ هو إمَّا الهيثم بن عدي أو المدائني، وكلنا الروايتين على جانب لا يُستهان به من حيث صحَّة روايتهما التاريخية، كما أن الاختلاف في الأسلوب والألفاظ مع اتفاق المعنى يُؤَيِّد الصحَّة التاريخية، كما يذكر الوصية ابن سعد في الطبقات وابن حبيب في أسماء المغتالين، وابن قتيبة في المعارف، والمسعودي في مروج الذهب، والمجهول صاحب كتاب العيون والحدائق، والمجهول الآخر صاحب «أخبار الدولة العباسية»، كما ذكرها المتأخِّرُون من المؤرِّخين؛ مثل: ابن عبد ربه، والمقدسي، وابن عساكر، وابن الأثير، وابن خلكان، وابن خلدون، والمقريزي، وابن تغري بردي، والداؤدي، كما ذكرها مؤرِّخو الفرق؛ مثل: النوبختي، والقُمِّي، وذكرها الأشعري بقوله: «ويزعمون...»على أن الفهم المستقيم لهذه الوصية كما يبدو لنا هو تسليم نواة «تنظيم الدعوة» لآل البيت لمحمد بن علي؛ باعتبارها حركة سياسية إصلاحية ترى في تولِّي آل البيت للخلافة سبيلًا لإنهاء المظالم والانحرافات لدى الأمويين، لا على أنها دعوة دينية تُمَثِّل مذهبًا عقديًّا، يجعل استحقاق آل البيت بالخلافة واجبًا دينيًّا؛ إذ لم يثبت على أبي هاشم-فيما نعلم- انتحاله لغير مذهب أهل السنة والجماعة، ولا ورد عنه طعن في خلافة الشيخين أو عثمان، على أنه حتى إن افترضنا أنه كان يرى الخلافة استحقاقًا لآل البيت، ويرى عليًّا الأولى بها، فإن الوصية لمحمد لا تعني كذلك أكثر من تسليم أمر التنظيم ليُكمل المهمَّة، ولا يثبت هذا أنه كان على علم بالغيب، أو أن لديه علمًا خاصًّا بأن الخلافة في العباسيين!
أقام محمد بن علي العزاء لأبي هاشم، ثم جمع مَنْ كان عنده من أنصار أبي هاشم، وقال لهم: «لئن كنتم أصبتم بموته لقد خصصت بذلك منه، وقد جمعني وإياكم القيام بهذا الأمر، وعلمت منه كثيرًا مما لم تعلموا؛ فاتقوا الله ربكم، وحافظوا على هذا الحقِّ الذي سعيتم في إقامته، واحفظوا ألسنتكم فلا تطلقوها إلَّا في مواضع النفع والغناء، وتصبروا للمكروه فقد قرن بكم، فإن حفظتم ذلك فأنتم شيعتي وخاصتي، وأولى الناس بي في محياي ومماتي»فاستوعب محمد أتباع أبي هاشم؛ لكنه انتظر حتى يأتي أكبر أتباع أبي هاشم وأوثقهم، وهو سلمة بن بجيروبهذا بدأت مرحلة من الدعوة والعمل السرِّي استغرقت ثلاثين سنة، بدأت في نهاية القرن الأول الهجري (97 أو 98 أو 100 هـ، بحسب اختلاف الروايات) وحتى 129 هـ، حين أُعلنت الدعوة في خراسان.
نشر في ساسة بوست
ابن حبان: مشاهير علماء الأمصار ص207، وابن عساكر: تاريخ دمشق 54/ 365 وما بعدها، وابن خلكان: وفيات الأعيان 4/ 186، والصفدي: الوافي بالوفيات 4/ 77، 78، وابن حجر: نزهة الألباب ص361، والزركلي: الأعلام 6/ 271. ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 313. د. فتحي أبو سيف: الدولة العباسية والمشرق الإسلامي ص13، 15. الذهبي: سير أعلام النبلاء 6/ 58. هو الوليد بن عبد الملك، أو سليمان بن عبد الملك بحسب اختلاف الروايات. الأشعري: مقالات الإسلاميين ص21. د. فاروق عمر: الثورة العباسية ص32 وما بعدها، وذكرها-أيضًا- المحدث والمؤرخ الكبير الإمام الذهبي في: سير أعلام النبلاء 4/ 129، وتاريخ الإسلام 6/ 406، والمحدث الإمام المزي في تهذيب الكمال 16/ 86. ابن سعد: الطبقات الكبرى (القسم المتمم) ص244، ومجهول: أخبار الدولة العباسية ص189. وسلمة هذا هو ابن بجير بن عبد الله، وأبوه كان-أيضًا- من قادة أتباع محمد بن الحنفية، ومن كبار القادة مع المختار بن عبيد الثقفي. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص190.
كان محمد بن علي أكبر أبناء أبيه علي بن عبد الله بن العباس، وكان جميلًا طويل القامة، صاحب عقل وعلم وفضل وحلم وعبادة؛ حتى رُوي عن أخيه عيسى بن علي أنه يزيد في الفضل على أبيه علي بن عبد الله بن عباس، وكان من علماء عصره حتى عَدَّه ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار، وقال فيه: «من عُبَّاد أهل المدينة وعلماء بني هاشم». ومِنْ أشهر مَنْ تلقى عنه العلم أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، ولقب-لكثرة عبادته- بلقب أبيه «السَّجَّاد»وحياته تدلُّ على ما تميز به من قوَّة الشخصية والذكاء والفطنة، والمهارة في التجميع والتأسيس والتنظيم، والقدرة على قراءة الواقع قراءة خبيرة متعمِّقَة.
في الحُمَيْمَة
كان علي وأولاده من المشهورين بالزهد والعبادة مما زاد في حبِّ الناس لهم؛ حتى إن اشتهر العباسيون بالزهد والعبادة في الحميمة حتى لقد قيل: «لقد أفضت الخلافة إليهم وما في الأرض أحد أكثر قارئًا للقرآن، ولا أفضل عابدًا وناسكًا منهم بالحميمة»وربما لم يكن هذا الوضع مطمئنًا للأمويين وهم-أي العباسيين- في دمشق عاصمة الخلافة التي تزدحم عليها الأقدام، ويسهل فيها الاستكثار من الأتباع والالتقاء بهم، فكان قرار هشام بنزولهم الحميمة-التي لا هي بعيدة ولا هي قريبة من دمشق- يجعلهم أبعد عن الالتقاء بالناس وتكوين الأتباع، كما يجعلهم غير بعيدين عن يد الخلافة إذا بَدَر منهم ما يُخشى خطره.
لكن محمد بن علي استثمر كَوْن الحميمة بعيدة عن عين الأمويين ورقابتهم، ولئن كان الأمويون يخشون من ثورة أو فتنة علنية في دمشق؛ فإن تفكير محمد بن علي باتجاه تكوين التنظيم السري، والحميمة-في هذه الحال- أنسب من دمشق.
إن اختيار المركز هو الخطوة الأهمُّ في تأسيس الدول من الناحية والإستراتيجية؛ ولهذا فإن اختيار علي بن عبد الله للحميمة-التي تقع بين دمشق وفلسطين وعلى طريق الحجاز- لم يكن عشوائيًّا، بل هو وضع حجر الأساس للدعوة العباسية، فعند الحميمة يمكن التخفِّي في ثوب العالم الذي شغله علمه، والتاجر الذي يسعى في تجارته، والحاج الذي يُريد البيت الحرام؛ ولهذا يجعل بعض المؤرِّخين-كالمسعودي واليعقوبي- عليَّ بن عبد الله هو المؤسِّس الحقيقي للدعوة العباسيةإلا أن هذا الرأي قال به قليل من المؤرِّخين، وأغلبهم-كما نرى من المصادر- يُرْجِعون فضل تأسيس الدعوة العباسية إلى محمد بن علي.
آل البيت المعارضون
قال الذهبي: ولكن آل العباس، كان الناس يحبُّونهم، ويحبُّون آل علي، ويودُّون أن الأمر يئول إليهم؛ حبًّا لآل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبغضًا في آل مروان بن الحكم، فبقوا يعملون على ذلك زمانًا؛ حتى تهيأت لهم الأسباب، وأقبلت دولتهم وظهرت من خراسانما من شكٍّ في أن الناس كانوا يحبُّون آل البيت أكثر من حبِّهم لبني أمية، ولقد أمدَّ هذا الحبَّ رافدان: كونهم من سلالة النبي- صلى الله عليه وسلم-، ثم ما نزل بهم من مظالم على يد الأمويين؛ لا سيما في الثورات التي انتهت إلى الفشل.
إلا أن أتباع آل البيت لم يكونوا جبهة موحدة؛ بل كان كلما قُتل أو مات واحد من أئمة آل البيت تَفرَّق الأتباع إلى أكثر من مجموعة، بحسب اختلافهم على الإمام الذي ينبغي أن يليه؛ فمن بعد مقتل الحسين- رضي الله عنه- رأت جماعة أن الأولى بالإمامة من بعده أخوه محمد بن علي بن أبي طالب (محمد بن الحنفية)، وهو ابن علي من زوجته خولة بنت جعفر من قبيلة بني حنيفة؛ ولذلك دُعي «ابن الحنفية»، وكانت حُجَّتهم أنه لم يبقَ بعد الحسن والحسين أحد أقرب إلى عليٍّ من محمد ابن الحنفية؛ فهو أَوْلَى الناس بالإمامة، كما كان الحسين أَوْلَى بعد الحسن من ولد الحسن. وقد انتهت هذه الجماعة-بعد انقسامات أخرى- إلى زعامة أبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية.
ورأت جماعة أخرى أن الإمامة من بعد الحسين ينبغي أن تكون في ولده زين العابدين علي بن الحسين؛ وأنها ينبغي ألا تخرج إلى خارج أبناء فاطمة رضي الله عنها، وانتهت هذه المجموعة-بعد انقسامات أخرى- إلى زعامة زيد بن علي بن الحسين، الذي قاد ثورة ضد هشام بن عبد الملك وانتهت بالفشل؛ لكنَّ زعامة زيد لم تكن الزعامة الوحيدة، فظلَّت شخصيات أخرى تقود حركة المعارضة؛ مثل: جعفر الصادق-الذي كانت معارضته سلمية، ولم يُحاول أن يثور على الأمويين- وعبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وابناه محمد «النفس الزكية»، وإبراهيم.
وكانت ثمة جماعة أخرى؛ هي العباسيون الذين لم يظهروا على مسرح الأحداث، ولم يُتوقَّع منهم خطر كبير.. لكنَّهم اكتسبوا قوَّة أخرى جديدة على غير ترتيب.. فكيف حصل هذا؟
وصية أبي هاشم عبد الله
ذكرنا أن زعامة المجموعة التي رأت انتقال الإمامة إلى محمد ابن الحنفية انتهت إلى ابنه أبي هاشم عبد الله، لكنَّ أبا هاشم لم يكن له ولد، فلما كان عائدًا ذات مرَّة من زيارة للخليفة الأمويبعض المؤرِّخين لم يصدق هذه الرواية، واعتبروها نوعًا من ادِّعاء الشرعية؛ الذي احتاج إليه العباسيون لينضمَّ إليهم العلويون في معركتهم ضدَّ الأمويين.. لكنَّ المؤرِّخين الأوائل أثبتوا هذه الواقعة في كتبهم وتلقَّوْهَا بالقبول.
والجدير بالذكر أن روايات البلاذري واليعقوبي والطبري استُقِيَتْ من مصدر واحد؛ هو إمَّا الهيثم بن عدي أو المدائني، وكلنا الروايتين على جانب لا يُستهان به من حيث صحَّة روايتهما التاريخية، كما أن الاختلاف في الأسلوب والألفاظ مع اتفاق المعنى يُؤَيِّد الصحَّة التاريخية، كما يذكر الوصية ابن سعد في الطبقات وابن حبيب في أسماء المغتالين، وابن قتيبة في المعارف، والمسعودي في مروج الذهب، والمجهول صاحب كتاب العيون والحدائق، والمجهول الآخر صاحب «أخبار الدولة العباسية»، كما ذكرها المتأخِّرُون من المؤرِّخين؛ مثل: ابن عبد ربه، والمقدسي، وابن عساكر، وابن الأثير، وابن خلكان، وابن خلدون، والمقريزي، وابن تغري بردي، والداؤدي، كما ذكرها مؤرِّخو الفرق؛ مثل: النوبختي، والقُمِّي، وذكرها الأشعري بقوله: «ويزعمون...»على أن الفهم المستقيم لهذه الوصية كما يبدو لنا هو تسليم نواة «تنظيم الدعوة» لآل البيت لمحمد بن علي؛ باعتبارها حركة سياسية إصلاحية ترى في تولِّي آل البيت للخلافة سبيلًا لإنهاء المظالم والانحرافات لدى الأمويين، لا على أنها دعوة دينية تُمَثِّل مذهبًا عقديًّا، يجعل استحقاق آل البيت بالخلافة واجبًا دينيًّا؛ إذ لم يثبت على أبي هاشم-فيما نعلم- انتحاله لغير مذهب أهل السنة والجماعة، ولا ورد عنه طعن في خلافة الشيخين أو عثمان، على أنه حتى إن افترضنا أنه كان يرى الخلافة استحقاقًا لآل البيت، ويرى عليًّا الأولى بها، فإن الوصية لمحمد لا تعني كذلك أكثر من تسليم أمر التنظيم ليُكمل المهمَّة، ولا يثبت هذا أنه كان على علم بالغيب، أو أن لديه علمًا خاصًّا بأن الخلافة في العباسيين!
أقام محمد بن علي العزاء لأبي هاشم، ثم جمع مَنْ كان عنده من أنصار أبي هاشم، وقال لهم: «لئن كنتم أصبتم بموته لقد خصصت بذلك منه، وقد جمعني وإياكم القيام بهذا الأمر، وعلمت منه كثيرًا مما لم تعلموا؛ فاتقوا الله ربكم، وحافظوا على هذا الحقِّ الذي سعيتم في إقامته، واحفظوا ألسنتكم فلا تطلقوها إلَّا في مواضع النفع والغناء، وتصبروا للمكروه فقد قرن بكم، فإن حفظتم ذلك فأنتم شيعتي وخاصتي، وأولى الناس بي في محياي ومماتي»فاستوعب محمد أتباع أبي هاشم؛ لكنه انتظر حتى يأتي أكبر أتباع أبي هاشم وأوثقهم، وهو سلمة بن بجيروبهذا بدأت مرحلة من الدعوة والعمل السرِّي استغرقت ثلاثين سنة، بدأت في نهاية القرن الأول الهجري (97 أو 98 أو 100 هـ، بحسب اختلاف الروايات) وحتى 129 هـ، حين أُعلنت الدعوة في خراسان.
نشر في ساسة بوست
ابن حبان: مشاهير علماء الأمصار ص207، وابن عساكر: تاريخ دمشق 54/ 365 وما بعدها، وابن خلكان: وفيات الأعيان 4/ 186، والصفدي: الوافي بالوفيات 4/ 77، 78، وابن حجر: نزهة الألباب ص361، والزركلي: الأعلام 6/ 271. ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 313. د. فتحي أبو سيف: الدولة العباسية والمشرق الإسلامي ص13، 15. الذهبي: سير أعلام النبلاء 6/ 58. هو الوليد بن عبد الملك، أو سليمان بن عبد الملك بحسب اختلاف الروايات. الأشعري: مقالات الإسلاميين ص21. د. فاروق عمر: الثورة العباسية ص32 وما بعدها، وذكرها-أيضًا- المحدث والمؤرخ الكبير الإمام الذهبي في: سير أعلام النبلاء 4/ 129، وتاريخ الإسلام 6/ 406، والمحدث الإمام المزي في تهذيب الكمال 16/ 86. ابن سعد: الطبقات الكبرى (القسم المتمم) ص244، ومجهول: أخبار الدولة العباسية ص189. وسلمة هذا هو ابن بجير بن عبد الله، وأبوه كان-أيضًا- من قادة أتباع محمد بن الحنفية، ومن كبار القادة مع المختار بن عبيد الثقفي. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص190.
Published on September 08, 2016 23:21
كيف نظر المستشرقون والغربيون إلى الحج؟
الحج بطبيعته ضد العلمانية وضد القُطْرية، فإنه يجمع الناس على قاعدة دينية!
عُرِف الحج في الهندوسية والبوذية واليهودية والمسيحية مما يدل على أن الاجتماع الديني قديم ضارب في أعماق الزمان وفي الفطرة الإنسانية، وهو جزء من كون الدين حقيقة إنسانية عميقة. غير أن الحج في الإسلام يمثل نظاما مختلفا لكون الإسلام حضارة ومنهجا للحياة، فهو جزء من طريقة الإسلام في تنظيم الحياة وإنشاء الحضارة.
وفي اللحظة التي تُشَنَّ الحروب على المسلمين وهويتهم، يكون المسلمون أحوج إلى هذا التذكير السنوي بمعنى الأمة الذي يُراد نزعه من النفوس لتثبيت التقسيم الجغرافي والسياسي الذي صنعته الجيوش الغربية في بلادنا، فالحج يقاوم زرع ولاءات تكون أعظم من الدين كالوطنية والقومية والإقليمية واللغوية والعرقية، ولذلك ترصد الكتابات الاستشراقية مغزاه وأهدافه السياسية برغم كون المسلمين يؤدونه كعبادة شعائرية.
في الحج يُعاد جمع الأمة وتعريفها بنفسها (أمة الإسلام) وبأصلها (إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام) وبوحيها (الكعبة) وبنبيها (خذوا عني مناسككم) وبأرضها المقدسة (مكة) وبعدوها (الشيطان وحزبه) وبرسالتها (العبادة والجهاد)، وبآمالها في التوحد والنظام، أن تكون الأمة كالحجيج: اتفاق في المظهر والحركة والغاية وإن اختلفت الألوان واللغات والبلدان والأعراق والسمات! وبحقيقة الحياة؛ فليس من مشهد أقوى في الجهاد والزهد من مشهد ذوي الأكفان البيضاء المتجردين من كل متاع الدنيا. لكل هذا فإن مشهد الحج هو المشهد المناقض لكل ما تريد الهيمنة الغربية أن تحققه!!
(1) المستشرقون والحج
حَضَرَتْ رحلةُ الحج في الدراسات الغربية بطريقيْن؛ الأول: دراسات المستشرقين التي اضطرت لتناول الحج لكونه الركن الخامس من أركان الإسلام، ولهذا فإنه موضوع حاضر في الدراسات البسيطة المختصرة والدراسات الموسعة معا. والثاني: كتب الرحالة الغربيين الذين حرص بعضهم على التنكر وحضور الحج بنفسه أو ساقته أقداره إلى الحج مثل فارتيما الإيطالي وبوركهارت السويسري وسنوك هروخرونيه الهولندي –والذي أعد رسالته للدكتوراة عن الحجوتعددت الآراء والأنظار في فهم الحج ومعانيه وآثاره، ونظر إليه كل مستشرق في سياق بحثه، ففي تحليله لانتشار دعوة الإسلام يقول المستشرق البريطاني المعروف توماس أرنولد: "إن السيف كان يُمْتَشَق أحيانًا لتأييد قضية الدين، ولكن الدعوة والإقناع -وليس القوة والعنف- كانا هما الطابعين الرئيسين لحركة الدعوة هذه، وإن النجاح الرائع هو الذي أحرزه التجار بنوع خاصٍّ، الذين كسبوا السبيل إلى قلوب الأهالي ... وإلى جانب التجار كانت هناك جموعٌ ممن يصحُّ أن نُسَمِّيَهم الدعاة المحترفين، وهم الفقهاء والحُجَّاج"وفي تحليله لأوضاع المسلمين في إفريقيا يقول إيوان ميردين لويس –وهو عميد المستشرقين البريطانيين في الشأن الإفريقي- بأن الحج من أدوات الإسلام في صناعة هوية مشتركة، فالإسلام "يُوجِد رابطة هوية ومصلحة مشتركة تجمع بين المسلمين ذوي الأصول العرقية والانتماءات السياسية المختلفة، وذلك ضمن الظروف المتغايرة في حياة المدن. هذا الاعتراف بتضامن إسلامي أوسع يتجسد بصورة حية في اشتراك الإفريقيين الواسع في الحج إلى مكة"، كما يشير إلى أثر الحج في انتقال اللغة العربية أساليبها ومفرداتها وحروفها الهجائية إلى أقصى شعوب الشرق الإسلامية كالملايو وسومطرة، فـ "الإسلام –بما فيه الحج- شبكة من الاتصالات مع الخارج"ويظل المعنى الإيجابي الأبرز الذي كرره جمهور المستشرقين هو ما في الحج من دلائل المساواة بين الناس في الإسلام، يقول الكولونيل البريطاني المعجب بحياة المسلمين رونالد فيكتور بودلي: "الحج أعظم شاهد على ديمقراطية الإسلام؛ فهناك يجتمع المسلمون الأوربيون والآسيويون والإفريقيون، والصعاليك والأمراء، والتجار والمقاتلون في نفس الإزار البسيط الذي كان محمد [صلى الله عليه وسلم] وأتباعه يرتدونه في حجة الوداع عام (632هـ)، إنهم جميعًا يتناولون نفس الطعام، ويتقاسمون نفس الخيام، ويُعَامَلُون دون تمييز، سواء أجاءوا من مرافئ سيراليون أم من قصر نظام حيدر أباد، إنهم جميعًا مسلمون"ومثله يقول المستشرق الأمريكي المشهور ذو الأصول اللبنانية فيليب حتي: "الحقُّ أن الإسلام قد وُفِّقَ أكثر من أديان العالم جميعًا إلى القضاء على فوارق الجنس واللون والقومية، وخاصة بين أبنائه، ولا شكَّ في أن الاجتماع في موسم الحجِّ له الفضل الأكبر في تحقيق هذه الغاية"وعلى الناحية الأخرى فأبرز المعاني السلبية التي كررها المستشرقون في شأن الحج هو مسألة "الوثنية"، حتى إن بعض المنصفين مثل دينيس سورا يقول: "إن محمدا يكاد يكون هو الوحيد الذي نعرفه عن طريق التاريخ من بين عظماء مؤسسي الأديان، إذ أن الخرافات لم تستطع أن تخيفه... فقد كان العرب يعبدون الجن والأرواح التي تقطن الأحجار، إلى جانب عدد من آلهة القبائل المختلفة. ولقد محا الإسلام هذا كله، ولم يبق منه سوى الحجر الأسود. فقد ظل موطن القداسة الجوهرية. إذ وضعه محمد تحت حماية الخليل إبراهيم. ومن الممكن أن تكون هذه سياسة قصد بها التوفيق. كما يمكن أن يكون ذلك ناشئا عن احترام شخصي"(2) الرحلات الغربية إلى الحج
وأما الرحلات الغربية إلى الحج، فلقد كان أول من ادعى الوصول إلى مكة المكرمة هو جون كابوت (1480م) أي قبل سقوط الأندلس باثني عشر عاما، لكن لم يصل إلينا شيء مما كتبه، أما أول ما وصلنا فهو رحلة الإيطالي لودفيجودي فارتيما (1503م) والذي انتحل اسم يونس المصري وصفة جندي مملوكي، ثم جوزيف بتس الذي حج باسم "يوسف" (1680ه)، ثم تبعه الإسباني دومنيكو باديا ليبليج (1807م) باسم "علي العباسي"، ثم تبعه الرحالة السويسري المشهور جون لويس بوركهارت الذي انتحل اسم "إبراهيم" ووصل إلى مكة (1814م)، ثم الرحالة البريطاني ريتشارد بيرتون متخذا اسم "عبد الله" وصفة طبيب هندي ذي أصول أفغانية (1853م)، ثم الفرنسي جيل جورفيه كورتلمون متخذا اسم "عبد الله بن البشير" (1894م).
ولقد تعددت أغراض الرحلة إلى الحج، فثمة من كان مجبرا على ذلك لكونه عبدا مثل جوزيف بتس، وثمة من كان دافعه الفضول كما نرجح في كتابات من لم تشي كتاباتهم بغرض آخر، وثمة من تبدو في رحلته الأغراض التجسسية كما في رحلة بيرتون البريطاني، وثمة من تصرح الدلائل حوله أن غرضه كان استعماريا قحا كما في رحلة هروخرونيه الهولندي.
وبالعموم فلئن غابت التجربة الروحية بالعموم عن الدراسات الغربية، فإنها قد تميزت برصدها الآثار الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بأكثر مما تعرضت له الرحلات العربية الإسلامية، وبعض ذلك راجع إلى العين الغريبة التي تنظر إلى الحدث الجديد فترصد فيه ما لا يلمحه من اعتاد عليه وبعضه الآخر راجع إلى مهمة الرحالة المهتمة بجمع المعلومات، بالإضافة لأمور أخرى.
لكل هذا كانت الرحلات الغربية إلى الحج أكثر ثراء في وصف المجتمعات الإسلامية وثقافاتها وعاداتها وطرق الحج من الرحلات العربية والإسلامية.
نشر في عربي 21
انظر ترجمة موسعة له ومناقشة لمواقفه ورسالته عند: قاسم السامرائي، الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية، ط1 (الرياض: دار الرفاعي، 1983م)، ص110 وما بعدها.وكتاب هروخرونيه حافل بالتفاصيل حتى أقرَّ د. محمد موسى الشريف بأن اختصاره متعذر بسبب "ضخامة المعلومات الواردة فيه وأهميتها وصعوبة اختصارها"، انظر: محمد موسى الشريف، المختار من الرحلات الحجازية إلى مكة والمدينة النبوية، ط1 (جدة: دار الأندلس الخضراء، 2000م)، 1/10. توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرون، (القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1980م)، ص445. آي إم لويس، الحدود القصوى للإسلام في إفريقيا وآسيا، ضمن "تراث الإسلام"، بإشراف: شاخت وبوزوروث، ترجمة د. محمد زهير السمهوري وآخرين، سلسلة عالم المعرفة 8 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1985م)، 1/135، 179. ر. ف. بودلي، الرسول حياة محمد، ترجمة: محمد محمد فرج وعبد الحميد جودة السحار، (القاهرة: مكتبة مصر، بدون تاريخ).، ص339. فيليب حتي، العرب تاريخ موجز، (بيروت: دار العلم للملايين، 1991م)، ص60. زكريا هاشم زكريا، المستشرقون والإسلام، (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1965م)، ص221.
عُرِف الحج في الهندوسية والبوذية واليهودية والمسيحية مما يدل على أن الاجتماع الديني قديم ضارب في أعماق الزمان وفي الفطرة الإنسانية، وهو جزء من كون الدين حقيقة إنسانية عميقة. غير أن الحج في الإسلام يمثل نظاما مختلفا لكون الإسلام حضارة ومنهجا للحياة، فهو جزء من طريقة الإسلام في تنظيم الحياة وإنشاء الحضارة.
وفي اللحظة التي تُشَنَّ الحروب على المسلمين وهويتهم، يكون المسلمون أحوج إلى هذا التذكير السنوي بمعنى الأمة الذي يُراد نزعه من النفوس لتثبيت التقسيم الجغرافي والسياسي الذي صنعته الجيوش الغربية في بلادنا، فالحج يقاوم زرع ولاءات تكون أعظم من الدين كالوطنية والقومية والإقليمية واللغوية والعرقية، ولذلك ترصد الكتابات الاستشراقية مغزاه وأهدافه السياسية برغم كون المسلمين يؤدونه كعبادة شعائرية.
في الحج يُعاد جمع الأمة وتعريفها بنفسها (أمة الإسلام) وبأصلها (إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام) وبوحيها (الكعبة) وبنبيها (خذوا عني مناسككم) وبأرضها المقدسة (مكة) وبعدوها (الشيطان وحزبه) وبرسالتها (العبادة والجهاد)، وبآمالها في التوحد والنظام، أن تكون الأمة كالحجيج: اتفاق في المظهر والحركة والغاية وإن اختلفت الألوان واللغات والبلدان والأعراق والسمات! وبحقيقة الحياة؛ فليس من مشهد أقوى في الجهاد والزهد من مشهد ذوي الأكفان البيضاء المتجردين من كل متاع الدنيا. لكل هذا فإن مشهد الحج هو المشهد المناقض لكل ما تريد الهيمنة الغربية أن تحققه!!
(1) المستشرقون والحج
حَضَرَتْ رحلةُ الحج في الدراسات الغربية بطريقيْن؛ الأول: دراسات المستشرقين التي اضطرت لتناول الحج لكونه الركن الخامس من أركان الإسلام، ولهذا فإنه موضوع حاضر في الدراسات البسيطة المختصرة والدراسات الموسعة معا. والثاني: كتب الرحالة الغربيين الذين حرص بعضهم على التنكر وحضور الحج بنفسه أو ساقته أقداره إلى الحج مثل فارتيما الإيطالي وبوركهارت السويسري وسنوك هروخرونيه الهولندي –والذي أعد رسالته للدكتوراة عن الحجوتعددت الآراء والأنظار في فهم الحج ومعانيه وآثاره، ونظر إليه كل مستشرق في سياق بحثه، ففي تحليله لانتشار دعوة الإسلام يقول المستشرق البريطاني المعروف توماس أرنولد: "إن السيف كان يُمْتَشَق أحيانًا لتأييد قضية الدين، ولكن الدعوة والإقناع -وليس القوة والعنف- كانا هما الطابعين الرئيسين لحركة الدعوة هذه، وإن النجاح الرائع هو الذي أحرزه التجار بنوع خاصٍّ، الذين كسبوا السبيل إلى قلوب الأهالي ... وإلى جانب التجار كانت هناك جموعٌ ممن يصحُّ أن نُسَمِّيَهم الدعاة المحترفين، وهم الفقهاء والحُجَّاج"وفي تحليله لأوضاع المسلمين في إفريقيا يقول إيوان ميردين لويس –وهو عميد المستشرقين البريطانيين في الشأن الإفريقي- بأن الحج من أدوات الإسلام في صناعة هوية مشتركة، فالإسلام "يُوجِد رابطة هوية ومصلحة مشتركة تجمع بين المسلمين ذوي الأصول العرقية والانتماءات السياسية المختلفة، وذلك ضمن الظروف المتغايرة في حياة المدن. هذا الاعتراف بتضامن إسلامي أوسع يتجسد بصورة حية في اشتراك الإفريقيين الواسع في الحج إلى مكة"، كما يشير إلى أثر الحج في انتقال اللغة العربية أساليبها ومفرداتها وحروفها الهجائية إلى أقصى شعوب الشرق الإسلامية كالملايو وسومطرة، فـ "الإسلام –بما فيه الحج- شبكة من الاتصالات مع الخارج"ويظل المعنى الإيجابي الأبرز الذي كرره جمهور المستشرقين هو ما في الحج من دلائل المساواة بين الناس في الإسلام، يقول الكولونيل البريطاني المعجب بحياة المسلمين رونالد فيكتور بودلي: "الحج أعظم شاهد على ديمقراطية الإسلام؛ فهناك يجتمع المسلمون الأوربيون والآسيويون والإفريقيون، والصعاليك والأمراء، والتجار والمقاتلون في نفس الإزار البسيط الذي كان محمد [صلى الله عليه وسلم] وأتباعه يرتدونه في حجة الوداع عام (632هـ)، إنهم جميعًا يتناولون نفس الطعام، ويتقاسمون نفس الخيام، ويُعَامَلُون دون تمييز، سواء أجاءوا من مرافئ سيراليون أم من قصر نظام حيدر أباد، إنهم جميعًا مسلمون"ومثله يقول المستشرق الأمريكي المشهور ذو الأصول اللبنانية فيليب حتي: "الحقُّ أن الإسلام قد وُفِّقَ أكثر من أديان العالم جميعًا إلى القضاء على فوارق الجنس واللون والقومية، وخاصة بين أبنائه، ولا شكَّ في أن الاجتماع في موسم الحجِّ له الفضل الأكبر في تحقيق هذه الغاية"وعلى الناحية الأخرى فأبرز المعاني السلبية التي كررها المستشرقون في شأن الحج هو مسألة "الوثنية"، حتى إن بعض المنصفين مثل دينيس سورا يقول: "إن محمدا يكاد يكون هو الوحيد الذي نعرفه عن طريق التاريخ من بين عظماء مؤسسي الأديان، إذ أن الخرافات لم تستطع أن تخيفه... فقد كان العرب يعبدون الجن والأرواح التي تقطن الأحجار، إلى جانب عدد من آلهة القبائل المختلفة. ولقد محا الإسلام هذا كله، ولم يبق منه سوى الحجر الأسود. فقد ظل موطن القداسة الجوهرية. إذ وضعه محمد تحت حماية الخليل إبراهيم. ومن الممكن أن تكون هذه سياسة قصد بها التوفيق. كما يمكن أن يكون ذلك ناشئا عن احترام شخصي"(2) الرحلات الغربية إلى الحج
وأما الرحلات الغربية إلى الحج، فلقد كان أول من ادعى الوصول إلى مكة المكرمة هو جون كابوت (1480م) أي قبل سقوط الأندلس باثني عشر عاما، لكن لم يصل إلينا شيء مما كتبه، أما أول ما وصلنا فهو رحلة الإيطالي لودفيجودي فارتيما (1503م) والذي انتحل اسم يونس المصري وصفة جندي مملوكي، ثم جوزيف بتس الذي حج باسم "يوسف" (1680ه)، ثم تبعه الإسباني دومنيكو باديا ليبليج (1807م) باسم "علي العباسي"، ثم تبعه الرحالة السويسري المشهور جون لويس بوركهارت الذي انتحل اسم "إبراهيم" ووصل إلى مكة (1814م)، ثم الرحالة البريطاني ريتشارد بيرتون متخذا اسم "عبد الله" وصفة طبيب هندي ذي أصول أفغانية (1853م)، ثم الفرنسي جيل جورفيه كورتلمون متخذا اسم "عبد الله بن البشير" (1894م).
ولقد تعددت أغراض الرحلة إلى الحج، فثمة من كان مجبرا على ذلك لكونه عبدا مثل جوزيف بتس، وثمة من كان دافعه الفضول كما نرجح في كتابات من لم تشي كتاباتهم بغرض آخر، وثمة من تبدو في رحلته الأغراض التجسسية كما في رحلة بيرتون البريطاني، وثمة من تصرح الدلائل حوله أن غرضه كان استعماريا قحا كما في رحلة هروخرونيه الهولندي.
وبالعموم فلئن غابت التجربة الروحية بالعموم عن الدراسات الغربية، فإنها قد تميزت برصدها الآثار الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بأكثر مما تعرضت له الرحلات العربية الإسلامية، وبعض ذلك راجع إلى العين الغريبة التي تنظر إلى الحدث الجديد فترصد فيه ما لا يلمحه من اعتاد عليه وبعضه الآخر راجع إلى مهمة الرحالة المهتمة بجمع المعلومات، بالإضافة لأمور أخرى.
لكل هذا كانت الرحلات الغربية إلى الحج أكثر ثراء في وصف المجتمعات الإسلامية وثقافاتها وعاداتها وطرق الحج من الرحلات العربية والإسلامية.
نشر في عربي 21
انظر ترجمة موسعة له ومناقشة لمواقفه ورسالته عند: قاسم السامرائي، الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية، ط1 (الرياض: دار الرفاعي، 1983م)، ص110 وما بعدها.وكتاب هروخرونيه حافل بالتفاصيل حتى أقرَّ د. محمد موسى الشريف بأن اختصاره متعذر بسبب "ضخامة المعلومات الواردة فيه وأهميتها وصعوبة اختصارها"، انظر: محمد موسى الشريف، المختار من الرحلات الحجازية إلى مكة والمدينة النبوية، ط1 (جدة: دار الأندلس الخضراء، 2000م)، 1/10. توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرون، (القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1980م)، ص445. آي إم لويس، الحدود القصوى للإسلام في إفريقيا وآسيا، ضمن "تراث الإسلام"، بإشراف: شاخت وبوزوروث، ترجمة د. محمد زهير السمهوري وآخرين، سلسلة عالم المعرفة 8 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1985م)، 1/135، 179. ر. ف. بودلي، الرسول حياة محمد، ترجمة: محمد محمد فرج وعبد الحميد جودة السحار، (القاهرة: مكتبة مصر، بدون تاريخ).، ص339. فيليب حتي، العرب تاريخ موجز، (بيروت: دار العلم للملايين، 1991م)، ص60. زكريا هاشم زكريا، المستشرقون والإسلام، (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1965م)، ص221.
Published on September 08, 2016 23:00