محمد إلهامي's Blog, page 43
September 6, 2016
الأتراك في بلاط الخلافة العباسية
مَثَل التمزق والفرقة التي أصابت العرب كمثل الذي أصاب الفرس، إلى جانب تنامي قوة الشعوبية الفارسية التي تطمح إلى إعادة ملك الفرس وأمجادهم، مما جعل الاعتماد على العناصر الفارسية في القتال أمرا لا يُطْمَأنُّ إليه تمامًا، فبدأ المأمون وعبر أخيه إبي إسحاق (المعتصم) في ضم الجند من العناصر التركية التي ما زالت تحتفظ بالقوة والبداوة والشجاعة ولم تصبها فرقة كالتي أصابت العرب والفرسفكان المعتصم يرسل مبعوثه جعفر الخشكي إلى سمرقند حيث نوح بن أسد الساماني، ليشتري الأتراك ليكونوا العنصر القوي الجديد؛ الذي يمثل عصب جيش الخلافة، وكان هذا يتكرر سنويًّا في عملية دورية مستمرة؛ حتى مات المأمون وقد بلغ عدد الأتراك مع المعتصم نحو ثلاثة آلافوحين تولى المعتصم الخلافة كان الوضع أمامه مضطربا معقدا، على هذا النحو:
ثورة بابك في أذربيجان تستفحل ولا يكاد ينفع معها قائدٌ فارسٌ ولا جيشٌ باسلٌ، وقد زادت خطورتها بالتحالف الذي تم بين بابك وبين الروم، فصار هؤلاء يقتنصون فرصة انشغال أولئك بحرب المسلمين معهم فيهجموا من ناحيتهم، كذلك ثورة الزط في البصرة وما حولها لا تزال قائمة ولئن استمرت فإن بغداد ستدخل في حالة ركود تجاري وأزمة اقتصادية مؤثِّرة .. هذا على مستوى الاضطرابات.
وأما على مستوى رجال الدولة فقد "وجد المعتصم نفسه في وضع حرج، فقد خيَّب المأمون أمل الخراسانيين من جديد بنكبته لبني سهل وبتركه لمرو ورجوعه إلى بغداد، وكان العرب في وضع متضعضع بعد مقتل الأمين، وزاد الطين بلة التفاف قسم كبير من الخراسانيين وجندهم حول العباس بن المأمون ضد المعتصم، فنَكَّل بزعمائهم وأساء الظن بهم، وكانت الدولة مهددة بثورة بابك المستفحلة، وبخطر البيزنطيين على الحدود، وبتذمر أهل الشام ومصر، فكان المعتصم بحاجة إلى عنصر عسكري جديد يسند سلطانه، فالتجأ إلى عنصر بدأ يتوارد كرقيق إلى البلاد الإسلامية قبله، كما أخذ الإسلام ينتشر في بلاده بصورة بطيئة، وذلك هو عنصر الترك... وكانت خطوة المعتصم هذه بعيدة المدى بنتائجها، فالترك آنئذ شعب بدوي ميزته الوحيدة الشجاعة العسكرية، فهو لا يفهم الأسس المعنوية للدولة العباسية، ولا خبرة له بالإدارة، ومجرَّد من كل ثقافة"على أنه ينبغي أن ننتبه إلى أن بداية الأتراك لم تكن من المعتصم، وإنما بدأت منذ المأمون، إلَّا أنَّ المعتصم استكثر منهم فزاد في شرائهم من بلادهم بل واشترى ما كان منهم مملوكا في بغداد من أصحابهمثم إن المعتصم بطبيعته الأقرب إلى العسكرية من المدنية ركز كل اهتمامه على تقوية الجانب العسكري فقيل في شأنه "مَلَكَ من آلات الحرب والدواب ما لم يتفق لغيره"وهكذا، فلئن كان المأمون قد خاف من مساهمة الجند والأمراء في الانقلاب على أصحاب الخلافة كالأمين وإبراهيم بن المهدي فقد رأى المعتصم كيف كان هذا وشيكا عليه هو ذاته!
وإذن فقد كانت المزية الكبرى للأتراك متمثلة في قوتهم العسكرية مع خُلُوِّهم من الأفكار المتمردة كالشعوبية والعلوية والخارجية، فيما كانت المشكلة الكبرى أنهم قوم بلا حضارة، يغلب عليهم طابع الجفاء والغلظة، غير مستوعبين للمعاني المدنية الحضارية والأصول التي قامت عليها الخلافة العباسية.
وقد زرع الأتراك على هذين السبيلين أعمالًا مؤثِّرة، فلقد انتفعت الدولة والخلافة بقوتهم العسكرية أيما انتفاع ولكنها انتكست بعسكريتهم وبداوتهم وجهلهم بالحضارة والمدنية أسوأ انتكاس!
فعلى المستوى العسكري:
أنقذوا الدولة العباسية عسكريًّا، وحافظوا على بقائها، وحاربوا الثورات التي اشتعلت في الشرق والغرب والشمال والجنوب وأخمدوها، وبهم ظلت الخلافة العباسية كيانا يحتفظ بالقوة والصلابة والوجود .. وسيأتي هذا مفصلا في سياق استعراضنا لتاريخ الدولة العباسية، ولربما لو أن المعتصم لم يهتد لاستخدام الجند الأتراك لكانت الخلافة العباسية نسخة أخرى من الخلافة الأموية التي ما أكملت المائة عام حتى انهارت بعد أن أنهكتها الثورات وحركات التمرد .. لقد أعطى الأتراك دولة العباسيين مائة عام على الأقل من الحياة!
ولم تكن قوة الأتراك العسكرية كقوة الفارسيين بل كان التركي أقوى وأصبر على القتال بطبيعته البدوية حتى إنه إذا «سار التركي في غير عساكر الترك، فسار القوم عشرة أميال سار عشرين ميلًا؛ لأنه ينقطع عن العسكر يمنةً ويسرة، ويسرع في ذرى الجبال، ويستبطن قعور الأودية في طلب الصيد؛ وهو في ذلك يرمي كل ما دب ودرج، وطار ووقع، (فإذا ضعف الناس عن المسير واستكانوا للراحة) ترى التركي في تلك الحال وقد سار ضعف ما ساروا وقد أتعب منكبيه كثرة النزع، يرى قرب المنزل عيرًا أو ظبيًا، أو عرض له ثعلب أو أرنب، فيركض ركض مبتدئ مستأنف، كأن الذي سار ذلك السير وتعب ذلك التعب غيره»، كما أن التركي -أيضًا- قليل التكلفة يقوم بشئونه، فهو «الراعي، وهو السائس وهو الراكض، وهو النخاس، وهو البيطار، وهو الفارس، والتركي الواحد أُمَّةٌ على حدة»وبالجملة: فالأتراك "في الحرب كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصين في الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزلنا، وكآل ساسان في الملك والرياسة"وعلى مستوى البداوة والجهل بالمدنية والحضارة:
بدا واضحًا منذ اللحظة الأولى أن القوم عسكريون وبدو أقحاح، فنشبت بينهم وبين أهل بغداد الاشتباكات والمعارك فلا هؤلاء استوعبوا أنهم في عاصمة الدنيا ثقافة وحضارة ولا هؤلاء تحملوا بينهم قوما بأخلاق العسكر والصحراء.
وأدرك المعتصم نفسه الفارق بين الأتراك وبين الفارسيين، وبدا متحسرا وهو يسأل إسحاق بن إبراهيم بن مصعب الطاهري -والي بغداد- في لحظة صفاء ومودة: "يا أبا الحسين، في قلبي أمر أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة وإنما بسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك. فقلت: قل يا سيدي يا أمير المؤمنين فإنما انا عبدك وابن عبدك: قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا واصطنعت أنا أربعة لم يفلح أحد منهم، قلت: ومن الذين اصطنعهم أخوك؟ قال: طاهر بن الحسين فقد رأيت وسمعت وعبد الله بن طاهر فهو الرجل الذي لم ير مثله وأنت فأنت والله لا يتعارض السلطان منك أبدًا وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد، وأنا اصطنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره وأشناس ففشل آيه وإيتاخ فلا شيء ووصيف فلا مغنى فيه. فقلت: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك أجيب على أمان من غضبك؟ قال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين أعزك الله نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها واستعمل أمير المؤمنين فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها. قال: يا إسحاق لمقاساة ما مر بي في طول هذه المدة أسهل علي من هذا الجواب"ومن الفوارق المهمَّة بين الفرس والأتراك أن علاقة العباسيين بالفارسيين كانت ثمرة دعاية طويلة كان الترك بعيدين عن تأثيرها، فلم يكن يربطهم بالخلفاء ولاء روحي أو تفاهم عقليوبعد وفاة المعتصم استولى القادة الأتراك شيئًا فشيئًا على مقدرات الدولة، وعظم نفوذهم، ودخلت بهم الدولة الإسلامية لأول مرة في مرحلة «الحكم العسكري»أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قلَّ ممتنعا عليهوتُملك باسمه الدنيا جميعًا ... وما من ذاك شيء في يديه
وقد تحمل المعتصم على هذا المستوى نقدًا كثيرًا من المؤرِّخين، غير أن أحدًا -فيما أعلم- لم يقدم بديلا كان على المعتصم اتخاذه في هذه الظروف العصيبة التي استلم فيها أمر الخلافة! وما من الإنصاف أن يتحمل المعتصم مسئولية ضعف الخلفاء من بعده وتسلط الأتراك عليهم، فكم من مريد للخير لا يدركه، والحمد لله الذي لم يعاملنا بنتائج أعمالنا بل جعل للمجتهد المخطئ أجرًا!
ولم يكن اعتماد الخلافة العباسية على الأتراك من الأمور التي مرت بسهولة آنذاك، بل نلمح في رسالة الفتح بن خاقان -وزير الخليفة المتوكل فيما بعد- إلى الجاحظ رفضا للقول بأن الأتراك عرق غير الخراسانيين ومحاولة كلها إلحاح وإصرار -وربما قلنا استعانت بالتلفيق والتدليس- للتقريب بينهما على هذا النحو «الخراساني والتركي أَخَوَان، وأن الحيِّز واحد، وأن حكم ذلك الشرق، والقضية على ذلك الصُّقع متفق غير مختلف، ومتقارب غير متفاوت. وأن الأعراق في الأصل إن لم تكن كانت راسخة فقد كانت متشابهة، وحدود البلاد المشتملة عليهم إن لم تكن متساوية فإنها متناسبة، وكلهم خراساني في الجملة وإن تميزوا ببعض الخصائص، فافترقوا ببعض الوجوه.
وزَعَمْتَلكن الزمان أكمل مسيرته، فقد كان زمان الخراسانيين في إدبار وزمان الأتراك في إقبال، وما هي إلا أعوام حتى صار الأتراك رجال الدولة، بل ودخلت الخلافة العباسية ذاتها «عصر سيطرة الأتراك»!!
نشر في تركيا بوست
ابن قتيبة: المعارف ص391، ومحمود شاكر: موسوعة التاريخ الإسلامي 5/ 210. اليعقوبي: البلدان ص55. المطهر المقدسي: البدء والتاريخ 6/ 112. د. عبد العزيز الدوري: دراسات في العصور العباسية المتأخرة ص12، 13. اليعقوبي: البلدان ص55، والمسعودي: مروج الذهب 2/ 440. ابن كثير: البداية والنهاية 10/ 325. المسعودي: مروج الذهب 2/ 440. ابن كثير: البداية والنهاية 10/ 325. المسعودي: مروج الذهب 2/ 440. الجاحظ: رسائل الجاحظ 1/ 48 وما بعدها. الجاحظ: رسائل الجاحظ 1/ 72. الجاحظ: رسائل الجاحظ 1/ 71. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 272. د. عبد العزيز الدوري: العصر العباسي الأول ص178. من أسوأ ما تبتلى به أمة أن تكون الطبقات العسكرية هي الحاكمة، فهذا أول علامات انهيار الحضارة وانحسارها، وقلما انتهى الحكم العسكري لبلد إلا بغزو خارجي يمثل النهاية الطبيعية والثمن الفادح للاستبداد العسكري. قيل هو المقتدر العباسي - وهذا بعيد كما سنرى عن عهد المقتدر فيما بعد- وقيل هو هشام المؤيد بالله الأموي في الأندلس وهو أقرب وقيل غيرهما. الكلام هنا على لسان الجاحظ في رسالته للرد على الفتح بن خاقان. الجاحظ: رسائل الجاحظ 1/ 9 وما بعدها.
ثورة بابك في أذربيجان تستفحل ولا يكاد ينفع معها قائدٌ فارسٌ ولا جيشٌ باسلٌ، وقد زادت خطورتها بالتحالف الذي تم بين بابك وبين الروم، فصار هؤلاء يقتنصون فرصة انشغال أولئك بحرب المسلمين معهم فيهجموا من ناحيتهم، كذلك ثورة الزط في البصرة وما حولها لا تزال قائمة ولئن استمرت فإن بغداد ستدخل في حالة ركود تجاري وأزمة اقتصادية مؤثِّرة .. هذا على مستوى الاضطرابات.
وأما على مستوى رجال الدولة فقد "وجد المعتصم نفسه في وضع حرج، فقد خيَّب المأمون أمل الخراسانيين من جديد بنكبته لبني سهل وبتركه لمرو ورجوعه إلى بغداد، وكان العرب في وضع متضعضع بعد مقتل الأمين، وزاد الطين بلة التفاف قسم كبير من الخراسانيين وجندهم حول العباس بن المأمون ضد المعتصم، فنَكَّل بزعمائهم وأساء الظن بهم، وكانت الدولة مهددة بثورة بابك المستفحلة، وبخطر البيزنطيين على الحدود، وبتذمر أهل الشام ومصر، فكان المعتصم بحاجة إلى عنصر عسكري جديد يسند سلطانه، فالتجأ إلى عنصر بدأ يتوارد كرقيق إلى البلاد الإسلامية قبله، كما أخذ الإسلام ينتشر في بلاده بصورة بطيئة، وذلك هو عنصر الترك... وكانت خطوة المعتصم هذه بعيدة المدى بنتائجها، فالترك آنئذ شعب بدوي ميزته الوحيدة الشجاعة العسكرية، فهو لا يفهم الأسس المعنوية للدولة العباسية، ولا خبرة له بالإدارة، ومجرَّد من كل ثقافة"على أنه ينبغي أن ننتبه إلى أن بداية الأتراك لم تكن من المعتصم، وإنما بدأت منذ المأمون، إلَّا أنَّ المعتصم استكثر منهم فزاد في شرائهم من بلادهم بل واشترى ما كان منهم مملوكا في بغداد من أصحابهمثم إن المعتصم بطبيعته الأقرب إلى العسكرية من المدنية ركز كل اهتمامه على تقوية الجانب العسكري فقيل في شأنه "مَلَكَ من آلات الحرب والدواب ما لم يتفق لغيره"وهكذا، فلئن كان المأمون قد خاف من مساهمة الجند والأمراء في الانقلاب على أصحاب الخلافة كالأمين وإبراهيم بن المهدي فقد رأى المعتصم كيف كان هذا وشيكا عليه هو ذاته!
وإذن فقد كانت المزية الكبرى للأتراك متمثلة في قوتهم العسكرية مع خُلُوِّهم من الأفكار المتمردة كالشعوبية والعلوية والخارجية، فيما كانت المشكلة الكبرى أنهم قوم بلا حضارة، يغلب عليهم طابع الجفاء والغلظة، غير مستوعبين للمعاني المدنية الحضارية والأصول التي قامت عليها الخلافة العباسية.
وقد زرع الأتراك على هذين السبيلين أعمالًا مؤثِّرة، فلقد انتفعت الدولة والخلافة بقوتهم العسكرية أيما انتفاع ولكنها انتكست بعسكريتهم وبداوتهم وجهلهم بالحضارة والمدنية أسوأ انتكاس!
فعلى المستوى العسكري:
أنقذوا الدولة العباسية عسكريًّا، وحافظوا على بقائها، وحاربوا الثورات التي اشتعلت في الشرق والغرب والشمال والجنوب وأخمدوها، وبهم ظلت الخلافة العباسية كيانا يحتفظ بالقوة والصلابة والوجود .. وسيأتي هذا مفصلا في سياق استعراضنا لتاريخ الدولة العباسية، ولربما لو أن المعتصم لم يهتد لاستخدام الجند الأتراك لكانت الخلافة العباسية نسخة أخرى من الخلافة الأموية التي ما أكملت المائة عام حتى انهارت بعد أن أنهكتها الثورات وحركات التمرد .. لقد أعطى الأتراك دولة العباسيين مائة عام على الأقل من الحياة!
ولم تكن قوة الأتراك العسكرية كقوة الفارسيين بل كان التركي أقوى وأصبر على القتال بطبيعته البدوية حتى إنه إذا «سار التركي في غير عساكر الترك، فسار القوم عشرة أميال سار عشرين ميلًا؛ لأنه ينقطع عن العسكر يمنةً ويسرة، ويسرع في ذرى الجبال، ويستبطن قعور الأودية في طلب الصيد؛ وهو في ذلك يرمي كل ما دب ودرج، وطار ووقع، (فإذا ضعف الناس عن المسير واستكانوا للراحة) ترى التركي في تلك الحال وقد سار ضعف ما ساروا وقد أتعب منكبيه كثرة النزع، يرى قرب المنزل عيرًا أو ظبيًا، أو عرض له ثعلب أو أرنب، فيركض ركض مبتدئ مستأنف، كأن الذي سار ذلك السير وتعب ذلك التعب غيره»، كما أن التركي -أيضًا- قليل التكلفة يقوم بشئونه، فهو «الراعي، وهو السائس وهو الراكض، وهو النخاس، وهو البيطار، وهو الفارس، والتركي الواحد أُمَّةٌ على حدة»وبالجملة: فالأتراك "في الحرب كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصين في الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزلنا، وكآل ساسان في الملك والرياسة"وعلى مستوى البداوة والجهل بالمدنية والحضارة:
بدا واضحًا منذ اللحظة الأولى أن القوم عسكريون وبدو أقحاح، فنشبت بينهم وبين أهل بغداد الاشتباكات والمعارك فلا هؤلاء استوعبوا أنهم في عاصمة الدنيا ثقافة وحضارة ولا هؤلاء تحملوا بينهم قوما بأخلاق العسكر والصحراء.
وأدرك المعتصم نفسه الفارق بين الأتراك وبين الفارسيين، وبدا متحسرا وهو يسأل إسحاق بن إبراهيم بن مصعب الطاهري -والي بغداد- في لحظة صفاء ومودة: "يا أبا الحسين، في قلبي أمر أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة وإنما بسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك. فقلت: قل يا سيدي يا أمير المؤمنين فإنما انا عبدك وابن عبدك: قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا واصطنعت أنا أربعة لم يفلح أحد منهم، قلت: ومن الذين اصطنعهم أخوك؟ قال: طاهر بن الحسين فقد رأيت وسمعت وعبد الله بن طاهر فهو الرجل الذي لم ير مثله وأنت فأنت والله لا يتعارض السلطان منك أبدًا وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد، وأنا اصطنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره وأشناس ففشل آيه وإيتاخ فلا شيء ووصيف فلا مغنى فيه. فقلت: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك أجيب على أمان من غضبك؟ قال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين أعزك الله نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها واستعمل أمير المؤمنين فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها. قال: يا إسحاق لمقاساة ما مر بي في طول هذه المدة أسهل علي من هذا الجواب"ومن الفوارق المهمَّة بين الفرس والأتراك أن علاقة العباسيين بالفارسيين كانت ثمرة دعاية طويلة كان الترك بعيدين عن تأثيرها، فلم يكن يربطهم بالخلفاء ولاء روحي أو تفاهم عقليوبعد وفاة المعتصم استولى القادة الأتراك شيئًا فشيئًا على مقدرات الدولة، وعظم نفوذهم، ودخلت بهم الدولة الإسلامية لأول مرة في مرحلة «الحكم العسكري»أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قلَّ ممتنعا عليهوتُملك باسمه الدنيا جميعًا ... وما من ذاك شيء في يديه
وقد تحمل المعتصم على هذا المستوى نقدًا كثيرًا من المؤرِّخين، غير أن أحدًا -فيما أعلم- لم يقدم بديلا كان على المعتصم اتخاذه في هذه الظروف العصيبة التي استلم فيها أمر الخلافة! وما من الإنصاف أن يتحمل المعتصم مسئولية ضعف الخلفاء من بعده وتسلط الأتراك عليهم، فكم من مريد للخير لا يدركه، والحمد لله الذي لم يعاملنا بنتائج أعمالنا بل جعل للمجتهد المخطئ أجرًا!
ولم يكن اعتماد الخلافة العباسية على الأتراك من الأمور التي مرت بسهولة آنذاك، بل نلمح في رسالة الفتح بن خاقان -وزير الخليفة المتوكل فيما بعد- إلى الجاحظ رفضا للقول بأن الأتراك عرق غير الخراسانيين ومحاولة كلها إلحاح وإصرار -وربما قلنا استعانت بالتلفيق والتدليس- للتقريب بينهما على هذا النحو «الخراساني والتركي أَخَوَان، وأن الحيِّز واحد، وأن حكم ذلك الشرق، والقضية على ذلك الصُّقع متفق غير مختلف، ومتقارب غير متفاوت. وأن الأعراق في الأصل إن لم تكن كانت راسخة فقد كانت متشابهة، وحدود البلاد المشتملة عليهم إن لم تكن متساوية فإنها متناسبة، وكلهم خراساني في الجملة وإن تميزوا ببعض الخصائص، فافترقوا ببعض الوجوه.
وزَعَمْتَلكن الزمان أكمل مسيرته، فقد كان زمان الخراسانيين في إدبار وزمان الأتراك في إقبال، وما هي إلا أعوام حتى صار الأتراك رجال الدولة، بل ودخلت الخلافة العباسية ذاتها «عصر سيطرة الأتراك»!!
نشر في تركيا بوست
ابن قتيبة: المعارف ص391، ومحمود شاكر: موسوعة التاريخ الإسلامي 5/ 210. اليعقوبي: البلدان ص55. المطهر المقدسي: البدء والتاريخ 6/ 112. د. عبد العزيز الدوري: دراسات في العصور العباسية المتأخرة ص12، 13. اليعقوبي: البلدان ص55، والمسعودي: مروج الذهب 2/ 440. ابن كثير: البداية والنهاية 10/ 325. المسعودي: مروج الذهب 2/ 440. ابن كثير: البداية والنهاية 10/ 325. المسعودي: مروج الذهب 2/ 440. الجاحظ: رسائل الجاحظ 1/ 48 وما بعدها. الجاحظ: رسائل الجاحظ 1/ 72. الجاحظ: رسائل الجاحظ 1/ 71. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 272. د. عبد العزيز الدوري: العصر العباسي الأول ص178. من أسوأ ما تبتلى به أمة أن تكون الطبقات العسكرية هي الحاكمة، فهذا أول علامات انهيار الحضارة وانحسارها، وقلما انتهى الحكم العسكري لبلد إلا بغزو خارجي يمثل النهاية الطبيعية والثمن الفادح للاستبداد العسكري. قيل هو المقتدر العباسي - وهذا بعيد كما سنرى عن عهد المقتدر فيما بعد- وقيل هو هشام المؤيد بالله الأموي في الأندلس وهو أقرب وقيل غيرهما. الكلام هنا على لسان الجاحظ في رسالته للرد على الفتح بن خاقان. الجاحظ: رسائل الجاحظ 1/ 9 وما بعدها.
Published on September 06, 2016 21:11
September 3, 2016
من آثار فشل الانقلاب التركي على الشرق الأوسط
** هذا نص كلمتي التي ألقيتها في مؤتمر "آثر محاولة الانقلاب في تركيا على العالم الإسلامي" والذي عقدته بلدية كوتاهية، واحتضنته جامعة Dumlupinar
(1) مصائر تركيا بين انقلابين
لئن ضعفت الدولة العثمانية في أواخر أيامها، وفقدت بعض أراضيها، إلا أنها ظلت قوة قائمة في الساحة العالمية، لكنها خرجت من ساحة القوى العالمية وبدأت مسار الانهيار الكبير منذ الانقلاب العسكري على السلطان عبد الحميد الثاني (1909م).
منذ تلك اللحظة انتصرت الإرادة الغربية على الإرادة الإسلامية في قلب عاصمة الخلافة الإسلامية، وبدأ حكم الاتحاد والترقي الذي افتتح عهده بالتخلي عن ليبيا بمجرد أن نزلها الإيطاليون في إعلان صريح أن الدولة العثمانية لا تهتم بهذا الإقليم، ثم نزل الاتحاديون بثقلهم في الحرب العالمية الأولى مما استنزف المجهود العثماني حيث تحملت الدولة العثمانية العبء الأكبر في تلك الحرب، ثم هُزِمت مع حلفائها وبدأت تفقد البقية الباقية من أراضيها وصارت تُعقد الاتفاقيات لتقسيم تركتها.
ثم جاء الحكم الجمهوري الذي انتزع نفسه من الجسد الإسلامي الكبير، واكتفى بأن يحكم المساحة الجغرافية الحالية لتركيا، وألغيت الخلافة الإسلامية، واتخذت إجراءات شرسة لمطاردة الإسلام، فانتهت الدولة العثمانية العظيمة إلى قطعة جغرافية صغيرة من الأرض منعزلة على نفسها تقطع صلاتها مع المسلمين في الشرق الأوسط والبلقان وآسيا الوسطى، وتنفض يدها من كل علاقة مع إفريقيا والهند وشرق آسيا.
يمكن اختصار هذا القرن الفائت كله في أنه صراع بين الإرادتين: الإرادة الغربية والإرادة الإسلامية في تركيا، فمنذ أتيحت الفرصة للشعب التركي ليعبر عن نفسه وهو يختار مملثي الإرادة الإسلامية، وما إن يبدأ هؤلاء في العمل الجاد حتى تتحرك الإرادة الغربية لتدبر انقلابا عسكريا يعيد تركيا من جديد إلى الإرادة الغربية، وهكذا وقع في تركيا أربعة انقلابات في نصف قرن، حتى عرفت بأنها بلد انقلاب كل عشر سنوات.
الآن فشل الانقلاب العسكري في تركيا، وكُسِرت تلك السلسلة العنيدة التي طالما كبلتها، وانتصرت لأول مرة منذ مائة عام إرادة الشعب التركي الإسلامية على إرادة العسكر العلمانيين، ولهذا فإن العالم الإسلامي يعيش استبشارا كبيرا أن يكون هذا الانقلاب الفاشل هو التصحيح التاريخ للانقلاب العسكري على السلطان عبد الحميد الثاني، لتبدأ دورة عودة تركيا كقوة عظمى إسلامية، ويكون جيشها بالفعل هو جيش محمد الذي طالما كان مضرب المثل في القوة والبسالة والعظمة الإسلامية.
إن أخبار الانقلاب في تركيا تابعها كل العالم، لأن الجميع يعرف أن مصير هذا الانقلاب فارق في مسيرة النظام العالمي كله.
(2) آمال الشعوب الإسلامية
أطلق انتصار الشعب التركي على محاولة الانقلاب العسكري دفقة أمل كبرى لدى الشعوب الإسلامية، لقد رأوا بأعينهم كيف أن الانقلاب العسكري أمر يمكن إفشاله وهزيمته، ولهذا صار كل قوم يفكرون في مصيرهم، فإن كانوا يعانون من انقلاب في بلدانهم (كما في مصر واليمن وليبيا إلى حد ما) صاروا يسألون أنفسهم: لماذا نجح الانقلاب عندنا وفشل في تركيا؟ وصاروا يناقشون الأمر يحاولون أخذ العبرة والعظة والاستفادة في معركتهم القائمة ضد الانقلاب في بلدهم. وإن كانوا يعانون من استبداد عسكري علماني صاروا يناقشون التجربة التركية في كيفية القضاء على الدولة العميقة وتحقيق انتصار شعبي.
وهكذا بات المسلمون في مساء الجمعة هذا والقلق يقتلهم إذ يتابعون أخبار الانقلاب العسكري، ثم أصبحوا والاسئلة تثور في أنفسهم: كيف يمكن الاستفادة من التجربة التركية. إن هذا الأمل وحده مكسب عظيم في معركة تحرر الأمة الإسلامية، وأول من يشعر به ويقدره هم المكافحون في معركة التحرير.
إن نجاح الانقلاب العسكري في تركيا كان يعني انهيار آخر قلعة إسلامية في هذا العالم، لا يُتصوَّر حجم اليأس والإحباط الذي كان سيخيم على كل المسلمين بل وعلى كل أحرار العالم إن نجح هذا الانقلاب، كان المشهد سيبدو قاتما مظلما: مشهد انتصار الشر في كل بقعة على سطح هذا الكوكب! مشهد ألم لا أمل فيه، وظلام لا شعلة فيه، وإن مجرد النجاة من هذا الإعصار من اليأس لنعمة كبرى نشكر الله عليها.
(3) ردود فعل الأنظمة العربية
وعلى قدر ما فرح المسلمون بفشل الانقلاب التركي على قدر ما نُكب حكامهم، أولئك الذين يحاربون كل تجربة ناجحة، وكل ثورة باسلة، وكل أمل في المستقبل.. يريدون أن يسود نموذجهم لكي لا تفكر الشعوب في ثورة، أو في تقدم، لا يريدون للناس أن يأملوا في وضع أفضل مما هم فيه، لا يحبون أن ترى الشعوب نموذجا ملهما!.. لكل هذا فإن الأنظمة المستبدة –العميلة للغرب- شاركت بالتخطيط أو التمويل أو حتى بوسائل الإعلام في تشويه التجربة التركية ودعم الانقلاب العسكري.
كذلك فإن المعارضة العلمانية في البلاد العربية تمنت نجاح الانقلاب التركي، رغم أنه يفترض بهم أن يقفوا ضده، فتجربة تركيا هي نموذج واضح لتجربة متقدمة راقية، إلا أن العلمانية عندهم هي العداء للإسلام، وأهون عندهم أن يتولى السلطة علمانيون مهما كان فسادهم ويعيش الشعب في الجحيم من أن يتولى السلطة من يوصفون بالإسلاميين وإن حققوا لشعبهم التقدم والرخاء.. نار العلمانية أحب إليهم من جنة الإسلام.
وفي كل الأحوال فالمتوقع الآن هو الاستمرار في تشويه التجربة التركية وزعيمها رجب طيب أردوغان، ومضاعفة الحرب الإعلامية عليها، وستنتقل الأنظمة العربية إلى مراحل أخرى جديدة، منها:
أ. دعم واحتضان جماعة جولن، التي ستجد أمامها مساحة واسعة من الدعم المالي والإعلامي وفتح المقرات وإنشاء المدارس والهيئات التابعة لها في البلاد العربية المناهضة للتجربة التركية، وأبرزها: الإمارات ومصر، وستحاول تلك الدول استمرار الوجه الإسلامي لهذه الجماعة في احتواء الجماعات الإسلامية الشبيهة والرموز الدينية الشبيهة أيضا، والمستهدف من هذا هو غسل سمعة هذه الجماعة وتحسين صورتها لدى الشعوب العربية مقابل استعمالها في التمكين لهذه الأنظمة العربية وتطويع الشعوب لها، واستمرار تشويه التجربة التركية وقادتها. ولذا ستجدون في الأيام القادمة وسائل إعلام تفتح شاشاتها وصحفها لفتح الله جولن وكبار أتباعه، كما ستجدون عددا من الهيئات التابعة لتلك الجماعة تنمو في البلاد العربية جهرا أو سرا.
ب. دعم المتمردين من الأحزاب العسكرية الانفصالية في تركيا، وذلك من خلال تقديم الأموال والخبرات العسكرية والتسهيلات الاستخبارية، إذ حيث لم ينجح الانقلاب العسكري في الاستيلاء على السلطة فليكن البديل هو الاستمرار في زعزعة أمن واستقرار البلاد لمناكفة هذه السلطة وإشغالها بنفسها وحصار تمددها إلى المنطقة العربية والإسلامية لتظل التجربة التركية مهددة بعدم الاستقرار فينعكس هذا بالسلب عليها في أنظار الشعوب العربية والإسلامية. ستجدون زيادة في دعم هذه الأحزاب المتمردة وستجدون ارتفاعا في سقف مطالبهم، وازديادا في قوة ووتيرة العمليات المسلحة، والهدف: إضعاف تركيا إن لم يكن تقسيمها من جديد مما يساهم في كسر قوتها المتنامية.
جـ. تمويل العمليات التفجيرية والتخطيط لها، وتسهيل تنفيذها، ثم نسبتها إلى أي جماعة مسلحة إسلامية أو كردية أو حتى يسارية، إذ أن اختراق هذه الجماعات مما احترفته أجهزة الاستخبارات العربية، والهدف من هذا أن تزيد معدلات إنهاك النظام التركي واستنزاف قوته حتى يُفرض الاستسلام على السياسة التركية لتعود من جديد إلى بيت الطاعة الأمريكي!
إن تركيا تحظى بانحياز الشعوب وتعاطفها الهائل، وهي في الوقت نفسه تحظى بعداء الأنظمة الحاكمة، وصحيحٌ أن تعاطف الشعوب لن يغني عنها كثيرا في مجال المؤامرات الخطيرة، إلا أن تركيا تستطيع أن تستثمر هذه العاطفة وتحولها إلى عمل حقيقي فعال. إن في تركيا الآن ملايين العرب والمسلمين اللاجئين إليها أو الذين فضلوا أن يعيشوا فيها على سائر البلاد في العالم، ولقد كان أولئك ضمن الذين نزلوا لمواجهة الانقلاب بأنفسهم ومنهم من استشهد ومنهم من أصيب. تستطيع تركيا أن تحول عاطفة هؤلاء إلى أثر حقيقي من خلال أعمال ومنظمات وهيئات تستفيد من هذه الطاقة الهادرة في المشروع التركي الكبير.
(4) وقفة مع الديمقراطية
تبدو الديمقراطية في عالمنا الآن كصنم لا ينفع ولا يضر، من جاء بالديمقراطية تزيحه الدبابات، ومن جاء بالدبابات لم يؤثر فيه التوسل بالديمقراطية؟
لقد كشف الانقلاب التركي عن أن كهنة الديمقراطية يمكنهم أن يعطوا الدروس في موضوع آخر تماما وهو "كيف تصنع انقلابا ناجحا على الديمقراطية"، فحتى فرنسا نسيت حادثة نيس التي تعرضت لها قبل الانقلاب في تركيا بساعات، ودخلت على خط مطالبة أردوغان باحترام القانون والقضاء وتوفير حقوق الانقلابيين! فانضمت بهذا إلى المعزوفة الغربية، هذه المعزوفة تثبت أن انتصار أردوغان في تركيا لم يكن انتصارا على حفنة من العسكريين، بل هو انتصار على العواصم الغربية التي تعاملت تماما وكأنها مهزومة تفتش في وسائل تحجيم المنتصر والتضييق عليه وإهدار مكاسبه!
لقد تابعتم جميعا التعليقات الأولى على الانقلاب وكيف كانت ترحب به، لكن المثير للانتباه هنا هو توجه وسائل الإعلام الغربية التي طفقت تسأل خبراءها الأمنيين والعسكريين سؤالا واحد: لماذا فشل الانقلاب في تركيا؟! والخبراء من جهتهم لم يقصروا في الإجابة، وكشفوا عن أمور "كان من المفترض" أن يقوم بها الانقلابيون كي ينجح انقلابهم! هل رأيتم كيف استطاع فلاسفة الديمقراطية أن يدرسوا مادة "كيف تصنع انقلابا ناجحا على الديمقراطية"؟!
نحن لو نظرنا في تاريخ الديمقراطية لوجدنا أن الغرب لم يحاول زرع الديمقراطية في بلادنا إلا لإضعاف البلاد الإسلامية بتغيير نظامها الاجتماعي والثقافي والحقوقي ودعم التمردات الانفصالية عن جسد الدولة العثمانية وإعطاء الأقليات الدينية والعرقية نفوذا أوسع بما يزيد من إضعاف السلطنة العثمانية ومن طموحات حركات الانفصال عنها وتقييد سلطة الخلافة لصالح رجالهم في مؤسسات الجيش والإدارة الحكومية.. بينما في مصر مثلا ركل الغرب الديمقراطية وألغى البرلمان كله ليثبت احتلاله، وظل البرلمان معطلا لعشرين سنة لم يهتم أحد فيها بالسؤال عن واجب الديمقراطية وحق الشعب المصري!
ولم تزل هذه سُنة الغرب معنا. فالغرب هو الذي يدعم ويرعى بقاء الأنظمة المستبدة، ثم يُحاسبنا على أننا دول مستبدة ومتخلفة ولا ينضج فيها النظام الديمقراطي، ويأتي فلاسفته – وعملاؤه في الداخل -ليعطونا دروسا في الديمقراطية والنظم الحديثة، رغم أنهم نتاج هذه السلطات المستبدة التي فتحت لهم الصحف والجامعات ومراكز الأبحاث وقنوات التلفاز، وهم أنفسهم لم يدعموا أبدا أي حراك ديمقراطي ولم يُضبطوا متلبسين بالهجوم على المستبدين، وهم أنفسهم عند أي لحظة فارقة يصطفون إلى جوار الاستبداد ضد رغبة الشعوب.
هل تحتاج بلادنا إلى التحرر أم الديمقراطية؟ أو لنطرح السؤال بشكل آخر: هل يستطيع الحصول على الديمقراطية ضعيف؟!
إن بعض الأنظمة تبخل على شعوبها بمجرد برلمان منتخب حتى هذه اللحظة، والأنظمة التي "تفضلت" على شعوبها ببرلمان إما أعطتهم برلمانا منزوع الصلاحيات أو برلمانا تصنعه هي بالتزوير، أي أن النظام في النهاية يزين نفسه ولا يفكر أبدا في أن يكون خادما للناس ومعبرا عنهم!
ولقد حاولت الحركات السياسية سلوك ما هو متاح فوجدت الطرق أمامها مغلقة، البرلمان مزور أو منزوع الصلاحيات أو يحل في العام مرتين حتى يرضى عنه الأمير أو الملك، الصحافة حكر على المنافقين، القضاء يعمل في خدمة السلطة، وحتى الثورات الشعبية التي تنفجر تٌقابل بحميم النيران كما هو في سوريا وليبيا أو بالانقلابات العسكرية كما هو في مصر. فإذا تسلل رئيس في ظروف استثنائية كمصدق في إيران ومرسي في مصر ومندريس وأربكان وأردوغان في تركيا، حوصروا بالضغوط من كل جهة ثم دُبرت عمليات الإطاحة بهم من السفارات الأجنبية. فكيف تأتي الديمقراطية؟ ومن ذا الذي يأتينا بها؟!
لم يفلت من كل هذا سوى نموذجان: حماس في غزة وأردوغان في تركيا، ولولا أن لكليهما قوة مسلحة داخلية تدين بالولاء لهما ما أغنت عنهما الديمقراطية ولا أصوات الناس شيئا، ولكانا قد كررا مصائر مصدق ومندريس ومرسي.
الواقع أننا نحتاج للتحرر لكي نستطيع – إن أردنا -حماية الديمقراطية، ديمقراطيتنا التي تُعبر عنا ولا تخالف ديننا ولا قيمنا، أو إن أردنا صنعنا نموذجا آخر، فنحن أحرار ولنا حضارة زاهرة ونستطيع أن نبتكر من النماذج ما هو خير وأحسن لنا وللعالمين. ولا يكون ذلك إلا إن تحررنا حقاً وامتلكنا قرارنا. ودون ذلك حروب ودماء وأهوال، وتلك هي سُنة الدول عبر التاريخ، بما فيها تلك الدول التي تقهرنا الآن: لم تصل منها دولة إلى هذا المكان إلا بعدما حاربت وكافحت وتحررت.
هكذا قال شوقي: فَقُلْ لِبانٍ بقولٍ ركن مملكة ... على الكتائب يُبْنى الملك لا الكتب
(5) ماذا نتعلم من تجربة الانقلاب في تركيا
الحقيقة أن ما حدث في تركيا حافل بالدروس، لكني هنا أختار أهمها وأبرزها كي لا يطول الكلام. وأنا هنا في موقع الناصح الأمين لإخواني المسلمين عموما والأتراك خصوصا، وهي شهادة ممن شهد انقلابين في ثلاث سنوات: مصر وتركيا، واقترب من الساحة السياسية المصرية اقترابا يمكنه من رصد الفوارق. في شهادتي هذه كلام ربما لا يعجب البعض من الأتراك أو من بقية الحضور، ولكن ديننا يعلمنا أن نشهد لله ونقول بالحق لا نخشى لومة لائم.
أ. القيادة رأس الثورة: إن لحظة ظهور أردوغان حيا طليقا هي لحظة إعلان أن الانقلاب لم ينجح (بعد)، فهي لحظة بداية المعركة، وكانت لحظة نجاح الانقلاب هي اللحظة التي سيظهر فيها أسيرا أو قتيلا، كما أن لحظة الإجهاز التام على الإنقلاب هي لحظة إظهارهم قادة الانقلاب مقيدين يُساقون إلى الاعتقال! لحظة ظهور أردوغان حرا طليقا هي اللحظة التي تبعتها كل المواقف السياسية أو الميدانية، ورغم أن بن علي يلدرم ظهر قبله في اتصال هاتفي إلا أن ظهوره لم يكن ذا قيمة مؤثرة، فالحق أن الشعوب تسمع للزعماء لا لمجرد من يتولون المناصب العليا. من بعد لحظة ظهور أردوغان ظهرت بيانات الآخرين بما فيهم المعارضة السياسية (هذه المعارضة ظلت طوال سنين وحتى أشهر ماضية تلمح للجيش بالتدخل!)، وهي تلك اللحظة التي ألقت الخوف في قلوب بعض الانقلابيين فتراجعوا فازداد الأمر ارتباكا وتدهورا.
ب. قرار المواجهة: لو ظهر أردوغان لمجرد أن يشرح أو يقترح حلا أو يدعو لوساطة أو يعلن موافقته على اقتراح لما حصَّل شيئا شعبيا كبيرا، لكن ظهوره كان قصيرا وواضحا وحازما: الدبابات التي في الشوارع لا تتبع الشعب، يجب تحرير المطارات، هذه محاولة انقلابية وكل المشاركين فيها سيدفعون الثمن، على الشعب النزول إلى الشوارع والميادين وتحرير مطار أتاتورك.. هذه العبارات القصيرة (والتي لم تخل من عبارات عاطفية كالحديث عن محاولة قتله وقصف مكانه) هي التي نقلت الشعب من موقع المشاهد المشلول الذي لا يدري ماذا يحدث إلى موقع الفاعل المتحرك المبادر المهاجم. قبل هذا التوضيح لزم الناس بيوتهم يترقبون ويتخوفون، ولا يدرون هل هذه الدبابات التي في الشارع انقلاب أم هي تابعة للرئاسة لإجهاض الانقلاب، وإن كانت هذا أو ذاك فماذا يكون دورهم الآن. قرار المواجهة هذا حرك الناس والطاقات جميعا، رسائل تصل من وازرة الاتصال إلى هواتف المواطنين تدعوهم للنزول، وزارة الأوقاف عممت على المؤذنين والأئمة فتح المساجد وإعلان التكبيرات، بلديات حركت سيارات المطافئ والنظافة تحركت لتحاصر ثكنات عسكرية أو لتقطع طرق إمدادات عسكرية أو لتقتحم مدارج طائرات في قواعد جوية [وكل هذا صنع شللا في حركة الانقلابيين] وأناس يحاصرون الدبابات أو يغلقون الطرق بسياراتهم وأنفسهم أمامها أو أمام أي حركة من قاعدة عسكرية. هذا كله وغيره ما كان ليحدث لولا أن الناس وصل إليهم قرار المواجهة، فصار كلهم يبدع بما استطاع!
جـ. درس القوة التي تحمي الحق: لم يكن ممكنا حماية أردوغان ولا إنقاذه (وإنقاذ البلاد كلها من ورائه) لولا أولئك الذين اصطنعهم وكسب ولاءهم من المسلحين، مهما كان عدد الشعب في الشوارع والميادين فإنهم لا يصمدون أمام الرصاص والقذائف المنهمرة عليهم من المدرعات والدبابات والطائرات، هؤلاء القوات الخاصة منهم من كان في مقراته يصد هجوم الانقلابيين ومنهم من خرجوا إلى الشوارع يواجهون جنود الجيش بالرصاص والتسليح الخفيف، ومنهم سيارات كانت تمشي في الشوارع تدعو الناس إلى النزول وتعدهم بإمدادهم بالأسلحة. عند لحظة المواجهة المسلحة يكون المشهد قد اعتدل واتزن، صارت القوة أمام قوة، فكيف بقوة تحرص على المواجهة يقودها زعيم ما زال يسير الأمور ويتكرر ظهوره مقابل قوة قد ساد الارتباك صفوفها ووجدت نفسها أمام وضع لم تكن تتوقعه ميدانيا وسياسيا؟! وقد صدر فيما بعد تصريح يقول بالتفكير في صدور قانون بتسليح الشعب لمواجهة مثل هذه الأوضاع فيما بعد، ولو صدر هذا القرار فسيكون تاريخ استقلال تركيا الحقيقي. فالشعوب المسلحة هي التي لا يحكمها استبداد ولا يقهرها احتلال.
دـ. درس الحسم: إن الانقلابات هي الوجه الآخر للثورات، وحديث الانقلابات والثورات هو في الحقيقة حديث الحرب نفسه، حيث لا يكسب طرف إلا بمقدار ما يخسر الآخر، وأي تهاون مع العدو قد يساوي انقلاب نتيجة الحرب كلها. وهذا ما فعلته سائر الانقلابات في الثورات الناجحة عبر التاريخ، وهو ما فعله بنا السيسي كذلك. لقد كانت الأوامر باعتقال أردوغان أو قتله في الحال، فتم قصف مقره ثلاث مرات واقتحمته قوة مكونة من 40 جنديا، وإطلاق النار عند أي محاولة مقاومة من الشرطة، وقُصِف مبنى المخابرات ومقر القوات الخاصة، وكسرت الطائرات الحربية حاجز الصوت، ومات في الليلة الأولى مئاتٌ إما بالرصاص أو بدهس الدبابات والمدرعات.. وكان لدى الكل أوامر بإطلاق النار. ولأن الجميع يعرف أنها ضربة واحدة: حياة أو موت، فلقد كان فشل جزء بسيط من الخطة (اغتيال أردوغان) يساوي أن يفكر بعض من لم ينكشفوا بعد في التراجع وإعادة التموضع، وهو ما أدى إلى مزيد من تدهور الخطة وفشلها.
حفظ الله تركيا وشعبها، وجعل انتصارها هذا فاتحة انتصارات الأمة الإسلامية في المرحلة المقبلة، ونسأله تعالى أن يحفظ شعوبنا وبلادنا وأن يخلصها من الاحتلال والاستبداد، وأن ينعم علينا باليوم الذي نكون فيه جميعا أمة واحدة في دولة واحدة لها قوة هائلة واحدة هي القوة العظمى التي تنشر العدل والحق في هذا العالم الزاخر بالمظالم والجرائم.
نشر في تركيا بوست
(1) مصائر تركيا بين انقلابين
لئن ضعفت الدولة العثمانية في أواخر أيامها، وفقدت بعض أراضيها، إلا أنها ظلت قوة قائمة في الساحة العالمية، لكنها خرجت من ساحة القوى العالمية وبدأت مسار الانهيار الكبير منذ الانقلاب العسكري على السلطان عبد الحميد الثاني (1909م).
منذ تلك اللحظة انتصرت الإرادة الغربية على الإرادة الإسلامية في قلب عاصمة الخلافة الإسلامية، وبدأ حكم الاتحاد والترقي الذي افتتح عهده بالتخلي عن ليبيا بمجرد أن نزلها الإيطاليون في إعلان صريح أن الدولة العثمانية لا تهتم بهذا الإقليم، ثم نزل الاتحاديون بثقلهم في الحرب العالمية الأولى مما استنزف المجهود العثماني حيث تحملت الدولة العثمانية العبء الأكبر في تلك الحرب، ثم هُزِمت مع حلفائها وبدأت تفقد البقية الباقية من أراضيها وصارت تُعقد الاتفاقيات لتقسيم تركتها.
ثم جاء الحكم الجمهوري الذي انتزع نفسه من الجسد الإسلامي الكبير، واكتفى بأن يحكم المساحة الجغرافية الحالية لتركيا، وألغيت الخلافة الإسلامية، واتخذت إجراءات شرسة لمطاردة الإسلام، فانتهت الدولة العثمانية العظيمة إلى قطعة جغرافية صغيرة من الأرض منعزلة على نفسها تقطع صلاتها مع المسلمين في الشرق الأوسط والبلقان وآسيا الوسطى، وتنفض يدها من كل علاقة مع إفريقيا والهند وشرق آسيا.
يمكن اختصار هذا القرن الفائت كله في أنه صراع بين الإرادتين: الإرادة الغربية والإرادة الإسلامية في تركيا، فمنذ أتيحت الفرصة للشعب التركي ليعبر عن نفسه وهو يختار مملثي الإرادة الإسلامية، وما إن يبدأ هؤلاء في العمل الجاد حتى تتحرك الإرادة الغربية لتدبر انقلابا عسكريا يعيد تركيا من جديد إلى الإرادة الغربية، وهكذا وقع في تركيا أربعة انقلابات في نصف قرن، حتى عرفت بأنها بلد انقلاب كل عشر سنوات.
الآن فشل الانقلاب العسكري في تركيا، وكُسِرت تلك السلسلة العنيدة التي طالما كبلتها، وانتصرت لأول مرة منذ مائة عام إرادة الشعب التركي الإسلامية على إرادة العسكر العلمانيين، ولهذا فإن العالم الإسلامي يعيش استبشارا كبيرا أن يكون هذا الانقلاب الفاشل هو التصحيح التاريخ للانقلاب العسكري على السلطان عبد الحميد الثاني، لتبدأ دورة عودة تركيا كقوة عظمى إسلامية، ويكون جيشها بالفعل هو جيش محمد الذي طالما كان مضرب المثل في القوة والبسالة والعظمة الإسلامية.
إن أخبار الانقلاب في تركيا تابعها كل العالم، لأن الجميع يعرف أن مصير هذا الانقلاب فارق في مسيرة النظام العالمي كله.
(2) آمال الشعوب الإسلامية
أطلق انتصار الشعب التركي على محاولة الانقلاب العسكري دفقة أمل كبرى لدى الشعوب الإسلامية، لقد رأوا بأعينهم كيف أن الانقلاب العسكري أمر يمكن إفشاله وهزيمته، ولهذا صار كل قوم يفكرون في مصيرهم، فإن كانوا يعانون من انقلاب في بلدانهم (كما في مصر واليمن وليبيا إلى حد ما) صاروا يسألون أنفسهم: لماذا نجح الانقلاب عندنا وفشل في تركيا؟ وصاروا يناقشون الأمر يحاولون أخذ العبرة والعظة والاستفادة في معركتهم القائمة ضد الانقلاب في بلدهم. وإن كانوا يعانون من استبداد عسكري علماني صاروا يناقشون التجربة التركية في كيفية القضاء على الدولة العميقة وتحقيق انتصار شعبي.
وهكذا بات المسلمون في مساء الجمعة هذا والقلق يقتلهم إذ يتابعون أخبار الانقلاب العسكري، ثم أصبحوا والاسئلة تثور في أنفسهم: كيف يمكن الاستفادة من التجربة التركية. إن هذا الأمل وحده مكسب عظيم في معركة تحرر الأمة الإسلامية، وأول من يشعر به ويقدره هم المكافحون في معركة التحرير.
إن نجاح الانقلاب العسكري في تركيا كان يعني انهيار آخر قلعة إسلامية في هذا العالم، لا يُتصوَّر حجم اليأس والإحباط الذي كان سيخيم على كل المسلمين بل وعلى كل أحرار العالم إن نجح هذا الانقلاب، كان المشهد سيبدو قاتما مظلما: مشهد انتصار الشر في كل بقعة على سطح هذا الكوكب! مشهد ألم لا أمل فيه، وظلام لا شعلة فيه، وإن مجرد النجاة من هذا الإعصار من اليأس لنعمة كبرى نشكر الله عليها.
(3) ردود فعل الأنظمة العربية
وعلى قدر ما فرح المسلمون بفشل الانقلاب التركي على قدر ما نُكب حكامهم، أولئك الذين يحاربون كل تجربة ناجحة، وكل ثورة باسلة، وكل أمل في المستقبل.. يريدون أن يسود نموذجهم لكي لا تفكر الشعوب في ثورة، أو في تقدم، لا يريدون للناس أن يأملوا في وضع أفضل مما هم فيه، لا يحبون أن ترى الشعوب نموذجا ملهما!.. لكل هذا فإن الأنظمة المستبدة –العميلة للغرب- شاركت بالتخطيط أو التمويل أو حتى بوسائل الإعلام في تشويه التجربة التركية ودعم الانقلاب العسكري.
كذلك فإن المعارضة العلمانية في البلاد العربية تمنت نجاح الانقلاب التركي، رغم أنه يفترض بهم أن يقفوا ضده، فتجربة تركيا هي نموذج واضح لتجربة متقدمة راقية، إلا أن العلمانية عندهم هي العداء للإسلام، وأهون عندهم أن يتولى السلطة علمانيون مهما كان فسادهم ويعيش الشعب في الجحيم من أن يتولى السلطة من يوصفون بالإسلاميين وإن حققوا لشعبهم التقدم والرخاء.. نار العلمانية أحب إليهم من جنة الإسلام.
وفي كل الأحوال فالمتوقع الآن هو الاستمرار في تشويه التجربة التركية وزعيمها رجب طيب أردوغان، ومضاعفة الحرب الإعلامية عليها، وستنتقل الأنظمة العربية إلى مراحل أخرى جديدة، منها:
أ. دعم واحتضان جماعة جولن، التي ستجد أمامها مساحة واسعة من الدعم المالي والإعلامي وفتح المقرات وإنشاء المدارس والهيئات التابعة لها في البلاد العربية المناهضة للتجربة التركية، وأبرزها: الإمارات ومصر، وستحاول تلك الدول استمرار الوجه الإسلامي لهذه الجماعة في احتواء الجماعات الإسلامية الشبيهة والرموز الدينية الشبيهة أيضا، والمستهدف من هذا هو غسل سمعة هذه الجماعة وتحسين صورتها لدى الشعوب العربية مقابل استعمالها في التمكين لهذه الأنظمة العربية وتطويع الشعوب لها، واستمرار تشويه التجربة التركية وقادتها. ولذا ستجدون في الأيام القادمة وسائل إعلام تفتح شاشاتها وصحفها لفتح الله جولن وكبار أتباعه، كما ستجدون عددا من الهيئات التابعة لتلك الجماعة تنمو في البلاد العربية جهرا أو سرا.
ب. دعم المتمردين من الأحزاب العسكرية الانفصالية في تركيا، وذلك من خلال تقديم الأموال والخبرات العسكرية والتسهيلات الاستخبارية، إذ حيث لم ينجح الانقلاب العسكري في الاستيلاء على السلطة فليكن البديل هو الاستمرار في زعزعة أمن واستقرار البلاد لمناكفة هذه السلطة وإشغالها بنفسها وحصار تمددها إلى المنطقة العربية والإسلامية لتظل التجربة التركية مهددة بعدم الاستقرار فينعكس هذا بالسلب عليها في أنظار الشعوب العربية والإسلامية. ستجدون زيادة في دعم هذه الأحزاب المتمردة وستجدون ارتفاعا في سقف مطالبهم، وازديادا في قوة ووتيرة العمليات المسلحة، والهدف: إضعاف تركيا إن لم يكن تقسيمها من جديد مما يساهم في كسر قوتها المتنامية.
جـ. تمويل العمليات التفجيرية والتخطيط لها، وتسهيل تنفيذها، ثم نسبتها إلى أي جماعة مسلحة إسلامية أو كردية أو حتى يسارية، إذ أن اختراق هذه الجماعات مما احترفته أجهزة الاستخبارات العربية، والهدف من هذا أن تزيد معدلات إنهاك النظام التركي واستنزاف قوته حتى يُفرض الاستسلام على السياسة التركية لتعود من جديد إلى بيت الطاعة الأمريكي!
إن تركيا تحظى بانحياز الشعوب وتعاطفها الهائل، وهي في الوقت نفسه تحظى بعداء الأنظمة الحاكمة، وصحيحٌ أن تعاطف الشعوب لن يغني عنها كثيرا في مجال المؤامرات الخطيرة، إلا أن تركيا تستطيع أن تستثمر هذه العاطفة وتحولها إلى عمل حقيقي فعال. إن في تركيا الآن ملايين العرب والمسلمين اللاجئين إليها أو الذين فضلوا أن يعيشوا فيها على سائر البلاد في العالم، ولقد كان أولئك ضمن الذين نزلوا لمواجهة الانقلاب بأنفسهم ومنهم من استشهد ومنهم من أصيب. تستطيع تركيا أن تحول عاطفة هؤلاء إلى أثر حقيقي من خلال أعمال ومنظمات وهيئات تستفيد من هذه الطاقة الهادرة في المشروع التركي الكبير.
(4) وقفة مع الديمقراطية
تبدو الديمقراطية في عالمنا الآن كصنم لا ينفع ولا يضر، من جاء بالديمقراطية تزيحه الدبابات، ومن جاء بالدبابات لم يؤثر فيه التوسل بالديمقراطية؟
لقد كشف الانقلاب التركي عن أن كهنة الديمقراطية يمكنهم أن يعطوا الدروس في موضوع آخر تماما وهو "كيف تصنع انقلابا ناجحا على الديمقراطية"، فحتى فرنسا نسيت حادثة نيس التي تعرضت لها قبل الانقلاب في تركيا بساعات، ودخلت على خط مطالبة أردوغان باحترام القانون والقضاء وتوفير حقوق الانقلابيين! فانضمت بهذا إلى المعزوفة الغربية، هذه المعزوفة تثبت أن انتصار أردوغان في تركيا لم يكن انتصارا على حفنة من العسكريين، بل هو انتصار على العواصم الغربية التي تعاملت تماما وكأنها مهزومة تفتش في وسائل تحجيم المنتصر والتضييق عليه وإهدار مكاسبه!
لقد تابعتم جميعا التعليقات الأولى على الانقلاب وكيف كانت ترحب به، لكن المثير للانتباه هنا هو توجه وسائل الإعلام الغربية التي طفقت تسأل خبراءها الأمنيين والعسكريين سؤالا واحد: لماذا فشل الانقلاب في تركيا؟! والخبراء من جهتهم لم يقصروا في الإجابة، وكشفوا عن أمور "كان من المفترض" أن يقوم بها الانقلابيون كي ينجح انقلابهم! هل رأيتم كيف استطاع فلاسفة الديمقراطية أن يدرسوا مادة "كيف تصنع انقلابا ناجحا على الديمقراطية"؟!
نحن لو نظرنا في تاريخ الديمقراطية لوجدنا أن الغرب لم يحاول زرع الديمقراطية في بلادنا إلا لإضعاف البلاد الإسلامية بتغيير نظامها الاجتماعي والثقافي والحقوقي ودعم التمردات الانفصالية عن جسد الدولة العثمانية وإعطاء الأقليات الدينية والعرقية نفوذا أوسع بما يزيد من إضعاف السلطنة العثمانية ومن طموحات حركات الانفصال عنها وتقييد سلطة الخلافة لصالح رجالهم في مؤسسات الجيش والإدارة الحكومية.. بينما في مصر مثلا ركل الغرب الديمقراطية وألغى البرلمان كله ليثبت احتلاله، وظل البرلمان معطلا لعشرين سنة لم يهتم أحد فيها بالسؤال عن واجب الديمقراطية وحق الشعب المصري!
ولم تزل هذه سُنة الغرب معنا. فالغرب هو الذي يدعم ويرعى بقاء الأنظمة المستبدة، ثم يُحاسبنا على أننا دول مستبدة ومتخلفة ولا ينضج فيها النظام الديمقراطي، ويأتي فلاسفته – وعملاؤه في الداخل -ليعطونا دروسا في الديمقراطية والنظم الحديثة، رغم أنهم نتاج هذه السلطات المستبدة التي فتحت لهم الصحف والجامعات ومراكز الأبحاث وقنوات التلفاز، وهم أنفسهم لم يدعموا أبدا أي حراك ديمقراطي ولم يُضبطوا متلبسين بالهجوم على المستبدين، وهم أنفسهم عند أي لحظة فارقة يصطفون إلى جوار الاستبداد ضد رغبة الشعوب.
هل تحتاج بلادنا إلى التحرر أم الديمقراطية؟ أو لنطرح السؤال بشكل آخر: هل يستطيع الحصول على الديمقراطية ضعيف؟!
إن بعض الأنظمة تبخل على شعوبها بمجرد برلمان منتخب حتى هذه اللحظة، والأنظمة التي "تفضلت" على شعوبها ببرلمان إما أعطتهم برلمانا منزوع الصلاحيات أو برلمانا تصنعه هي بالتزوير، أي أن النظام في النهاية يزين نفسه ولا يفكر أبدا في أن يكون خادما للناس ومعبرا عنهم!
ولقد حاولت الحركات السياسية سلوك ما هو متاح فوجدت الطرق أمامها مغلقة، البرلمان مزور أو منزوع الصلاحيات أو يحل في العام مرتين حتى يرضى عنه الأمير أو الملك، الصحافة حكر على المنافقين، القضاء يعمل في خدمة السلطة، وحتى الثورات الشعبية التي تنفجر تٌقابل بحميم النيران كما هو في سوريا وليبيا أو بالانقلابات العسكرية كما هو في مصر. فإذا تسلل رئيس في ظروف استثنائية كمصدق في إيران ومرسي في مصر ومندريس وأربكان وأردوغان في تركيا، حوصروا بالضغوط من كل جهة ثم دُبرت عمليات الإطاحة بهم من السفارات الأجنبية. فكيف تأتي الديمقراطية؟ ومن ذا الذي يأتينا بها؟!
لم يفلت من كل هذا سوى نموذجان: حماس في غزة وأردوغان في تركيا، ولولا أن لكليهما قوة مسلحة داخلية تدين بالولاء لهما ما أغنت عنهما الديمقراطية ولا أصوات الناس شيئا، ولكانا قد كررا مصائر مصدق ومندريس ومرسي.
الواقع أننا نحتاج للتحرر لكي نستطيع – إن أردنا -حماية الديمقراطية، ديمقراطيتنا التي تُعبر عنا ولا تخالف ديننا ولا قيمنا، أو إن أردنا صنعنا نموذجا آخر، فنحن أحرار ولنا حضارة زاهرة ونستطيع أن نبتكر من النماذج ما هو خير وأحسن لنا وللعالمين. ولا يكون ذلك إلا إن تحررنا حقاً وامتلكنا قرارنا. ودون ذلك حروب ودماء وأهوال، وتلك هي سُنة الدول عبر التاريخ، بما فيها تلك الدول التي تقهرنا الآن: لم تصل منها دولة إلى هذا المكان إلا بعدما حاربت وكافحت وتحررت.
هكذا قال شوقي: فَقُلْ لِبانٍ بقولٍ ركن مملكة ... على الكتائب يُبْنى الملك لا الكتب
(5) ماذا نتعلم من تجربة الانقلاب في تركيا
الحقيقة أن ما حدث في تركيا حافل بالدروس، لكني هنا أختار أهمها وأبرزها كي لا يطول الكلام. وأنا هنا في موقع الناصح الأمين لإخواني المسلمين عموما والأتراك خصوصا، وهي شهادة ممن شهد انقلابين في ثلاث سنوات: مصر وتركيا، واقترب من الساحة السياسية المصرية اقترابا يمكنه من رصد الفوارق. في شهادتي هذه كلام ربما لا يعجب البعض من الأتراك أو من بقية الحضور، ولكن ديننا يعلمنا أن نشهد لله ونقول بالحق لا نخشى لومة لائم.
أ. القيادة رأس الثورة: إن لحظة ظهور أردوغان حيا طليقا هي لحظة إعلان أن الانقلاب لم ينجح (بعد)، فهي لحظة بداية المعركة، وكانت لحظة نجاح الانقلاب هي اللحظة التي سيظهر فيها أسيرا أو قتيلا، كما أن لحظة الإجهاز التام على الإنقلاب هي لحظة إظهارهم قادة الانقلاب مقيدين يُساقون إلى الاعتقال! لحظة ظهور أردوغان حرا طليقا هي اللحظة التي تبعتها كل المواقف السياسية أو الميدانية، ورغم أن بن علي يلدرم ظهر قبله في اتصال هاتفي إلا أن ظهوره لم يكن ذا قيمة مؤثرة، فالحق أن الشعوب تسمع للزعماء لا لمجرد من يتولون المناصب العليا. من بعد لحظة ظهور أردوغان ظهرت بيانات الآخرين بما فيهم المعارضة السياسية (هذه المعارضة ظلت طوال سنين وحتى أشهر ماضية تلمح للجيش بالتدخل!)، وهي تلك اللحظة التي ألقت الخوف في قلوب بعض الانقلابيين فتراجعوا فازداد الأمر ارتباكا وتدهورا.
ب. قرار المواجهة: لو ظهر أردوغان لمجرد أن يشرح أو يقترح حلا أو يدعو لوساطة أو يعلن موافقته على اقتراح لما حصَّل شيئا شعبيا كبيرا، لكن ظهوره كان قصيرا وواضحا وحازما: الدبابات التي في الشوارع لا تتبع الشعب، يجب تحرير المطارات، هذه محاولة انقلابية وكل المشاركين فيها سيدفعون الثمن، على الشعب النزول إلى الشوارع والميادين وتحرير مطار أتاتورك.. هذه العبارات القصيرة (والتي لم تخل من عبارات عاطفية كالحديث عن محاولة قتله وقصف مكانه) هي التي نقلت الشعب من موقع المشاهد المشلول الذي لا يدري ماذا يحدث إلى موقع الفاعل المتحرك المبادر المهاجم. قبل هذا التوضيح لزم الناس بيوتهم يترقبون ويتخوفون، ولا يدرون هل هذه الدبابات التي في الشارع انقلاب أم هي تابعة للرئاسة لإجهاض الانقلاب، وإن كانت هذا أو ذاك فماذا يكون دورهم الآن. قرار المواجهة هذا حرك الناس والطاقات جميعا، رسائل تصل من وازرة الاتصال إلى هواتف المواطنين تدعوهم للنزول، وزارة الأوقاف عممت على المؤذنين والأئمة فتح المساجد وإعلان التكبيرات، بلديات حركت سيارات المطافئ والنظافة تحركت لتحاصر ثكنات عسكرية أو لتقطع طرق إمدادات عسكرية أو لتقتحم مدارج طائرات في قواعد جوية [وكل هذا صنع شللا في حركة الانقلابيين] وأناس يحاصرون الدبابات أو يغلقون الطرق بسياراتهم وأنفسهم أمامها أو أمام أي حركة من قاعدة عسكرية. هذا كله وغيره ما كان ليحدث لولا أن الناس وصل إليهم قرار المواجهة، فصار كلهم يبدع بما استطاع!
جـ. درس القوة التي تحمي الحق: لم يكن ممكنا حماية أردوغان ولا إنقاذه (وإنقاذ البلاد كلها من ورائه) لولا أولئك الذين اصطنعهم وكسب ولاءهم من المسلحين، مهما كان عدد الشعب في الشوارع والميادين فإنهم لا يصمدون أمام الرصاص والقذائف المنهمرة عليهم من المدرعات والدبابات والطائرات، هؤلاء القوات الخاصة منهم من كان في مقراته يصد هجوم الانقلابيين ومنهم من خرجوا إلى الشوارع يواجهون جنود الجيش بالرصاص والتسليح الخفيف، ومنهم سيارات كانت تمشي في الشوارع تدعو الناس إلى النزول وتعدهم بإمدادهم بالأسلحة. عند لحظة المواجهة المسلحة يكون المشهد قد اعتدل واتزن، صارت القوة أمام قوة، فكيف بقوة تحرص على المواجهة يقودها زعيم ما زال يسير الأمور ويتكرر ظهوره مقابل قوة قد ساد الارتباك صفوفها ووجدت نفسها أمام وضع لم تكن تتوقعه ميدانيا وسياسيا؟! وقد صدر فيما بعد تصريح يقول بالتفكير في صدور قانون بتسليح الشعب لمواجهة مثل هذه الأوضاع فيما بعد، ولو صدر هذا القرار فسيكون تاريخ استقلال تركيا الحقيقي. فالشعوب المسلحة هي التي لا يحكمها استبداد ولا يقهرها احتلال.
دـ. درس الحسم: إن الانقلابات هي الوجه الآخر للثورات، وحديث الانقلابات والثورات هو في الحقيقة حديث الحرب نفسه، حيث لا يكسب طرف إلا بمقدار ما يخسر الآخر، وأي تهاون مع العدو قد يساوي انقلاب نتيجة الحرب كلها. وهذا ما فعلته سائر الانقلابات في الثورات الناجحة عبر التاريخ، وهو ما فعله بنا السيسي كذلك. لقد كانت الأوامر باعتقال أردوغان أو قتله في الحال، فتم قصف مقره ثلاث مرات واقتحمته قوة مكونة من 40 جنديا، وإطلاق النار عند أي محاولة مقاومة من الشرطة، وقُصِف مبنى المخابرات ومقر القوات الخاصة، وكسرت الطائرات الحربية حاجز الصوت، ومات في الليلة الأولى مئاتٌ إما بالرصاص أو بدهس الدبابات والمدرعات.. وكان لدى الكل أوامر بإطلاق النار. ولأن الجميع يعرف أنها ضربة واحدة: حياة أو موت، فلقد كان فشل جزء بسيط من الخطة (اغتيال أردوغان) يساوي أن يفكر بعض من لم ينكشفوا بعد في التراجع وإعادة التموضع، وهو ما أدى إلى مزيد من تدهور الخطة وفشلها.
حفظ الله تركيا وشعبها، وجعل انتصارها هذا فاتحة انتصارات الأمة الإسلامية في المرحلة المقبلة، ونسأله تعالى أن يحفظ شعوبنا وبلادنا وأن يخلصها من الاحتلال والاستبداد، وأن ينعم علينا باليوم الذي نكون فيه جميعا أمة واحدة في دولة واحدة لها قوة هائلة واحدة هي القوة العظمى التي تنشر العدل والحق في هذا العالم الزاخر بالمظالم والجرائم.
نشر في تركيا بوست
Published on September 03, 2016 12:34
September 2, 2016
مات سيد قطب، وبقيت معركة القرآن والطغيان
"إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا، ولكن بشرط واحد: أن يموتوا لتعيش أفكارهم، أن يُطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم، أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق. إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء، انتفضت حية وعاشت بين الأحياء"سيد قطب***
أعدل وسيلة لتقييم شخصية تاريخية، لا سيما من كان عالما أو داعية، هو النظر إلى إسهامه في معركة عصره، فذلك هو واجب وقته. وبهذا المقياس فقد كان سيد قطب هو شيخ العصر.
ولا يزال سيد قطب حتى اللحظة الحاضرة ينتصب نموذجا، يكرهه كل أتباع الطغيان من العلمانيين الذين يكرهون الدين كله ولا يريدون له وجودا في نظام الدنيا حتى مشايخ السوء وعلماء السلطان الذين يزعمون أنهم أهل الدين ولا يفعلون شيئا إلا تزييف الدين وتعبيد الناس للظالمين. وعلى الجانب الآخر فلا تكاد تجد مجاهدا أو عالم حق إلا ولسيد قطب عنده مكانة عظيمة وله فيه مدح سائر مهما اختلف معه في تفاصيل وفروع هنا أو هناك.
مات سيد قطب كما مات عبد الناصر.. وبقيت معركة القرآن والطغيان!
لكم تزاحمت علي الأفكار منذ نويت أكتب عن سيد قطب عند ذكرى نصف قرن على استشهاده (29 أغسطس 1966م)، ثم بدا لي بعد طول تفكير أن أنقل بعض الكلمات التي منذ مات في سبيلها الشهيد صارت حية.
(1) آثار الاستبداد
ليس أشد إفساداً للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقّوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد: استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمرداً حين يرفع عنها السوط، وتبطراً حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة.
(2) الاستبداد والفساد
ليس وراء الطغيان إلا الفساد. فالطغيان يفسد الطاغية، ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء. كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة. ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف، المعمر الباني، إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال..
إنه يجعل الطاغية أسير هواه، لأنه لا يفيء إلى ميزان ثابت، ولا يقف عند حد ظاهر، فيفسد هو أول من يفسد ويتخذ له مكانا في الأرض غير مكان العبد المستخلف وكذلك قال فرعون{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} عند ما أفسده طغيانه، فتجاوز به مكان العبد المخلوق، وتطاول به إلى هذا الادعاء المقبوح، وهو فساد أي فساد.
ثم هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء، مع السخط الدفين والحقد الكظيم، فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية، وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحرية. والنفس التي تستذل تأسن وتتعفن، وتصبح مرتعا لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة. وميدانا للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك. وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع، وهو فساد أي فساد..
ثم هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة، لأنها خطر على الطغاة والطغيان. فلا بد من تزييف للقيم، وتزوير في الموازين، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة، وتراها مقبولة مستساغة..
(3) أخلاق العبيد
العبيد هم الذين يهربون من الحرية، فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر، لأن في نفوسهم حاجة ملحة إلى العبودية. لأن لهم حاسة سادسة أو سابعة، حاسة الذل.. لا بد لهم من إروائها، فإذا لم يستعبدهم أحد أحسَّت نفوسهم بالظمأ إلى الاستعباد، وتراموا على الأعتاب يتمسحون بها، ولا ينتظرون حتى الإشارة من إصبع للسيد ليخروا له ساجدين!
العبيد هم الذين إذا أُعتقوا وأُطلقوا حسدوا الأرقاء الباقين في الحظيرة، لا الأحرار المطلقي السراح، لأن الحرية تخيفهم والكرامة تثقل كواهلهم...
والعبيد –مع هذا- جبارون في الأرض، غلاظ على الأحرار شداد، يتطوعون للتنكيل بهم، ويتلذذون بإيذائهم وتعذيبهم، ويتشفون فيهم تشفي الجلادين العتاة! إنهم لا يدركون بواعث الأحرار للتحرر، فيحسبون التحرر تمردا، والاستعلاء شذوذا، والعزة جريمة، ومن ثم يصبون نقمتهم الجامحة على الأحرار المعتزين، الذين لا يسيرون في قافلة الرقيق!
(4) صدمة المستبد
«فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» .. فكلمة الحق وتوحيد الله والدعوة إلى ترك الظلم والطغيان والإيذاء لا تصدر في عرف الطاغية إلا من مسحور لا يدري ما يقول! فما يستطيع الطغاة من أمثال فرعون أن يتصوروا هذه المعاني ولا أن يرفع أحد رأسه ليتحدث عنها وهو يملك قواه العقلية! فأما موسى فهو قوي بالحق الذي أرسل به مشرقا منيرا مطمئن إلى نصرة الله له وأخذه للطغاة: «قالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. بَصائِرَ. وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» هالكا مدمرا، جزاء تكذيبك بآيات الله وأنت تعلم أن لا أحد غيره يملك هذه الخوارق. وإنها لواضحة مكشوفة منيرة للبصائر، حتى لكأنها البصائر تكشف الحقائق وتجلوها.
عندئذ يلجأ الطاغية إلى قوته المادية، ويعزم أن يزيلهم من الأرض ويبيدهم، «فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ» فكذلك يفكر الطغاة في الرد على كلمة الحق.
(5) نسب الإيمان
المؤمن ذو نسب عريق، وضارب في شعاب الزمان. إنه واحد من ذلك الموكب الكريم، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف، وموسى وعيسى، ومحمد.. عليهم الصلاة والسلام.. {وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}. هذا الموكب الكريم، الممتد في شعاب الزمان من قديم، يواجه- كما يتجلى في ظلال القرآن- مواقف متشابهة، وأزمات متشابهة، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور، وتغير المكان، وتعدد الأقوام. يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى، والاضطهاد والبغي، والتهديد والتشريد. ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو، مطمئن الضمير، واثقا من نصر الله، متعلقا بالرجاء فيه، متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ}.. موقف واحد وتجربة واحدة. وتهديد واحد. ويقين واحد. ووعد واحد للموكب الكريم.. وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف.
(6) المهمة الكبرى
علم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه لم يعد هناك نوم! وأن هنالك تكليفا ثقيلا، وجهادا طويلا، وأنه الصحو والكد والجهد منذ ذلك النداء الذي يلاحقه ولا يدعه ينام! وقيل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- «قم» .. فقام. وظل قائما بعدها أكثر من عشرين عاما! لم يسترح. ولم يسكن. ولم يعش لنفسه ولا لأهله. قام وظل قائما على دعوة الله. يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به. عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض. عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد..
(7) حاجات الثائر
المطابقة بين القول والفعل، وبين العقيدة والسلوك، ليست مع هذا أمراً هيناً، ولا طريقاً معبداً. إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة. وإلى صلة بالله، واستمداد منه، واستعانة بهديه فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيراً ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره، أو عما يدعو إليه غيره.
والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه وقد يغالبها مرة ومرة ومرة ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي قوي، أقوى من كل قوي. قوي على شهوته وضعفه. قوي على ضروراته واضطراراته. قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه.
(8) منهج الإسلام: الكفاح
هو منهج رفيع طليق.. الأرض فيه صغيرة، والحياة الدنيا قصيرة، ومتاع الحياة الدنيا زهيد، والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية.. ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال، ولا الكراهية ولا الهروب.. إنما معناه المحاولة المسترة، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها، وإطلاق الحياة البشرية جميعها.. ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما.
إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير. ولكن الإسلام لا يريده. لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص. إنه طريق أشق، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان.
(9) القوة طبيعة الإسلام
كانت قوة الإسلام ضرورية لوجوده وانتشاره واطمئنان أهله على عقيدتهم، واطمئنان من يريدون اعتناقه على أنفسهم. وإقامة هذا النظام الصالح وحمايته. ولم يكن الجهاد أداة قليلة الأهمية، ولا معدومة الضرورة في حاضره ومستقبله كما يريد أخبث أعدائه أن يوحوا للمسلمين..!
لا بد للإسلام من نظام ولا بد للإسلام من قوة، ولا بد للإسلام من جهاد. فهذه طبيعته التي لا يقوم بدونها إسلام يعيش ويقود.
(10) ضريبة الذل
لقد شاهدت في عمري المحدود –وما زلت أشاهد- عشرات من الرجال الكبار يحنون الرؤوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل تبهظ كواهلهم، وتحني هاماتهم، وتلوي أعناقهم، وتنكس رؤوسهم.. ثم يُطردون كالكلاب بعد أن يضعوا أحمالهم ويسلموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحسنيين: في الدنيا والآخرة، ويمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق لا يحس بهم أحد حتى الجلاد!
لقد شاهدتهم وفي وسعهم أن يكونوا أحرارا، ولكنهم يختارون العبودية. وفي طاقتهم أن يكونوا أقوياء، ولكنهم يختارون التخاذل. وفي إمكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب، ولكنهم يختارون الجبن والمهانة.. شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهما، وهم يؤدون للذل دينارا أو قنطارا. شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليرضوا صاحب جاه أو سلطان، ويستظلوا بجاهه أو سلطانه وهم يملكون أن يرهبهم ذوو الجاه والسلطان!
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
أعدل وسيلة لتقييم شخصية تاريخية، لا سيما من كان عالما أو داعية، هو النظر إلى إسهامه في معركة عصره، فذلك هو واجب وقته. وبهذا المقياس فقد كان سيد قطب هو شيخ العصر.
ولا يزال سيد قطب حتى اللحظة الحاضرة ينتصب نموذجا، يكرهه كل أتباع الطغيان من العلمانيين الذين يكرهون الدين كله ولا يريدون له وجودا في نظام الدنيا حتى مشايخ السوء وعلماء السلطان الذين يزعمون أنهم أهل الدين ولا يفعلون شيئا إلا تزييف الدين وتعبيد الناس للظالمين. وعلى الجانب الآخر فلا تكاد تجد مجاهدا أو عالم حق إلا ولسيد قطب عنده مكانة عظيمة وله فيه مدح سائر مهما اختلف معه في تفاصيل وفروع هنا أو هناك.
مات سيد قطب كما مات عبد الناصر.. وبقيت معركة القرآن والطغيان!
لكم تزاحمت علي الأفكار منذ نويت أكتب عن سيد قطب عند ذكرى نصف قرن على استشهاده (29 أغسطس 1966م)، ثم بدا لي بعد طول تفكير أن أنقل بعض الكلمات التي منذ مات في سبيلها الشهيد صارت حية.
(1) آثار الاستبداد
ليس أشد إفساداً للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقّوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد: استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمرداً حين يرفع عنها السوط، وتبطراً حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة.
(2) الاستبداد والفساد
ليس وراء الطغيان إلا الفساد. فالطغيان يفسد الطاغية، ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء. كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة. ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف، المعمر الباني، إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال..
إنه يجعل الطاغية أسير هواه، لأنه لا يفيء إلى ميزان ثابت، ولا يقف عند حد ظاهر، فيفسد هو أول من يفسد ويتخذ له مكانا في الأرض غير مكان العبد المستخلف وكذلك قال فرعون{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} عند ما أفسده طغيانه، فتجاوز به مكان العبد المخلوق، وتطاول به إلى هذا الادعاء المقبوح، وهو فساد أي فساد.
ثم هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء، مع السخط الدفين والحقد الكظيم، فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية، وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحرية. والنفس التي تستذل تأسن وتتعفن، وتصبح مرتعا لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة. وميدانا للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك. وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع، وهو فساد أي فساد..
ثم هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة، لأنها خطر على الطغاة والطغيان. فلا بد من تزييف للقيم، وتزوير في الموازين، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة، وتراها مقبولة مستساغة..
(3) أخلاق العبيد
العبيد هم الذين يهربون من الحرية، فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر، لأن في نفوسهم حاجة ملحة إلى العبودية. لأن لهم حاسة سادسة أو سابعة، حاسة الذل.. لا بد لهم من إروائها، فإذا لم يستعبدهم أحد أحسَّت نفوسهم بالظمأ إلى الاستعباد، وتراموا على الأعتاب يتمسحون بها، ولا ينتظرون حتى الإشارة من إصبع للسيد ليخروا له ساجدين!
العبيد هم الذين إذا أُعتقوا وأُطلقوا حسدوا الأرقاء الباقين في الحظيرة، لا الأحرار المطلقي السراح، لأن الحرية تخيفهم والكرامة تثقل كواهلهم...
والعبيد –مع هذا- جبارون في الأرض، غلاظ على الأحرار شداد، يتطوعون للتنكيل بهم، ويتلذذون بإيذائهم وتعذيبهم، ويتشفون فيهم تشفي الجلادين العتاة! إنهم لا يدركون بواعث الأحرار للتحرر، فيحسبون التحرر تمردا، والاستعلاء شذوذا، والعزة جريمة، ومن ثم يصبون نقمتهم الجامحة على الأحرار المعتزين، الذين لا يسيرون في قافلة الرقيق!
(4) صدمة المستبد
«فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» .. فكلمة الحق وتوحيد الله والدعوة إلى ترك الظلم والطغيان والإيذاء لا تصدر في عرف الطاغية إلا من مسحور لا يدري ما يقول! فما يستطيع الطغاة من أمثال فرعون أن يتصوروا هذه المعاني ولا أن يرفع أحد رأسه ليتحدث عنها وهو يملك قواه العقلية! فأما موسى فهو قوي بالحق الذي أرسل به مشرقا منيرا مطمئن إلى نصرة الله له وأخذه للطغاة: «قالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. بَصائِرَ. وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» هالكا مدمرا، جزاء تكذيبك بآيات الله وأنت تعلم أن لا أحد غيره يملك هذه الخوارق. وإنها لواضحة مكشوفة منيرة للبصائر، حتى لكأنها البصائر تكشف الحقائق وتجلوها.
عندئذ يلجأ الطاغية إلى قوته المادية، ويعزم أن يزيلهم من الأرض ويبيدهم، «فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ» فكذلك يفكر الطغاة في الرد على كلمة الحق.
(5) نسب الإيمان
المؤمن ذو نسب عريق، وضارب في شعاب الزمان. إنه واحد من ذلك الموكب الكريم، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف، وموسى وعيسى، ومحمد.. عليهم الصلاة والسلام.. {وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}. هذا الموكب الكريم، الممتد في شعاب الزمان من قديم، يواجه- كما يتجلى في ظلال القرآن- مواقف متشابهة، وأزمات متشابهة، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور، وتغير المكان، وتعدد الأقوام. يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى، والاضطهاد والبغي، والتهديد والتشريد. ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو، مطمئن الضمير، واثقا من نصر الله، متعلقا بالرجاء فيه، متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ}.. موقف واحد وتجربة واحدة. وتهديد واحد. ويقين واحد. ووعد واحد للموكب الكريم.. وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف.
(6) المهمة الكبرى
علم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه لم يعد هناك نوم! وأن هنالك تكليفا ثقيلا، وجهادا طويلا، وأنه الصحو والكد والجهد منذ ذلك النداء الذي يلاحقه ولا يدعه ينام! وقيل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- «قم» .. فقام. وظل قائما بعدها أكثر من عشرين عاما! لم يسترح. ولم يسكن. ولم يعش لنفسه ولا لأهله. قام وظل قائما على دعوة الله. يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به. عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض. عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد..
(7) حاجات الثائر
المطابقة بين القول والفعل، وبين العقيدة والسلوك، ليست مع هذا أمراً هيناً، ولا طريقاً معبداً. إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة. وإلى صلة بالله، واستمداد منه، واستعانة بهديه فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيراً ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره، أو عما يدعو إليه غيره.
والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه وقد يغالبها مرة ومرة ومرة ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي قوي، أقوى من كل قوي. قوي على شهوته وضعفه. قوي على ضروراته واضطراراته. قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه.
(8) منهج الإسلام: الكفاح
هو منهج رفيع طليق.. الأرض فيه صغيرة، والحياة الدنيا قصيرة، ومتاع الحياة الدنيا زهيد، والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية.. ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال، ولا الكراهية ولا الهروب.. إنما معناه المحاولة المسترة، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها، وإطلاق الحياة البشرية جميعها.. ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما.
إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير. ولكن الإسلام لا يريده. لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص. إنه طريق أشق، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان.
(9) القوة طبيعة الإسلام
كانت قوة الإسلام ضرورية لوجوده وانتشاره واطمئنان أهله على عقيدتهم، واطمئنان من يريدون اعتناقه على أنفسهم. وإقامة هذا النظام الصالح وحمايته. ولم يكن الجهاد أداة قليلة الأهمية، ولا معدومة الضرورة في حاضره ومستقبله كما يريد أخبث أعدائه أن يوحوا للمسلمين..!
لا بد للإسلام من نظام ولا بد للإسلام من قوة، ولا بد للإسلام من جهاد. فهذه طبيعته التي لا يقوم بدونها إسلام يعيش ويقود.
(10) ضريبة الذل
لقد شاهدت في عمري المحدود –وما زلت أشاهد- عشرات من الرجال الكبار يحنون الرؤوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل تبهظ كواهلهم، وتحني هاماتهم، وتلوي أعناقهم، وتنكس رؤوسهم.. ثم يُطردون كالكلاب بعد أن يضعوا أحمالهم ويسلموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحسنيين: في الدنيا والآخرة، ويمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق لا يحس بهم أحد حتى الجلاد!
لقد شاهدتهم وفي وسعهم أن يكونوا أحرارا، ولكنهم يختارون العبودية. وفي طاقتهم أن يكونوا أقوياء، ولكنهم يختارون التخاذل. وفي إمكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب، ولكنهم يختارون الجبن والمهانة.. شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهما، وهم يؤدون للذل دينارا أو قنطارا. شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليرضوا صاحب جاه أو سلطان، ويستظلوا بجاهه أو سلطانه وهم يملكون أن يرهبهم ذوو الجاه والسلطان!
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
Published on September 02, 2016 12:28
سيرة علي بن عبد الله جد الخلفاء العباسيين
اقرأ أولا: ماذاتعرف عن أجداد الخلفاء العباسيين؟
وُلِد في الليلة التي قُتل فيها علي بن أبي طالب، فسُمِّي باسمه وكُنِّي بكنيته؛ فصار أبا الحسن علي بن عبد الله بن عباسوصفه المؤرِّخون بأنه أجمل قرشي على وجه الأرض في وقته، وكان طويلًا مفرط الطول، وكان كثير العبادة حتى لُقِّب بالسَّجَّادوكان سيدًا شريفًا، وكان مُعَظَّما جدًّا إلى الحدِّ الذي كان إذا قدم مكة حاجًّا أو معتمرًا عطلت قريش مجالسها في المسجد الحرام، وهجرت مواضع حلقها، ولزمت مجلس علي بن عبد الله إعظامًا وإجلالًا وتبجيلًا؛ فإن قعد قعدوا، وإن نهض نهضوا، وإن مشى مشوا جميعًا حوله، وكان لا يرى لقرشي في المسجد الحرام مجلس ذِكْر يجتمع إليه فيه حتى يخرج علي بن عبد الله من الحرموكان عبد الملك بن مروان يُكرم علي بن عبد الله بن عباس ويُقَدِّمه ويُهدي إليه الهدايا، بل كان يُجلسه على سرير الحكم معه، وهي منزلة عُليا؛ إلَّا أنه لما عرف أن كُنيته أبا الحسن، فهو كعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في اسمه وكنيته، طلب منه أن يُغَيِّر اسمه أو كنيته، فرفض أن يغير اسمه؛ ولكن غَيَّر كنيته إلى أبي محمد، ويُصَرِّح ابن خلكان بأن هذا لبُغْض عبد الملك بن مروان لعلي بن أبي طالب؛ حتى إنه لم يحتمل سماع الاسم والكنية معًاولا شَكَّ أن مثل هذا الموقف ساهم في إضافة مزيد من تراكم الثارات في نفوس آل البيت تجاه الأمويين، وأن عليًّا -فيما نظن- أقدم على تغيير كنيته كارهًا مضطرًا.
لكن العلاقة بين علي وعبد الملك بن مروان كانت طيبة؛ بل كان لعلي عند عبد الملك قدْرٌ كبير، حتى إن بعض مَنْ يخشون عبد الملك كان يُجيرهم علي بن عبد الله، كما في حالة عبد الله بن يزيد القسري ويحيى بن معتوق الهمدانيلكن العلاقات ساءت بين علي بن عبد الله بن عباس والوليد بن عبد الملك؛ إذ وردت روايات تُفيد بأن الوليد ضرب علي بن عبد الله بن عباس حين تزوج أم أبيهاوأقدم مصادر هذه الرواية هو المبرد في الكامل، وأوردها بلا إسناد، والجزء المؤكد منها هو تطليق عبد الملك لأم أبيها ثم زواجها من علي بن عبد اللهلكن سوء العلاقات بين علي بن عبد الله بن عباس والوليد يبدو ثابتًا؛ وذلك لأسباب غير هذه الرواية، ومن أقوى ما يُؤَيِّده أن علي بن عبد الله ترك دمشق وسكن الحميمة، وهي قرية لا هي بعيدة عن دمشق ولا هي قريبة منها، وقد ورد أن الوليد أخرج عليًّا من دمشق إلى الحميمة عام 95هـوكان هشام بن عبد الملك يُكرمه ويُقدِّمه ويصله بالأموال كذلك، على الرغم من أنه كان يُواجهه ويُصارحه بأن أحفاده سَيَقْضون على مُلْك الأمويين، وسيملكون ما تحت أيديهم من البلاد كما قدمنا لبعض هذا في مقالنا عن "حديث النبوءة".
ومما كان يزيد من هذه المخاوف أن عليًّا له أكثر من ثلاثين ولدًا؛ منهم أكثر من عشرين ولدًا ذكرًا غير الإناثصحَّت مخاوف هشام بن عبد الملك لكن ليس من علي بن عبد الله بن العباس، بل من ولده محمد بن علي الذي سيؤسس الدعوة العباسية التي ستلد الدولة العباسية التي ستزيل دولة الأمويين.
نشر في ساسة بوست
ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 312، وابن عساكر: تاريخ دمشق 43/ 38. ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 313، والمبرد: الكامل 2/ 162، وابن عساكر: تاريخ دمشق 43/ 38، 39، والذهبي: سير أعلام النبلاء 5/ 252، 284. ابن كثير: البداية والنهاية 9/ 351. أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء 3/ 207. المبرد: الكامل 2/ 163، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 165، وابن الأثير: الكامل 4/ 55، وابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 275، وابن كثير: البداية والنهاية 9/ 351. ووضع محمد بن طاهر البرزنجي هذه الرواية في قسم الضعيف والمسكوت عنه في تاريخ الطبري 9/ 569. ابن الأثير: الكامل 4/ 109، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 3/ 34. الذهبي: تاريخ الإسلام 6/ 144. وفي بعض المصادر أن اسمها "لبابة"، ولكن غالب مصادر التراجم على أن اسمها "أم أبيها". المبرد: الكامل 2/ 161. ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 312، وابن قتيبة: المعارف ص207، وورد هذا -أيضًا- في كتب المحدثين مما يجعلها ثابتة، انظر: ابن عساكر: تاريخ دمشق 70/ 203، والمزي: تهذيب الكمال 35/ 326، 327، وابن حجر: تهذيب التهذيب 12/ 407. ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 223، 224. ابن عساكر: تاريخ دمشق 69/ 261، 262. ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 224. ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 278، وابن العماد: شذرات الذهب 1/ 143. الذهبي: سير أعلام النبلاء 5/ 253. ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 312، 313. ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 313، وابن عساكر: تاريخ دمشق 43/ 38، والذهبي: سير أعلام النبلاء 5/ 253.
وُلِد في الليلة التي قُتل فيها علي بن أبي طالب، فسُمِّي باسمه وكُنِّي بكنيته؛ فصار أبا الحسن علي بن عبد الله بن عباسوصفه المؤرِّخون بأنه أجمل قرشي على وجه الأرض في وقته، وكان طويلًا مفرط الطول، وكان كثير العبادة حتى لُقِّب بالسَّجَّادوكان سيدًا شريفًا، وكان مُعَظَّما جدًّا إلى الحدِّ الذي كان إذا قدم مكة حاجًّا أو معتمرًا عطلت قريش مجالسها في المسجد الحرام، وهجرت مواضع حلقها، ولزمت مجلس علي بن عبد الله إعظامًا وإجلالًا وتبجيلًا؛ فإن قعد قعدوا، وإن نهض نهضوا، وإن مشى مشوا جميعًا حوله، وكان لا يرى لقرشي في المسجد الحرام مجلس ذِكْر يجتمع إليه فيه حتى يخرج علي بن عبد الله من الحرموكان عبد الملك بن مروان يُكرم علي بن عبد الله بن عباس ويُقَدِّمه ويُهدي إليه الهدايا، بل كان يُجلسه على سرير الحكم معه، وهي منزلة عُليا؛ إلَّا أنه لما عرف أن كُنيته أبا الحسن، فهو كعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في اسمه وكنيته، طلب منه أن يُغَيِّر اسمه أو كنيته، فرفض أن يغير اسمه؛ ولكن غَيَّر كنيته إلى أبي محمد، ويُصَرِّح ابن خلكان بأن هذا لبُغْض عبد الملك بن مروان لعلي بن أبي طالب؛ حتى إنه لم يحتمل سماع الاسم والكنية معًاولا شَكَّ أن مثل هذا الموقف ساهم في إضافة مزيد من تراكم الثارات في نفوس آل البيت تجاه الأمويين، وأن عليًّا -فيما نظن- أقدم على تغيير كنيته كارهًا مضطرًا.
لكن العلاقة بين علي وعبد الملك بن مروان كانت طيبة؛ بل كان لعلي عند عبد الملك قدْرٌ كبير، حتى إن بعض مَنْ يخشون عبد الملك كان يُجيرهم علي بن عبد الله، كما في حالة عبد الله بن يزيد القسري ويحيى بن معتوق الهمدانيلكن العلاقات ساءت بين علي بن عبد الله بن عباس والوليد بن عبد الملك؛ إذ وردت روايات تُفيد بأن الوليد ضرب علي بن عبد الله بن عباس حين تزوج أم أبيهاوأقدم مصادر هذه الرواية هو المبرد في الكامل، وأوردها بلا إسناد، والجزء المؤكد منها هو تطليق عبد الملك لأم أبيها ثم زواجها من علي بن عبد اللهلكن سوء العلاقات بين علي بن عبد الله بن عباس والوليد يبدو ثابتًا؛ وذلك لأسباب غير هذه الرواية، ومن أقوى ما يُؤَيِّده أن علي بن عبد الله ترك دمشق وسكن الحميمة، وهي قرية لا هي بعيدة عن دمشق ولا هي قريبة منها، وقد ورد أن الوليد أخرج عليًّا من دمشق إلى الحميمة عام 95هـوكان هشام بن عبد الملك يُكرمه ويُقدِّمه ويصله بالأموال كذلك، على الرغم من أنه كان يُواجهه ويُصارحه بأن أحفاده سَيَقْضون على مُلْك الأمويين، وسيملكون ما تحت أيديهم من البلاد كما قدمنا لبعض هذا في مقالنا عن "حديث النبوءة".
ومما كان يزيد من هذه المخاوف أن عليًّا له أكثر من ثلاثين ولدًا؛ منهم أكثر من عشرين ولدًا ذكرًا غير الإناثصحَّت مخاوف هشام بن عبد الملك لكن ليس من علي بن عبد الله بن العباس، بل من ولده محمد بن علي الذي سيؤسس الدعوة العباسية التي ستلد الدولة العباسية التي ستزيل دولة الأمويين.
نشر في ساسة بوست
ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 312، وابن عساكر: تاريخ دمشق 43/ 38. ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 313، والمبرد: الكامل 2/ 162، وابن عساكر: تاريخ دمشق 43/ 38، 39، والذهبي: سير أعلام النبلاء 5/ 252، 284. ابن كثير: البداية والنهاية 9/ 351. أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء 3/ 207. المبرد: الكامل 2/ 163، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 165، وابن الأثير: الكامل 4/ 55، وابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 275، وابن كثير: البداية والنهاية 9/ 351. ووضع محمد بن طاهر البرزنجي هذه الرواية في قسم الضعيف والمسكوت عنه في تاريخ الطبري 9/ 569. ابن الأثير: الكامل 4/ 109، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 3/ 34. الذهبي: تاريخ الإسلام 6/ 144. وفي بعض المصادر أن اسمها "لبابة"، ولكن غالب مصادر التراجم على أن اسمها "أم أبيها". المبرد: الكامل 2/ 161. ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 312، وابن قتيبة: المعارف ص207، وورد هذا -أيضًا- في كتب المحدثين مما يجعلها ثابتة، انظر: ابن عساكر: تاريخ دمشق 70/ 203، والمزي: تهذيب الكمال 35/ 326، 327، وابن حجر: تهذيب التهذيب 12/ 407. ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 223، 224. ابن عساكر: تاريخ دمشق 69/ 261، 262. ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 224. ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 278، وابن العماد: شذرات الذهب 1/ 143. الذهبي: سير أعلام النبلاء 5/ 253. ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 312، 313. ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/ 313، وابن عساكر: تاريخ دمشق 43/ 38، والذهبي: سير أعلام النبلاء 5/ 253.
Published on September 02, 2016 00:20
August 26, 2016
في ذكرى إجهاض مبكر لثورة مصرية
في مثل هذا اليوم (24 أغسطس 1879م) هجم مجموعة من رجال الشرطة على الرجل المعمم الذي يسير في قلب القاهرة متجها إلى بيته قريبا من الأزهر، اختطفوه ووضعوه في قسم الشرطة، ومنه إلى السويس في عربة قطار مغلقة، ثم على باخرة إلى الهند، دون حتى أن يتمكن من أخذ ثيابه أو يعلم به أحد من أحبابه. وفي صباح (26 أغسطس) نشرت الصحف نبأ نفي "رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا".. ولم يكن هذا الشخص سوى جمال الدين الأفغاني!
(1) التضحية برأس النظام ليبقى النظام
كعادة الثورات المخدوعة، سقط رأس النظام ليبقى النظام.. خُلِع الخديوي إسماعيل لأنه الشخص الذي تلاقت مصلحة سائر الأطراف على خلعه:
1. الشعب المصري بدأ الدخول في ثورة على الخديوي، وهي التي إن نجحت فستهدم نفوذ الأجانب الهائل في مصر، كانت الأحوال قد ساءت تماما وتراكمت الديون بفعل الفساد المالي للخديوي وتبذيره غير المسبوق، ونشط الحديث عن الثورة في سائر القطاعات (وهذه من نذر الثورة كما يقول كرين برنتن)، فالبرلمان الذي صنعه الخديوي زخرفا لحكمه ومساندة لقراراته صار يوسع صلاحياته ويراقب الحكومة ويعترض على إنفاقها ويراجع القوانين، والجيش وصلته الأزمة وصدرت بعض تمردات كاد أحدها (حادث 18 فبراير 1879م) يودي بحياة الخديوي إسماعيل نفسه، والشارع صار يعطي قياده لأمثال عبد الله النديم، والنخبة تتمركز وتدور حول جمال الدين الأفغاني.. باختصار: صار الأمر خطيرا!
2. والسلطان العثماني –عبد الحميد الثاني في وقتها- يريد أن يستعيد تبعية مصر له من بعد ما بذل إسماعيل الأموال الضخمة لأسلافه ليستقل بمصر على الحقيقة، والواقع أن مصر صارت تابعة للأجانب ولهم فيها نفوذ لا يبلغ السلطان العثماني شيئا منه.
3. عندئذ رأى الإنجليز أن إسماعيل قد صار عبئا عليهم، وأن بقاءه يهدد نفوذ الأجانب ودولتهم بما يستثيره هذا من ثورة عليه، وبما ثبت من عجز نظامه عن تهدئة الأمور وإخمادها، فاختاروا التضحية برأس النظام ليبقى النظام نفسه.وهكذا اتفق الجميع اتفاقا غير مكتوب على خلع إسماعيل، ظنَّ الشعب وقادة الثورة أنه مكسب ثوري وخطوة عظمى على الطريق، لا سيما وأن البديل –وهو ابنه الخديوي توفيق- كان ضمن جمعية سرية تخطط للثورة على أبيه. وبمثل هذا استبشر السلطان العثماني الطموح صاحب مشروع الجامعة الإسلامية. وكالعادة في مثل هذه الأحوال: كان الطرف الأقوى هو الكاسب الوحيد بما له من قوة ونفوذ وتحكم وقدرة على استيعاب الحركة الجماهيرية ومناورتها لضربها.. وفعلها الإنجليز!
(2) النهج الإصلاحي المتردد
حدث ما لم يكن في الحسبان، فتوفيق الذي جاء به الإنجليز تحول من ثائر على أبيه إلى خديوي يريد الحفاظ على ملكه ولو بالخضوع التام للأجانب، والوزارات التي شُكِّلت لغرض تهدئة الأمور تولاها أمثال محمد شريف باشا (القانوني المشهور والملقب بمؤسس النظام الدستوري في مصر) والقانونيون بطبيعتهم إصلاحيون لا يصلحون للثورات، ومحمود سامي البارودي تحول من "رب السيف والقلم" إلى وزير إصلاحي.. كان الجميع يغريهم المكسب السهل بخلع الخديوي إسماعيل ويظنون أن الأمور ستسير في الطريق الصحيح باعتماد النهج الإصلاحي المتدرج حفاظا على البلد ومنعا لتدخل الاجانب.
وهكذا اتخذت الحكومة المصرية برئاسة الخديوي توفيق نفسه (تولى الوزارة بنفسه ليكبل البرلمان الذي لا تسمح له صلاحياته بمنابذة الخديوي) وبعضوية محمود سامي البارودي.. اتخذت قرارا بنفي جمال الدين الأفغاني من مصر فنُفي على هذه الصورة البئيسة الغادرة!
وبهذا النفي سددت أقوى ضربة للثورة المصرية التي توشك على الولادة، وخرجت الثورة ضعيفة مترددة تتأرجح بين الثورة والإصلاح، لا تجد قائدا ذكيا جسورا يسوقها إلى منتهاها، وأثبت قادة الثورة أنهم لم يكونوا أهلا لها مع الاحتفاظ لهم بالتقدير والشهادة لهم بالبسالة والإخلاص.
لقد اتفق كثيرون أيضا اتفاقا غير مكتوب أن الحل قد يكون في التخلص من هذا المزعج جمال الدين الأفغاني، بداية من الإنجليز الذين تتهددهم ثورة مرورا بالإصلاحيين الذين يرون في الأفغاني خطرا يهدد البلاد ويضيع مكاسبها الثورية بتهوره وانتهاء بالأغبياء الذين لا يعرفون قدر وندرة القيادة الذكية الجسورة ويحسبون أن الرجال كثير وإن هلك أحد قام غيره مقامه!
(3) لماذا الأفغاني؟
لأن الأفغاني هو الشخصية الوحيدة التي استطاعت أن تصنع ثورة في كل مكان نزلت به، في أفغانستان والهند وإيران ومصر، وحتى منافيه التي كانت بين فرنسا وإنجلترا وروسيا كانت غرفة عمليات لنشر الوعي والتحريض على الثورة والمقاومة، ولأجل هذا –كما يروي جلال كشك- لم يستطع جمع من المثقفين الإجابة على سؤال: هل كان الأفغاني سنيا أم شيعيا؟ لأن الرجل لاقى في بلاد السنة تقديرا عظيما لا يمكن أن يلقاه شيعي ثم هو أشعل ثورة غير مسبوقة في إيران حتى تراجع الشاه عن منح امتياز الدخان لشركة إنجليزية (كانت ستكرر مأساة احتلال الهند) وهو أمر لا يتسنى أن يفعله سني في بلاد فارس لذلك الوقت.
لقد وصفه محمد عبده بقوله: "كأنه حقيقة كلية تجلت في كل نفس بما يلائمها"! وهكذا اجتمع إلى الأفغاني العلماء والأدباء، المسلمون والنصارى، أهل الأزهر وخريجو التعليم الحديث! وهو يبث في كل هؤلاء من روح ثورته، ولقد بالغ بعض المؤرخين مثل كارل بروكلمان فقال فيه قولا مدهشا: "كان الإسلام ولا يزال هو المهيمن على الحياة الدينية في مصر، وإنما يرجع الفضل في ذلك، في المحل الأول، إلى جمال الدين (الأفغاني)"حتى عبد الرحمن الرافعي –مؤرخ القومية المصرية، وهو قومي حتى النخاع- لا يتردد في وصف الأفغاني بأنه رأس في الإصلاح الديني والفكري والسياسي، وقال بأنه في الإصلاح الديني مثل مارتن لوثر في المسيحية، وفي الإصلاح الفكري مثل روسو ومونتسكيو، وفي الإصلاح السياسي مثل واشنطن وجاربيلدي ومازيني وكوشوتومن المهم هنا أن نذكر أن الأفغاني جاب أهم بلاد العالم الإسلامي: أفغانستان والهند والحجاز وفارس ومصر وتركيا، لكن السنين التي قضاها في مصر كانت أخصب سنيه وأكثرها إنتاجا وأقواها تأثيرا.
كان لا بد للإنجليز إخراج هذا الرجل من مصر، وقد كان، وفقدت به الثورة المصرية قائدا لا يعوض، وانتثر شمل تلاميذه من بعده، بل منهم من طلق السياسة واتجه للإصلاح التربوي والتعليمي فلا هو نجح ولا هو ورث شيخه في الثورة.
(4) النهاية المريرة
انتهى الحال بالأفغاني في بلاط السلطان عبد الحميد، السلطان الذي يُشهد له بالذكاء ويُؤخذ عليه التردد، كان عبد الحميد يحتاج الأفغاني في مشروع الجامعة الإسلامية وكان الأفغاني خير من يستطيع القيام بهذا الدور، إلا أن ثورية الأفغاني كانت مخيفة لعبد الحميد.. فماذا فعل؟
لا يجرؤ على قتله، وهو من أشهر أعلام المسلمين وأرفعهم مكانة، ولا يجرؤ على نفيه وإلا لحقت به نفس المهانة التي لحقت بتوفيق وبالحكومة المصرية، فلجأ إلى حبسه.. حبسه في "قفص ذهبي"، جعله أسيرا عنده تحت المراقبة على هيئة المستشار، لا هو يسمح له بالخروج من تركيا ولا هو يأخذ بمشورته، ثم مات الأفغاني ميتة تحيط بها الشبهات وتتوجه أصابع الاتهام فيها لعبد الحميد نفسه.
وهكذا قُضِي على الشخصية العجيبة النادرة المواهب والطاقات.. لقد سُدِّدت له كثير من الطعنات، لكن أقوى طعنتين كانتا من رجليْن مسلميْن صالحيْن: البارودي والسلطان عبد الحميد.
يروي أمير البيان شكيب أرسلان حديثا بينه وبين الأفغاني في أيامه الأخيرة، قال الأفغاني: "لم يبق في الإسلام [المسلمين] أخلاق، فهذا محمود سامي (البارودي) عاهدني ثم نكث معي وهو أفضل من عرفت من المسلمين"نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ص617. عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، 2/140 وما بعدها، 1/225. انظر: حاضر العالم الإسلامي، 2/299.
(1) التضحية برأس النظام ليبقى النظام
كعادة الثورات المخدوعة، سقط رأس النظام ليبقى النظام.. خُلِع الخديوي إسماعيل لأنه الشخص الذي تلاقت مصلحة سائر الأطراف على خلعه:
1. الشعب المصري بدأ الدخول في ثورة على الخديوي، وهي التي إن نجحت فستهدم نفوذ الأجانب الهائل في مصر، كانت الأحوال قد ساءت تماما وتراكمت الديون بفعل الفساد المالي للخديوي وتبذيره غير المسبوق، ونشط الحديث عن الثورة في سائر القطاعات (وهذه من نذر الثورة كما يقول كرين برنتن)، فالبرلمان الذي صنعه الخديوي زخرفا لحكمه ومساندة لقراراته صار يوسع صلاحياته ويراقب الحكومة ويعترض على إنفاقها ويراجع القوانين، والجيش وصلته الأزمة وصدرت بعض تمردات كاد أحدها (حادث 18 فبراير 1879م) يودي بحياة الخديوي إسماعيل نفسه، والشارع صار يعطي قياده لأمثال عبد الله النديم، والنخبة تتمركز وتدور حول جمال الدين الأفغاني.. باختصار: صار الأمر خطيرا!
2. والسلطان العثماني –عبد الحميد الثاني في وقتها- يريد أن يستعيد تبعية مصر له من بعد ما بذل إسماعيل الأموال الضخمة لأسلافه ليستقل بمصر على الحقيقة، والواقع أن مصر صارت تابعة للأجانب ولهم فيها نفوذ لا يبلغ السلطان العثماني شيئا منه.
3. عندئذ رأى الإنجليز أن إسماعيل قد صار عبئا عليهم، وأن بقاءه يهدد نفوذ الأجانب ودولتهم بما يستثيره هذا من ثورة عليه، وبما ثبت من عجز نظامه عن تهدئة الأمور وإخمادها، فاختاروا التضحية برأس النظام ليبقى النظام نفسه.وهكذا اتفق الجميع اتفاقا غير مكتوب على خلع إسماعيل، ظنَّ الشعب وقادة الثورة أنه مكسب ثوري وخطوة عظمى على الطريق، لا سيما وأن البديل –وهو ابنه الخديوي توفيق- كان ضمن جمعية سرية تخطط للثورة على أبيه. وبمثل هذا استبشر السلطان العثماني الطموح صاحب مشروع الجامعة الإسلامية. وكالعادة في مثل هذه الأحوال: كان الطرف الأقوى هو الكاسب الوحيد بما له من قوة ونفوذ وتحكم وقدرة على استيعاب الحركة الجماهيرية ومناورتها لضربها.. وفعلها الإنجليز!
(2) النهج الإصلاحي المتردد
حدث ما لم يكن في الحسبان، فتوفيق الذي جاء به الإنجليز تحول من ثائر على أبيه إلى خديوي يريد الحفاظ على ملكه ولو بالخضوع التام للأجانب، والوزارات التي شُكِّلت لغرض تهدئة الأمور تولاها أمثال محمد شريف باشا (القانوني المشهور والملقب بمؤسس النظام الدستوري في مصر) والقانونيون بطبيعتهم إصلاحيون لا يصلحون للثورات، ومحمود سامي البارودي تحول من "رب السيف والقلم" إلى وزير إصلاحي.. كان الجميع يغريهم المكسب السهل بخلع الخديوي إسماعيل ويظنون أن الأمور ستسير في الطريق الصحيح باعتماد النهج الإصلاحي المتدرج حفاظا على البلد ومنعا لتدخل الاجانب.
وهكذا اتخذت الحكومة المصرية برئاسة الخديوي توفيق نفسه (تولى الوزارة بنفسه ليكبل البرلمان الذي لا تسمح له صلاحياته بمنابذة الخديوي) وبعضوية محمود سامي البارودي.. اتخذت قرارا بنفي جمال الدين الأفغاني من مصر فنُفي على هذه الصورة البئيسة الغادرة!
وبهذا النفي سددت أقوى ضربة للثورة المصرية التي توشك على الولادة، وخرجت الثورة ضعيفة مترددة تتأرجح بين الثورة والإصلاح، لا تجد قائدا ذكيا جسورا يسوقها إلى منتهاها، وأثبت قادة الثورة أنهم لم يكونوا أهلا لها مع الاحتفاظ لهم بالتقدير والشهادة لهم بالبسالة والإخلاص.
لقد اتفق كثيرون أيضا اتفاقا غير مكتوب أن الحل قد يكون في التخلص من هذا المزعج جمال الدين الأفغاني، بداية من الإنجليز الذين تتهددهم ثورة مرورا بالإصلاحيين الذين يرون في الأفغاني خطرا يهدد البلاد ويضيع مكاسبها الثورية بتهوره وانتهاء بالأغبياء الذين لا يعرفون قدر وندرة القيادة الذكية الجسورة ويحسبون أن الرجال كثير وإن هلك أحد قام غيره مقامه!
(3) لماذا الأفغاني؟
لأن الأفغاني هو الشخصية الوحيدة التي استطاعت أن تصنع ثورة في كل مكان نزلت به، في أفغانستان والهند وإيران ومصر، وحتى منافيه التي كانت بين فرنسا وإنجلترا وروسيا كانت غرفة عمليات لنشر الوعي والتحريض على الثورة والمقاومة، ولأجل هذا –كما يروي جلال كشك- لم يستطع جمع من المثقفين الإجابة على سؤال: هل كان الأفغاني سنيا أم شيعيا؟ لأن الرجل لاقى في بلاد السنة تقديرا عظيما لا يمكن أن يلقاه شيعي ثم هو أشعل ثورة غير مسبوقة في إيران حتى تراجع الشاه عن منح امتياز الدخان لشركة إنجليزية (كانت ستكرر مأساة احتلال الهند) وهو أمر لا يتسنى أن يفعله سني في بلاد فارس لذلك الوقت.
لقد وصفه محمد عبده بقوله: "كأنه حقيقة كلية تجلت في كل نفس بما يلائمها"! وهكذا اجتمع إلى الأفغاني العلماء والأدباء، المسلمون والنصارى، أهل الأزهر وخريجو التعليم الحديث! وهو يبث في كل هؤلاء من روح ثورته، ولقد بالغ بعض المؤرخين مثل كارل بروكلمان فقال فيه قولا مدهشا: "كان الإسلام ولا يزال هو المهيمن على الحياة الدينية في مصر، وإنما يرجع الفضل في ذلك، في المحل الأول، إلى جمال الدين (الأفغاني)"حتى عبد الرحمن الرافعي –مؤرخ القومية المصرية، وهو قومي حتى النخاع- لا يتردد في وصف الأفغاني بأنه رأس في الإصلاح الديني والفكري والسياسي، وقال بأنه في الإصلاح الديني مثل مارتن لوثر في المسيحية، وفي الإصلاح الفكري مثل روسو ومونتسكيو، وفي الإصلاح السياسي مثل واشنطن وجاربيلدي ومازيني وكوشوتومن المهم هنا أن نذكر أن الأفغاني جاب أهم بلاد العالم الإسلامي: أفغانستان والهند والحجاز وفارس ومصر وتركيا، لكن السنين التي قضاها في مصر كانت أخصب سنيه وأكثرها إنتاجا وأقواها تأثيرا.
كان لا بد للإنجليز إخراج هذا الرجل من مصر، وقد كان، وفقدت به الثورة المصرية قائدا لا يعوض، وانتثر شمل تلاميذه من بعده، بل منهم من طلق السياسة واتجه للإصلاح التربوي والتعليمي فلا هو نجح ولا هو ورث شيخه في الثورة.
(4) النهاية المريرة
انتهى الحال بالأفغاني في بلاط السلطان عبد الحميد، السلطان الذي يُشهد له بالذكاء ويُؤخذ عليه التردد، كان عبد الحميد يحتاج الأفغاني في مشروع الجامعة الإسلامية وكان الأفغاني خير من يستطيع القيام بهذا الدور، إلا أن ثورية الأفغاني كانت مخيفة لعبد الحميد.. فماذا فعل؟
لا يجرؤ على قتله، وهو من أشهر أعلام المسلمين وأرفعهم مكانة، ولا يجرؤ على نفيه وإلا لحقت به نفس المهانة التي لحقت بتوفيق وبالحكومة المصرية، فلجأ إلى حبسه.. حبسه في "قفص ذهبي"، جعله أسيرا عنده تحت المراقبة على هيئة المستشار، لا هو يسمح له بالخروج من تركيا ولا هو يأخذ بمشورته، ثم مات الأفغاني ميتة تحيط بها الشبهات وتتوجه أصابع الاتهام فيها لعبد الحميد نفسه.
وهكذا قُضِي على الشخصية العجيبة النادرة المواهب والطاقات.. لقد سُدِّدت له كثير من الطعنات، لكن أقوى طعنتين كانتا من رجليْن مسلميْن صالحيْن: البارودي والسلطان عبد الحميد.
يروي أمير البيان شكيب أرسلان حديثا بينه وبين الأفغاني في أيامه الأخيرة، قال الأفغاني: "لم يبق في الإسلام [المسلمين] أخلاق، فهذا محمود سامي (البارودي) عاهدني ثم نكث معي وهو أفضل من عرفت من المسلمين"نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ص617. عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، 2/140 وما بعدها، 1/225. انظر: حاضر العالم الإسلامي، 2/299.
Published on August 26, 2016 00:07
August 19, 2016
القاهرة.. عاصمة الثورة الإسلامية
ينبغي التنبيه بداية أن هذا المقال وإن كتبه مصري فإن منطلقه وهدفه ليس لها أدنى علاقة بنظرة وطنية أو قومية أو عنصرية، إنما المنطلق والهدف هو مصلحة الأمة الإسلامية ككل، فيها كل المسلمين إخوة، لا فرق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، ومن الإخلاص للأمة ألا يكتم مصري قولا فيه شبهة وطنية لئلا يُتَّهَم بالعنصرية، وقد تعلمنا من علمائنا أن "ترك العمل لأجل الناس رياء".
(1) العواصم
بُعِث النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة، وما ذلك إلا لأنها أعز مدن العرب وأشرفها وأعلاها قدرا، فإذا اعتنقت مكة دينا تبعها عليه سائر العرب، ومن مكة انتشرت عبادة الأصنام في الجزيرة العربية حين أتى سيدها في الجاهلية عمرو بن لحي الخزاعي بصنم لأول مرة، وكانت سيرة النبي كلها تدور حول مكة، فقد بذل كل الجهد مع أشرافها لاعتناق الدين، فلما أبوا وخرج إلى المدينة مهاجرا كانت كل معاركه تدور حول مكة، وحين اعترفت مكة بدولة المدينة في اتفاقية الحديبية سمَّى الله ذلك "فتحا مبينا"، وحين فُتِحت مكة كان ذلك هو "الفتح الأعظم"، وعندئذ فقط: جاءت قبائل العرب تدخل في دين الله أفواجا.
ومما هو من قواعد الحياة وسير التاريخ أن نصر دولة على أخرى إنما هو اللحظة التي تسقط فيها العاصمة، وطالما بقيت العاصمة تقاوم فالحرب لم تنته بعد، والثورة تنجح حين تسيطر على العاصمة، وتفشل إن لم تنجح في هذا، والمعارك الكبرى في التاريخ هي معارك العاصمة (سواء معركة السيطرة عليها أو المعركة التي يهلك فيها الجيش الرئيسي فينفتح الطريق إلى العاصمة).. وهذا أمر لا نطيل فيه، إذ التطويل تكرار وإعادة لما هو معروف.
ونحن حين ننظر إلى الأمة الإسلامية الآن، ونحاول تعداد العواصم الكبرى المهمة فيها، والتي يؤثر تغير الحال فيها على حال الأمة كله، أقول: إذا عددنا العواصم فلن يمكن بحال تجاوز القاهرة، وقد رأيت بنفسي تعلق المسلمين من أقاصي الشرق والغرب بأحوال مصر، وسمعت من الحكايات الكثير الكثير حول آمال انفجرت وأحوال تغيرت مع نجاح الثورة المصرية وحول آمال تحطمت وأحوال انتكست مع الانقلاب العسكري في مصر.
(2) مصر.. تعدل الخلافة
منذ بدأ تاريخ الإسلام ولمصر مكانتها، ويشتهر جدا قول عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص والذي سجلته كتب فضائل مصر: "ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة".
وفي التاريخ عقدة مشهورة، فأي ثائر أو صاحب مشروع أو مؤسس لدولة تواجهه عقبة المال والرجال، فهو محتاج إلى مال ينفقه على الرجال الذين ينطلق بهم في ثورته أو في تأسيس دولته، فإذا اتسع نفوذه ازدادت حاجته إلى الرجال لحفظ الدولة، فتزداد حاجته إلى المال للإنفاق على الرجال، فيضطر إلى التوسع للتحصل على موارد وأموال، فيحتاج التوسع إلى رجال أكثر.. وهكذا!
لكن بعض البلاد لا تخضع لهذه القاعدة، وعلى رأس هذه البلاد مصر، فإنها لما فيها من أموال وافرة تستطيع دائما تمويل كل مشروع وكل دولة، فمصر دائما مخزن المال والرجال، ولذلك فما إن يسيطر عليها حاكم إلا ويستطيع تكوين جيش فيكون بمثابة الخليفة، ويكون مستقلا على الحقيقة بل ويكون أقوى من الخليفة نفسه. وكثيرا ما وقفت مصر هذا الموقف، فعندما ضعفت الخلافة العباسية تولت مصر "الطولونية" حكم الشام وحماية الثغور وجهاد الروم، واستمر هذا في عهد الطولونيين، ثم في عهد العبيديين الفاطميين الذين نشأت دولتهم في المغرب لكنها لم تزدهر وتستقر إلا في مصر.
ولم تستطع الشام مقاومة الحملات الصليبية إلا حين أضيفت قوة مصر إلى قوة الشام، وكان السباق بين الصليبيين وأهل الشام على مصر سباقا استراتيجيا شرسا بكل معاني الكلمة، كلا الطرفين يعلم أن من سيسبق إلى مصر ستكون له الكلمة العليا في الشام، وقد سبق نور الدين زنكي برجاله الأيوبيين ثم لم تعد مسألة تحرير بيت المقدس إلا مسألة وقت.
في ذلك الوقت نشأت أول فكرة استراتيجية ما تزال حاضرة حتى هذه اللحظة، لقد انتقل الصراع بين الإسلام والغرب ليكون حول مصر أولا، فمنذ الحملة الصليبية الخامسة وحتى لحظة كتابة هذه السطور كان الصراع الإسلامي الغربي يبدأ بالسيطرة على مصر، واستطاعت مصر صد الحملة الصليبية الخامسة والسابعة فانتهت بذلك الحملات الصليبية الكبرى، وصار تطهير الشام أيضا مسألة وقت.
وانكسر المغول عند مصر ولم يكرروا المحاولة، وانتقلت الخلافة من بغداد إلى القاهرة وظلت فيها نحو ثلاثة قرون، حتى تيمور لنك توقف عند دمشق التي لم يستطع أن يدخلها إلا بعد انسحاب الجيش المصري (لأن القاهرة شهدت انقلابا عسكريا خائنا آنذاك)، ثم لم يفكر في التوغل إلى مصر.
(3) الحروب الصليبية.. مستمرة
لما انتهت الحروب الصليبية كلَّفت الكنيسة المؤرخ الإيطالي مارينو صاندو تورسيللو بكتابة تاريخ للحروب الصليبية وتحليل لأسباب الفشل، فأخرج ثلاثة عشر مجلدا، جعل توصياته في المجلد الأخير، وكانت توصيته الرئيسية أنه إذا أراد الغرب تكرار المحاولة فعليه أن يبدأ بمصر، لأن الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه الحروب الصليبية أنها انطلقت إلى الشام، ونسيت مصر التي كان بإمكانها دائما أن تغذي حركة الجهاد في الشام بالمال والرجال.
وقد عملت أوروبا بالوصية، فجاءت الحملة الفرنسية إلى مصر أولا، ولما تمكنت من مصر استدارت إلى الشام، ومنذ ذلك التاريخ لم يتمكن الغرب من الشام إلا اعتمادا على المجهود المصري والدم المصري والمال المصري، وما ذلك إلا لأن السلطة المصرية كانت سلطة غربية تمثل الغرب وترعى مصالحه!
حتى ذلك الوقت لم تتلق الدولة العثمانية هزائم كالتي تلقتها على يد جيش محمد علي الذي انطلق من القاهرة فعبر الشام كلها ثم وصل إلى كوتاهية وهدد القسطنطينية ونزع من الدولة العثمانية جيشها وأسطولها في وقت واحد. ولم يتأسس النفوذ الأجنبي في الشام إلا في ظل سلطة محمد علي، ففي ذلك الوقت افتتحت القنصليات الأجنبية وأعطي لها النفوذ الواسع، وقُلب ميزان القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لصالح الأجانب، وفي ذلك الوقت ظهرت أول محاولة جادة لإنشاء إسرائيل (بدعم ورعاية سلطة محمد علي).
ثم جاء الاحتلال الإنجليزي فنزل في مصر أولا، وقضى فيها خمسا وثلاثين عاما قبل أن يسيطر على الشام، ثم لم يسيطر على الشام وينتزع بيت المقدس إلا وفي ركابه الجيش المصري، مستعينا بالمجهود المصري والاقتصاد المصري والموارد المصرية.
ولم تنشأ إسرائيل إلا لأن دول الطوق –وأهمها: مصر- كانت محتلة، فكانت السلطة التي نصبها الاحتلال خير معين لها على القيام، وخير مكافح للمجاهدين الذين كادوا يقضون عليها، وما كانت إسرائيل لتنشأ لو لم تكن مصر محتلة! وحتى هذه اللحظة ليس لإسرائيل حماية حقيقية من خارجها أقوى من السلطة المصرية التي ظلت منذ لحظة تأسيسها تقدم أفضل المساعدة لتمكين إسرائيل ومحاربة من يقاومها.
(4) قالها كل ريتشارد: الكنز الكبير
يخبرني صديق عراقي أن الانقلابات العسكرية لم تنتشر في المنطقة العربية بعد انقلابات سوريا –أواخر الأربعينات- وإنما بعد الانقلاب العسكري في مصر 1952، يقول: مصر هي القاطرة في هذه المنطقة.
ليس الأمر معضلة، ولا هو غير واضح، بل إننا نجد هذا الكلام في تصريحات سياسيين كبار يضعون الخطط الكبرى مثل ريتشارد بيرل قبل سنوات، أو نجده في كلام رحالة إنجليزي زار مصر في منتصف القرن التاسع عشر. وبينهما آلاف ممن أفصحوا عن هذا.
لما قال ريتشارد بيرل: "العراق هدف تكتيكي، والسعودية هدف استراتيجي، أما مصر فهي الجائزة الكبرى"ها هو ريتشارد المعاصر يحدد لنا عواصم العرب، وها هو ريتشارد القديم يعدد لنا فوائد السيطرة على القاهرة.
فإذا تحررت القاهرة، كان ذلك أول تحرير بقية العواصم.. ولهذا اجتمع كل مستبد وكل محتل على ثورة مصر لكي يُجهض الوليد قبل أن يولد، ولذا فلست أشك لحظة أن هذه الأمة إن كان لها خليفة أو كان ثمة من ينظر إلى المشهد من فوق ويمكنه تحريك الطاقات لوضع طاقاته كلها في معركة القاهرة.. فإنها معركة الثورة الإسلامية جميعا.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
أحمد منصور، قصة سقوط بغداد، ط6 (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2004م)، ص51. (وهو ينقل عن تقرير هآارتس بتاريخ 15 نوفمبر 2002م). ريتشارد ف. بيرتون، رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز، ترجمة وتعليق: د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ، (القاهرة: دار المعارف، 1994م)، ص98، 99.
(1) العواصم
بُعِث النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة، وما ذلك إلا لأنها أعز مدن العرب وأشرفها وأعلاها قدرا، فإذا اعتنقت مكة دينا تبعها عليه سائر العرب، ومن مكة انتشرت عبادة الأصنام في الجزيرة العربية حين أتى سيدها في الجاهلية عمرو بن لحي الخزاعي بصنم لأول مرة، وكانت سيرة النبي كلها تدور حول مكة، فقد بذل كل الجهد مع أشرافها لاعتناق الدين، فلما أبوا وخرج إلى المدينة مهاجرا كانت كل معاركه تدور حول مكة، وحين اعترفت مكة بدولة المدينة في اتفاقية الحديبية سمَّى الله ذلك "فتحا مبينا"، وحين فُتِحت مكة كان ذلك هو "الفتح الأعظم"، وعندئذ فقط: جاءت قبائل العرب تدخل في دين الله أفواجا.
ومما هو من قواعد الحياة وسير التاريخ أن نصر دولة على أخرى إنما هو اللحظة التي تسقط فيها العاصمة، وطالما بقيت العاصمة تقاوم فالحرب لم تنته بعد، والثورة تنجح حين تسيطر على العاصمة، وتفشل إن لم تنجح في هذا، والمعارك الكبرى في التاريخ هي معارك العاصمة (سواء معركة السيطرة عليها أو المعركة التي يهلك فيها الجيش الرئيسي فينفتح الطريق إلى العاصمة).. وهذا أمر لا نطيل فيه، إذ التطويل تكرار وإعادة لما هو معروف.
ونحن حين ننظر إلى الأمة الإسلامية الآن، ونحاول تعداد العواصم الكبرى المهمة فيها، والتي يؤثر تغير الحال فيها على حال الأمة كله، أقول: إذا عددنا العواصم فلن يمكن بحال تجاوز القاهرة، وقد رأيت بنفسي تعلق المسلمين من أقاصي الشرق والغرب بأحوال مصر، وسمعت من الحكايات الكثير الكثير حول آمال انفجرت وأحوال تغيرت مع نجاح الثورة المصرية وحول آمال تحطمت وأحوال انتكست مع الانقلاب العسكري في مصر.
(2) مصر.. تعدل الخلافة
منذ بدأ تاريخ الإسلام ولمصر مكانتها، ويشتهر جدا قول عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص والذي سجلته كتب فضائل مصر: "ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة".
وفي التاريخ عقدة مشهورة، فأي ثائر أو صاحب مشروع أو مؤسس لدولة تواجهه عقبة المال والرجال، فهو محتاج إلى مال ينفقه على الرجال الذين ينطلق بهم في ثورته أو في تأسيس دولته، فإذا اتسع نفوذه ازدادت حاجته إلى الرجال لحفظ الدولة، فتزداد حاجته إلى المال للإنفاق على الرجال، فيضطر إلى التوسع للتحصل على موارد وأموال، فيحتاج التوسع إلى رجال أكثر.. وهكذا!
لكن بعض البلاد لا تخضع لهذه القاعدة، وعلى رأس هذه البلاد مصر، فإنها لما فيها من أموال وافرة تستطيع دائما تمويل كل مشروع وكل دولة، فمصر دائما مخزن المال والرجال، ولذلك فما إن يسيطر عليها حاكم إلا ويستطيع تكوين جيش فيكون بمثابة الخليفة، ويكون مستقلا على الحقيقة بل ويكون أقوى من الخليفة نفسه. وكثيرا ما وقفت مصر هذا الموقف، فعندما ضعفت الخلافة العباسية تولت مصر "الطولونية" حكم الشام وحماية الثغور وجهاد الروم، واستمر هذا في عهد الطولونيين، ثم في عهد العبيديين الفاطميين الذين نشأت دولتهم في المغرب لكنها لم تزدهر وتستقر إلا في مصر.
ولم تستطع الشام مقاومة الحملات الصليبية إلا حين أضيفت قوة مصر إلى قوة الشام، وكان السباق بين الصليبيين وأهل الشام على مصر سباقا استراتيجيا شرسا بكل معاني الكلمة، كلا الطرفين يعلم أن من سيسبق إلى مصر ستكون له الكلمة العليا في الشام، وقد سبق نور الدين زنكي برجاله الأيوبيين ثم لم تعد مسألة تحرير بيت المقدس إلا مسألة وقت.
في ذلك الوقت نشأت أول فكرة استراتيجية ما تزال حاضرة حتى هذه اللحظة، لقد انتقل الصراع بين الإسلام والغرب ليكون حول مصر أولا، فمنذ الحملة الصليبية الخامسة وحتى لحظة كتابة هذه السطور كان الصراع الإسلامي الغربي يبدأ بالسيطرة على مصر، واستطاعت مصر صد الحملة الصليبية الخامسة والسابعة فانتهت بذلك الحملات الصليبية الكبرى، وصار تطهير الشام أيضا مسألة وقت.
وانكسر المغول عند مصر ولم يكرروا المحاولة، وانتقلت الخلافة من بغداد إلى القاهرة وظلت فيها نحو ثلاثة قرون، حتى تيمور لنك توقف عند دمشق التي لم يستطع أن يدخلها إلا بعد انسحاب الجيش المصري (لأن القاهرة شهدت انقلابا عسكريا خائنا آنذاك)، ثم لم يفكر في التوغل إلى مصر.
(3) الحروب الصليبية.. مستمرة
لما انتهت الحروب الصليبية كلَّفت الكنيسة المؤرخ الإيطالي مارينو صاندو تورسيللو بكتابة تاريخ للحروب الصليبية وتحليل لأسباب الفشل، فأخرج ثلاثة عشر مجلدا، جعل توصياته في المجلد الأخير، وكانت توصيته الرئيسية أنه إذا أراد الغرب تكرار المحاولة فعليه أن يبدأ بمصر، لأن الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه الحروب الصليبية أنها انطلقت إلى الشام، ونسيت مصر التي كان بإمكانها دائما أن تغذي حركة الجهاد في الشام بالمال والرجال.
وقد عملت أوروبا بالوصية، فجاءت الحملة الفرنسية إلى مصر أولا، ولما تمكنت من مصر استدارت إلى الشام، ومنذ ذلك التاريخ لم يتمكن الغرب من الشام إلا اعتمادا على المجهود المصري والدم المصري والمال المصري، وما ذلك إلا لأن السلطة المصرية كانت سلطة غربية تمثل الغرب وترعى مصالحه!
حتى ذلك الوقت لم تتلق الدولة العثمانية هزائم كالتي تلقتها على يد جيش محمد علي الذي انطلق من القاهرة فعبر الشام كلها ثم وصل إلى كوتاهية وهدد القسطنطينية ونزع من الدولة العثمانية جيشها وأسطولها في وقت واحد. ولم يتأسس النفوذ الأجنبي في الشام إلا في ظل سلطة محمد علي، ففي ذلك الوقت افتتحت القنصليات الأجنبية وأعطي لها النفوذ الواسع، وقُلب ميزان القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لصالح الأجانب، وفي ذلك الوقت ظهرت أول محاولة جادة لإنشاء إسرائيل (بدعم ورعاية سلطة محمد علي).
ثم جاء الاحتلال الإنجليزي فنزل في مصر أولا، وقضى فيها خمسا وثلاثين عاما قبل أن يسيطر على الشام، ثم لم يسيطر على الشام وينتزع بيت المقدس إلا وفي ركابه الجيش المصري، مستعينا بالمجهود المصري والاقتصاد المصري والموارد المصرية.
ولم تنشأ إسرائيل إلا لأن دول الطوق –وأهمها: مصر- كانت محتلة، فكانت السلطة التي نصبها الاحتلال خير معين لها على القيام، وخير مكافح للمجاهدين الذين كادوا يقضون عليها، وما كانت إسرائيل لتنشأ لو لم تكن مصر محتلة! وحتى هذه اللحظة ليس لإسرائيل حماية حقيقية من خارجها أقوى من السلطة المصرية التي ظلت منذ لحظة تأسيسها تقدم أفضل المساعدة لتمكين إسرائيل ومحاربة من يقاومها.
(4) قالها كل ريتشارد: الكنز الكبير
يخبرني صديق عراقي أن الانقلابات العسكرية لم تنتشر في المنطقة العربية بعد انقلابات سوريا –أواخر الأربعينات- وإنما بعد الانقلاب العسكري في مصر 1952، يقول: مصر هي القاطرة في هذه المنطقة.
ليس الأمر معضلة، ولا هو غير واضح، بل إننا نجد هذا الكلام في تصريحات سياسيين كبار يضعون الخطط الكبرى مثل ريتشارد بيرل قبل سنوات، أو نجده في كلام رحالة إنجليزي زار مصر في منتصف القرن التاسع عشر. وبينهما آلاف ممن أفصحوا عن هذا.
لما قال ريتشارد بيرل: "العراق هدف تكتيكي، والسعودية هدف استراتيجي، أما مصر فهي الجائزة الكبرى"ها هو ريتشارد المعاصر يحدد لنا عواصم العرب، وها هو ريتشارد القديم يعدد لنا فوائد السيطرة على القاهرة.
فإذا تحررت القاهرة، كان ذلك أول تحرير بقية العواصم.. ولهذا اجتمع كل مستبد وكل محتل على ثورة مصر لكي يُجهض الوليد قبل أن يولد، ولذا فلست أشك لحظة أن هذه الأمة إن كان لها خليفة أو كان ثمة من ينظر إلى المشهد من فوق ويمكنه تحريك الطاقات لوضع طاقاته كلها في معركة القاهرة.. فإنها معركة الثورة الإسلامية جميعا.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
أحمد منصور، قصة سقوط بغداد، ط6 (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2004م)، ص51. (وهو ينقل عن تقرير هآارتس بتاريخ 15 نوفمبر 2002م). ريتشارد ف. بيرتون، رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز، ترجمة وتعليق: د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ، (القاهرة: دار المعارف، 1994م)، ص98، 99.
Published on August 19, 2016 23:12
August 18, 2016
ماذا تعرف عن أجداد الخلفاء العباسيين؟
الدولة العباسية، رسميا، هي أطول فترات الخلافة الإسلامية، فقد استمرت ثمانية قرون ليس للمسلمين خليفة شرعي إلا الخليفة العباسي مهما كان ضعيفا أو كانت سلطته شكلية في العديد من العصور.
فمن هم العباسيون، وإلى من يرجع نسبهم؟
للعباسيين نسب عريق في الإسلام، فهم يرجعون إلى:وهو عمُّ النبي ﷺ، ووُلِد قبله بثلاث سنوات، وكان من سادات قريش، وكان -في الجاهلية- مسئولًا عن سقاية الحجيج وعمارة البيت الحرام في الجاهلية، فكان لا يدع أحدًا يسبُّ في المسجد الحرام ولا يقول فيه هجرًا. وكان العباس طويلًا وجميلًا، أبيض البشرة، جهير الصوت جدًّا، وكان شريفًا كريمًا حليمًا مُهابًا، وكان سيد بني هاشم وأكثرهم مالًا في الجاهلية، فكان يلجأ إليه الجائع فيطعمه والعاري فيَكْسُوَه، وكان يمنع الجار، ويبذل المال، ويعطي في النوائب.
حضر العباس بيعة العقبة الثانية، ولم يكن قد أسلم وقتها، وتَوَثَّق من قيام الأنصار بمسئولية حماية النبي ﷺ وتمسُّكهم به، وبقي على الشرك حتى هاجر النبي ﷺ إلى المدينة، ولكنه كان في مكة ملجأ للمستضعفين من المؤمنين ممَّنْ لم يستطيعوا الهجرة، وخرج مُكْرَهًا إلى غزوة بدر في جيش الكفار فَأُسِر، وكان النبي ﷺ قد أمر صحابته ألا يقتلوا العباس إذا لقوه في المعركة لأنه خرج مكرها(وهنا يختلف المؤرِّخون حول إسلامه، فبعضهم يقول: أسلم بعد بدر، وظلَّ يكتم إسلامه في مكة، ويكتب بما في مكة من أخبار إلى النبي ﷺ. ومنهم مَنْ يقول: إنه ظلَّ على كفره إلى ما قبل فتح مكة. فمن المؤكد أنه كان مسلمًا في فتح مكة.
وكان العباس بعد إسلامه، أو بالأحرى بعد اشتهار إسلامه، كما كان قبله، حريصًا على النبي ﷺ دافعا الأذى عنه متفانيًا في سبيله، وهو الذي كان يُمسك بخطام بغلة النبي ﷺ في غزوة حنين، وكان المُبَلِّغ عن النبي ﷺ لما تمتَّع به من صوت جهير، فنادى على المسلمين الذين تفرَّقُوا عن النبي ﷺ في حنين؛ فأقبلوا نحو رسول الله وجاهدوا دونه؛ حتى اعتدل ميزان القتال وانتصر المسلمون.
كان النبي ﷺ يُعظِّم العباس ويُجلِّه؛ حتى قالت عائشة: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُجِلُّ أَحَدًا مَا يُجِلُّ الْعَبَّاسَ أَوْ يُكْرِمُ الْعَبَّاسِ(وكذلك كان صحابته رضوان الله عليهم، وكانوا يُشاورونه، بل رُوِي أن العباس كان إذا مرَّ بعمر بن الخطاب أو بعثمان بن عفان وهما راكبان نزلا حتى يُجاوزهما إجلالًا لعم رسول الله أن يمشي وهما راكبان(وفي عام الرمادة (18هـ) خرج عمر بن الخطاب يتوسَّل إلى الله بالعباس أن يسقيهم، ويقول: «اللهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا»(تُوُفِّيَ العباس في عهد عثمان بن عفان، ودُفن في البقيع، وقد عَمَّر ثمان وثمانين سنة، وهو عُمْرٌ لم يبلغه أحد من ذريته الخلفاء(ومما ورد في فضل العباس من الأحاديث:
عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ للعباس: «إِذَا كَانَ غَدَاةَ الاِثْنَيْنِ فَأْتِنِي أَنْتَ وَوَلَدُكَ حَتَّى أَدْعُوَ لَهُمْ بِدَعْوَةٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهَا وَوَلَدَكَ». فغدا وغدونا معه وألبسنا كساء، ثم قال: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْعَبَّاسِ وَوَلَدِهِ مَغْفِرَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً لاَ تُغَادِرُ ذَنْبًا، اللهُمَّ احْفَظْهُ فِي وَلَدِهِ»(وعن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله ﷺ عمر على الصدقة ساعيًا، فمنع ابن جميل، وخالد، والعباس. فقال رسول الله ﷺ: «مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ، وَمِثْلُهَا مَعَهَا». ثم قال (أي لِعُمَر): «يَا عُمَرُ، أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ(عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله ﷺ للعباس: «هَذَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَجْوَدُ قُرَيْشٍ كَفًّا وَأَوْصَلُهَا»(وقد وردت كثير من الأحاديث الضعيفة في فضل العباس، وضعها الوضاعون تقرُّبًا للخلفاء، وزاد في انتشارها كثرة استعمالها في الدولة العباسية في الخطب والمكاتبات والرسائل والتآليف، التي لم يُرَاعِ فيها أصحابها الصحَّة بقدر ما أرادوا الإكثار في مدح العباسيين والتقرُّب إليهم.
ومن طرائف التاريخ أنه وأبا سفيان بن حرب كانا صديقين أثيرين في الجاهلية، فدارت الأيام حتى جاءت الرسالة فلم يُؤمنا، ثم أسلما قريبًا من بعضهما، ثم ملك أولاد أبي سفيان وأقاموا دولة بني أمية، ثم أزالهم وهدم دولتهم وأسقطهم أولادُ العباس.
كان للعباس تسعة أولاد وثلاث بنات(وهو الصحابي الكبير، والإمام العالِم البحر، المعروف بحبر الإسلام وترجمان القرآن.
وُلِد قبل الهجرة بثلاث سنوات؛ وذلك في لحظة عصيبة من تاريخ الإسلام؛ حيث كان المسلمون محاصَرين في الشِّعْب، وظل في مكة مع أبيه العباس حتى سنة الفتح، التي أسلم فيها أبوه وانتقل إلى المدينة، ورُوي عنه أنه أسلم هو وأمُّه قبل أبيه، غير أنهما لم يستطيعا الهجرة.
وبهذا يكون ابن عباس قد صَحِب النبي ﷺ مدة ثلاثين شهرًا تقريبًا(وقد انتبه ابن عباس لأهمِّيَّة جمع السنة بعد وفاة النبي ﷺ؛ فطفق يجمع السنة، ويسأل عن الأحاديث، ويذهب إلى مَنْ كان قد سمع الحديث؛ حتى اجتمع له من العلم ما جعله من كبار علماء الصحابة؛ على الرغم من صغر سنِّه بينهم، وهذا مع الذكاء والفهم والقدرة على الاستيعاب والاستنباط ما جعله جليسًا في مجلس عمر بن الخطاب مع كبار الصحابة -وهو في عُمر أبنائهم- حتى كان عمر إذا سُئِل في ذلك قال: «ذاكم فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول». وكان يستشيره في القضايا المعضلة مع الفارق الكبير في السنِّ والصحبة(ولَقَّبَه ملك المغرب جرجير بـ«حبر العرب»؛ حين كان مجاهدًا تحت قيادة عبد الله بن سعد بن أبي السرح في فتحه للشمال الإفريقي..
وكان قريبًا عزيزًا على قلب عثمان بن عفان، يشفع ويتوسَّط فيما لا يستطيعه كثير من الصحابة، وكلفه عثمان بإمارة الحج في السنة التي استشهد فيها، وكان من المقربين إلى علي فكان واليًا له على البصرة، وكان قائد الميسرة في جيشه يوم صفين، وكان سفيره إلى الخوارج حين غالوا واشتطوا في أفكارهم، فذهب إليهم فحاورهم وأقنعهم؛ حتى رجع ثلثاهم إلى علي، وهي محاورة مشهورة تدلُّ على ما تميز به ابن عباس من علم وفقه وحكمة في التعامل مع الناس.
ولما قُتِل علي ترك ابن عباس العراق واستقرَّ في الحجاز، ثم لما تنازع عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان على الخلافة، وكانت مكة في سلطان ابن الزبير وأراد أن يحمله على البيعة له رفضها، وخرج إلى الطائف، واستقرَّ بها إلى أن مات رحمه الله.
ولقد كانت مواقف ابن عباس السياسية من أظهر الأدلة على عقله وحكمته؛ فإنه عارض الحسين بن علي في خروجه واطمئنانه لأهل الكوفة، ونصحه ألا يذهب إليهم ما داموا خاضعين لواليهم من قبل يزيد، وأطال في نصح الحسين، بل توقع أنه مقتول وقال له: «إني لأظنك ستُقْتَل غدًا بين نسائك وبناتك كما قُتِل عثمان، وإني لأخاف أن تكون الذي يُقاد به عثمان، فإنا لله وإنا إليه راجعون». إلَّا أنَّ الحسين لم يسمع له ومضى إلى الكوفة فكان ما كان.
وكذلك عارض ابنُ عباس عبدَ الله بن الزبير في قيامه بالخلافة؛ على الرغم من أن قراءة المشهد السياسي كانت تقول بأن ابن الزبير كان أفضل حالًا وأقوى موقفًا؛ فإن الأيام كشفت كم كان ابن عباس بصيرًا ببواطن الأمور وصحيح التقدير لموازين القوى في وقته.
وكان أبيض طويلًا مشربًا صفرة، جسيمًا وسيمًا، صبيح الوجه وافر الشعر، ومات في عام 68هـ وعمره واحد وسبعون سنة، وله خمسة أولاد وبنتان(وكان -رحمه الله- من أعلام الزهد والورع والخشية من الله، كان يُرى على خديه أثر البكاء مثل الشراك البالي(نشر في ساسة بوست
([1]) الحاكم (4988)، وقال الذهبي: صحيح على شرط مسلم. ([2]) أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/92، وقال: «إسناده صالح». ([3]) ابن عساكر: تاريخ دمشق 26/354، والذهبي: سير أعلام النبلاء 2/93. ([4]) البخاري (964). ([5]) انظر: ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/506 وما بعدها، وابن الأثير: أسد الغابة 3/163 وما بعدها، والذهبي: سير أعلام النبلاء 1/78 وما بعدها، وابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 3/631. ([6]) الترمذي (3762)، والبزار (5213)، وقال الذهبي (سير أعلام النبلاء 2/89): إسناده جيد، وحسنه الألباني في التعليق على الترمذي. ([7]) صِنْو أبيه: أي مثله ونظيره، يقال لنخلتين طلعتا من عرق واحد. ([8]) البخاري (1468)، ومسلم (983)، واللفظ لمسلم. ([9]) أحمد (1610)، والنسائي (8174)، وابن حبان (7052)، والحاكم (5420)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3326)، وحسنه شعيب الأرنؤوط في التعليق على أحمد وابن حبان. ([10]) وهم: الفضل -وهو أكبر ولده- وعبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وقثم، ومعبد، وحبيبة، وأمهم أم الفضل لبابة بنت الحارث بن حزن. وكثير، وتمام، وصفية، وأميمة، وأمهم أم ولد، والحارث، وأمه حجيلة بنت جندب. ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/506، 507. ([11]) فُتحت مكة في رمضان عام 8 هـ، وتوفي النبي ﷺ في ربيع الأول عام 11 هـ، فبهذا تكون صحبته أكثر قليلاً من 30 شهرًا. ([12]) البخاري (75)، (3546). ([13]) أحمد (2397)، والحاكم (6280)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وابن حبان (7055) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2589). ([14]) كان عمر بن الخطاب أكبر من ابن عباس بستة وثلاثين عامًا، وزاد في صحبته للنبي ﷺ بستة عشر عامًا عن ابن عباس. ([15]) أولاده من الذكور: العباس والفضل ومحمد وعبيد الله وعليّ، ومن الإناث: لبابة وأسماء. الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/333. ([16]) ابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/933 وما بعدها، وابن الأثير: أسد الغابة 3/295 وما بعدها، والذهبي: سير أعلام النبلاء 3/331 وما بعدها، وابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 4/141 وما بعدها.
فمن هم العباسيون، وإلى من يرجع نسبهم؟
للعباسيين نسب عريق في الإسلام، فهم يرجعون إلى:وهو عمُّ النبي ﷺ، ووُلِد قبله بثلاث سنوات، وكان من سادات قريش، وكان -في الجاهلية- مسئولًا عن سقاية الحجيج وعمارة البيت الحرام في الجاهلية، فكان لا يدع أحدًا يسبُّ في المسجد الحرام ولا يقول فيه هجرًا. وكان العباس طويلًا وجميلًا، أبيض البشرة، جهير الصوت جدًّا، وكان شريفًا كريمًا حليمًا مُهابًا، وكان سيد بني هاشم وأكثرهم مالًا في الجاهلية، فكان يلجأ إليه الجائع فيطعمه والعاري فيَكْسُوَه، وكان يمنع الجار، ويبذل المال، ويعطي في النوائب.
حضر العباس بيعة العقبة الثانية، ولم يكن قد أسلم وقتها، وتَوَثَّق من قيام الأنصار بمسئولية حماية النبي ﷺ وتمسُّكهم به، وبقي على الشرك حتى هاجر النبي ﷺ إلى المدينة، ولكنه كان في مكة ملجأ للمستضعفين من المؤمنين ممَّنْ لم يستطيعوا الهجرة، وخرج مُكْرَهًا إلى غزوة بدر في جيش الكفار فَأُسِر، وكان النبي ﷺ قد أمر صحابته ألا يقتلوا العباس إذا لقوه في المعركة لأنه خرج مكرها(وهنا يختلف المؤرِّخون حول إسلامه، فبعضهم يقول: أسلم بعد بدر، وظلَّ يكتم إسلامه في مكة، ويكتب بما في مكة من أخبار إلى النبي ﷺ. ومنهم مَنْ يقول: إنه ظلَّ على كفره إلى ما قبل فتح مكة. فمن المؤكد أنه كان مسلمًا في فتح مكة.
وكان العباس بعد إسلامه، أو بالأحرى بعد اشتهار إسلامه، كما كان قبله، حريصًا على النبي ﷺ دافعا الأذى عنه متفانيًا في سبيله، وهو الذي كان يُمسك بخطام بغلة النبي ﷺ في غزوة حنين، وكان المُبَلِّغ عن النبي ﷺ لما تمتَّع به من صوت جهير، فنادى على المسلمين الذين تفرَّقُوا عن النبي ﷺ في حنين؛ فأقبلوا نحو رسول الله وجاهدوا دونه؛ حتى اعتدل ميزان القتال وانتصر المسلمون.
كان النبي ﷺ يُعظِّم العباس ويُجلِّه؛ حتى قالت عائشة: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُجِلُّ أَحَدًا مَا يُجِلُّ الْعَبَّاسَ أَوْ يُكْرِمُ الْعَبَّاسِ(وكذلك كان صحابته رضوان الله عليهم، وكانوا يُشاورونه، بل رُوِي أن العباس كان إذا مرَّ بعمر بن الخطاب أو بعثمان بن عفان وهما راكبان نزلا حتى يُجاوزهما إجلالًا لعم رسول الله أن يمشي وهما راكبان(وفي عام الرمادة (18هـ) خرج عمر بن الخطاب يتوسَّل إلى الله بالعباس أن يسقيهم، ويقول: «اللهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا»(تُوُفِّيَ العباس في عهد عثمان بن عفان، ودُفن في البقيع، وقد عَمَّر ثمان وثمانين سنة، وهو عُمْرٌ لم يبلغه أحد من ذريته الخلفاء(ومما ورد في فضل العباس من الأحاديث:
عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ للعباس: «إِذَا كَانَ غَدَاةَ الاِثْنَيْنِ فَأْتِنِي أَنْتَ وَوَلَدُكَ حَتَّى أَدْعُوَ لَهُمْ بِدَعْوَةٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهَا وَوَلَدَكَ». فغدا وغدونا معه وألبسنا كساء، ثم قال: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْعَبَّاسِ وَوَلَدِهِ مَغْفِرَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً لاَ تُغَادِرُ ذَنْبًا، اللهُمَّ احْفَظْهُ فِي وَلَدِهِ»(وعن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله ﷺ عمر على الصدقة ساعيًا، فمنع ابن جميل، وخالد، والعباس. فقال رسول الله ﷺ: «مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ، وَمِثْلُهَا مَعَهَا». ثم قال (أي لِعُمَر): «يَا عُمَرُ، أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ(عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله ﷺ للعباس: «هَذَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَجْوَدُ قُرَيْشٍ كَفًّا وَأَوْصَلُهَا»(وقد وردت كثير من الأحاديث الضعيفة في فضل العباس، وضعها الوضاعون تقرُّبًا للخلفاء، وزاد في انتشارها كثرة استعمالها في الدولة العباسية في الخطب والمكاتبات والرسائل والتآليف، التي لم يُرَاعِ فيها أصحابها الصحَّة بقدر ما أرادوا الإكثار في مدح العباسيين والتقرُّب إليهم.
ومن طرائف التاريخ أنه وأبا سفيان بن حرب كانا صديقين أثيرين في الجاهلية، فدارت الأيام حتى جاءت الرسالة فلم يُؤمنا، ثم أسلما قريبًا من بعضهما، ثم ملك أولاد أبي سفيان وأقاموا دولة بني أمية، ثم أزالهم وهدم دولتهم وأسقطهم أولادُ العباس.
كان للعباس تسعة أولاد وثلاث بنات(وهو الصحابي الكبير، والإمام العالِم البحر، المعروف بحبر الإسلام وترجمان القرآن.
وُلِد قبل الهجرة بثلاث سنوات؛ وذلك في لحظة عصيبة من تاريخ الإسلام؛ حيث كان المسلمون محاصَرين في الشِّعْب، وظل في مكة مع أبيه العباس حتى سنة الفتح، التي أسلم فيها أبوه وانتقل إلى المدينة، ورُوي عنه أنه أسلم هو وأمُّه قبل أبيه، غير أنهما لم يستطيعا الهجرة.
وبهذا يكون ابن عباس قد صَحِب النبي ﷺ مدة ثلاثين شهرًا تقريبًا(وقد انتبه ابن عباس لأهمِّيَّة جمع السنة بعد وفاة النبي ﷺ؛ فطفق يجمع السنة، ويسأل عن الأحاديث، ويذهب إلى مَنْ كان قد سمع الحديث؛ حتى اجتمع له من العلم ما جعله من كبار علماء الصحابة؛ على الرغم من صغر سنِّه بينهم، وهذا مع الذكاء والفهم والقدرة على الاستيعاب والاستنباط ما جعله جليسًا في مجلس عمر بن الخطاب مع كبار الصحابة -وهو في عُمر أبنائهم- حتى كان عمر إذا سُئِل في ذلك قال: «ذاكم فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول». وكان يستشيره في القضايا المعضلة مع الفارق الكبير في السنِّ والصحبة(ولَقَّبَه ملك المغرب جرجير بـ«حبر العرب»؛ حين كان مجاهدًا تحت قيادة عبد الله بن سعد بن أبي السرح في فتحه للشمال الإفريقي..
وكان قريبًا عزيزًا على قلب عثمان بن عفان، يشفع ويتوسَّط فيما لا يستطيعه كثير من الصحابة، وكلفه عثمان بإمارة الحج في السنة التي استشهد فيها، وكان من المقربين إلى علي فكان واليًا له على البصرة، وكان قائد الميسرة في جيشه يوم صفين، وكان سفيره إلى الخوارج حين غالوا واشتطوا في أفكارهم، فذهب إليهم فحاورهم وأقنعهم؛ حتى رجع ثلثاهم إلى علي، وهي محاورة مشهورة تدلُّ على ما تميز به ابن عباس من علم وفقه وحكمة في التعامل مع الناس.
ولما قُتِل علي ترك ابن عباس العراق واستقرَّ في الحجاز، ثم لما تنازع عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان على الخلافة، وكانت مكة في سلطان ابن الزبير وأراد أن يحمله على البيعة له رفضها، وخرج إلى الطائف، واستقرَّ بها إلى أن مات رحمه الله.
ولقد كانت مواقف ابن عباس السياسية من أظهر الأدلة على عقله وحكمته؛ فإنه عارض الحسين بن علي في خروجه واطمئنانه لأهل الكوفة، ونصحه ألا يذهب إليهم ما داموا خاضعين لواليهم من قبل يزيد، وأطال في نصح الحسين، بل توقع أنه مقتول وقال له: «إني لأظنك ستُقْتَل غدًا بين نسائك وبناتك كما قُتِل عثمان، وإني لأخاف أن تكون الذي يُقاد به عثمان، فإنا لله وإنا إليه راجعون». إلَّا أنَّ الحسين لم يسمع له ومضى إلى الكوفة فكان ما كان.
وكذلك عارض ابنُ عباس عبدَ الله بن الزبير في قيامه بالخلافة؛ على الرغم من أن قراءة المشهد السياسي كانت تقول بأن ابن الزبير كان أفضل حالًا وأقوى موقفًا؛ فإن الأيام كشفت كم كان ابن عباس بصيرًا ببواطن الأمور وصحيح التقدير لموازين القوى في وقته.
وكان أبيض طويلًا مشربًا صفرة، جسيمًا وسيمًا، صبيح الوجه وافر الشعر، ومات في عام 68هـ وعمره واحد وسبعون سنة، وله خمسة أولاد وبنتان(وكان -رحمه الله- من أعلام الزهد والورع والخشية من الله، كان يُرى على خديه أثر البكاء مثل الشراك البالي(نشر في ساسة بوست
([1]) الحاكم (4988)، وقال الذهبي: صحيح على شرط مسلم. ([2]) أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/92، وقال: «إسناده صالح». ([3]) ابن عساكر: تاريخ دمشق 26/354، والذهبي: سير أعلام النبلاء 2/93. ([4]) البخاري (964). ([5]) انظر: ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/506 وما بعدها، وابن الأثير: أسد الغابة 3/163 وما بعدها، والذهبي: سير أعلام النبلاء 1/78 وما بعدها، وابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 3/631. ([6]) الترمذي (3762)، والبزار (5213)، وقال الذهبي (سير أعلام النبلاء 2/89): إسناده جيد، وحسنه الألباني في التعليق على الترمذي. ([7]) صِنْو أبيه: أي مثله ونظيره، يقال لنخلتين طلعتا من عرق واحد. ([8]) البخاري (1468)، ومسلم (983)، واللفظ لمسلم. ([9]) أحمد (1610)، والنسائي (8174)، وابن حبان (7052)، والحاكم (5420)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3326)، وحسنه شعيب الأرنؤوط في التعليق على أحمد وابن حبان. ([10]) وهم: الفضل -وهو أكبر ولده- وعبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وقثم، ومعبد، وحبيبة، وأمهم أم الفضل لبابة بنت الحارث بن حزن. وكثير، وتمام، وصفية، وأميمة، وأمهم أم ولد، والحارث، وأمه حجيلة بنت جندب. ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/506، 507. ([11]) فُتحت مكة في رمضان عام 8 هـ، وتوفي النبي ﷺ في ربيع الأول عام 11 هـ، فبهذا تكون صحبته أكثر قليلاً من 30 شهرًا. ([12]) البخاري (75)، (3546). ([13]) أحمد (2397)، والحاكم (6280)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وابن حبان (7055) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2589). ([14]) كان عمر بن الخطاب أكبر من ابن عباس بستة وثلاثين عامًا، وزاد في صحبته للنبي ﷺ بستة عشر عامًا عن ابن عباس. ([15]) أولاده من الذكور: العباس والفضل ومحمد وعبيد الله وعليّ، ومن الإناث: لبابة وأسماء. الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/333. ([16]) ابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/933 وما بعدها، وابن الأثير: أسد الغابة 3/295 وما بعدها، والذهبي: سير أعلام النبلاء 3/331 وما بعدها، وابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 4/141 وما بعدها.
Published on August 18, 2016 00:14
August 12, 2016
قوة الشرعية
حين اجتاح إبراهيم باشا الشام وانتزعها من سلطان الخليفة العثماني وضمها لسلطان أبيه محمد علي باشا الكبير، جاءه شيخ الجامع الكبير في دمشق يسأله سؤالا بديهيا: لمن يدعو في الخطبة؟
كانت خطبة الجمعة طوال عهد الخلافة الإسلامية تشتمل على الدعاء للخليفة، وهذا الدعاء هو عنوان تبعية هذا البلد للسلطان أو الخليفة، وكان قطع الخطبة للخليفة أو السلطان يعني انتزاع البلد منه والتمرد عليه.
ماذا فعل إبراهيم باشا؟
وضع هذا الشيخ في الفلقة وضربه أمام الناس عقابا له. لأن مجرد طرحه هذا السؤال هو تشكيك في تبعية وإخلاص إبراهيم باشا للسلطان العثماني، وهي تهمة غير مقبولة ولا يُسمح لأحد أن يفكر فيها أصلا!
هذا وإبراهيم باشا هو الذي انتزع الشام فعليا من سلطان العثمانيين، وقاتل جيوشهم في معارك عديدة في الشام والأناضول حتى شارف على القسطنطينة لولا تدخل التحالف الأوروبي لمنعه حفاظا على توازن القوى في الشرق ولإبقاء السلطنة العثمانية في حال الرجل المريض.
وبرغم كل حروب محمد علي مع الجيوش العثمانية فإنه لم يسع أبدا إلى إعلان التمرد أو نزع الطاعة من السلطان العثماني، وإنما غاية ما أراد أن ينتزع منه الحق في أن تكون ولاية مصر له ولأولاده من بعده، أي أنه دفع الدماء والأموال ولم يجن عمليا إلا "شرعية" بقاء الحكم في أولاده من بعده، بأمر يصدر عن الخليفة "الشرعي".
وهنا يأتي السؤال الذي ما كان ينبغي أن يُطرح ولا أن يُجتهد في الإجابة عليه لولا ما نحن فيه من بيئة سياسية مريضة للأسف الشديد، السؤال: لماذا يحتاج الطغاة إلى "شرعية"؟!
لماذا يحتاج السيسي، برغم كل ما يتلقاه من دعم إقليمي ودولي ماديا وسياسيا، أن يؤكد ويكرر أنه "أنقذ مصر" ممن شعارهم "يا نحكمكم يا نقتلكم"؟ ولماذا لا يزال شبح كونه منقلبا يلوح في خطاباته وخطابات أبواقه الإعلامية؟ لماذا يضطر السيسي –مثلا- أن يخلع زيه العسكري ويدبر انتخابات ساخرة لكي يصير رئيسا؟! لماذا يضطر أن يصنع لجنة لكتابة الدستور ثم استفتاء عليه؟! لماذا يضطر أن يدبر انتخابات برلمانية هزلية؟!
لا يفعل الطغاة كل هذا إلا ليكتسبوا اسم "الشرعية"، ويغطون شهوتهم العارمة في الحكم بغطاء من "الشرعية".. وما ذلك إلا لأن الشرعية قوة.
الشرعية قوة، وهي دائما موضع نزاع، وعليها تدور معركة طاحنة.. ولذلك فدائما ما يبادر العدو إلى انتزاعها، فما إن تشتعل أزمة في أي من بلادنا ثم يميل الميزان لصالح الشعوب أو لصالح ممثلي الأمة، إلا وينزل إلينا كائن بغيض يسمى "مبعوث الأمم المتحدة".. هذا المبعوث سواء أكان اسمه الأخضر الإبراهيمي أو جمال بن عمر أو برناردينو ليون يبدأ مباحثاته بين الأطراف ببند يقول: "الحوار بلا أي شروط ودون أي أسس مسبقة"..، وتدور اقتراحاته حول: مجلس وطني موسع، حكومة تضم كل الأطراف، رئيس توافقي، حكومة وفاق وطني ... إلى آخر هذه الاقتراحات.
وهذه الاقتراحات التي تبدو ناعمة كالأفعى تحمل داخلها السمَّ الناقع، إذ هي تعني على الحقيقة ثلاثة أمور:
1. رفع الصغير وتمثيله بذات قدر الكبير2. إدخال شروط العملاء والانفصاليين والمجرمين لتبحث باعتبارها "مطالب شركاء وطنيين"3. نسف وإهمال أي ثوابت قديمة أو شرعيات قائمة لتكون البداية من الصفر وبلا أي مرجعيات
مع كل ما ينبعث من هذه الثلاثة من نتائج كارثية على أي قضية، لأنها تتيح تفتيت ثوابت ووضع ثوابت جديدة، وهدم شرعيات قائمة وإقامة شرعيات جديدة. واستبعاد أو تهميش أطراف قائمة ورعاية أطراف جديدة!
من أجل هذا كانت العادة في الانقلابات العسكرية أن يُقتل الرئيس السابق لينتهي النزاع حول الشرعية، إلا أن الانقلاب في مصر كان من السهولة والبساطة بحيث يندرج في طائفة الانقلابات التي وضعت الرئيس السابق في السجن ومهدت لمحاكمته لأنه لا يُخشى من أنصاره شيئا، فيكون قتله بسكين القانون بعد محاكمة مزخرفة ألطف منظرا من قتله بسكين العسكر بجريمة دموية.
لهذا فلا ريب في أن الشرعية –وهي قوة معنوية- تحتاج قوة مادية تحميها، وهو النموذج الذي لم يحدث في واقعنا المعاصر إلا مرتين: غزة 2007، تركيا 2016م. بينما القوة المادية الخالية من أي شرعية أقدر على صناعة أو حتى شراء شرعية لها، وهذا السيسي يشتري السلاح الذي لن يستخدمه بمليارات الدولارات ويعقد صفقات إنشاء محطات نووية بديون غير مسبوقة، ويبيع الأراضي ويبيع الجنسية ويزيد من طحن الناس، وبإمكاننا أن نتوقع المزيد إذ لا تنفد أساليب الطغاة الشياطين، حتى إن بعض الرؤساء الأفارقة أجَّر أرض بلده لدفن النفايات النووية!!
لذلك لا بد للشرعية –القوة المعنوية- أن تساندها قوة مادية، وهنا تظهر الشرعية كقوة حاسمة في المعركة، ومن يقرأ التاريخ يعرف أن التنازل عن "الشرعية" لا يفعله عاقل، ويمكن أن نضرب على هذا الكثير من الأمثلة المنثورة في كتاب التاريخ:
(1) لقد عجز الخليفة القوي هشام بن عبد الملك الأموي عن خلع ولي العهد الوليد بن يزيد لما له من بيعة شرعية بولاية العهد، وهو ما وقفت معه القبائل اليمانية التي كانت عماد الدولة الأموية في ذلك الوقت، وتولى يزيد الحكم، ولما جرى انقلاب عليه انقسم البيت الأموي على نفسه حتى بلغ الانهيار.
(2) ولقد هَزَم أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني وقتله في ظرفٍ كل موازين القوى فيه لصالح أبي مسلم ولا يملك أبو جعفر إلا شرعية كونه من بيت الخلافة من آل البيت النبوي، وهذا وحده ما أجبر أبا مسلم على أن يذهب لأبي جعفر رغم توجسه الشديد حتى كان في ذلك نهايته.
(3) ولقد استطاع عبد الرحمن الداخل الذي لا يملك إلا نسبه الأموي (وهذه هي شرعية ذلك الوقت) أن يؤسس حكما في الأندلس حتى لقد قال زعيم القيسية كلمة مدهشة مفادها أن نزاعه مع اليمانية نزاع أنداد بينما "لو نزل هذا الفتى جزيرتنا فبال غرقنا في بولته".. وكان عمر الفتى 23 عاما فقط، وبشرعيته هذه انصاعت له القبائل حتى أسس الدولة الأموية في الأندلس وانتظمت له الأمور التي عجز سائر من قبله على الانتظام لها لأن أحدا لم يكن يمتلك شرعية البيت الأموي.
(4) ولقد عجز كل من سيطروا على الخلفاء العباسيين من تُرك وبويهيين وسلاجقة عن خلعهم من منصب الخلافة رغم انهيار ميزان القوة ضد الخلفاء، بل لم يكن للخلفاء قوة إلا شرعية المنصب.. وهو ما أتاح ظهور خلفاء أقوياء بعد عصور الضعف ولو طالت.
(5) ولقد عجز المنصور بن أبي عامر وهو من أقوى ملوك الإسلام عن عزل الخليفة الصبي هشام بن المستنصر، وظل يُنادى بالحاجب المنصور أو الملك.. بينما عطاؤه للأمة لا يقارن بهشام، وما ذلك إلا لأن هشاما أموي من سلالة الخلفاء، وتلك الشرعية في ذلك الزمن!
(6) وحين وقع الاضطراب في الأندلس ودخلت في عصر ملوك الطوائف، قوَّى بنو عباد ملوك إشبيلة موقفهم السياسي حين وجدوا رجلا شبيها بالخليفة الأموي هشام بن الحكم المستنصر، فصاروا به الأعلى يدا على سائر الممالك الأندلسية، بل وأعلنت بعضها الخضوع للخليفة، وما كان ذلك ليمكن لولا تلك الشخصية التي تمثل قوة الشرعية.
(7) بل إن السلطان المملوكي محمد بن قلاوون تولى السلطنة طفلا لأنه الوحيد الذي يملك "شرعية" -بمفهوم الشرعية آنذاك- في ظل تضارب قوى العساكر الأقوياء من حوله، وكان كلما خُلِع كلما أعيد إلى السلطنة مرة أخرى.. حتى اشتد عوده وحكم بنفسه ثلث قرن فكان من أقوى السلاطين المماليك عبر تاريخهم كله.
(8) ولقد اكتسب المماليك شرعية حكمهم من كونهم حماة الخلفاء العباسيين، ولم يفكر المماليك –ولو في عنفوان قوتهم- في عزل العباسيين من الخلافة على ضعفهم سائر تلك المدة، وظل الخليفة ضعيفا لكن وجوده يحمي شرعية الحكم، وبرأيي أنه لولا أن كانت دولتهم عسكرية في جغرافية سهلة كمصر، لاستطاع العباسيون أن يجددوا ملكهم لو ظهر فيهم قوي وحاول. ولم تزل الشرعية عن دولة المماليك إلا بقضاء العثمانيين على الخليفة العباسي وأخذه من القاهرة إلى اسطنبول.
(9) وكانت شرعية السلطنة العثمانية هي الراية التي يرفعها سائر المجاهدين للاحتلال الأجنبي في العالم الإسلامي، ولم تكن الوطنية تعني استقلالا عن الخلافة العثمانية، وتراث المقاومة في مصر منذ عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد ورشيد رضا يشهد بتعلق هؤلاء بالراية العثمانية وشرعية الخلافة العثماني ضد الاحتلال.
(10) وسائر الاحتلالات الأجنبية التي حاولت أن تترسخ في بلادنا إنما ادعت أن دخولها إلى هذه البلاد كان بإذن من السلطان العثماني أو هو حماية للسلطان العثماني كما فعلت الحملة الفرنسية ثم الاحتلال الإنجليزي، وكان السلطان العثماني وهو في أضعف حالاته إذا أراد أن يكشر عن أنيابه في مفاوضات مع الأجانب هددهم بأنه يملك "إعلان الجهاد" ويملك أن يستثير كل المسلمين بما له من شرعية.
ونستطيع أن نأتي من الواقع المعاصر بتجارب أخرى كفشل الانقلاب على بوريس يلتسين في روسيا مطلع التسعينات، وفشل الانقلاب على تشافيز في فنزويلا، وغيرهما..
ونحن إذا نظرنا في حالتنا المصرية فلن نجد بأيدينا ورقة قوة سوى ورقة "الشرعية" هذه، والفضل فيها أولا للشيخ حازم أبو إسماعيل الذي شق طريق ترشح الإسلاميين للرئاسة وأثبت أن الشعب يريدهم، ثم للصمود الباسل للرئيس محمد مرسي الذي كان يستطيع بكلمة أن يتنحى فيسبغ شرعية على الانقلاب العسكري ثم يعيش آمنا، لكنه اختار أن يبقى الحق حقا والباطل باطلا ولو كان الثمن هو سجنه أو دمه.
فليس، والحال هذه، أبأس من سياسي لا يعرف حلا لهذه الأزمة إلا أن ينظر ويفلسف ويخطط لاصطفاف ليس فيه إلا بند واحد يُتفق عليه: التخلي عن ورقة الشرعية هذه. ثم لا يتفقون بعدها على شيء أبدا.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
كانت خطبة الجمعة طوال عهد الخلافة الإسلامية تشتمل على الدعاء للخليفة، وهذا الدعاء هو عنوان تبعية هذا البلد للسلطان أو الخليفة، وكان قطع الخطبة للخليفة أو السلطان يعني انتزاع البلد منه والتمرد عليه.
ماذا فعل إبراهيم باشا؟
وضع هذا الشيخ في الفلقة وضربه أمام الناس عقابا له. لأن مجرد طرحه هذا السؤال هو تشكيك في تبعية وإخلاص إبراهيم باشا للسلطان العثماني، وهي تهمة غير مقبولة ولا يُسمح لأحد أن يفكر فيها أصلا!
هذا وإبراهيم باشا هو الذي انتزع الشام فعليا من سلطان العثمانيين، وقاتل جيوشهم في معارك عديدة في الشام والأناضول حتى شارف على القسطنطينة لولا تدخل التحالف الأوروبي لمنعه حفاظا على توازن القوى في الشرق ولإبقاء السلطنة العثمانية في حال الرجل المريض.
وبرغم كل حروب محمد علي مع الجيوش العثمانية فإنه لم يسع أبدا إلى إعلان التمرد أو نزع الطاعة من السلطان العثماني، وإنما غاية ما أراد أن ينتزع منه الحق في أن تكون ولاية مصر له ولأولاده من بعده، أي أنه دفع الدماء والأموال ولم يجن عمليا إلا "شرعية" بقاء الحكم في أولاده من بعده، بأمر يصدر عن الخليفة "الشرعي".
وهنا يأتي السؤال الذي ما كان ينبغي أن يُطرح ولا أن يُجتهد في الإجابة عليه لولا ما نحن فيه من بيئة سياسية مريضة للأسف الشديد، السؤال: لماذا يحتاج الطغاة إلى "شرعية"؟!
لماذا يحتاج السيسي، برغم كل ما يتلقاه من دعم إقليمي ودولي ماديا وسياسيا، أن يؤكد ويكرر أنه "أنقذ مصر" ممن شعارهم "يا نحكمكم يا نقتلكم"؟ ولماذا لا يزال شبح كونه منقلبا يلوح في خطاباته وخطابات أبواقه الإعلامية؟ لماذا يضطر السيسي –مثلا- أن يخلع زيه العسكري ويدبر انتخابات ساخرة لكي يصير رئيسا؟! لماذا يضطر أن يصنع لجنة لكتابة الدستور ثم استفتاء عليه؟! لماذا يضطر أن يدبر انتخابات برلمانية هزلية؟!
لا يفعل الطغاة كل هذا إلا ليكتسبوا اسم "الشرعية"، ويغطون شهوتهم العارمة في الحكم بغطاء من "الشرعية".. وما ذلك إلا لأن الشرعية قوة.
الشرعية قوة، وهي دائما موضع نزاع، وعليها تدور معركة طاحنة.. ولذلك فدائما ما يبادر العدو إلى انتزاعها، فما إن تشتعل أزمة في أي من بلادنا ثم يميل الميزان لصالح الشعوب أو لصالح ممثلي الأمة، إلا وينزل إلينا كائن بغيض يسمى "مبعوث الأمم المتحدة".. هذا المبعوث سواء أكان اسمه الأخضر الإبراهيمي أو جمال بن عمر أو برناردينو ليون يبدأ مباحثاته بين الأطراف ببند يقول: "الحوار بلا أي شروط ودون أي أسس مسبقة"..، وتدور اقتراحاته حول: مجلس وطني موسع، حكومة تضم كل الأطراف، رئيس توافقي، حكومة وفاق وطني ... إلى آخر هذه الاقتراحات.
وهذه الاقتراحات التي تبدو ناعمة كالأفعى تحمل داخلها السمَّ الناقع، إذ هي تعني على الحقيقة ثلاثة أمور:
1. رفع الصغير وتمثيله بذات قدر الكبير2. إدخال شروط العملاء والانفصاليين والمجرمين لتبحث باعتبارها "مطالب شركاء وطنيين"3. نسف وإهمال أي ثوابت قديمة أو شرعيات قائمة لتكون البداية من الصفر وبلا أي مرجعيات
مع كل ما ينبعث من هذه الثلاثة من نتائج كارثية على أي قضية، لأنها تتيح تفتيت ثوابت ووضع ثوابت جديدة، وهدم شرعيات قائمة وإقامة شرعيات جديدة. واستبعاد أو تهميش أطراف قائمة ورعاية أطراف جديدة!
من أجل هذا كانت العادة في الانقلابات العسكرية أن يُقتل الرئيس السابق لينتهي النزاع حول الشرعية، إلا أن الانقلاب في مصر كان من السهولة والبساطة بحيث يندرج في طائفة الانقلابات التي وضعت الرئيس السابق في السجن ومهدت لمحاكمته لأنه لا يُخشى من أنصاره شيئا، فيكون قتله بسكين القانون بعد محاكمة مزخرفة ألطف منظرا من قتله بسكين العسكر بجريمة دموية.
لهذا فلا ريب في أن الشرعية –وهي قوة معنوية- تحتاج قوة مادية تحميها، وهو النموذج الذي لم يحدث في واقعنا المعاصر إلا مرتين: غزة 2007، تركيا 2016م. بينما القوة المادية الخالية من أي شرعية أقدر على صناعة أو حتى شراء شرعية لها، وهذا السيسي يشتري السلاح الذي لن يستخدمه بمليارات الدولارات ويعقد صفقات إنشاء محطات نووية بديون غير مسبوقة، ويبيع الأراضي ويبيع الجنسية ويزيد من طحن الناس، وبإمكاننا أن نتوقع المزيد إذ لا تنفد أساليب الطغاة الشياطين، حتى إن بعض الرؤساء الأفارقة أجَّر أرض بلده لدفن النفايات النووية!!
لذلك لا بد للشرعية –القوة المعنوية- أن تساندها قوة مادية، وهنا تظهر الشرعية كقوة حاسمة في المعركة، ومن يقرأ التاريخ يعرف أن التنازل عن "الشرعية" لا يفعله عاقل، ويمكن أن نضرب على هذا الكثير من الأمثلة المنثورة في كتاب التاريخ:
(1) لقد عجز الخليفة القوي هشام بن عبد الملك الأموي عن خلع ولي العهد الوليد بن يزيد لما له من بيعة شرعية بولاية العهد، وهو ما وقفت معه القبائل اليمانية التي كانت عماد الدولة الأموية في ذلك الوقت، وتولى يزيد الحكم، ولما جرى انقلاب عليه انقسم البيت الأموي على نفسه حتى بلغ الانهيار.
(2) ولقد هَزَم أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني وقتله في ظرفٍ كل موازين القوى فيه لصالح أبي مسلم ولا يملك أبو جعفر إلا شرعية كونه من بيت الخلافة من آل البيت النبوي، وهذا وحده ما أجبر أبا مسلم على أن يذهب لأبي جعفر رغم توجسه الشديد حتى كان في ذلك نهايته.
(3) ولقد استطاع عبد الرحمن الداخل الذي لا يملك إلا نسبه الأموي (وهذه هي شرعية ذلك الوقت) أن يؤسس حكما في الأندلس حتى لقد قال زعيم القيسية كلمة مدهشة مفادها أن نزاعه مع اليمانية نزاع أنداد بينما "لو نزل هذا الفتى جزيرتنا فبال غرقنا في بولته".. وكان عمر الفتى 23 عاما فقط، وبشرعيته هذه انصاعت له القبائل حتى أسس الدولة الأموية في الأندلس وانتظمت له الأمور التي عجز سائر من قبله على الانتظام لها لأن أحدا لم يكن يمتلك شرعية البيت الأموي.
(4) ولقد عجز كل من سيطروا على الخلفاء العباسيين من تُرك وبويهيين وسلاجقة عن خلعهم من منصب الخلافة رغم انهيار ميزان القوة ضد الخلفاء، بل لم يكن للخلفاء قوة إلا شرعية المنصب.. وهو ما أتاح ظهور خلفاء أقوياء بعد عصور الضعف ولو طالت.
(5) ولقد عجز المنصور بن أبي عامر وهو من أقوى ملوك الإسلام عن عزل الخليفة الصبي هشام بن المستنصر، وظل يُنادى بالحاجب المنصور أو الملك.. بينما عطاؤه للأمة لا يقارن بهشام، وما ذلك إلا لأن هشاما أموي من سلالة الخلفاء، وتلك الشرعية في ذلك الزمن!
(6) وحين وقع الاضطراب في الأندلس ودخلت في عصر ملوك الطوائف، قوَّى بنو عباد ملوك إشبيلة موقفهم السياسي حين وجدوا رجلا شبيها بالخليفة الأموي هشام بن الحكم المستنصر، فصاروا به الأعلى يدا على سائر الممالك الأندلسية، بل وأعلنت بعضها الخضوع للخليفة، وما كان ذلك ليمكن لولا تلك الشخصية التي تمثل قوة الشرعية.
(7) بل إن السلطان المملوكي محمد بن قلاوون تولى السلطنة طفلا لأنه الوحيد الذي يملك "شرعية" -بمفهوم الشرعية آنذاك- في ظل تضارب قوى العساكر الأقوياء من حوله، وكان كلما خُلِع كلما أعيد إلى السلطنة مرة أخرى.. حتى اشتد عوده وحكم بنفسه ثلث قرن فكان من أقوى السلاطين المماليك عبر تاريخهم كله.
(8) ولقد اكتسب المماليك شرعية حكمهم من كونهم حماة الخلفاء العباسيين، ولم يفكر المماليك –ولو في عنفوان قوتهم- في عزل العباسيين من الخلافة على ضعفهم سائر تلك المدة، وظل الخليفة ضعيفا لكن وجوده يحمي شرعية الحكم، وبرأيي أنه لولا أن كانت دولتهم عسكرية في جغرافية سهلة كمصر، لاستطاع العباسيون أن يجددوا ملكهم لو ظهر فيهم قوي وحاول. ولم تزل الشرعية عن دولة المماليك إلا بقضاء العثمانيين على الخليفة العباسي وأخذه من القاهرة إلى اسطنبول.
(9) وكانت شرعية السلطنة العثمانية هي الراية التي يرفعها سائر المجاهدين للاحتلال الأجنبي في العالم الإسلامي، ولم تكن الوطنية تعني استقلالا عن الخلافة العثمانية، وتراث المقاومة في مصر منذ عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد ورشيد رضا يشهد بتعلق هؤلاء بالراية العثمانية وشرعية الخلافة العثماني ضد الاحتلال.
(10) وسائر الاحتلالات الأجنبية التي حاولت أن تترسخ في بلادنا إنما ادعت أن دخولها إلى هذه البلاد كان بإذن من السلطان العثماني أو هو حماية للسلطان العثماني كما فعلت الحملة الفرنسية ثم الاحتلال الإنجليزي، وكان السلطان العثماني وهو في أضعف حالاته إذا أراد أن يكشر عن أنيابه في مفاوضات مع الأجانب هددهم بأنه يملك "إعلان الجهاد" ويملك أن يستثير كل المسلمين بما له من شرعية.
ونستطيع أن نأتي من الواقع المعاصر بتجارب أخرى كفشل الانقلاب على بوريس يلتسين في روسيا مطلع التسعينات، وفشل الانقلاب على تشافيز في فنزويلا، وغيرهما..
ونحن إذا نظرنا في حالتنا المصرية فلن نجد بأيدينا ورقة قوة سوى ورقة "الشرعية" هذه، والفضل فيها أولا للشيخ حازم أبو إسماعيل الذي شق طريق ترشح الإسلاميين للرئاسة وأثبت أن الشعب يريدهم، ثم للصمود الباسل للرئيس محمد مرسي الذي كان يستطيع بكلمة أن يتنحى فيسبغ شرعية على الانقلاب العسكري ثم يعيش آمنا، لكنه اختار أن يبقى الحق حقا والباطل باطلا ولو كان الثمن هو سجنه أو دمه.
فليس، والحال هذه، أبأس من سياسي لا يعرف حلا لهذه الأزمة إلا أن ينظر ويفلسف ويخطط لاصطفاف ليس فيه إلا بند واحد يُتفق عليه: التخلي عن ورقة الشرعية هذه. ثم لا يتفقون بعدها على شيء أبدا.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
Published on August 12, 2016 11:59
August 6, 2016
هل قامت الدولة العباسية على نبوءة؟!
كثيرًا ما يرد في المصادر التاريخية خبر النبوءة، خبر رجل قال بأنه سوف يحدث كذا وكذا، ثم يحدث التاريخ وَفق ما قال القائل، والمؤرِّخون يُوردون هذه الأخبار بحسب مناهجهم؛ فثمة مَنْ يكتبها لأن منهجه في الكتابة التاريخية أن يذكر ما وصله من أخبار دون أن ينقدها، وثمة مَنْ يذكرها من قبيل الطرافة وعجائب الاتفاق، وثمة من يذكرها كاستئناس على ضفاف الحدث نفسه، ولا شَكَّ -أيضًا- أن ثمة من يذكرها لأنه يُصَدِّقها.
وعلى حدِّ ما نعلم، فإنه ليس ثمة خبر قد ثبت أنه وُضِع قبل أن يقع الحدث بالفعل، ولا سيما في مراحل التاريخ المبكرة، التي تشملها الفتوحات الإسلامية والدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ففي هذا التوقيت كانت الرواية الشفهية هي السائدة، ولم تكن قد ظهرت بعد دواوين التاريخ، التي كتبها المؤرِّخون الكبار، الذين بدأ ظهورهم في القرن الثاني للهجرة.
أحيانًا تكون النبوءة على لسان رجل صالح، وأحيانًا على لسان كاهن عالم بالحِدْثان، وأحيانًا لا يُعرف لها قائل، وأسوأ ما في النبوءة أنها تُعطي تفسيرًا سهلًا لحركة التاريخ، كما أنها تُضفي لمحة أسطورية على الأحداث والشخصيات.
ومن هذه النبوءات الشهيرة ما ورد من أن علي بن عبد الله بن عباس كان يقول ويُعلن: إن حفيديه أبا العباس وأبا جعفر سيتوليان الخلافة، ويحكمان ما كان بيد الأمويين، «قيل: إنه دخل على هشام، فاحترمه وأعطاه ثلاثين ألفًا، ثم قال: إن هذا الشيخ اختلَّ وخلط، يقول: إن هذا الأمر سينتقل إلى ولدي. فسمعها علي، فقال: والله ليكونن ذلك، وليتملكن هذان، وكان معه ولدا ابنه السفاح والمنصور»(ولأجل هذا القول والإصرار عليه ساءت علاقته بالوليد بن عبد الملك؛ حتى ضربه وطاف به على جمل مقلوبًا ينادى عليه: هذا عليٌّ الكذاب. لأنهم بلغهم عنه أنه يقول: إن هذا الأمر سيصير في ولدي. وحلف ليكونن فيهم حتى تملك عبيدهم الصغار الأعين العراض الوجوه(والرواية الأولى أشبه بتغلُّب الجنود الترك على أسيادهم الخلفاء، والأخرى أشبه بتغلُّب المغول عليهم، والرواية الأولى نجدها في مصادر عاش مؤلفوها في زمن تغلُّب الترك؛ مثل المبرد (ت 286هـ) في كتابه الكامل، والمجهول صاحب «أخبار الدولة العباسية»(والرواية الثانية نجدها في المصادر التي كُتبت بعد إسقاط المغول للخلافة العباسية؛ مثل فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي (ت 764هـ)، وعقد الجمان لبدر الدين العيني (ت 855هـ)، وغيرهما، ومن ثَمَّ فُسِّرت النبوءة بحسب ما وقع من أحداث، فمَنْ رَأَى المغول كَتَب بأنها تنبَّأت بالمغول، ومَنْ لم يدركهم ظنَّها خاصَّة بتغلُّب الجنود الترك على الخلفاء.
إلا أن احتمالًا ينبغي أن نضعه هنا؛ ذلك أن ما يقوله الرجل الصالح ينبغي أن يُؤخذ باحترام على غير ما يصدر عن الكُهَّان؛ فالرؤية الصالحة جزء من النبوة، وقد يكون علي بن عبد الله بن عباس نطق عن رؤية صالحة رآها..
وتُشير بعض الروايات الضعيفة إلى أن النبوءة قالها عبد الله بن عباس في وصيته عندما حضرته الوفاة(
لم يختلف العلماء على الفضل الكبير والمكانة العليا في الإسلام للعباس وابنه عبد الله بن عباس وحفيده علي بن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهم جميعًا؛ فلقد كانوا من خيرة الناس نبلًا وشرفًا ومروءة وعلمًا وعملًا؛ وعلى الرغم من أن هذا من الحقائق التي لا شَكَّ فيها؛ فإن قيام دولة الخلفاء من بني العباس واستمرارها قرونًا أسفر عن كثير من الروايات، التي لا ترفع من شأن أجداد الخلفاء فحسب، بل تُسقط من شأن كل مَنْ ولي الخلافة من الأمويين حتى معاوية رضي الله عنه؛ بل امتدَّت كثيرٌ من الروايات إلى الطعن في الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان.. وانتشرت هذه الروايات في كتب الأدب، وتناقلها الإخباريون ووضعها المؤرِّخون في كتبهم، ولا شَكَّ في أن هذه الروايات ساهمت في تضليل كثير من الناس، وتشويه أنصع صفحات التاريخ الإسلامي ورجاله العظام، ولولا أن ديننا دين الإسناد لاستحال تمييز التاريخ الصحيح من تشويهات الوضَّاعين من الإخباريين وذوي الأهواء، الذين أحبُّوا أن يُنافقوا الخلفاء ولو على حساب دينهم.
ولذلك ينبغي التنبيه إلى ما شاب الروايات الواردة في فضل العباس وعبد الله بن عباس وعلي بن عبد الله بن عباس من روايات ضعيفة، ظاهرها الفضل وباطنها الطعن في غيرهم، وهذا بخلاف ما هو ظاهره وباطنه الطعن(نشر في ساسة بوست
([1]) المبرد: الكامل 2/162، والمطهر المقدسي: البدء والتاريخ 6/58، وابن ظافر الأزدي: أخبار الدول المنقطعة 2/273، والذهبي: سير أعلام النبلاء 5/285، وابن كثير: البداية والنهاية 9/352. ([2]) الكامل: المبرد 2/162. وقال عن إسناد الرواية: «إسناد متصل لست أحفظه». ومجهول: أخبار الدولة العباسية ص139. ([3]) ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات 2/233، وبدر الدين العيني: عقد الجمان. ([4]) تعليق على كتاب «أخبار الدولة العباسية»:مؤلفه مجهول، أُلِّف في منتصف القرن الثالث الهجري بحسب ما حقق د. عبد العزيز الدوري، وهذا الكتاب يؤرخ للحركة العباسية أيام كانت دعوة وتنظيمًا سريًا، وبدأ الكتاب بفضل العباسيين، وجاء فيه بكل ما استطاع من روايات ترفع من قدر العباسيين (العباس، عبد الله بن عباس، علي بن عبد الله بن عباس) وتضع من قدر غيرهم، أيًّا ما كان هؤلاء الآخرون: أمويين أو تابعين أو صحابة أو خلفاء راشدين أو أم المؤمنين عائشة، وتكاد كل هذه الروايات أن تكون ضعيفة وموضوعة ومكتوبة بنَفَس وغرض شيعي واضح الحقد والكذب، وفيها كل ملامح الرواية الضعيفة من الطول والإسهاب، وكثرة السب والشتم، وكثرة ألفاظ القسم، وهي تستهدف تثبيت القول بأن الإمامة حق لآل البيت لا يتعداهم إلى غيرهم، وهو قول أُلِّفَ لغرض السياسة؛ ليُؤَكِّد على أن خلافة العباسيين إنما تصحيح للوضع الخاطئ، فهو حافل بروايات تبادل السباب بين معاوية وابن عباس (رضي الله عنهما)، وفيها يستطيع ابن عباس –دائمًا- إفحام معاوية إفحاما مهينا!! وأغلب الظن أن هذه الروايات وضعت في أوائل العصر العباسي، لا سيما عهد أبي جعفر المنصور، حيث كانت المعركة على شرعية الخلافة على أشدها بين العلويين والعباسيين، كما يمكن أن يكون بعضها وُضِع منذ أواخر العصر الأموي في إطار الأسلحة التي استخدمتها الدعوة العباسية لإثبات الأحقية في الخلافة لآل البيت، ولاشك أن مثل هذه الروايات هي التي ملأت النفوس بالحقد والثارات وجعلت ثورة العباسيين بهذه الدموية، وما وُضِع منها بعدئذٍ في عهد المنصور كان يساهم في تبرير هذه الدموية وإتاحة الأعذار لها. إن مطالعة هذه الروايات تشرح حال زمنها وأفكار العباسيين فيها، ونعلم منها حقًّا أن هذا الدين محفوظ بحفظ الله، قد هيَّأ الله الرجال الأفذاذ الذين وضعوا علم السند، وناقشوا صلاحية الرجال لرواية التاريخ، ولولا هذه النعمة على الأمة لكانت مصادرنا موضع التشكك والاضطراب والاختلاف.. فالحمد لله رب العالمين.ويلاحظ في هذا الكتاب -أيضًا- كثرة النبوءات والعلامات والأحاديث المكذوبة التي تُبَشِّر بقدوم العباسيين وما إلى ذلك، لكنه على الرغم مما فيه يمثل المصدر الرئيسي في التأريخ لفترة الثورة العباسية حتى قيام الدولة، والمعلومات التي أوردها بهذا الخصوص لا توجد في غيره، وتمتاز بالتفصيل والشمول والتتبع الدقيق لمسارات الحركة العباسية. ([5]) مجهول: أخبار الدولة العباسية ص10 (مقدمة التحقيق). ([6]) مجهول: أخبار الدولة العباسية ص131، وسنده ساقط لجهالة المؤلف ولعدم تصريحه بالتحديث، كما أن سنده هو: محمد بن يوسف بن يعقوب الهاشمي قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن عيسى، قال: حدثني سليمان بن عيسى بن موسى، عن عيسى بن موسى بن محمد بن علي، عن أبي عبد الله محمد بن علي، ولم أعثر على تراجم لرجال بدايات السند، ووجدت محمد بن طاهر البرزنجي يضع روايةً وردت عن محمد بن يوسف بن يعقوب الهاشمي، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عيسى في قسم الضعيف والمسكوت عنه من تاريخ الطبري. انظر: محمد بن طاهر البرزنجي: صحيح وضعيف تاريخ الطبري 11/148. ([7]) انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 6/58. ([8]) انظر مثالاً من هذه الروايات الساقطة في كتاب «أخبار الدولة العباسية»، الذي أُلِّف في منتصف القرن الثالث الهجري بحسب تحقيق د. عبد العزيز الدوري، ولا يُعرف مؤلفه.
وعلى حدِّ ما نعلم، فإنه ليس ثمة خبر قد ثبت أنه وُضِع قبل أن يقع الحدث بالفعل، ولا سيما في مراحل التاريخ المبكرة، التي تشملها الفتوحات الإسلامية والدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ففي هذا التوقيت كانت الرواية الشفهية هي السائدة، ولم تكن قد ظهرت بعد دواوين التاريخ، التي كتبها المؤرِّخون الكبار، الذين بدأ ظهورهم في القرن الثاني للهجرة.
أحيانًا تكون النبوءة على لسان رجل صالح، وأحيانًا على لسان كاهن عالم بالحِدْثان، وأحيانًا لا يُعرف لها قائل، وأسوأ ما في النبوءة أنها تُعطي تفسيرًا سهلًا لحركة التاريخ، كما أنها تُضفي لمحة أسطورية على الأحداث والشخصيات.
ومن هذه النبوءات الشهيرة ما ورد من أن علي بن عبد الله بن عباس كان يقول ويُعلن: إن حفيديه أبا العباس وأبا جعفر سيتوليان الخلافة، ويحكمان ما كان بيد الأمويين، «قيل: إنه دخل على هشام، فاحترمه وأعطاه ثلاثين ألفًا، ثم قال: إن هذا الشيخ اختلَّ وخلط، يقول: إن هذا الأمر سينتقل إلى ولدي. فسمعها علي، فقال: والله ليكونن ذلك، وليتملكن هذان، وكان معه ولدا ابنه السفاح والمنصور»(ولأجل هذا القول والإصرار عليه ساءت علاقته بالوليد بن عبد الملك؛ حتى ضربه وطاف به على جمل مقلوبًا ينادى عليه: هذا عليٌّ الكذاب. لأنهم بلغهم عنه أنه يقول: إن هذا الأمر سيصير في ولدي. وحلف ليكونن فيهم حتى تملك عبيدهم الصغار الأعين العراض الوجوه(والرواية الأولى أشبه بتغلُّب الجنود الترك على أسيادهم الخلفاء، والأخرى أشبه بتغلُّب المغول عليهم، والرواية الأولى نجدها في مصادر عاش مؤلفوها في زمن تغلُّب الترك؛ مثل المبرد (ت 286هـ) في كتابه الكامل، والمجهول صاحب «أخبار الدولة العباسية»(والرواية الثانية نجدها في المصادر التي كُتبت بعد إسقاط المغول للخلافة العباسية؛ مثل فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي (ت 764هـ)، وعقد الجمان لبدر الدين العيني (ت 855هـ)، وغيرهما، ومن ثَمَّ فُسِّرت النبوءة بحسب ما وقع من أحداث، فمَنْ رَأَى المغول كَتَب بأنها تنبَّأت بالمغول، ومَنْ لم يدركهم ظنَّها خاصَّة بتغلُّب الجنود الترك على الخلفاء.
إلا أن احتمالًا ينبغي أن نضعه هنا؛ ذلك أن ما يقوله الرجل الصالح ينبغي أن يُؤخذ باحترام على غير ما يصدر عن الكُهَّان؛ فالرؤية الصالحة جزء من النبوة، وقد يكون علي بن عبد الله بن عباس نطق عن رؤية صالحة رآها..
وتُشير بعض الروايات الضعيفة إلى أن النبوءة قالها عبد الله بن عباس في وصيته عندما حضرته الوفاة(
لم يختلف العلماء على الفضل الكبير والمكانة العليا في الإسلام للعباس وابنه عبد الله بن عباس وحفيده علي بن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهم جميعًا؛ فلقد كانوا من خيرة الناس نبلًا وشرفًا ومروءة وعلمًا وعملًا؛ وعلى الرغم من أن هذا من الحقائق التي لا شَكَّ فيها؛ فإن قيام دولة الخلفاء من بني العباس واستمرارها قرونًا أسفر عن كثير من الروايات، التي لا ترفع من شأن أجداد الخلفاء فحسب، بل تُسقط من شأن كل مَنْ ولي الخلافة من الأمويين حتى معاوية رضي الله عنه؛ بل امتدَّت كثيرٌ من الروايات إلى الطعن في الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان.. وانتشرت هذه الروايات في كتب الأدب، وتناقلها الإخباريون ووضعها المؤرِّخون في كتبهم، ولا شَكَّ في أن هذه الروايات ساهمت في تضليل كثير من الناس، وتشويه أنصع صفحات التاريخ الإسلامي ورجاله العظام، ولولا أن ديننا دين الإسناد لاستحال تمييز التاريخ الصحيح من تشويهات الوضَّاعين من الإخباريين وذوي الأهواء، الذين أحبُّوا أن يُنافقوا الخلفاء ولو على حساب دينهم.
ولذلك ينبغي التنبيه إلى ما شاب الروايات الواردة في فضل العباس وعبد الله بن عباس وعلي بن عبد الله بن عباس من روايات ضعيفة، ظاهرها الفضل وباطنها الطعن في غيرهم، وهذا بخلاف ما هو ظاهره وباطنه الطعن(نشر في ساسة بوست
([1]) المبرد: الكامل 2/162، والمطهر المقدسي: البدء والتاريخ 6/58، وابن ظافر الأزدي: أخبار الدول المنقطعة 2/273، والذهبي: سير أعلام النبلاء 5/285، وابن كثير: البداية والنهاية 9/352. ([2]) الكامل: المبرد 2/162. وقال عن إسناد الرواية: «إسناد متصل لست أحفظه». ومجهول: أخبار الدولة العباسية ص139. ([3]) ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات 2/233، وبدر الدين العيني: عقد الجمان. ([4]) تعليق على كتاب «أخبار الدولة العباسية»:مؤلفه مجهول، أُلِّف في منتصف القرن الثالث الهجري بحسب ما حقق د. عبد العزيز الدوري، وهذا الكتاب يؤرخ للحركة العباسية أيام كانت دعوة وتنظيمًا سريًا، وبدأ الكتاب بفضل العباسيين، وجاء فيه بكل ما استطاع من روايات ترفع من قدر العباسيين (العباس، عبد الله بن عباس، علي بن عبد الله بن عباس) وتضع من قدر غيرهم، أيًّا ما كان هؤلاء الآخرون: أمويين أو تابعين أو صحابة أو خلفاء راشدين أو أم المؤمنين عائشة، وتكاد كل هذه الروايات أن تكون ضعيفة وموضوعة ومكتوبة بنَفَس وغرض شيعي واضح الحقد والكذب، وفيها كل ملامح الرواية الضعيفة من الطول والإسهاب، وكثرة السب والشتم، وكثرة ألفاظ القسم، وهي تستهدف تثبيت القول بأن الإمامة حق لآل البيت لا يتعداهم إلى غيرهم، وهو قول أُلِّفَ لغرض السياسة؛ ليُؤَكِّد على أن خلافة العباسيين إنما تصحيح للوضع الخاطئ، فهو حافل بروايات تبادل السباب بين معاوية وابن عباس (رضي الله عنهما)، وفيها يستطيع ابن عباس –دائمًا- إفحام معاوية إفحاما مهينا!! وأغلب الظن أن هذه الروايات وضعت في أوائل العصر العباسي، لا سيما عهد أبي جعفر المنصور، حيث كانت المعركة على شرعية الخلافة على أشدها بين العلويين والعباسيين، كما يمكن أن يكون بعضها وُضِع منذ أواخر العصر الأموي في إطار الأسلحة التي استخدمتها الدعوة العباسية لإثبات الأحقية في الخلافة لآل البيت، ولاشك أن مثل هذه الروايات هي التي ملأت النفوس بالحقد والثارات وجعلت ثورة العباسيين بهذه الدموية، وما وُضِع منها بعدئذٍ في عهد المنصور كان يساهم في تبرير هذه الدموية وإتاحة الأعذار لها. إن مطالعة هذه الروايات تشرح حال زمنها وأفكار العباسيين فيها، ونعلم منها حقًّا أن هذا الدين محفوظ بحفظ الله، قد هيَّأ الله الرجال الأفذاذ الذين وضعوا علم السند، وناقشوا صلاحية الرجال لرواية التاريخ، ولولا هذه النعمة على الأمة لكانت مصادرنا موضع التشكك والاضطراب والاختلاف.. فالحمد لله رب العالمين.ويلاحظ في هذا الكتاب -أيضًا- كثرة النبوءات والعلامات والأحاديث المكذوبة التي تُبَشِّر بقدوم العباسيين وما إلى ذلك، لكنه على الرغم مما فيه يمثل المصدر الرئيسي في التأريخ لفترة الثورة العباسية حتى قيام الدولة، والمعلومات التي أوردها بهذا الخصوص لا توجد في غيره، وتمتاز بالتفصيل والشمول والتتبع الدقيق لمسارات الحركة العباسية. ([5]) مجهول: أخبار الدولة العباسية ص10 (مقدمة التحقيق). ([6]) مجهول: أخبار الدولة العباسية ص131، وسنده ساقط لجهالة المؤلف ولعدم تصريحه بالتحديث، كما أن سنده هو: محمد بن يوسف بن يعقوب الهاشمي قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن عيسى، قال: حدثني سليمان بن عيسى بن موسى، عن عيسى بن موسى بن محمد بن علي، عن أبي عبد الله محمد بن علي، ولم أعثر على تراجم لرجال بدايات السند، ووجدت محمد بن طاهر البرزنجي يضع روايةً وردت عن محمد بن يوسف بن يعقوب الهاشمي، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عيسى في قسم الضعيف والمسكوت عنه من تاريخ الطبري. انظر: محمد بن طاهر البرزنجي: صحيح وضعيف تاريخ الطبري 11/148. ([7]) انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 6/58. ([8]) انظر مثالاً من هذه الروايات الساقطة في كتاب «أخبار الدولة العباسية»، الذي أُلِّف في منتصف القرن الثالث الهجري بحسب تحقيق د. عبد العزيز الدوري، ولا يُعرف مؤلفه.
Published on August 06, 2016 11:53
August 5, 2016
مات زيل.. فصول من مأساة السلطة والعلم
منذ نزل الاحتلال الفرنسي إلى بلادنا وهذه البلاد مُبتلاة بسلطة تعادي الشعب، تعاديه وتقهره وتجلده وتسحقه، ليس فقط لمجرد كونها سلطة فاسدة، وإنما لحقيقة كونها مستندة إلى الغرب في تثبيت سلطانها، فهي تعمل دائما على تحقيق مصالحه وضمانها له.
مات أحمد زويل.. مات مؤيدا لعبد الفتاح السيسي!
أحمد زويل الذي نشأ في أسرة عادية، وضاقت به بلاده أن يبلغ فيها شيئا، وجد أمامه بلاد الغرب وإسرائيل مفتوحة ترحب به، لم يتردد في استثمار الفرصة ودخول الباب المفتوح (وهنا ربما نتجادل في صحة ذلك أو خطئه)، لكن الذي لا ينبغي أن يكون فيه جدل هو أن أحمد زويل تحول برغبته ليكون أداة في يد ذات السلطة التي حرمت بلاده من العلم، كان أداة في يدها لتستمر مسيرة التخلف في بلاده، مسيرة مصبوغة بالدماء والمظالم.. مات أحمد زويل مؤيدا لهذه السلطة.
مات زويل.. وبقيت مأساة السلطة والعلم في هذه البلاد المنكوبة.
(1) غروب دولة المماليك
عند غروب دولة المماليك لم تكن مصر دولة متخلفة من كل الوجوه كما سُوِّق لنا، بل الناظر في تاريخ الجبرتي يجده يترجم لعدد كبير من العلماء في مجالات الهندسة والفلك والكيمياء والميكانيكا وغيره، بل ومن أولئك العلماء من كان يأتيه طلاب العلم من بلاد أوروبا فيتعلمون منه، إلا أن المأساة –وكما رصدها الجبرتي نفسه- كانت في أن هذا العلم لم يجد سلطة تستثمره في صناعة الآلات، بينما أولئك الطلاب الأوروبيين بعدما تعلموا "وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت وأخرجوه من القوة إلى الفعل واستخرجوا به الصنائع البديعة مثل طواحين الهواء وجر الاثقال واستنباط المياه وغير ذلك"وقد حاول الفرنسيون استعمال العلم في الدجل لنشر الخوف والفزع وتعظيم قدرهم في صدور المصريين، أعلنوا أنهم سيطيرون طائرة من الأزبكية إلى فرنسا في يوم بعينه، فاجتمع الناس ليشهدوا هذا، فإذا بهم يطيرون بالونا أرادوا له أن يطير حتى يختفي عن الأنظار فيحسب الناس أنه ذهب إلى فرنسا، لكن التجربة فشلت وسقط البالون أمام الناس.. لكن المهم هنا هو أن الجبرتي وصف نظرية عمل البالون وارتفاعه بطريق البخار، وهو وصف لا يتفق ومفهوم النخبة.على كل حال، فإن أمر التخلف العلمي هو من المباحث التي ظهرت فيها العديد من الدراسات الحديثة التي تثبت كذب القول بأن أهل مصر كانوا متخلفين علميا في ذلك الزمن، بل ذهب بيتر جران في دراسته الشهيرة "الجذور الإسلامية للرأسمالية" إلى القول بأن مقارنة بين ما أنتجه المصريون في منتصف القرن الثامن عشر وما أنتجوه في منتصف القرن التاسع عشر (أي عند نهاية عصر محمد علي) تدل على أن المرحلة الثانية هي مرحلة انحطاط.
(2) الحملة الفرنسية
كانت مشكلة بلادنا مشكلة سلطة متخلفة لم تنهض لتأخذ العلم فتحيله إلى سلاح تدفع به العدو وتحمي به الحمى، فلما جاء الاحتلال تأسست علاقة مختلفة بين السلطة والناس، علاقة قائمة على خوف السلطة من الأمة واحتقارها لها.. تخاف منهم إذا تعلموا أن يثوروا ويُقاوموا، ثم تصوغ مخاوفها هذه في شعور احتقاري يبرر لها أن تبطش بهؤلاء الناس.
لما جاءت الحملة الفرنسية اندفع الناس يقاومونها بكل ما استطاعوا، ولقد اندهش الفرنسيون من مقاومة الأهالي المصريين، الذين استطاعوا إنشاء معمل للبارود، واستطاعوا إعادة تصنيع واستعمال ما بقي من المدافع التالفة، واستعلموا الأدوات البدائية من حجر وأخشاب ومثاقيل الموازين وما ضُرِب عليهم من قنابل الفرنسيين ليعيدوا صناعتها كقنابل تُطْلَق من المدافع، وكان أبطال المشهد هم أصحاب الحرف من السباكين والنجارين والحدادين والعربجية، حتى ليقول ضابط فرنسي "لقينا مقاومة لا قبل لنا بشراستها وتنظيمها من قبل"، ويشهد أحد مهندسي الحملة بأن ما فعله سكان القاهرة "لم يستطع أحد أن يقوم به من قبل، فقد صنعوا البارود وصنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الصُنّاع، وفعلوا ما يصعب تصديقه –ومن رأى ليس كمن سمع- ذلك أنهم صنعوا المدافع"، بل يشهد كليبر-قائد الحملة الفرنسية آنذاك- بأنه لم يكن يتصور الوضع على هذه الدرجة من الخطورةوهذا وإن كان دليلا على البسالة فهو دليل كذلك على مستوى علمي استثمره المصريون في مقاومة الاحتلال. وسيشهد بهذا الجنرال مينو القائد الأخير للحملة الفرنسية..
فقد اقترح الجنرال "مينو" إنشاء مصنع للجوخ في القاهرة لسد الحاجة الماسة إلى الأجواخ التي انقطع ورودها من أوروبا بسبب الحصار البحري، لكن أعضاء اللجنة الإدارية -لجنة فرنسية تشرف على أعمال الحكومة الإدارية ويدخل في خصائصها الشئون المالية والزراعية والاقتصادية- عارضوا في قبول العمال المصريين في هذا المصنع بحجة الضرر الذي يلحق الصناعة الفرنسية إذا عرف المصريون أسرارها، وكتبت اللجنة رسالة في هذا الصدد قالت فيها: "إن مقدرة المصرين في تقليد المبتكرات الصناعية من شأنها أن تضر بالمصانع الفرنسية". وصرح المسيو كونتي مدير المصنع الميكانيكي الذي أنشأه الفرنسيون أنه لا يقبل البتة تعليم أحد من الأهالي أساليب الصناعة. وأخيرًا تم الاتفاق بين "مينو" واللجنة الإدارية على إنشاء مصنع للأجواخ بإدارة المسيو كونتي على أن لا يُقبل فيه عامل مصري"(3) محمد علي
وأما محمد علي فقد احتفظ بنفس نظرة الاحتقار للمصريين، فقد عُرِضت عليه ترجمة لقانون أوربي يُقترح تطبيقه في مصر، إلا أنه أمر المترجم ألا ينسخ القانون الأوروبي بلا تبصر، لأن القانون يناسب "الأوربيين، [وهم] شعب متنور متحضر. أما شعبنا فمثل بهائم البراري، فلن يكون هذا القانون بالبداهة مناسبا لهم"، وفي مناسبة أخرى قال "إن سكان ولايتنا مصر، من ثلاثة أنواع. أولها أناس لا يعنيهم سوى أنفسهم، وثانيها أناس وإن كان من الممكن أن يكونوا مخلصين وطيبين فإنهم يفتقرون لأي قدرة على التحفظ. أما أفراد النوع الثالث فلا يختلفون عن الحيوانات"ورفض محمد علي أن ينتشر التعليم بين الناس لئلا يحدث له مثلما حدث لملوك أوروبا من الثورات، وقد كشف عن هذا في خطاب ردَّ فيه على ابنه إبراهيم باشا الذي طالب بفتح مدارس جديدة قائلا إنه لا ينوي مطلقا أن ينشر التعليم بين العامة في مصر، ورأى أن على إبراهيم أن يقنع بتعليم عدد محدود من الناس يستطيعون أن يتولوا مناصب رئيسية في الإدارة وينبذ فكرة التعليم العام. وحتى بعد أن أنشأ هذه المدارس كان كثيرا ما يعبر عن استيائه لأنها ممتلئة في معظمها بطلاب مصريين يتحدثون العربية. وكتب إلى إبراهيم –حين كان في الأناضول في ذروة الحرب مع العثمانيين- يأمره بأن يحاول أن يجتذب بعض الأتراك من تلك المناطق ويرسلهم إلى المدارس في القاهرةإذن فلماذا ينسب لمحمد علي كل هذا الفضل في إنشاء المدارس وإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا؟
هذا ما يجيب عنه الشيخ محمد عبده في مقاله الذي يعد أجمع وأخصر ما وُصِف به عهد محمد علي، يقول:
"قالوا: إنه طلع نجم العلم في سماء البلاد. نعم عني بالطب لأجل الجيش والكشف على المجني عليهم في بعض الأحيان عندما يراد إيقاع الظلم بمتهم. وبالهندسة لأجل حتى يدبر مياه النيل بعض التدبير، ليستغل إقطاعه الكبير.
هل تَفكر يومًا في إصلاح اللغة عربية أو تركية أو أرنؤدية؟ هل تفكر في بناء التربية على قاعدة من الدين أو الأدب؟ هل خطر في باله أن يجعل للأهالي رأيًا في الحكومة في عاصمة البلاد أو أمهات الأقاليم؟ هل توجهت نفسه لوضع حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل؟ لم يكن شيء من ذلك...
أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوربا ليتعلموا فيها. فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا في البلاد ما استفادوا؟ كلا ولكنه استعملهم آلات تصنع له ما يريد وليس لها إرادة فيما تصنع. وُجد بعض الأطباء الممتازين وهم قليل، ووجد بعض المهندسين الماهرين وليسوا بكثير، والسبب في ذلك أن محمد علي ومن معه لم يكن فيهم طبيب ولا مهندس فاحتاجوا إلى بعض المصريين ولم يكن أحد من الأعوان مسلطًا على المهندس عند رسم ما يلزم من الأعمال ولا على الطبيب عند تركيب أجزاء العلاج فظهر أثر استقلال الإرادة في الصناعة عند أولئك النفر القليل من النابغين، وكان ذلك مما لا تخشى عاقبته على المستبدين.
هل كانت له مدرسة لتعليم الفنون الحربية؟ أين هي؟ وأين الذين نبغوا من طلابها؟ فإن وُجد أحد نابغ، فهل هو من المصريين؟ عدوا إن شئتم أحياءً أوأمواتًا.
وُجَدَ كثير من الكتب المترجمة في فنون شتى من التاريخ والفلسفة والأدب ولكن هذه الكتب أودعت في المخازن من يوم طُبِعَت وغُلِّقَتْ عليها الأبواب إلى أواخر عهد إسماعيل باشا فأرادت الحكومة تفريغ المخازن منها، وتخفيف ثقلها عنها، فنثرتها بين الناس فتناول منها من تناول، وهذا يدلنا على أنها ترجمت برغبة بعض الرؤساء من الأوربيين الذين أرادوا نشر آدابهم في البلاد لكنهم لم ينجحوا؛ لأن حكومة محمد علي لم توجد في البلاد قراء ولا منتفعين بتلك الكتب والفنون.
كانوا يختطفون تلامذة المدارس من الطرق وأفناء القرى (الأفناء: الناس المجهولون) كما يختطفون عساكر الجيش، فهل هذا مما يحبب القوم في العلم ويرغبهم في إرسال أولادهم إلى المدارس؟ لا بل كان يخوفهم من المدرسة كما كان يخيفهم من الجيش"وفي مقال قادم إن شاء الله نستكمل فصول المأساة من عصر الاحتلال ثم عصر العسكر.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، (بيروت: دار الجيل، بدون تاريخ)، 1/461. الجبرتي، عجائب الآثار، مرجع سابق، 2/326 وما بعدها؛ جوزيف ماري مواريه: مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية على مصر، ترجمة: كاميليا صبحي، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000م)، ص155 وما بعدها؛ عبد الرحمن الرافعي: تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم، (القاهرة: دار المعارف، 1987م)، 2/173. محمد جلال كشك، ودخلت الخيل الأزهر، ط3 (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1990م)، ص306، 307. خالد فهمي، كل رجال الباشا، ترجمة: شريف يونس، ط1 (القاهرة: دار الشروق، 2001م)، ص386. خالد فهمي، كل رجال الباشا، مرجع سابق، ص387. محمد عبده (الأستاذ الإمام)، آثار محمد علي في مصر، مجلة المنار 5/175 وما بعدها؛ محمد عبده: الأعمال الكاملة للأستاذ الإمام، تحقيق: د. محمد عمارة، ط1 (القاهرة: دار الشروق، 1993م)، 1/851 وما بعدها.
مات أحمد زويل.. مات مؤيدا لعبد الفتاح السيسي!
أحمد زويل الذي نشأ في أسرة عادية، وضاقت به بلاده أن يبلغ فيها شيئا، وجد أمامه بلاد الغرب وإسرائيل مفتوحة ترحب به، لم يتردد في استثمار الفرصة ودخول الباب المفتوح (وهنا ربما نتجادل في صحة ذلك أو خطئه)، لكن الذي لا ينبغي أن يكون فيه جدل هو أن أحمد زويل تحول برغبته ليكون أداة في يد ذات السلطة التي حرمت بلاده من العلم، كان أداة في يدها لتستمر مسيرة التخلف في بلاده، مسيرة مصبوغة بالدماء والمظالم.. مات أحمد زويل مؤيدا لهذه السلطة.
مات زويل.. وبقيت مأساة السلطة والعلم في هذه البلاد المنكوبة.
(1) غروب دولة المماليك
عند غروب دولة المماليك لم تكن مصر دولة متخلفة من كل الوجوه كما سُوِّق لنا، بل الناظر في تاريخ الجبرتي يجده يترجم لعدد كبير من العلماء في مجالات الهندسة والفلك والكيمياء والميكانيكا وغيره، بل ومن أولئك العلماء من كان يأتيه طلاب العلم من بلاد أوروبا فيتعلمون منه، إلا أن المأساة –وكما رصدها الجبرتي نفسه- كانت في أن هذا العلم لم يجد سلطة تستثمره في صناعة الآلات، بينما أولئك الطلاب الأوروبيين بعدما تعلموا "وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت وأخرجوه من القوة إلى الفعل واستخرجوا به الصنائع البديعة مثل طواحين الهواء وجر الاثقال واستنباط المياه وغير ذلك"وقد حاول الفرنسيون استعمال العلم في الدجل لنشر الخوف والفزع وتعظيم قدرهم في صدور المصريين، أعلنوا أنهم سيطيرون طائرة من الأزبكية إلى فرنسا في يوم بعينه، فاجتمع الناس ليشهدوا هذا، فإذا بهم يطيرون بالونا أرادوا له أن يطير حتى يختفي عن الأنظار فيحسب الناس أنه ذهب إلى فرنسا، لكن التجربة فشلت وسقط البالون أمام الناس.. لكن المهم هنا هو أن الجبرتي وصف نظرية عمل البالون وارتفاعه بطريق البخار، وهو وصف لا يتفق ومفهوم النخبة.على كل حال، فإن أمر التخلف العلمي هو من المباحث التي ظهرت فيها العديد من الدراسات الحديثة التي تثبت كذب القول بأن أهل مصر كانوا متخلفين علميا في ذلك الزمن، بل ذهب بيتر جران في دراسته الشهيرة "الجذور الإسلامية للرأسمالية" إلى القول بأن مقارنة بين ما أنتجه المصريون في منتصف القرن الثامن عشر وما أنتجوه في منتصف القرن التاسع عشر (أي عند نهاية عصر محمد علي) تدل على أن المرحلة الثانية هي مرحلة انحطاط.
(2) الحملة الفرنسية
كانت مشكلة بلادنا مشكلة سلطة متخلفة لم تنهض لتأخذ العلم فتحيله إلى سلاح تدفع به العدو وتحمي به الحمى، فلما جاء الاحتلال تأسست علاقة مختلفة بين السلطة والناس، علاقة قائمة على خوف السلطة من الأمة واحتقارها لها.. تخاف منهم إذا تعلموا أن يثوروا ويُقاوموا، ثم تصوغ مخاوفها هذه في شعور احتقاري يبرر لها أن تبطش بهؤلاء الناس.
لما جاءت الحملة الفرنسية اندفع الناس يقاومونها بكل ما استطاعوا، ولقد اندهش الفرنسيون من مقاومة الأهالي المصريين، الذين استطاعوا إنشاء معمل للبارود، واستطاعوا إعادة تصنيع واستعمال ما بقي من المدافع التالفة، واستعلموا الأدوات البدائية من حجر وأخشاب ومثاقيل الموازين وما ضُرِب عليهم من قنابل الفرنسيين ليعيدوا صناعتها كقنابل تُطْلَق من المدافع، وكان أبطال المشهد هم أصحاب الحرف من السباكين والنجارين والحدادين والعربجية، حتى ليقول ضابط فرنسي "لقينا مقاومة لا قبل لنا بشراستها وتنظيمها من قبل"، ويشهد أحد مهندسي الحملة بأن ما فعله سكان القاهرة "لم يستطع أحد أن يقوم به من قبل، فقد صنعوا البارود وصنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الصُنّاع، وفعلوا ما يصعب تصديقه –ومن رأى ليس كمن سمع- ذلك أنهم صنعوا المدافع"، بل يشهد كليبر-قائد الحملة الفرنسية آنذاك- بأنه لم يكن يتصور الوضع على هذه الدرجة من الخطورةوهذا وإن كان دليلا على البسالة فهو دليل كذلك على مستوى علمي استثمره المصريون في مقاومة الاحتلال. وسيشهد بهذا الجنرال مينو القائد الأخير للحملة الفرنسية..
فقد اقترح الجنرال "مينو" إنشاء مصنع للجوخ في القاهرة لسد الحاجة الماسة إلى الأجواخ التي انقطع ورودها من أوروبا بسبب الحصار البحري، لكن أعضاء اللجنة الإدارية -لجنة فرنسية تشرف على أعمال الحكومة الإدارية ويدخل في خصائصها الشئون المالية والزراعية والاقتصادية- عارضوا في قبول العمال المصريين في هذا المصنع بحجة الضرر الذي يلحق الصناعة الفرنسية إذا عرف المصريون أسرارها، وكتبت اللجنة رسالة في هذا الصدد قالت فيها: "إن مقدرة المصرين في تقليد المبتكرات الصناعية من شأنها أن تضر بالمصانع الفرنسية". وصرح المسيو كونتي مدير المصنع الميكانيكي الذي أنشأه الفرنسيون أنه لا يقبل البتة تعليم أحد من الأهالي أساليب الصناعة. وأخيرًا تم الاتفاق بين "مينو" واللجنة الإدارية على إنشاء مصنع للأجواخ بإدارة المسيو كونتي على أن لا يُقبل فيه عامل مصري"(3) محمد علي
وأما محمد علي فقد احتفظ بنفس نظرة الاحتقار للمصريين، فقد عُرِضت عليه ترجمة لقانون أوربي يُقترح تطبيقه في مصر، إلا أنه أمر المترجم ألا ينسخ القانون الأوروبي بلا تبصر، لأن القانون يناسب "الأوربيين، [وهم] شعب متنور متحضر. أما شعبنا فمثل بهائم البراري، فلن يكون هذا القانون بالبداهة مناسبا لهم"، وفي مناسبة أخرى قال "إن سكان ولايتنا مصر، من ثلاثة أنواع. أولها أناس لا يعنيهم سوى أنفسهم، وثانيها أناس وإن كان من الممكن أن يكونوا مخلصين وطيبين فإنهم يفتقرون لأي قدرة على التحفظ. أما أفراد النوع الثالث فلا يختلفون عن الحيوانات"ورفض محمد علي أن ينتشر التعليم بين الناس لئلا يحدث له مثلما حدث لملوك أوروبا من الثورات، وقد كشف عن هذا في خطاب ردَّ فيه على ابنه إبراهيم باشا الذي طالب بفتح مدارس جديدة قائلا إنه لا ينوي مطلقا أن ينشر التعليم بين العامة في مصر، ورأى أن على إبراهيم أن يقنع بتعليم عدد محدود من الناس يستطيعون أن يتولوا مناصب رئيسية في الإدارة وينبذ فكرة التعليم العام. وحتى بعد أن أنشأ هذه المدارس كان كثيرا ما يعبر عن استيائه لأنها ممتلئة في معظمها بطلاب مصريين يتحدثون العربية. وكتب إلى إبراهيم –حين كان في الأناضول في ذروة الحرب مع العثمانيين- يأمره بأن يحاول أن يجتذب بعض الأتراك من تلك المناطق ويرسلهم إلى المدارس في القاهرةإذن فلماذا ينسب لمحمد علي كل هذا الفضل في إنشاء المدارس وإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا؟
هذا ما يجيب عنه الشيخ محمد عبده في مقاله الذي يعد أجمع وأخصر ما وُصِف به عهد محمد علي، يقول:
"قالوا: إنه طلع نجم العلم في سماء البلاد. نعم عني بالطب لأجل الجيش والكشف على المجني عليهم في بعض الأحيان عندما يراد إيقاع الظلم بمتهم. وبالهندسة لأجل حتى يدبر مياه النيل بعض التدبير، ليستغل إقطاعه الكبير.
هل تَفكر يومًا في إصلاح اللغة عربية أو تركية أو أرنؤدية؟ هل تفكر في بناء التربية على قاعدة من الدين أو الأدب؟ هل خطر في باله أن يجعل للأهالي رأيًا في الحكومة في عاصمة البلاد أو أمهات الأقاليم؟ هل توجهت نفسه لوضع حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل؟ لم يكن شيء من ذلك...
أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوربا ليتعلموا فيها. فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا في البلاد ما استفادوا؟ كلا ولكنه استعملهم آلات تصنع له ما يريد وليس لها إرادة فيما تصنع. وُجد بعض الأطباء الممتازين وهم قليل، ووجد بعض المهندسين الماهرين وليسوا بكثير، والسبب في ذلك أن محمد علي ومن معه لم يكن فيهم طبيب ولا مهندس فاحتاجوا إلى بعض المصريين ولم يكن أحد من الأعوان مسلطًا على المهندس عند رسم ما يلزم من الأعمال ولا على الطبيب عند تركيب أجزاء العلاج فظهر أثر استقلال الإرادة في الصناعة عند أولئك النفر القليل من النابغين، وكان ذلك مما لا تخشى عاقبته على المستبدين.
هل كانت له مدرسة لتعليم الفنون الحربية؟ أين هي؟ وأين الذين نبغوا من طلابها؟ فإن وُجد أحد نابغ، فهل هو من المصريين؟ عدوا إن شئتم أحياءً أوأمواتًا.
وُجَدَ كثير من الكتب المترجمة في فنون شتى من التاريخ والفلسفة والأدب ولكن هذه الكتب أودعت في المخازن من يوم طُبِعَت وغُلِّقَتْ عليها الأبواب إلى أواخر عهد إسماعيل باشا فأرادت الحكومة تفريغ المخازن منها، وتخفيف ثقلها عنها، فنثرتها بين الناس فتناول منها من تناول، وهذا يدلنا على أنها ترجمت برغبة بعض الرؤساء من الأوربيين الذين أرادوا نشر آدابهم في البلاد لكنهم لم ينجحوا؛ لأن حكومة محمد علي لم توجد في البلاد قراء ولا منتفعين بتلك الكتب والفنون.
كانوا يختطفون تلامذة المدارس من الطرق وأفناء القرى (الأفناء: الناس المجهولون) كما يختطفون عساكر الجيش، فهل هذا مما يحبب القوم في العلم ويرغبهم في إرسال أولادهم إلى المدارس؟ لا بل كان يخوفهم من المدرسة كما كان يخيفهم من الجيش"وفي مقال قادم إن شاء الله نستكمل فصول المأساة من عصر الاحتلال ثم عصر العسكر.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، (بيروت: دار الجيل، بدون تاريخ)، 1/461. الجبرتي، عجائب الآثار، مرجع سابق، 2/326 وما بعدها؛ جوزيف ماري مواريه: مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية على مصر، ترجمة: كاميليا صبحي، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000م)، ص155 وما بعدها؛ عبد الرحمن الرافعي: تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم، (القاهرة: دار المعارف، 1987م)، 2/173. محمد جلال كشك، ودخلت الخيل الأزهر، ط3 (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1990م)، ص306، 307. خالد فهمي، كل رجال الباشا، ترجمة: شريف يونس، ط1 (القاهرة: دار الشروق، 2001م)، ص386. خالد فهمي، كل رجال الباشا، مرجع سابق، ص387. محمد عبده (الأستاذ الإمام)، آثار محمد علي في مصر، مجلة المنار 5/175 وما بعدها؛ محمد عبده: الأعمال الكاملة للأستاذ الإمام، تحقيق: د. محمد عمارة، ط1 (القاهرة: دار الشروق، 1993م)، 1/851 وما بعدها.
Published on August 05, 2016 11:50