محمد إلهامي's Blog, page 45
June 24, 2016
معركة رمضان بين الأمة المسلمة والسلطة العلمانية
ليس التناقض بين الإسلام والعلمانية يسيرا ولا هو مما يمكن تجاوزه، ذلك أن نظام الإسلام متناقض في كل باب مع نظام العلمانية، ولربما استطاع العلماني أن يزوِّر معنى العلمانية فيسوق لها باعتبارها "حيادا ووقوفا على مسافة واحدة بين الأديان"، مثلما يحاول "مسلم متعلمن" أن يُزَوِّر معنى الإسلام فيدعي أنه لا يتناقض مع الحداثة ومتطلبات الدولة الحديثة! إلا أن محاولات التزوير هذه لن تصمد إلا قليلا، إذ قضايا الواقع ستحمل كلا منهما على رأي فيه تنازل عن الإسلام أو تنازل عن العلمانية!
هذا شهر رمضان.. مثال على قضية واقعية عظيمة تمثل مساحة للمعركة الإسلامية العلمانية.
(1) معركة الفتوى والنظام
أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى ترفض اعتبار المجاهرة بالإفطار في رمضان حرية شخصية بل تجعل ذلك من الاعتداء على قدسية الدين، وهو مما يستوجب المحاسبة والمعاقبة.
فجرت الفتوى جدلا كبيرا، إذ اعتبرها البعض –لا سيما من غير المسلمين ومن العلمانيين- دعوة للتحريض على المُفطرين في نهار رمضان، وكان أهم ما وُجِّه للفتوى من انتقادات أنها مصادرة على الحرية الشخصية، إذ الدين علاقة بين الإنسان وربه ليس للسلطة أن تتدخل فيها، ومن ثم فمن حق كل فرد أن يفطر أو يجاهر بالإفطار، وأنه إذا لم يفعل فإنما يكون هذا من باب الذوق والمجاملة للصائمين لا أكثر.
هكذا إذن اصطدم نظام الإسلام بنظام العلمانية، وليس ثمة حل لفض هذا الاشتباك إلا بالميل نحو أحد الأمرين: إما أن نحذف من الإسلام أي إدانة أو عقوبة للمجاهرة بالإفطار، وإما أن تتخلى السلطة "العلمانية" عن حيادها بين الأديان لتقترب من الإسلام وتعاقب من ينتهك حرماته، وإن كان ذلك بتصرف –هو في الثقافة العلمانية- شديد الخصوصية ويمثل التزاما تعبديا كاختيار الصوم أو الإفطار في رمضان!
تبدو الأزمة أمام السلطة معقدة، بل هي على الحقيقة مستحيلة، ذلك أن الإسلام محفوظ في نص معصوم خالد، محفوظ في الصدور والسطور، لا يمكن لأحد تغييره أو تبديله أو تحريفه، ثم إن العلماء الموكلين بفهم النص وتفسيره ليسوا تنظيما هرميا ولا هم مندرجون في مراتب كهنوتية، بل هم تيار واسع ممتد، ولذلك لا يملك أحدهم –على غرار المسيحية- أن يحرم ما كان بالأمس حلالا أو يحرم ما كان بالأمس حراما، ولا قيمة لشيخ الأزهر ولا لمفتي الجمهورية ولا لأي رتبة علمية في نظام إداري، إن هذا لا يعطيهم حصانة من الانحراف ولا هو يسمح لهم بالإتيان بشيء جديد فيه مخالفة للنصوص الثابتة من القرآن والسنة وإجماع جماهير العلماء عبر خمسة عشر قرنا!
كذلك فإن الإسلام قد أقام دولة استمرت لأكثر من ألف سنة، ونموذجها المثالي استمر لأربعين سنة (العهد النبوي في المدينة + الخلافة الراشدة)، مما يعني أن مسألة سياسة الدولة وعلاقتها تجاه الأحكام الدينية مسطورة ومكتوبة ومبحوثة فقيها في مئات الآلاف من الكتب، فهي ليست نازلة جديدة تحتاج فتوى جديدة يمكن الدخول منها إلى تغيير علاقة السلطة بالدين أو إعادة تعريف لمساحة ونفوذ كل منهما!
إن معركة الفتوى والنظام تمثل مشهدا ملفتا للنظر، فبقدر ما تبدو السلطة العلمانية متغولة بالإمكانيات قاهرة بالقوة، بقدر ما تبدو بائسة قليلة الحيلة أمام إدخال العلمانية إلى صميم حياة الناس، وهي إذا عجزت عن هذا فإنها في الوقت نفسه مهددة بأن يتمدد أثر الإسلام العميق في حياة الناس إلى مساحتها التي اغتصبتها بالقوة والقهر.
لذلك لن تجد أبدا في بلادنا علاقة سوية ومفهومة بين مؤسسة الفتوى والنظام، بل هي كما يصف الله تعالى المنافقين {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 143]
(2) معركة إنتاج الثقافة
للسلطة منذ القدم أثرها الواضح في إنتاج الثقافة وترويج الأفكار، حتى قيل "الناس على دين ملوكهم"، وقيل "إذا تغير السلطان تغير الزمان"، وقيل "التاريخ يكتبه المنتصرون"... إلى آخره!
أما في العصور الحديثة فقد اختلف الأمر كثيرا، لقد أصبحت السلطة وحشا أسطوريا رهيبا بما وفرته له التطورات التقنية الحديثة من وسائل، فصارت السلطة تمتلك وسائل إنتاج الثقافة والأفكار وتسيطر عليها، وذلك منذ ظهرت المطبعة، ثم الإذاعة والتليفزيون. لقد تحكمت الدولة المركزية في سائر الأنشطة التي تجري فيها، بدءا من الإعلام والتعليم وحتى التصاريح بالخطابة أو بإلقاء الدروس في المساجد!
وهكذا لم يقتصر الأمر على ما أتيح للسلطة من وسائل ترويج ضخمة لأفكارها وثقافتها، بل لم يعد بالإمكان تقديم أفكار أصلا إلا بإذن من السلطة!
يعدُّ رمضان مثالا على هذه الحالة أيضا، حالة التنازع بين الأمة المسلمة والسلطة العلمانية في بلادنا، ففيما قبل عصر الدولة المركزية كانت ملامح رمضان ترسمها الأمة أساسا، ثم صارت ملامح رمضان ترسمها السلطة!
قبل عصر الدولة المركزية كانت الأمة تحيي رمضان بالعديد من التقاليد الخاصة التي تكثر فيها خطب العلماء ودروسهم وقراءة القرآن في المساجد أو الساحات أو فعاليات الإفطار الجماعي وتقديم العون للمحتاجين وتوزيع الأموال والصدقات وإدخال السرور على الأطفال، فإذا حلَّ الليل تحولت بيوت العائلات الكبيرة إلى مجالس يُقرأ فيها القرآن وتُنْشد فيها المدائح النبوية، وكان الأغنياء يوقفون من أراضيهم وأملاكهم على هذه المجالس كي تستمر بعد وفاتهم، ولذا استمرت المجالس بما يُنفق عليها من ريع هذه الأوقاف إلى وقت قريب!
ما إن دخلت الإذاعة والتلفاز إلى البيوت حتى انتزعت السلطة مساحة رمضان من الأمة، وصارت صناعة رمضان بيد السلطة التي صنعت تقاليد جديدة: الفوازير وألف ليلة وليلة والمسلسلات الدرامية والمسابقات الرمضانية وأنماط من البرامج المثيرة: الكاميرا الخفية وبرامج الاعترافات وبرامج الربح السهل للأموال... إلخ!
وبهذا صار رمضان في وجدان الأجداد وأجدادهم غير رمضان في وجدان هذا الجيل تماما، بل صار مناقضا له.. فهذا رمضان كل شعائره اقتراب من الله، وهذا رمضان كل شعائره ابتعاد عن الله واقتراب من التغريب والانحلال!
وهكذا يثبت رمضان –كمثال- أن العلمانية لا يمكن لها على الحقيقة أن تكون مجرد "حياد بين الأديان أو وقوف على مسافة واحدة منها"، بل هي فكرة وثقافة ورؤية وتصور كوني، وهي تعمل على إنتاج ونشر وترويج هذه الثقافة من خلال وسائل الإعلام ونظام التعليم وسائر منافذ التأثير في المجال العام.
ليست السلطة العلمانية محايدة إذن، ولا يمكنها أن تكون.. إنما هي صاحبة موقف لأنها صاحبة رؤية وتوجه، وهذا التوجه إما أن يكون إسلاميا منسجما مع الأمة وإما أن يكون ضد الأمة، وفي الحالتيْن: لن يكون للعلمانية معنى!
الخلاصة
لذلك لم تفرض العلمانية في البلاد الإسلامية إلا بعنف السلطة وقهرها وبعد كمٍّ هائل من المذابح، فإما كان هذا بيد الاحتلال الأجنبي، أو كان بيد ممثليه في بلادنا كمحمد علي في مصر وأتاتورك في تركيا. ولذلك أيضا لم يُسمح في بلادنا بسلطة حقيقة معبرة عن الشعب، إذ ما إن يُطرح اختبار السلطة في البلاد الإسلامية إلا ويصعد الإسلاميون، فتأتيهم الانقلابات العسكرية المدعومة بالقوى الإقليمية والخارجية!
ولذلك أيضا لن يمكن تغيير هذه الأحوال إلا بثورة وكفاح، ليس فقط لأن كافة الطرق قد جُرِّبت ولم تفلح، بل لأن المعركة لا يمكن تجاوزها ولا نسيانها، السلطة العلمانية لا بد لها أن تهيمن على مساحات هي من صميم الإسلام، والإسلام متغلغل في أدق الأمور الشخصية وفي أوسع القضايا الكبرى، لذلك تبحث السلطة العلمانية بإصرار في تغيير هذا الدين بعناوين مثل "التجديد" و"إصلاح الخطاب الديني" والبحث عن النسخة "الوسطية المعتدلة" من الإسلام، وهي لا تبحث في تنفيذ هذا بمجرد الحوار والإقناع بل بسلطة النفوذ والتأثير وبسوط السجون والمعتقلات كذلك.. إنها في الحقيقة الصورة التي أخبرنا الله تعالى عنها منذ قديم في آية من كتابه، آية يغفل عنها البعض، ويريد البعض الآخر أن يتجنبها، قال تعالى {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
هذا شهر رمضان.. مثال على قضية واقعية عظيمة تمثل مساحة للمعركة الإسلامية العلمانية.
(1) معركة الفتوى والنظام
أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى ترفض اعتبار المجاهرة بالإفطار في رمضان حرية شخصية بل تجعل ذلك من الاعتداء على قدسية الدين، وهو مما يستوجب المحاسبة والمعاقبة.
فجرت الفتوى جدلا كبيرا، إذ اعتبرها البعض –لا سيما من غير المسلمين ومن العلمانيين- دعوة للتحريض على المُفطرين في نهار رمضان، وكان أهم ما وُجِّه للفتوى من انتقادات أنها مصادرة على الحرية الشخصية، إذ الدين علاقة بين الإنسان وربه ليس للسلطة أن تتدخل فيها، ومن ثم فمن حق كل فرد أن يفطر أو يجاهر بالإفطار، وأنه إذا لم يفعل فإنما يكون هذا من باب الذوق والمجاملة للصائمين لا أكثر.
هكذا إذن اصطدم نظام الإسلام بنظام العلمانية، وليس ثمة حل لفض هذا الاشتباك إلا بالميل نحو أحد الأمرين: إما أن نحذف من الإسلام أي إدانة أو عقوبة للمجاهرة بالإفطار، وإما أن تتخلى السلطة "العلمانية" عن حيادها بين الأديان لتقترب من الإسلام وتعاقب من ينتهك حرماته، وإن كان ذلك بتصرف –هو في الثقافة العلمانية- شديد الخصوصية ويمثل التزاما تعبديا كاختيار الصوم أو الإفطار في رمضان!
تبدو الأزمة أمام السلطة معقدة، بل هي على الحقيقة مستحيلة، ذلك أن الإسلام محفوظ في نص معصوم خالد، محفوظ في الصدور والسطور، لا يمكن لأحد تغييره أو تبديله أو تحريفه، ثم إن العلماء الموكلين بفهم النص وتفسيره ليسوا تنظيما هرميا ولا هم مندرجون في مراتب كهنوتية، بل هم تيار واسع ممتد، ولذلك لا يملك أحدهم –على غرار المسيحية- أن يحرم ما كان بالأمس حلالا أو يحرم ما كان بالأمس حراما، ولا قيمة لشيخ الأزهر ولا لمفتي الجمهورية ولا لأي رتبة علمية في نظام إداري، إن هذا لا يعطيهم حصانة من الانحراف ولا هو يسمح لهم بالإتيان بشيء جديد فيه مخالفة للنصوص الثابتة من القرآن والسنة وإجماع جماهير العلماء عبر خمسة عشر قرنا!
كذلك فإن الإسلام قد أقام دولة استمرت لأكثر من ألف سنة، ونموذجها المثالي استمر لأربعين سنة (العهد النبوي في المدينة + الخلافة الراشدة)، مما يعني أن مسألة سياسة الدولة وعلاقتها تجاه الأحكام الدينية مسطورة ومكتوبة ومبحوثة فقيها في مئات الآلاف من الكتب، فهي ليست نازلة جديدة تحتاج فتوى جديدة يمكن الدخول منها إلى تغيير علاقة السلطة بالدين أو إعادة تعريف لمساحة ونفوذ كل منهما!
إن معركة الفتوى والنظام تمثل مشهدا ملفتا للنظر، فبقدر ما تبدو السلطة العلمانية متغولة بالإمكانيات قاهرة بالقوة، بقدر ما تبدو بائسة قليلة الحيلة أمام إدخال العلمانية إلى صميم حياة الناس، وهي إذا عجزت عن هذا فإنها في الوقت نفسه مهددة بأن يتمدد أثر الإسلام العميق في حياة الناس إلى مساحتها التي اغتصبتها بالقوة والقهر.
لذلك لن تجد أبدا في بلادنا علاقة سوية ومفهومة بين مؤسسة الفتوى والنظام، بل هي كما يصف الله تعالى المنافقين {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 143]
(2) معركة إنتاج الثقافة
للسلطة منذ القدم أثرها الواضح في إنتاج الثقافة وترويج الأفكار، حتى قيل "الناس على دين ملوكهم"، وقيل "إذا تغير السلطان تغير الزمان"، وقيل "التاريخ يكتبه المنتصرون"... إلى آخره!
أما في العصور الحديثة فقد اختلف الأمر كثيرا، لقد أصبحت السلطة وحشا أسطوريا رهيبا بما وفرته له التطورات التقنية الحديثة من وسائل، فصارت السلطة تمتلك وسائل إنتاج الثقافة والأفكار وتسيطر عليها، وذلك منذ ظهرت المطبعة، ثم الإذاعة والتليفزيون. لقد تحكمت الدولة المركزية في سائر الأنشطة التي تجري فيها، بدءا من الإعلام والتعليم وحتى التصاريح بالخطابة أو بإلقاء الدروس في المساجد!
وهكذا لم يقتصر الأمر على ما أتيح للسلطة من وسائل ترويج ضخمة لأفكارها وثقافتها، بل لم يعد بالإمكان تقديم أفكار أصلا إلا بإذن من السلطة!
يعدُّ رمضان مثالا على هذه الحالة أيضا، حالة التنازع بين الأمة المسلمة والسلطة العلمانية في بلادنا، ففيما قبل عصر الدولة المركزية كانت ملامح رمضان ترسمها الأمة أساسا، ثم صارت ملامح رمضان ترسمها السلطة!
قبل عصر الدولة المركزية كانت الأمة تحيي رمضان بالعديد من التقاليد الخاصة التي تكثر فيها خطب العلماء ودروسهم وقراءة القرآن في المساجد أو الساحات أو فعاليات الإفطار الجماعي وتقديم العون للمحتاجين وتوزيع الأموال والصدقات وإدخال السرور على الأطفال، فإذا حلَّ الليل تحولت بيوت العائلات الكبيرة إلى مجالس يُقرأ فيها القرآن وتُنْشد فيها المدائح النبوية، وكان الأغنياء يوقفون من أراضيهم وأملاكهم على هذه المجالس كي تستمر بعد وفاتهم، ولذا استمرت المجالس بما يُنفق عليها من ريع هذه الأوقاف إلى وقت قريب!
ما إن دخلت الإذاعة والتلفاز إلى البيوت حتى انتزعت السلطة مساحة رمضان من الأمة، وصارت صناعة رمضان بيد السلطة التي صنعت تقاليد جديدة: الفوازير وألف ليلة وليلة والمسلسلات الدرامية والمسابقات الرمضانية وأنماط من البرامج المثيرة: الكاميرا الخفية وبرامج الاعترافات وبرامج الربح السهل للأموال... إلخ!
وبهذا صار رمضان في وجدان الأجداد وأجدادهم غير رمضان في وجدان هذا الجيل تماما، بل صار مناقضا له.. فهذا رمضان كل شعائره اقتراب من الله، وهذا رمضان كل شعائره ابتعاد عن الله واقتراب من التغريب والانحلال!
وهكذا يثبت رمضان –كمثال- أن العلمانية لا يمكن لها على الحقيقة أن تكون مجرد "حياد بين الأديان أو وقوف على مسافة واحدة منها"، بل هي فكرة وثقافة ورؤية وتصور كوني، وهي تعمل على إنتاج ونشر وترويج هذه الثقافة من خلال وسائل الإعلام ونظام التعليم وسائر منافذ التأثير في المجال العام.
ليست السلطة العلمانية محايدة إذن، ولا يمكنها أن تكون.. إنما هي صاحبة موقف لأنها صاحبة رؤية وتوجه، وهذا التوجه إما أن يكون إسلاميا منسجما مع الأمة وإما أن يكون ضد الأمة، وفي الحالتيْن: لن يكون للعلمانية معنى!
الخلاصة
لذلك لم تفرض العلمانية في البلاد الإسلامية إلا بعنف السلطة وقهرها وبعد كمٍّ هائل من المذابح، فإما كان هذا بيد الاحتلال الأجنبي، أو كان بيد ممثليه في بلادنا كمحمد علي في مصر وأتاتورك في تركيا. ولذلك أيضا لم يُسمح في بلادنا بسلطة حقيقة معبرة عن الشعب، إذ ما إن يُطرح اختبار السلطة في البلاد الإسلامية إلا ويصعد الإسلاميون، فتأتيهم الانقلابات العسكرية المدعومة بالقوى الإقليمية والخارجية!
ولذلك أيضا لن يمكن تغيير هذه الأحوال إلا بثورة وكفاح، ليس فقط لأن كافة الطرق قد جُرِّبت ولم تفلح، بل لأن المعركة لا يمكن تجاوزها ولا نسيانها، السلطة العلمانية لا بد لها أن تهيمن على مساحات هي من صميم الإسلام، والإسلام متغلغل في أدق الأمور الشخصية وفي أوسع القضايا الكبرى، لذلك تبحث السلطة العلمانية بإصرار في تغيير هذا الدين بعناوين مثل "التجديد" و"إصلاح الخطاب الديني" والبحث عن النسخة "الوسطية المعتدلة" من الإسلام، وهي لا تبحث في تنفيذ هذا بمجرد الحوار والإقناع بل بسلطة النفوذ والتأثير وبسوط السجون والمعتقلات كذلك.. إنها في الحقيقة الصورة التي أخبرنا الله تعالى عنها منذ قديم في آية من كتابه، آية يغفل عنها البعض، ويريد البعض الآخر أن يتجنبها، قال تعالى {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
Published on June 24, 2016 20:16
June 23, 2016
هل ينبغي لنا أن نخشى من دراسة الحضارة الغربية؟
لا أحسب أحدا يجادل في أهمية دراسة الغرب وحضارته ونظمه لما لذلك من أهمية كبرى في العديد من المجالات: العلمية، الدعوية، التعاونية، وحتى المواجهة في المعركة!
وقد ذكرنا في مقال سابق كيف ينبغي أنتبدأ دراسة الحضارة، إلا أن كثيرا من الناس يتعاملون بالخوف والخشية مع هذا الموضوع، ويضعون بعض المحاذير التي تعترض طريق دراسة الحضارة الغربية، وقد جمعناها فوجدناها تنحصر في خمسة أمور:
(1) الاختلاف الثقافي المانع من الفهم والاستيعاب، وذلك أن الحاجز الثقافي بيننا وبين الحضارة الغربية سيمنعنا من فهمها واستيعابها على وجهها، وهذا الأمر أكثر من يطرحه العلمانيون وقليل منهم الإسلاميون.(2) الخلط بين العام والخاص المانع من التعلم والاستفادة، ذلك أن النظر السطحي المتعجل قد يجعل من العام خاصا بهم أو من الخاص بهم عاما ينبغي لنا أن نستفيد منه، ومتى حصل الخلط جاء معه بالتشوش والغبش في الرؤية وفي التعلم والاستفادة.(3) والعداء المانع من العدل والإنصاف، إذ يحسب الكثيرون أنه لن يمكن لنا فهم الغرب ولا يمكن للغرب فهمنا طالما العلاقة بيننا علاقة صراع ومعارك، فهذه البيئة تذهب بالإنصاف وتثمر التطرف والرفض.(4) والتفوق الغربي المانع من تبَيُّن العمق والخلل، فمتى نظر المغلوب إلى الغالب لم يستطع أن يتبين مكامن الخلل في نموذجه الحضاري، ومن ثم استحال عليه معرفتها أو التعلم منها.(5) والتنازل المانع من الثبات والرسوخ، وذلك من أثر تأثر المغلوب بالغالب، إذ يسعى للاندماج والذوبان في الحضارة الغالبة، فيضر هذا بما لدينا من اعتزاز حضاري بديننا وحضارتنا وثقافتنا.وقد تحدثنا في المقال السابق عن المحذور الأول، وطرحنا السؤال: هل عجز المستشرقون عن فهمنا؟ وهل نعجز نحن عن فهم الغرب؟
وفي هذه السطور نناقش المحذور الثاني والثالث.. ونؤجل الرابع والخامس إلى المقالات القادمة إن شاء الله تعالى، فالله المستعان.
2. الخصوصية والعمومية
بقدر ما بين البشر من الاتفاق في الخلق والفطرة والطباع، بقدر ما بينهم من الاختلاف في أمور كثيرة، ومما هو بديهي أن الحضارات هي صورة للبشر، فما بينها من الاتفاق هو كما بينها من الاختلاف. وهذا الاختلاف منه ما هو بأصل الخلقة والبيئة والتكوين تتجلى فيه إرادة الله الشرعية والكونية معا كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22]، ومنه ما هو بالضلال والانحراف وفِعْل الشياطين كما في قول نبينا r: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه"وفي موضوعنا هذا، فلا ريب أن الحضارة الغربية مزيج "من السليم والسقيم، ومن الصواب والخطأ في النتائج والأحكام، ومن البديهيات في العلم التي لا تقبل الجدال والشك ومن التخمينات في الآراء والدعاوى التي تقبل المناقشة الطويلة والجدال الكثير، ومما هو خميرة من الاختبارات والبحوث الطويلة ومما هو فجٌّ لا يزال في دور التجربة والاختبار والنشوء والارتقاء، ومما لا يختص بإقليم أو عنصر من علوم تطبيقية، وبالعكس مما تجلت فيه الطبيعة الأوروبية، وأثرت فيه البيئة الغربية، وولدته حوادث تاريخية خاصة اكتوت بنارها هذه الأمم، ومما له صلة قوية عميقة بالدين والعقائد، ومما لا صلة له بالدين مطلقا، وذلك الذي زاد في تعقد هذه المشكلة وخطورتها، وأحرج مركز العالم الإسلامي، وكان فيه بلاء ومحنة لذكاء قادته وزعمائه وأصحاب التوجيه فيه"وليس أجدر أن يقوم بهذا التفريق بين العام والخاص، بين ما يمكن الاستفادة منه وما لا يمكن استنساخه، بين ما يناسبنا وما لا يناسبنا.. ليس أجدر أن يقوم بهذا التفريق من المستغربين، مثلما أن أسوأ من يقوم بهذا التفريق هم المتغربون، والفارق بينهما هو الفارق بين الدارس الفاحص وبين المنبهر الذاهل، إلا أن هذا التصنيف العام قد يتداخل في التفاصيل والجزئيات.
يرى حسن حنفي أن "الثقافة واحدة إذا ما تشابهت الظروف في مجتمعين مختلفين"3. الإنصاف في زمن الحرب
قال ستالين: "في الحرب لا مكان للموضوعية".
إن طبيعة الحروب والتدافع تمنع من النظر المنصف، وتلك طبيعة البشر التي يستحيل تغييرها، وقد رأينا في استعراض تاريخ الاستشراق كيف أن نضوج الاستشراق ودخوله في مرحلة البحث العلمي لم يأتِ إلا بعد تركيعنا والاطمئنان من ناحيتنا، في حين أن وقت اشتعال الحرب وتمثيل الخطر كان الاستشراق موغلا في الكذب والفجور، حتى لم يكن يُقبل من الآراء إلا ما يساهم في المعركة. ولم يكن "الجدل العلمي" حول تعريف القومية بين الفرنسيين والألمان "إلا صراعا سياسيا حول الإلزاس"، فيما يُجمله جلال كشك بقوله الوصفي: "في السياسة والاجتماع والفلسفة، لا يوجد ما يسمى بالنظريات العلمية، بل العلم هنا منحاز، والنظريات تعكس المصالح القومية أو الطبقية"أن طبيعة الإسلام العالمية التي هي فوق كل تصنيف قومي، بل وتوسيعه المفهوم القومي ذاته [انظر: خصائص التميز الإسلامي]، يجعل غاية المسلم إنسانية لا قومية ولا عرقية ولا طبقية، وهذا المنطلق هو الكفيل بجعل المستغرب لا ينسى العدل والإنصاف حتى وهو في الحرب، وقد كان أجدادنا في فتوحاتهم يلبسون دعاة وهم في ثياب الحرب، واجتمعت في فتوحاتهم الدعوة والرحمة مع القوة والرهبة، وكانوا أفرح باستجابة العدو للدعوة من فرحهم بالنصر. وبمثل هذه النفسية استطاع الفاتح عمرو بن العاص أن يتحدث عن صفات الروم الخمسة التي تؤهلهم للخلود حتى قيام الساعة.
ونحن في هذه اللحظة نعيش تهديدا وجوديا حقيقيا وخطيرا، ويصعب على المرء أن يكون محايدا في ظل ظرف كهذا، حيث أخبار القتل اليومي والمذابح الشهرية لا تنقطع، ولم يعد الغرب نازلا في أرضنا بجنوده وجيوشه فحسب، بل هو يسيطر على جنودنا وجيوشنا وأنظمتنا نحن حتى ليجعلها حقيقة وواقعا جزءا منه ومن نظامه، ثم زاد على هذا أنه يجعل الأجهزة الأمنية والعسكرية شبكات منفصلة عن النظم السياسية ومرتبطة به مباشرة، وبعد هذا كله فإنه يحتفظ في بلادنا بقوات خاصة للتدخل السريع، وهي القوات التي تعمل بلا أي تنسيق مع الأنظمة القائمة، ثم يستعين -خلافا لكل ما سبق- بشركات أمنية هي على الحقيقة منظمات مرتزقة تعمل خارج إطار القوانين مثل البلاك ووترنشر في ساسة بوست
البخاري (6226)، ومسلم (22). مسلم (2865). الندوي: موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية ص10، 11. حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص87. ابن تيمية: مجموع الفتاوى 2/63. جلال كشك: القومية والغزو الفكري ص60. انظر:Jeremy Scahill: Blackwater; The Rise of the World's Most Poewrful Mercenary Army (Nation Books, United States, 2007)Nick Turse: America’s Black-Ops Blackout; Unraveling the Secrets of the Military’s Secret Military, January 7, 2014. (www.tomdispatch.com, LINK)فهمي هويدي: ماذا يدبرون للثورة في الخفاء، جريدة الشرق القطرية بتاريخ 22/2/2011م.حلقة إذاعية على (witf) ضمن برنامج (smart talk) بتاريخ 15/7/2013م. (رابط استماع، رابط تفريغ)
وقد ذكرنا في مقال سابق كيف ينبغي أنتبدأ دراسة الحضارة، إلا أن كثيرا من الناس يتعاملون بالخوف والخشية مع هذا الموضوع، ويضعون بعض المحاذير التي تعترض طريق دراسة الحضارة الغربية، وقد جمعناها فوجدناها تنحصر في خمسة أمور:
(1) الاختلاف الثقافي المانع من الفهم والاستيعاب، وذلك أن الحاجز الثقافي بيننا وبين الحضارة الغربية سيمنعنا من فهمها واستيعابها على وجهها، وهذا الأمر أكثر من يطرحه العلمانيون وقليل منهم الإسلاميون.(2) الخلط بين العام والخاص المانع من التعلم والاستفادة، ذلك أن النظر السطحي المتعجل قد يجعل من العام خاصا بهم أو من الخاص بهم عاما ينبغي لنا أن نستفيد منه، ومتى حصل الخلط جاء معه بالتشوش والغبش في الرؤية وفي التعلم والاستفادة.(3) والعداء المانع من العدل والإنصاف، إذ يحسب الكثيرون أنه لن يمكن لنا فهم الغرب ولا يمكن للغرب فهمنا طالما العلاقة بيننا علاقة صراع ومعارك، فهذه البيئة تذهب بالإنصاف وتثمر التطرف والرفض.(4) والتفوق الغربي المانع من تبَيُّن العمق والخلل، فمتى نظر المغلوب إلى الغالب لم يستطع أن يتبين مكامن الخلل في نموذجه الحضاري، ومن ثم استحال عليه معرفتها أو التعلم منها.(5) والتنازل المانع من الثبات والرسوخ، وذلك من أثر تأثر المغلوب بالغالب، إذ يسعى للاندماج والذوبان في الحضارة الغالبة، فيضر هذا بما لدينا من اعتزاز حضاري بديننا وحضارتنا وثقافتنا.وقد تحدثنا في المقال السابق عن المحذور الأول، وطرحنا السؤال: هل عجز المستشرقون عن فهمنا؟ وهل نعجز نحن عن فهم الغرب؟
وفي هذه السطور نناقش المحذور الثاني والثالث.. ونؤجل الرابع والخامس إلى المقالات القادمة إن شاء الله تعالى، فالله المستعان.
2. الخصوصية والعمومية
بقدر ما بين البشر من الاتفاق في الخلق والفطرة والطباع، بقدر ما بينهم من الاختلاف في أمور كثيرة، ومما هو بديهي أن الحضارات هي صورة للبشر، فما بينها من الاتفاق هو كما بينها من الاختلاف. وهذا الاختلاف منه ما هو بأصل الخلقة والبيئة والتكوين تتجلى فيه إرادة الله الشرعية والكونية معا كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22]، ومنه ما هو بالضلال والانحراف وفِعْل الشياطين كما في قول نبينا r: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه"وفي موضوعنا هذا، فلا ريب أن الحضارة الغربية مزيج "من السليم والسقيم، ومن الصواب والخطأ في النتائج والأحكام، ومن البديهيات في العلم التي لا تقبل الجدال والشك ومن التخمينات في الآراء والدعاوى التي تقبل المناقشة الطويلة والجدال الكثير، ومما هو خميرة من الاختبارات والبحوث الطويلة ومما هو فجٌّ لا يزال في دور التجربة والاختبار والنشوء والارتقاء، ومما لا يختص بإقليم أو عنصر من علوم تطبيقية، وبالعكس مما تجلت فيه الطبيعة الأوروبية، وأثرت فيه البيئة الغربية، وولدته حوادث تاريخية خاصة اكتوت بنارها هذه الأمم، ومما له صلة قوية عميقة بالدين والعقائد، ومما لا صلة له بالدين مطلقا، وذلك الذي زاد في تعقد هذه المشكلة وخطورتها، وأحرج مركز العالم الإسلامي، وكان فيه بلاء ومحنة لذكاء قادته وزعمائه وأصحاب التوجيه فيه"وليس أجدر أن يقوم بهذا التفريق بين العام والخاص، بين ما يمكن الاستفادة منه وما لا يمكن استنساخه، بين ما يناسبنا وما لا يناسبنا.. ليس أجدر أن يقوم بهذا التفريق من المستغربين، مثلما أن أسوأ من يقوم بهذا التفريق هم المتغربون، والفارق بينهما هو الفارق بين الدارس الفاحص وبين المنبهر الذاهل، إلا أن هذا التصنيف العام قد يتداخل في التفاصيل والجزئيات.
يرى حسن حنفي أن "الثقافة واحدة إذا ما تشابهت الظروف في مجتمعين مختلفين"3. الإنصاف في زمن الحرب
قال ستالين: "في الحرب لا مكان للموضوعية".
إن طبيعة الحروب والتدافع تمنع من النظر المنصف، وتلك طبيعة البشر التي يستحيل تغييرها، وقد رأينا في استعراض تاريخ الاستشراق كيف أن نضوج الاستشراق ودخوله في مرحلة البحث العلمي لم يأتِ إلا بعد تركيعنا والاطمئنان من ناحيتنا، في حين أن وقت اشتعال الحرب وتمثيل الخطر كان الاستشراق موغلا في الكذب والفجور، حتى لم يكن يُقبل من الآراء إلا ما يساهم في المعركة. ولم يكن "الجدل العلمي" حول تعريف القومية بين الفرنسيين والألمان "إلا صراعا سياسيا حول الإلزاس"، فيما يُجمله جلال كشك بقوله الوصفي: "في السياسة والاجتماع والفلسفة، لا يوجد ما يسمى بالنظريات العلمية، بل العلم هنا منحاز، والنظريات تعكس المصالح القومية أو الطبقية"أن طبيعة الإسلام العالمية التي هي فوق كل تصنيف قومي، بل وتوسيعه المفهوم القومي ذاته [انظر: خصائص التميز الإسلامي]، يجعل غاية المسلم إنسانية لا قومية ولا عرقية ولا طبقية، وهذا المنطلق هو الكفيل بجعل المستغرب لا ينسى العدل والإنصاف حتى وهو في الحرب، وقد كان أجدادنا في فتوحاتهم يلبسون دعاة وهم في ثياب الحرب، واجتمعت في فتوحاتهم الدعوة والرحمة مع القوة والرهبة، وكانوا أفرح باستجابة العدو للدعوة من فرحهم بالنصر. وبمثل هذه النفسية استطاع الفاتح عمرو بن العاص أن يتحدث عن صفات الروم الخمسة التي تؤهلهم للخلود حتى قيام الساعة.
ونحن في هذه اللحظة نعيش تهديدا وجوديا حقيقيا وخطيرا، ويصعب على المرء أن يكون محايدا في ظل ظرف كهذا، حيث أخبار القتل اليومي والمذابح الشهرية لا تنقطع، ولم يعد الغرب نازلا في أرضنا بجنوده وجيوشه فحسب، بل هو يسيطر على جنودنا وجيوشنا وأنظمتنا نحن حتى ليجعلها حقيقة وواقعا جزءا منه ومن نظامه، ثم زاد على هذا أنه يجعل الأجهزة الأمنية والعسكرية شبكات منفصلة عن النظم السياسية ومرتبطة به مباشرة، وبعد هذا كله فإنه يحتفظ في بلادنا بقوات خاصة للتدخل السريع، وهي القوات التي تعمل بلا أي تنسيق مع الأنظمة القائمة، ثم يستعين -خلافا لكل ما سبق- بشركات أمنية هي على الحقيقة منظمات مرتزقة تعمل خارج إطار القوانين مثل البلاك ووترنشر في ساسة بوست
البخاري (6226)، ومسلم (22). مسلم (2865). الندوي: موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية ص10، 11. حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص87. ابن تيمية: مجموع الفتاوى 2/63. جلال كشك: القومية والغزو الفكري ص60. انظر:Jeremy Scahill: Blackwater; The Rise of the World's Most Poewrful Mercenary Army (Nation Books, United States, 2007)Nick Turse: America’s Black-Ops Blackout; Unraveling the Secrets of the Military’s Secret Military, January 7, 2014. (www.tomdispatch.com, LINK)فهمي هويدي: ماذا يدبرون للثورة في الخفاء، جريدة الشرق القطرية بتاريخ 22/2/2011م.حلقة إذاعية على (witf) ضمن برنامج (smart talk) بتاريخ 15/7/2013م. (رابط استماع، رابط تفريغ)
Published on June 23, 2016 10:52
June 17, 2016
هل المجاهرة بالإفطار في رمضان حرية شخصية؟
تطورت بعض برامج "الكاميرا الخفية" إلى حالة مفيدة وراقية، بدلا من الترويع والسخافات والاستفزاز والتوريط.. بعض البرامج استحدثت أساليب لاختبار القيم والأخلاق لدى عموم الناس: قيمة الدفاع عن بنت ضد التحرش، الدفاع عن أب ضد عقوق ابنه، رفض التطبيع مع إسرائيل، إعادة أموال وقعت من صاحبها، إسعاف من أصابته أزمة صحية .. إلى آخره!
وهذا لا شك تطور جيد ومفيد ومهم.. لكن ينبغي التنبيه فيه على أمرين:
الأول: أن قوة الدفاع عن هذه القيمة تعبير حقيقي عن قوة تماسك هذا المجتمع، وعن احتفاظه بالقيم الإسلامية الأصيلة المتجذرة كعادات وتقاليد.. إن المجتمع الذي يندفع فيه أحدهم ليضرب الابن العاق لولده (وهو في غضبته تلك يرى أن هذا من حقه: إنزال العقاب بالمخطئ الذي لا علاقة له به) هو أشد تماسكا وتراحما وأصالة من المجتمع الذي يكتفي فيه المرء بالنصيحة أو الكلام أو حتى إبداء الامتعاض من غير فعل!
الثقافة المجتمعية الحقيقية هي التي يرى فيها الأفراد أن من حقهم "تغيير المنكر" أو "الحسبة على غيرهم" أو "التدخل في شؤون الآخرين".. وكلما قويت هذه الثقافة كلما كان المجتمع أبعد عن التغريب وأقرب إلى الإسلام وأرجى للنفع والأمل!
الثاني: أن قيمة تغيير المنكر هي قيمة إسلامية أساسية، بل هي شرط خيرية هذه الأمة، أي أن الأمة تفقد خيريتها إذا امتنع أفرادها عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. بل إن زوال هذه القيمة هي سبب لعن الأمة وإسراع الفناء إليها كما قال تعالى (لُعِن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه).. وأخبر النبي أن أول ما دخل الفساد إلى بني إسرائيل أن صاحب المعصية فيهم لا يجد غربة وإنكارا من المجتمع، بل يظلون على علاقتهم الطبيعية به في المجالسة والمؤاكلة والصحبة.
وطوال القرن الماضي كان علماء الاجتماع يفرقون بين "المدينة الحديثة" باعتبارها البيئة التي أصابها التغريب، وتفشت فيها الفردانية، وقل فيها التماسك الاجتماعي، وانقطعت فيها اهتمامات الناس ببعضهم ومعرفتهم ببعضهم.. وبين الأحياء الشعبية أو القرية التي "يمارس أفرادها الحسبة على بعضهم" وتجمعهم قيم عامة يدافعون عنها، فهذه هي البيئة الشرقية "التقليدية" التي لم يصبها "التحديث"!
ولهذا البحث والتفريق آثار طويلة عريضة في فهم نفسيات القادة والسياسيين.. فكلما كان السياسي على رأس السلطة وليد بيئة اجتماعية متماسكة كلما خيف منه على العلمانية والتغريب (أردوغان ومرسي مثالا).. وكلما جاء من نمط تحديثي تغريبي كلما استقر وتأسس وترسخ نمط العلمانية والتحديث والرأسمالية الطاحنة (والأمثلة كثيرة تشمل كل الطبقة الثانية من الحكام الذين هم أبناء الملوك والرؤساء: جمال مبارك أو سيف الإسلام القذافي أو بشار).
وأسوأ الأمثلة هم أولئك الذين خرجوا من الطبقات المطحونة ثم وصلوا إلى السلطة فاندمجوا فيها وفي نمطها فتحولوا إلى ملوك جدد، كسائر طبقة العسكر والمنافقين والوصوليين في المجتمعات المتحولة اقتصاديا واجتماعيا!
المهم أن هذا الأمر ليس مسألة بسيطة أو عابرة بل لها آثار بعيدة أفاض علماء الاجتماع في دراستها وتوصيفها، خصوصا وأن الاحتلال عمل جاهدا على صناعة طبقة ملتصقة به، يكون لها تعليمها الخاص وسكنها الخاص وقيمها الخاصة وعلاقاتها الخاصة وأهدافها الخاصة..
[لمن أراد التوسع: اقرأ ما كتبه المسيري عن الجماعات الوظيفية وعن الفوارق بين المجتمعات التراحمية والمجتمعات التعاقدية، أو نماذج تطبيقية مثل: "معذبو الأرض" لفرانز فانون - "استعمار مصر" لتيموثي ميتشل]
بقي أهم ما في الموضوع، والذي لأجله كتبت كل ما سبق، وهو:
إن التدخل لتغيير الخطأ ليس مستنكرا في أي وجدان إنساني، بل إن الذي يتدخل (خصوصا لو كان يعرض نفسه للمخاطر) يحظى بأوصاف البطولة والشهامة والمروءة والإنسانية!
المشكلة هنا في أمر واحد، بسيط ولكنه جوهري وفارق: من الذي يحدد أن هذا "خطأ"؟!
نحن المسلمون لا إشكالية لدينا في هذا، فالإسلام يحدد ما هو الصحيح وما هو الخطأ، ولدينا في هذا تراث هائل من النصوص القرآنية والنبوية فضلا عن تراث فقهي كبير يدور حول شرح وتحديد وفهم هذه النصوص!
وهكذا لكل قوم مرجعيتهم الثقافية التي تحدد لهم ما هو الصحيح وما هو الخطأ.. وهي المرجعية التي تتحول إلى نصوص قانونية تحميها الشرطة والقضاء!
نكبتنا الحالية هي أننا دولة مسلمة مفروض عليها سلطة علمانية، وهذه السلطة تعمل جاهدة على مطاردة الإسلام، ولا يرضيها إلا أمثال أحمد الطيب وخالد الجندي وسعد الهلالي وبقية التافهين الذين خانوا الله ورسوله وباعوا دينهم لأجل السلطة!
لذلك نعاني من محنة شديدة ظهرت بأبرز وجوهها في فتوى دار الإفتاء (وهي فتوى خارج السياق وغير مفهومة بالنسبة لي حتى الآن) التي تعتبر أن المجاهرة بالفطر في رمضان ليس ضمن الحرية الشخصية وإنما هو اعتداء على قدسية الإسلام. (ولا شك أن الفتوى صحيحة تماما).
ساعتها دخل العلمانيون والمسلمون التائهون الذين لا يعرفون دينهم ولا حتى لديهم فكر متكامل لينقدوا هذه الفتوى ويهاجمونها.. (فضلا عن بشاعة أن يهاجمها نصراني لا علاقة له بالأمر أساسا)
هنا يبدو الفارق واضحا بين نموذج العلمانية والإسلام!
الإسلام الذي يبيح للناس التدخل للدفاع عن امرأة ضد التحرش، ويحثهم على تغيير منكر عقوق الوالد، ويوجب عليهم التدخل لإنقاذ مريض سقط في الشارع.. هو نفسه الإسلام الذي يعطيهم الحق في إنكار وتغيير منكر المجاهرة بالإفطار في رمضان! ويعطيهم الحق في إنكار وتغيير زي المرأة المتبرجة أيضا!
أما العلمانية، ولأنها ثقافة أخرى ونموذج معرفي مختلف، فإنها تريد من الناس أن يتحركوا ضد التحرش وضد الاعتداء على طفل وإنقاذ مريض، وهي نفسها تمنعهم من التدخل ضد المجاهرة بالإفطار أو الزنا أو الشذوذ أو التعليق على زي المرأة باعتبار هذا كله "حرية شخصية"!
فالذي يهاجم فتوى دار الإفتاء فيه علمانية ولو لم يعرف أو يقصد.. وهو لا يعترض على مسألة التدخل في الحرية الشخصية نفسها (لأنها يبيحها في حال الاعتداء على طفل أو عجوز) ولكنه مسكون بثقافة علمانية تفرق بين أمور لم يفرق بينها الإسلام، وتجمع بين أمور فرق الإسلام بينها.
وهو في غمرتهم هذه يتناسون ظروفا كثيرة وفوارق ضخمة وأساسية بين الإسلام والعلمانية.
وكنا فيما سبق، قد نشرنا على صفحات ساسة بوست سلسلة في رؤية ومنهج الإسلام في بناء المجتمع المسلم، والفارق بينه وبين النموذج الغربي، وتحدثنا عن طبيعة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ضمن هذا النظام، ونعيد التذكير بها هنا لمن شاء:
§ التخريب الغربي لبلادنا (3) النزعة الفردية§ اقتباس أوروبا من المسلمين (2) قوة المجتمع§ نظام حماية المجتمع المسلم§ خريطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر§ ماذا لو تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر§ أمور منسية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر§ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر: الأفراد - الحركات
نشر في ساسة بوست
وهذا لا شك تطور جيد ومفيد ومهم.. لكن ينبغي التنبيه فيه على أمرين:
الأول: أن قوة الدفاع عن هذه القيمة تعبير حقيقي عن قوة تماسك هذا المجتمع، وعن احتفاظه بالقيم الإسلامية الأصيلة المتجذرة كعادات وتقاليد.. إن المجتمع الذي يندفع فيه أحدهم ليضرب الابن العاق لولده (وهو في غضبته تلك يرى أن هذا من حقه: إنزال العقاب بالمخطئ الذي لا علاقة له به) هو أشد تماسكا وتراحما وأصالة من المجتمع الذي يكتفي فيه المرء بالنصيحة أو الكلام أو حتى إبداء الامتعاض من غير فعل!
الثقافة المجتمعية الحقيقية هي التي يرى فيها الأفراد أن من حقهم "تغيير المنكر" أو "الحسبة على غيرهم" أو "التدخل في شؤون الآخرين".. وكلما قويت هذه الثقافة كلما كان المجتمع أبعد عن التغريب وأقرب إلى الإسلام وأرجى للنفع والأمل!
الثاني: أن قيمة تغيير المنكر هي قيمة إسلامية أساسية، بل هي شرط خيرية هذه الأمة، أي أن الأمة تفقد خيريتها إذا امتنع أفرادها عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. بل إن زوال هذه القيمة هي سبب لعن الأمة وإسراع الفناء إليها كما قال تعالى (لُعِن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه).. وأخبر النبي أن أول ما دخل الفساد إلى بني إسرائيل أن صاحب المعصية فيهم لا يجد غربة وإنكارا من المجتمع، بل يظلون على علاقتهم الطبيعية به في المجالسة والمؤاكلة والصحبة.
وطوال القرن الماضي كان علماء الاجتماع يفرقون بين "المدينة الحديثة" باعتبارها البيئة التي أصابها التغريب، وتفشت فيها الفردانية، وقل فيها التماسك الاجتماعي، وانقطعت فيها اهتمامات الناس ببعضهم ومعرفتهم ببعضهم.. وبين الأحياء الشعبية أو القرية التي "يمارس أفرادها الحسبة على بعضهم" وتجمعهم قيم عامة يدافعون عنها، فهذه هي البيئة الشرقية "التقليدية" التي لم يصبها "التحديث"!
ولهذا البحث والتفريق آثار طويلة عريضة في فهم نفسيات القادة والسياسيين.. فكلما كان السياسي على رأس السلطة وليد بيئة اجتماعية متماسكة كلما خيف منه على العلمانية والتغريب (أردوغان ومرسي مثالا).. وكلما جاء من نمط تحديثي تغريبي كلما استقر وتأسس وترسخ نمط العلمانية والتحديث والرأسمالية الطاحنة (والأمثلة كثيرة تشمل كل الطبقة الثانية من الحكام الذين هم أبناء الملوك والرؤساء: جمال مبارك أو سيف الإسلام القذافي أو بشار).
وأسوأ الأمثلة هم أولئك الذين خرجوا من الطبقات المطحونة ثم وصلوا إلى السلطة فاندمجوا فيها وفي نمطها فتحولوا إلى ملوك جدد، كسائر طبقة العسكر والمنافقين والوصوليين في المجتمعات المتحولة اقتصاديا واجتماعيا!
المهم أن هذا الأمر ليس مسألة بسيطة أو عابرة بل لها آثار بعيدة أفاض علماء الاجتماع في دراستها وتوصيفها، خصوصا وأن الاحتلال عمل جاهدا على صناعة طبقة ملتصقة به، يكون لها تعليمها الخاص وسكنها الخاص وقيمها الخاصة وعلاقاتها الخاصة وأهدافها الخاصة..
[لمن أراد التوسع: اقرأ ما كتبه المسيري عن الجماعات الوظيفية وعن الفوارق بين المجتمعات التراحمية والمجتمعات التعاقدية، أو نماذج تطبيقية مثل: "معذبو الأرض" لفرانز فانون - "استعمار مصر" لتيموثي ميتشل]
بقي أهم ما في الموضوع، والذي لأجله كتبت كل ما سبق، وهو:
إن التدخل لتغيير الخطأ ليس مستنكرا في أي وجدان إنساني، بل إن الذي يتدخل (خصوصا لو كان يعرض نفسه للمخاطر) يحظى بأوصاف البطولة والشهامة والمروءة والإنسانية!
المشكلة هنا في أمر واحد، بسيط ولكنه جوهري وفارق: من الذي يحدد أن هذا "خطأ"؟!
نحن المسلمون لا إشكالية لدينا في هذا، فالإسلام يحدد ما هو الصحيح وما هو الخطأ، ولدينا في هذا تراث هائل من النصوص القرآنية والنبوية فضلا عن تراث فقهي كبير يدور حول شرح وتحديد وفهم هذه النصوص!
وهكذا لكل قوم مرجعيتهم الثقافية التي تحدد لهم ما هو الصحيح وما هو الخطأ.. وهي المرجعية التي تتحول إلى نصوص قانونية تحميها الشرطة والقضاء!
نكبتنا الحالية هي أننا دولة مسلمة مفروض عليها سلطة علمانية، وهذه السلطة تعمل جاهدة على مطاردة الإسلام، ولا يرضيها إلا أمثال أحمد الطيب وخالد الجندي وسعد الهلالي وبقية التافهين الذين خانوا الله ورسوله وباعوا دينهم لأجل السلطة!
لذلك نعاني من محنة شديدة ظهرت بأبرز وجوهها في فتوى دار الإفتاء (وهي فتوى خارج السياق وغير مفهومة بالنسبة لي حتى الآن) التي تعتبر أن المجاهرة بالفطر في رمضان ليس ضمن الحرية الشخصية وإنما هو اعتداء على قدسية الإسلام. (ولا شك أن الفتوى صحيحة تماما).
ساعتها دخل العلمانيون والمسلمون التائهون الذين لا يعرفون دينهم ولا حتى لديهم فكر متكامل لينقدوا هذه الفتوى ويهاجمونها.. (فضلا عن بشاعة أن يهاجمها نصراني لا علاقة له بالأمر أساسا)
هنا يبدو الفارق واضحا بين نموذج العلمانية والإسلام!
الإسلام الذي يبيح للناس التدخل للدفاع عن امرأة ضد التحرش، ويحثهم على تغيير منكر عقوق الوالد، ويوجب عليهم التدخل لإنقاذ مريض سقط في الشارع.. هو نفسه الإسلام الذي يعطيهم الحق في إنكار وتغيير منكر المجاهرة بالإفطار في رمضان! ويعطيهم الحق في إنكار وتغيير زي المرأة المتبرجة أيضا!
أما العلمانية، ولأنها ثقافة أخرى ونموذج معرفي مختلف، فإنها تريد من الناس أن يتحركوا ضد التحرش وضد الاعتداء على طفل وإنقاذ مريض، وهي نفسها تمنعهم من التدخل ضد المجاهرة بالإفطار أو الزنا أو الشذوذ أو التعليق على زي المرأة باعتبار هذا كله "حرية شخصية"!
فالذي يهاجم فتوى دار الإفتاء فيه علمانية ولو لم يعرف أو يقصد.. وهو لا يعترض على مسألة التدخل في الحرية الشخصية نفسها (لأنها يبيحها في حال الاعتداء على طفل أو عجوز) ولكنه مسكون بثقافة علمانية تفرق بين أمور لم يفرق بينها الإسلام، وتجمع بين أمور فرق الإسلام بينها.
وهو في غمرتهم هذه يتناسون ظروفا كثيرة وفوارق ضخمة وأساسية بين الإسلام والعلمانية.
وكنا فيما سبق، قد نشرنا على صفحات ساسة بوست سلسلة في رؤية ومنهج الإسلام في بناء المجتمع المسلم، والفارق بينه وبين النموذج الغربي، وتحدثنا عن طبيعة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ضمن هذا النظام، ونعيد التذكير بها هنا لمن شاء:
§ التخريب الغربي لبلادنا (3) النزعة الفردية§ اقتباس أوروبا من المسلمين (2) قوة المجتمع§ نظام حماية المجتمع المسلم§ خريطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر§ ماذا لو تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر§ أمور منسية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر§ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر: الأفراد - الحركات
نشر في ساسة بوست
Published on June 17, 2016 05:57
June 12, 2016
عشرة حِكَم سياسية لابن خلدون
ولد ابن خلدون في شهر رمضان (732هـ)، أي قبل خمسة أعوام وسبعمائة عام، لأسرة أصلها البعيد عربي يمني إلا أن أجداده نشأوا بالأندلس فتحرف اسم الجد (خالد) إلى (خلدون) على الطريقة الأندلسية، ثم رحل أجداده عن الأندلس في زمن نكباتها فولد في تونس، ثم نبغ واشتهر وصار رجل دولة فعمل سفيرا وكاتبا ووزيرا في أكثر من دولة، في بلاط دولة بني مرين في المغرب ثم بني الأحمر في غرناطة ثم المماليك في مصر التي ختم فيها حياته.
وقد اشتهر بمقدمته البديعة التي طالما أثارت الإعجاب حتى قال فيها المؤرخ الإنجليزي المشهور أرنولد توينبي أنها أفضل ما كتبه بشر. ونحن في هذه السطور نحيي ذكراه بإيراد عشرة من حِكَمه السياسية العميقة، التي لو أدركها قادة الرأي فينا لما وصلنا إلى هذا الحال أبدا، ثم إنهم إذا لم يدركوها الآن فلن يكون حالنا غدا إلا أسوأ من حالنا اليوم.
(1) السلطة تُنتزع بالحرب"المُلْك قَلَّ أن يسلّمه أحد لصاحبه إلّا إذا غُلِب عليه، فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة، وشيء منها لا يقع إلّا بالعصبيّة، وهذا الأمر بعيد عن أفهام الجمهور بالجملة ومتناسون له، لأنّهم نسوا عهد تمهيد الدّولة منذ أوّلها وطال أمد مرباهم في الحضارة وتعاقبهم فيها جيلا بعد جيل".
(2) أدركوا اللحظة الفارقة قبل أن يترسخ الحكم فيمن غلب"الدّول العامّة في أوّلها يصعب على النّفوس الانقياد لها إلّا بقوّة قويّة من الغلب للغرابة وأنّ النّاس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه، فإذا استقرّت الرّئاسة في أهل النّصاب المخصوص بالملك في الدّولة وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النّفوس شأن الأوّليّة واستحكمت لأهل ذلك النّصاب صبغة الرّئاسة ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم".
(3) حتى الأنبياء احتاجوا إلى القوة"الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، وهذا لأنّ كلّ أمر تُحمل عليه الكافّة فلا بدّ له من العصبيّة وفي الحديث الصّحيح «ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى النّاس بخرق العوائد فما ظنّك بغيرهم؟!".
(4) تأسيس الدول بالقوة لا بالإقناع"اعلم أنّ السّيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدّولة يستعين بها على أمره إلّا أنّ الحاجة في أوّل الدّولة إلى السّيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشدّ من الحاجة إلى القلم لأنّ القلم في تلك الحال خادم فقط منفّذ للحكم السّلطانيّ والسّيف شريك في المعونة".
(5) الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها"إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم، وتذهب المنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة"
"إن الملك إذا كان قاهراً، باطشاً بالعقوبات، منقباً عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بها، وفسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمددافعات، ففسدت الحماية بفساد النيات، وربما أجمعوا على قتله لذلك فتفسد الدولة ويخرب السياج، وإن دام أمره عليهم وقهره فسدت العصبية، وفسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية. وإذا كان رفيقاً بهم متجاوزاً عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه، فاستقام الأمر من كل جانب".
"من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلميبن أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى انسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف".
(6) زمن تغيير الجيل أربعون سنة"فعاقبهم الله بالتيه، وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة لم يأووا فيها لعمران، ولا نزلوا مصراً ولا خالطوا بشراً، كما قصه القرآن لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه. ويظهرمن مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة، وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة، فنشأت لهم ذلك عصبية أخرى اقتدروا بها علي المطالبة والتغلب. ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر. سبحان الحكيم العليم".
(7) مصير الأمم المغلوبة "الأمة إذا غُلِبَت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء والسبب في ذلك، والله أعلم، ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم، فيقصر الأمل ويضعف التناسل، والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل وما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية. فإذا ذهب الأمل بالتكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال وكانت العصبية ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم، تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم، وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم، بما خضد الغلب من شوكتهم، فأصبحوا مغلبين لكل متغلب وطعمة لكل آكل"
(8) ترف السلطة يؤذن بخراب الدولة"يكثر خراج السلطان خصوصاً كثرة بالغة بنفقته في خاصته، وكثرة عطائه، ولا تفي بذلك الجباية. فتحتاج الدولة إلى الزيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء، والسلطان من النفقة، فيزيد في مقدار الوظائف والوزائع أولا كما قلناه، ثم يزيد الخراج والحاجات والتدريج في عوائد الترف وفي العطاء للحامية، ويدرك الدولة الهرم، وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال والقاصية، فتقل الجباية وتكثر العوائد، ويكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم. فيستحدث صاحب الدولة أنواعاً من الجباية يضربها على البيعات، ويفوض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق، وعلى أعيان السلع في أموال المدينة. وهو مع هذا مضطر لذلك بما دعاه إليه ترف الناس من كثرة العطاء مع زيادة الجيوش والحامية. وربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة، فتكسد الأسواق لفساد الأمال، ويؤن ذلك باختلال العمران، ويعود على الدولة، ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل".
(9) الظلم مؤذن بخراب العمران"اعلم أن العمران على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالأمال جملة بدخوله من جميع أبوابها. وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته. والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين. فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران".
(10) الذوبان في الغالب
"ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله. وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم. وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم، حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير".
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
وقد اشتهر بمقدمته البديعة التي طالما أثارت الإعجاب حتى قال فيها المؤرخ الإنجليزي المشهور أرنولد توينبي أنها أفضل ما كتبه بشر. ونحن في هذه السطور نحيي ذكراه بإيراد عشرة من حِكَمه السياسية العميقة، التي لو أدركها قادة الرأي فينا لما وصلنا إلى هذا الحال أبدا، ثم إنهم إذا لم يدركوها الآن فلن يكون حالنا غدا إلا أسوأ من حالنا اليوم.
(1) السلطة تُنتزع بالحرب"المُلْك قَلَّ أن يسلّمه أحد لصاحبه إلّا إذا غُلِب عليه، فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة، وشيء منها لا يقع إلّا بالعصبيّة، وهذا الأمر بعيد عن أفهام الجمهور بالجملة ومتناسون له، لأنّهم نسوا عهد تمهيد الدّولة منذ أوّلها وطال أمد مرباهم في الحضارة وتعاقبهم فيها جيلا بعد جيل".
(2) أدركوا اللحظة الفارقة قبل أن يترسخ الحكم فيمن غلب"الدّول العامّة في أوّلها يصعب على النّفوس الانقياد لها إلّا بقوّة قويّة من الغلب للغرابة وأنّ النّاس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه، فإذا استقرّت الرّئاسة في أهل النّصاب المخصوص بالملك في الدّولة وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النّفوس شأن الأوّليّة واستحكمت لأهل ذلك النّصاب صبغة الرّئاسة ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم".
(3) حتى الأنبياء احتاجوا إلى القوة"الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، وهذا لأنّ كلّ أمر تُحمل عليه الكافّة فلا بدّ له من العصبيّة وفي الحديث الصّحيح «ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى النّاس بخرق العوائد فما ظنّك بغيرهم؟!".
(4) تأسيس الدول بالقوة لا بالإقناع"اعلم أنّ السّيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدّولة يستعين بها على أمره إلّا أنّ الحاجة في أوّل الدّولة إلى السّيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشدّ من الحاجة إلى القلم لأنّ القلم في تلك الحال خادم فقط منفّذ للحكم السّلطانيّ والسّيف شريك في المعونة".
(5) الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها"إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم، وتذهب المنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة"
"إن الملك إذا كان قاهراً، باطشاً بالعقوبات، منقباً عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بها، وفسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمددافعات، ففسدت الحماية بفساد النيات، وربما أجمعوا على قتله لذلك فتفسد الدولة ويخرب السياج، وإن دام أمره عليهم وقهره فسدت العصبية، وفسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية. وإذا كان رفيقاً بهم متجاوزاً عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه، فاستقام الأمر من كل جانب".
"من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلميبن أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى انسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف".
(6) زمن تغيير الجيل أربعون سنة"فعاقبهم الله بالتيه، وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة لم يأووا فيها لعمران، ولا نزلوا مصراً ولا خالطوا بشراً، كما قصه القرآن لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه. ويظهرمن مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة، وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة، فنشأت لهم ذلك عصبية أخرى اقتدروا بها علي المطالبة والتغلب. ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر. سبحان الحكيم العليم".
(7) مصير الأمم المغلوبة "الأمة إذا غُلِبَت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء والسبب في ذلك، والله أعلم، ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم، فيقصر الأمل ويضعف التناسل، والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل وما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية. فإذا ذهب الأمل بالتكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال وكانت العصبية ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم، تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم، وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم، بما خضد الغلب من شوكتهم، فأصبحوا مغلبين لكل متغلب وطعمة لكل آكل"
(8) ترف السلطة يؤذن بخراب الدولة"يكثر خراج السلطان خصوصاً كثرة بالغة بنفقته في خاصته، وكثرة عطائه، ولا تفي بذلك الجباية. فتحتاج الدولة إلى الزيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء، والسلطان من النفقة، فيزيد في مقدار الوظائف والوزائع أولا كما قلناه، ثم يزيد الخراج والحاجات والتدريج في عوائد الترف وفي العطاء للحامية، ويدرك الدولة الهرم، وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال والقاصية، فتقل الجباية وتكثر العوائد، ويكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم. فيستحدث صاحب الدولة أنواعاً من الجباية يضربها على البيعات، ويفوض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق، وعلى أعيان السلع في أموال المدينة. وهو مع هذا مضطر لذلك بما دعاه إليه ترف الناس من كثرة العطاء مع زيادة الجيوش والحامية. وربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة، فتكسد الأسواق لفساد الأمال، ويؤن ذلك باختلال العمران، ويعود على الدولة، ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل".
(9) الظلم مؤذن بخراب العمران"اعلم أن العمران على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالأمال جملة بدخوله من جميع أبوابها. وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته. والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين. فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران".
(10) الذوبان في الغالب
"ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله. وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم. وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم، حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير".
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
Published on June 12, 2016 00:49
June 10, 2016
هل عجز المستشرقون عن فهمنا؟ وهل نعجز عن فهم الغرب؟
لقد جزم كثيرون منَّا بأن المستشرقين يعجزون عن فهم الحضارة الإسلامية لأن الاختلاف الثقافي لا يمكن لهم تجاوزه مهما فعلوا، فإن نشأتهم على العجمة وتعلمهم العربية بعد العشرين وافتقادهم للثقافة يجعل قدرة المستشرق على الكلام في الحضارة "ممتَنِعٌ كل الامتناع, بل هو أدخل في باب الاستحالة من اجتماع الماء والنار في إناء واحد"وبديهي أننا نخالف هذا الرأي، ونرى أن الحاجز الثقافي ليس عصيا على التجاوز، غير أن وجهة النظر القائلة باستحالة الفهم هذه لم تنبنِ إلا على أخطاء حقيقية وكارثية وُجِدت في كتابات المستشرقين رغم بذلهم الجهد الضخم في دراسة الموضوع، وأبرز ما يخطر على البال الآن كمثال هو كتاب المستشرق الأمريكي مايكل كوك "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي"، فقد ظل يجمع مادة الكتاب لعشرة أعوام ومن مصادر مكتوبة بأربع لغات: العربية والإنجليزية والفارسية والتركية، لكنه تعامل مع النصوص بمنطق حسابي هندسي، هو سليم في ميزان المنطق والمادة، لكنه مزعج في ميزان الثقافة الإسلامية، إذ لا يُفرِّق بين الكلي والجزئي والعام والخاص والمطلق والمقيد، وعامة هذه التفاصيل التي تتكون لدى المسلم عبر مزيج ثقافي طويل وعميق.
لقد عبر د. عماد الدين خليل عن هذا الفارق الثقافي تعبيرا جميلا حين قال بأن "المسلم -مهما كانت درجة ثقافته يتعامل مع المعطيات الإسلامية وفق ما يمكن اعتباره شبكة من البداهات والمسلمات، وهي لم تأت إليه مباشرة عن طريق الأخبار والروايات التاريخية، وإنما جاءته بطريقة أكثر حيوية، كانت أشبه بالروافد المتدفقة التي تتشكل لكي تصير نهرا، من خلال تعامله مع القرآن والحديث ومن خلال تجربته الإيمانية، ومن خلال عرف اجتماعي ثقافي عام يقوم على خطوط عريضة متفق عليها، ومن خلال تقليد زمني تُتَناقل بواسطته الحقائق من جيل إلى آخر... بينما مهما كان المستشرق ملتزما بقواعد البحث التاريخي وأصوله فإنه من خلال رؤيته الخارجية وتغربه يمارس نوعا من التكسير والتجريح، فيصدم الحس الديني ويرتطم بالبداهات الثابتة"لكن الحقيقة التي لا تُنْكَر كذلك أن مجهود المستشرقين في البحث والتنقيب والتفتيش في حضارتنا أثمر دراسات قيمة ونظرات تفسيرية جديدة وآراء قوية لها وجاهتها، وهذا ملموس لكل من قرأ في تراثهم وأبحاثهم، بل هو معترف به لدى كل من كتبوا عن الاستشراق ولو كرهوه ورموه عن قوس واحدة؛ إذ هم يعزون إليه ويحملونه مسؤولية تقديم الخبرة الكافية للاستعمار قبل وأثناء دخوله البلاد، وما كان لهم أن يُحمِّلوه هذا الإثم لو لم يكونوا يعترفون أن المستشرقين قد حصَّلوا بأبحاثهم علما كافيا ووافيا يُنتفع به ويُبنى عليه.
وما نراه في هذا الموضوع هو أن ثمة مساحات شديدة الخصوصية يكثر فيها خطأ الباحث إن كان ينتمي لحضارة مختلفة، مثل اللغة والثقافة والآداب، وإن كنا لا نعتقد أنها مغلقة تماما ويستحيل تجاوز حاجزهاوفي كل الأحوال وبغض النظر عن هذا الخلاف، تبقى مشكلة الاختلاف الثقافي مشكلة حقيقة يجب أن ينتبه إليها كل باحث في علم الاستغراب، وموضع التفرد فيها هو ذاته موضع الخطر، فبقدر ما تكون النظرة الحضارية المختلفة جديرة بأن تلقي أضواءً جديدة على الموضوع وتكشف فيه مساحات جديدة، بقدر ما تكون جديرة بالخطأ وعدم الفهم والعجز عن الذهاب وراء الظواهر إلى الأعماق والوقوع في فخ الإسقاط، وسائر ما عانينا منه في البحوث الاستشراقية التي شوهت الإسلام والتي رددها مستشرقون منصفون لا نستطيع أن نرميهم بالمؤامرة أو الغرضإن التعمق في فهم الثقافة والروح المحيطة بالحدث أمر يحظى بالأهمية البالغة ولو في الموضوعات التي ظاهرها الوضوح والبساطة، فحتى مؤسسو المذاهب والدول والحركات الذين تبدو دراستهم الأمر الأسهل من بين الدراسات التاريخية لما فيها من الوضوح والظهور والشهرة، حتى أولئك يجب التعمق في دراستهم وتلمس بيئتهم، إذ "لسنا على يقين من أن الأفكار السامية التي يُحْدثها النابغون من فطاحل القوم إنما هي عملهم خاصة، نعم هم الذين أوجدوها، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن ذرات التراب التي تراكمت فصارت منبتا لتلك الأفكار إنما كونتها روح الجماعات التي وُجِد أولئك النابغون فيها"إن العبارة نفسها -بل والكلمة الواحدة- قد تعبر عن المعنى وضده بحسب الثقافة، ولذلك يتحدث المترجمون كثيرا عن "المكافئ الدلالي" بدلا من "المكافئ اللفظي" لا سيما في ترجمة الروايات التي لا تحتمل وضع حواشٍ أو شرح الدلالات الدقيقة للألفاظ، ومن أشهر الأمثلة في حالتنا هذه مصطلحات مثل "العقيدة" و"الإيمان"، فهي بقدر ما تعني الجزم واليقين والاطمئنان في أذهاننا فإنها "حين تستخدم باللغة الإنجليزية بمعناها العام تحمل في طياتها مضامين اللا حقيقة والاحتمالية والشك والاشتباه" للميراث المعروف من الصراع العلماني الكنسيفإدراك السياق والروح المهيمنة أصل في فهم الموضوع، ونحن أولى من ندرك هذا، إذ نحن أحفاد من اشترطوا "العلم بأسباب النزول" في الكلام الإلهي الذي هو حق مطلق فوق الزمن والظروف، رغم اتفاقهم على أن "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"ولا نرى حلا لهذه المعضلة -معضلة الاختلاف الثقافي- إلا بأمرين لا بد لهما أن يعملا معًا: التعمق في الموضوع دراسة، والالتزام بتقوى الله وأدب الإسلام التي تلزم بالعدل والإنصاف واستفراغ الوسع وتنهى عن القول بغير علم، وهذه الثانية -كما ذكرنا سابقا ونكرر دائما- هي البديل الإسلامي الواقعي لوهم الحيادية العلمية والتي يستحيل أن تتحقق في مجال العلوم الإنسانية.
نشر في ساسة بوست
محمود شاكر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ص68. د. عبد العظيم الديب: المنهج في كتابات الغربيين ص74. من مقدمة د. عمر عبيد حسنة لكتاب د. عبد العظيم الديب: المنهج في كتابات الغربيين ص24. د. عماد الدين خليل: المستشرقون والسيرة النبوية، ضمن "مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية" ص115، 116 باختصار وتصرف. ومما هو ذو دلالة هنا أن النحاة وإن كانوا يعتبرون كتاب سيبويه "قرآن النحاة" إلا أنهم لا يرون لغته دليلا على لسان العرب، فيما يعتبرون لغة الشافعي دليلا في لسان العرب، وإن لم يؤلف في النحو. محمد إلهامي: كيف نفهم أخطاء المستشرقين المنصفين، مقال على مدونة "المؤرخ" بتاريخ 1/7/2009م. جوستاف لوبون: روح الاجتماع ص7. د. إسماعيل الفاروقي: التوحيد ص86. د. يوسف القرضاوي: الثقافة العربية الإسلامية ص56. د. يوسف القرضاوي: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص20.
لقد عبر د. عماد الدين خليل عن هذا الفارق الثقافي تعبيرا جميلا حين قال بأن "المسلم -مهما كانت درجة ثقافته يتعامل مع المعطيات الإسلامية وفق ما يمكن اعتباره شبكة من البداهات والمسلمات، وهي لم تأت إليه مباشرة عن طريق الأخبار والروايات التاريخية، وإنما جاءته بطريقة أكثر حيوية، كانت أشبه بالروافد المتدفقة التي تتشكل لكي تصير نهرا، من خلال تعامله مع القرآن والحديث ومن خلال تجربته الإيمانية، ومن خلال عرف اجتماعي ثقافي عام يقوم على خطوط عريضة متفق عليها، ومن خلال تقليد زمني تُتَناقل بواسطته الحقائق من جيل إلى آخر... بينما مهما كان المستشرق ملتزما بقواعد البحث التاريخي وأصوله فإنه من خلال رؤيته الخارجية وتغربه يمارس نوعا من التكسير والتجريح، فيصدم الحس الديني ويرتطم بالبداهات الثابتة"لكن الحقيقة التي لا تُنْكَر كذلك أن مجهود المستشرقين في البحث والتنقيب والتفتيش في حضارتنا أثمر دراسات قيمة ونظرات تفسيرية جديدة وآراء قوية لها وجاهتها، وهذا ملموس لكل من قرأ في تراثهم وأبحاثهم، بل هو معترف به لدى كل من كتبوا عن الاستشراق ولو كرهوه ورموه عن قوس واحدة؛ إذ هم يعزون إليه ويحملونه مسؤولية تقديم الخبرة الكافية للاستعمار قبل وأثناء دخوله البلاد، وما كان لهم أن يُحمِّلوه هذا الإثم لو لم يكونوا يعترفون أن المستشرقين قد حصَّلوا بأبحاثهم علما كافيا ووافيا يُنتفع به ويُبنى عليه.
وما نراه في هذا الموضوع هو أن ثمة مساحات شديدة الخصوصية يكثر فيها خطأ الباحث إن كان ينتمي لحضارة مختلفة، مثل اللغة والثقافة والآداب، وإن كنا لا نعتقد أنها مغلقة تماما ويستحيل تجاوز حاجزهاوفي كل الأحوال وبغض النظر عن هذا الخلاف، تبقى مشكلة الاختلاف الثقافي مشكلة حقيقة يجب أن ينتبه إليها كل باحث في علم الاستغراب، وموضع التفرد فيها هو ذاته موضع الخطر، فبقدر ما تكون النظرة الحضارية المختلفة جديرة بأن تلقي أضواءً جديدة على الموضوع وتكشف فيه مساحات جديدة، بقدر ما تكون جديرة بالخطأ وعدم الفهم والعجز عن الذهاب وراء الظواهر إلى الأعماق والوقوع في فخ الإسقاط، وسائر ما عانينا منه في البحوث الاستشراقية التي شوهت الإسلام والتي رددها مستشرقون منصفون لا نستطيع أن نرميهم بالمؤامرة أو الغرضإن التعمق في فهم الثقافة والروح المحيطة بالحدث أمر يحظى بالأهمية البالغة ولو في الموضوعات التي ظاهرها الوضوح والبساطة، فحتى مؤسسو المذاهب والدول والحركات الذين تبدو دراستهم الأمر الأسهل من بين الدراسات التاريخية لما فيها من الوضوح والظهور والشهرة، حتى أولئك يجب التعمق في دراستهم وتلمس بيئتهم، إذ "لسنا على يقين من أن الأفكار السامية التي يُحْدثها النابغون من فطاحل القوم إنما هي عملهم خاصة، نعم هم الذين أوجدوها، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن ذرات التراب التي تراكمت فصارت منبتا لتلك الأفكار إنما كونتها روح الجماعات التي وُجِد أولئك النابغون فيها"إن العبارة نفسها -بل والكلمة الواحدة- قد تعبر عن المعنى وضده بحسب الثقافة، ولذلك يتحدث المترجمون كثيرا عن "المكافئ الدلالي" بدلا من "المكافئ اللفظي" لا سيما في ترجمة الروايات التي لا تحتمل وضع حواشٍ أو شرح الدلالات الدقيقة للألفاظ، ومن أشهر الأمثلة في حالتنا هذه مصطلحات مثل "العقيدة" و"الإيمان"، فهي بقدر ما تعني الجزم واليقين والاطمئنان في أذهاننا فإنها "حين تستخدم باللغة الإنجليزية بمعناها العام تحمل في طياتها مضامين اللا حقيقة والاحتمالية والشك والاشتباه" للميراث المعروف من الصراع العلماني الكنسيفإدراك السياق والروح المهيمنة أصل في فهم الموضوع، ونحن أولى من ندرك هذا، إذ نحن أحفاد من اشترطوا "العلم بأسباب النزول" في الكلام الإلهي الذي هو حق مطلق فوق الزمن والظروف، رغم اتفاقهم على أن "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"ولا نرى حلا لهذه المعضلة -معضلة الاختلاف الثقافي- إلا بأمرين لا بد لهما أن يعملا معًا: التعمق في الموضوع دراسة، والالتزام بتقوى الله وأدب الإسلام التي تلزم بالعدل والإنصاف واستفراغ الوسع وتنهى عن القول بغير علم، وهذه الثانية -كما ذكرنا سابقا ونكرر دائما- هي البديل الإسلامي الواقعي لوهم الحيادية العلمية والتي يستحيل أن تتحقق في مجال العلوم الإنسانية.
نشر في ساسة بوست
محمود شاكر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ص68. د. عبد العظيم الديب: المنهج في كتابات الغربيين ص74. من مقدمة د. عمر عبيد حسنة لكتاب د. عبد العظيم الديب: المنهج في كتابات الغربيين ص24. د. عماد الدين خليل: المستشرقون والسيرة النبوية، ضمن "مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية" ص115، 116 باختصار وتصرف. ومما هو ذو دلالة هنا أن النحاة وإن كانوا يعتبرون كتاب سيبويه "قرآن النحاة" إلا أنهم لا يرون لغته دليلا على لسان العرب، فيما يعتبرون لغة الشافعي دليلا في لسان العرب، وإن لم يؤلف في النحو. محمد إلهامي: كيف نفهم أخطاء المستشرقين المنصفين، مقال على مدونة "المؤرخ" بتاريخ 1/7/2009م. جوستاف لوبون: روح الاجتماع ص7. د. إسماعيل الفاروقي: التوحيد ص86. د. يوسف القرضاوي: الثقافة العربية الإسلامية ص56. د. يوسف القرضاوي: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص20.
Published on June 10, 2016 00:40
June 6, 2016
معضلات الاجتهاد في باب السياسة
على غير ما يظن الكثيرون، فإن المؤلفات الإسلامية المعاصرة المكتوبة في باب السياسة الشريعة ليست بالقليلة، ولكنها إنما تبدو كذلك لأن الأوضاع السياسية في العالم الإسلامي لا تسمح بالاجتهاد في هذا الباب، فهو إما مغلق تماما لطبيعة الأنظمة الاستبدادية التي تفرض أنماطا من المحظورات في البحث العلمي، وإما مغلق عمليا إذ لا مجال سوى التنظير والبحث الذي غاية أمله أن يرتقي به الباحث درجة علمية ثم يوضع بحثه في أرفف المكتبة الجامعية، وفي هذه الحالة فإنه لا تمضي بضع سنوات حتى يصير البحث لا قيمة له لما يستجد من النوازل والمتغيرات في البيئة السياسية، والاجتهاد عملية حية مستمرة إن أغلق دونها باب التنفيذ لم تستطع أن تستوعب الجديد وتتفاعل معه.
منذ حوالي القرنين شهد باب السياسة في العالم الإسلامي نازلة كبرى مركبة: نازلة الدولة الحديثة، وقد ساهم في تعقيد ظاهرتها أنها كانت وليدة مرحلة الهزائم الإسلامية منذ بدء ضعف الدولة العثمانية وانهيار ولاياتها تحت الغزو الأجنبي، ثم مرحلة البعثات العلمية والترجمات ومرحلة الاستعمار الحديث! كان العقل الإسلامي يحاول البحث عن إجابة سؤال: ما الذي تغير في معادلة التفوق الإسلامي؟ ولأول مرة صار النظر إلى الغرب يسفر عن مشروع حضاري مثير للإعجاب لا عن مجرد تفوق عسكري كما كان الشأن في زمن الحروب الصليبية!
وهكذا وُضِعت تحديات التحديث والتغريب والدولة الحديثة أمام العقل المسلم، وكانت أول الإجابات قادمة من علماء بالمعنى التقليدي، إلا أنه أتيح لهم الاتصال بالسلطة والاحتكاك بالغرب معا، ونعنى بهما: رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، غير أن مشروعات أي منهم لم تنجح.
لقد كانت السلطةُ هي الصخرة التي تحطمت عليها آمال هؤلاء الإصلاحيين، كانت السلطة المستبدة في العالم الإسلامي تريد نقل المنجزات الصناعية الحديثة من الغرب فحسب، بينما أبصر الطهطاوي والتونسي أن التفوق الغربي ليس منحصرا في باب الصناعات وإنما هو جزء من مشروع ونموذج حضاري أهم ما فيه هو الوضع الجديد للشعوب في معادلة السلطة، وأن ما وُجِد من القوانين والتقييد لسلطة الملوك وما أتيح من الحريات والحقوق للجماهير أطلق هذا المدَّ الكبير من الطاقة التي صنعت هذا التفوق. وسجَّل كل منهما ذلك تلميحا أو تصريحا فيما تركه من تراث مكتوب أو من ترجمات، إلا أن مساعيهما في هذا الباب باءت بالفشل إذ كانت السلطات في القاهرة والقسطنطينية لا يمكن أن تستجيب لمثل هذه التغيرات.
منذ تلك اللحظة وحتى الآن جرت أحداث كثيرة يصب أغلبها في التمكين للنموذج الغربي الذي نزل بعدئذ بقواته واحتل البلاد وأنشأ فيها المؤسسات المتغربة، ثم لم يترك البلاد ويرحل إلا بعد ضمانة ضرب المقاومة الإسلامية وتنصيب سلطات علمانية، فعاش العالم الإسلامي قرنين من القهر والتغريب؛ بالاستبداد أحيانا وبالاحتلال أحيانا، مما ضرب قدر وقدرة العلماء والمجتهدين على تقديم الاجتهاد الممكن للنوازل السياسية الجديدة.
يمكن اختصار معضلات الاجتهاد الإسلامي في باب السياسة في أربعة رئيسية هي:
1. معضلة الفهم والتصور
إذ يعاني جمهور المشايخ والعلماء من سوء فهم وتصور لما آلت إليه أحوال السياسة والنظم، وما استجد فيها من الفلسفات والتوجهات وما طرأ عليها من التعقيد والتركيب، وما أنتجه كل هذا من خصائص في بنية وأسلوب عمل المؤسسات السياسية، وذلك راجع إلى أمرين:
أولهما كما يقول ابن خلدون "لما يكون في التكاسل في النفوس المضطهدة"، وذلك أن الاستبداد يفرض حالة عامة من الركود وتعطيل الملكة الاجتهادية التي يلزمها قدر من الحرية والثقة يمكنها به البحث وطرح الأسئلة والتنقيب وراء الظواهر، ولا يكون هذا في جو القهر والإرهاب.
وثانيهما: ما تحرص السلطة على تعتيمه -فإن لم تستطع: تشويهه- من النماذج السياسية المغايرة، فالسلطة في الدولة الحديثة تحتكر إنتاج وترويج المعرفة، بما صار لها من احتكار لمؤسسات التعليم والإعلام والثقافة، وهو ما يترتب عليه الجهل والانفصال بين العلماء وبين المعرفة العميقة لهذه النماذج، وهي المعرفة التي تؤهل للاجتهاد في شأنها كنازلة جديدة. وأستطيع القول بأن نموذج الدولة الحديثة وما يطرحه من إشكالات لم يُطرق بوضوح وجرأة في البيئات العلمية التقليدية إلا بعد عصر الانترنت، وبشكل أقوى: بعد عصر الربيع العربي ومواقع التواصل الاجتماعي التي نقلت هذه النقاشات من دهاليز الأقسام المتخصصة إلى الساحة العامة التي تشتبك مع البيئة العلمية الإسلامية.
2. معضلة العجز
وهو العجز عن التطبيق؛ وهي مرحلة وصل الطهطاوي والتونسي وغيرهما إليها في بعض المجالات التي لم تكن السلطة تنتبه أول الأمر إلى آثارها ومآلاتها، ثم لم يستطع أحدهم تجاوزها فيما بعد، ولا ريب أن التطبيق هو رافد أساسي من روافد الاجتهاد، إذ التنظير مهما بذل من الجهد والنظرية مهما صحَّت فلا بد من اختبارها في الواقع والمجتمع، وبناء على الواقع يكون التصحيح والتعديل، فالاجتهاد عملية حية مستمرة.
وفي هذين القرنين تدنى مستوى قدرة العلماء على التطبيق تدريجيا إلى أن أزيحوا تماما من كل قدرة بإلغاء القضاء الشرعي، وهو الأمر الذي لا يتوقف خطره عند إزاحتهم من ساحة العمل بل يمتد إلى أنه يعزلهم عن ساحة المجتمع وقضاياه وأساليب الناس في التعايش والتحايل على القوانين، وما يستجد في حياتهم من نظم حاكمة وعادات تأخذ طريقها لتكون تقاليد راسخة مع طول الزمن.
3. معضلة الهروب إلى المعارك الفرعية
وذلك أن باب السياسة بابٌ خطير يكلف عداوة السلطة، فيضطر المجتهد إلى الهروب من باب المواجهة الصريح والاجتهاد في المسألة الكبرى إلى فروعها ولوازمها من المسائل الجزئية، وحينئذ تشتعل الصراعات الجانبية بين طوائف العلماء والآراء وتذهب فيها طاقة الاجتهاد، ثم ينفصل مجتمع العلماء عن مسائل الوقت بالكلية، لا سيما في نظام يستبدل بهم طبقة جديدة من الموظفين والإدرايين تأكل من مساحة القضايا والشؤون التي يعالجونها حتى تمَّ له إزاحتهم بالكلية.
إن قضايا كالتفريق بين أحد وزوجته أو معارك الحجاب أو الخمور أو الانحلال الأخلاقي أو مكافحة التطبيع مع إسرائيل أو المناداة بمد يد الغوث للعرب والمسلمين المستضعفين في أي مكان.. كل هذه القضايا هي في حقيقتها فروع عن القضية الأصلية: السلطة المستبدة التي تفرض على المجتمع بالقهر أمورا لا يقبلها، لكن حيث كانت السلطة قاهرة فإن الهروب من مواجهة القضية الأصلية الصريحة إلى الفروع والهوامش يكون هو البديل المتاح المقدور عليه إذ مهاجمة وزير الثقافة أو صحافي علماني أو داعية نسوية أهون من تحدي السلطة.
بل إن الانشغال بقضايا التعليم والتربية وأعمال البر والخير ورعاية الأيتام وتزويج الفقراء وغيرها هو في حقيقته أيضا هروب من مواجهة المتسبب الأصلي في هذه المآسي، وكل هذا مما يستهلك طاقة الحركة العلمية ويصرفها عن الاجتهاد في باب السياسة المحفوف بالمخاطر.
4. معضلة التوظيف
وذلك أن سلطة الدولة الحديثة قد نزعت من الفقهاء كل استقلال مالي والجانب الأعظم من المكانة المعنوية، ولم يعد ثمة مجال للفقيه خارج عن مساحة السلطة، وهو ما ينعكس على المجتهد الذي يؤْثِر كتمان ما يعلم والسكوت عن الحق الذي ينبغي أن يقال، ولربما تطور الحال إلى تأصيل الباطل والترويج له وإسباغ الشرعية عليه. وهذه الأمور مهما أسرفنا في إدانتها تظل حقيقة إنسانية وتاريخية تعطل الاجتهاد في باب السياسة.
هذه المعضلات الأربعة مجتمعة تجعل الاجتهاد في باب السياسة من أعسر وأخطر ما يمكن، بالرغم من أن باب السياسة هو أهم وأخطر الأبواب جميعا وأكثرها تأثيرا على المسلمين. ولا يمكن توقع فتح باب اجتهاد حقيقي في مجال السياسة إلا بوجود بيئة علمية آمنة من بطش السلطان ومستقلة عن سطوته العلمية المعرفية وعن أمواله ورواتبه ومكافآته.
بغير هذا سيظل أحسن ما نحصل عليه: اجتهادات نظرية مكتوبة على هيئة بحوث راقدة في صفوف المكتبات، تفقد بعد قليل القدرة على الحياة ومواكبة الحوادث، وسيظل أسوأ ما نحصل عليه حالة مشيخة السلطان الذين يصنعون له من رغباته فتاوى وتأصيلات شرعية بدعاوى الاجتهاد!
ويبدو أن مسار التاريخ لا يترك لنا إلا احتمالا واحدا: الثورة هي التي ستصنع مجتهديها، وهم الذين يصنعون نموذجها الحضاري، وكل هذا في ظلال كفاح مرير لخلع منظومات القهر والتغريب التي تسيطر على بلادنا منذ مائتي سنة!
نشر في المعهد المصري للدراسات المصرية والاستراتيجية
منذ حوالي القرنين شهد باب السياسة في العالم الإسلامي نازلة كبرى مركبة: نازلة الدولة الحديثة، وقد ساهم في تعقيد ظاهرتها أنها كانت وليدة مرحلة الهزائم الإسلامية منذ بدء ضعف الدولة العثمانية وانهيار ولاياتها تحت الغزو الأجنبي، ثم مرحلة البعثات العلمية والترجمات ومرحلة الاستعمار الحديث! كان العقل الإسلامي يحاول البحث عن إجابة سؤال: ما الذي تغير في معادلة التفوق الإسلامي؟ ولأول مرة صار النظر إلى الغرب يسفر عن مشروع حضاري مثير للإعجاب لا عن مجرد تفوق عسكري كما كان الشأن في زمن الحروب الصليبية!
وهكذا وُضِعت تحديات التحديث والتغريب والدولة الحديثة أمام العقل المسلم، وكانت أول الإجابات قادمة من علماء بالمعنى التقليدي، إلا أنه أتيح لهم الاتصال بالسلطة والاحتكاك بالغرب معا، ونعنى بهما: رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، غير أن مشروعات أي منهم لم تنجح.
لقد كانت السلطةُ هي الصخرة التي تحطمت عليها آمال هؤلاء الإصلاحيين، كانت السلطة المستبدة في العالم الإسلامي تريد نقل المنجزات الصناعية الحديثة من الغرب فحسب، بينما أبصر الطهطاوي والتونسي أن التفوق الغربي ليس منحصرا في باب الصناعات وإنما هو جزء من مشروع ونموذج حضاري أهم ما فيه هو الوضع الجديد للشعوب في معادلة السلطة، وأن ما وُجِد من القوانين والتقييد لسلطة الملوك وما أتيح من الحريات والحقوق للجماهير أطلق هذا المدَّ الكبير من الطاقة التي صنعت هذا التفوق. وسجَّل كل منهما ذلك تلميحا أو تصريحا فيما تركه من تراث مكتوب أو من ترجمات، إلا أن مساعيهما في هذا الباب باءت بالفشل إذ كانت السلطات في القاهرة والقسطنطينية لا يمكن أن تستجيب لمثل هذه التغيرات.
منذ تلك اللحظة وحتى الآن جرت أحداث كثيرة يصب أغلبها في التمكين للنموذج الغربي الذي نزل بعدئذ بقواته واحتل البلاد وأنشأ فيها المؤسسات المتغربة، ثم لم يترك البلاد ويرحل إلا بعد ضمانة ضرب المقاومة الإسلامية وتنصيب سلطات علمانية، فعاش العالم الإسلامي قرنين من القهر والتغريب؛ بالاستبداد أحيانا وبالاحتلال أحيانا، مما ضرب قدر وقدرة العلماء والمجتهدين على تقديم الاجتهاد الممكن للنوازل السياسية الجديدة.
يمكن اختصار معضلات الاجتهاد الإسلامي في باب السياسة في أربعة رئيسية هي:
1. معضلة الفهم والتصور
إذ يعاني جمهور المشايخ والعلماء من سوء فهم وتصور لما آلت إليه أحوال السياسة والنظم، وما استجد فيها من الفلسفات والتوجهات وما طرأ عليها من التعقيد والتركيب، وما أنتجه كل هذا من خصائص في بنية وأسلوب عمل المؤسسات السياسية، وذلك راجع إلى أمرين:
أولهما كما يقول ابن خلدون "لما يكون في التكاسل في النفوس المضطهدة"، وذلك أن الاستبداد يفرض حالة عامة من الركود وتعطيل الملكة الاجتهادية التي يلزمها قدر من الحرية والثقة يمكنها به البحث وطرح الأسئلة والتنقيب وراء الظواهر، ولا يكون هذا في جو القهر والإرهاب.
وثانيهما: ما تحرص السلطة على تعتيمه -فإن لم تستطع: تشويهه- من النماذج السياسية المغايرة، فالسلطة في الدولة الحديثة تحتكر إنتاج وترويج المعرفة، بما صار لها من احتكار لمؤسسات التعليم والإعلام والثقافة، وهو ما يترتب عليه الجهل والانفصال بين العلماء وبين المعرفة العميقة لهذه النماذج، وهي المعرفة التي تؤهل للاجتهاد في شأنها كنازلة جديدة. وأستطيع القول بأن نموذج الدولة الحديثة وما يطرحه من إشكالات لم يُطرق بوضوح وجرأة في البيئات العلمية التقليدية إلا بعد عصر الانترنت، وبشكل أقوى: بعد عصر الربيع العربي ومواقع التواصل الاجتماعي التي نقلت هذه النقاشات من دهاليز الأقسام المتخصصة إلى الساحة العامة التي تشتبك مع البيئة العلمية الإسلامية.
2. معضلة العجز
وهو العجز عن التطبيق؛ وهي مرحلة وصل الطهطاوي والتونسي وغيرهما إليها في بعض المجالات التي لم تكن السلطة تنتبه أول الأمر إلى آثارها ومآلاتها، ثم لم يستطع أحدهم تجاوزها فيما بعد، ولا ريب أن التطبيق هو رافد أساسي من روافد الاجتهاد، إذ التنظير مهما بذل من الجهد والنظرية مهما صحَّت فلا بد من اختبارها في الواقع والمجتمع، وبناء على الواقع يكون التصحيح والتعديل، فالاجتهاد عملية حية مستمرة.
وفي هذين القرنين تدنى مستوى قدرة العلماء على التطبيق تدريجيا إلى أن أزيحوا تماما من كل قدرة بإلغاء القضاء الشرعي، وهو الأمر الذي لا يتوقف خطره عند إزاحتهم من ساحة العمل بل يمتد إلى أنه يعزلهم عن ساحة المجتمع وقضاياه وأساليب الناس في التعايش والتحايل على القوانين، وما يستجد في حياتهم من نظم حاكمة وعادات تأخذ طريقها لتكون تقاليد راسخة مع طول الزمن.
3. معضلة الهروب إلى المعارك الفرعية
وذلك أن باب السياسة بابٌ خطير يكلف عداوة السلطة، فيضطر المجتهد إلى الهروب من باب المواجهة الصريح والاجتهاد في المسألة الكبرى إلى فروعها ولوازمها من المسائل الجزئية، وحينئذ تشتعل الصراعات الجانبية بين طوائف العلماء والآراء وتذهب فيها طاقة الاجتهاد، ثم ينفصل مجتمع العلماء عن مسائل الوقت بالكلية، لا سيما في نظام يستبدل بهم طبقة جديدة من الموظفين والإدرايين تأكل من مساحة القضايا والشؤون التي يعالجونها حتى تمَّ له إزاحتهم بالكلية.
إن قضايا كالتفريق بين أحد وزوجته أو معارك الحجاب أو الخمور أو الانحلال الأخلاقي أو مكافحة التطبيع مع إسرائيل أو المناداة بمد يد الغوث للعرب والمسلمين المستضعفين في أي مكان.. كل هذه القضايا هي في حقيقتها فروع عن القضية الأصلية: السلطة المستبدة التي تفرض على المجتمع بالقهر أمورا لا يقبلها، لكن حيث كانت السلطة قاهرة فإن الهروب من مواجهة القضية الأصلية الصريحة إلى الفروع والهوامش يكون هو البديل المتاح المقدور عليه إذ مهاجمة وزير الثقافة أو صحافي علماني أو داعية نسوية أهون من تحدي السلطة.
بل إن الانشغال بقضايا التعليم والتربية وأعمال البر والخير ورعاية الأيتام وتزويج الفقراء وغيرها هو في حقيقته أيضا هروب من مواجهة المتسبب الأصلي في هذه المآسي، وكل هذا مما يستهلك طاقة الحركة العلمية ويصرفها عن الاجتهاد في باب السياسة المحفوف بالمخاطر.
4. معضلة التوظيف
وذلك أن سلطة الدولة الحديثة قد نزعت من الفقهاء كل استقلال مالي والجانب الأعظم من المكانة المعنوية، ولم يعد ثمة مجال للفقيه خارج عن مساحة السلطة، وهو ما ينعكس على المجتهد الذي يؤْثِر كتمان ما يعلم والسكوت عن الحق الذي ينبغي أن يقال، ولربما تطور الحال إلى تأصيل الباطل والترويج له وإسباغ الشرعية عليه. وهذه الأمور مهما أسرفنا في إدانتها تظل حقيقة إنسانية وتاريخية تعطل الاجتهاد في باب السياسة.
هذه المعضلات الأربعة مجتمعة تجعل الاجتهاد في باب السياسة من أعسر وأخطر ما يمكن، بالرغم من أن باب السياسة هو أهم وأخطر الأبواب جميعا وأكثرها تأثيرا على المسلمين. ولا يمكن توقع فتح باب اجتهاد حقيقي في مجال السياسة إلا بوجود بيئة علمية آمنة من بطش السلطان ومستقلة عن سطوته العلمية المعرفية وعن أمواله ورواتبه ومكافآته.
بغير هذا سيظل أحسن ما نحصل عليه: اجتهادات نظرية مكتوبة على هيئة بحوث راقدة في صفوف المكتبات، تفقد بعد قليل القدرة على الحياة ومواكبة الحوادث، وسيظل أسوأ ما نحصل عليه حالة مشيخة السلطان الذين يصنعون له من رغباته فتاوى وتأصيلات شرعية بدعاوى الاجتهاد!
ويبدو أن مسار التاريخ لا يترك لنا إلا احتمالا واحدا: الثورة هي التي ستصنع مجتهديها، وهم الذين يصنعون نموذجها الحضاري، وكل هذا في ظلال كفاح مرير لخلع منظومات القهر والتغريب التي تسيطر على بلادنا منذ مائتي سنة!
نشر في المعهد المصري للدراسات المصرية والاستراتيجية
Published on June 06, 2016 00:37
June 4, 2016
كيف نبدأ في دراسة الغرب؟.. موجز خطة مقترحة
قال ابن حزم: مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرئاسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، ومذهب مالك، وذلك أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة كان قاضي القضاة في عصر الرشيد فكان يعين القضاة الأحناف فسارع الناس إلى المذهب، وكذلك كان لما تولى سحنون بن سعيد (المالكي) قضاء إفريقية(اقرأ: الدعاة والأفكار وحتمية السلطة – الدولة تبني الحضارة والأمة أيضا)
إنه مهما تحمس نفرٌ لعلم من العلوم، ومهما دعت الحاجة إليه، فسيظل الواقع والحقيقة والتاريخ يؤكدون أن العلوم لا تزدهر إلا إذا تبناها الملوك، أو على أقل تقدير وفَّروا لها من إمكانيات الدولة ما يقيمها حتى تستوي على عودها وتتحول إلى واقع ومؤسسات ومدارس، فحينئذ يمكن لها أن تستكمل الطريق بنفسها وإن غفل عنها صاحب السلطان.
وهذه الحقيقة يشهد لها تاريخ الزمن القديم قبل عصر الدولة المركزيةوتقرير هذه الحقيقة لا يعني الصدَّ عن الموضوع ولا إثارة اليأس والإحباط، بل هو احترام للحقائق، ولكي يُبذل المجهود الصحيح في مكانه المثمر. إنه ما لم تتوافر الإرادة السياسية لدعم العلوم فلن تزدهر، فإذا ما كانت هذه الإرادة تعاند العلوم فإنها لن تقوم. وتجربة الاستشراق تخبرنا بأنه لم يصر علما إلا حين تبناه ورعاه البابوات -وهم يومئذ أصحاب النفوذ- فلما ذهب نفوذهم رعاه الملوك لما يحقق لهم من خدمات في مشاريع الاستعمار والتوسع.
وعلى كل حال فإننا سنمضي في وضع رؤية للبداية في علم الاستغراب، كأنما توفرت هذه الإرادة أو تيسر لأحد أن يُقْنِع ذا نفوذ بأهمية الموضوع.
وأول خطوة في بدء العلوم هو:
1. إنشاء مؤسسات
لم تعد العلوم يكفيها أن يقوم بها واحد مهما كان فذًّا، لقد صار كل شيء متشعبا إلى حد لا يصلح معه إلا التخصص، بل والتخصص الدقيق أيضا، كما أن العالم مهما بلغ من المجد لا يبقى علمه إلا إن كان له تلاميذ يحفظون علمه وينشرون مذهبه، ومشهورٌ تأسُّف الشافعي على ضياع مذهب الليث بن سعد وكان يرى أنه أفقه من مالك ولكن أصحابه لم يقوموا بهوأهم المؤسسات التي ينبغي إنشاؤها ليتدشن علم الاستغراب ثلاثة: أقسام في الجامعات، مراكز بحثية، معاهد تعليم اللغات.
أ- فأما معاهد تعليم اللغات فقد نشأت لضرورات التعلم والسفر والهجرة الناشئة عن تخلفنا وتقدمهم، فلا أحسب أننا نحتاج للمزيد منها، ولكن نحتاج لدعمها بحيث لا تقتصر على مهارات تعلم اللغة بغرض التواصل الشخصي أو العمل، بل تعمل على ضرورات إتقان اللغة وآدابها بغرض الاطلاع على الآثار العلمية والأدبية المكتوبة بها.
ومن ثَمَّ فنحن على الحقيقة لا نحتاج إلا إلى خطوتين؛ الأولى: رفع الواقع لنعرف خريطة توزع هذه المعاهد على اللغات الغربية، فلربما اكتشفنا أن بعض اللغات تحتاج مزيدا من المعاهد لتغطية الحاجة. والثانية: تفعيل المعاهد القائمة بحيث تؤدي برامجها إلى إتقان اللغات بغرض التعمق في آدابها.
وقد لا نحتاج إلى أية تكاليف لهذه الأمور، بل لعل سفارات هذه الدول المهتمة بنشر لغتها وبعض جمعياتها ومراكزها تقوم بالأمر كله.
ب- وأما المراكز البحثية فهي المؤسسات التي تحتاج دعما قويا، لأنها بطبيعتها لا تغطي تكاليفها، ولا يكاد يوجد مركز بحثي يمكن أن يكون مشروعا مربحا، فلذلك لا تخرج المراكز البحثية عن إحدى هذه الحالات: إما أن تكون واجهة لدولة، أو لأجهزة أمنية أو استخباراتية، أو قائمة على تبرعات المخلصين لرسالتها. وهذه الحالة الأخيرة لا تناسب ما نرجوه من الشروع في موضوع ضخم بحجم علم الاستغراب، فلا مناص أن تنفق عليها دولة، أو يخصص لها وقف كبير يمكنه أن يمول مشروعا بهذا الحجم. ويفضِّل البعض أن تكون المراكز البحثية ملحقة بالجامعات والمعاهد فتكون ضمن ميزانيتها ويكون هذا أدعى وأضمن لاستمرارها.
جـ- ومن هنا يأتي الحديث عن إنشاء أهم المؤسسات قاطبة، وهو إنشاء أقسام بالكليات تختص بعلم الاستغراب، تتطور لاحقا إلى كليات متخصصة ثم إلى جامعات متخصصة في مرحلة لاحقة، وقد رأينا كيف أن الاستشراق لم يأخذ سبيله نحو النضوج إلا حينما أنشئت كراسي للغات الشرقية في الجامعات الغربية. ويعد إنشاء أقسام بالكليات هو أهم وأول خطوة يمكن اتخاذها في هذا السبيل، وذلك أنها تحقق عددا من المزايا ليست لغيرها:
§ تستثمر طاقة الطلاب وهم في مقتبل أعمارهم وموفور نشاطهم البدني والذهني.§ تؤسس لمستغربين متخصصين في عُمْرٍ مبكر، فيكون هذا أدعى لنضوج خبرتهم وعمق معرفتهم.§ تحمل على اجتذاب الخبراء والمتخصصين في هذا المجال بكثرة ولمدة طويلة فيُستفاد بذلك ما لا يُستفاد من الزيارات القصيرة.§ تعفي من الإرهاق المالي وانقطاع وانخفاض التمويل الذي تعاني منه المؤسسات غير الرسمية أو القائمة على التبرعات، إذ هي قد دخلت في ميزانية الجامعة وصارت حقا لا فضلا ولا منة ولا مرتبطة بتغير السلطات.§ وإنشاء الأقسام سيضع البذرة لتحول هذه الأقسام إلى كليات متخصصة ثم إلى جامعات متخصصة فيما بعد.§ كما أن إنشاءها سيدير عجلة التنسيق والتعاون فيما بينها، وكذلك التنسيق والتعاون مع المؤسسات والأقسام والكليات عبر العالم.§ هذا فضلا عن فائدتها العلمية، فكم من موضوع مهم في الاستشراق والاستغراب حالت ظروف عدم وجود أقسام دون إخراجه، فإما أخرجه البعض دون المستوى إذ لا سلطة علمية ولا إشرافا علميا عليه، أو لم يخرج لاحتياجه من الإمكانيات ما فوق طاقة الفرد. كما أنها ستمثل بديلا لأبناء العالم الإسلامي بدلا من نزيف الطاقات والعقول المتواصل بالاضطرار الدائم إلى الدراسة في الغرب لنيل الشهادات العلمية، والتي قد يصحبها أحيانا معوقات فكريةد- ويدخل في باب المؤسسات أمور أخرى أقل تأثيرا لكن يجب الانتباه إليها كذلك، وهي إقامة المعارض والمتاحف المتخصصة في الحضارة الغربية، وتنشيط الملاحق الثقافية بالسفارات في الدول الغربية.
وأول ما ينبغي أن تقوم به هذه المؤسسات أمران؛ الأول: رفع الواقع، والثاني: ودراسة التجارب خلاصات التجارب السابقة. فيتحقق بذلك أفضل ضبط ممكن لمسيرة المشروع.
2. رفع الواقع
ونرى أن رفع الواقع يجب أن يتناول ثلاثة أمور رئيسية: المؤسسات العلمية، والموارد البشرية، والبحوث والمؤلفات الصادرة:
أ- إذ لا بد أن يكون واضحا حجم المؤسسات القائمة (كليات، أقسام، مراكز بحثية، معاهد تعليم لغات، متاحف، معارض، ملاحق ثقافية بالسفارات، جمعيات علمية، مجلات وصحف متخصصة، مراكز ترجمة ... إلخ) والتي يمكن استثمار طاقتها في خدمة علم الاستغراب.
وستتضح من رفع الواقع هذا أمور كثيرة منها:
§ تقييم طاقة المؤسسات القائمة وقدرتها على خدمة علم الاستغراب بوضعها الحالي.§ تقييم مدى إمكانية توجيه هذه المؤسسات ناحية علم الاستغراب بإدخال تعديلات على أوضاعها الحالية، كإضافة أقسام لكليات أو برامج للدراسات العليا أو دورات لمعاهد اللغات أو توجيهات للملاحق الثقافية في السفارات... وهكذا، بحيث ندرك الجهد المطلوب في رفع كفاءة المؤسسات القائمة لتكون بذورا لمؤسسات الاستغراب.§ تقييم حجم النقص الموجود ومدى الحاجة لإنشاء مؤسسات جديدة، إذا تبين من الواقع أن ثمة ما لا يمكن أداؤه من خلال المؤسسات القائمة.
ب- ولا بد أن يحتوي رفع الواقع على إحصائيات تكشف أيضا عن الموارد البشرية مثل: عدد الباحثين الموجودين في مراحل الدراسات العليا والمراكز البحثية، وعدد الطلاب الموجودين في أقسام آداب اللغات الإنجليزية، وعدد الباحثين الأجانب في بلادنا، وعدد المترجمين، والصحف والمجلات المتخصصة في متابعة الشؤون الغربية، وكذلك عدد الباحثين والأساتذة العرب والمسلمين الذين يُدرّسون في الجامعات ومراكز البحوث والدراسات الغربية، وكذلك أيضا عدد من الأساتذة والباحثين الغربيين المعروفين بالاعتدال والنزاهة، فأولئك سنحتاجهم في مرحلة التأسيس كما سيأتي معنا بعد قليل.
وأن تُرفع التوصيات لتجيب عن الصعوبات والمعوقات في إقبال الطلاب على هذه الأقسام أو الباحثين على هذه الموضوعات، وكيف ينبغي أن نزيد من جذب تلك الموارد البشرية إلى هذا المجال، وكيف نرفع كفاءة هذه الطاقات.جـ- كما ولا بد أن يحتوي رفع الواقع هذا على إحصائيات تكشف عن الدراسات السابقة، كرسائل الماجستير والدكتوراة والكتب المؤلفة والمترجمة في الشؤون الغربية، فترتسم بهذا خريطة التأليف والموضوعات التي قتلت بحثا، وخريطة الموضوعات التي تعاني نقصا وتحتاج إلى سد الثغرة فيها. ومن ثم يتم التوجيه إليها.
ومن الطبيعي أن يتكرر رفع الواقع بين الفينة والأخرى، ففي بريطانيا -مثلا- "كلفت الحكومة البريطانية لجنة وزارية بدراسة أوضاع الدراسات الشرقية والأفريقية والأوروبية الشرقية والسلافية عام 1947 وهي التي عرفت بلجنة سكاربرو، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبالتحديد في عام 1961 كونت لجنة أخرى لدراسة الموضوع ذاته برئاسة السير وليام هايتر وأصبح يطلق على اللجنة اسم رئيسها وليام هايتر وحتى الأموال التي خصصتها للجامعات أصبحت تعرف بأموال هايتر3. دراسة التجارب السابقة
والتجارب السابقة في موضوعنا هذا قسمان: تجارب البحوث والدراسات بشكل عام، وتجارب الاستغراب السابقة بشكل خاص.
أ- فأما تجارب البحوث والدراسات، فلأننا إذ نبدأ التأسيس لعلم جديد سنواجه عددا من المشكلات المعروفة مثل: نقص الكوادر، نقص الدراسات، حجم التمويل، التنسيق بين المؤسسات، الرقابة على هذه المؤسسات بحيث تؤدي عملها بأفضل كفاءة، وغيرها. ولنضرب بعض الأمثلة على مشكلتيْ نقص الدراسات ونقص الكوادر:
§ مشكلة نقص الدراسات:
تعاملت الجامعات الأمريكية مع مشكلة نقص دراسات الشرق الأوسط عبر "توزيع الاهتمام بالعالم العربي والإسلامي على مختلف الأقسام، كما في جامعة برنستون مثلا أو معهد الشرق الأوسط كما في جامعة كولمبيا أو جامعة كاليفورنيا بمدينة بيركلي، وهذا القسم والمعهد يقومان بالتنسيق بين قسم دراسات الشرق الأوسط والأقسام العلمية المختلفة، فهناك طالب متخصص في الاجتماع ويرغب في تطبيق ما تعلمه في هذا العلم على بلاد الشرق الأوسط، وكذلك الأمر في علم الاقتصاد أو علم الإنسان وغيرهما من العلوم"§ مشكلة نقص الكوادر:
لقد بدأت دراسة الاستشراق في أمريكا منذ بداية القرن التاسع عشر، "ولكنها بعد الحرب العالمية الثانية وجدت نفسها مضطرة لتحل محل بريطانيا في الشرق الأوسط أو في البلاد العربية الإسلامية، ووجدت نقصا إن لم يكن عجزا في الكوادر المؤهلة لفهم العالم العربي الإسلامي، فـ:
- أصدرت الحكومة الأمريكية مرسومًا لتمويل عدد من المراكز؛ لدراسة اللغة العربية والتركية والفارسية والأوردو ودراسات الأقاليم أو دراسة المناطق. - وبعد البدء في برامج اللغات العربية استعانت الجامعات الأمريكية بعدد من أساتذة الجامعات البريطانيين بخاصة، والأوروبيين بعامة، لتدريس الاستشراق في الجامعات الأمريكية.- كما بدأت الاستعانة ببعض أبناء المنطقة لإنشاء أقسام دراسات الشرق الأدنى، كما فعلت جامعة برنستون حينما كلّفت فيليب حِتّي لإنشاء القسم في الجامعة"وفي الغربيين كثيرٌ يمكن الاستعانة بهم في فهم مجتمعاتهم، وقد قال الشيخ محمد رشيد رضا، منذ وقت مبكر، بأنه ينبغي علينا "أن نستعين على ما نستمده منهم، بأهل الفضيلة والاستقلال من رجالهم، الذين ليس لهم فينا أهواء دينية، ولا مطامع سياسية استعمارية، وبهذا نكون مهتدين بما أمرنا الله به"ب- تجارب الاستغراب
"يجب أن تستفيد من البلاد التي سبقتنا في هذا المجال، ومن ذلك أن عددا من البلاد الأوروبية قد أنشأت معاهد للدراسات الأمريكية، فهناك معهد الدراسات الأمريكية التابع لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن، كما أن جامعة مونتريال فيها معهد للدراسات الأمريكية وكذلك في ألمانيا. وقد أنشأت باكستان معهدا للدراسات الأمريكية"كذلك فإن لليابان تجربة قوية في الاستغراب، وخصوصا دراسة أمريكا، فقد "تكونت فيها العديد من البرامج للدراسات العليا والجامعية، كما تأسس فيها عدد من المؤسسات والهيئات التي تعنى بدراسة المناطق والأقاليم ومنها على سبيل المثال: الرابطة اليابانية للدراسات الأمريكية، والرابطة اليابانية لدراسة المناطق، والرابطة اليابانية للدراسات الأوروبية ومركز دراسات المناطق المدمج الذي تأسس في جامعة كيوتو. لقد بدأت مرحلة الانفتاح في اليابان عام (1853م) بعد عزلة استمرت ثلاثة قرون، وبدأت معها مرحلة تقليد الغرب غير أن مرحلة التقليد هذه لم تأخذ وقتا طويلا حتى أدركت اليابان أنها في حاجة إلى فهم الأمم الأخرى ودراستها دراسة علمية أكاديمية فبذلت الكثير من الأموال والميزانيات لتحقيق هذه الدراسات، وهذا ما دفعها لتنشئ العديد من مراكز البحوث والمعاهد والأقسام العلمية بعضها للمرحلة الجامعية وبعضها الآخر للدراسات العليا؛ فقد أنشأت جامعة دوشيشا مركز الدراسات الأمريكية عام 1958م، ثم تطور هذا القسم إلى برنامج للدراسات العليا في دراسات الولايات المتحدة عام 1991م وهو أول برنامج من نوعه في اليابان الذي لا يعتمد على دراسات جامعية. ويهدفون من هذا أن يحصل الطالب على تخصص في علم من العلوم المعروفة ثم ينطلق إلى دراسة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد نشأ القسم بدعم من لجنة العلاقات اليابانية الأمريكية وبدعم سخي منها ومن الحكومة اليابانية التي لديها العديد من المؤسسات لدعم البحث العلمي، وأصبح هذا البرنامج من أهم برامج دراسات الولايات المتحدة في اليابان. ويفخر هذا البرنامج بقيام العديد من أعضائه بنشر إنتاجهم العلمي في العديد من دور نشر الجامعات المختلفة مثل أكسفورد وستانفورد وكورنيل وغيرها. أمّا جامعة طوكيو فلديها مركز لدراسات دول المحيط الهادي والأمريكية وقد تأسس عام 2000م بعد أن كانت الجامعة قد أنشأت مركز الدراسات الأمريكية عام 1967م، وكان الهدف منه جمع المعلومات الأساسية والثانوية حول السياسات والاقتصاد والثقافة في الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك المواد المتعلقة بالعلاقات اليابانية الأمريكية. ولما أعيد تأسيس المركز ليضم دول المحيط الهادي تكونت لجنة مختارة من كليات الدراسات العليا في الآداب والعلوم والقانون والاقتصاد والعلوم الإنسانية والتربية وكذلك من معاهد العلوم الاجتماعية ومعاهد أخرى تهتم بالمعلومات والاتصال. ولدى المركز مكتبة متخصصة تحتوي ألوف الكتب بالإضافة إلى قسم الميكروفيلم الذي تستطيع أن تقرأ فيه الصحافة الأمريكية لعشرات السنين. وهناك مراكز أخرى في اليابان مثل جامعة كوبيه Kobe التي تضم كلية دراسات التبادل الثقافي التي تهتم بالعلاقات الثقافية بين الشعوب والأمم ولديها عدد من أعضاء هيئة التدريس المتخصصين في دراسة الشعوب والأمم الأخرى، ولهذه الجامعة علاقة وثيقة بالمؤسسة اليابانية التي تسعى إلى دعم التبادل الثقافي بين اليابان والشعوب الأخرى من خلال برامج الزيارات القصيرة وبرامج زيارات لمدد مختلفة"نشر في ساسة بوست
الضبي: بغية الملتمس ص511، 512 بتصرف. ابن الجوزي: المنتظم 14/29. دَوْر السلطة -في تاريخنا الحضاري- أشبه بمن يطلق الشرارة أو يبذر البذرة، التي ترعاها الأمة فيما بعد، فيستمر حصادها حتى ولو ضعفت السلطة أو ذهبت بالكلية، ولئن كنا نفخر عن حق بأن أمتنا كانت تمول نهضتها الحضارية بنفسها عبر نظام الوقف، فإن المهم الذي نركز عليه في هذا السياق أن هذا ما كان ليحدث لولا أن بدأت السلطة بإطلاق ما نسميه "الشرارة الحضارية" كقرار تدوين الدواوين وقرار تعريب العملة وقرار جمع الكتب القديمة وقرار ترجمة تراث الأقدمين، ونحو هذا مما لم يكن ليحدث لولا أن بدأه ذو سلطة ونفوذ. أبو يعلى الخليلي: الإرشاد في معرفة علماء الحديث 1/201. قال الشيخ مصطفى السباعي: حدثَنا الدكتور أمين المصري -وهو خريج كلية أصول الدين في الأزهر وكلية الآداب ومعهد التربية في جامعة القاهرة- عما لقيه من عناء في سبيل موضوع رسالته التي أراد أنْ يتقدم بها لأخذ شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعات إنجلترا. لقد ذهب إليها منذ بضع سنوات لدراسة الفلسفة وأخذ شهادة الدكتوراه بها، وما كان يطلع على برامج الدراسة -وخاصة دراسة العلوم الإسلامية فيها- حتى هاله ما رآه من تحامُل ودس في كتب المستشرقين، وخاصة "شاخت"؛ فقرر أن يكون موضوع رسالته هو نقد كتاب شاخت في تاريخ الفقه الإسلامي. وتقدم إلى البروفسور أندرسون ليكون مشرفا على تحضير هذه الرسالة وموافقا على موضوعها، فأبى عليه هذا المستشرق أن يكون موضوع رسالته نقد كتاب شاخت وعبثا حاول أن يوافق على ذلك، فلما يئس من جامعة لندن، ذهب إلى جامعة كامبردج وانتسب إليها، وتقدم إلى المشرفين على الدراسات الإسلامية فيها برغبته في أن يكون موضوع رسالته للدكتوراه هو ما ذكرناه، فلم يُبدوا رضاهم عن ذلك، وظن أن من الممكن موافقتهم أخيرا، ولكنهم قالوا له بصريح العبارة: إذا أردت أن تنجح في الدكتوراه فتجنب انتقاد شاخت، فإن الجامعة لن تسمح لك بذلك، وعندئذ حوَّل موضوع رسالته إلى "معايير نقد الحديث عند المحدثين" فوافقوه.مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون ص75، 76. د. مازن مطبقاني: من قضايا الدراسات العربية الإسلامية في الغرب ص14. د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص35. د. مازن مطبقاني: أهمية إنشاء أقسام الدراسات الروسية في الجامعات السعودية، صحيفة الجزيرة، بتاريخ 23 محرم 1428هـ. (11/2/2007م). د. مازن مطبقاني: متى ينشأ علم الاستغراب، مقال منشور بمدونته "من آفاق الكلمة" بتاريخ 25/4/2012م. محمد رشيد رضا: مجلة المنار 17/10. والمقال بتاريخ المحرم 1332هـ (= ديسمبر 1913م). د. مازن مطبقاني: متى ينشأ علم الاستغراب، مقال منشور بمدونته "من آفاق الكلمة" بتاريخ 25/4/2012م. د. مازن مطبقاني: متى تبدأ دراسة الولايات المتحدة في الجامعات السعودية، مقال منشور بمدونته "من آفاق الكلمة" بتاريخ 6/1/2013م. باختصار وتصرف.
إنه مهما تحمس نفرٌ لعلم من العلوم، ومهما دعت الحاجة إليه، فسيظل الواقع والحقيقة والتاريخ يؤكدون أن العلوم لا تزدهر إلا إذا تبناها الملوك، أو على أقل تقدير وفَّروا لها من إمكانيات الدولة ما يقيمها حتى تستوي على عودها وتتحول إلى واقع ومؤسسات ومدارس، فحينئذ يمكن لها أن تستكمل الطريق بنفسها وإن غفل عنها صاحب السلطان.
وهذه الحقيقة يشهد لها تاريخ الزمن القديم قبل عصر الدولة المركزيةوتقرير هذه الحقيقة لا يعني الصدَّ عن الموضوع ولا إثارة اليأس والإحباط، بل هو احترام للحقائق، ولكي يُبذل المجهود الصحيح في مكانه المثمر. إنه ما لم تتوافر الإرادة السياسية لدعم العلوم فلن تزدهر، فإذا ما كانت هذه الإرادة تعاند العلوم فإنها لن تقوم. وتجربة الاستشراق تخبرنا بأنه لم يصر علما إلا حين تبناه ورعاه البابوات -وهم يومئذ أصحاب النفوذ- فلما ذهب نفوذهم رعاه الملوك لما يحقق لهم من خدمات في مشاريع الاستعمار والتوسع.
وعلى كل حال فإننا سنمضي في وضع رؤية للبداية في علم الاستغراب، كأنما توفرت هذه الإرادة أو تيسر لأحد أن يُقْنِع ذا نفوذ بأهمية الموضوع.
وأول خطوة في بدء العلوم هو:
1. إنشاء مؤسسات
لم تعد العلوم يكفيها أن يقوم بها واحد مهما كان فذًّا، لقد صار كل شيء متشعبا إلى حد لا يصلح معه إلا التخصص، بل والتخصص الدقيق أيضا، كما أن العالم مهما بلغ من المجد لا يبقى علمه إلا إن كان له تلاميذ يحفظون علمه وينشرون مذهبه، ومشهورٌ تأسُّف الشافعي على ضياع مذهب الليث بن سعد وكان يرى أنه أفقه من مالك ولكن أصحابه لم يقوموا بهوأهم المؤسسات التي ينبغي إنشاؤها ليتدشن علم الاستغراب ثلاثة: أقسام في الجامعات، مراكز بحثية، معاهد تعليم اللغات.
أ- فأما معاهد تعليم اللغات فقد نشأت لضرورات التعلم والسفر والهجرة الناشئة عن تخلفنا وتقدمهم، فلا أحسب أننا نحتاج للمزيد منها، ولكن نحتاج لدعمها بحيث لا تقتصر على مهارات تعلم اللغة بغرض التواصل الشخصي أو العمل، بل تعمل على ضرورات إتقان اللغة وآدابها بغرض الاطلاع على الآثار العلمية والأدبية المكتوبة بها.
ومن ثَمَّ فنحن على الحقيقة لا نحتاج إلا إلى خطوتين؛ الأولى: رفع الواقع لنعرف خريطة توزع هذه المعاهد على اللغات الغربية، فلربما اكتشفنا أن بعض اللغات تحتاج مزيدا من المعاهد لتغطية الحاجة. والثانية: تفعيل المعاهد القائمة بحيث تؤدي برامجها إلى إتقان اللغات بغرض التعمق في آدابها.
وقد لا نحتاج إلى أية تكاليف لهذه الأمور، بل لعل سفارات هذه الدول المهتمة بنشر لغتها وبعض جمعياتها ومراكزها تقوم بالأمر كله.
ب- وأما المراكز البحثية فهي المؤسسات التي تحتاج دعما قويا، لأنها بطبيعتها لا تغطي تكاليفها، ولا يكاد يوجد مركز بحثي يمكن أن يكون مشروعا مربحا، فلذلك لا تخرج المراكز البحثية عن إحدى هذه الحالات: إما أن تكون واجهة لدولة، أو لأجهزة أمنية أو استخباراتية، أو قائمة على تبرعات المخلصين لرسالتها. وهذه الحالة الأخيرة لا تناسب ما نرجوه من الشروع في موضوع ضخم بحجم علم الاستغراب، فلا مناص أن تنفق عليها دولة، أو يخصص لها وقف كبير يمكنه أن يمول مشروعا بهذا الحجم. ويفضِّل البعض أن تكون المراكز البحثية ملحقة بالجامعات والمعاهد فتكون ضمن ميزانيتها ويكون هذا أدعى وأضمن لاستمرارها.
جـ- ومن هنا يأتي الحديث عن إنشاء أهم المؤسسات قاطبة، وهو إنشاء أقسام بالكليات تختص بعلم الاستغراب، تتطور لاحقا إلى كليات متخصصة ثم إلى جامعات متخصصة في مرحلة لاحقة، وقد رأينا كيف أن الاستشراق لم يأخذ سبيله نحو النضوج إلا حينما أنشئت كراسي للغات الشرقية في الجامعات الغربية. ويعد إنشاء أقسام بالكليات هو أهم وأول خطوة يمكن اتخاذها في هذا السبيل، وذلك أنها تحقق عددا من المزايا ليست لغيرها:
§ تستثمر طاقة الطلاب وهم في مقتبل أعمارهم وموفور نشاطهم البدني والذهني.§ تؤسس لمستغربين متخصصين في عُمْرٍ مبكر، فيكون هذا أدعى لنضوج خبرتهم وعمق معرفتهم.§ تحمل على اجتذاب الخبراء والمتخصصين في هذا المجال بكثرة ولمدة طويلة فيُستفاد بذلك ما لا يُستفاد من الزيارات القصيرة.§ تعفي من الإرهاق المالي وانقطاع وانخفاض التمويل الذي تعاني منه المؤسسات غير الرسمية أو القائمة على التبرعات، إذ هي قد دخلت في ميزانية الجامعة وصارت حقا لا فضلا ولا منة ولا مرتبطة بتغير السلطات.§ وإنشاء الأقسام سيضع البذرة لتحول هذه الأقسام إلى كليات متخصصة ثم إلى جامعات متخصصة فيما بعد.§ كما أن إنشاءها سيدير عجلة التنسيق والتعاون فيما بينها، وكذلك التنسيق والتعاون مع المؤسسات والأقسام والكليات عبر العالم.§ هذا فضلا عن فائدتها العلمية، فكم من موضوع مهم في الاستشراق والاستغراب حالت ظروف عدم وجود أقسام دون إخراجه، فإما أخرجه البعض دون المستوى إذ لا سلطة علمية ولا إشرافا علميا عليه، أو لم يخرج لاحتياجه من الإمكانيات ما فوق طاقة الفرد. كما أنها ستمثل بديلا لأبناء العالم الإسلامي بدلا من نزيف الطاقات والعقول المتواصل بالاضطرار الدائم إلى الدراسة في الغرب لنيل الشهادات العلمية، والتي قد يصحبها أحيانا معوقات فكريةد- ويدخل في باب المؤسسات أمور أخرى أقل تأثيرا لكن يجب الانتباه إليها كذلك، وهي إقامة المعارض والمتاحف المتخصصة في الحضارة الغربية، وتنشيط الملاحق الثقافية بالسفارات في الدول الغربية.
وأول ما ينبغي أن تقوم به هذه المؤسسات أمران؛ الأول: رفع الواقع، والثاني: ودراسة التجارب خلاصات التجارب السابقة. فيتحقق بذلك أفضل ضبط ممكن لمسيرة المشروع.
2. رفع الواقع
ونرى أن رفع الواقع يجب أن يتناول ثلاثة أمور رئيسية: المؤسسات العلمية، والموارد البشرية، والبحوث والمؤلفات الصادرة:
أ- إذ لا بد أن يكون واضحا حجم المؤسسات القائمة (كليات، أقسام، مراكز بحثية، معاهد تعليم لغات، متاحف، معارض، ملاحق ثقافية بالسفارات، جمعيات علمية، مجلات وصحف متخصصة، مراكز ترجمة ... إلخ) والتي يمكن استثمار طاقتها في خدمة علم الاستغراب.
وستتضح من رفع الواقع هذا أمور كثيرة منها:
§ تقييم طاقة المؤسسات القائمة وقدرتها على خدمة علم الاستغراب بوضعها الحالي.§ تقييم مدى إمكانية توجيه هذه المؤسسات ناحية علم الاستغراب بإدخال تعديلات على أوضاعها الحالية، كإضافة أقسام لكليات أو برامج للدراسات العليا أو دورات لمعاهد اللغات أو توجيهات للملاحق الثقافية في السفارات... وهكذا، بحيث ندرك الجهد المطلوب في رفع كفاءة المؤسسات القائمة لتكون بذورا لمؤسسات الاستغراب.§ تقييم حجم النقص الموجود ومدى الحاجة لإنشاء مؤسسات جديدة، إذا تبين من الواقع أن ثمة ما لا يمكن أداؤه من خلال المؤسسات القائمة.
ب- ولا بد أن يحتوي رفع الواقع على إحصائيات تكشف أيضا عن الموارد البشرية مثل: عدد الباحثين الموجودين في مراحل الدراسات العليا والمراكز البحثية، وعدد الطلاب الموجودين في أقسام آداب اللغات الإنجليزية، وعدد الباحثين الأجانب في بلادنا، وعدد المترجمين، والصحف والمجلات المتخصصة في متابعة الشؤون الغربية، وكذلك عدد الباحثين والأساتذة العرب والمسلمين الذين يُدرّسون في الجامعات ومراكز البحوث والدراسات الغربية، وكذلك أيضا عدد من الأساتذة والباحثين الغربيين المعروفين بالاعتدال والنزاهة، فأولئك سنحتاجهم في مرحلة التأسيس كما سيأتي معنا بعد قليل.
وأن تُرفع التوصيات لتجيب عن الصعوبات والمعوقات في إقبال الطلاب على هذه الأقسام أو الباحثين على هذه الموضوعات، وكيف ينبغي أن نزيد من جذب تلك الموارد البشرية إلى هذا المجال، وكيف نرفع كفاءة هذه الطاقات.جـ- كما ولا بد أن يحتوي رفع الواقع هذا على إحصائيات تكشف عن الدراسات السابقة، كرسائل الماجستير والدكتوراة والكتب المؤلفة والمترجمة في الشؤون الغربية، فترتسم بهذا خريطة التأليف والموضوعات التي قتلت بحثا، وخريطة الموضوعات التي تعاني نقصا وتحتاج إلى سد الثغرة فيها. ومن ثم يتم التوجيه إليها.
ومن الطبيعي أن يتكرر رفع الواقع بين الفينة والأخرى، ففي بريطانيا -مثلا- "كلفت الحكومة البريطانية لجنة وزارية بدراسة أوضاع الدراسات الشرقية والأفريقية والأوروبية الشرقية والسلافية عام 1947 وهي التي عرفت بلجنة سكاربرو، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبالتحديد في عام 1961 كونت لجنة أخرى لدراسة الموضوع ذاته برئاسة السير وليام هايتر وأصبح يطلق على اللجنة اسم رئيسها وليام هايتر وحتى الأموال التي خصصتها للجامعات أصبحت تعرف بأموال هايتر3. دراسة التجارب السابقة
والتجارب السابقة في موضوعنا هذا قسمان: تجارب البحوث والدراسات بشكل عام، وتجارب الاستغراب السابقة بشكل خاص.
أ- فأما تجارب البحوث والدراسات، فلأننا إذ نبدأ التأسيس لعلم جديد سنواجه عددا من المشكلات المعروفة مثل: نقص الكوادر، نقص الدراسات، حجم التمويل، التنسيق بين المؤسسات، الرقابة على هذه المؤسسات بحيث تؤدي عملها بأفضل كفاءة، وغيرها. ولنضرب بعض الأمثلة على مشكلتيْ نقص الدراسات ونقص الكوادر:
§ مشكلة نقص الدراسات:
تعاملت الجامعات الأمريكية مع مشكلة نقص دراسات الشرق الأوسط عبر "توزيع الاهتمام بالعالم العربي والإسلامي على مختلف الأقسام، كما في جامعة برنستون مثلا أو معهد الشرق الأوسط كما في جامعة كولمبيا أو جامعة كاليفورنيا بمدينة بيركلي، وهذا القسم والمعهد يقومان بالتنسيق بين قسم دراسات الشرق الأوسط والأقسام العلمية المختلفة، فهناك طالب متخصص في الاجتماع ويرغب في تطبيق ما تعلمه في هذا العلم على بلاد الشرق الأوسط، وكذلك الأمر في علم الاقتصاد أو علم الإنسان وغيرهما من العلوم"§ مشكلة نقص الكوادر:
لقد بدأت دراسة الاستشراق في أمريكا منذ بداية القرن التاسع عشر، "ولكنها بعد الحرب العالمية الثانية وجدت نفسها مضطرة لتحل محل بريطانيا في الشرق الأوسط أو في البلاد العربية الإسلامية، ووجدت نقصا إن لم يكن عجزا في الكوادر المؤهلة لفهم العالم العربي الإسلامي، فـ:
- أصدرت الحكومة الأمريكية مرسومًا لتمويل عدد من المراكز؛ لدراسة اللغة العربية والتركية والفارسية والأوردو ودراسات الأقاليم أو دراسة المناطق. - وبعد البدء في برامج اللغات العربية استعانت الجامعات الأمريكية بعدد من أساتذة الجامعات البريطانيين بخاصة، والأوروبيين بعامة، لتدريس الاستشراق في الجامعات الأمريكية.- كما بدأت الاستعانة ببعض أبناء المنطقة لإنشاء أقسام دراسات الشرق الأدنى، كما فعلت جامعة برنستون حينما كلّفت فيليب حِتّي لإنشاء القسم في الجامعة"وفي الغربيين كثيرٌ يمكن الاستعانة بهم في فهم مجتمعاتهم، وقد قال الشيخ محمد رشيد رضا، منذ وقت مبكر، بأنه ينبغي علينا "أن نستعين على ما نستمده منهم، بأهل الفضيلة والاستقلال من رجالهم، الذين ليس لهم فينا أهواء دينية، ولا مطامع سياسية استعمارية، وبهذا نكون مهتدين بما أمرنا الله به"ب- تجارب الاستغراب
"يجب أن تستفيد من البلاد التي سبقتنا في هذا المجال، ومن ذلك أن عددا من البلاد الأوروبية قد أنشأت معاهد للدراسات الأمريكية، فهناك معهد الدراسات الأمريكية التابع لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن، كما أن جامعة مونتريال فيها معهد للدراسات الأمريكية وكذلك في ألمانيا. وقد أنشأت باكستان معهدا للدراسات الأمريكية"كذلك فإن لليابان تجربة قوية في الاستغراب، وخصوصا دراسة أمريكا، فقد "تكونت فيها العديد من البرامج للدراسات العليا والجامعية، كما تأسس فيها عدد من المؤسسات والهيئات التي تعنى بدراسة المناطق والأقاليم ومنها على سبيل المثال: الرابطة اليابانية للدراسات الأمريكية، والرابطة اليابانية لدراسة المناطق، والرابطة اليابانية للدراسات الأوروبية ومركز دراسات المناطق المدمج الذي تأسس في جامعة كيوتو. لقد بدأت مرحلة الانفتاح في اليابان عام (1853م) بعد عزلة استمرت ثلاثة قرون، وبدأت معها مرحلة تقليد الغرب غير أن مرحلة التقليد هذه لم تأخذ وقتا طويلا حتى أدركت اليابان أنها في حاجة إلى فهم الأمم الأخرى ودراستها دراسة علمية أكاديمية فبذلت الكثير من الأموال والميزانيات لتحقيق هذه الدراسات، وهذا ما دفعها لتنشئ العديد من مراكز البحوث والمعاهد والأقسام العلمية بعضها للمرحلة الجامعية وبعضها الآخر للدراسات العليا؛ فقد أنشأت جامعة دوشيشا مركز الدراسات الأمريكية عام 1958م، ثم تطور هذا القسم إلى برنامج للدراسات العليا في دراسات الولايات المتحدة عام 1991م وهو أول برنامج من نوعه في اليابان الذي لا يعتمد على دراسات جامعية. ويهدفون من هذا أن يحصل الطالب على تخصص في علم من العلوم المعروفة ثم ينطلق إلى دراسة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد نشأ القسم بدعم من لجنة العلاقات اليابانية الأمريكية وبدعم سخي منها ومن الحكومة اليابانية التي لديها العديد من المؤسسات لدعم البحث العلمي، وأصبح هذا البرنامج من أهم برامج دراسات الولايات المتحدة في اليابان. ويفخر هذا البرنامج بقيام العديد من أعضائه بنشر إنتاجهم العلمي في العديد من دور نشر الجامعات المختلفة مثل أكسفورد وستانفورد وكورنيل وغيرها. أمّا جامعة طوكيو فلديها مركز لدراسات دول المحيط الهادي والأمريكية وقد تأسس عام 2000م بعد أن كانت الجامعة قد أنشأت مركز الدراسات الأمريكية عام 1967م، وكان الهدف منه جمع المعلومات الأساسية والثانوية حول السياسات والاقتصاد والثقافة في الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك المواد المتعلقة بالعلاقات اليابانية الأمريكية. ولما أعيد تأسيس المركز ليضم دول المحيط الهادي تكونت لجنة مختارة من كليات الدراسات العليا في الآداب والعلوم والقانون والاقتصاد والعلوم الإنسانية والتربية وكذلك من معاهد العلوم الاجتماعية ومعاهد أخرى تهتم بالمعلومات والاتصال. ولدى المركز مكتبة متخصصة تحتوي ألوف الكتب بالإضافة إلى قسم الميكروفيلم الذي تستطيع أن تقرأ فيه الصحافة الأمريكية لعشرات السنين. وهناك مراكز أخرى في اليابان مثل جامعة كوبيه Kobe التي تضم كلية دراسات التبادل الثقافي التي تهتم بالعلاقات الثقافية بين الشعوب والأمم ولديها عدد من أعضاء هيئة التدريس المتخصصين في دراسة الشعوب والأمم الأخرى، ولهذه الجامعة علاقة وثيقة بالمؤسسة اليابانية التي تسعى إلى دعم التبادل الثقافي بين اليابان والشعوب الأخرى من خلال برامج الزيارات القصيرة وبرامج زيارات لمدد مختلفة"نشر في ساسة بوست
الضبي: بغية الملتمس ص511، 512 بتصرف. ابن الجوزي: المنتظم 14/29. دَوْر السلطة -في تاريخنا الحضاري- أشبه بمن يطلق الشرارة أو يبذر البذرة، التي ترعاها الأمة فيما بعد، فيستمر حصادها حتى ولو ضعفت السلطة أو ذهبت بالكلية، ولئن كنا نفخر عن حق بأن أمتنا كانت تمول نهضتها الحضارية بنفسها عبر نظام الوقف، فإن المهم الذي نركز عليه في هذا السياق أن هذا ما كان ليحدث لولا أن بدأت السلطة بإطلاق ما نسميه "الشرارة الحضارية" كقرار تدوين الدواوين وقرار تعريب العملة وقرار جمع الكتب القديمة وقرار ترجمة تراث الأقدمين، ونحو هذا مما لم يكن ليحدث لولا أن بدأه ذو سلطة ونفوذ. أبو يعلى الخليلي: الإرشاد في معرفة علماء الحديث 1/201. قال الشيخ مصطفى السباعي: حدثَنا الدكتور أمين المصري -وهو خريج كلية أصول الدين في الأزهر وكلية الآداب ومعهد التربية في جامعة القاهرة- عما لقيه من عناء في سبيل موضوع رسالته التي أراد أنْ يتقدم بها لأخذ شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعات إنجلترا. لقد ذهب إليها منذ بضع سنوات لدراسة الفلسفة وأخذ شهادة الدكتوراه بها، وما كان يطلع على برامج الدراسة -وخاصة دراسة العلوم الإسلامية فيها- حتى هاله ما رآه من تحامُل ودس في كتب المستشرقين، وخاصة "شاخت"؛ فقرر أن يكون موضوع رسالته هو نقد كتاب شاخت في تاريخ الفقه الإسلامي. وتقدم إلى البروفسور أندرسون ليكون مشرفا على تحضير هذه الرسالة وموافقا على موضوعها، فأبى عليه هذا المستشرق أن يكون موضوع رسالته نقد كتاب شاخت وعبثا حاول أن يوافق على ذلك، فلما يئس من جامعة لندن، ذهب إلى جامعة كامبردج وانتسب إليها، وتقدم إلى المشرفين على الدراسات الإسلامية فيها برغبته في أن يكون موضوع رسالته للدكتوراه هو ما ذكرناه، فلم يُبدوا رضاهم عن ذلك، وظن أن من الممكن موافقتهم أخيرا، ولكنهم قالوا له بصريح العبارة: إذا أردت أن تنجح في الدكتوراه فتجنب انتقاد شاخت، فإن الجامعة لن تسمح لك بذلك، وعندئذ حوَّل موضوع رسالته إلى "معايير نقد الحديث عند المحدثين" فوافقوه.مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون ص75، 76. د. مازن مطبقاني: من قضايا الدراسات العربية الإسلامية في الغرب ص14. د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص35. د. مازن مطبقاني: أهمية إنشاء أقسام الدراسات الروسية في الجامعات السعودية، صحيفة الجزيرة، بتاريخ 23 محرم 1428هـ. (11/2/2007م). د. مازن مطبقاني: متى ينشأ علم الاستغراب، مقال منشور بمدونته "من آفاق الكلمة" بتاريخ 25/4/2012م. محمد رشيد رضا: مجلة المنار 17/10. والمقال بتاريخ المحرم 1332هـ (= ديسمبر 1913م). د. مازن مطبقاني: متى ينشأ علم الاستغراب، مقال منشور بمدونته "من آفاق الكلمة" بتاريخ 25/4/2012م. د. مازن مطبقاني: متى تبدأ دراسة الولايات المتحدة في الجامعات السعودية، مقال منشور بمدونته "من آفاق الكلمة" بتاريخ 6/1/2013م. باختصار وتصرف.
Published on June 04, 2016 00:31
May 27, 2016
فصل السياسي عن الدعوي استسلام للعلمانية
لا ريب أن العبارات المراوغة لا تمثل حلاًّ بل هي جزء من المشكلة، ولا ريب كذلك أنه لا يمكن فصل قول القائل عن فكره ونهجه وعن سياق القول وظرفه وما يُراد به في الواقع! وراشد الغنوشي اليوم ليس مجرد مفكر أعجبه رأي فبحثه ثم تبناه بل هو زعيم حزب مشتبك في المشهد التونسي، بل هو الطرف المُصَوَّبة إليه السهام فيه، فكيف إذن ينبغي أن ننظر إلى فكرته في فصل الدعوي عن السياسي؟!
في هذا الموضوع لا بد من تثبيت بعض الأمور أولا:
1. أصل الخلاف بين الإسلام وبين العلمانية (ونموذجها التطبيقي: الدولة الحديثة) هو كون الإسلام نظاما متكاملا وليس مجرد دين بالمعنى الذي يفهمه الغربي، هو على نحو ما يقول المستشرق البريطاني المعروف هاملتون جب: "الإسلام ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات، إنه أعظم من ذلك كثيرا، هو مدنية كاملة، ولو بحثنا عن لفظ مقابل له لقلنا: العالم المسيحي ولم نقل المسيحية، ولقلنا الصين بدل أن نقول ديانة كونفوشيوس"وحيث كنا في زمن استضعاف للأمة الإسلامية وهيمنة للنموذج العلماني، فإن فريقا من المنتسبين إلى الفكر الإسلامي أرادوا حل هذه الإشكالية بحشر الإسلام في مقياس ونظام الدولة الحديثة، وكان من أكثرهم تسارعا في هذا راشد الغنوشي الذي صدرت كتاباته تُلِحُّ على هذا المعنى، واستعان في هذا بكل ما وجده من آراء فقهية شاذة أو استعمال متكلف للأصول ثم استعمال متوسع بلا ضابط للمقاصد، ولما جاء إلى الحكم على ظهر ثورة شعبية، بدأ انحدار آخر متسارع في التنازلات فصار يلتمس لها أحكام الإكراه والاضطرار ولافتة المصالح والمفاسد، ثم لم يسعفه كل هذا فصدرت عنه الكثير من الآراء التي هي علمانية بامتياز ولم يتكلف أن يبحث لها عن "تبرير" شرعي!
لعل الكثيرين لا يعرفون أن الغنوشي بدأ حياته "جهاديا" بالتصنيف المتداول، وقد ذكره مؤرخ الجهاديين أبو مصعب السوري في كتابه "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية"الخلاصة: أن رجلا كهذا حين يتحدث عن "فكرة"، فضلا عن أن تكون فكرة فاصلة في مسيرة الحركة الإسلامية، فلا ينبغي أن تناقش كفكرة مجردة، بل كتبرير سياسي، لرجل تدل مسيرته على تنازلات مستمرة! وكم كان طريفا تعليق عزام التميمي نفسه على هذه الفكرة بقوله: "تتغير القيادة إذا أخفقت في تحقيق البرامج التي وعدت بها أما أن تبقى القيادات وتتغير البرامج والتوجهات وحتى الانتماءات، فهذا "إبداع" غير مسبوق"!
2. وحيث نحن نعيش في زمن استضعاف الأمة الإسلامية والهيمنة الغربية فلقد كان من آثار هذه الهيمنة الثقافية أن مطالب المراجعات لا تُوجَّه لغير الإسلاميين، فلكم صدرت بحوث وعقدت مؤتمرات ورُصِدت ساعات بث ودوريات تطالب الإسلاميين بمراجعة أفكارهم وتصوراتهم وصلاحيتها للحياة (كم مرة سمعت ألفاظ: الإسلاميون والديمقراطية؟!)، حتى أنه لو بُعث في دنيانا من لا يعرفها سيتخيل أن البلاد حكمها إسلاميون ففشلوا ثم حكمها علمانيون فنجحوا! فلذلك انشغلت الحالة الثقافية ببحث الفشل الإسلامي! ومما يزيد العجب أن الذين يسيطرون على هذه الحالة هم علمانيون في الجملة، ولا يكاد يوجد اختبار حرية أو ديمقراطية في بلد أحد منهم إلا وكان واقفا إلى جوار المستبد يفصل له النظريات والتبريرات!
لماذا لم يُطالب العلمانيون –وقد امتد حكمهم في أقل الأحوال لستين سنة، وبلغوا في أحيان أخرى قرنين من الزمان- بمراجعات تصوراتهم وأفكارهم التي أدت إلى هذا الفشل الذريع حتى صارت الأمة في أبأس حالاتها قاطبة عبر كل تاريخها؟!
يمكن قول الكثير في هذا الباب لكن المقام لا يتسع، لكن الذي يهمنا هنا هو أن الغنوشي نفسه والذي يمثل حالة واسعة من "التجاوب" مع مطلب المراجعات ووصل إلى حالة بعيدة في إثبات إمكانية خضوع الإسلام للديمقراطية والدولة الحديثة، نقول: هذا الشخص نفسه لم يلتفت إليه أحد بجدية لا من الغرب ولا في تونس، وظل في مكانه منفيا لا يستطيع العودة إلى بلده ولا يبلغ أكثر من كتابة المزيد من "المراجعات"، فلا مراجعاته غيرت وضعه السياسي ولا من طالبوه بها تقدموا خطوة تجاهه ردا على خطواته تجاههم!
لم يتغير وضع الغنوشي في عالم السياسة إلا عبر ثورة شعبية لا يجرؤ أحد أن يقول إنها متأثرة بأفكاره أو منطلقة منها، وهذا في حد ذاته درس لمن يتصور أن مزيدا من "المرونة الفكرية" قد يوصل إلى شيء في عالم السياسة.
3. أول ما يُقال في تسويق فكرة "فصل الدعوي عن السياسي" أن شمولية الإسلام لا تعني شمولية الجماعة، وأن التخصص مطلوب، وأن شيخ المسجد لا يجيد بالضرورة مهارة السياسي، وأن السياسي يتحرك دائما في إطار المباح الاجتهادي لا في أبواب الحرام والحلال فليس يشترط فيه أن يكون فقيها... إلخ!
لا بأس، سنعتبر جدلا أن هذا كله حق، لكن السؤال البديهي سيكون: من الذي ألزمكم من قبل بكل هذا؟ هل ألزم أحد حركة النهضة أن يمثلها في الوزارة أو المفاوضة شيخ مسجد؟ هل ألزمها أحد أن تعمل في البر والخير إلى جوار عمل السياسة؟ هل تعرض مرشحوهم لاختبارات فقهية قبل تقدمهم إلى الانتخابات؟!
إنه لم يكن في تاريخ الحركة الإسلامية من قال بهذا أبدا، والحركة التي أرادت أن تمثل الإسلام بشموله أرادت أن تفعل ذلك لأنها تصورت قدرتها على هذا لا لأن شمولية الإسلام تلزمها بالشمولية في كل شيء، وظلت الجماعات الإسلامية تعمل في جوانب دون غيرها ولم ينزع عنها أحد صفة الإسلامية لكونها لم تنشط في كل شيء، ولم يعاتب شيخ أنه قال: لا أفهم في هذا الجانب السياسي، كما لم يعاتب سياسي لأنه لا يعلم حكم الشرع في أمر لا يعرض له في عمله!
كل هذه من المناكفات والمراوغات والخداع، فمنذ كان الإسلام كانت تعاليمه قوية واضحة بضرورة تولية الأكفاء، وحفظ التاريخ عن المغيرة بن شعبة نصحه لعمر بن الخطاب "أما القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الضعيف فتقواه لنفسه وضعفه على المسلمين"، وعلى هذا جرى فقه تولية الولايات والوظائف في سائر المدونة الفقهية الإسلاميةفلئن كانت بعض الجماعات صدَّرت غير المتأهل في مجال لا يحسنه فهذا خطأ في ميزان الإسلام، وفي ميزان أدبيات الحركة الإسلامية نفسها، ولا يحتاج تصحيح هذا الخطأ إلى "تجديد" أو "مرونة" فكرية جديدة، بل يحتاج إلى تطبيق الأصول نفسها، وتوظيف المواهب في بابها، والعمل بالصدق والإخلاص والتجرد وترك حظ الدنيا والنفس والشللية والمحسوبيات.
لهذا كله نقول: إن نداء فصل الدعوي عن الحزبي أو الديني عن السياسي ليس مراجعة فكرية ولا هو تصحيح مسار بل هو في هذه الظروف التي أحاطت به مجرد خطوة أخرى من خطوات الاستسلام للعلمانية، والقبول بالثوابت والمسلمات التي تفرضها الدولة القطرية الحديثة، ولهذا فإن أسوأ ما في الأمر أن يُسَوَّق باعتباره تجديدا فكريا أو حلا لمشكلة الحركات الإسلامية.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
هاملتون جب، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، بدون بيانات، ص9. أبو مصعب السوري، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، نسخة إلكترونية ص474، 475، 756 وما بعدها. انظر مقالات "فقه اختيار الرجال للأعمال": الجزء الأول، الثاني، الثالث، الرابع. انظر: نفسية الداعية ونفسية السياسي.
في هذا الموضوع لا بد من تثبيت بعض الأمور أولا:
1. أصل الخلاف بين الإسلام وبين العلمانية (ونموذجها التطبيقي: الدولة الحديثة) هو كون الإسلام نظاما متكاملا وليس مجرد دين بالمعنى الذي يفهمه الغربي، هو على نحو ما يقول المستشرق البريطاني المعروف هاملتون جب: "الإسلام ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات، إنه أعظم من ذلك كثيرا، هو مدنية كاملة، ولو بحثنا عن لفظ مقابل له لقلنا: العالم المسيحي ولم نقل المسيحية، ولقلنا الصين بدل أن نقول ديانة كونفوشيوس"وحيث كنا في زمن استضعاف للأمة الإسلامية وهيمنة للنموذج العلماني، فإن فريقا من المنتسبين إلى الفكر الإسلامي أرادوا حل هذه الإشكالية بحشر الإسلام في مقياس ونظام الدولة الحديثة، وكان من أكثرهم تسارعا في هذا راشد الغنوشي الذي صدرت كتاباته تُلِحُّ على هذا المعنى، واستعان في هذا بكل ما وجده من آراء فقهية شاذة أو استعمال متكلف للأصول ثم استعمال متوسع بلا ضابط للمقاصد، ولما جاء إلى الحكم على ظهر ثورة شعبية، بدأ انحدار آخر متسارع في التنازلات فصار يلتمس لها أحكام الإكراه والاضطرار ولافتة المصالح والمفاسد، ثم لم يسعفه كل هذا فصدرت عنه الكثير من الآراء التي هي علمانية بامتياز ولم يتكلف أن يبحث لها عن "تبرير" شرعي!
لعل الكثيرين لا يعرفون أن الغنوشي بدأ حياته "جهاديا" بالتصنيف المتداول، وقد ذكره مؤرخ الجهاديين أبو مصعب السوري في كتابه "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية"الخلاصة: أن رجلا كهذا حين يتحدث عن "فكرة"، فضلا عن أن تكون فكرة فاصلة في مسيرة الحركة الإسلامية، فلا ينبغي أن تناقش كفكرة مجردة، بل كتبرير سياسي، لرجل تدل مسيرته على تنازلات مستمرة! وكم كان طريفا تعليق عزام التميمي نفسه على هذه الفكرة بقوله: "تتغير القيادة إذا أخفقت في تحقيق البرامج التي وعدت بها أما أن تبقى القيادات وتتغير البرامج والتوجهات وحتى الانتماءات، فهذا "إبداع" غير مسبوق"!
2. وحيث نحن نعيش في زمن استضعاف الأمة الإسلامية والهيمنة الغربية فلقد كان من آثار هذه الهيمنة الثقافية أن مطالب المراجعات لا تُوجَّه لغير الإسلاميين، فلكم صدرت بحوث وعقدت مؤتمرات ورُصِدت ساعات بث ودوريات تطالب الإسلاميين بمراجعة أفكارهم وتصوراتهم وصلاحيتها للحياة (كم مرة سمعت ألفاظ: الإسلاميون والديمقراطية؟!)، حتى أنه لو بُعث في دنيانا من لا يعرفها سيتخيل أن البلاد حكمها إسلاميون ففشلوا ثم حكمها علمانيون فنجحوا! فلذلك انشغلت الحالة الثقافية ببحث الفشل الإسلامي! ومما يزيد العجب أن الذين يسيطرون على هذه الحالة هم علمانيون في الجملة، ولا يكاد يوجد اختبار حرية أو ديمقراطية في بلد أحد منهم إلا وكان واقفا إلى جوار المستبد يفصل له النظريات والتبريرات!
لماذا لم يُطالب العلمانيون –وقد امتد حكمهم في أقل الأحوال لستين سنة، وبلغوا في أحيان أخرى قرنين من الزمان- بمراجعات تصوراتهم وأفكارهم التي أدت إلى هذا الفشل الذريع حتى صارت الأمة في أبأس حالاتها قاطبة عبر كل تاريخها؟!
يمكن قول الكثير في هذا الباب لكن المقام لا يتسع، لكن الذي يهمنا هنا هو أن الغنوشي نفسه والذي يمثل حالة واسعة من "التجاوب" مع مطلب المراجعات ووصل إلى حالة بعيدة في إثبات إمكانية خضوع الإسلام للديمقراطية والدولة الحديثة، نقول: هذا الشخص نفسه لم يلتفت إليه أحد بجدية لا من الغرب ولا في تونس، وظل في مكانه منفيا لا يستطيع العودة إلى بلده ولا يبلغ أكثر من كتابة المزيد من "المراجعات"، فلا مراجعاته غيرت وضعه السياسي ولا من طالبوه بها تقدموا خطوة تجاهه ردا على خطواته تجاههم!
لم يتغير وضع الغنوشي في عالم السياسة إلا عبر ثورة شعبية لا يجرؤ أحد أن يقول إنها متأثرة بأفكاره أو منطلقة منها، وهذا في حد ذاته درس لمن يتصور أن مزيدا من "المرونة الفكرية" قد يوصل إلى شيء في عالم السياسة.
3. أول ما يُقال في تسويق فكرة "فصل الدعوي عن السياسي" أن شمولية الإسلام لا تعني شمولية الجماعة، وأن التخصص مطلوب، وأن شيخ المسجد لا يجيد بالضرورة مهارة السياسي، وأن السياسي يتحرك دائما في إطار المباح الاجتهادي لا في أبواب الحرام والحلال فليس يشترط فيه أن يكون فقيها... إلخ!
لا بأس، سنعتبر جدلا أن هذا كله حق، لكن السؤال البديهي سيكون: من الذي ألزمكم من قبل بكل هذا؟ هل ألزم أحد حركة النهضة أن يمثلها في الوزارة أو المفاوضة شيخ مسجد؟ هل ألزمها أحد أن تعمل في البر والخير إلى جوار عمل السياسة؟ هل تعرض مرشحوهم لاختبارات فقهية قبل تقدمهم إلى الانتخابات؟!
إنه لم يكن في تاريخ الحركة الإسلامية من قال بهذا أبدا، والحركة التي أرادت أن تمثل الإسلام بشموله أرادت أن تفعل ذلك لأنها تصورت قدرتها على هذا لا لأن شمولية الإسلام تلزمها بالشمولية في كل شيء، وظلت الجماعات الإسلامية تعمل في جوانب دون غيرها ولم ينزع عنها أحد صفة الإسلامية لكونها لم تنشط في كل شيء، ولم يعاتب شيخ أنه قال: لا أفهم في هذا الجانب السياسي، كما لم يعاتب سياسي لأنه لا يعلم حكم الشرع في أمر لا يعرض له في عمله!
كل هذه من المناكفات والمراوغات والخداع، فمنذ كان الإسلام كانت تعاليمه قوية واضحة بضرورة تولية الأكفاء، وحفظ التاريخ عن المغيرة بن شعبة نصحه لعمر بن الخطاب "أما القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الضعيف فتقواه لنفسه وضعفه على المسلمين"، وعلى هذا جرى فقه تولية الولايات والوظائف في سائر المدونة الفقهية الإسلاميةفلئن كانت بعض الجماعات صدَّرت غير المتأهل في مجال لا يحسنه فهذا خطأ في ميزان الإسلام، وفي ميزان أدبيات الحركة الإسلامية نفسها، ولا يحتاج تصحيح هذا الخطأ إلى "تجديد" أو "مرونة" فكرية جديدة، بل يحتاج إلى تطبيق الأصول نفسها، وتوظيف المواهب في بابها، والعمل بالصدق والإخلاص والتجرد وترك حظ الدنيا والنفس والشللية والمحسوبيات.
لهذا كله نقول: إن نداء فصل الدعوي عن الحزبي أو الديني عن السياسي ليس مراجعة فكرية ولا هو تصحيح مسار بل هو في هذه الظروف التي أحاطت به مجرد خطوة أخرى من خطوات الاستسلام للعلمانية، والقبول بالثوابت والمسلمات التي تفرضها الدولة القطرية الحديثة، ولهذا فإن أسوأ ما في الأمر أن يُسَوَّق باعتباره تجديدا فكريا أو حلا لمشكلة الحركات الإسلامية.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
هاملتون جب، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، بدون بيانات، ص9. أبو مصعب السوري، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، نسخة إلكترونية ص474، 475، 756 وما بعدها. انظر مقالات "فقه اختيار الرجال للأعمال": الجزء الأول، الثاني، الثالث، الرابع. انظر: نفسية الداعية ونفسية السياسي.
Published on May 27, 2016 06:49
May 26, 2016
عشرة أمور تدفعنا وتدعمنا في دراسة الغرب
نحتاج قبل أن نبدأ في تأسيس علم الاستغراب (الذي يعني: دراسة الغرب وحضارته) أن ننظر في مواردنا وما نملكه من قدرة، وحينئذ سنجد أنفسنا نتمتع بنقاط قوة، كما سنجد أنفسنا إزاء فُرَصٍ سانحة يمكن استثمارها، والفارق بين نقط القوة وبين الفرصة أن الأولى هي ما نملكه والثانية هي ما لا نملكه لكن القدر ساقه إلينا.
1. نقاط القوة
أول نقاط القوة هي ما لدينا من نصوص الوحي، والتي تمثل الحقيقة المطلقة في وصف الإنسان ودوافعه وطموحاته وطرق ضلاله وطريق هدايته، فالتفقه في هذه النصوص يكوِّن حاسة البصيرة في أحوال الإنسان والأمم والحضارات وسنن قيامها وسقوطها وعوامل قوتها وانهيارها. ومن طبيعة نصوص الوحي أنها لا تتكشف إلا بالتعمق فيها وفي موضوعها، فلا يغني النظر فيها وحدها شيئا، كذلك لا يغني النظر في الواقع وحده شيئا، بل لا بد من اكتشاف الواقع بنور الوحي، وفهم الوحي عبر معالجة الواقع، وأوضح مثال على هذا هو قضية الإعجاز العلمي في القرآن، إذ لا يُعرف وجه الإعجاز في الآية إلا من خلال ممارسة العلم.
وثاني نقاط القوة هي ما لدينا من تراث تاريخي زاخر أخذ الغرب منه نصيبا لا بأس به، وهو يشمل أقوال الصحابة والتابعين وكل المجهودات المبذولة علميا والتي تناولت الغرب بوجه من الوجوه، فإن فيها نظرات وآراء عميقة وسديدة، كتفسير عمرو بن العاص رضي الله عنه لقول النبي r: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس" بأن ذلك لأن "فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة وجميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك"وثالث نقاط القوة التي نملكها هي العدد الكبير من المسلمين في الغربرابع نقاط القوة هي كثرة المبتعثين إلى الغرب من الطلاب والباحثين، فإنه ببعض الإجراءات البسيطة والحوافز المشجعة يمكن الاستفادة من طاقات هؤلاء في أن يكونوا بذورا لمستغربين، فإنهم في أول الشباب وهو ذروة النشاط وقلة الارتباط وقوة الطموح والشوق لتحقيق الإنجاز، كما أنهم مبتعثون بطبيعة الحال، فلا يكلف الأمر إلا قليلا من التفكير والترتيب وربما القليل من المال للتحفيز أو تغطية بعض التكاليف الزائدة.
خامس نقاط القوة هي ما تملكه بعض البلدان وبعض الأثرياء من القدرة المالية على تمويل بحوث وبرامج في مراكز الدراسات والمعاهد البحثية في الغرب، لا لدراستنا نحن أو لمنع تشويه صورتنا كما هو الحال فيما سبق، بل لتقديم دراسات وبحوث عن الغرب نفسه.. ويمكن اعتبار هذه خطوة أولى في دراسة الاستغراب حتى نبني وننشئ مؤسساتنا وإلى حين نضوجها، بل إن التعاون مع هذه المراكز البحثية يساعد في تدريب وتأهيل كوادرنا ومؤسساتنا البحثية وأقسامنا الجامعية المزمع إنشاؤها لدراسة الغرب.
2. الفرص:
وأما الفرص المتاحة للشروع في علم الاستغراب فأولها: ما أنتجه الغرب عن نفسه وصفا وتشريحا وتحليلا، من بحوث أو مواد صحفية أو برامج تلفازية، وذلك أن الدراسات التي كتبها الغربيون عن أنفسهم توفر لنا وقتا كبيرا في كثير من الأشياء التي ينبغي بحثها، وهي -في أسوأ الأحوال، وعلى أقل تقدير- تقدم لنا خلاصة رأي لا بد سنحتاجه في فهم وتفسير ما يحدث في الغرب وفي تفسير الغرب لنفسه. وقد صدرت في هذا الباب بحوث كثيرة قيمة لا يمكن تجاوزها في رصد ما يحدث وتوقعاتهم لما يترتب على هذا الرصد في المدى القريب والبعيد. وتزيد قيمة هذه البحوث لأن ثمة عادة أو ثقافة ترسخت لديهم في الشفافية والمصارحة البحثية، حتى إن التقارير الإدارية لعدد من الشركات الاقتصادية -والتي تنشر علنا- تكشف عن نقاط الضعف فيها وعن التهديدات المحتملة من المنافسين وعن خططها القريبة، كذلك فإن المؤسسات الدولية التي أنشئت لتوفير المعلومات أو تبادلها أو مراقبة الجودة عملت على زيادة حركة تدفق المعلومات عن الشركات والمؤسسات والمصانع، وهذا بالإضافة إلى زيادة الصحف ووسائل الإعلام وصدور العديد من الصحف والقنوات والشبكات المتخصصة في جانب بعينه. لقد أدى كل هذا إلى حركة تدفق غزيرة من المعلومات، حتى صارت هذه الغزارة من عوامل التشوش والفوضى المعلوماتية، إذ إن خلو حركة الحرية من الأخلاق ووجود مراكز قوى ونفوذ إنما يؤثر على صحة المعلومة ودقتها.
وهذا عائد -فيما أظن- في أصله إلى أمن العاقبة مع الفارق الكبير بين الغرب وبين خصومه، بسبب من هذا التخلف المزري الذي يعيشه العالم الإسلامي، مع حرص الغرب على استمرار وبقاء هذا التخلف.
ولا يعني هذا أنه ليس ثمة أسرار بل إن بحوثا كثيرة علمية تحظى بالمكان السريوثاني هذه الفرص هي ما لدينا من تراث المتغربينأنفسهم، فما كتبه المنبهرون بالغرب -وإن كان من علامات نكبتنا الحضارية- يمكن اعتباره فرصة من حيث إنه أراد أن يعطينا صورة صادقة عن الفكر المطروح، فَنَقله عندنا وروَّجه من يؤمن به ويُجمِّله، لا من يكرهه ويعاديه فيُخشى من تأثير ذلك على طرحه، فهي صورة للفكر الغربي في أحسن صوره، وبذلك وَفَّر علينا القوم عمليات ترجمة وتتبع وتحليل واستخلاص، وبقي أن ننظر في هذا التراث نظرة الدارس الفاحص المتأمل المنطلق من أصوله الإسلامية. ولقد زاد في مظاهر النكبة -الذي نعتبره في هذا الموطن من الفرص- أن كان لكل مذهب غربي بعضٌ يمثلونه في بلادنا، فظهر لدينا أتباع الوجودية والوضعية المنطقية والشخصانية والجوانية والماركسية والديكارتية... إلخ.
وثالث هذه الفرص هي أن التراث الفكري الغربي مجموع ومخدوم، فلسنا سنعاني مجهودا كبيرا في الجمع والفهرسة والتحقيق كالذي عاناه المستشرقون في جمع التراث الإسلامي وتحويله من مُفَرَّقٍ إلى مجموع ومن مخطوط إلى مطبوع، بل إن تطور علم المكتبات وقيام مؤسسات كبرى في جمع التراث الإنساني كله قد سهل من عملية الحصول على الـمُراد بأيسر الإجراءات.
ورابع هذه الفرص هي الثورة الإعلامية، فالجالس في البلاد الإسلامية باستطاعته متابعة العديد من وسائل الإعلام الغربية، المقروءة والمسموعة والمرئية، وهذه النوافذ التي لم تكن متاحة من قبل إلا بالسفر صارت الآن متاحة بضغطة زر، فهي تمثل أبوابا واسعة لمتابعة الغرب ومجتمعاته وما يدور فيه، بل إن العربي الذي لا يجيد لغة غربية واحدة يستطيع أن يشاهد العديد من القنوات الأجنبية المترجمة، لا سيما قنوات الترفيه والأفلام، ونعم فإن هذا من ظواهر التغريب في بلادنا إلا أنها في ذات الوقت فرصة يمكن من خلالها الاطلاع على الغرب واكتناه بعض جوانبه، وسنجد كثيرا من هذه البرامج تعبر أصدق تعبير عن بعض الجوانب العميقة في الشخصية الغربيةوخامس هذه الفرص هي ثورة الاتصالات التي وفرت سهولة واسعة في متابعة التفاصيل الصغيرة، حتى المدونات الشخصية وصفحات الفيس بوك وتويتر وأمثالها، ومع ذلك سهولة واسعة في إنشاء العلاقات ومتابعة أنشطة الحياة في الغرب. لقد فتح الانترنت آفاقا لم تكن تخطر على بال في انتقال المعلومات والانفتاح على كافة المجالات والتعاون بين ذوي الميول المتشابهة في تطوير وتنمية أنفسهم والتواصل مع أرباب هذه المجالات.
إنه لا يسع علم الاستغراب أن يتجاهل عالم الانترنت، بل إن مواقع التواصل الاجتماعي تحتاج فرقا متخصصة لتحليل المواد المنشورة عليها، تتوفر على دراستها وقراءة اتجاهاتها واستبطان أعماقها.
إن ثورة الاتصالات هذه تصب في صالح الأضعف أكثر مما تصب في صالح الأقوى، وإن كان الأقوى هو الأكثر استفادة منها في الواقع، ويورد الباحثون أن ما حصلته الهند والصين بأثر من "سيولة المعرفة" من شأنه أن يمثل "تحديا للولايات المتحدة نفسها حتى تطور من نفسها بسرعة، وتحافظ على مكانتها في هذا الكوكب"نشر في ساسة بوست
مسلم (2898). بحسب موقع "كتاب الحقائق" التابع للمخابرات الأمريكية، يبلغ عدد المسلمين في أمريكا نحو 2 مليون مسلم، وبحسب إحصائيات عديدة يتراوح عدد المسلمين في أوروبا بين 44 - 53 مليونا (بما في ذلك الأتراك في الجزء الأوروبي من تركيا). من ألطف ما يمكن أن يُضرب به المثل هنا هو كتاب د. باسم خفاجي "رهن الاعتقال" والذي سرد فيه تجربته إذ كان معتقلا في السجون الأمريكية لمدة أحد عشر شهرا، فكشف بهذا الكتاب عن بيئة لا يصل إليها الباحثون، ولئن وصلوا بعد عنت فلن يتمكنوا من التعمق في تفاصيلها كالذي عايشها، وليس المقصود بيئة المجرمين فحسب، بل طبقاتهم ومشكلاتهم ووسائل تحايلهم على القانون، وثغرات القانون، وجهاز الشرطة نفسه ونقاط التقاء المتناقضين في التهريب والمصالح المتبادلة ونحو ذلك. ليس يخفى على كاتب هذه السطور ما يعانيه المسلمون في الغرب من مشكلات اقتصادية واجتماعية وثقافية، مما يبدو للوهلة الأولى وكأن ما يُقال هنا من قبيل الأحلام، لكن كل هذا لا يعيق الاستفادة من هذا العدد الكبير من المسلمين الذين يعيشون في الغرب، بل قد يكون مشروع الاستفادة منهم هذا هو ذاته بعض الحل لمشكلاتهم تلك. ذكر د. مازن مطبقاني في ورقة بحثية عن "قضايا الدراسات العربية الإسلامية في الغرب" أنه زار باحثا أمريكيا يعمل في مؤسسة راند بكاليفورنيا، وعرف أنه قام ببحث حول الأوضاع الأمنية في السعودية، واعترف له الباحث بأن بحثه سري. انظر ص8. يكاد يكون البرنامج الترفيهي الأمريكي "كل شيء مقابل المال" هو أصدق تعبير عن المادية في أقوى صورها، وهو من نوع برامج "الكاميرا الخفية" وتعتمد فكرته على طلب شيء في غاية السخافة أو الإحراج أو الإهانة من أحدهم، فيرفض بلا تردد، ثم يظل المذيع يفاوض ويعرض سعرا أعلى لما يطلب حتى يصل إلى النقطة التي يُستجاب له فيها، وما أقواه من مشهد! تقرير التنمية الإنسانية العربية – 2009، ص13.
1. نقاط القوة
أول نقاط القوة هي ما لدينا من نصوص الوحي، والتي تمثل الحقيقة المطلقة في وصف الإنسان ودوافعه وطموحاته وطرق ضلاله وطريق هدايته، فالتفقه في هذه النصوص يكوِّن حاسة البصيرة في أحوال الإنسان والأمم والحضارات وسنن قيامها وسقوطها وعوامل قوتها وانهيارها. ومن طبيعة نصوص الوحي أنها لا تتكشف إلا بالتعمق فيها وفي موضوعها، فلا يغني النظر فيها وحدها شيئا، كذلك لا يغني النظر في الواقع وحده شيئا، بل لا بد من اكتشاف الواقع بنور الوحي، وفهم الوحي عبر معالجة الواقع، وأوضح مثال على هذا هو قضية الإعجاز العلمي في القرآن، إذ لا يُعرف وجه الإعجاز في الآية إلا من خلال ممارسة العلم.
وثاني نقاط القوة هي ما لدينا من تراث تاريخي زاخر أخذ الغرب منه نصيبا لا بأس به، وهو يشمل أقوال الصحابة والتابعين وكل المجهودات المبذولة علميا والتي تناولت الغرب بوجه من الوجوه، فإن فيها نظرات وآراء عميقة وسديدة، كتفسير عمرو بن العاص رضي الله عنه لقول النبي r: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس" بأن ذلك لأن "فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة وجميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك"وثالث نقاط القوة التي نملكها هي العدد الكبير من المسلمين في الغربرابع نقاط القوة هي كثرة المبتعثين إلى الغرب من الطلاب والباحثين، فإنه ببعض الإجراءات البسيطة والحوافز المشجعة يمكن الاستفادة من طاقات هؤلاء في أن يكونوا بذورا لمستغربين، فإنهم في أول الشباب وهو ذروة النشاط وقلة الارتباط وقوة الطموح والشوق لتحقيق الإنجاز، كما أنهم مبتعثون بطبيعة الحال، فلا يكلف الأمر إلا قليلا من التفكير والترتيب وربما القليل من المال للتحفيز أو تغطية بعض التكاليف الزائدة.
خامس نقاط القوة هي ما تملكه بعض البلدان وبعض الأثرياء من القدرة المالية على تمويل بحوث وبرامج في مراكز الدراسات والمعاهد البحثية في الغرب، لا لدراستنا نحن أو لمنع تشويه صورتنا كما هو الحال فيما سبق، بل لتقديم دراسات وبحوث عن الغرب نفسه.. ويمكن اعتبار هذه خطوة أولى في دراسة الاستغراب حتى نبني وننشئ مؤسساتنا وإلى حين نضوجها، بل إن التعاون مع هذه المراكز البحثية يساعد في تدريب وتأهيل كوادرنا ومؤسساتنا البحثية وأقسامنا الجامعية المزمع إنشاؤها لدراسة الغرب.
2. الفرص:
وأما الفرص المتاحة للشروع في علم الاستغراب فأولها: ما أنتجه الغرب عن نفسه وصفا وتشريحا وتحليلا، من بحوث أو مواد صحفية أو برامج تلفازية، وذلك أن الدراسات التي كتبها الغربيون عن أنفسهم توفر لنا وقتا كبيرا في كثير من الأشياء التي ينبغي بحثها، وهي -في أسوأ الأحوال، وعلى أقل تقدير- تقدم لنا خلاصة رأي لا بد سنحتاجه في فهم وتفسير ما يحدث في الغرب وفي تفسير الغرب لنفسه. وقد صدرت في هذا الباب بحوث كثيرة قيمة لا يمكن تجاوزها في رصد ما يحدث وتوقعاتهم لما يترتب على هذا الرصد في المدى القريب والبعيد. وتزيد قيمة هذه البحوث لأن ثمة عادة أو ثقافة ترسخت لديهم في الشفافية والمصارحة البحثية، حتى إن التقارير الإدارية لعدد من الشركات الاقتصادية -والتي تنشر علنا- تكشف عن نقاط الضعف فيها وعن التهديدات المحتملة من المنافسين وعن خططها القريبة، كذلك فإن المؤسسات الدولية التي أنشئت لتوفير المعلومات أو تبادلها أو مراقبة الجودة عملت على زيادة حركة تدفق المعلومات عن الشركات والمؤسسات والمصانع، وهذا بالإضافة إلى زيادة الصحف ووسائل الإعلام وصدور العديد من الصحف والقنوات والشبكات المتخصصة في جانب بعينه. لقد أدى كل هذا إلى حركة تدفق غزيرة من المعلومات، حتى صارت هذه الغزارة من عوامل التشوش والفوضى المعلوماتية، إذ إن خلو حركة الحرية من الأخلاق ووجود مراكز قوى ونفوذ إنما يؤثر على صحة المعلومة ودقتها.
وهذا عائد -فيما أظن- في أصله إلى أمن العاقبة مع الفارق الكبير بين الغرب وبين خصومه، بسبب من هذا التخلف المزري الذي يعيشه العالم الإسلامي، مع حرص الغرب على استمرار وبقاء هذا التخلف.
ولا يعني هذا أنه ليس ثمة أسرار بل إن بحوثا كثيرة علمية تحظى بالمكان السريوثاني هذه الفرص هي ما لدينا من تراث المتغربينأنفسهم، فما كتبه المنبهرون بالغرب -وإن كان من علامات نكبتنا الحضارية- يمكن اعتباره فرصة من حيث إنه أراد أن يعطينا صورة صادقة عن الفكر المطروح، فَنَقله عندنا وروَّجه من يؤمن به ويُجمِّله، لا من يكرهه ويعاديه فيُخشى من تأثير ذلك على طرحه، فهي صورة للفكر الغربي في أحسن صوره، وبذلك وَفَّر علينا القوم عمليات ترجمة وتتبع وتحليل واستخلاص، وبقي أن ننظر في هذا التراث نظرة الدارس الفاحص المتأمل المنطلق من أصوله الإسلامية. ولقد زاد في مظاهر النكبة -الذي نعتبره في هذا الموطن من الفرص- أن كان لكل مذهب غربي بعضٌ يمثلونه في بلادنا، فظهر لدينا أتباع الوجودية والوضعية المنطقية والشخصانية والجوانية والماركسية والديكارتية... إلخ.
وثالث هذه الفرص هي أن التراث الفكري الغربي مجموع ومخدوم، فلسنا سنعاني مجهودا كبيرا في الجمع والفهرسة والتحقيق كالذي عاناه المستشرقون في جمع التراث الإسلامي وتحويله من مُفَرَّقٍ إلى مجموع ومن مخطوط إلى مطبوع، بل إن تطور علم المكتبات وقيام مؤسسات كبرى في جمع التراث الإنساني كله قد سهل من عملية الحصول على الـمُراد بأيسر الإجراءات.
ورابع هذه الفرص هي الثورة الإعلامية، فالجالس في البلاد الإسلامية باستطاعته متابعة العديد من وسائل الإعلام الغربية، المقروءة والمسموعة والمرئية، وهذه النوافذ التي لم تكن متاحة من قبل إلا بالسفر صارت الآن متاحة بضغطة زر، فهي تمثل أبوابا واسعة لمتابعة الغرب ومجتمعاته وما يدور فيه، بل إن العربي الذي لا يجيد لغة غربية واحدة يستطيع أن يشاهد العديد من القنوات الأجنبية المترجمة، لا سيما قنوات الترفيه والأفلام، ونعم فإن هذا من ظواهر التغريب في بلادنا إلا أنها في ذات الوقت فرصة يمكن من خلالها الاطلاع على الغرب واكتناه بعض جوانبه، وسنجد كثيرا من هذه البرامج تعبر أصدق تعبير عن بعض الجوانب العميقة في الشخصية الغربيةوخامس هذه الفرص هي ثورة الاتصالات التي وفرت سهولة واسعة في متابعة التفاصيل الصغيرة، حتى المدونات الشخصية وصفحات الفيس بوك وتويتر وأمثالها، ومع ذلك سهولة واسعة في إنشاء العلاقات ومتابعة أنشطة الحياة في الغرب. لقد فتح الانترنت آفاقا لم تكن تخطر على بال في انتقال المعلومات والانفتاح على كافة المجالات والتعاون بين ذوي الميول المتشابهة في تطوير وتنمية أنفسهم والتواصل مع أرباب هذه المجالات.
إنه لا يسع علم الاستغراب أن يتجاهل عالم الانترنت، بل إن مواقع التواصل الاجتماعي تحتاج فرقا متخصصة لتحليل المواد المنشورة عليها، تتوفر على دراستها وقراءة اتجاهاتها واستبطان أعماقها.
إن ثورة الاتصالات هذه تصب في صالح الأضعف أكثر مما تصب في صالح الأقوى، وإن كان الأقوى هو الأكثر استفادة منها في الواقع، ويورد الباحثون أن ما حصلته الهند والصين بأثر من "سيولة المعرفة" من شأنه أن يمثل "تحديا للولايات المتحدة نفسها حتى تطور من نفسها بسرعة، وتحافظ على مكانتها في هذا الكوكب"نشر في ساسة بوست
مسلم (2898). بحسب موقع "كتاب الحقائق" التابع للمخابرات الأمريكية، يبلغ عدد المسلمين في أمريكا نحو 2 مليون مسلم، وبحسب إحصائيات عديدة يتراوح عدد المسلمين في أوروبا بين 44 - 53 مليونا (بما في ذلك الأتراك في الجزء الأوروبي من تركيا). من ألطف ما يمكن أن يُضرب به المثل هنا هو كتاب د. باسم خفاجي "رهن الاعتقال" والذي سرد فيه تجربته إذ كان معتقلا في السجون الأمريكية لمدة أحد عشر شهرا، فكشف بهذا الكتاب عن بيئة لا يصل إليها الباحثون، ولئن وصلوا بعد عنت فلن يتمكنوا من التعمق في تفاصيلها كالذي عايشها، وليس المقصود بيئة المجرمين فحسب، بل طبقاتهم ومشكلاتهم ووسائل تحايلهم على القانون، وثغرات القانون، وجهاز الشرطة نفسه ونقاط التقاء المتناقضين في التهريب والمصالح المتبادلة ونحو ذلك. ليس يخفى على كاتب هذه السطور ما يعانيه المسلمون في الغرب من مشكلات اقتصادية واجتماعية وثقافية، مما يبدو للوهلة الأولى وكأن ما يُقال هنا من قبيل الأحلام، لكن كل هذا لا يعيق الاستفادة من هذا العدد الكبير من المسلمين الذين يعيشون في الغرب، بل قد يكون مشروع الاستفادة منهم هذا هو ذاته بعض الحل لمشكلاتهم تلك. ذكر د. مازن مطبقاني في ورقة بحثية عن "قضايا الدراسات العربية الإسلامية في الغرب" أنه زار باحثا أمريكيا يعمل في مؤسسة راند بكاليفورنيا، وعرف أنه قام ببحث حول الأوضاع الأمنية في السعودية، واعترف له الباحث بأن بحثه سري. انظر ص8. يكاد يكون البرنامج الترفيهي الأمريكي "كل شيء مقابل المال" هو أصدق تعبير عن المادية في أقوى صورها، وهو من نوع برامج "الكاميرا الخفية" وتعتمد فكرته على طلب شيء في غاية السخافة أو الإحراج أو الإهانة من أحدهم، فيرفض بلا تردد، ثم يظل المذيع يفاوض ويعرض سعرا أعلى لما يطلب حتى يصل إلى النقطة التي يُستجاب له فيها، وما أقواه من مشهد! تقرير التنمية الإنسانية العربية – 2009، ص13.
Published on May 26, 2016 06:18
May 24, 2016
كيف تعامل "العدالة والتنمية" مع الوضع الدولي عند تأسيسه
وصل بنا الحديث عن موجز تاريخ السياسة التركية –في سلسلة المقالات الماضية- إلى مرحلة حزب العدالة والتنمية، فتناولنا قصة المؤسس، وفريق المؤسسين، والخلاف مع زعيمهم أربكان، والرؤية الفكرية، وتحديات التأسيس.. وفي هذا المقال نواصل استعراض التحديات التي قابلت حزب العدالة والتنمية أول أمره، وقد بقي منها تحديان؛ الأول: القاعدة الشعبية التي استند إليها الحزب، والثاني: تسويق نفسه في المناخ الإقليمي والدولي عند لحظة تأسيسه.
القاعدة الشعبية
صنع الحزب قاعدته الشعبية بالاستناد إلى شبكتيْن مهمتيْن:
الأولى: الطريقة النقشبندية وهي أوسع وأقوى الطرق الصوفية في تركيا ولها علاقات بالسياسيين منذ أوزال وحتى أردوغانوالثانية: هي جماعة الخدمة بزعامة فتح الله كولن وهي تنظيم دعوي يشبه في وجهه المعلن جماعات الدعوة والتبليغ في العالم الإسلامي التي لا تهتم بالسياسة غير أنها تفوقت عليها بشبكات إعلامية وتعليمية قوية وواسعة داخل وخارج تركيا وبأعضاء نافذين في كافة مؤسسات الدولة التركية، وهي تجديد لحركة سعيد النورسي انبعثت في مناخ الازدهار الإسلامي في السبعينات ونمت نموا كبيرا في الثمانينات حيث كان مناخ النظام العلماني يسمح بذلك لمواجهة اليسار والشيوعية، ثم انطلقت في التسعينات مع انهيار الاتحاد السوفيتي وانفتاح الساحات الآسيوية والبلقانية والعربية أمام المدّ الدعوي، وحيث عمَّ الفساد وضعفت قوة القانون كانت جماعة كولن تقدم مناخا اقتصاديا قائما على الثقة والالتزام مما مكَّنَها من بناء دوائر ومؤسسات اقتصادية يثق فيها المتعاملون معهالم تكن الخطابات ولا البرامج ذات تأثير -بطبيعة الحال- على فرقاء الداخل أو الخارج، وإنما ظلت ردود الأفعال كما هو المتوقع:
فأما داخل التيار الإسلامي، فلقد كانت التهمة الأبرز للحزب هو خروجهم عن الزعيم الإسلامي الكبير نجم الدين أربكان، وسعيهم في شق الصف الإسلامي وتمزيقه، ويجيب عبد الله جل: "لو كنا نحن السبب في انقسام الأعضاء وتناحرهم وفي حمل هذا التناحر إلى المستقبل، فهل كنا لنجازف بتحمل المسؤولية على هذا النحو؟ وهل يستحق الأمر هذا؟ إننا لو بقينا بلا أي رد فعل تجاه أخطاء قائمة بدافع الخوف من تحمل المسؤولية لكان ذلك سيجعلنا في المستقبل أمام مسؤولية أكبر وعناء أكثر"وأما بالنسبة للدولة العميقة وغلافها المدني من الأحزاب السياسية فلم تر في حزب العدالة والتنمية "إلا ذئبا في فروة الأغنام، إذ ينتهج نفس نهج الإسلام الراديكالي تحت قناع الإخلاص للسياسة الأوروبية"لكن الموقف الأهم من كل هذا هو الموقف الدولي، فلقد كان النظام العالمي الجديد –نظام القطب الواحد المتكون بعد انهيار الاتحاد السوفيتي- يعيش في ذلك الوقت أعظم لحظات قوته وشراسته أيضا بعد أحداث سبتمبر 2011 وانطلاق الجيوش الأمريكية لتغيير الأنظمة بالقوة المسلحة، كما أن الهيمنة الغربية على السياسة التركية قديمٌ قِدَم عُمْر الجمهورية نفسها، وليس بوسع سياسي إلا أن يجد طريقه للتعامل معها.
ولقد زاد من صعوبة الموقف تلك اللحظة الزمنية التي وُلِد فيها الحزب، فلقد كانت شديدة التعقيد؛ فأبرز أحداثها: الانتفاضة الفلسطينية (28 سبتمبر 2000م) التي استمرت لخمس سنوات على الأقل وما تطرحه من سجال الانتماء الإسلامي للحزب في مقابل العلاقة التركية المتينة مع إسرائيل، ثم أحداث (11 سبتمبر 2001م) وما طرحته من تداعيات الحرب على الإرهاب "الإسلامي" وما أسفرت عنه من حروب كالحرب على أفغانستان (أكتوبر 2001م) وكَوْن تركيا عضوا في حلف الناتو، والحرب على العراق (مارس 2003م) المجاور لتركيا مع تأثيراته الواسعة على تركيا وملف الأكراد. وكان يُنتَظَر من الحزب أن يقدم في كل هذه الملفات مواقف عملية تحظى بالرضا الغربي أولا، ثم تفسير هذه المواقف وترويجها شعبيا أمام جمهور "إسلامي" وقوى داخلية "علمانية".
قام الحزب بجولات خارجية في مساريْن: المسار الاقتصادي المسؤول عنه باباجان والذي سبقت الإشارة إليه، والمسار السياسي الذي تولاه أردوغان حيث قام بسبع عشرة رحلة خارجية شملت الدول الأربعة عشر أعضاء الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى أمريكا وروسيا والصين، بالإضافة لزيارة أخرى لكازاخستان من دول آسيا الوسطىلا نحسب أنه بالإمكان الآن الحصول على معلومات بشأن ما دار في هذه اللقاءات، إلا أن المواقف المعلنة كانت السير بتؤدة وتمهل وبغير تغيير في السياسة الخارجية، فبرغم الانتفاضة لم يبادر إلى إلغاء العلاقة مع إسرائيل ولا إلى دعم المقاومة الفلسطينية وإنما حاول –بعد سنوات- الدخول في الملف كوسيط، واستمرت القوات التركية في مهمتها كعضو للناتو في أفغانستان، وخرج من مأزق العراق بحل وسط هو السماح باستخدام قاعدة إنجلريك دون استخدام الأراضي التركية في الحرب على العراقولقد ظلَّ الحزب محلَّ اختبار ومحلَّ شكٍّ غربيًّا لسنوات طوال1. أنه استثمر حالة ما بعد 11 سبتمبر ليقدَّم نفسه بوصفه الإسلام المعتدل الذي ينافي التطرف والإرهاب والذي يمكن التلاقي معه بشأن قيم الديمقراطية والحريات وعلمانية الدولة والليبرالية الاقتصادية ومن ثمَّ يجب دعمه وإسناده للتقليل من حالة التطرف ولإثبات أن الغرب لا يعادي الإسلام كدين أو المسلمين كأمة2. أنه استثمر الرغبة القديمة المقيمة للسياسة التركية في الانضمام للاتحاد الأوروبي للقيام بإصلاحات هيكلية في مجال الحقوق والحريات التي تتيح فرصة أوسع لرفع المظالم عن الأكراد والأقليات من ناحية3. أنه استثمر الرفض الغربي في الانضمام للاتحاد الأوروبي في فتح آفاق نفوذ وتأثير واسعة مع دول الشرق الآسيوي والشرق الأوسط، مما يساهم في الابتعاد التدريجي التركي عن "الهوية الغربية"وهكذا لم يبق أمام الحزب إلا خوض الانتخابات البرلمانية القادمة، وهو الأمر الذي ستساعده فيه الظروف بما لم يكن يتوقع، وهو ما نعرض له في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في تركيا بوست
Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 13. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 14; Binnaz Toprak: The Religious Right, p. 638. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص197. بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص297. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص195 (تصريح لمحمد بكر أوغلو من حزب السعادة بتاريخ 13 يوليو 2009م)؛ Kenan Çayır: The emergence of Turkey’s contemporary ‘Muslim democrats’, in: Ümit Cizer: “Secular and Islamic Politics in Turkey”, p. 63. برنامج تحت المجهر: "العثمانيون الجدد"، قناة الجزيرة، بتاريخ 26 يوليو 2007 كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص196. بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص389، 394. Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 31. لئن كانت الأيام قد كشفت كثيرا من توجهات حزب العدالة والتنمية على هذه الملفات، إلا أننا الآن نسوق المواقف كما كانت في بدايتها عند تلك اللحظة. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. iii, xiii, 1, 3, 4, 31; Lesser: Turkey: “Recessed” Islamic Politics, p. 175. Paul Wolfowitz: Fifth Annual Turgut Ozal Memorial (Lecture, March 13, 2002, Link) Ömer Taspinar: Turkey’s Middle East Policies, p. 14; Ümit Cizer: The Justice and Development Party, p. 7. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص192، 205، 212 وما بعدها؛ Aydin, Çakır: Political Islam in Turkey, p. 3. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. xv, 2, 47; Lesser: Turkey: “Recessed” Islamic Politics, p. 175; Ömer Taspinar: Turkey’s Middle East Policies, p. 13. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص217. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. xiv. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص257.
القاعدة الشعبية
صنع الحزب قاعدته الشعبية بالاستناد إلى شبكتيْن مهمتيْن:
الأولى: الطريقة النقشبندية وهي أوسع وأقوى الطرق الصوفية في تركيا ولها علاقات بالسياسيين منذ أوزال وحتى أردوغانوالثانية: هي جماعة الخدمة بزعامة فتح الله كولن وهي تنظيم دعوي يشبه في وجهه المعلن جماعات الدعوة والتبليغ في العالم الإسلامي التي لا تهتم بالسياسة غير أنها تفوقت عليها بشبكات إعلامية وتعليمية قوية وواسعة داخل وخارج تركيا وبأعضاء نافذين في كافة مؤسسات الدولة التركية، وهي تجديد لحركة سعيد النورسي انبعثت في مناخ الازدهار الإسلامي في السبعينات ونمت نموا كبيرا في الثمانينات حيث كان مناخ النظام العلماني يسمح بذلك لمواجهة اليسار والشيوعية، ثم انطلقت في التسعينات مع انهيار الاتحاد السوفيتي وانفتاح الساحات الآسيوية والبلقانية والعربية أمام المدّ الدعوي، وحيث عمَّ الفساد وضعفت قوة القانون كانت جماعة كولن تقدم مناخا اقتصاديا قائما على الثقة والالتزام مما مكَّنَها من بناء دوائر ومؤسسات اقتصادية يثق فيها المتعاملون معهالم تكن الخطابات ولا البرامج ذات تأثير -بطبيعة الحال- على فرقاء الداخل أو الخارج، وإنما ظلت ردود الأفعال كما هو المتوقع:
فأما داخل التيار الإسلامي، فلقد كانت التهمة الأبرز للحزب هو خروجهم عن الزعيم الإسلامي الكبير نجم الدين أربكان، وسعيهم في شق الصف الإسلامي وتمزيقه، ويجيب عبد الله جل: "لو كنا نحن السبب في انقسام الأعضاء وتناحرهم وفي حمل هذا التناحر إلى المستقبل، فهل كنا لنجازف بتحمل المسؤولية على هذا النحو؟ وهل يستحق الأمر هذا؟ إننا لو بقينا بلا أي رد فعل تجاه أخطاء قائمة بدافع الخوف من تحمل المسؤولية لكان ذلك سيجعلنا في المستقبل أمام مسؤولية أكبر وعناء أكثر"وأما بالنسبة للدولة العميقة وغلافها المدني من الأحزاب السياسية فلم تر في حزب العدالة والتنمية "إلا ذئبا في فروة الأغنام، إذ ينتهج نفس نهج الإسلام الراديكالي تحت قناع الإخلاص للسياسة الأوروبية"لكن الموقف الأهم من كل هذا هو الموقف الدولي، فلقد كان النظام العالمي الجديد –نظام القطب الواحد المتكون بعد انهيار الاتحاد السوفيتي- يعيش في ذلك الوقت أعظم لحظات قوته وشراسته أيضا بعد أحداث سبتمبر 2011 وانطلاق الجيوش الأمريكية لتغيير الأنظمة بالقوة المسلحة، كما أن الهيمنة الغربية على السياسة التركية قديمٌ قِدَم عُمْر الجمهورية نفسها، وليس بوسع سياسي إلا أن يجد طريقه للتعامل معها.
ولقد زاد من صعوبة الموقف تلك اللحظة الزمنية التي وُلِد فيها الحزب، فلقد كانت شديدة التعقيد؛ فأبرز أحداثها: الانتفاضة الفلسطينية (28 سبتمبر 2000م) التي استمرت لخمس سنوات على الأقل وما تطرحه من سجال الانتماء الإسلامي للحزب في مقابل العلاقة التركية المتينة مع إسرائيل، ثم أحداث (11 سبتمبر 2001م) وما طرحته من تداعيات الحرب على الإرهاب "الإسلامي" وما أسفرت عنه من حروب كالحرب على أفغانستان (أكتوبر 2001م) وكَوْن تركيا عضوا في حلف الناتو، والحرب على العراق (مارس 2003م) المجاور لتركيا مع تأثيراته الواسعة على تركيا وملف الأكراد. وكان يُنتَظَر من الحزب أن يقدم في كل هذه الملفات مواقف عملية تحظى بالرضا الغربي أولا، ثم تفسير هذه المواقف وترويجها شعبيا أمام جمهور "إسلامي" وقوى داخلية "علمانية".
قام الحزب بجولات خارجية في مساريْن: المسار الاقتصادي المسؤول عنه باباجان والذي سبقت الإشارة إليه، والمسار السياسي الذي تولاه أردوغان حيث قام بسبع عشرة رحلة خارجية شملت الدول الأربعة عشر أعضاء الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى أمريكا وروسيا والصين، بالإضافة لزيارة أخرى لكازاخستان من دول آسيا الوسطىلا نحسب أنه بالإمكان الآن الحصول على معلومات بشأن ما دار في هذه اللقاءات، إلا أن المواقف المعلنة كانت السير بتؤدة وتمهل وبغير تغيير في السياسة الخارجية، فبرغم الانتفاضة لم يبادر إلى إلغاء العلاقة مع إسرائيل ولا إلى دعم المقاومة الفلسطينية وإنما حاول –بعد سنوات- الدخول في الملف كوسيط، واستمرت القوات التركية في مهمتها كعضو للناتو في أفغانستان، وخرج من مأزق العراق بحل وسط هو السماح باستخدام قاعدة إنجلريك دون استخدام الأراضي التركية في الحرب على العراقولقد ظلَّ الحزب محلَّ اختبار ومحلَّ شكٍّ غربيًّا لسنوات طوال1. أنه استثمر حالة ما بعد 11 سبتمبر ليقدَّم نفسه بوصفه الإسلام المعتدل الذي ينافي التطرف والإرهاب والذي يمكن التلاقي معه بشأن قيم الديمقراطية والحريات وعلمانية الدولة والليبرالية الاقتصادية ومن ثمَّ يجب دعمه وإسناده للتقليل من حالة التطرف ولإثبات أن الغرب لا يعادي الإسلام كدين أو المسلمين كأمة2. أنه استثمر الرغبة القديمة المقيمة للسياسة التركية في الانضمام للاتحاد الأوروبي للقيام بإصلاحات هيكلية في مجال الحقوق والحريات التي تتيح فرصة أوسع لرفع المظالم عن الأكراد والأقليات من ناحية3. أنه استثمر الرفض الغربي في الانضمام للاتحاد الأوروبي في فتح آفاق نفوذ وتأثير واسعة مع دول الشرق الآسيوي والشرق الأوسط، مما يساهم في الابتعاد التدريجي التركي عن "الهوية الغربية"وهكذا لم يبق أمام الحزب إلا خوض الانتخابات البرلمانية القادمة، وهو الأمر الذي ستساعده فيه الظروف بما لم يكن يتوقع، وهو ما نعرض له في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في تركيا بوست
Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 13. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 14; Binnaz Toprak: The Religious Right, p. 638. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص197. بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص297. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص195 (تصريح لمحمد بكر أوغلو من حزب السعادة بتاريخ 13 يوليو 2009م)؛ Kenan Çayır: The emergence of Turkey’s contemporary ‘Muslim democrats’, in: Ümit Cizer: “Secular and Islamic Politics in Turkey”, p. 63. برنامج تحت المجهر: "العثمانيون الجدد"، قناة الجزيرة، بتاريخ 26 يوليو 2007 كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص196. بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص389، 394. Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 31. لئن كانت الأيام قد كشفت كثيرا من توجهات حزب العدالة والتنمية على هذه الملفات، إلا أننا الآن نسوق المواقف كما كانت في بدايتها عند تلك اللحظة. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. iii, xiii, 1, 3, 4, 31; Lesser: Turkey: “Recessed” Islamic Politics, p. 175. Paul Wolfowitz: Fifth Annual Turgut Ozal Memorial (Lecture, March 13, 2002, Link) Ömer Taspinar: Turkey’s Middle East Policies, p. 14; Ümit Cizer: The Justice and Development Party, p. 7. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص192، 205، 212 وما بعدها؛ Aydin, Çakır: Political Islam in Turkey, p. 3. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. xv, 2, 47; Lesser: Turkey: “Recessed” Islamic Politics, p. 175; Ömer Taspinar: Turkey’s Middle East Policies, p. 13. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص217. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. xiv. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص257.
Published on May 24, 2016 06:12