محمد إلهامي's Blog, page 49

March 4, 2016

لماذا وكيف ومتى افترق الإخوان والجهاديون

نشأ عن سقوط الخلافة الإسلامية ردات فعل في العالم الإسلامي، عرفت باسم "الصحوة الإسلامية"، اشتهر منها على وجه التحديد حركتان كبيرتان: حركة الإخوان المسلمين بزعامة حسن البنا (1906 – 1949م) في العالم العربي، وحركة الجماعة الإسلامية بزعامة أبي الأعلى المودودي (1903 – 1979م) في شبه القارة الهندية.
وقد اشتهرت هاتان الحركتان لكثرة أتباعهما وقوة تأثيرهما وغزارة إنتاجهما الفكري الدعوي، ولا يكاد ثمة رمز في العالم الإسلامي طوال القرن العشرين لم يكن عضوا أو له اتصال أو تأثر في مسيرته الدعوية والفكرية والحركية بواحدة من هاتين الجماعتين الكبيرتيْن.
كان طبيعيا أن يتركز مجهود الجماعتيْن وتركيزهما على مقاومة الاحتلال الذي أسقط الخلافة وسيطر على العالم الإسلامي سعيا للتحرر وإعادة الخلافة من جديد.
لم يصل الزمان إلى عقد الستينيات إلا وكانت مصر وسوريا والهند وبعض البلاد العربية والأسلامية الأخرى قد تخلصت من الاحتلال الأجنبي ونشأت فيها حكومات "وطنية".. ومن هنا نشأ التحدي الجديد!
(1)السؤال الكبير: هل ترك الاحتلال في موقع السلطة مسلمين ضالين أم ترك عملاء؟
يشير فيلسوف الجهاديين ومؤرخهم وأبرز منظريهم أبو مصعب السوريوخلاصة الكتابيْن، وهي خلاصة أفكار الرجلين عموما، أن الاحتلال ترك في موقع السلطة من بعده خونة وعملاء يواصلون مهمته في محاربة الدين وتغييبه عن واقع الناس، وفي إقصائه عن أهم خصائصه "الحاكمية"، إذ الإسلام دين ودولة ولا بد أن تكون السلطة خاضعة له وحارسة له كذلك. ومن ثَمَّ صارت المجتمعات الإسلامية محكومة بهيمنة أنظمة "جاهلية" فرَّغت الإسلام من مضمونه ومحتواه حتى صار عموم الأمة لا يعرف معنى المصطلحات الرئيسية في دينه ومقتضياتها ولوازمها، وصار مطلوبا أن تقوم في الأمة طليعة واعية ومجاهدة تثير الوعي بما طمسه الاحتلال وعملاؤه من أصول الدين وثوابته، وتقوم بجهادهم فتزيل هيمنتهم وتعيد الإسلام إلى موقعه من جديد.
إلا أن الإخوان كانت لهم إجابة أخرى، إذ تصدى المرشد الثاني حسن الهضيبي للرد على هذين الكتابين بكتابه الشهير "دعاة لا قضاة"، والذي خلاصته بوضوح: أن الحكام الذين يهيمنون على الأمة إنما هم مسلمون وإن كانوا عصاة أو ضلالا أو ظالمين، والواجب هو دعوتهم وتوعيتهم، وهاجم بشدة محاولات تكفيرهم، وحصر واجب الإخوان في أنهم "دعاة" لا "قضاة".
وقد أثير كلام كثير حول هذا الكتاب، وما إن كان الذي ألفه هو الهضيبي نفسه، أم ابنه مأمون الهضيبي، أم حتى رجال أمن الدولة (كما في رواية رجل أمن الدولة: فؤاد علام)، وثار تبعا لذلك جدل تاريخي كبير حول العلاقة بين سيد قطب وحسن الهضيبي، وهل كان الهضيبي يرضى عما يفعله سيد قطب خارج السجن من تكوين تنظيم جديد بناء على أفكار "المعالم" أم لاوالذي يهمنا في هذا السياق أن جماعة الإخوان تبنَّت موقف الهضيبي وكتابه، وسارت عليه، واعتبرت أن الحكام الذين ورثوا حقبة الاحتلال مسلمين ينبغي دعوتهم والتعاون معهم والاستفادة بكل ما من شأنه توسيع مساحات الدعوة في ظل أنظمتهم.
وهنا بدأ الافتراق الأول والكبير الذي سيصنع تيارين وتاريخيْن مختلفيْن.
فالنتاج الفكري الإخواني يغلب عليه الإصلاح، والنظر فيما يجب أن يكون عليه أمر الدعوة في المجتمع بشكله الحالي، وكيف يمكن أسلمة السياسية والتعليم والإعلام والاقتصاد والإدارة والفن والترفيه، والطريق في هذا كله هو الدخول فيه والإصلاح المتدرج والانتقال خطوة خطوة، ومن ثم لم تظهر مشكلة في دخول البرلمان أو تولي المسؤوليات في المؤسسات والوزارات، بل والسعي للانتشار فيما أمكن من المؤسسات، ولا تزال العقلية الإخوانية –حتى بعد انقلاب السيسي- تنظر بريبة وتوجس وتخوف لمن يقول بهدم المؤسسات.
بينما يؤمن الفكر الجهادي أنه لن يستلم دولة بهذا الشكل الحالي أبدا، لن يسمح له أعداؤه بهذا، فضلا عن كون بناء الدولة هذا ونظامها غير شرعي من الأساس، ولذا يغلب على النتاج الفكري الجهادي مسائل المقاومة والمواجهة والسياسات الأمنية، بل إن النجاح في المسعى الجهادي يفرض على الفكر الجهادي التفكير في "إدارة الفوضى" أو "إدارة التوحش" كما هو عنوان كتاب لواحد من أبرز منظريهم: أبي بكر ناجي (خليل الحكايمة)، فليس من همِّ الجهاديين بناء دولة ولذا لا ينتشر في كتاباتهم تصور لما بعد الاستيلاء على السلطة، ذلك أنهم يرون أن نجاحهم في إسقاط أنظمة قطرية سيترتب عليه نزول الاحتلال الأجنبي مرة أخرى، ولذا همُّهم هو سلسلة جهاد دائم، والتفكير في تصورات الدولة هو في أحسن الأحوال أمر مؤجل لم يأت وقته، ولن يأتي قريبا!
وهكذا كان الإخوان هم الأقرب إلى التفاصيل والأكثر في كوادر "إدارة الدولة" إلا أنهم ذابوا فعليا في النظام الإقليمي ومن ورائه النظام العالمي ولم يكن لديهم تصور لحالة ما إذا اختلفت قوانين اللعبة: لعبة احتوائهم داخل منظومة الدولة. بينما كان الجهاديون الأقرب إلى فهم النظام العالمي والتنبه له لكنهم لم يحاولوا اختراقه من داخله ولا بث كوادرهم فيه للتعلم والتدرب حتى ولو بغرض الانقلاب عليه.
ومن هنا كانت الإخوان يظهرون في صدارة التجارب السلمية أو القانونية البرلمانية، بينما يظهر الجهاديون في التجارب الثورية أو الصراعات.
(2)الافتراق السلفي: كيف تفاعلت السلفية مع الإخوان والجهاديين؟
هاجر الإخوان من الجحيم الناصري في الخمسينات والستينيات إلى أنحاء العالم لكن كثيرا منهم استقر في السعودية والخليج، ثم لحقهم في الستينيات والسبعينيات إخوان سوريا المهاجرين من جحيم حزب البعث، وكانت مصر وسوريا من أوائل الدول العربية التي استقلت، وكانتا لعمقهما الحضاري والثقافي في طليعة البلاد التي نشأ فيها نظام تعليمي وكثرت فيها الكوادر المتعلمة، ولذا صارت البلدان التي استقلت في حاجة إلى هذه الكوادر، فنشأت حاجة متبادلة بين اللاجئين والبلاد المضيفة.
ظهرت الطفرة النفطية في السعودية، وكانت العلاقات منهارة بينها وبين مصر، وحيث كانت السعودية أرض الحرمين وتستمد شرعيتها من فكرة دينية "الوهابية" فقد كان رفع الشعار الإسلامي هو الموافق لرسوخ النظام داخليا ولتوسعه خارجيا، وشهدت تلك الحقبة النزاع المصري السعودي كأنما هو نزاع إسلامي قومي.
والمهم في سياقنا الآن أمران:
·         الأول: أن الهجرة الإخوانية التي استقرت في بلاد الخليج تفاعلت مع السلفية التي بدأت تزدهر وتنتشر كتبها وأفكارها بأثر الغنى والنفط.
·         والثاني: أن السعودية صارت بوضعها الجديد منطقة جذب للناس من جميع العالم الإسلامي: إما الطلاب الذين يدرسون، وإما العمال الذين يؤسسون لدولة تدلف طريق التصنيع، وإما الكوادر البشرية التي تطلب الرزق.
فانبثق في هذه المرحلة حركتان دعويتان هما من نتاج التقاء الإخوان والجهاديين بالسلفية، هما:
1.    السلفية الجهادية: حيث وجد الجهاديون تأصيلات شرعية فقهية موسعة فيما نشر من التراث الفقهي لابن تيمية وابن القيم ومجموعة فتاوى الدعوة النجدية، وأبرز ما في هذه المسائل هو ما تعلق الركائز الأساسية للفكر الجهادي: الحاكمية والجاهلية، أي ما تعلق بالسلطة والتشريع، وما يترتب عليه من الولاء والبراء وأحكام الديار وحكم من لم يحكم بما أنزل الله وحكم البرلمان (باعتبارها مؤسسات تشريع لا تأبه ولا تلتزم بشريعة الله).
2.    السلفية الحركية: وهي الفكر السلفي إذ يستفيد من التنظيم والحركية الإخوانية، يُشار إليها أحيانا بـ "السرورية" التي أسسها السوري محمد سرور زين العابدين، أو بتيار الصحوة الذي ظهر في الخليج من بعد السبعينات والثمانينات، وينسب إليه جل مشايخ الصحوة في السعودية كناصر العمر وسلمان العودة وغيرهما.. إلا أن هذه الحركة تجنبت بشكل شبه كامل مسائل السلطة والحكام، أو لنقل: دخلت فيها بالقدر البسيط ومن الباب الإصلاحي الدعوي المتدرج الهادئ الرفيق مع "ولاة الأمر". فلو اعتبرنا أنها الطبعة السلفية من حركة الإخوان فيمكن أن نقول بصيغة أخرى أنها الإخوان بعد دخول عقلية سلفية ونزع مسائل الخلافة وتحرير الأوطان والتصدي لجور الحكام.
كان الفارق ضعيفا وبسيطا في المرحلة الأولى، بل ومتنازعا عليه كما هو الحال في تبني كلا من الإخوان والجهاديين لسيد قطب والمودودي وتنازعهما النسبة إليهما، والتنازع حول حقيقة العلاقة بين حسن الهضيبي قطب، فلم يظهر في الإخوان من ينكر على سيد قطب إلا في السنوات العشر الأخيرة، والقرضاوي –وهو شيخ الإخوان- كتب عن المودودي كتابا يكثر فيه من الثناء عليه، وهو حتى حين نقد سيد قطب أحاط نقده هذا بكل عبارات الثناء على الشهيد والتأكيد على إخلاصه وحسن نواياه وعظيم تضحيته.
أما في هذه المرحلة فالفارق واضح وجلي وكبير، وبين كلا المدرستين سجالات وجدالات وخصومات كثيرة، والرموز متمايزون تماما، وأخف ما قد يكون بين المدرستين أن يعذر بعضهما بعضا ويريان الفارق بينهما فارق توقيت أو توزع مهمات، وأسوأ ما كان بينهما هو توظيف الأنظمة لكل منهما ضد الآخر.
(3)الافتراق الأمني العالمي: التوظيف أو المطاردة
لئن اختلفت المدرستان فقد جمعت بينهما حرب أفغانستان التي كانت مرحلة سطوع للتيار الجهادي، وبرز فيها من العرب اسمان: عبد الله عزام الإخواني الذي صار رأس الجهاد في عصره، وأسامة بن لادن الذي أسس تنظيم القاعدة الحامل للواء السلفية الجهادية إلى أن نازعه عليها تنظيم "الدولة الإسلامية".
في حرب أفغانستان التقت كافة المصالح، المصلحة الدولية التي تقودها أمريكا لمواجهة الاتحاد السوفيتي والثأر لهزيمتها في فيتنام، ومصلحة الأنظمة العربية التي تريد غسل سمعتها بالدفاع عن المسلمين والتخلص من الإسلاميين "المزعجين"، ومصلحة الجهاديين الذين طاف بخيالهم أن أفغانستان قد تكون دار مهجر كالمدينة المنورة تقوم فيها الدولة الإسلامية المنشودة، ويبدأ منها تحرير البلاد الإسلامية.
وفي هذه الحرب أيضا التقت كافة الأطياف والمدارس الإسلامية على اختلافاتها، فمنها من عمل في الجهاد ومنها من عمل في الدعوة ومنها من عمل في التعليم ومنها من عمل في الإغاثة، ومنها من عمل في أكثر من باب، إذ الساحة مفتوحة والمصالح متلاقية.
لذلك ازدهر الجهاد الإسلامي حتى حقق أكبر نصر في العصر الحديث: إسقاط الاتحاد السوفيتي، ودفع الأفغان أغلب الثمن (2 مليون شهيد، 5 ملايين لاجئ من شعب تعداده 16 مليونا)، فبدأ من بعده عصر القطب الواحد بكافة آثاره وتوابعه.
منذ اللحظات الأولى لعصر القطب الواحد أعلنت أمريكا أنها ستواجه العدو الجديد، الخطر الأخضر: الإسلام. لذلك فيمكن اعتبار عام (1990م) لحظة فارقة في مسيرة التيار الإسلامي.
فمن ناحية أعلنت الحرب على الجهاديين الذين وجدوا أنفسهم بين حرب أهلية أفغانية –دبرها ورعاها الأمريكان وحلفاؤهم في باكستان والسعودية- كما وجدوا أنفسهم مطاردين أو مُغتالين في باكستان، وإذا عادوا إلى بلادهم فتحت لهم قضايا "العائدون من أفغانستان". ومن بعد ما كانت الحركات الجهادية تستطيع الاستفادة من تناقضات الأنظمة المحلية، جاء عصر القطب الواحد ليجمع كل هذه الأنظمة في سياق واحد ويجعلهم جميعا تحت نظام تعاون وتنسيق أمني واحد، مما جعل أي حركة جهادية تواجه نظاما إقليميا موحدا لا نظام دولة بمفردها.
ومن ناحية أخرى فقد نزلت أمريكا "علنا" بقواتها وجيوشها إلى الجزيرة العربية (حيث أقدس مقدسات المسلمين) ضمن سياق حرب الخليج، مما أثار أزمة عاصفة بين سائر التيار الإسلامي من ناحية وسائر الأنظمة من ناحية أخرى. وفي نفس ذلك العام (1990م) كانت التجربة الجزائرية تقول بأن الديمقراطية ستأتي بالإسلاميين، لذا فلقد كانت العاصفة الإقليمية والدولية ضد الإسلاميين جميعا، فصارت الأنظمة لا تقبل من "التيارات المعتدلة" إلا الذوبان الكامل فيها والقبول التام بسياساتها، بل ولا بد من معاونتها في ضرب التيارات الجهادية "المتطرفة".
وهنا في تلك المرحلة حدث الافتراق الأعنف بين المدرستيْن: الجهادية والإخوانية، إذ صار الجهاديون في حالة مطاردة محمومة، كما صار الإخوان في حالة توظيف تام، واستعملوا علانية في أكثر من مكان لضرب الجهاديين فكريا. وتبادلت المدرستان الاتهامات، فأخفها أن يقول الإخوان: الجهاديون أخطأوا الإعداد وأخطأوا التوقيت واستعجلوا الثمرة أو أن يقول الجهاديون: الإخوان ضلُّوا وعصوا، وأسوأها أن يُكَفِّر الجهاديون الإخوان أو أن يتعاون الإخوان مع الأنظمة الحاكمة في ضرب الجهاديين عمليا.
وما إن خفت شأن الجهاديين حتى تحولت الأنظمة وإعلامها إلى الإخوان لتزيدهم قبولا بالتوظيف وتختبر مدى اندماجهم في نظام الدولة الحديثة وقيم الرأسمالية العالمية.
نشر في ساسة بوست 

مصطفى بن عبد القادر، سوري من حلب، اعتقل من باكستان 2006م على يد جهاز الأمن الباكستاني وسُلِّم إلى الأمريكان الذين سلَّموه إلى السوريين، ولا يعرف خبره إلى لحظة كتابة هذه السطور. وقد حاولت جهدي استقصاء هذا الموضوع وقابلت عددا من رموز هذه الفترة وأبناءهم واستمعت لرواياتهم، ولكن الروايات في هذه المسألة تناقضت وتضاربت بشكل كامل، ولم أصل حتى هذه اللحظة ليقين بشأن حقيقة علاقة الرجليْن: حسن الهضيبي وسيد قطب.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 04, 2016 07:17

March 2, 2016

موجز تاريخ تركيا العلمانية (3)

اقرأ أولا: موجز تاريخ تركيا العلمانية (1) موجز تاريخ تركيا العلمانية (2)
لقد وُضِعَتْ بذور الكثير من توجهات تركيا الحالية في هذا العهد الذي هو مزيج من انقلاب (1980م) وسياسات أوزالعند مطلع التسعينات اختفى ما تعودت عليه تركيا من انقلابات عسكرية، لقد كان العالم كله يحيا انقلابا كاملا بسقوط الاتحاد السوفيتي الذي ألقى بظلاله على الوضع التركي؛ فمن ناحية أتاح لها التمدد إلى جمهوريات وسط آسيا وإلى بلاد البلقان، وقد كانت تحت النفوذ السوفيتي، ومن ناحية أخرى كشفت لها عن نوايا أوروبا التي عاملتها بإهمال ولا مبالاة ورفضت انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مما جعل تحول تركيا إلى الشرق أمرا محتماخسر حزب الوطن الأم في انتخابات (1991م) ومات أوزال فجأة (1993م) فيما يحسب البعض أنه اغتيالفي السنوات الأربع التالية وصلت السياسة التركية إلى مرحلة إفلاس شاملة، وأزمات طاحنة، وانهار الاقتصاد وتسارع التضخم واتسع حجم الفساد، وبدا فشل الحكومة ساطعا مع الزلزال الهائل الذي ضرب مرمرة (أغسطس 1999م) فقُتِل فيه 18 ألفا (وقيل 40 ألفا) مع دمار هائل، وعجزت الحكومة عن التعامل مع الأزمةيمكن إجمال الصورة العامة لتركيا العلمانية على هذا النحو:
طوال تاريخ تركيا الحديث، حتى من بعد التحول نحو الديمقراطية والتعددية الحزبية (1946م)، لم تكن الحكومة المنتخبة هي الحاكم على الحقيقة، بل إنها تقع تحت هيمنة أطراف غير منتخبة مثل الجيش والبيروقراطية والقضاءوإذن، فلئن كانت لحظة تأسيس الجمهورية تمثل ولادة الدولة التركية العلمانية فإن لحظة التحول إلى التعددية هي لحظة إنشاء قشرة مدنية ديمقراطية شكلية تخفي تحتها ما اصطلح على تسميته فيما بعد: الدولة العميقة، الدولة الحارسة، الدولة الموازية .. إلخ. تلك التي تتكون من تحالف يضم حزب الشعب الجمهوري "والقيادة العليا للجيش والقضاء الأعلى والبيروقراطية، والذين استمروا في النظر لأنفسهم باعتبارهم الملاك المستحقين للدولة"
وقد ظل التوجه نحو الغرب سياسة مستقرة لتركيا الحديثة في عهد جميع حكوماتها، وحتى محاولات أوزال وأربكان لم تكن جذرية ولا ثورية، وهذا طبيعي ومُتَفَهَّم، إذ لم يكن بالإمكان غير هذا، ومثلما يُقال بأنها محاولات إسلامية أرادت النفاذ إلى النظام العلماني المغلق من خلال منظومة الحريات الغربية، يقال أيضا بأن المنظومة الغربية احتوت واستوعبت الإسلاميين الأتراك وأنشأتهم خلقا جديدا.
نشر في تركيا بوست

Ömer Taspinar: Turkey’s Middle East Policies Between Neo-Ottomanism and Kemalism (Massachusetts Avenue, Carnegie Endowment for International Peace, Septemper 2008), p. 11. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص43، 44، 121 وما بعدها؛ Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 20-1. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص114 وما بعدها. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص136. Yavuz, Esposito: Turkish Islam and the Secular State, p. xxv كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص113، 114؛ Yavuz, Esposito: Turkish Islam and the Secular State, p. 1; Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 38-9. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص132؛ Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 22. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص133، 134؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 75. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص44، 45؛ Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 509-10; Samuel P. Huntington: The Clash of Civilizations, (New York, simon & Schuster ,2003) p. 145-7. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص136، 137. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص145. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص143 وما بعدها. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص153 وما بعدها. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص170 وما بعدها؛ Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 27. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص176 وما بعدها؛ Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 29. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص48، 87، Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 505. وقد بلغ تأثير الإعلام في المسار التركي حدَّ أن أيدين دوغان، وهو رئيس أقوى مجموعة إعلامية تركية، جلس إلى أردوغان في أول أمر الحزب وصرح له بأنه هزم ثلاثة رؤساء وزارة: تورجت أوزال وسليمان ديميريل وتانسو تشيلار، كلهم بدؤوا ضده لكنهم انتهوا إلى الاستسلام له. انظر: حسين بسلي، عمر أوزباي: رجب طيب أردوغان.. قصة زعيم، ترجمة وتقديم: د. طارق عبد الجليل، (بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2011م). ص385، 386. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص49، 87. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص50، 51، 92. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص87؛ Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 505.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 02, 2016 03:50

February 23, 2016

موجز تاريخ تركيا العلمانية (2)

اقرأ أولا: موجز تاريخ تركيا العلمانية (1)
مات أتاتورك (10 نوفمبر 1938م) وخلفه رفيقه عصمت إينونو الذي سار على دربه، إلا أنه اضطر –ضمن ما اضطر إليه من تغييرات في طبيعة النظام وخطابه- إلى فتح باب التعددية الحزبية (1946م) كجزء من انحياز تركيا إلى المعسكر الغربي في عالم انقسم حينئذ بين غرب ليبرالي وشرق شيوعيأُجْرِيَتْ في عام (1946م) أول انتخابات تركية، ثم أجربت انتخابات (1950م) وكانت أول انتخابات نزيهة، وفاز فيها حزب العدالة المحافظ بزعامة عدنان مندريس، وهو برلماني سابق بحزب الشعب الجمهوري، لكنه استطاع أن يدخل إلى الأتراك من بابيْن: رفع سلطة الدولة عن الاقتصاد وكان هذا يناسب الطبقة الصناعية التي بدأت في البروز والتشكل، ورفع سلطتها عن الدين وتأييد المحافظة وإعادة رفع الآذان باللغة العربية، لم يكن التغيير كبيرا لكنه كان بداية توجه جديد، فأثيرت اضطرابات تزعمها اليسار وأججتها الدولة العميقة ثم ختمتها بانقلاب عسكري (27 مايو 1960م) أَعْدَمَ أوَّلَ رئيس وزراء منتخب في تاريخ البلاد (16 سبتمبر 1961م)بدأ عقد جديد شُرْعِنَت فيه هيمنة الجيش على النظام السياسيوافتتح الانقلاب العسكري عقدا آخر، زاد عليه فوق شرعنة هيمنة العسكر دستورا يخصم مزيدا من الحقوق والحريات، ولم تفلح الحكومات المتعددة في وقف تدهور الأوضاع (11 حكومة: أطولها عمرا ثلاث سنوات، وأقصرها عمرا شهر واحد)، برز في هذا العقد ثلاثة رجال إلى جانب ديميريل: بولنت أجاويد زعيم حزب الشعب الجمهوري، ونجم الدين أربكان زعيم حزب السلامة الإسلامي، وألب أرسلان توركيش زعيم حزب الحركة القومية، ومع تنافر الأطراف وعجز كل طرف منها منفردا أو متحالفا مع الآخر عن السيطرة على الأوضاع انتهى عقد السبعينات هذا إلى اضطرابات أخرى جديدة ساهم فيها وأشرف على كثير من فصولها جهاز الدولة العميقة لكي يدفع المشهد إلى اللحظة المنتظرة: انقلاب عسكري آخر (1980م)كان انقلاب (1980م) الأكثر دموية، إذ حبس وعذب أكثر من نصف مليون مواطن، ووضع نحو 2 مليون تحت الاشتباه، وحكم بالإعدام على أكثر من خمسمائة نَفَّذ منها خمسين، ومنع نحو أربعمائة ألف من السفر، وطرد من البلاد ثلاثين ألف ناشط سياسي، وأسقط الجنسية عن 14 ألف تركي، وحظر النقابات، وكاد يقضى تماما على الروابط والجمعياتقبض العسكر بأنفسهم على زمام الحكم لثلاث سنوات عجاف وضعوا فيها دستورا استبداديا منزوع الحريات حتى جاءت انتخابات (ديسمبر 1983م) بزعيم جديد هو تورجت أوزال فوق رأس حزب جديد هو "الوطن الأم" الديمقراطي المحافظنشر في تركيا بوست

Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 505; Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 33. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص85، 86، 91. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص88، 91؛ Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 505-6; Binnaz Toprak: The Religious Right, p. 633.. Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p.35-6; Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 13. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص89، 91، 94، 96، 97. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص99 وما بعدها؛ Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 506-7; Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 16. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص43؛ Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 17. Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 17-9. William Hale, Ergun Özbudun: Islamism, Democracy, and Liberalism in Turkey, the case of AKP, (London and New York, Routledge,2010), p. xx. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص108 وما بعدها، Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 507. Heinz Kramer: A Changing Turkey, The Challenge to Europe and the United States, (Washington D. C., Brooking Institution Press, 2000), p. 25; Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 19. M. Hakan Yavuz, John L. Esposito: Turkish Islam and the Secular State: The Gülen Movement, (New York, Syracuse university press, 2003) p. xxvi; Heinz Kramer: A Changing Turkey, p. 64. برنامج تحت المجهر: "العثمانيون الجدد"، قناة الجزيرة، بتاريخ 26 يوليو 2007 Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 20. Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 38. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص112 وما بعدها؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 37-8; Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 3. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص120، 124؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 39-40.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 23, 2016 21:14

February 21, 2016

مات هيكل.. نكبة الأمة العربية

"إن كنتم قد هزمتم جيلنا بالمدفع والدبابة، فقد هزمناكم بالكلمة، وغدا يأتي جيل يبصق على قبوركم وصحافتكم ودبابات أتت بكم وأضاعت الوطن"محمد جلال كشك مخاطبا محمد حسنين هيكل
(1)
ماذا بوسع المرء أن يكتب عن هيكل؟!
إن الأمر ثقيل كبير، وواسع ممتد، فلم يكن هيكل مجرد فيلسوف منافق، ولا صحفي أفاق، ولا كاهن في معبد الاستبداد، ولا هو مجرد خائن لأمته ومُضِلٍّ لقرائه.. هيكل هو كل هذا معا، هيكل هو أشهر وأكبر مزور للتاريخ في القرن العشرين، هيكل لم يكن كاتبا للتاريخ فحسب بل صانعا له، ولقد مات هيكل ولم ينكشف كل سره، ولا ينكشف سر هيكل إلا بسقوط دولة العسكر كلها، حينئذ تظهر الروايات الخفية التي يمنع انتشارها قوة السلطة أو الخوف منها، فهيكل عمود من أعمدة الدولة العسكرية البغيضة التي ابتليت بها مصر منذ انقلاب 1952، وهو العهد الذي ذاقت فيه مصر أظلم عصورها على الإطلاق، فلا يقاس بحقبة العسكر شيء: لا حقبة الاحتلال الإنجليزي ولا حقبة محمد علي ولا حقبة العثمانيين ولا حقبة المماليك، كل هذه الأحقاب هي جنة وارفة إذا قورنت بحقبة العسكر، ولكن ليس يعلم هذه الحقيقة من يجهل التاريخ، فالتاريخ هو مصباح الضوء الوحيد الذي يكشف حقيقة الحاضر في ميزان الماضي.
فماذا بوسع المرء أن يكتب عن هيكل، وهو عمود من أعمدة هذه الحقبة؟!
إن المرء حيث ولى وجهه يلتمس الكتابة ارتد إليه القلم خاسئا وهو حسير، لسان حاله مقالة الشاعر:
من أين تبدأ هذا البوح يا قلم .. أم كيف تصبر والأحداث تزدحمهذا النزيف على جنبيك منبثق .. وفي فؤادك من فرط الأسى ألم
(2)
وحيث كان لا بد من الاختيار فقد آثرت أن أكتب فيما هو أبعد شيء عن التصديق لمن لا يعرف هيكل..
هل تعرف أن هيكل كان ببساطة: توفيق عكاشة عصره؟!!
شئ لا يصدق!!
نعم! صحيح أن هيكل لديه من الثقافة الموسوعية ورشاقة القلم وموهبة الصحافة والإعلام ما لا يجوز مقارنته بتوفيق عكاشة، إلا أن هذا هو ما يظهر لأهل زماننا هذا.. إذ لو استمر حكم العسكر لصار الجيل الذي سيأتي بعد ستين سنة يتعامل مع توفيق عكاشة بذات الإعجاب والانبهار الذي يتعامل به الجيل الحالي مع هيكل.
وهذا الفارق نفسه بين هيكل وبين توفيق عكاشة ما هو إلا حصاد حكم العسكر، لقد كان صحافي السلطان في عصر عبد الناصر نتاجا للثقافة والتعليم في عصر الملكية والاحتلال الإنجليزي، لذا كان المستوى الموجود على قدر مصطفى أمين وعلي أمين وهيكل، أما بعد استقرار حكم العسكر لستين سنة وإنتاجهم أجيالا جديدة لم تجد السلطة إعلاميا يعبر عنها إلا أن يكون في مستوى توفيق عكاشة وعمرو أديب والإبراشي والجلاد ممن لا يستطيع أحدهم تأليف كتاب أو حتى الحديث لخمس دقائق بلغة عربية سلمية!!
لكن الشبه بين هيكل وتوفيق عكاشة لا ينحصر في كون كل منهما لسان السلطة المجرمة، بل في تلك القدرة المثيرة للدهشة –والاحتقار معا- على تزوير التاريخ والواقع، ولقد كان عكاشة سيئ الحظ في عصر اليوتيوب والبواحث الإلكترونية التي تأتيه بتقلباته وتلونه، بينما كان هيكل محتاجا إلى مثقف يتتبع إنتاجه ليرصد تزويره للتاريخ بل وتعديله للرواية الواحدة في الكتاب الجديد، بل واختلاف ما يكتبه في الطبعة الإنجليزية عما يكتبه في الطبعة العربية، فيقول بعض الحقيقة لقرائه الأجانب بينما يمارس التهريج على قرائه العرب! وسنأتي لتفصيل هذا بعد قليل.
وهما يتشابهان كذلك في تلك القدرة المثيرة للدهشة وللاحتقار أيضا على تزييف الواقع وتسمية الأمور لا بغير مسمياتها وإنما بضد مسمياتها، فمثلما اعتبر عكاشة نفسه "مفجر ثورة 30 يونيو"، كان هيكل قبله بعقود يسوق لقرائه أن حرب 1956 هي "أكمل نصر عربي في العصر الحديث"!! ولك أن تضع من علامات التعجب والذهول ما تشاء لتسأل بعدئذ عن معنى كلمة النصر ومعنى كلمة الهزيمة في قاموس هيكل!
هيكل بشَّر قراءه عند نكبة 67 بأنهم قرروا تلقي الضربة الأولى! هذا بعد أن كانت كل الأحداث تثبت أن مصر هي التي تسير إلى الحرب وتطلب من الأمم المتحدة سحب البوليس الدولي!! ثم إنهم بعد أن قرروا تلقي الضربة الأولى لم ينتصروا كما هو متوقع ممن "قرر تلقي ضربة"، بل اكتسحتهم إسرائيل اكتساحا تاريخيا غير مسبوق، فإذا به يبشر قراءه للمرة الثانية بأنهم لو كانوا بدؤوا بالهجوم لم يكونوا لينتصروا كذلك.. إذن ماذا كنتم تفعلون؟! ولماذا سرتم إلى الحرب هذا السير الحثيث؟!
نعم، كانوا يقضون وقتهم في التفتيش عن مصطلح مخنث، ولذلك كان إنجاز هيكل في هذا الحرب هو ابتكاره لفظ "نكسة" ليعبر بها عن هذا الاكتساح التاريخي في تاريخ الحروب، ثم ليتحول هذا بعدئذ إلى نصر! أي والله "نصر"! لماذا؟ لأن إسرائيل لم تنجح في إسقاط الزعيم!!
هل تذكر ما فعله عكاشة في حرب غزة؟! هل تذكر كيف كان حقده يسيل على المقاومة والغزاويين؟! مثل هذا كان يفعله هيكل: فهو مع تيتو الزعيم الشيوعي اليوغوسلافي مهما كانت مجازره ضد المسلمين، وهو مع غاندي ونهرو والهندوس ضد باكستان والمسلمين في الهند، وهو مع هيلاسيلاسي سفاح الحبشة ضد المسلمين هناك، ويصاغ كل هذا بعبارات السياسة والقومية والمصالح الوطنية ولا يدري القارئ المسكين ما خلف الصورة!
هذا بعض من بعض من بعض ما فعله هيكل.. لم يكن إلا توفيق عكاشة عصره! إلا أن عكاشة عصرنا كان سيئ الحظ إذ نشأ في مدارس العسكر ودرج في إعلام العسكر فجاء أحمق أخرق سفيها سخيفا عيي اللسان والعقل، وجاء في عصر اليوتيوب والفضائيات حيث يستطيع الناس سماع غيره، أما هيكل فلقد كان سعيد الحظ إذ نشأ في تعليم وثقافة عصر المليكة والاحتلال فكان موهوبا وفصيحا، ثم كان في عصر الصوت الواحد حيث لا يستطيع أحد أن يسمع شيئا لا يريده هيكل ولا زعيمه!!
أمر ثالث كان عكاشة سيئ الحظ فيه، وهو أنه عمل في خدمة المخابرات الحربية، بينما كان أستاذه هيكل أعلى قدرا بمواهبه ولظروف التاريخ الانتقالية التي حتمت قدوم الأمريكان عند غروب الإنجليز، لقد كان أستاذه عميلا للأمريكان مباشرة!
(3)
هل تعلم أن هيكل كان عميلا للمخابرات الأمريكية؟!
شيء لا يصدق أيضا!!
لا تتعجل، اسمع هذه القصة..
ذات يوم مكفهر عام 1965، انقلبت الأيام على مصطفى أمين، مؤسس دار أخبار اليوم، ووجد الرجل نفسه في السجن من بعد ما عاش حياة رغيدة على عرش الصحافة المصرية منذ 1944، لم يُعرف بدقة أسباب هذا الانقلاب من عبد الناصر عليه، إلا أن التهمة التي وجهت له كانت: التجسس لحساب الأمريكان!
في السجن حاول مصطفى أمين استعطاف عبد الناصر، فكتب رسالة سجل فيها اعترافاته، وذكر فيها لقاءاته مع رجال المخابرات الأمريكية منذ منتصف الأربعينات، وسرد فيها بالأسماء تواصله معهم ولقاءاته بهم وأماكنها وماذا حصل عليه من المعلومات منهم، وماذا أعطى لهم، وكيف سهلوا له لقاءا بمدير المخابرات الأمريكية "آلان دالاس"، وكيف كان هو الخط الخلفي لدولة عبد الناصر في التواصل مع الأمريكان وكيف كان مخلصا له في كل هذه الاتصالات وأنه قام من خلالها بأشياء عظيمة لمصلحة الوطن ومصلحة عبد الناصر، وذكر له كل هذا في صيغة استعطاف تذكره بالأيام الخوالي وكيف وقف معه ضد محمد نجيب، وكيف أعطاه معلومات مهمة من السفارة الأمريكية ... إلخ!
قيمة رسالة مصطفى أمين هذه أنها وثيقة تثبت صناعة انقلاب يوليو على أيدي رجال المخابرات الأمريكية، لكن المهم في سياقنا الآن أن مصطفى أمين وهو يقول هذا كله، ظل يؤكد على عبارة يكررها كثيرا إثباتا لصدقه، وهو أن كل هذه اللقاءات كانت بحضور محمد حسنين هيكل!!!!
في ذلك الوقت كان هيكل تلميذ مصطفى أمين، والرجل الثالث في دار أخبار اليوم، ومديرا لعدد من إصداراتها، وكانت أخبار اليوم منذ نشأتها صوت الاستبداد والاحتلال، الصوت المضاد للحركة الوطنية ضد الملك والإنجليز، ثم ظهر بوضوح أنها تابعة للأمريكان منذ نوى الأمريكان في مطلع الخمسينات انتزاع مصر من التركة البريطانية فتحولت للهجوم على الملك والإنجليز، ثم بعيد الانقلاب شنت حملة كبرى على محمد نجيب.
[انظر الرسالة وتعليق هيكل عليها في كتاب هيكل "بين الصحافة والسياسة" ص155 وما بعدها. ط6 شركة المطبوعات 1985م، وانظر تعليق محمد جلال كشك على الرسالة وعلى تعليق هيكل في كتابه "ثورة يوليو الأمريكية" ص273 وما بعدها. ط2 دار الزهراء للإعلام العربي 1988م.]
وما يهمنا في كل ذلك أن هيكل الذي سن قلمه عندئذ للهجوم على مصطفى أمين وأخيه علي أمين وإثبات تهمة التجسس على أستاذه القديم، لم يكن إلا الطرف الثالث الحاضر في أغلب اجتماعات مصطفى أمين برجال المخابرات الأمريكية، وأحيانا كانت الاجتماعات تجري في مكتب هيكل نفسه.
لم يستطع هيكل أن يدفع عن نفسه هذه التهمة إلا بحيلة بهلوانية، فقال بأن مصطفى أمين لديه حالة نفسية وأنه يتوهم أشياء لم تحدث ويرويها وهو مقتنع بصدقها، فهو ليس كذابا ولا يستدعي الأمر تحليلا، وإنما يستدعي الأمر طبيبا نفسيا! (انظر ص249 من كتابه "بين الصحافة والسياسة").
لم ينف هيكل إلا واقعتين من بين سائر الوقائع التي سردها مصطفى أمين، بالأسماء والأماكن وأحيانا بالتواريخ، وهو ما يجعلنا نثق أكثر برسالة مصطفى أمين لأنها موثقة، ولأنها في مقام الاعتراف والتوسل، ولأن هيكل صاحب مصلحة في نفي هذه التهمة بطبيعة الحال!
لكن أقوى ما يجعلنا نثق في رسالة مصطفى أمين هو أن تهمة العمالة للمخابرات الأمريكية ترد في مذكرات رجال المخابرات الأمريكية الذين عملوا في مصر في هذه الفترة، فالذين تعرضوا لعلاقة المخابرات الأمريكية بالصحافة المصرية ذكروا أن المخابرات استطاعت تجنيد: مصطفى أمين وعلي أمين ومحمد حسنين هيكل.
هذا الكلام قاله مايلز كوبلاند صاحب الكتاب الأشهر "لعبة الأمم"، وقاله -بأوضح عبارة- ولبر كراين إيفيلاند صاحب كتاب "حبال الرمال"، فصرح بأنه "في مطلع الخمسينات جندت المخابرات الأمريكية ثلاثة من الصحفيين المصريين هم: محمد حسنين هيكل والأخوين مصطفى وعلي أمين".
وحين نشر هذا الكتاب الأخير، استفز الأمر جلال كشك رحمه الله، فنشر القضية في مطبوعة "رسالة التوحيد" التي كان يحررها وحده (العدد الثاني، ديسمبر 1985م)، وفيها مارس جلال كشك أقسى ما يستطيع كاتب أن يمارسه من الاستفزاز ليدفع هيكل للرد على هذا الاتهام. فقال:
"والمطلوب الآن إن كان ما قاله كذبا –وهو لا يزال على قيد الحياة بالمناسبة- المطلوب هو أن يرفع هيكل ومصطفى أمين قضية على الكاتب الأمريكي، ويطلب كل منهما تعويضا مائة مليون دولار.. فما من إساءة أو إضرار بمكن أن يصيب مؤرخ الناصرية مثل اتهامه بالعمالة للمخابرات الأمريكية... إذا جرؤ هيكل على مجرد رفع القضية أمام القضاء الأمريكي فإن الشك سيزعزع الاتهام، وإذا استمر في القضية وحكم له القضاء فقد سقط الاتهام إلى الأبد، وحق له أن يجلس على منصة القضاء يتهم أساتذته [يقصد مصطفى أمين] وله علينا، وهذا عهد أمام الله والناس أن نطوف سبعة عشر مرة حفاة عراة إلا مما يحتمه القانون حول قبر الزعيم الخالد تائبين نادمين، نحثو التراب على رؤوسنا!! أما إذا لم يفعل ولن يفعل.. فلماذا لا تطالبه نقابة الصحفيين بتوضيح موقفه من هذا الاتهام الذي يمس بصورة أو أخرى سمعة الصحافة المصرية كلها.. فهذا اتهام معيب فاضح مشين منشور في كتاب طبع وبيع منه ما يقرب من مائة ألف نسخة، فلماذا يسكت وفي أمريكا قضاء؟! وإذا كان يشكو التكاليف فمن الممكن أن تتضامن معه النقابة، فهي قضية تمس شرف عميد الصحفيين الناصريين، بل إننا هنا في "رسالة التوحيد" على استعداد للتضامن معه بكل ما نطيق، فقط إذا استجمع شجاعته ولجأ إلى القضاء يدافع عن شرفه، وشرف من ائتمنه على تاريخه".




وقد صحَّ ظن جلال كشك وخاب استفزازه، وظل هيكل حيا لنحو ثلث قرن بعد هذا الكلام ولم يثأر لشرفه، رغم أنه اطلع عليه، واستشهد بهذا الكتاب نفسه في روايات أخرى وافقت رأيه.
(4)
طال المقال أيضا رغما عني، وكنت أنوي أن أضرب بعض الأمثلة عن تزويره للتاريخ، كما كنت أود أن أثير بعض الأسئلة عن موقع حسنين هيكل من خريطة السياسة العالمية، ولعل ذلك يكون في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى.لكن ما لا يجب بحال أن يفوت في هذا المقام هو لفت النظر إلى أستاذنا العملاق الراحل الأستاذ محمد جلال كشك رحمه الله، والذي تصدى لهيكل تصديا عنيفا، وتحداه كثيرا تحديا مهينا، وتعقب تزويره للتاريخ في كتبه، وكان من الطاقة والقوة بحيث يقرأ كتاباته بالعربية والإنجليزية ويستخرج الفوارق بينهما، بل لقد بلغ به الأمر مرة أن كتب في أخبار اليوم مقالا بعنوان "ما لن ينشره هيكل من الطبعة العربية في كتابه عن حرب الخليج"، وكان جلال كشك قد قرأ كتابه عن حرب الخليج في النسخة الإنجليزية وفيه ما يفضح ملك الأردن، فتحداه بهذا المقال الخطير، ثم خرج كتاب هيكل بالعربية "حرب الخليج أوهام القوة والنصر" خاليا مما تحداه به جلال كشك، وأصدر جلال كشك كتابا صغيرا عن هذا أسماه "الفضيحة: هيكل يزور التاريخ لحساب الملك حسين".
ولم يفكر هيكل مرة في الرد على جلال كشك في حياته ولا بعد موته فيما أعلم، إلا أنه ظل متحفزا بكل طاقته لضرب جلال كشك، وأتذكر أني كنت أتتبع تراث جلال كشك على الانترنت فوقعت على مقال صحفي مصري يعيش في السويد دخل في نزاع قضائي مع جلال كشك فلم يجد إلا أن يراسل هيكل، ومن فوره تحرك هيكل ليجعل المحامي عن هذا الصحفي هو يحيى الجمل شخصيا!
ويعد كتاب جلال كشك "ثورة يوليو الأمريكية" هو أقيم وأفضل ما يمكن قراءته في بيان تزوير هيكل للتاريخ، وفي إثبات ارتباط انقلاب يوليو بالمخابرات الأمريكية.
(5)
يستطيع جلال كشك الآن أن يقرَّ عينا في قبره، فقد مات هيكل وقد رأى بنفسه الجيل الذي بصق عليه وعلى قبره وعلى صحافته، وإن لم يستطع الجيل أن يحطم المدفع والدبابة بعد. لقد مات هيكل ولا يكاد في الشباب أحد يثني عليه أو يترحم عليه، ولا يكاد فيهم أحد يحترم مؤسساته التي عمل بها أو أنشأها: لا الأهرام ولا الأخبار ولا حتى مؤسسات تلاميذه التي لا زالت عاهرة تنام على فراش الحاكم العسكري، لقد صارت حقبة العسكر مبغوضة ملعونة، وصار هيكل وأقران هيكل وتلاميذ هيكل لعنة عند جيل الشباب الجديد.

وفي غد غير بعيد، يأتي جيل الدبابة والمدفع ليدك حصون العسكر ويطوي صفحتهم السوداء الملعونة التي ألقت بثقلها ودنسها على هذا البلد الكريم في تلك الأمة الخالدة.
نشر في ساسة بوست
4 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 21, 2016 01:38

February 12, 2016

كيف خربت عصور الاحتلال المجتمعات الإسلامية

سلكنا في هذه السلسلة من المقالات رحلة طويلة نوشك الآن على نهايتها..
أردنا أن نتحدث عن منهج الإسلام في بناء المجتمعات، فبدأنا بالحديث عن تصورات الفلاسفة للمدينة الفاضلة، وكيف أجابوا على سؤال التغيير، فظهر لنا عيوب البشر حين يرسمون المناهج، مع ما ثبت من فشلهم في صناعة نموذج واحد لمجتمع واحد يحقق هذه الصورة.
ثم دلفنا إلى موضوع بناء الإسلام للمجتمع، وذكرنا أنه يقوم على أربعة أركان:
1.    الأساس العقدي المغروس في قلب المسلم، وهو التوحيد الذي يصوغ الأفكار والقناعات ويجيب عن الأسئلة الكبرى، ومنها: سؤال مهمة المسلم في هذه الحياة، وهي مهمة تعميرها ومقاومة الإفساد فيها ابتغاء وجه الله وطلبا للدار الآخرة.  2.    بناء شخصية المسلم المؤهل للقيام بهذه المهمة، فيكونَ أهلا للمسؤولية، ليس إمعة بل مستقل الشخصية، يتحلى بأخلاق المهمة، مستدركا ومستوعبا لأخطاء غيره، صلب لا ييأس أبدا.
3.     بناء النظام العام للمجتمع، الذي يحدد طبيعة السلطة وشرعيتها وثوابتها، ويحدد طبيعة المجتمع وروابطه التي تُمَتِّنُه وتقويه: الدين والرحم والجوار، ثم يحدد طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع.
4.     ثم وجدنا في الإسلام نظاما تفرد به عن سائر المناهج والفلسفات، وهو نظام الحماية وجهاز الإنذار، ذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرسمنا خريطته، ونبهنا على أمور منسية يغفل عنها الكثيرون فيه، وذكرنا آثار إهماله وتركه.
وكانت المزية العظمى للمنهج الإسلامي أنه لم يكن نظريا فلسفيا ولا مجرد خيال محبوس في الأوراق، وإنما نشأ مجتمع إسلامي على الأرض وأعطى لتاريخ الإنسانية إنجازا عظيما لم يكن مثله لأي أمة في التاريخ، لا في ميزان الإنجاز السياسي والعسكري، ولا في ميزان الإنجاز الحضاري. وذكرنا أمثلة عن حيوية المجتمع وقدرته على المقاومة والتغيير من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الفردي، والجماعي.
ثم كان لا بد أن نروي قصة الهبوط، وكيف صرنا بهذا الضعف والهوان من بعد ما كنا على قمة الحضارة، ونفتش في جذور هذه النكبة، وكيف استطاع الغرب التفوق علينا وهزيمتنا وقهرنا. فوجدنا إجابة ذلك في ستة أمور: أخذوا منا ثلاثة تقيم حضارتهم وزرعوا في بلادنا قسرا الثلاثة الأخرى.
أما التي أخذوها واقتبسوها فهي: التحرر من سلطة الإقطاع والكنيسة، وقوة المجتمع، والتوحد رغم الخلافات العرقية والدينية. وأما التي غرسوها عندنا فهي: القوميات بدلا عن الوحدة، والعلمانية ذات الدولة المركزية، والنزعة الفردية.هذه الثلاثة هي التي نتناولها في هذا المقال والذي يليه إن شاء الله تعالى، وبها نختتم هذه الرحلة في هذا الموضوع، والله المستعان.
***
"المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"(مثلما كان الغرب وغيره من الحضارات مولعين بتقليد المسلمين أيام الازدهار الحضاري، جاءت عصور الضعف بما عكس الوضع، وصار المسلمون مولعين بالاقتداء بالغربيين.
على أن المسلمين حين انتشروا في الأرض لم يكونوا يريدون بأهلها إلا خيرًا، على العكس من الغربيين في لحظات قوتهم؛ فهم لم يريدوا نشر خير أو حضارة في البلاد المحتلة؛ بل أرادوا استلاب خيرها، وانتزاع مكامن قوتها لتصير تابعة أسيرة؛ ولهذا ترى آثار المسلمين في البلاد التي فتحوها –حتى ولو خرجوا منها- حضارة ونهضة، بينما آثار غيرهم في بلادنا –حتى بعد خروجهم- مشكلات ونزاعات حدودية وإثنية وقبلية، وأفكار منحلة هدامة، وتبعية سياسية واقتصادية وثقافية ما تزال الأمة تسعى للتخلص منها.
(1)لا ريب أن الاحتلال لم ينزل بلادنا إلا بعد أن تفرقنا نحن أولاً، ولكن فرقتنا كانت فرقة الحكام؛ بينما كان الاتصال الشعبي قائمًا؛ إذ لا حدود ولا قيود ولا جمارك، ولا حرج على انتقال التجارة وطلاب العلم، وسائر البشر الذين يشعرون أنهم في وطنهم دار الإسلام، وإن تباعدت الديار.
بينما صنع الاحتلال في تلك الأمة الواحد حدودًا صارت مقدسة، بل صار تقديس الحدود والتراب أعلى وأولى من تقديس البشر، وصارت الجيوش الوطنية تدافع عن هذه الحدود، ولو بقتل المسلمين وإن كانوا لاجئين، وصار للوطن معنى آخر بخلاف الانتماء إلى دار الإسلام، واشتعل تأجيج النعرات القومية بين العرب والترك لإسقاط الخلافة العثمانية، ثم بين العرب وغيرهم من الشعوب كالسودان والأكراد والأمازيغ والفرس والتتر وغيرهم، ثم بين العرب أنفسهم؛ فأولئك مصريون جذورهم ضاربة إلى الفراعنة العظماء، وأولئك عراقيون المنتسبون إلى حضارات السومريين والبابليين، وأولئك سوريون أحفاد الفينيقيين، وأولئك التوانسة وجذورهم في حضارة قرطاج، وأولئك اليمنيون ورثة الحضارة العريقة في سبأ وعدن(لقد ذاق الغربيون –أوروبيون وأمريكان- لعنة القومية والتفرق(خريطة رالف بيتر لتقسيم العالم الإسلامي عرقيا ومذهبيا
هذا الاعتراف بأن لعنة القومية التي استمرت في العالم برعاية أمريكية ما زال –للأسف- لا ينبه الكثيرين من المسلمين إلى الحقيقة القائمة بأن تفريقهم إلى دول كل منها يتغنى بقوميته ووطنيته وترابه الغالي إنما يجعلهم جميعًا أذيالاً وتبعًا مُحَقِّقًا فيهم هدف خطة عدوهم، بل إن البعض(إن القومية التي زرعها الغرب لم تكن من نوع العلاقات المترابطة التي حرص عليها الإسلام كما أسلفنا من قبل، بل لا بد من الوعي بأن القومية الغربية -التي نشأت كانسلاخ من الكنيسة الدينية ومن وحدة اللغة اللاتينية وارتبطت بنمو الطبقة البرجوازية ضد نظام الإقطاع- كانت تحتاج إلى أن تتسلح بالتعصب والعنصرية لتكون انسلاخًا وبديلاً عن الوضع القديم، ولرسم معالم وحدود ونفوذ التوجه الجديد، ولأن الحضارة الغربية مادية، ولفساد الكنيسة المسيحية لم تستطع عوامل التوحد إنقاذ المسار من التمزق القومي، وكل ما سبق إنما هو نقيض مخالف تمامًا للوضع في المشرق الإسلامي(لكنهم نجحوا في تمزيقنا، وزرعوا في بلادنا القومية بخصائصها التي نبتت في بلادهم، وهم لا يقنعون، بل ما تزال خطة التقسيم والتفريق مستمرة، وما يزال الباحثون يقترحون تقسيمًا جديدًا للعالم الإسلامي، وكان المستشرق الأمريكي اليهودي برنارد لويس صاحب أشهر خطة تقسيم معتمدة على التوزيع العرقي والمذهبي، وقد اعتمد عليها المحلل العسكري الاستخباري رالف بيتر في رسم خريطة أشد وضوحًا لتقسيم العالم الإسلامي.
وعبر التاريخ المعاصر لم تلق الأمة أقسى ولا أمرَّ ولا أكثر نكالاً من حكام نادوا بالقومية؛ مثل: عبد الناصر وصدام حسين والقذافي وحافظ الأسد وابنه بشار، فلم ينتصروا على عدوهم ولم يكونوا أشداء إلا على شعوبهم.
ولم يكتف الغربيون بالتفتيت السياسي، بل لقد استفادوا من تجربة تمزقهم هم؛ ذلك أن العامل الأهم في التمزق الأوروبي إلى قوميات هو استبدالهم اللغات القومية المحلية باللغة اللاتينية، التي كانت لغة رجال الكنيسة، وفي إطار النزاعات الدينية والنزاع بين الكنيسة والأفكار المتحررة منها بدأت تظهر الكتابات باللغات المحلية، فكتب دانتي "الكوميديا الإلهية" بالإيطالية، وكتب مونتاني أدبه بالفرنسية، ووضع شوسر "قصص كانتربري" بالإنجليزية، وهكذا، وساهم انتشار الكتابات باللغات المحلية في تيسير الإقبال عليها واحتضانها شعبيًّا، ثم ترسخ هذا الأمر حتى صار الاعتزاز باللغة المحلية من الاعتزاز بالقومية(ولهذا عملوا على إشعال الدعوة للهجات العامية واللغات المحلية؛ سعيًا لضرب اللغة العربية التي تمثل الوحدة الثقافية لبلاد العرب، وخيط الوحدة الدينية الأخير بين المسلمين، وبدأ السعي الحثيث في إنتاج أدب باللغات العامية، بدأت الفكرة من لدن الأوروبيين –وتحديدًا ولهلم سبيتا ثم ويلم ويلكوكس- ثم سرت عبر ألسنتهم في بلادنا مثل لطفي السيد وعبد العزيز فهمي وسلامة موسى وغيرهم(ولقد كان لهذا التمزق من الأمة الواحدة إلى القوميات آثار جد بعيدة، لقد صارت الأوطان أعلى في النفوس من الأمة، ولم يعد أغلب الناس يهتم لأمر الأمة بل لأمر الوطن، وصارت الأنظمة الحاكمة لا ترى نفسها مسئولة عن عمقها الإسلامي، وطالت الآثار حتى فتاوى الفقه التي وجدت نفسها في واقع لا بد من معالجته، فكانت معالجاتها جزءًا من ترسيخ هذا الواقع نفسه، لم تعد مجازر المسلمين تهز مسلمين آخرين؛ لأن حدودهم التي رسمها المستعمر لم تستوعب أولئك المذبوحين، وكانت الحدود منبتة لفكرة أن "المواطن الكافر أقرب وأهم من المسلم البعيد"، وأن للكافر في الوطن حق ليس للمسلم الغريب، وصار الأمر من القوة بحيث يمكن أن نقع فيه بلا قصد وإن حرصنا(نشر في ساسة بوست

([1])ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/184. ([2])د. محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية 2/96، 137 وما بعدها، و142 وما بعدها. ([3])راجع الفصل السابق. ([4])ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص31. ([5])ونعني بهذا طائفة من الناس وليسوا شخصًا، وأما أبرزهم فهو الصحافي الناصري المعروف محمد حسنين هيكل، والذي تدفع كثير من المصادر بأدلة وافرة على تبعيته –أو على الأقل اتصاله- بالمخابرات الأمريكية، انظر مثلاً: محمد جلال كشك: كلمتي للمغفلين، ثورة يوليو الأمريكية، الفضيحة، الجنازة حارة، ود. سيار الجميل: تفكيك هيكل. ([6])د. محمد عمارة: الغزو الفكري وهم أم حقيقة ص66 وما بعدها. ([7])د. شوقي الجمل وعبد الله عبد الرازق: تاريخ أوروبا من النهضة حتى الحرب الباردة ص15. ([8])يراجع في هذا البحث النفيس "تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها" للدكتورة نفوسة زكريا سعيد، ود. محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية 2/359 وما بعدها. ([9])ولعل لجنة المسابقة يتسع صدرها لنقدي هذا، فلقد اختاروا للبحث عنوانًا فرعيًّا هو "الشعور بالمسئوليَّة تجاه الأسرة والمجتمع والوطن" وكان الأولى أن يُقال "الأمة"، ونحسب أن هذا ذاته من آثار هذا التمزق الذي تسلل إلى وجداننا.
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 12, 2016 01:58

February 10, 2016

موجز تاريخ تركيا العلمانية (1)

ليس من شيء يؤثر في تاريخ البشر كالحروب، فبالحروب وحدها تتغير المصائر وتتبدل موازين القوى وتولد ممالك وتنهار أخرى، وتاريخ كل أمة ينقسم إلى فصول لا بد أن تكون مقدمته وخاتمته حروبا؛ فتلك حروب التأسيس أو التحرير، وتلك حروب الزوال والانهيار.
جرت هذه السُّنَّة على السلطنة العثمانية، كانت هزائمها المتتالية أمام الجيوش الأوروبية تزلزل القلوب وتحرك العقول بحثا عن السر والسبب، وكانت الإجابة الحاضرة هي: فلنتعلم من الغالب (أوروبا)، فتخلصت السلطنة من جيشها القديم، وذراعه الضارب: الانكشارية، واتجهت نحو بناء جيش حديث كتلك الجيوش التي توقع بها الهزائم، ففتحت المدارس الحربية واستجلبت المدربين والخبراء الأوروبيين، فكان من ثمرات هذا أن نشأ جيل من العسكريين ذا تأثر وهوى فكري غربي، أنبت فيما بعد الحركات العسكرية السرية التي انقلبت على السلطنة العثمانية وأسست الجمهورية التركية الحديثة على النمط الغربيأسفر كل هذا عن آثار بعيدة، داخلية وخارجية؛ ففي الداخل سُحِقت كل حركة معارضة -لا سيما إن صدرت عمن لا يشملهم التعريف التركي كالأكراد أو العلويين- بعنف بالغ وصل حد المذابح والتهجير والإبادة، وفي الخارج نفضت تركيا يدها من كل ما للدولة العثمانية من ميراث وعلاقات مع بلاد البلقان أو البلاد العربيةكانت العقود السياسية الثلاثة الأولى للجمهورية "ديكتاتورية في كل شيء فيما عدا الاسم"وسعى أتاتورك لكتابة تاريخ جديد لتركيا وعُهِد بالأمر لابنته بالتبني عفت عنان والتي كانت تلميذة في جنيف للمؤرخ الأنثروبولوجي يوجين بيتارد صاحب نظرية أن التاريخ هو صراع الأجناس العليا مع الأجناس الدنيا، فصدر عنها تاريخ عنصري يرى الترك جنسا أعلى موجود منذ قديم الزمان في منطقة الأناضول وله لغة عليا قديمة أخذت منها سائر اللغات، وصارت المهمة تنقية اللغة مما دخلها من العربية والفارسيةوالنتيجة النهائية من بعد ما كانت تركيا أرض الخلافة الإسلامية التي تحرك الجيوش شرقا وغربا دفاعا عن الدين صارت "دولة قومية علمانية يتصادف فيها أن يكون الإسلام دين الأغلبية"نشر في تركيا بوست
كِرِم أوكْتِم: تركيا.. الأمة الغاضبة، ترجمة: مصطفى مجدي الجمال (القاهرة، سطور، 2012م) ص64، 66؛ Şherif Mardin: Religion and Secularism in turkey, in Albert Hourani [et al.] “The Modern Middle East” (Berkly and Los Angeles, University of California Press,1993), p. 351, 359-63,367-8. في تفصيل هذا انظر: أحمد داود أوغلو: الفلسفة السياسية، ترجمة: د. إبراهيم البيومي غانم، (القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، 2006م)، ص43 وما بعدها. Şherif Mardin: Religion and Secularism, p363. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص49، 70، 72، 79 وما بعدها. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص82، 72. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص72. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص48، Ira M. Lapidus: A History of Islamic Societies (Cambridge: Cambridge University Press, 2014), p. 501-2. Angel Rabasa, F. Stephen Larabee: The rise of political Islam in Turkey (Santa Monica, RAND, 2008), p. 32. إيان بوروما ومرجليت أفيشاي: الاستغراب.. موجز تاريخ النزعة المعادية للغرب، ترجمة: ثائر ديب (السعودية، مكتبة العبيكان، 2008م)، ص124؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 33. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص75. Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 502-3; Binnaz Toprak: The Religious Right, in Albert Hourani [et al.] “The Modern Middle East”, p. 630-1. Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 509; Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 33; Binnaz Toprak: The Religious Right, p. 627, 633. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص76 وما بعدها؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 33, Şherif Mardin: Religion and Secularism, p. 366. Carl W. Ernest: Following Muhammad, Rethinking Islam in the Contemporary World (Chapel hill & London, The University of North Carolina Press, 2003), p. 136. Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism Between the Interests of State, Politics, and Society, (Frankfurt, PRIF, Report No. 78, 2007), p. 1. Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 535 Binnaz Toprak: The Religious Right, p. 625. كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص79، Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 503.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 10, 2016 06:34

February 6, 2016

اقتباس أوروبا من المسلمين (3) الأمة الواحدة

اقرأ أولا: اقتباس أوروبا من المسلمين (1) التحرر من الكنيسة والإقطاع اقتباس أوروبا من المسلمين (2) قوة المجتمع كانت وحدة الأمة الإسلامية أمرًا لافتًا في مسار التاريخ، لا سيما مع الاستيعاب الإسلامي لجميع الأجناس والشعوب، التي دخلت فيه وساهمت في صنع حضارته، وعلى ما بين الديار من تباعد ظل الضمير الإسلامي يرى المسلمين أمة واحدة ودارًا واحدة.
يقول أنتوني بلاك، وهو ممن اهتم ببحث الفوارق بين الإسلام والغرب عبر التاريخ: "احتوى الإسلام الباكر على عناصر من القومية العربية، لكن محمدًا r وأتباعه رفضوا النهج اليهودي للانعزال القومي وابتكروا –بدلاً من ذلك- مجتمعًا دوليًّا جديدًا، (وعبر التاريخ) كانت الأمم تعد تجمعات اجتماعية لها ثقافتها وعاداتها، وفي بعض الحالات أديانها الخاصة، وتبنت البلاطات الملكية ثقافة راقية متعددة القوميات، تضمنت بعض العناصر ما قبل الإسلامية، بالإضافة إلى الاستفادة من التراث الثقافي لمناطقها، وكان الدين في أيدي جماعة من العلماء متعددي القوميات على نحو واعٍ ذاتيًّا، وكانت بعض الدول الإسلامية تحكمها سلالة تتكون من مجموعة أقلية عرقية (مثل البويهيين والسلاجقة)، وكانت الإمبراطورية العثمانية مأهولة بمزيج من المجموعات العرقية... وهكذا تجاوزت وحدة الأمة الاختلافات العرقية أكثر بكثير مما فعلت الكنيسة؛ سواء في العالم المسيحي الشرقي أو الغربي، قبل الإصلاح أو بعده، ولم تكن توجد دولة قومية في العالم الإسلامي حتى القرن العشرين"(وما إن انتهت الحروب الصليبية حتى بدأت أوروبا في التفكير في التوحد، وقد أخذ هذا نحو خمسة قرون (1300 – 1800م)، ونشر البابا بيوس الثاني (1458م) رسالة تحمل حلم توحد أوروبا في دولة واحدة، ومضى الأمر يداعب الخيال ويسير في الواقع حتى كان لفظ "أوروبا" في أواخر القرن السابع عشر يحل محل لفظ "العالم المسيحي"، ومع حلول القرن الثامن عشر كان الثناء على "أوروبا" هو التيار الغالب، مع شيوع العديد من القيم مثل التسامح الديني(لقد خرجت هذه الأحلام من رحم الصراعات الدينية التي اجتاحت أوروبا، فكان السعي محمومًا لإيجاد رابطة أخرى تجمع الأوروبيين؛ لترحمهم من هذا الصراع، ثم انتهى هذا الصراع بعقد صلح وستفاليا (1648م)، الذي أرسى مبدأ الدولة القومية، وأعاد تشكيل أوروبا، وكان أكبر الخاسرين فيه هو المسيحية، التي بدأ سلطانها يذوي منذ تلك الأيام(على أن هذا الهروب من المسيحية -وحروبها الدينية الدموية- إلى الدولة القومية لم يكن حلاًّ ناجعًا، إذ ما إن خفت سلطان المسيحية حتى اشتعلت لعنة القومية، وباشتعالها نشبت الحروب القومية؛ التي كانت أسوأ من الحروب السابقة، فحروب الأباطرة هي حروب نبلاء ذوي أخلاق، ويمكن أن تنتهي بصلح أو زواج ملكي، بينما حروب الرؤساء سياسية بلا أخلاق، ولا يمكن أن تنتهي بمعاهدات صلح أو زيجات، وتستبيح مواطني البلدان الأخرى جميعهم بلا ذرة تردد أو ألم ضمير(لكن المثير للإعجاب أن أوروبا بعد خروجها من هذه الحروب فكرت في التكتل وتجاوز لعنة هذه القومية، وذلك في الوقت ذاته الذي كانت تزرع فيه القومية في بلادنا نحن، وإن الصورة التي داعبت الخيال الأوروبي كانت من آثار الاحتكاك بالمشرق؛ فهذا التكتل الأوروبي لم يكن مجرد التئام جغرافي، "ولكن رؤية [قِيَمية وفلسفية] شاملة، وهي رؤية مجتمع متمدن، متسامح، مسالم، وهو في الوقت نفسه متنوع وموحد، ومتجاوز للقومية وللسياسات، ومؤسس على المعرفة العلمية والتقدمات الثقافية، وهو صديق للفنون وللعلوم وللتجارة، وللتقدم في الكرامة الإنسانية، والحرية والسعادة"(وهذا الوصف هو في الحقيقة وصف للمشرق الإسلامي كما شاهدته الحملات الصليبية، واحتك به الإسبان في الأندلس والمغرب، والنورمان في صقلية وإفريقية وجيوش الاحتلال فيما بعد.
وعلى الرغم من أن الغربيين لم يصلوا إلى هذا الحلم؛ فإنهم حققوا أهم أركانه، فلقد "محا إنشاء السوق المشتركة ثم الاتحاد الأوروبي لاحقًا القومية الخبيثة، وصاغ إحساسًا من المصلحة والهوية المشتركتين بين الأمم الأوروبية، وتوقفوا عن غزو أحدهم الآخر، واشتركوا في حلف عسكري غربي، وتبع ذلك ستون عامًا من السلام الذي لم ينقطع، ومن الازدهار في أوروبا الغربية"(وبينما يتخلص الأوروبيون من القومية ولعنتها فإنهم كانوا يغرسونها في أرضنا، وكان هذا ضمن مساوئهم التي تركوها ببلادنا، فكانت من أهم أسباب نكبتنا، وهذا ما سنرى طرفًا منه في المقالات القادمة.
نشر في ساسة بوست

([1])أنتوتي بلاك: الغرب والإسلام ص122. ([2])تاريخ أوروبا المسيحية يكاد يكون تاريخ الحروب الدينية بين المذاهب المسيحية؛ لذا فالتسامح الديني نفسه أثر من آثار الاحتكاك بالشرق الحافل بالأديان والمذاهب التي تعيش في ظلال الحكم الإسلامي مطمئنة موفورة الحقوق. ([3])ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص36، 37. ([4])ول ديورانت: قصة الحضارة 30/315  وما بعدها. ([5])رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص36. ([6])أرنولد توينبي: مختصر دراسة التاريخ 2/18 وما بعدها. ([7])ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص37. ([8])ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص30.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 06, 2016 06:39

January 26, 2016

حاجة السياسة التركية للهوية الإسلامية

بقدر ما يكون الموقع الجغرافي مزية وقوة في حال القوة، بقدر ما يكون مأزقا –وربما لعنة- في حال الضعف!
وفي الحالة التركية، يفرض الموقع الجغرافي على تركيا أن تكون حاضرة في ساحة السياسة العالمية، ولهذا فإن السياسية التركية لا تملك خيار الاعتزال، فهي إما أن تكون دولة عظمى فيكون موقعها الجغرافي من عوامل قوتها وتفوقها، وإما أن تكون ساحة صراع بين الأقوياء.
ومنذ أن انهارت الخلافة العثمانية –التي كانت قوة عالمية في وقتها- لم تستطع تركيا تجنب الصراعات العالمية حولها رغم أن السياسة الأتاتوركية أعلنت ذلك وأرادت أن تبتعد بنفسها، بل كانت تركيا جزءا من مشهد الحرب الباردة، وكانت خط الدفاع الأول للمعسكر الغربي أمام المعسكر الشرقي، ونُصِبَتْ فيها الصواريخ الأمريكية صوب الاتحاد السوفيتي إبان أزمة الصواريخ الكوبية.
لكن أوروبا لم ترغب أن تكون تركيا جزءا منها، بل أرادت فقط أن تكون خط دفاع متقدم لها وساحة صراع يعاني من الأزمات ولا يشارك في الثمار، ولهذا قبلت أن تكون تركيا جزءا من حلف الناتو منذ البداية بينما ظلت تماطل ستين سنة في انضمامها للاتحاد الأوروبي، ثم تعاملت مع الموقف بإهمال ولا مبالاة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وقد عبَّر الرئيس أوزال عن حنقه الشديد من هذه السياسة حينئذ.
المحيط التركي
أدت الظروف التاريخية المختلفة إلى تحويل المحيط التركي إلى محيطٍ معادٍ لها من سائر الجهات، وهذه المعاداة تقوم بالأساس على قاعدة الهوية، فإيران وأرمينيا وروسيا واليونان يمثلون العداء التاريخي مع الدولة العثمانية، بينما العراق وسوريا يمثلان العداء على قاعدة القومية التي كانت هي الهوية المحددة خلال القرن العشرين.
ولا يمكن بناء مشروع حضاري لأمة عظيمة دون محيط آمن وعمق استراتيجي واسع، كما تقول نظريات المجال الحيوي في الجغرافيا السياسية، وإن موقع تركيا الجغرافي يجعلها تستطيع أن تكون رأس حربة للمشروع الشرقي أو الغربي (كما كانت في الحرب الباردة) أو الإسلامي (كما كانت الدولة العثمانية)، إلا أن ثقلها التاريخي وروح شعبها ومواقف الأطراف الأخرى منها لا يجعل أمامها خيارا سوى أن تكون طليعة للعالم الإسلامي، فالعداء التاريخي والذي يتجدد بسهولة مع الروس ثم الموقف الأوروبي من انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي والدراسات المكتوبة في كلا الطرفين، كل هذا ينظر إلى تركيا بعداء ويصنفها في المعسكر الآخر، ولهذا لم يكن مناص أمام السياسي التركي إلا التفكير في الاعتماد على الذات وصناعة مجال نفوذ حيوي وعمق استراتيجي آمن إذا كان يريد حقا بناء مشروع كبير لأمة عظيمة.
ولا تخرج الخيارات الكبرى المطروحة عن خياريْن؛ خيار المصالح الاقتصادية من خلال إنشاء شبكة واسعة من المصالح بين تركيا ودول الجوار بحيث يشكل هذا الواقع الاقتصادي عائقا لكل الأطراف أمام الإضرار بالطرف الآخر إن لم يمهد ويعمق تحالفا سياسيا أوسع، والخيار الثاني هو الخيار الإسلامي الذي يعتمد على إحياء الهوية الإسلامية والارتباط بالمنطقة الإسلامية واستعادة الصيغة العثمانية وإن لم تكن بنفس الوضع القديم.
فأما خيار المصالح الاقتصادية، وهو الذي عُبِّر عنه بعبارة "تصفير المشكلات" فقد جربته تركيا مع حزب العدالة والتنمية، وقد نجح جزئيا، لكنه ما كاد يؤتي ثماره حتى اشتعلت ثورات الربيع العربي، فَسَادَ في كل المنطقة صراع الهوية من جديد، وعَلَتْ هذه الورقة على ورقة المصالح الاقتصادية في معظم الأحيان، وقد بدا هذا كأوضح ما يكون في الثورة السورية التي وقفت وراءها إيران بكل قوتها وبلا أدنى تردد من منطلق الهوية، ثم تطورت فصولها إلى أن صارت موطن صراع هوية عالمي بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي الذي تحاول روسيا إحياءه من جديد، ولم تبال الأطراف بما نشأ من تحالف اقتصادي سابق، فعادت المشكلات التي أنهت سياسية "تصفير المشكلات"، وتحول المحيط من كونه مجالا للنفوذ والفرص وصناعة مكانة جديدة لتركيا إلى أن يكون مصدر تهديد ومخاطر ومشكلات سياسية واقتصادية، وساعتها اضطرت تركيا أن تبعث من جديد ورقة "هويتها الأوروبية" وكونها جزءا من حلف الناتو من بعد ما كانت تمضي بعيدا عنه لتكون أكثر استقلالية، وحتى الآن لم تسعفها هذه الورقة ولم يوافق الحلف على أشياء بسيطة للغاية مثل إنشاء منطقة آمنة صغيرة في شمال سوريا رغم ما تعانيه تركيا من أعباء في الملف السوري وحاجتها إلى وجود هذه المنطقة. وبالعموم فورقة الهوية الأوروبية لم تخدم تركيا أبدا في صناعة مجال أو عمق استراتيجي لها.  أو مثل أزمة "الطائرة الروسية" برغم أن الوجود الروسي في المنطقة تهديد خطير ومباشر لنفوذ تركيا ومجالها الحيوي ومصالحها في سوريا، بل إنه تهديد مباشر لتركيا نفسها من خلال دعم الأحزاب الكردية الساعية للانفصال عنها.
وأما الخيار الإسلامي، فهو الذي يبدو متينا راسخا حتى هذه اللحظة برغم أن تركيا لم تَسِرْ فيه بالقوة المنتَظَرة من أصحاب مشروع إحيائي، بل تكاد الاستثمارات التركية لم تجد نجاحا أعظم من استثمارها في مجال المواقف السياسية "الإسلامية" والقوة الناعمة، إذ صارت صورة تركيا هي الأفضل في العالم الإسلامي، ولذلك فإن الخيار الإسلامي يظل الخيار الأفضل بالنسبة لتركيا، إذ تظل القاعدة الأمتن والأقوى والأكثر آمانا هي المظلة الإسلامية التي تجعل تركيا في قلب العالم الإسلامي وقادرة على التحصن به والإفادة من طاقاته البشرية والمادية الهائلة. وهذا الخيار هو الطبيعي والمنطقي حتى لو لم يكن من يقود تركيا إسلاميا أو مقتنعا بهذا الخيار. لا سيما وأن مواجهة أخرى تلوح في الأفق بين روسيا –والمعسكر الشرقي الذي تحاول إحياءه- وبين المعسكر الغربي، وستكون هذه المواجهة في شرق أوروبا والقوقاز، وفي توقعات جورج فريدمان للقرن الحادي والعشرين ذكر أن روسيا ستضغط على الجنوب متحالفة مع الأرمن وستجد تركيا أن الجيش الروسي صار على حدودها لتعيش من جديد أجواء الحرب الباردة، وأن تركيا مضطرة إلى التوغل وتعميق وجودها في القوقاز دفاعا عن أمنها القومي وضمانا لئلا يعود الروس من جديد، وكل ذلك حول العام 2020السياسة التركية الجديدة
أدركت السياسة التركية منذ وقت بعيد ضرورة الاستفادة من العمق الإسلامي ذي التاريخ العثماني، فالرئيس تورغت أوزال كان يرى بأن المجال الحيوي لتركيا يمتد من البحر الأدرياتيكي حتى حدود الصينلكن هذا لم يُفلسف له برصانة ولم يُدفع باتجاهه مثلما يحدث الآن في ظل حزب العدالة والتنمية على يد رجب طيب أردوغان وأحمد داود أوغلو، فالكتب الثلاثة الرئيسية لداود أوغلو –وهي: الفلسفة السياسية، العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية، العمق الاستراتيجي- ترسم بوضوح ثلاث خطوات، فهو يثبت في "الفلسفة السياسية" أصل التناقض الجوهري بين النموذجين الإسلامي والغربي وأنهما يستحيل التقاؤهما وعدَّد بعض أوجه الاختلاف في النظام السياسي، وهو يثبت في كتاب "العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية" أن النموذج الغربي المعاصر قد أفلس وأثبت فشله في تقديم جديد للإنسانية وأن ليس في العالم من يطرح بديلا حضاريا سوى العالم الإسلامي، كما أنه يثبت في كتاب "العمق الاستراتيجي" أن تركيا بموقعها الجغرافي وتاريخها وطبيعة شعبها لا يمكن لها النهوض بغير الاستناد إلى الهوية الإسلامية.
وقد مضت هذه المسيرة بما يجعل التراجع عنها في حكم المستحيل وبلا فائدة تقريبا؛ فأهون الأضرار –في حالة التراجع عن هذه السياسة- هو انتهاء مشروع تركيا العظمى مع الثمن الأخلاقي الفادح لدى الشعوب الإسلامية، والأهم من هذا أنه ليس مضمونا بل ولا متوقعا أن يتراجع الأعداء عن مخططاتهم ومطامعهم في تركيا إذا حدث هذا التراجع.
وقد أكد داود أوغلو أن تأثير تركيا في النظام العالمي لابد أن يعتمد على ثلاثة أمور: الديمقراطية الراسخة والاقتصاد الحيوي والدبلوماسية النشطة، وهذه الثلاثة تعمل معا بلا انفصالوفي الأيام الأخيرة أضيف إلى المشهد عنصر جديد، وهو التدخل الروسي في سوريا ومقدمات أزمة تركية روسية بعد سقوط الطائرة الروسية، وهو الأمر الذي اتخدته روسيا ذريعة لتبدأ صراعا مع تركيا التي ترى أنها العائق الكبير أمام سيطرتها على الشرق الأوسط ضمن تحالف روسي أرمني إيرانيوقد توقع جورج فريدمان في كتابه "المائة عام القادمة" أن تركيا وبولندا والمكسيك واليابان ستكون القوى الكبرى في المستقبل، بل وتوقع حربا عالمية تقودها أمريكا ضد تركيا واليابان، إلا أن الملفت للنظر جدا أنه لم يتناول كيف ستحاول أمريكا إعاقة تركيا أن تبلغ هذا المستوى من القوة، خصوصا وهي تنتصب كدولة مستقرة وسط جزيرة من الفوضى، الفوضى الضاربة في الشرق الأوسط والتي كانت –كما يقول- الهدف الأمريكي من صراعها مع العالم الإسلامي، إذ لم تهدف أمريكا إلى الانتصار العسكري المباشر والكام بل لتمزيق البلاد لمنع انطلاقة المارد الإسلامي. إن اختفاء الحديث عن خيارات أمريكا في تمزيق تركيا يوحي بأنه جزء محذوف من هذا الكتاب لم يُرَد له النشر.
لكن يجب أن نربط هذا بما توقعه تقرير المخابرات الأمريكية عن صورة العالم 2030م والذي يتوقع استمرار النمو التركي ليكون ضمن أهم القوى المؤثرة في الاقتصاد العالمي بينما سيتباطأ النمو الأوروبي والروسي واليابانيوفي كل الأحوال، فلا يبدو أن للمشكلة الكردية حل ناجع وناجز بغير إعلاء الهوية الإسلامية التي تستطيع تذويب الحواجز العرقية والقومية لصالح الأمة الإسلامية، والتي يجتمع عليها العرب والكرد والترك وسائر العرقيات. كما أن ما قرره فريدمان حول استعمال الأمريكان "للقومية العربية" ضد تركيا في مرحلة الحرب معها يزيد في التأكيد على أهمية ورقة الهوية الإسلامية في إفساد وإفشال ورقة القومية العربية مستقبلا.
[راجع مقال: تركيا في توقعات جورج فريدمان]
الهوية تنتصر على المصالح
يقول التاريخ بأن الهوية تنتصر على المصالح، وقد لاحظ مؤرخو الحضارات بأنها تُبْنى على قاعدة من الهوية، فيقول كريستوفر داوسون بأن الحضارة تتأسس من عملية أصيلة خاصة من الإبداع الثقافي لشعب بعينه وأن الحضارات الكبرى في التاريخ تأسست على الأديان الكبرىوقد أثبتت السياسة المعاصرة أن أوروبا لا تعتبر –ولا تريد أن تعتبر- أن تركيا جزءا منهاويبدو النموذج الإيراني نموذجا قويا وواضحا في استثمار الهوية لتعظيم نفوذها في المنطقة والعالم الإسلامي كله، وقد صارت إيران الآن شبه امبراطورية حقيقية تمد أذرعها حتى إندونيسيا شرقا وآخر إفريقيا غربا من خلال دعم التشيع، فضلا عن طموحها المعلن أن تكون المتصرف الأول في الشرق الأوسط، وقد استطاعت حتى الآن أن تسيطر على أربع عواصم عربية: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، بخلاف نفوذها الواسع في دول أخرى وقدرتها على إثارة اضطرابات قوية فيها. ولم يقتصر دعمها السخي على الحركات الشيعية وحدها بل أنفقت كثيرا من الدعم على الحركات السنية لكي تكون ضمن أوراق قوتها في الساحة السياسية، وقد نجحت في هذا نجاحا كبيرا يشهد له موقعها اليوم في ساحة الشرق الأوسط.
وقد نشر جورج فريدمان –مدير ستراتفور- مقالا له في مطلع 2015 يقول: إن حربا بين العالمين الإسلامي والمسيحي قد بدأت، وأنها ستكون حربا شاملة إذ لا تمتلك أوروبا جهازا سحريا تفرق به بين المعتدلين والمتطرفينوفي سائر المعارك تستخدم الأطراف كل أوراق قوتها، فكيف إذا كانت المعركة حضارية تجري فوق أرض المسلمين؟! هل يمكن إلا الاستعداد لها بإعلاء الهوية الإسلامية التي هي أصل المعركة وغايتها؟!
نشر في تركيا بوست

George Friedman: The Next 100 Years: A Forecast for the 21st Century, (New York, Double day, 2009), p. 144. عقيل سعيد محفوض: السياسة الخارجية التركية (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012م) ص31. Ahmet Davutoglu: The Restoration of Turkey, p. 4. حوار مع أنور آلتي آي (فيديو، نشر بتاريخ 24/12/2015) NIC: Global Trends 2030, (Dec. 2012), p. iv, 16. NIC: Global Trends 2030, (Dec. 2012), p. viii, 64. Christopher Dawson: The Dynamics Of World History, (London, Sheed And Ward, 1965) p. 128, 402. فرناندو بروديل: تاريخ وقواعد الحضارات، ترجمة وتعليق سفير. د. حسين شريف (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م)، ص24، 25. George Friedman: A War Between Two Worlds, (Stratfor, 13 Jan. 2015). Stratfor's Fourth-Quarter Forecast 2015, (13 Oct. 2015). George Friedman: A War Between Two Worlds, (Stratfor, 13 Jan. 2015). James Traub: The World War Inside Islam, (Foreign Policy, 9 Feb. 2015).
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 26, 2016 04:50

January 21, 2016

زوال جيوش العرب خير من بقائها

عمل الخبير العسكري الأمريكي نورفيل دي أتكين زمنا في مراقبة تدريبات الجيوش العربية، لاستخلاص استنتاجات حول طرقهم في القتال، كان يعمل ملحقا عسكريا للولايات المتحدة في عدد من الدول العربية، وعمل ضابطا للمساعدات الأمنية، وله تجارب شخصية مع الجيوش العربية.
في مطلع ديسمبر 1999م، نشر نورفيل ورقة بحثية في غاية الأهمية بعنوان "لماذا يخسر العرب الحروب"، وضع فيها خلاصة تجربته، تقول الخلاصة بأن جيوش العرب لم تظهر كفاءة في العصر الحديث؛ فالجيش المصري أخفق أمام مقاتلي عصابات في حرب اليمن، والجيش السوري لم يستطع السيطرة على لبنان إلا باستعمال الأسلحة والأعداد الساحقة، والجيش العراقي لم يحقق نجاحا أمام الجيش الإيراني وقتما كانت تمزقه اضطرابات الثورة الإيرانية، ولا أمام مقاتلي الأكراد لثلاثين سنة، فضلا عن أن كل مواجهات الجيوش العربية مع إسرائيل كان أداؤهم فيها رديئا.
الدراسة وإن كانت مهمة، إلا أني لم أشعر بإهانة كالتي شعرت بها حين قال: "يعامل معظم الضباط العرب الجنود المجندين كفئة أقل من البشر. عندما حملت رياح مصر يومًا ما حبيبات رمل حارقة من الصحراء أثناء استعراض لكبار الشخصيات الأمريكية الزائرة، رأيت فرقة من الجنود يسيرون ليشكلوا صف واحد لحماية الأميركيين؛ بعبارة أخرى، يُسْتَخدم الجنود المصريين أحيانًا كأنهم لا يزيدون عن مصدات الرياح"!!
هنا يطرح السؤال نفسه: ما فائدة الجيوش العربية إذن؟
هل تصدق أن الجيوش العربية لم تحقق نصرا واحدا على عدو للأمة؟!! ولا نصرا وحدا؟! ولا حتى حرب أكتوبر 1973 التي انتهت في الحقيقة بهزيمة واستسلام مصري بعد استعادة إسرائيل لزمام الأمور واستيعابها للمفاجأة العسكرية التي جرت في الأيام الأولى للحرب.
المعارك الوحيدة التي انتصروا فيها كانت على بعضهم، أو على شعوبهم، فهنا تنطق الأسلحة وتصهل المدافع وتزمجر الدبابات وتهدر الطائرات، تحصد العرب والمسلمين وتسكب دماءهم غزيرة فياضة، تملأ وديان أرض العرب المنكوبة!من المفهوم أن تشتري كلبا للحراسة، لكن ماذا لو صار الكلب مسعورا لا ينهش إلا أصحاب الدار؟! فماذا لو أنه مع ذلك إذا حضر اللص ترك له الدار وجرى لا يلوي على شيء؟!! ثم ماذا لو صار الكلب دليل اللص يفتح له الدار ويقلب له الأثاث والمتاع حتى يحصل اللص على ما يريد ثم يمضي آمنا؟!!!
أصحاب الدار هؤلاء.. هل بقاء الكلب خير لهم أم زواله؟!!
قبل أيام صرَّح ماجد فرج، رئيس مخابرات السلطة الفلسطينية، ضمن فضائح كثيرة، بأن أجهزة الأمن أحبطت 200 عملية ضد الإسرائليين.. فأيهما أفضل: أن يكون للفلسطينين جهاز مخابرات وسلطة أم لا يكون؟!
قارن هذا بغزة التي لما تحررت من هذه السلطة عجزت إسرائيل عن اجتياحها بأربعة حروب، رغم الحصار والتجويع والتفوق التقني والعسكري الكبير لصالحها، وعلى يد كتائب لا تتلقى رواتب من دماء الفلسطنيين وأموالهم كما يفعل جلاوزة السلطة العباسية العرفاتية في الضفة.
وسلطة الضفة ليست تختلف عن أخواتها في باقي بلاد العرب، ولسنا الآن في حاجة إلى تحليلات أو استنتاجات، بل نحن الآن في عصر الاعترافات والتسريبات، فيكفي أن نجلس ونبحث لنرى الفضائح بالصوت والصورة:
1.    هل تعلم مثلا أن اللواء محمد العصار، عضو المجلس العسكري المصري، افتخر بأن الجيش المصري عنصر مهم للأمن القومي الأمريكي؟ (فيديو).
2.    فهل سمعت ثناء إيهود باراك –رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق- على السيسي وحث الأمريكان على دعمه، لأن إظهار الدعم الإسرائيلي له يُحرجه؟! (فيديو).
3.    هل رأيت رعنان جيسين –مستشار شارون، والمتحدث الأسبق باسم الحكومة الإسرائيلية- وهو مندهش، يبدي ندمه على أنه حين كان يفاوض على الانسحاب من سيناء أصرَّ ألا يكون فيها قوات للجيش المصري، بل يبقى البدو والجِمال فقط.. هو الآن يقول: يا إلهي، لو عادت بي الأيام لقلت: خذوا البدو والجمال واتركوا لنا الجيش المصري؟ (فيديو).
4.    ماذا لو علمت أن الجيش المصري احتفل بذكرى مشاركته في الحرب العالمية الأولى لحساب الإنجليز ضد السودانيين والليبيين والدولة العثمانية؟ وهي الحرب التي سقطت فيها القدس بمشاركة الجيش المصري لتظل تحت الاحتلال الإنجليزي حتى خرجت إنجلترا وسلَّمت القدس لإسرائيل؟ (صور منشورة على صفحة المتحدث الرسمي للعسكر المصري).
5.    ماذا لو سمعت بأذنيك عميدا في الجيش المصري وبعد يومين من الانقلاب العسكري يقول بوضوح أن السبب في الانقلاب هو سياسات مرسي تجاه إسرائيل ورفضه هدم الأنفاق مع غزة؟ حتى لقد اندهش المذيع الإنجليزي صاحب الحوار وقال له: هل معنى هذا أن الجيش الذي يزعم أنه تحرك رغبة لإرادة شعبية إنما تحرك حماية لإسرائيل؟! إنه الرئيس من حقه أن يحدد سياسته تجاه حماس أو غزة (استمع).
6.    ماذا لو قرأت الغزل الإسرائيلي في السيسي على صفحات يديعوت أحرونوت؟
7.    أو رأيت رئيس الأركان الأمريكي ديمبسي وهو يقرر نجاح "الاستثمار الأمريكي في الجيش المصري" وأن العسكر المصري "مُمَكِّن للسياسة الأمريكية" ولا خوف أبدا على المصالح الأمريكية من قِبَله، بل إنه "شريك قوي" للأمريكان وللإسرائيليين، ولذلك فهم "يستحقون الاستثمار فيهم" (فيديو).
8.    وهذا فيديو آخر يقول فيه القائد العسكري الإسرائيلي: إن 30 سنة من العمل (الاستثمار في الجيش المصري) لم تضع هباءً!!
9.    ثم ماذا لو رأيت فرحة هانتر فاريل، مدير البعثات التنصيرية العالمية للمشيخة البروتستانتية، بتشجيع العسكر المصري لمنظمتهم لنشر التنصير في مصر، وكيف أعطتهم السلطة المصرية أرضا ليبنوا عليها كنائس ومدارس لأول مرة منذ افتتحوا هذه المشيخة في مصر قبل مائة وخمسين عاما؟! (فيديو).
10.           بل ماذا إذا سمعت المنصرين فرحين بما يقوله السيسي لمشايخ الأزهر ويعتبرونه نطق بلسانهم عما يريدون قوله؟ (فيديو 1، فيديو 2، فيديو3).
وإن عشرة من هذه الفضائح لكافية لمن كان له قلب، بل من كان له قلب يكفيه واحدة من هذه الفضائح.
وإذا اتضح هذا الحال، فلنا أن نكرر السؤال مرة أخرى: هل بقاء هذا العسكر خير لمصر؟ أم بقاؤها بغير جيش أفضل؟!!
الجواب عند الإمام الجويني رحمه الله، وهو مع كونه فقيها أصوليا راسخا، إلا أنه مفكر استراتيجي باصطلاح هذه الأيام، وكتابه "الغياثي" في السياسة الشرعية أقرب ما يكون لما يُسمى الآن في علوم البحث: توقع سيناريوهات المستقبل.
يقول فيه:
"إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق والحدود، وارتفعت الصيانة، ووضحت الخيانة، واستجرأ الظلمة، ولم يجد المظلوم منتصفا ممن ظلمه، وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور، وتعطيل الثغور، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم ... وذلك أن الإمامة إنما تعنى لنقيض هذه الحالة. فإذا أفضى الأمر إلى خلاف ما تقتضيه الزعامة والإيالة، فيجب استدراكه لا محالة، وترك الناس سدى، ملتطمين لا جامع لهم على الحق والباطل أجدى عليهم من تقريرهم على اتباع من هو عون الظالمين، وملاذ الغاشمين، وموئل الهاجمين، ومعتصم المارقين الناجمين".
انتهى كلام الجويني رحمه الله!
نشر في ساسة بوست

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 21, 2016 10:49

January 19, 2016

فصل من الاختراق الأجنبي للدولة العثمانية

في مثل هذا اليوم قبلحوالي مائة وخمسين سنة (18 يناير 1863م) توفي سعيد باشا حاكم مصر، وهو الثالث من حكام أسرة محمد علي.
مات من القهر والحسرة، بعد أن تدهور جسده وتكاثرت همومه..
كان سعيد باشا هذا هو أول نجاح للاختراق الأجنبي في تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي، فهو أول حاكم يُربَّى في حجر الفرنسيين، وينشأ على محبتهم، وهو نقطة تحول في التاريخ المصري الحديث، فقد استدرجه الأجانب لنكبتين من أكبر نكبات التاريخ المصري، هما: القروض الأجنبية، وقناة السويس!
لم يستطع أحد قبله أن يقنع حاكما مصريا، مهما كان ظالما أو فاسدا، بضرورة فتح قناة بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، وظل هذا الأمر مرفوضا بإصرار طوال التاريخ المصري، حتى جاء ديليسبس وخدع صغيره الذي صار حاكم مصر، فانتزع منه أضخم عملية نصب في التاريخ: امتياز قناة السويس! كما لم يُعرف قبله حاكم مصري مدَّ يده إلى الأجنبي للاقتراض منه بالربا الفاحش.
لكن كيف حدث هذا؟! كيف ربَّى الفرنسيون من صار بعدئذ حاكم مصر؟!
بدأت القصة بذلك الاختراق الخطير المتمثل في شخص محمد علي، وذلك أن الفرنسيين حين هُزِموا واضطروا إلى الرحيل عن مصر بعد الحملة الفرنسية، لجأوا إلى حيلة أخرى ليكون لهم قدم في مصر، فأرسل نابليون إلى القنصل الفرنسي في مصر الكونت ما تييه دي ليسبس (1803م) تعليمات بأن يبحث في قادة القوات العثمانية في مصر عن أفضل من يمكنه إقامة علاقات وثيقة معه، ثم يُخطر باسمه سيبستياني (السفير الفرنسي في القسطنطينية) ليضغط السفير على السلطان العثماني بتعيينه واليا على مصر، وبهذا يكون حاكم مصر رجل فرنسا وممثل مصالحها!
وقد قام القنصل بمهمته خير قيام، فاختار بعد الفحص والاختبار ذلك القائد الواعد: محمد علي، "وارتبط معه بعرى صداقة متينة، وأوصى به سيبستياني خيرا"، ثم تدافعت الأحداث المضطربة في مصر –والحافلة باغتيالات وخيانات وصناعة فوضى- حتى صار اسم محمد علي مطلب الجميع في مصر، ورفعه علماء مصر وأعيانها لمنصب الولاية، وأرسلوا بذلك إلى السلطان العثماني، وهناك بدأ دور السفير الفرنسي الذي ضغط بهذا الاتجاه حتى أقرت السلطنة العثمانية ولايته، ولم تكن تدري أن قسما عظيما من نكبتها سيأتي على يد هذا الرجل!
وبعيدا عن المسار العام كانت قصة خفية تتكون في أروقة قصر محمد علي والسفارة الفرنسية، فبعد سبع وعشرين سنة من ولاية محمد علي استقبلت مصر فريدناند دي ليسبس، ابن القنصل القديم الذي اختار محمد علي ومهد له في مصر وفي القسطنطينية، والذي جاء إليها كنائب للقنصل الفرنسي بالإسكندرية. فاستقبله محمد علي "بإكرام زائد، وخصَّه بعطف أبوي، وما فتئ يظهر له من ضروب الحنان ما جعله أو كاد يجعله أحد أفراد الأسرة العلوية"، بل وكلفه محمد علي بمهمة تربية ابنه سعيد!
ومن هنا نشأت علاقة خاصة بين سعيد وفريدناند دي ليسبس، "صادقه مصادقة أكيدة، وأَلِفَه أُلْفةً زائدة، كان الباشا العظيم أبوه من أكبر مشجعيه عليهما، ومن أميل الناس إلى توثيق عراهما بينهما"، ويُروى في هذا بعض الطرائف التي لا تهمنا، لكن الخلاصة أنه من تلك العلاقة وبهذه التربية نشأ أول حاكم لمصر غربي الهوى والمزاج، وكانت لهذا آثار بعيدة على مصر وعلى الدولة العثمانية.
ومن الطريف أن هذه القصة أخذتها من المؤرخ إلياس الأيوبي، وهو من أشهر مؤرخي حقبة محمد علي، وصاحب أكبر تاريخ عن حقبة الخديوي "تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل"، ويقع في مجلدين كبيرينبهذا السر نستطيع أن نحل حيرة المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي الذي تعجب جدا من سلوك سعيد في إهمال وإغلاق المدارس ومؤسسات التعليم في مصر، في ذات الوقت الذي كان يُنعم فيه بالمنح والأموال الكثيرة على المدارس الأجنبية والتنصيرية مثل: راهبات البون باستور، راهبات الصدقة بالإسكندرية، البعثة الأمريكية، المدرسة الإيطالية بالإسكندريةوهكذا يلد الاختراق الصغير آثارا تاريخية ضخمة على كافة المستويات، فكم عانت الدولة العثمانية من محمد علي، وكم عانت مصر منه ومن أولاده، بل لقد كانت نكبة قناة السويس هي التي قضت على سعيد حتى أوردته حتفه، وكان دي ليسبس نموذجا في التوحش الأجنبي الشنيع المدعوم بقوة الدولة وصفحة لا تنسى من تاريخ العلاقات بين المسلمين وفرنسا. (اقرأ في موجز هذه النكبة: ماذا تعرف عن أخطار وأضرار قناة السويس؟،  كيف ضحَّت مصر بنفسها خدمة للأجانب، ماذا قال المؤرخون الأجانب عن قناة السويس، فصلٌ من قصتنا مع الشرعية الدولية).
ما لا ينبغي أن يفوتنا في هذا السياق، أن سعيد باشا لم يكن ماكرا ولا خبيثا ولا شريرا، بل كان جاهلا غريرا مخدوعا، يدل على هذا كثير من سياساته الأخرى التي تثبت رفقه بالناس وسعيه في رفع المظالم عنهم، لكنها سياسة تثبت جهله وقصر نظره أيضا (مثلا: لما زار السودان شكا إليه أهلها ما يلقونه من مظالم السلطة المصرية ففكَّر في إخلاء السودان والانسحاب منها وتركها!!!)، ما يدلك على أن آثار الحاكم العميل لا تقل سوءا عن آثار الحاكم المغفل الجاهل، بل ربما كان الثاني أسوأ وأشد لأن جهله وغفلته يوقعانه فيما لا يُتَصَوَّر وقوعه من عاقل!
وهنا ينبغي أن نتذكر قول آن باتريسون، السفيرة الأمريكية السابقة في باكستان ثم في مصر ومهندسة الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، في جلسة استماع بالكونجرس بتاريخ 19/9/2013م،  قالت: "لقد نتجت عواقب استراتيجية كارثية حين أوقفنا الدعم عن الجيش الباكستاني 12 عاما؛ إذ يوجد الآن جيل من العسكريين لا اتصال لهم بالجيش الأمريكي لأنهم لم يدرسوا هنا ولم يتعرضوا لقِيَمنا، ولهذا فيجب أن نحافظ على علاقتنا بالجيش المصري".
فانظر وتأمل الكوارث التي تعانيها بلادنا، إذ يربون لنا لا الحكام، بل الحكام وعساكرهم!!
نشر في تركيا بوست

إلياس الأيوبي: تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل، ط. مكتبة مدبولي، القاهرة. 1/328 وما بعدها. محمد قطب: واقعنا المعاصر، ط4. دار الشروق، القاهرة، ص191. عبد الرحمن الرافعي: عصر إسماعيل، ط. دار المعارف، 1/49. عبد الرحمن الرافعي: عصر إسماعيل 1/71.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 19, 2016 03:24